جاك ذو السيقان الطويلة الذي أتى من البرزخ
وقت الظهيرة في يونيون سكوير. تصفيات. نُريد أن ننتهي من بيع كل ما لدينا. مُضطرون للبيع بالخسارة. يجثو الصِّبية الصغار على الأسفلت المغبَّر يُلمِّعون الأحذية ذات النعل المسطَّح، والأحذية ذات الكعوب العالية، والأحذية ذات الأزرار، والأحذية الكلاسيكية. تُشرق الشمس كالهِندِباء على أطراف كل زوج من الأحذية لُمِّع لتوه. من هنا يا فتى، يا سيد، يا آنسة، يا سيدتي، خلف المتجر تشكيلتنا الجديدة من التويد الراقي بأعلى جودة وأقل سعر … يا سادة، يا آنسات، يا سيدات، أسعار مُخفَّضة … مضطرون للبيع بالخسارة. نريد أن ننتهي من بيع كل ما لدينا.
تسلَّل ضوء الظهيرة خافتًا في مطعم للتشوب سوي الصيني. وسُمعت الموسيقى الهندوستانية المكتومة. يتناول بيض الفو يونج، وتتناول هي الشاو مين. يرقصان وفماهما ممتلئان، حيث تلتصق كنزتها الزرقاء الضيقة ببِذلته السوداء الملساء، وتجعُّدات شعرها المعالَجة بالأكسجين فوق شعره الأسود الأملس.
في شارع ١٤ يعلو نشيد معركة الجمهورية، المجد المجد ها هو الجيش قادم، وتمشي الفتيات بخطوات كبيرة، المجد المجد، تلمع الآلات في أيدي عِظام الأبدان، في زِيِّهم الأزرق، إنها فرقة جيش الخلاص.
بأعلى جودة وأقل الأسعار. نريد أن ننتهي من بيع كل ما لدينا. مضطرون للبيع بالخسارة.
من ليفربول، الباخرة البريطانية رالي، القبطان كتلويل، ٩٣٣ حُزمة، ٨٨١ صندوقًا، ١٠ سلَّات، ٨ رُزم من المنسوجات: ٥٧ صندوقًا، ٨٩ حُزمة، ١٨ سلةً من الخيوط القطنية: سقطت ١٥٦ حُزمةً من اللبات: ٤ حزم من الأسبستوس: ١٠٠ جِراب من البكرات …
•••
توقَّف جو هارلاند عن الكتابة على الآلة الكاتبة ونظر لأعلى إلى السقف. كانت أطراف أصابعه محتقنة. وفاحت في المكتب رائحة كريهة من الصمغ وقوائم الشحن والرجال في قمصانهم التي لا يرتدون شيئًا فوقها. عبر النافذة المفتوحة، كان بإمكانه أن يرى جزءًا من الجدار القاتم لأحد المناور ورجلًا بقناع عيون أخضر يحدِّق في الفراغ من النافذة. وضع ساعي المكتب أشقر الشعر رسالةً قصيرة على ركن مكتبه: سيُقابلك السيد بولوك في الساعة الخامسة و١٠ دقائق. تملَّكت حلقه غصَّة صلبة؛ سيرفدني. شرعت أصابعه في الكتابة مجدَّدًا:
من جلاسكو، الباخرة الهولاندية دلفت، القبطان ترومب، ٢٠٠ حُزمة، ١٢٣ صندوقًا، ١٤ برميلًا صغيرًا …
تجوَّل جو هارلاند في متنزَّه باتري حتى وجد مكانًا فارغًا في أحد المقاعد، ثم ترك نفسه ليرتمي عليه. كانت الشمس تغرق في بخار زعفراني مائج خلف نيوجيرسي. حسنًا، لقد انتهى الأمر. جلس طويلًا يُحدِّق في غروب الشمس كما لو كان يُحدِّق في صورة بغرفة انتظار طبيب أسنان. تنبعث جدائل كبيرة من الدخان من زورق قَطر مارٍّ ملتفة لأعلى سوداء وقرمزية أمام الزورق. جلس مُحدِّقًا إلى غروب الشمس، منتظرًا. تلك ١٨ دولارًا و٥٠ سنتًا كانت معي من قبل، ناقص ٦ دولارات لإيجار الغرفة، ودولار و٨٤ سنتًا لغسيل الملابس، و٤ دولارات و٥٠ سنتًا أدين بها لتشارلي، المجموع ٧ دولارات و٨٤ سنتًا، ١١ دولارًا و٨٤ سنتًا، ١٢ دولارًا و٣٤ سنتًا من ١٨ دولارًا و٥٠ سنتًا، يتبقَّى ٦ دولارات و١٦ سنتًا، ويجب عليَّ العثور على وظيفة جديدة في غضون ٣ أيام إن امتنعت فيها عن الشراب. يا إلهي، ليت حظي يتغيَّر؛ لقد كان لي حظ وافر في الأيام الخوالي. كانت ركبتاه ترتجفان، وكان ثمة شعور بحُرقة مثيرة للغثيان في أعماق معدته.
يا لها من فوضى عارمة ألحقتها بحياتك يا جوزيف هارلاند! تبلغ من العمر الخامسة والأربعين وليس لديك أصدقاء أو معك سنت ننعم به على نفسك.
كان شراع القارب أُحادي الصاري مثلَّثًا وقرمزيًّا عندما أبحر في اتجاه الرياح على بُعد بضع أقدام من الممشى الأسمنتي. انحنى شاب وشابة معًا عندما مرَّت ذراع المحرِّك الخفيف متأرجحة. كانت الشمس قد أكسبتهما لونًا برونزيًّا، وكان لهما شعر أصفر بيَّضه الطقس. عضَّ جو هارلاند شفتَيه ليُمسك نفسه عن البكاء عندما ابتعد القارب أُحادي الصاري إلى داخل ظُلمة الخليج التي تنعم بمسحة من الشفق. يا إلهي، إني بحاجة لشراب.
يقول مرارًا وتكرارًا: «أليست جريمة؟ أليست جريمة؟» حتى أجفل الرجل الجالس إلى يساره. أدار جو هارلاند رأسه، وقد كان للرجل وجه أجعد أحمر وشعر فضي. أمسك بالجريدة المفتوحة على صفحة الدراما والمشدودة بين راحتَيه المتسختَين. «ترتدي هؤلاء الممثِّلات الشابات جميعًا ملابس مكشوفةً بهذا الشكل … عجبًا، فليتركونا في حالنا.»
«ألَا تُحب مشاهدة صورهن في الجرائد؟»
«أقول عجبًا ليتركونا في حالنا … إذا لم يكن لديك عملٌ أو مال، فما الفائدة منهن؟»
«حسنًا، الكثيرون يحبُّون مشاهدة صورهن في الجرائد. أنا عن نفسي كنت أفعل ذلك في الأيام الخوالي.»
زعق بوحشية: «كان لدينا عمل في الأيام الخوالي … أليس لديك عمل الآن؟» هزَّ جو هارلاند رأسه. «حسنًا، ماذا سيحدث بحق الجحيم؟ عليهن أن يتركوك وحدك، أليس كذلك؟ لن تكون هناك وظائف حتى يحل الشتاء ويبدأ جرف الثلوج.»
«ماذا ستفعل حتى ذلك الوقت؟»
لم يُجِب الرجل الهَرِم. انحنى مرةً أخرى فوق الجريدة محدِّقًا ومتمتمًا. «جميعهن يرتدين ملابس مكشوفة، إنها جريمة، صدِّقني.»
نهض جو هارلاند وغادر.
اقترب الليل، وكانت ركبتاه متيبستَين من الجلوس ساكنًا لوقت طويل. وهو يسير ضجرًا، شعر بكرشه يُشنِّجه حزامه المحكم. يا جواد الحرب الهَرِم المسكين، إنك بحاجة لبعض الشراب للتفكير في الأمور. خرجت نفحات من رائحة الجِعَة عبر بابَين متأرجحَين. بالداخل، كان وجه الساقي كتفاحة خمرية فوق رف من خشب الماهوجني من أرفف أركان الحانة.
«أعطني جرعةً من الجاودار.» لسع الويسكي حلقه ساخنًا وعَبِقًا. هذا الشيء يُشعرني بكِياني. دون أن يتناول الشراب المعتدل اللاحق، اتجه مباشرةً إلى الغداء المجاني وتناول شطيرةً من لحم الهام وزيتونة. «دعني أتناول جرعةً أخرى من الجاودار يا تشارلي. فهذا الشيء يُشعرني بنفسي. لقد توقَّفت عن تناوله كثيرًا، وهذا ما جعلني أشعر أنني لست على ما يرام. لا يمكنك تخيُّل ما كنت عليه بالنظر إليَّ الآن يا رفيقي، ولكنهم كانوا يُطلقون عليَّ ساحر وول ستريت، وما هي إلا إحدى صور السيطرة العجيبة للحظ على أمور البشر … أجل يا سيدي بكل سرور. حسنًا، لنشرب من أجل الصحة والعمر المديد وليذهب الجالب للنحس إلى الجحيم … إنه يصنع منك رجلًا … حسنًا، أعتقد أنه لا يوجد أحد منكم أيها السادة هنا لم يُقدم على المخاطرة في وقت أو آخر، وكم منكم لم يرجع عليه ذلك بمزيد من الحزن والحكمة! هذا مثال آخر على السيطرة العجيبة للحظ على أمور البشر. لكن هذه لم تكن الحال معي؛ فلعشر سنوات يا سادة لعبت في سوق البورصة، لعشر سنوات لم تترك فيها يدي شريط جهاز أسعار البورصة ليلًا أو نهارًا، ولعشر سنوات لم أخسر سوى ثلاث مرات حتى آخر وقت. سأُخبركم بسرٍّ أيها السادة. سأُخبركم بسر مهم للغاية … أعطِ أصدقائي الجيدين جدًّا هؤلاء جرعةً أخرى من الشراب يا تشارلي، تحيةً مني، واسكب جرعةً لنفسك … يا إلهي، إنه يُدغدغ الحلق في المكان المناسب … أيها السادة، هذا مثال آخر على السيطرة العجيبة للحظ على أمور البشر. إن سر حظي يا سادة … وهو صحيح أؤكِّد لكم؛ إذ يمكنكم التأكُّد منه بأنفسكم من مقالات الصحف، والمجلات، والخُطب، والمحاضرات التي قُدِّمت في تلك الأيام، وحتى من رجل، اتضح مؤخَّرًا أنه وغد قذر، كتب عني قصةً بوليسية أسماها سر النجاح، والتي يمكنكم أن تجدوها في مكتبة نيويورك العامة إن كنتم مهتمين بالبحث في الأمر … كان سر نجاحي … وعندما تسمعون إليه ستضحكون فيما بينكم وتقولون إن جو هارلاند قد ثمل، جو هارلاند أحمق هَرِم … أجل ستفعلون … لعشر سنوات أؤكِّد لكم أنني كنت أُتاجر بالهامش، وأشتري بالكامل، وغطَّيت أسهمًا لم أكن لأسمع عنها، وكنت أربح في كل مرة. لقد تكوَّمت لديَّ الأموال. كنت أمتلك أربعة بنوك في راحة يدي. بدأت أعرف طريقي إلى الحلوى والكوتابركا، ولكني كنت سابق عهدي في ذلك … غير أنكم تائقون لمعرفة سري، تظنون أنه كان بإمكانكم الاستفادة منه … حسنًا، لم يكن بإمكانكم ذلك … لقد كانت رابطة عنق حريريةً زرقاء مغزولة صنعتها أمي لي عندما كنت طفلًا صغيرًا … لا تضحكوا، اللعنة عليكم … كلا، لا أبتدع شيئًا. فما هذا إلا مثال آخر على السيطرة العجيبة للحظ. في اليوم الذي ساهمت فيه مع رجل آخر لتوزيع ألف دولار على سكة حديد لويزفيل وناشفيل بالهامش، كنت أرتدي ربطة العنق تلك. وقد ارتفع السهم بمقدار ٢٥ نقطةً في ٢٥ دقيقة. كانت تلك هي البداية. ثم بدأت أُلاحظ تدريجيًّا أن الأوقات التي لم أكن أرتدي فيها ربطة العنق تلك كانت هي الأوقات التي خسرت فيها المال. تقدَّمت كثيرًا في العمر وأصبحت رثَّة الهيئة، فحاولت حملها في جيبي. ولكنها لم تفعل أي شيء. فكان عليَّ ارتداؤها، هل تستوعبون الأمر؟ … البقية هي الحكاية القديمة الأزلية يا سادة … كانت هناك فتاة، تبًّا لها، وقد أحببتها. أردت أن أُريها أنه ليس ثمة شيء في العالم لن أفعله من أجلها فأعطيتها إياها. وتظاهرتُ أن الأمر كان مزحةً وأخذت الأمر بمرح، هأ، هأ، هأ. قالت عجبًا إنها ليست جيدة، إنها بالية تمامًا، وألقت بها في النار … ما هذا إلا مثال آخر … ألن تُقدِّم لي شرابًا آخر يا صديقي؟ وجدت نفسي خالي الوفاض على حين غفلة بعد ظهيرة هذا اليوم … أشكرك يا سيدي … آه، ذلك الشراب يحرق الحلق مجددًا.»
•••
في عربة المترو المكتظة، كان ساعي البريد ملاصقًا ظهره ظهر امرأة شقراء طويلة تفوح منها رائحة حدائق الأبنية المقدسة التي تحوي تمثالًا للعذراء مريم. المرافق، والأمتعة، والأكتاف، والأرداف تتمايل مقتربةً بعضها من بعض مع كل ترنُّح للقطار السريع المصرصر. كانت قبعة شركة ويسترن يونيون المتعرِّقة التي كان يرتديها قد تلقَّت لكمةً أمالتها فوق رأسه. إذا كانت معي امرأة مثل تلك، امرأة مثلها تستحق أن يسرق المرء القطار من أجلها، تنطفئ الأنوار، ويتعطَّل القطار. كان بإمكاني أن أحظى بها لو كانت لديَّ الجرأة والمال. عندما تباطأ القطار سقطت عليه، أغلق عينَيه، ولم يتنفَّس، وكانت أنفه مدفونةً في عنقها. توقَّف القطار. حمله سيل من البشر إلى خارج الباب.
مصابًا بالدُّوَار ترنَّح في الهواء وكتل الضوء الوامضة. كان شارع برودواي بالأعلى يعج بالمارة. إذ تسكَّع البحَّارة في ثنائيات وثلاثيات عند ناصية شارع ٩٦. تناول لحمَ الهام وشطيرةً من نقانق الكبد في متجر بقالة. كان للمرأة خلف طاولة البيع شعر سمني اللون مثل الفتاة التي كانت في المترو، غير أنها كانت تفوقها وزنًا وتكبرها سنًّا. دخل المصعد وهو لا يزال يمضغ كسرة الشطيرة الأخيرة وصعد إلى الحديقة اليابانية. جلس يتفكَّر قليلًا والنافذة تومض أمام عينَيه. يا إلهي، سيعجبون من رؤية ساعي بريد هنا يرتدي هذه الثياب. من الأفضل أن أفر من هنا. سأذهب لتسليم البرقيات.
أحكمَ شد حزامه وهو ينزل الدرج. ثم مشى متراخيًا في برودواي إلى شارع ١٠٥ وشرقًا نحو جادة كولومبوس، مراقبًا الأبواب، وسلالم الطوارئ، والنوافذ، والأفاريز أثناء سيره. هذا هو المكان المناسب. فالأنوار الوحيدة المضاءة في الطابق الثاني. رنَّ جرس باب الطابق الثاني. طقطق مزلاج الباب. فصعد الدرج راكضًا. أخرجت رأسها امرأة ذات شعر خفيف ووجه حمَّره الانحناء فوق الموقد.
«برقية لسانتيونو.»
«لا يوجد أحد هنا بهذا الاسم.»
«معذرةً يا سيدتي، لا بد أنني رننت الجرس الخطأ.»
أُوصِد الباب في أنفه. انشدَّ وجهه المتراخي الشاحب بغتة. ركض رشيقًا على أطراف أصابعه صاعدًا الدرج إلى البَسطة العليا، ثم صعد السلم الصغير إلى الباب المسحور. صرصر المِزلاج عندما سحبه للخلف. فحبس أنفاسه. وبمجرد أن وصل إلى السطح الذي تتراكم عليه بقايا الرماد، أغلق الباب المسحور برفق. علَت المداخن في صفوفٍ نافرةٍ في كل مكان حوله، سوداء أمام وهج الأضواء القادمة من الشارع. تقدَّم رابضًا بحذر إلى حافة المنزل الخلفية، وتسلَّق المزراب نزولًا إلى سُلم الطوارئ. عندما هبط خدشَ قدمَيه أَصِيص زهور. كل شيء مظلم. زحف عبر النافذة إلى غرفة مكتومة تفوح منها رائحة نسائية، فسلَّ يده أسفل وسادة سرير غير مرتب، وبجانب منضدة سكَبَ بعضًا من بودرة الوجه، وبارتجافات دقيقة فتحَ الدُّرج، حيث وجدَ ساعة يد، ودبوسًا غُرس في إصبعه، ودبوس زينة، وشيئًا تجعَّد في الزاوية الخلفية، لقد كان أوراقًا نقدية، لفافة من الأوراق النقدية. اهرب، ليست لديك فرص الليلة. نزل سُلم الطوارئ إلى الباب التالي. ليس ثمة ضوء. نافذة أخرى مفتوحة. هذا أمر في غاية السهولة. الغرفة نفسها، ولكنها هذه المرة تفوح منها رائحة الكلاب والحشرات، مع نفحةٍ من رائحة مخدر. رأى صورته نحيلةً مضطربةً في زجاج المنضدة، فوضع يده في وعاء من الدهان البارد، ومسحه في بنطاله. تبًّا. انطلقت صيحة من شيء ناعم وأزغب أسفل قدمه. وقف يرتجف في وسط الغرفة الضيقة. كان الكلب الصغير ينبح عاليًا في أحد الأركان.
أضاءت الغرفة فجأة. وقفت فتاةٌ عند فتحة الباب تُصوِّب مسدسًا نحوه. وكان ثمة رجلٌ خلفها.
«ماذا تفعلين؟ يا إلهي، إنه ساعٍ من ويسترن يونيون …» شكَّل الضوء تشابكًا نحاسي اللون حول شعرها، وحدَّد جسمها تحت الكيمونو الحريري الأحمر. ظهر الشاب خلفها بالغ النحافة وبُني اللون في قمصيه المفتوح الأزرار. «ما الذي تفعله في هذه الغرفة؟»
«أرجوكِ يا سيدتي، إن الجوع هو ما دفعني إلى ذلك، إنه الجوع وأمي العجوز المسكينة تتضوَّر جوعًا.»
«أليس هذا عجيبًا يا ستان؟ إنه لص.» لوَّحت بالمسدس. «اخرج إلى الردهة.»
«أجل يا سيدتي، سأفعل كل ما تأمرين به، ولكن لا تُسلِّميني للشرطة. تذكَّري أمي العجوز التي سيعتصر الحزنُ قلبها.»
«حسنًا، ولكن إذا كنت قد أخذت شيئًا فلا بد أن تعيده.»
«صدقًا، لم تسنح لي الفرصة.»
ارتمى ستان على كرسي يضحك بلا توقُّف. «يا لكِ من حمقاء يا إيلي … لم أتخيَّل منكِ ذلك.»
«حسنًا، ألم أُمثِّل هذا المشهد طوال الصيف الماضي؟ … سلِّم مسدسك.»
«لا يا سيدتي، أنا لا أحمل مسدسًا.»
«حسنًا، أنا لا أصدِّقك ولكني أظن أنني سأتركك ترحل.»
«فليبارككِ الرب يا سيدتي.»
«ولكن لا بد أنك تتكسَّب من عملك كساعي بريد.»
«لقد رفدوني الأسبوع الماضي يا سيدتي، وما دفعني إلى ذلك سوى الجوع.»
نهض ستان. «لِنعطِه دولارًا ونطرده من هنا.»
عندما خرج من الباب أعطته الدولار.
قال بصوت مختنق: «يا إلهي، إنكِ بيضاء.» أمسك بيدها مُقبِّلًا إياها وبورقة النقود، وبينما كان منحنيًا على يدها يُقبِّلها اختلس النظر إلى جسدها من أسفل ذراعها عبر الكم الحريري الأحمر المتدلي. عندما نزل الدرج، ولا يزال مرتجفًا، نظر للخلف ورأى الرجل والفتاة واقفَين متجاورَين يحوط كلٌّ منهما الآخر بذراعه ويراقبانه. كانت عيناه ممتلئتَين بالدموع. ودسَّ الدولار في جيبه.
إذا استمررْتَ أيها الفتى في رِقتك مع النساء فستجد نفسك في هذا الفندق الصيفي الصغير أعلى النهر … ولكنك كنت رقيقًا للغاية. مشى مُصفِّرًا بصوتٍ منخفضٍ إلى القطار السريع وأخذ قطارًا إلى شمال المدينة. وكان بين الحين والآخر يضع يده فوق جيبه الخلفي ليتحسَّس لُفافة النقود. ركض صاعدًا إلى الطابق الثالث لمبنًى سكني تفوح منه رائحة السمك المقلي وغاز الفحم، ورنَّ ثلاثًا جرس الباب الزجاجي الملطَّخ. انتظر قليلًا وطرق الباب برفق.
جاء خافتًا صوتُ امرأة يئن: «أهذا أنت يا مويكي؟»
«لا، أنا نيكي شاتز.»
فتحت الباب امرأة حادة الوجه وذات شعر مُخضَّب بالحناء. كانت ترتدي معطفًا من الفرو فوق ملابس داخلية من الدانتيل المكشكش.
«كيف الحال يا فتى؟»
«بحق المسيح، لقد أمسكَت بي سيدة جميلة للغاية أثناء قيامي بعملية صغيرة، وماذا تظنينها قد فعلت؟» تبع السيدة، متحدِّثًا بحماس، إلى غرفة طعام متآكلة الجدران. وكانت على الطاولة كئوس متسخة وزجاجة من ويسكي جرين ريفير. «لقد أعطتني دولارًا ونصحتني أن أكون فتًى جيدًا.»
«أفعَلَت هذا بحق الجحيم؟»
«هذه ساعة يد.»
«إنها ماركة إنجرسول، أنا لا أعد هذه ساعة يد.»
«حسنًا، ركِّزي ضوء مصباحك على هذه.» أخرجَ لُفافة النقود. «أليست هذه لفافة خَس؟ … ورب السماء إنها آلاف.»
«دعني أرَ.» انتزعت النقود من يده، وجحظت عيناها. «أنت أيها الفتى المجنون.» ألقت باللفافة على الأرض وشبَّكت يدَيها تهزُّهما في إيماءة يهودية. «يا للهول، إنها أموال المسرح. إنها أموال المسرح أيها المغفَّل الساذج، اللعنة عليك …»
•••
جلسا متجاورَين مقهقهَين على حافة السرير. وعبر الرائحة المكتومة للغرفة المليئة بالقطع الحريرية الصغيرة للملابس الساقطة من فوق الكراسي، جاءت انتعاشةٌ خافتةٌ من باقة زهور صفراء موضوعة على المنضدة. التفَّ ذراع كلٍّ منهما حول كتف الآخر؛ فانحنى نحوها ليقبِّل فمها. قال لاهثًا: «يا له من لص!»
«ستان …»
«إيلي.»
تمكَّنت من إطلاق همسة عبر حلقها المسدود: «أظن أنه قد يكون جوجو. فذلك تصرُّف يشبهه تمامًا أن يأتي مختلس النظر متسلِّلًا.»
«لا أستوعب يا إيلي كيف يمكنك العيش معه من بين جميع الناس. أنتِ جميلة للغاية. لا يمكنني أن أتخيَّلكِ في كل هذا.»
«لم يكن الأمر بهذه الصعوبة قبل أن أُقابلك … وصدقًا فإن جوجو لا بأس به. كل ما هنالك أنه شخص غريب الأطوار وتعيس للغاية.»
«ولكنكِ تنتمين إلى عالم آخر يا صغيرتي المسكينة … يجب أن تعيشي في الطابق العلوي بمبنى وول وورث في شقة من الزجاج المزخرف وأزهار الكرز.»
«ستان، إن ظهرك بُني بالكامل.»
«ذلك من أثر السباحة.»
«أمبكِّرًا هكذا؟»
«أظن أن معظمه متبقٍّ من الصيف الماضي.»
«أنت شاب محظوظ تمامًا. لم أتعلَّم السباحة جيدًا قط.»
«سأعلِّمكِ … اسمعي، يوم الأحد في الصباح الباكر سننطلق بدينجو في سيارتي ونذهب إلى لونج بيتش. بعيدًا حيث لا يوجد أحد على الإطلاق … حتى إنه لن يكون عليكِ أن ترتدي لباس السباحة.»
«يعجبني كم أنت نحيف وصلب يا ستان … إن جوجو أبيض ورخو حتى يكاد يشبه النساء.»
«أرجوك لا تتحدَّثي عنه الآن.»
نهض ستان مباعدًا بين ساقَيه ومزرِّرًا قميصه. «اسمعي يا إيلي، لنخرج من هنا ونحتسِ شرابًا … كم أكره أن أُقابل أحدًا بالصدفة وأُضطر أن أُلفِّق له الأكاذيب … أُراهن أنني سأضربه في رأسه بكرسي.»
«لدينا مُتسع من الوقت. لا أحد يأتي إلى المنزل هنا قبل الساعة الثانية عشرة … فما أنا عن نفسي هنا إلا لأنني مصابة بصداع شديد.»
«هل يروق لكِ صداعكِ الشديد يا إيلي؟»
«أنا مولعة به يا ستان.»
«أظن أن ذلك اللص من ويسترن يونيون قد علم ذلك … يا إلهي … سرقة، وخيانة زوجية، وهروب عبر سلالم الطوارئ، والتسلل كالقطط عبر المزاريب. يا للهول، يا لها من حياة رائعة!»
أمسكت إلين بقوة بيده أثناء نزولهما الدرج معًا. وأمام صناديق البريد في المدخل الأجرد، انتزعها على حين غرة من كتفَيها وأرجع رأسها للوراء وقبَّلها. انطلقا لاهثَين في الشارع نحو برودواي. كانت يده أسفل ذراعها، فضغطت عليها بشدة فوق ضلوعها بمرفقها. من بعيد، كما لو كانت تشاهد حوض سمك عبر زجاج سميك، نظرت إلى الوجوه، والفواكه في نوافذ المتاجر، وصفائح الخَضراوات، جِرار الزيتون، والكنيفوفيات عند بائع الورد، والصُّحف، واللافتات الكهربائية المارة بجوارها. عندما عبرا تقاطع الطرق، لفحت وجهها نفحة هواء قادمة من النهر. رمقات أعين مباغتة ولامعة كالكهرمان الأسود أسفل قبعات قشية، وتحركات الأذقان، والشفاه النحيفة، والشفاه العابسة، والشفاه الحادة الحواف، وظلال الجوع أسفل عظام الوجنات، ووجوه الفتيات والشباب التي تخفق أمامها بأنوفٍ مدسوسةٍ في وجوههم كالعُث، يطاردها كل ذلك وهي تسير بخطًى متساوية مع خطى ستان في جو الليل الأصفر الواخز.
جلسا إلى طاولة في مكان ما. عزفت أوركسترا ألحانًا. «كلا يا ستان، لا يمكنني أن أشرب أي شيء … اشرب أنت.»
«ولكن يا إيلي أليس لديكِ شعور رائع كما لدَي؟»
«بل أروع … ولكن كل ما هنالك أنني لا يمكنني تحمُّل الشعور بما هو أكثر من ذلك … لا يمكنني أن أركِّز ذهني على كأس فترةً طويلة لأحتسيه.» جفلت من لمعان عينَيه.
كان ستان سكران ومنتشيًا. ظل يردِّد: «أود لو تُنبت الأرض جسدكِ فاكهةً تؤكل.» كانت إلين طوال الوقت تلوي بشوكتها بعض فتات الريربيت الويلزي البارد المتجلِّد. شعرت أنها بدأت تسقط مترنِّحةً كأفعوانية في هوات مرتعدةً من التعاسة. وفي بقعةٍ مربعةٍ في وسط الأرضية، كان هناك أربعة أزواج يرقصون التانجو. نهضت واقفة.
«ستان سأذهب إلى المنزل. يجب أن أستيقظ مبكِّرًا وأتدرَّب طوال اليوم. اتصل بي في الثانية عشرة في المسرح.»
أومأ وسكب لنفسه جرعةً أخرى من الشراب. وقفَت خلف كرسيه لثانية تنظر لأسفل إلى رأسه الطويل ذي الشعر الأشعث الكثيف. كان ينطق بأبيات لنفسه بصوت خفيض. «رأيت أفروديت ذات البياض العنيد، فاحشة الجمال، رأيت الشعر المنسدل والقدمَين العاريتَين، يا للهول … تضوي كنار المغيب فوق مياه الغرب. رأيت القدمَين المستعصيتَين … تبًّا للأبيات السافونية الرائعة.»
بمجرد وصولها شارع برودواي مرةً أخرى، شعرت بالبهجة الشديدة. وقفت في منتصف الشارع تنتظر العربة المتوجِّهة إلى شمال المدينة. مرَّت بها مسرعةً بالصدفة سيارة أجرة. من اتجاه البحر محمولًا على الريح الدافئة أتى الأنين الطويل لصافرة السفينة البخارية. شعرت بداخلها وكأن أقزامًا يبنون أبراجًا لامعة هشة طويلة. انقضت العربة تطن فوق القضبان، ثم توقفت. عندما صعدَت إليها، تذكرت منتشيةً رائحة جسد ستان وهو يتعرَّق بين ذراعَيها. تركت نفسها لتتهاوى على المقعد، قاضمةً شفتَيها حتى لا تُطلق صريخًا. يا إلهي يا لفظاعة أن يكون المرء مغرمًا! كان هناك أمامها رجلان بوجهَين صغيرَي الذقن كوجوه السمك الأزرق يتحدَّثان جذلَين، ويضربان ركبَيهما البدينة.
«أقول لك يا جيم إن إيرين كاسيل هي مَن تأسرني … فرؤيتها وهي ترقص رقصة وان ستيب تجعلني أسمع ملائكةً تُهمهم.»
«كلا، إنها شديدة النحافة.»
«ولكنها حقَّقت أكبر نجاح على الإطلاق في برودواي.»
نزلت إلين من العربة ومشت نحو الشرق بمحاذاة الأرصفة الخاوية الخربة لشارع ١٠٥. تسرَّبت زَخَمَة أغطية الأَسِرة من المربعات السكنية للمنازل ذات النوافذ الضيقة. وعلى طول المزاريب فاحت رائحة صناديق القُمامة كريهةً حامضة. وفي ظل عتبة أحد الأبواب تثبَّت بإحكام رجل وفتاة يتمايل كلٌّ منهما في ذراع الآخر. تمنَّى كلٌّ منهما للآخر ليلةً سعيدة. فابتسمت إلين فَرِحة. أكبر نجاح في برودواي. كان وَقْع الكلمات عليها كمصعد يرفعها فاقدةً الوعي، لأعلى إلى ارتفاع مهيب حيث تُطقطِق اللافتات الكهربائية بالأضواء القرمزية، والذهبية، والخضراء، وحيث حدائق الأسقف البراقة التي تنبعث منها رائحة زهور الأوركيد، والخفقان البطيء لرقصات التانجو وهي ترتدي فستانًا ذهبيًّا مخضرًّا ويرقص معها ستان، بينما يهب إيقاع تصفيق الملايين كعاصفة ثلجية تجتاحهما. أكبر نجاح في برودواي.
كانت تصعد الدرج الأبيض مرتقية. وأمام الباب المكتوب عليه ساندرلاند، شعرت بنفور مثير للغثيان يخنقها فجأة. فوقفت طويلًا وقلبها يدق مؤرجحةً المفتاح أمام قفل الباب. ثم برعشة دفعت المفتاح في القفل وفتحت الباب.
•••
«إنه غريب الأطوار يا جيمي، غريب.» جلس هيرف وروث برين يقهقهون أمام أطباق المعجنات في الركن الداخلي لمطعم ذي سقف منخفض يعج بالضوضاء. «يبدو أن جميع الممثِّلين من ذوي الأداء المتكلَّف حول العالم يتناولون الطعام هنا.»
«جميع الممثِّلين من ذوي الأداء المتكلَّف حول العالم يقيمون في مبنى السيدة ساندرلاند.»
«ما آخر الأخبار من البلقان؟»
«البلقان، اسم يليق بالمبنى …»
من وراء قبعة روث القشية السوداء وزهور الخشخاش الحمراء حول قمتها، نظر جيمي إلى الطاولات المكدَّسة حيث تبدو الوجوه كما لو كانت تتحلَّل إلى لطخات خضراء رمادية. شقَّ نادلان ذوا وجهَين شاحبَين كوجهَي صقرين طريقهما عبر ثرثرة الحديث المتذبذبة بين الحضور. كانت روث تنظر إليه بعينَين ضاحكتَين متسعتَين بينما كانت تقضم عودًا من الكرفس.
كانت تُهمهم قائلة: «مرحى، أشعر بالسُّكْر الشديد. إن الشراب يشق طريقه مباشرةً إلى رأسي … أليس هذا فظيعًا؟»
«حسنًا، ما هذا الحدث المروِّع الذي وقع في شارع ١٠٥؟»
«أوه، لقد فاتك ذلك. لقد كانت مسخرة … خرج الجميع إلى الردهة، السيدة ساندرلاند بشعرها في لفائف تجعيد الشعر، وكاسي باكية، وتوني هانتر واقفًا عند بابه بثياب نومه الوردية …»
«مَن هو؟»
«مجرَّد ممثِّل يافع … ولكن يا جيمي يجب أن أُخبرك بأمر توني هانتر. إنه شاذ غريب الأطوار يا جيمي، شاذ غريب الأطوار.»
شعر جيمي بتورُّد وجهه، فمال فوق صحنه. وقال بتصنُّع: «أوه، أهذه مشكلته؟»
«لقد صُدمت يا جيمي، اعترف أنك صُدمت.»
«لا لم أُصدم، تكلَّمي، أكملي نميمتك.»
«أوه يا جيمي، يا لك من مَرِح … حسنًا، كانت كاسي تبكي وكان الكلب الصغير ينبح، وكانت الآنسة كوستيلو المختفية عن الأنظار تصرخ طلبًا للشرطة، وتفقد الوعي بين ذراعَي رجل غير معروف يرتدي بِذلةً رسمية. وكان جوجو يُلوِّح بمسدس، مسدس صغير من النيكل، ربما كان مسدس مياه على ما أظن … والوحيدة التي بدت في صوابها كانت إلين أوجليثورب … كما تعلم مثل تلك الصورة ذات الشعر البُني ذي المسحة البرتقالية التي أبهرت ذهنك الصغير.»
«صدقًا يا روث لم ينبهر ذهني الصغير بذلك.»
«حسنًا، في النهاية تعب المغرم من لعب دوره الكبير، وصاح بنبرات رنانة بأن قال انزع مني السلاح وإلا قتلت هذه المرأة. وأمسك توني هانتر بالمسدس وأخذه إلى غرفته. ثم انحنت إلين أوجليثورب قليلًا كما لو كانت تُحيِّي الجماهير، وتمنَّت ليلةً سعيدة للجميع، وغاصت في غرفتها في رباطة جأش وَسَكينة … أيمكنك تخيُّل الأمر؟» خفضت روث فجأةً من صوتها، قائلة: «ولكن كل شخص في المطعم يستمع إلينا … وحقيقةً أظن أن الأمر كريه للغاية. ولكن الأسوأ لم يأتِ بعد. بعدما قرع المغرم الباب مرتَين ولم يُجِبه أحد، اقترب من توني وأدار عينَيه كفوربس روبرتسون في دَور هاملت، ووضع ذراعه حوله، وقال يا توني هل يمكن لرجل مُحطَّم أن يتوق لملاذ في غرفتك الليلة … صدقًا لقد ذُهلت للغاية.»
«هل أوجليثورب مثله كذلك؟»
أومأت روث عدة مرات.
«فلماذا إذن تزوجته؟»
«عجبًا، بوسع تلك الفتاة أن تتزوَّج من عربة ترام لو ظنَّت أن بإمكانها الحصول على أي شيء منها.»
«صدقًا يا روث أظن أنكِ أسأتِ تقييم الأمر برمته.»
«أنت بريء للغاية على تلك الحياة يا جيمي. ولكن دعني أُنهي سرد الحكاية المأساوية … بعد أن اختفى هذان الاثنان وأغلقا الباب خلفهما أُقيم الحفل الأكثر فظاعةً ممَّا يمكنك تخيُّله على الإطلاق في الردهة. بالطبع عانت كاسي من نوبات هيستيرية طوال الوقت ليزيد ذلك الموقف إثارة. عندما رجعت إليها حيث كنت أُحضر لها بعضًا من روح النشادر الحلو من الحمام، وجدت الحفل مُقامًا. كانت مهزلة. أرادت الآنسة كوستيلو طرد الزوجَين أوجليثورب في الفجر، وقالت إنها سترحل إن لم يرحلا، وظلَّت السيدة ساندرلاند تئنُّ قائلةً إنه خلال سنوات خبرتها الثلاثين في المسرح لم ترَ قط مشهدًا كهذا، والرجل الذي كان يرتدي البِذلة الرسمية، والذي كان بنجامين أردن … تعلم أنه لعب دور إحدى الشخصيات في عرض «زهر العسل جيم» (هانيساكل جيم) … قال إنه يظن أن أشخاصًا كتوني هانتر يجب أن يكونوا في السجن. عندما ذهبت إلى الفِراش كان الشجار لا يزال مستمرًّا. أوَتتعجَّب أنني نمت متأخِّرًا بعد كل ذلك وجعلتك تنتظر، يا عزيزي المسكين، لمدة ساعة في صيدلية تايمز؟»
•••
وقف جو هارلاند في غرفة نومه المقتطعة من الردهة ويداه في جيبَيه يحدِّق في لوحة «الأيل في الخليج» المعلَّقة بانحناء في منتصف الجدار الزنجاري الذي أحاط بالسرير الحديدي المتقلقل. وتحرَّكت أصابعه الباردة كالمخالب بلا هوادة في عمق جيبَي بنطاله. كان يتحدَّث جهارًا بصوت هادئ خفيض: «أوه، كما تعلم فالأمر برمته مجرد حظ، ولكن تلك هي المرة الأخيرة التي أُحاول فيها سؤال آل ميريفال. كان بإمكان إيميلي أن تعطيني المال لولا ذلك البخيل الهَرِم اللعين. إذ تتمتَّع إيميلي بلين القلب. غير أن أحدًا منهما لا يبدو أنه يدرك أن هذه الأمور لا تكون دائمًا بسبب خطأ ارتكبه المرء. فالأمر كله يعتمد على الحظ، ويعلم الرب أنهم كانوا يأكلون من عمل يدي في الأيام الخوالي.» كان صوته المتصاعد يصر في أذنَيه. زمَّ شفتَيه معًا. إنك في طريقك إلى الجنون أيها الهَرِم. سار ذهابًا وإيابًا في المساحة الضيقة بين السرير والجدار. ثلاث خطوات. ثلاث خطوات. ذهب إلى حوض الغسيل وشرب من الإبريق. كان مذاق المياه كالخشب العفن ودِلاء النُّفايات. بصق الرشفة الأخيرة. أحتاج إلى شريحة طرية من لحم الخاصرة وليس إلى المياه. سحق قبضتَيه المطبقتَين معًا. يجب أن أفعل شيئًا. يجب أن أفعل شيئًا.
ارتدى معطفه كي يخفي المَزق في مَقعدة بنطاله. وخزَ الكُمان الرثان معصمَيه. أصدرت السلالم المظلمة صريرًا. كان شديد الضعف حتى إنه أمسك بالدرابزين خوفًا من أن يسقط. انبثقت السيدة العجوز من الباب منقضَّةً عليه في الردهة السُّفلية. كان الجرذ قد تلوَّى جانبًا فوق رأسها كما لو كان يحاول الهرب أسفل تسريحة البومبادور الرمادية.
«متى ستدفع لي أجرة الأسابيع الثلاثة يا سيد هارلاند؟»
«إنني لتوي في طريقي لصرف شيك الآن يا سيدة بودكوفيتش. لقد كنتِ كريمةً للغاية في هذا الأمر الصغير … وربما يهمكِ أن تعرفي أنني قد تلقَّيت وعدًا، كلا بل تأكيدًا بخصوص منصب جيد جدًّا بدايةً من يوم الإثنَين.»
«لقد انتظرت ثلاثة أسابيع … لن أنتظر أكثر من ذلك.»
«ولكن يا سيدتي العزيزة أنا أؤكِّد لكِ بشرفي باعتباري رجلًا نبيلًا …»
بدأت السيدة بودكوفيتش تهز كتفَيها. ارتفع صوتها رفيعًا ومنوِّحًا كصوت عربة فول سوداني. «ادفع لي تلك الدولارات الخمسة عشر وإلا فسأؤجِّر الغرفة لشخص آخر.»
«سأدفع لكِ مساء اليوم.»
«في أي ساعة؟»
«في السادسة.»
«حسنًا. رجاءً أعطني المفتاح.»
«ولكني لا يمكنني فعل ذلك. افترضي أنني جئت متأخِّرًا.»
«لذلك أريد المفتاح. لقد سئمت الانتظار.»
«حسنًا، فلتأخذي المفتاح … آمل أن تستوعبي أنه بعد هذا السلوك المهين سيكون من المستحيل عليَّ أن أظل أسفل سقفكِ.»
ضحكت السيدة بودكوفيتش بصوت أجش. «حسنًا، عندما تدفع لي الدولارات الخمسة عشر يمكنك أن تأخذ حقيبتك.» وضع المفتاحَين المحكمَين الربط معًا بسلسلة في يدها البيضاء وأغلق الباب بشدة وخرج مسرعًا إلى الشارع.
عند ناصية الجادة الثالثة توقَّف ووقف مرتعشًا في أشعة الشمس الحارة لفترة ما بعد الظهيرة، والعرق يتصبَّب خلف أذنَيه. كان في حالة من الضعف الشديد لم يقوَ معها على لعن حاله. سمع دويًّا متواصلًا عندما مرَّ قطار مرتفع. ومرَّت الشاحنات فارِمةً الطريق بمحاذاة الجادة، ترفع غبارًا تتصاعد منه رائحة الجازولين وروث الخيل المدوس. المتاجر ومطاعم الوجبات السريعة مُعبَّأة برائحة الهواء المكتوم. بدأ في السير ببطء شمالًا في اتجاه شارع ١٤. أوقفه عند إحدى النواصي رجل كثير التجاعيد تفوح منه رائحة السيجار كما لو أن ثمة يدًا هبطت على كتفه. وقف برهةً ينظر في المتجر الصغير مشاهدًا الأصابع النحيفة الملطَّخة لعامل لف السيجار وهي تعدِّل أوراق التبغ الهشة خارج السيجار. تذكَّر رائحة سيجار روميو وجولييت أرجويس موراليس فأخذ نفسًا عميقًا. القطع الماهر لورق القصدير، والنزع الدقيق للشريط، والمطواة العاجية الصغيرة التي تقطع الطرف بعناية كما لو كانت تقطع قطعةً من اللحم، ورائحة أعواد الثقاب الشمعية، والاستنشاق الطويل للدخان العميق المتمايل اللاذع الذكي الرائحة. والآن يا سيدي فيما يخص هذا الأمر الصغير المتعلِّق بمسألة رابطة شمال المحيط الهادي الجديدة … دسَّ قبضتَيه في الجيبَين الرطبَين لمعطف المطر الذي كان يرتديه. أتأخذ مفتاحي تلك الحيزبون العجوز؟ سأريها، تبًّا لذلك. ربما يكون جو هارلاند مفلسًا ومشرَّدًا، ولكنه لا يزال محتفظًا بكبريائه.
سار غربًا بمحاذاة شارع ١٤ ودون أن يتوقف للتفكير أو أن يفقد أعصابه دخل إلى متجر صغير للأدوات المكتبية في قبو أحد الأبنية، وخطا عبره بخطواتٍ كبيرةٍ متعثِّرةٍ إلى ظهر المبنى، ووقف يتأرجح عند عتبة باب مكتب صغير حيث كان يجلس عند منضدةٍ ذات غطاء دوَّار رجلٌ بدين أصلع ذو عينَين زرقاوَين.
قال هارلاند ناعقًا: «مرحبًا يا فلسيوس.»
نهض الرجل البدين مبغوتًا. «يا إلهي، أليس هذا السيد هارلاند؟»
«جو هارلاند بنفسه يا فلسيوس … ولكن في حال سيئة بعض الشيء.» ماتت ضحكة مكتومة في حلقه.
«حسنًا سأكون … اجلس يا سيد هارلاند.»
«شكرًا يا فلسيوس … إنني مُفلس ومشرَّد يا فلسيوس.»
«لا بد أنها قد فاتت خمس سنوات منذ رأيتك آخر مرة يا سيد هارلاند.»
«لقد كانت بالنسبة إليَّ خمس سنوات بغيضة … أعتقد أن الأمر كله يعتمد على الحظ. لن يتبدَّل حظي على هذه الأرض مرةً أخرى. أتتذكَّر عندما كنت أعود من البورصة بعد أن أقضي يومي في المضاربة، وكنت أحدث جلبةً في أنحاء المكتب؟ وقد أعطيت العاملين بالمكتب مكافأةً جيدة للغاية في الكريسماس ذلك العام.»
«لقد كانت كذلك بالفعل يا سيد هارلاند.»
«لا بد أنها حياة مملة أن تصبح صاحب متجر بعد أن كنت تضارب في وول ستريت.»
«إنها أقرب لذائقتي يا سيد هارلاند؛ فليس ثمة من مدير عليَّ هنا.»
«وكيف حال زوجتك وأبنائك؟»
«بخير، بخير؛ ولدي الأكبر تخرَّج لتوه في المدرسة الثانوية.»
«أذلك الذي أسميته على اسمي؟»
أومأ فلسيوس. كانت أصابعه البدينة كالنقانق تنقر في غير هوادة حافة المنضدة.
«أتذكر أنني عزمت أن أفعل شيئًا لهذا الولد في يوم ما. يا له من عالم غريب!» أطلق هارلاند ضحكةً واهنة. شعر بعتمة مرتجفة تتسلَّل لأعلى خلف رأسه. أمسك ركبته بإحكامٍ بكلتا يدَيه وشد عضلات ذراعَيه. «أترى يا فلسيوس، هذه هي الحال … وجدت نفسي الآن في موقف شديد الإحراج ماليًّا … وأنت تعلم كيف تكون تلك الأمور.» كان فلسيوس يحدِّق مباشرةً أمامه في المنضدة. وكانت قطرات العرق تنهمر من رأسه الأصلع كالخرز. «نمرُّ جميعًا بفترات من الحظ السيئ، أليس كذلك؟ أريد قرضًا صغيرًا للغاية لبضعة أيام، بعض دولارات ليس إلا، لنقل ٢٥ حتى أتدبَّر بعض الأمور …»
«لا يمكنني القيام بذلك يا سيد هارلاند.» نهض فلسيوس. «معذرةً ولكن المبادئ لا تتجزَّأ … لم أقترض أو أُقرض سنتًا واحدًا في حياتي. أثق أنك تستوعب ذلك …»
«حسنًا، لا تقل شيئًا أكثر من ذلك.» نهض هارلاند خانعًا. تمتم ناظرًا لأسفل إلى حذائه المتصدِّع: «أعطني ربع دولار … لم أعد شابًّا كما كنت، ولم أتناول شيئًا منذ يومَين.» مدَّ يده ليثبت نفسه بالمنضدة.
رجع فلسيوس للخلف إلى الجدار كما لو كان يتجنَّب صفعة. مدَّ يده بقطعة بخمسين سنتًا على أصابع سميكة مرتجفة. أخذها هارلاند، واستدار دون أن ينبس وشقَّ طريقه بصعوبة في المتجر. سحب فلسيوس من جيبه منديلًا بنفسجي الحواف، ومسح جبهته ثم رجع إلى خطاباته مرةً أخرى.
لقد أقدمنا على لفت الانتباه في المجال إلى أربعة منتجات فاخرة جديدة من منتجات مولين التي شعرنا بعظيم الثقة في توصية عملائنا بها، بوصفها تشكِّل مبادرةً جديدة وفريدة تمامًا في فن صناعة الورق …
•••
خرجا من دار السينما تطرف أعينهما في بقع الوهج الكهربائي البرَّاق. شاهدته كاسي وهو ينهض مباعدًا بين قدمَيه، وبعينَين منهمكتَين يشعل سيجارًا. كان ماكافوي رجلًا مكتنزًا ذا عنق لحيم، وكان يرتدي معطفًا بزرٍّ واحد، وصدريةً ذات نقشة مربعة، ووضع دبوسًا على شكل رأس كلب في ربطة عنقه المُقَصَّبة.
كان يهدر قائلًا: «كان ذلك عرضًا سيئًا أو إنني لا أفهم شيئًا.»
«ولكني أحببت أفلام السفر يا موريس؛ فعندما رقص هؤلاء الفلاحون السويسريون شعرت أنني هناك.»
«الطقس حار جدًّا هنا … أرغب في شراب.»
أنَّت قائلة: «لقد وعدتني يا موريس.»
«أوه، كل ما كنت أقصده هو ماء الصودا، لا تغضبي.» «أوه، ذلك سيكون رائعًا. أحب الصودا.»
«ثم سنذهب للتنزُّه في سنترال بارك.»
تركت رموشها تهبط فوق عينَيها، وهمست دون النظر إليه: «حسنًا يا موريس.» وضعت يدها بارتجاف بعض الشيء في ذراعه.
«فقط لو لم أكن مفلسًا تمامًا.»
«لا يهمني يا موريس.»
«بل يهمني أنا.»
دخلا إلى إحدى الصيدليات في دوَّار كولومبوس. كانت الفتيات في الفساتين الصيفية الخضراء، والبنفسجية، والوردية، والشباب في القبعات القشية ينتظرون في ثلاثة صفوف أمام ماكينة الصودا. وقفت في الخلف وشاهدته بإعجاب وهو يشق طريقه عبرهم. كان هناك رجل يميل فوق طاولة خلفها متحدِّثًا إلى فتاة، وكانت حافتا قبعتَيهما تُخفيان وجهَيهما.
«قلت له أن يكف عن ذلك الهراء ثم استقلت.»
«تعني أنك رُفدت.»
«لا، صدقًا لقد استقلت قبل أن تتسنَّى له الفرصة … إنه كريه، أتعلمين؟ لم أستطع تحمُّل كذبه أكثر من ذلك. عندما كنت أسير خارجًا من المكتب نادى عليَّ … دعني أقُل لك شيئًا أيها الشاب. لن تحقِّق شيئًا حتى تتعلَّم مَن هو الزعيم في هذه المدينة، حتى تتعلَّم أنه ليس أنت.»
كان موريس يمد لها يده بصودا آيس كريم الفانيليا. «تغوصين في أحلام اليقظة مجدَّدًا يا كاسي؛ أي أحدٍ سيظن أنكِ مدمنة كوكايين.» باسمةً وبعينَين وامضتَين، أخذت الصودا، وكان هو يشرب الكوكا كولا. قالت: «شكرًا.» لعقت بشفتَين مضمومتَين قليلًا من الآيس كريم. «أوه يا موريس، إنه لذيذ.»
غاص المسار بين البقع المستديرة للمصابيح القوسية في الظلام. عبر الأضواء المائلة والظلال الواكزة أتت رائحة أوراق الشجر المغبرَّة، والعشب المدوس بالأقدام، ومن حين لآخر نفحة من رائحة منعشة من التربة الرطبة أسفل الجنبات.
هتفت كاسي: «أوه، أُحب الأجواء في المتنزَّه.» كتمت تَجَشُّؤًا. «أتعلم يا موريس، كان ينبغي ألَّا أتناول ذلك الآيس كريم. إنه يصيبني دائمًا بالغازات.»
لم ينبس موريس. وضع ذراعه حولها وقرَّبها بشدة منه حتى يحك فخذه فخذها أثناء سيرهما. «إذن لقد مات بيربونت مورجان … ليته ترك لي بضعة ملايين.»
«أوه يا موريس، ألن يكون هذا رائعًا؟ أين سنعيش؟ في سنترال بارك ساوث.» وقفا ينظران للخلف على وميض اللافتات الكهربائية الذي أتى من دوَّار كولومبوس. إلى اليسار كان بإمكانهما رؤية الأضواء المسدلة عليها الستائر في نوافذ المباني السكنية ذات الواجهات البيضاء. نظر خلسةً يمينًا ويسارًا ثم أهداها قبلة. عوجت فمها وأبعدته من أسفل فمه.
همست لاهثة: «لا … قد يرانا أحد.» كان شيء كالمولِّد يطن ويطن بالداخل. «لقد احتفظت بالأمر يا موريس لأُخبرك به. أظن أن جولدوايزر سيعطيني دورًا مميزًا في العرض التالي. إنه مدير المسرح للشركة الجوالة الثانية وله نفوذ كبير لدى الشركة. لقد رآني وأنا أرقص بالأمس.»
«وماذا قال؟»
«قال إنه سيرتِّب لي لقاءً مع الرئيس الكبير يوم الإثنَين … أوه ولكن يا موريس ليس هذا الشيء الذي أريد فعله؛ إنه مُبتَذل وبشع … أريد أن أقدِّم أشياء جميلة. أشعر بأن لديَّ شيئًا بداخلي، شيئًا لا أعرف له اسمًا يخفق بداخلي، طائرًا جميل الريش في قفص حديدي فظيع.»
«هذه هي مشكلتكِ، لن تتقدَّمي أبدًا؛ فأنتِ آنفة للغاية.» نظرت لأعلى إليه بعينَين تفيضان بالدمع تلألأتا في الضوء الأبيض المغبر للمصباح القوسي.
«أوه، لا تبكي أرجوكِ. لم أقصد شيئًا.»
«أنا لست آنفةً معك يا موريس، أليس كذلك؟» تنشَّقت ومسحت عينَيها.
«أنت كذلك بعض الشيء، وذلك ما يؤلمني. فأنا أُحب أن تُدلِّلني فتاتي الصغيرة وأن تغازلني قليلًا. الحياة يا كاسي ليست كلها متعة ومرحًا.» عندما كانا يسيران متقاربَين بشدة شعرا بصخر أسفل أقدامهما. كانا فوق تلة صغيرة من الجرانيت برزت منها الجنَبات من جميع النواحي. ومضت في وجهَيهما الأضواء الآتية من المباني المطوِّقة في نهاية المتنزَّه. تباعد كلٌّ منهما ممسكًا بيد الآخر.
«انظري إلى تلك الفتاة الصهباء بالأعلى في شارع ١٠٥ … أُراهن أنها لن تكون آنفةً عندما تكون مع شاب وحدهما.»
«إنها امرأة مروِّعة، إنها لا تبالي بسمعتها … أوه، أظن أنك بشع.» أجهشت بالبكاء مجدَّدًا.
سحبها نحوه بقوة، مقرِّبًا إياها منه بصلابةٍ بيدَيه المبسوطتَين على ظهرها. شعرت بساقَيها ترتجفان وخارت قواها. كانت تتساقط عبر مهاوٍ متداخلة الألوان من الضعف. لم يتركها فمه تلتقط أنفاسها.
همس منتزعًا نفسه بعيدًا عنها: «انتبهي.» سارَّا متعثرَين في المسار عبر الجنبات. «لا أظنه كذلك.»
«ما هو يا موريس؟»
«شرطي. يا إلهي، تبًّا لا يوجد مكان نذهب إليه. ألَا يمكننا أن نذهب إلى غرفتكِ؟»
«ولكنهم سيروننا جميعًا يا موريس.»
«ومن يبالي؟ فالجميع يفعل هذا في ذلك المنزل.»
«أوه، أكرهك عندما تتحدَّث بهذه الطريقة … فالحب الحقيقي شيء نقي تمامًا وجميل … أنت لا تُحبني يا موريس.»
«كُفي عن انتقادي، ألَا يمكنكِ فعل ذلك يا كاسي لدقيقة …؟ اللعنة، إنه الجحيم أن يكون المرء مفلسًا.»
جلسا على مقعدٍ في الضوء. كانت السيارات خلفهما تنزلق بسير مُهسهِس منتظم في مجريَين بمحاذاة الطريق. وضعت يدها على ركبته وغطاها بيده البدينة القصيرة والكبيرة.
«أشعر يا موريس أننا سنكون سعداء للغاية من الآن، أشعر بذلك. ستجد وظيفةً جيدة، أثق في ذلك.»
«ليست لديَّ ثقة كبيرة في الأمر … لم أعد صغير السن كما كنت يا كاسي. ليس لديَّ أي وقت لأضيعه.»
«عجبًا، بل أنت في عنفوان الشباب، أنت لم تتعدَّ الخامسة والثلاثين يا موريس … وأنا أظن أن شيئًا رائعًا سيحدث. سأحصل على فرصة للرقص.»
«ينبغي أن تكسبي أكثر ممَّا تكسبه تلك الصهباء.»
«إلين أوجليثورب … إنها لا تكسب الكثير. ولكني أختلف عنها. فأنا لا يعنيني المال؛ بل أريد أن أعيش من أجل الرقص.»
«أنا أريد المال. بمجرد حصولكِ على المال يمكنكِ أن تفعلي ما تشائين.»
«ولكن يا موريس ألَا تعتقد أنه بإمكانك فعل أي شيء بمجرد أن لديك الإرادة الكافية له؟ أنا أومن بذلك.» أحاط خصرها بذراعه الفارغة. رويدًا رويدًا تركت رأسها يسقط على كتفه. همست بشفتَين جافتَين: «أوه، لا أُبالي.» انزلقت خلفهما سيارات الليموزين، والسيارات الخفيفة، والسيارات ذات البابَين، وسيارات الصالون؛ بمحاذاة الطريق مع وميض أنوار أفعواني يركض في مجريَين متواصلَين متدفقَين.
•••
انبعث من الصوف البُني رائحة كرات العُثَّة عندما طوته. انحنت لتضعه في الصندوق؛ فحفَّت طبقةً من المناديل الورقية بالأسفل عندما ساوت التجاعيد بيدها. كان ضوء الشمس البنفسجي الأول خارج النافذة يزيد مصباح الضوء الكهربائي احمرارًا كعين مؤرَّقة. اعتدلت إلين فجأةً ووقفت متيبِّسةً وذراعاها في جانبَيها، وتورَّد وجهها. قالت: «الوضع متدنٍّ للغاية حقًّا.» فردَت منشفةً فوق الفساتين وكوَّمت فُرشًا، ومرآة يد، وشباشب، وقمصانًا، وصناديق المساحيق في غير نظامٍ فوقها. ثم أغلقت بقوةٍ غطاء الصندوق، وأحكمت غلقه ثم وضعت المفاتيح في محفظتها المسطَّحة من جلد التمساح. وقفت تنظر مذهولةً في أنحاء الغرفة وهي تمص ظُفرًا مكسورًا. كان ضوء الشمس الأصفر يغمر بانحراف قدور المداخن والأفاريز في المنازل بالجهة المقابلة للشارع. وجدت نفسها تحدِّق في الحروف البيضاء «إيه. تي. أوه.» في طرف صندوقها. قالت مجددًا: «كل شيء متدنٍّ للغاية على نحو مثير للاشمئزاز.» ثم أمسكت بمبرد أظافر من فوق المنضدة وكشطت الحرف أوه، وهمست مطقطقةً أصابعها: «مرحى.» وبعد أن ارتدت قبعةً سوداء صغيرة على شكل دلو وغطاء وجه؛ كي لا يرى الناس أنها كانت تبكي، جمَّعت الكثير من الكُتب: «مواجهة الشباب»، و«هكذا تكلَّم زرادشت»، و«الحمار الذهبي»، و«محادثات تخيلية»، و«أفروديت»، و«أغاني بيليتس»، و«كتاب أكسفورد للقصائد الفرنسية» في شال حريري وربطتها معًا.
كان ثمة نقر خفيف على الباب. همست: «مَن الطارق؟»
جاء صوت باكٍ: «إنه أنا فحسب.»
فتحت إلين الباب. «يا إلهي يا كاسي، ما الأمر؟» احتضنت كاسي إلين بشدة. «أوه يا كاسي، إنكِ تدبقين غطاء وجهي … ما الأمر بحق السماء؟»
«لقد كنت مستيقظةً طوال الليل أفكِّر في التعاسة التي لا بد وأنكِ تعيشين فيها.»
«ولكني يا كاسي لم أشعر من قبل في حياتي بالسعادة مثلما أشعر الآن.»
«أليس الرجال مروِّعين؟»
«نعم … إنهم ألطف كثيرًا من النساء على أي حال.»
«يجب أن أخبركِ بشيء يا إلين. أعلم أنه لا يعنيكِ من أمري شيء، ولكني سأخبركِ على الرغم من ذلك.»
«بالطبع أهتم لأمركِ يا كاسي … لا تكوني سخيفة. ولكني مشغولة للغاية الآن … لمَ لا ترجعين لفراشكِ وتخبريني فيما بعد؟»
«يجب أن أخبركِ الآن.» جلست إلين فوق صندوقها صاغرة. «لقد أنهيت علاقتي بموريس يا إلين … أليس هذا مروِّعًا؟» مسحت كاسي عينَيها في كم روبها الخزامي اللون وجلست بجوار إلين فوق الصندوق.
قالت إلين برفق: «اسمعي يا عزيزتي. أقترح أن تنتظري لثانية، سأطلب سيارة أجرة عبر الهاتف. أريد الفرار قبل أن يصل جوجو. فقد سئمت المشاجرات.» كانت رائحة الصالة خانقةً من أثر النوم ودهان التدليك. تحدَّثت إلين بصوت خفيض للغاية في سماعة الهاتف. جاء صوت الرجل الأجش في المَرأب هادرًا وسارًّا في أذنَيها. «بالتأكيد على الفور يا آنسة.» رجعت على أطراف أصابعها واثبةً إلى الغرفة وأغلقت الباب.
«ظننت أنه أحبني، صدقًا يا إلين. أوه، إن الرجال مروعون للغاية. كان موريس غاضبًا لأنني لم أرغب في أن أعيش معه. يبدو الأمر لي خبيثًا. بوسعي أن أُضيء أصابعي كالشموع من أجله، وهو يعلم ذلك. ألم أفعل ذلك بالفعل طوال عامَين؟ قال إنه لا يمكنه الاستمرار في علاقتنا إن لم أكن له حقًّا، تعلمين ما كان يقصد، وقلت إن حبنا كان من الجمال بمكان ليستمر سنوات وسنوات. يمكنني أن أظل أحبه طوال حياتي دون حتى أن أقبِّله. ألا تظنين أن الحب يجب أن يكون نقيًّا؟ ثم سخر من رقصي، وقال إنني كنت محظية شاليف وإنني فقط أتسلَّى به، وتشاجرنا شجارًا مروِّعًا ونعتني بألفاظ بشعة ورحل قائلًا إنه لن يرجع أبدًا.»
«لا تحملي همًّا لذلك يا كاسي، سيرجع بالتأكيد.»
«كلا، ولكنكِ مادية للغاية يا إلين. أعني أن علاقتنا قد تحطَّمت روحيًّا للأبد. ألَا ترين أن ثمة شيئًا روحانيًّا مقدسًا كان بيننا وأنه قد تحطَّم.» أجهشت في البكاء مجددًا وانضغط وجهها في كتف إلين.
«ولكني يا كاسي لا أرى ما المتعة التي تحصلين عليها من كل ذلك؟»
«أوه، أنتِ لا تفهمين. إنكِ حديثة السن للغاية. كنت مثلكِ في البداية باستثناء أنني لم أكن متزوِّجةً ولم أكن أتجوَّل مع الرجال. ولكني الآن أرغب في الجمال الروحاني. أريد الوصول إليه من خلال ممارستي للرقص ومن خلال حياتي، أسعى للجمال في كل مكان وظننت أن موريس أراده كذلك.»
«ولكن موريس أراده بالتأكيد.»
«أوه يا إلين إنكِ مدهشة، وأنا أحبكِ كثيرًا.»
نهضت إلين واقفة. «سأُسرع بالنزول حتى لا يرن سائق سيارة الأجرة الجرس.»
«ولكنكِ لا يمكنكِ الذهاب هكذا.»
«سترين.» رفعت إلين صُرَّة الكُتب بيد واحدة، وحملت في الأخرى حقيبة مستحضرات التجميل من الجلد الأسود. «اسمعي يا كاسي، هل يمكنكِ أن تتلطفي وتُريه الصندوق عندما يصعد لأخذه … وهناك شيء آخر، عندما يتصل ستان إيميري أخبريه أن يتصل بي في فندق بريفورت أو لافاييت. حمدًا للرب أنني لم أجرِ إيداعًا ماليًّا الأسبوع الماضي … وإن وجدتِ يا كاسي أي نثريات لي في المكان فلتحتفظي بها … وداعًا.» رفعت غطاء وجهها وقبَّلت كاسي سريعًا على وجنتَيها.
«أوه، كيف لكِ أن تكوني بتلك الشجاعة حتى تذهبي وحدكِ هكذا؟ … ستسمحين لي أنا وروث أن نأتي لزيارتكِ، أليس كذلك؟ إننا مولعتان بكِ للغاية. أوه يا إلين، ستحظَين بحياة مِهنية رائعة، أعلم ذلك.»
«وعديني ألَّا تُخبري جوجو بمكاني … سيعرف عمَّا قريب على أي حال … سأتصل به خلال أسبوع.»
وجدت سائق سيارة الأجرة في الردهة ينظر إلى الأسماء فوق أجراس الأبواب. صعد كي يأخذ الصندوق. استقرَّت مسرورةً في المقعد الأديمي اللون المغبر لسيارة التاكسي، آخذةً أنفاسًا عميقة من هواء الصباح المحمَّل بنفحات النهر. ابتسم لها سائق سيارة الأجرة ابتسامةً عريضة عندما ترك الصندوق ينزلق من على ظهره فوق لوحة التحكم.
«ثقيل للغاية يا آنسة.»
«من المؤسف أن عليكِ حمل كل ذلك وحدكِ.»
«أوه، يمكنني أن أحمل أثقل من ذلك.»
«أريد أن أذهب إلى فندق بريفورت، الجادة الخامسة في شارع ٨ تقريبًا.»
عندما انحنى الرجل لرفع ذراع التدوير، دفع بقبعته خلف رأسه تاركًا شعره المجعَّد الضارب إلى الحمرة ينسدل فوق عينَيه. قال وهو يقفز فوق مقعده في السيارة المهتزة: «حسنًا، سآخذكِ إلى أي مكان ترغبين.» عندما انعطفا إلى شارع برودواي المشمس والفارغ تمامًا، بدأ شعور من السعادة يتوقَّد ويتصاعد كالصواريخ داخلها. هبَّ الهواء منعشًا، مثيرًا للحماسة في وجهها. تحدَّث إليها سائق سيارة الأجرة عبر النافذة المفتوحة خلفه.
«ظننت أنكِ كنتِ تلحقين بقطار للرحيل إلى مكان ما يا آنسة.»
«حسنًا، أنا راحلة بالفعل إلى مكان ما.»
«سيكون يومًا جيدًا للرحيل إلى مكان ما.»
«إنني راحلة عن زوجي.» انطلقت الكلمات من فمها قبل أن تتمكن من إيقافها.
«هل طردكِ؟»
قالت ضاحكة: «كلا، لا يمكنني أن أقول إنه فعل ذلك.»
«طردتني زوجتي قبل ثلاثة أسابيع.»
«كيف ذلك؟»
«أغلقت الباب عندما عدت إلى المنزل في إحدى الليالي ولم تدعني أدخل. وقد غيَّرت القُفل عندما كنت بالخارج للعمل.»
«إنه شيء غريب.»
«تقول إنني أسكر كثيرًا. لن أرجع إليها ولن أَعُولها بعد الآن … يمكنها أن تسجنني إن أرادت. أنا محق. سأحصل على شقة في الجادة الثانية والعشرين مع شخص آخر، وسنُحضر بيانو ونعيش في هدوء دون أن نشغل بالًا بالنساء.»
«الزواج ليس بالأمر الجيد، أليس كذلك؟»
«معكِ حق. ما يسبق الزواج جيد للغاية، ولكن الزواج نفسه يشبه الاستيقاظ بعد ليلة سُكر.»
كانت الجادة الخامسة بيضاءَ وفارغةً وقد اجتاحتها رياح هَفَّافة. كانت الأشجار في ميدان ماديسون تتلألأ على نحوٍ غير متوقَّعٍ كسراخس في غرفة معتمة. حمل أمتعتها في فندق بريفورت بوَّابٌ ليليٌّ فرنسيٌّ ناعس. وفي الغرفة البيضاء الجدران ذات السقف المنخفض، نعس ضوء الشمس فوق كرسي قرمزي باهتٍ بذراعَين. ركضت إلين في أنحاء الغرفة كطفلٍ صغيرٍ راكلةً عقبَيها ومصفقةً بيدَيها. ورتَّبت بشفتَين زامَّتَين ورأس مائل مساحيقها التجميلية فوق المنضدة. ثم علَّقت ثياب نومها فوق كرسي وخلعت ملابسها، فلمحت نفسها في المرآة تقف عاريةً تنظر إلى نفسها ويداها فوق ثديَيها الصغيرَين المشدودَين كتفاحتَين.
ارتدت ثياب نومها وتوجَّهت ناحية الهاتف. «رجاءً أرسلوا لي إناءً من الشوكولاتة والأرغفة إلى غرفة ١٠٨ … في أقرب وقت ممكن إذا سمحتم.» ثم خلدت إلى الفراش. استلقت تضحك وساقاها ممدَّدتان ومتباعدتان في أغطية الفراش الناعمة الباردة.
كانت دبابيس الشعر تخزُّها في رأسها. فاعتدلت جالسةً وخلعتها وهزَّت لفائف شعرها الثقيلة مسدِلةً إياها حول كتفَيها. سحبت ركبتَيها لأعلى إلى ذقنها وجلست تفكِّر. كان بإمكانها أن تسمع قعقعة شاحنة من حين لآخر آتيةً من الشارع. وشرع صوت دوي في الانبعاث من المطابخ أسفل غرفتها. من كل مكان حولها أتت قعقعة متزايدة تُنبئ ببداية مروِّعة. شعرت بالجوع والوحدة. كان السرير كقاربٍ هُجرت فوقه وحيدة، وحيدةً دائمًا، طافيةً فوق محيط ممتد. انتابت رجفة عمودها الفقري. فسحبت ركبتَيها لأعلى أقرب إلى ذقنها.