المحور الثاني

الدين والحضارة

(س): هل رافق الدينُ الإنسانَ منذ نشأة الحضارة، أم أنه اتصل بها في سياقاتٍ لاحقة؟
(ج): علينا أولًا أن نُبيِّن ما هي الحضارة ثم نُقدِّم تعريفًا للدين، وبعد ذلك نكونُ جاهزين للجواب على هذا السؤال.
(س): أنت على حق؛ فهنالك ثلاثة مصطلحاتٍ تختلط في أذهاننا وهي الحضارة والثقافة والمدنية، كيف نميِّز بينها؟
(ج): الاختلاط ناجم في اللغة العربية عن ترجمة مصطلح Culture أي ثقافة أو حضارة، ومصطلح Civilization أي مدنية؛ فالثقافة أو (الحضارة) هي النواتج والإبداعات الفكرية والمادية والجمالية لمجموعةٍ بشريةٍ ما. وبهذا المعنى فإن أي مجموعةٍ بشريةٍ لا تخلو من الثقافة مهما كانت مُغرِقة في البدائية. أما المدنية فهي ثقافة مجتمع المدينة، وهي ثقافةٌ جديدةٌ نسبيًّا في تاريخ الإنسان، وتبدأ مع تشكيل المدن الأولى في ثقافة الشرق القديم، وتحديدًا بلاد الرافدَين وسورية ومصر، ولكن هذا المصطلح لم يعُد مستخدمًا في اللغة العربية، وحل محلَّه مصطلح الحضارة، فصرنا نقول مثلًا: «فجر الحضارة في الشرق القديم»، بمعنى البدايات الأولى لثقافة المجتمع المديني، ونقول: «ثقافة العصر الحجري القديم» أو «الثقافات البدائية في أمريكا الشمالية». وهكذا عُدنا إلى مصطلحَين لا إلى ثلاثة.
(س): هل مضى على الإنسان زمنٌ كان فيه بلا ثقافة؟
(ج): هذا يتوقَّف على تعريفنا للإنسان، وعن أي إنسانٍ نتحدث؛ فوَفْق علم الأنثروبولوجيا البشرية الذي يبحث في أصول الإنسان، لدينا ثلاث مجموعاتٍ شبه بشرية ظهرَت في أفريقيا تباعًا منذ المليون الرابع قبل الميلاد، وكل مجموعة تُظهر شبهًا أكبر ووزن دماغٍ أكبر من سابقتها، وهكذا وصولًا إلى جنس النياندرتال الذي ظهر في أوروبا ويُعتبَر حلقة وصل بين أشباه الإنسان أو الأناسي Hominid وبين الإنسان العاقل (أي نحن) الذي ظهر قبل نحوِ خمسين ألف سنة.
(س): هل يمكننا إذن تحديد زمن ظهور الثقافة بظهور الإنسان العاقل قبل خمسين ألف سنة؟
(ج): كلا طبعًا؛ فالثقافة الإنسانية أقدَم من ذلك بكثير، ولكي نستطيع التعرُّف على بداياتها الأولى علينا أن نتحرى عن السلوك الثقافي الأول لأشباه الإنسان، وما أعنيه بالسلوك الثقافي هو السلوك الذي لا ينجم عن الغرائز والدوافع الطبيعية. وقد تجلى ذلك السلوك للمرة الأولى في صناعة الأدوات الحجرية واستخدامها لشتى أغراض الحياة. ويبدو من المعلومات الميدانية المُتوفِّرة لدينا (أو لديَّ على الأقل؛ فلربما كانت معلوماتي قديمة بعض الشيء)، أن الأناسي قد صنعوا الأدواتِ الأولى في أواسط المليون الثالث قبل الميلاد، وهذه أولى المؤشِّرات الدالة على بدايات الثقافة الإنسانية، وقيام الإنسان بالتحكُّم بمحيطه بدل الرضوخ له.
(س): ولكن هل نستطيع اختصار الثقافة إلى هذه التكنولوجيا البدائية، أعني الأدوات الحجرية؟ ماذا عن النواحي غير المادية للثقافة وعلى رأسها الفن والدين؟
(ج): لم يُنتِج أشباه البشر من الأناسي فنًّا بصريًّا، وكذلك الحال بالنسبة للنياندرتال. لقد كان على الفن أن ينتظر ظهور الإنسان العاقل الذي أحدَث نهضةً جماليةً غير مسبوقة وبشكلٍ فُجائي. وقد تجلَّت هذه النهضة في فن المنحوتات الصغيرة وفي رسوم الكهوف التي يقول نقاد الفن بأنها لم تكن أقل حِرفيَّة وقيمةً فنيةً من روائع الفن الحديث. أما الدين فهنالك دلائلُ غيرُ وافية على وجوده في عصر الإنسان المنتصب Homo Erectus الذي عاش قبل النياندرتال، وبدأَت آثاره تظهر منذ منتصف المليون الثاني قبل الميلاد في أفريقيا، ثم انتشر في أوروبا وآسيا وصولًا إلى الصين، حيث وُجد هيكلٌ عظمي لإنسانٍ منتصب في منطقة بكين دعاه علماء الأنثروبولوجيا بإنسانِ بكين. والدلائل غير الوافية التي ذكرتُها جاءتنا من موقعٍ واحد فقط وُجدَت فيه آثار هذا الإنسي في إسبانيا، وتبيَّن للباحثين من دراستها أنه كان يدفن موتاه بطريقةٍ تُعِدُّهم للانتقال إلى عالمٍ آخر. أما الشواهد الكثيرة على وجود حياةٍ دينية فتأتينا منذ أكثر من مائة ألف سنة قبل الميلاد؛ أي من عصر النياندرتال، ولكن لكي نستطيع أن نطلق على هذه الشواهد بثقةٍ صفة الدينية لا بد لنا من صياغة تعريفٍ للدين ينطبق على جميع الأديان من أكثرها بساطة إلى أكثرها تعقيدًا وتركيبًا.
(س): هذه ليست بالمسألة السهلة، فما الذي يجمع ديانة جزيرة هاييتي القائمة على السحر إلى أديان التوحيد مثلًا؟
(ج): التعريف الذي أقترحه هو تعريفٌ للحد الأدنى المشترك الذي لا بد من توافُره في ظاهرةٍ ثقافيةٍ ما لكي نطلق عليها صفة الديانة. وهذا الحد الأدنى تقوم كل ديانة بتطويره على طريقتها؛ وبناءً على ذلك أقول: إن الدين هو إحساس وإيمان بأن الوجود يتألف من عالمَين أو مجالَين، الأول هو المجال الدنيوي أو عالم الظواهر المادية الذي نراه ونعيش فيه، والثاني هو المجال القدسي الخفي الذي يقع وراء عالم الظواهر المرئية. وهذان المجالان على استقلالهما من حيث الظاهر إلا أنهما متصلان من خلال قوة تصدُر عن المجال القدسي لتفعل في جميع العناصر الحيوية والجامدة للمجال الدنيوي. والإنسان نفسه موزَّع بين هذَين المجالين لأنه يتألَّف من عنصرَين؛ الأول مادي وهو الجسد، والثاني غير مادي وهو الروح. وهذان العنصران ينفصلان عن بعضهما بالموت الذي يُفني الجسد ولكنه لا يُفني الروح، ثم إن إحساس الإنسان بحضور هذه القوة الغامضة قد دفعه إلى الدخول في علاقةٍ معها من خلال الطقوس، وهي سلسلةٌ مُرتَّبة من الأفعال والإجراءات والصيغ الكلامية.
(س): حسنًا، في جوابك على سؤالي حول متى اتصل الدين بالحضارة، عرفنا الحضارة والإنسان والدين، وخلصنا إلى أن الدين قد رافق الإنسان منذ عصر الهومو إريكتوس؛ أي قبل أن يتخذ الأناسي شكل النياندرتال ثم الإنسان العاقل، وهذا يعني أن جنسنا لم يمضِ عليه زمنٌ كان فيه بلا دين، فهل يمكننا القول بأن الدين شيءٌ متأصل في الطبع الإنساني؟
(ج): هذا صحيح، وقد وصفتُه في كتابي «دين الإنسان» بأنه أقربُ ما يكون إلى الدوافع والغرائز المتأصِّلة في السلوك الإنساني. وبعد أكثر من عشر سنوات مرَّت على صدور كتابي، نشرَت مجلة «تايم» الأمريكية دراسةً لأحد علماء الوراثة الإنسانية تحت عنوان «جينَة الله God’s Genes»، تقول باكتشاف إحدى الجينات في الخلية مسئولة عن الإحساس الديني عند البشر. وقد ردَّت هذه الدراسة على مَن اتهمَني بالتطرُّف في وصفي للإحساس الديني بأنه أقربُ ما يكون إلى الدوافع الطبيعية.
(س): تعبير «جينة الله» يقودني إلى سؤالٍ يتعلَّق بتعريفك للدين وهو: أين مكان الله في هذا التعريف. وبتعبير أعم: أين الآلهة؟ أليس الإيمان بوجود الآلهة والتعبُّد لها هو الدلالة الأبرز على الظاهرة الدينية؟
(ج): إن فكرة الله هي مفهومٌ جديد في تاريخ الدين، ولا يمكننا متابعته إلى ما قبل القرن السادس قبل الميلاد، مع ظهور النبي زرادشت الذي كان أول من قال بأنه تلقى وحيًا من الإله الكوني الواحد بواسطة ملاك. وقبل ذلك كان الناس يتعبَّدون إلى شخصياتٍ إلهية تسكُن المجال القدسي وتُدير شئون الكون والطبيعة والمجتمعات الإنسانية من خلال امتلاكها لقوًى خارقة لا يملكها البشر. ولكن مفهوم الشخصيات الإلهية بدَوره لم يكن قديمًا قِدَم الثقافة الإنسانية؛ ففي المرحلة الأبكر من تاريخ الدين لم يعتقد الإنسان بوجود آلهة، وإنما بوجود قوةٍ غامضةٍ مقدَّسة تسري في مظاهر العالم المادي وتبُث فيه الحركة والحياة. ويختلف مفهوم «القوة» عن مفهوم «الإله» في أن القوة لا تمتلك شخصيةً مثل الإله، بل هي أقربُ إلى مفهوم الطاقة في العلم الحديث.
(س): وهل كان لدى إنسان العصور الحجرية مقدرةٌ عالية على التجريد لكي يتصور وجود مثل هذه القوة؟
(ج): لم يكن الإنسان بحاجة إلى التجريد قَدْر حاجته إلى الملاحظة الموضوعية لما يجري من حوله؛ فالرياح تهبُّ ولا ندري من أين تأتي ولا إلى أين تمضي، والغيوم تنعقد ثم تُمطِر، والأعاصير تُداهِم وتُخرِّب، والبراكين تثور والأرض تهزُّها الزلازل، والأجرام السماوية تتحرك في مساراتها. ولما كان أمام الإنسان في ذلك الوقت آلافٌ مؤلفة من السنين قبل أن يكتشف القوانين الطبيعية، فقد رأى وراء ذلك كله قوةً فائقةً غامضة، أو لِنقُل «حالة فعالية» نلمس آثارها دون أن نُدرِك ماهيتها.
(س): ولماذا لم يَرَ وراء ذلك كله شخصياتٍ إلهية؟
(ج): لأن تصوُّر وجود قوة أو حالة فعالية، منبثَّة في المظاهر المرئية أقربُ إلى المنطق البسيط من تصوُّر شخصياتٍ إلهية تفعل في هذه المظاهر عن بُعد. وفي الحقيقة، فإن العلم الحديث الذي كفَّ يد الآلهة عن التصرُّف في الطبيعة ووضعَها في تصرُّف القوانين الطبيعية، قد عاد بطريقةٍ ما إلى مفهوم القوة السارية التي نلمس آثارها في عمليات الطبيعة دون أن نُدرِك ماهيتها.

وهنا تحضُرني قصة الفلكي والرياضي الفرنسي لابلاس مع الإمبراطور نابليون، عندما مَثَلَ أمامه وشرح له نظريته في أصل النظام الشمسي، فقال له نابليون بعد أن استمع إليه: ولكن أين الله في نظريتك؟ فأجابه: يا سيدي، هذه فرضية لا لزوم لها في نظامي.

(س): هل نقول إذن إنك تستبدل قوانين الطبيعة بالله؟
(ج): أنا لا أقول شيئًا، وإنما أعرض نظرياتِ وآراءَ بعض العلماء. إن نظرية الانفجار البدئي العظيم التي تفسِّر ولادة الكون، وهي نظريةٌ مُتفَقٌ عليها الآن، تخبرنا بأن القوانين الطبيعية كانت موجودةً قبل حصول ذلك الانفجار الذي نشأَت عنه المجرَّات وراحت تتباعد بسرعاتٍ خياليةٍ عن مركز الانفجار. وهذا يعني أن تلك القوانين لا زمانية، بمعنى أنها خارج مفهوم الزمن المعروف، والذي ابتدأ في اللحظة صفر لحظة الانفجار. كما أنها لا متغيِّرة على ما أثبتَته التجارب المخبرية على عمليات التخليق النووي البدئي؛ حيث لاحظ العلماء أن القوانين الفاعلة في هذه التجارب هي ذاتُ القوانين التي كانت فاعلة لحظة الانفجار. هذه الصفة اللازمانية واللامتغيرة للقوانين تجعلها مرشَّحة لأمومة الكون.

وهنا يمكن للنظرية الدينية القول بأن هذه القوانين ليست سوى أداةِ الله في الخلق ووسيلتِه للتحكُّم في العالم المخلوق، وهي كلمتُه الخالقة على ما ورد في مطلع إنجيل يوحنا: «في البدء كان الكلمة. والكلمة كان عند الله، به كان كل شيء وبغيره لم يكن شيءٌ مما كان.» و«الكلمة» في هذا النص هي ترجمة لأصلها اليوناني «لوغوس» التي تعني «العقل» وكذلك الكلمة المنطوقة باعتبارها أبرز مظاهر العقل. وفي الحقيقة فإن إنجيل يوحنا لا يتفرد في النظر إلى الكلمة/العقل باعتبارها وسيط الخلق، فقد قالت بذلك الفلسفة الأفلاطونية الحديثة، التي ترى بأن العالم المادي فاض عن الله على ثلاثَ مراتبَ مثلما يفيض النور عن الشمس أو الماء عن النبع، وكانت أولى المراتب في الصدور عن الواحد هي مرتبة العقل الذي يرى الواحدُ من خلاله ذاتَه، وعن العقل فاضت المرتبة الثانية وهي النفس التي صدَر عنها العالم المادي. كما نجد فكرة صدور المادة عن الله بتوسُّط العقل في الفلسفة الإسلامية منذ إخوان الصفا، كما نجدها في فكر الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي.

(س): أنت هنا تُعبِّر بامتياز عن موقف الفينومينولوجي الذي يُحجِم عن إبداء رأيه!
(ج): هذا صحيح؛ لأن مهمتي هي مساعدتُك على تكوين رأيك، وليس عرض آرائي. أنا لا أفكِّر بالنيابة عن أحد؛ لأني بذلك أَحرمه من مسئولية التفكير.
(س): نعود إلى نظريتك في أسبقية مفهوم القوة، أو القوة السارية كما تُسمِّيها على مفهوم الآلهة، وأقول إنك بإسباغك الصفةَ الدينيةَ على معتقد القوة السارية تُعارِض مرة أخرى النظرة السائدة إلى تاريخ الأفكار بمراحله الأربعة وهي السحر فالدين فالفلسفة فالعلم. أليس كذلك؟
(ج): هذا صحيح، ولكن لكي أُبيِّن اختلافي مع أصحاب هذه النظرة دعني أتحدَّث باختصارٍ عن مَنشئِها؛ فهي تبدأ من فرضية الفيلسوف الألماني هيجل بأن عصرًا ساد فيه السحر قد سبق عصرَ الدين في تاريخ الحضارة. وبعد ذلك قام رائد الأنثروبولوجيا النظرية البريطاني جيمس فريزر في كتابه «الغصن الذهبي» الذائع الصيت في الثقافة الغربية، وبتأثيرٍ من هيجل بصياغة نظريته في أصل الدين وعلاقته بالسحر. وفي هذا الكتاب يفترض فريزر أنه في البداية مرَّ على الإنسان عصرٌ ظن فيه أن بمقدوره التحكُّم في سَيْر عمليات الطبيعة بواسطة تعاويذه وطقوسه السحرية، وعندما اكتشف بعد فترةٍ طويلةٍ عُقم هذه الوسائل وقصورها عن تحقيق غاياتها، تصوَّر بأن الطبيعة التي تأبَّت على الانصياع له واقعة تحت تأثير شخصياتٍ روحانيةٍ فائقة القدرة، فتحوَّل إلى هذه الشخصيات وراح يتعبَّد لها، وحلَّت الصلوات والتضرُّعات محل الطقس السحري، وبذلك ظهر الدين الذي حلَّ الكاهن فيه محل الساحر.
(س): وكيف يُبيِّن هذا طبيعة اختلافك مع النظرة السائدة التي تقول بالمراحل الأربعة التي مرَّ بها تاريخ الأفكار؟
(ج): لقد أثَّر كتاب «الغصن الذهبي» الذي صدر في ١٢ مجلدًا عام ١٩٠٦م، ثم اختصره صاحبه بعد ذلك في مجلد واحد في ١٠٠٠ صفحة، على أجيالٍ من الباحثين الميدانيين الذين كانوا يبحثون عن الظاهرة الدينية في المجتمعات البدائية التي يعكُفون على دراستها؛ فهؤلاء وبدافع تأثرهم بفريزر، لم يكونوا يَرونَ دينًا إلا عندما يَرونَ طقوسًا تتوسل إلى كائناتٍ روحيةٍ ماورائية تتحكَّم في مظاهر الطبيعة، وفيما عدا ذلك فإن أي ظاهرةٍ شبهِ دينية كانت تُصنَّف في زمرة الممارسات السحرية. وقد أدَّى ذلك إلى ترسيخ الرأي القائل بأن الدين لم يظهر في تاريخ الحضارة إلا مع ظهور الآلهة المُشخَّصة.

ولكني أرى أن ما يدعوه هؤلاء بالسحر ليس إلا شكلًا أوليًّا من أشكال الدين؛ فعندما آمن إنسان العصور الحجرية بوجود تلك القوة الغامضة التي هي أقرب إلى الطاقة منها إلى الشخصية العاقلة، دخل معها في علاقةٍ معقَّدةٍ من خلال نوعَين من الطقوس السحرية؛ الأول يهدف إلى ردِّ أذاها عنه، والثاني يهدف إلى توجيهها لصالحه. وهنا فأنا لا أرى فرقًا بين الإيحاء لقوةٍ قدسيَّةٍ حياديَّة من حيث المبدأ بإحداث النتائج المرجوة، وبين استجداء كائنٍ إلهي عاقل ومُشخَّص من أجل إحداث النتائج ذاتها. والفارق هنا كما ترى هو فارق في الشكل لا في المضمون. كما أني لا أرى لماذا يكون الاعتقاد بوجود قوةٍ غفلةً سارية في الموجودات اعتقادًا بالخرافات والترَّهات وَفْق تصنيف أولئك، بينما يكون الاعتقاد بالآلهة المشخَّصة (التي هي ليست سوى نسخةٍ مُحسَّنة عن البشر) اعتقادًا حضاريًّا راقيًا.

(س): هل نفهم من ذلك أنك لا تعتقد بوجود أديانٍ بدائيةٍ متخلفة وأخرى عُليا متطوِّرة؟
(ج): هذا صحيح؛ لأن القديم ليس بالضرورة هو الأدنى، كما أن الحديث ليس بالضرورة هو الأعلى. وهذا الحكم يتجاوز الظاهرة الدينية إلى بقية نواحي الثقافة في المجتمعات القديمة التي عاشت في بداية أطوار الحضارة الإنسانية، ومثلها أيضًا «المجتمعات البدائية» التي عاشت على هامش خط التطوُّر الرئيسي للحضارة الإنسانية وصولًا إلى العصور الحديثة، والتي أعتبرُها استمرارًا لمجتمعات العصور الحجرية.
(س): هل نعتبر كلامك هذا بمثابة الدعوة لإعادة النظر في مفهوم «البدائية»؟
(ج): نعم، وهذا ما فعله قبلي العديدُ من الباحثين الذين حاولوا نحت مصطلحاتٍ جديدةٍ لوصف المجتمعات البدائيَّة فقالوا «المجتمعات التقليدية» أو «المجتمعات اللاكتابية».
(س): ولكن ماذا عن التطوُّر الذي نلحظه عَبْر التاريخ في نواتج الثقافة الإنسانية، وعن الطريق الطويل الذي قطعَتْه الأداة الحجرية قبل أن تتحوَّل إلى مفاعلٍ ذري؟
(ج): لقد راكَم الإنسان عَبْر السنين معارفَ تكنولوجيةً أوصلَته إلى ما هو عليه الآن، ولكن هذا التطوُّر التكنولوجي لا يحمل معه بالضرورة تطورًا في النواحي غير المادية للحضارة؛ مثل الفن، والأخلاق، والدين، والعلاقات الإنسانية، والسياسة، بل العكس هو الصحيح أحيانًا؛ فلقد أخلى على سبيل المثال النظامُ الاجتماعيُّ البدائي القائم على الحرية والمساواة مكانَه لنظام الطبقات، وأخلى النظام السياسي البدائي القائم على الشورى مكانَه للحكم الاستبدادي، وأخلى التسامُح الديني البدائي مكانَه للتعصُّب والحروب الدينية، كما أخلت العلاقات الإنسانية البدائية القائمة على التعاون والمشاركة مكانَها للتنافُس والتطاحُن بين الأفراد، فهل نتحدَّث هنا عن تطوُّر أم عن تراجُع؟
(س): هل نظريتُك في أسبقية القوة السارية على الآلهة جديدةٌ تمامًا على مبحث تاريخ الأديان؟ وكيف توصَّلتَ إليها؟
(ج): في مجال البحث العلمي سواءٌ أكان في العلوم الإنسانية أم في العلوم الدقيقة Exact Sciences لا يُوجد شيءٌ جديد تمامًا، وإنما إضافة على القديم الذي جاء به السابقون، والجديد الذي قدَّمتُه هو انطلاقي من النتائج التي توصَّل إليها الأنثروبولوجيون من دراستهم للمجتمعات البدائية المعاصرة لنا وتطبيقها على ثقافات العصور الحجرية؛ حيث كانت النتائجُ مذهلة. وإني مدينٌ بشكلٍ خاصٍّ إلى عالم الاجتماع الفرنسي إيميل دوركهايم في كتابه The Early Forms Of Religious Experience، الذي درس فيه الحياة الاجتماعية والدينية لسكان أستراليا الأصليين؛ فبعد أن قام بتحليل المعلومات التي تم جمعُها عن حياة المجتمعات الأسترالية التي تُعتبَر أكثر الشعوب الأصلية بدائية، وجد دوركهايم أن مركز الحياة الدينية عند هؤلاء هو قوةُ غفلة، بلا اسمٍ أو شخصية، وهذه القوة تَسرِي في مظاهر الكون والطبيعة. وقد عبَّروا عن حضور هذه القوة من خلال صورةٍ حيوانيةٍ يرسمونها على الأدوات الطقسية، فكانت كل عشيرة مثلًا تختار حيوانًا ما تحمل اسمه، ولا تُشاركهم فيه عشيرةٌ أخرى، فهنالك عشيرة الكنغر، وعشيرة الأفعى، وعشيرة النسر، وما إلى ذلك من الحيوانات المعروفة في تلك القارة الواسعة. وتُعتبَر صور هذا الحيوان بمثابة شارة القداسة التي تدور حولها طقوسهم الدينية. وقد دعا الباحثون هذا الحيوان بالطوطم Totem، وهي كلمةٌ مستمدَّةٌ من إحدى لغات الهنود الحمر في أمريكا الشمالية.
(س): ولكن الرأي الشائع عن الطوطمية هو أنها نوع من عبادة الحيوان؟
(ج): لا يُوجد في تاريخ الإنسان شيءٌ اسمه عبادة الحيوان، والإنسان لم يرفع قطُّ حيوانًا ما إلى مرتبة الألوهة، فما معنى أن يعبد الإنسان حيوانًا يستطيع صيدَه وأكلَه؟
(س): هل يستقيم المعنى إذا استعملنا كلمة تقديس بدلًا من كلمة عبادة؟
(ج): العشيرة الطوطمية لم تكن تُقَدِّس الحيوان الطوطمي، وإنما شارة القداسة المستمدَّة من صورته. وهم عندما يقومون بطقوسهم لا يفعلون ذلك في البرِّية أمام الحيوان الطوطمي، بل في المكان الذي يحتفظون فيه بصورة الطوطم. ولكن لنقل إن الحيوان الطوطمي يتمتَّع بنوع من الاحترام لدى العشيرة؛ فصَيدُه مُحرَّم على أفرادها إلا في حال التعرُّض للمجاعة أو حال الدفاع عن النفس إذا كان من الحيوانات المفترسة، ولكن بقية العشائر تستطيع صيده وأكله بحُرية. إن الاعتقاد الساذج بأن الطوطمية هي نوع من عبادة الحيوانات هو اعتقادٌ لا أساس له، وقد ترسَّخ نتيجةً للكتابات المبكِّرة المتعجِّلة التي قُدِّمَت للجمهور من أجل تعريفه بالطوطمية.
(س): حسنًا، إذا كانت هذه النتائج المستمدة من دراسة سكان أستراليا الأصليين صحيحة، فينبغي لها أن تنطبق على الشعوب البدائية الأخرى. أليس كذلك؟
(ج): هذا صحيح؛ فبَعد قراءتي لكتاب دوركهايم اتجهتُ لدراسة معتقدات الهنود الحمر في أمريكا الشمالية، وسكان جزر المحيط الهادي (ميلانيزيا وبولونيزيا)، وأفريقيا السوداء. ووجدتُ فيها ما كنتُ أتوقَّعه؛ فلدى الميلانيزيين على سبيل المثال اعتقادٌ بوجود قوة تتخلل المظاهر المادية أطلقوا عليها اسم «مانا»، وهذه القوة غير مادية وفوق طبيعانية، إلا أنها تتبدَّى بشكلٍ مادي وتُحدِث آثارًا مادية. وتقوم ديانة ميلانيزيا على طريقة التعامل مع تلك القوة التي تتبدَّى في وجهَين؛ الأول إيجابي يتمثل بفعاليتها في مظاهر الطبيعة الحية والجامدة، والثاني سلبي ويتمثل في احتمالات الأذى الكامنة فيها وضرورة مراقبتها بحذَر.
(س): وكيف طبَّقتَ هذه النتائج على مجتمعات العصور الحجرية المنقطعة عنَّا زمنيًّا؟
(ج): إن دراسة عقائدِ إنسانِ ما قبل التاريخ ليست بالمهمة السهلة؛ لأن الباحث هنا لا يستطيع القيام بزياراتٍ ميدانية لتلك الجماعات ليتفقد أحوالها ويراقب طقوسها الدينية، كما يفعل علماء الأنثروبولوجيا الثقافية في دراستهم لأحوال الشعوب البدائية المعاصرة، ولكن لحسن الحظ فقد تركَت لنا جماعات العصور الحجرية بقايا ماديةً تساعدنا على الولوج إلى وسَطَها الفكري؛ مثل الرسوم والمنحوتات الصغيرة، وتشكيلاتٍ يدوية لا تُنبئ عن قيمةٍ استعماليةٍ ما، وبقايا دفنٍ تدُل على طقوسٍ جنائزيةٍ معيَّنة، وهذه الشواهد تبدأ بالتوضُّح في عصر النياندرتال الذي ترك لنا بقايا دفنٍ تدُل على إيمانه بأن روح المتوفَّى سوف تتابع حياتها في عالمٍ آخر، وبقايا أخرى تدُل على إيمانه بوجود قوةٍ قدسيةٍ منبثَّة في هذا العالم. وقد عبَّر عن حضور تلك القوة من خلال شارة القداسة المستمدة من وسطه الطبيعي، وهي جمجمة الدب الذي كان أقوى الحيوانات في ذلك الوسط الجليدي الذي عاش فيه النياندرتال، قبل أن ينحسر الجليد عن نصف الكرة الشمالي. وقد وُجدَت جمجمة الدب هذه معروضةً بشكلٍ مقصودٍ في عدد من كهوف ذلك العصر، وبشكلٍ يدل على أنها كانت مركزًا لطقوسٍ دينيةٍ معيَّنة.

فإذا جئنا إلى عصر الإنسان العاقل، نجد أنه قد عبَّر عن حضور القوة السارية من خلال عددٍ لا يُحصى من الرسوم التي نفَّذها على جدران كهوفٍ مظلِمة لا يمكن الوصول إليها إلا عَبْر دهاليزَ ضيقةٍ وطويلة. وقد تمَّ حتى الآن الكشف عن مائة من هذه الكهوف في المنطقة الأوروبية، وجميعها لم تكن مخصَّصة للسكن، وإنما لأداء طقوسٍ دينية أمام شارة القداسة التي تعبِّر عنها صور الثور البري والثور الأمريكي (البيسون) والحصان والوعل. ولقد نَفَّذ الإنسان العاقل هذه الرسوم لا باعتبارها حيواناتٍ تنتمي إلى فصائلَ معيَّنة، وإنما باعتبارها مفرداتٍ في لغةٍ رمزية، ورداءً لقوةٍ ماورائيةٍ وجدَت تعبيرها الأمثل في طاقة الحيوان على المستوى الطبيعاني. وهذا يعني أن ديانة العصر الحجري القديم سواء عند النياندرتال أو الإنسان العاقل كانت نوعًا من الطوطمية المبكِّرة كما شرحتُها آنفًا.

(س): ولكن نظريتك هذه في ديانة العصر الحجري، والتي بسطتَها بشكلٍ رئيسي في كتابك «دين الإنسان» على ما أذكُر لا تتفق مع ما أوردتَه في كتابك السابق «لغز عشتار، الألوهة المؤنَّثة وأصل الدين والأسطورة»؛ ففي لغز عشتار لا نجد أثرًا لفكرة القوة السارية وأسبقيَّتها على الآلهة، ولا لشارة القداسة الحيوانية. وفي المقابل فقد ركَّزتَ على المنحوتات الصغيرة التي تمثِّل هيئةً أنثويةً عارية دعوتَها بالأم الكبرى للعصر الحجري، واعتبرتَها أول معبودات الإنسان.
(ج): هذا صحيحٌ إلى حدٍّ ما؛ فقد كنتُ حينها واقعًا تحت تأثير الأفكار السائدة التي لا ترى دينًا إلا عندما ترى آلهة، ولكن الفارق بين ما أوردتُه في الكتابَين ليس على درجةٍ واسعةٍ من الاختلاف؛ ذلك أن إنسان العصر الحجري القديم الذي عبَّر عن حضور القوة من خلال شارة القداسة الحيوانية، قد رأى أن هذه القوة ذاتُ طبيعةٍ أنثوية، وعبَّر عن ذلك من خلال المنحوتات الصغيرة التي يدعوها الباحثون الغربيون ﺑ «فينوسات العصر الحجري»، وأدعوها أنا ﺑ «الدمى العشتارية»؛ فإلى جانب رسوم الكهوف فقد عبَّر الإنسان العاقل عن أفكاره الدينية من خلال دُمًى مصنوعةٍ من موادَّ طبيعيةٍ متنوعة تمثِّل هيئةً أنثويةً عارية، لا يزيد طول أكبرها عن ٢٠ سم. وقد ساد هذا الفن في أوروبا على طول محورٍ أفقي يمتد من جنوب روسيا إلى أطراف جبال البيرينيه، وأنتج لنا دُمًى متماثلةً إلى حدٍّ بعيد؛ فالرأس يتخذ شكل كتلةٍ غير متمايزة مع غيابٍ تام لملامح الوجه، والجسد يتخذ شكلًا مغزليًّا مستدقَّ الطرفَين مع مبالغة في تضخيم مناطق الخصوبة (الثديَين والبطن والوركَين)، والقدمان غائبتان تمامًا، والذراعان نحيلتان جدًّا في وضعية الاستناد إلى الثديين. هذه السمات تدُل على أن الفنان لم يكن يمثل جسدًا أنثويًّا واقعيًّا، وإنما كان يُعبِّر عن فكرة، وأن الدمية لم تكن سوى رسالةٍ بصرية تشبه من حيث المضمون رسالةَ فن الكهوف. إنها شارةٌ مقدَّسة تستحضر قوةً ماورائيةً فاعلة في الطبيعة وذات خصائصَ أنثوية، وليست صورةً لإلهةٍ بعينها.
(س): إلى متى استمر دين الإنسان يقوم على مبدأ القوة السارية؟
(ج): حتى أواخر العصر الحجري الحديث وقسمِ لا بأس به من عصر النحاس؛ فمن العصر النيوليتي (العصر الحجري الحديث) الذي ابتدأ في الألف التاسع قبل الميلاد، وذلك عندما اكتشف الإنسان الزراعة وبنى القرى الأولى في بلاد الشام، تأتينا أوضح الشواهد على مبدأ القوة السارية وشارتها المقدَّسة التي اتخذَت هنا شكل رأس الثور البري؛ ففي موقع تل المريبط على نهر الفرات، اكتشف المنقِّبون بيوتًا تختلف في نمطها المعماري عن بيوت السكن العادية؛ فقد احتوت على مصاطبَ طينية عُرضَت فوقها وبترتيبٍ مقصودٍ جماجمُ ثيرانٍ برِّية، وغُرسَت إلى جانبها عظام كتف الثور وقرونه. وهذه الترتيبات المقصودة التي لا تُفصِح عن قيمةٍ نفعيةٍ أو استعمالية، تدُل على أن رأس الثور قد صار شارةً مقدَّسة ورمزًا للقوة السارية في الطبيعة، وأن هذه البنى المعمارية كانت مقاماتٍ دينيةً تُقام فيها طقوسٌ دينية تهدف إلى إقامة صلة مع القوة.

كما قدم لنا هذا الموقع أيضًا النماذج الأولى من الدُّمى العشتارية في العصر النيوليتي؛ حيث تابع الفنان اعتماد أسلوب الباليوليت في تضخيم مواطن الخصوبة في الهيئة الأنثوية، ولكنه أضاف وظيفةً جديدةً للذراعَين اللتَين صارتا تسندان الثديَين في إشارة إلى تقديمهما للإرضاع. وفي موقع شتال حيوك بسهل قونية جنوب الأناضول الذي يُعتبر امتدادًا للثقافة النيوليتية السورية، تم اكتشاف قريةٍ نيوليتيةٍ كبيرة ازدهرَت بعد تل المريبط بألفَي سنة، وفيها عددٌ كبير من المقامات الدينية الكبيرة الأقرب في بنيتها إلى المعابد، وفيها تابع الإنسان اعتماد رأس الثور كشارةٍ مقدَّسة، ولكنه استبدل رأس ثورٍ منحوت من مادة الجص مع المبالغة في حجم وطول القرون بالجمجمة الطبيعية، وقام بتثبيت رأس الثور على الجدار إما مفردًا أو في مجموعة. وقد تم التعبير عن الطبيعة الأنثوية للقوة بوضع شكلٍ أنثويٍّ نمطي فوق رأس الثور، أو بوضع صفٍّ من الأثداء الأنثوية تحته. ولربما أراد إنسان ذلك العصر من تلك الإشارات الأنثوية التعبير عن نظرته إلى القوة على أنها ذات طبيعةٍ سالبة وأخرى موجبة.

(س): هل اقتصرَت الشارة المقدَّسة على رأس الثور والهيئة الأنثوية المُرمَّزة؟
(ج): نحن نتحدث عن عصرٍ لم تكن فيه الأيديولوجيات الدينية قد ظهرَت بعدُ، كما أن الفكر الديني للإنسان وقتها كان مرنًا إلى حدٍّ بعيد، وبإمكانه التعبير عن الفكرة نفسها بطرقٍ متعددة؛ ولذلك فقد تعدَّدَت وتنوَّعَت شاراتُه المقدَّسة؛ فخلال العصر النيوليتي في مصر كانت الشارة المقدَّسة عبارةً عن هيئة الفأس الحجرية التي تتألَّف من مقبضٍ خشبيٍّ ورأسٍ حجريٍّ حادٍّ يُثَبتُ على المقبض بواسطة أربطةٍ جلدية. وقد استمر هذا الرمز إلى عصر الكتابة حيث صار رمزًا كتابيًّا في الهيروغليفية المصرية يدُل على الألوهة المجرَّدة ويُلفظ نِتْر Netre، وهي كلمة تتضمن معنى القوة أو الشدة. وخلال عصر النحاس في سورية نشأَت ثقافةٌ معروفةٌ لدى الآثاريين بثقافة تل حلف، اكتُشِفَت أهم آثارها في الموقع المعروف بهذا الاسم، ومنها نعرف أن شارة القداسة كانت على شكل هيئة الفأس المزدوج الذي كان له مقبضٌ خشبي ورأسان حادَّان متناظران يعطيان شكلًا شبيهًا بشكل الفراشة، وقد انتقل هذا الرمز إلى ثقافة كريت وجُزر بحر إيجه المعروفة تاريخيًّا باسم الثقافة المينوية. وعندما دخلَت هذه الثقافة في العصور التاريخية وصارت مقدمةً للثقافة اليونانية، تحوَّلَت الفأس المزدوجة من شارة للقداسة إلى رمز للإلهة الكبرى للثقافة المينوية المدعوَّة «رحيا»، التي تُصوِّرها الرسوم الجدارية في وضعية الوقوف، وهي تحمل بيدها الفأس المزدوجة وأمامها المتعبِّدون ينحنون في خشوع. ومن الجدير بالذكر هنا أن ما حصل لشارة الفأس المزدوجة في الثقافة المينوية حصل أيضًا لشارة رأس الثور في ثقافة الشرق القديم عندما دخلَت في العصور التاريخية، حيث تحوَّلَت قرون الثور أيضًا من شارة للقداسة إلى رمز للألوهة المشخَّصة، وراح الفنانون في منحوتاتهم يميِّزون كبار الآلهة والإلهات بغطاء رأسٍ يحمل قرنَي ثور.

وهنالك شارةُ قداسةٍ أخرى لا بد من التوقُّف عندها قليلًا، وهي النُّصُب الحجري؛ فقد أعطتنا تنقيبات موقع أريحا النيوليتي أول شاهدٍ على ما يُدعى في تاريخ الدين بعبادة الأنصاب الحجرية عند الساميين، وهذا الشاهد عبارةٌ عن مقامٍ دينيٍّ متواضع من الألف الثامن قبل الميلاد حُفرَت في أحد جدرانه كُوَّةٌ عمودية على شكل محرابٍ وُجِدَت في أسفله قاعدةٌ حجرية كانت تحمل نصبًا حجريًّا مقدَّسًا. وقد قُيِّض لهذه الشارة أن تكون الأطول عمرًا بين الشارات الأخرى في العصور التاريخية، عندما صارت رمزًا لآلهة الكنعانيين السوريين (الساميين الغربيين)؛ فالكنعانيون تابعوا في عصر الآلهة نصب الحجر المقدَّس في محاريب معابدهم، وكرهوا نحت تماثيل لآلهتهم. ولدينا أمثلةٌ على ذلك منذ عصر إيبلا في أواسط الألف الثالث قبل الميلاد مرورًا بمملكة ماري على نهر الفرات، والمدن الفينيقية على الساحل السوري وفي المستوطنات الفينيقية البعيدة عن الوطن الأم، ومعبد الشمس في مدينة حمص المشهور بحجره المخروطي الأسود. ومن الطريف أن نذكُر هنا أن المعبد الوحيد الذي اكتُشف في فلسطين مُكَرسًا للإله التوراتي يهوه قبل العصر الروماني، كان يحتوي في محرابه على نُصبٍ حجري.

(س): وكان للعرب قبل الإسلام أحجارهم المقدسة أيضًا. أليس كذلك؟
(ج): كل العبادات الصحراوية كانت تدور حول النصب الحجرية. وهنالك عالمُ آثارٍ بارزٌ كرَّس حياته المهنية لدراسة هذه العبادات يُدعى عوزي آفنر، شملَت تنقيباته صحراء النقب في جنوب فلسطين وشبه جزيرة سيناء، حيث عثر على مقاماتٍ دينيةٍ صحراوية وأحجارٍ مقدَّسة على مدى الفترة الممتدة من الألف العاشر قبل الميلاد إلى بداية العصر الإسلامي. وقد قرأتُ لهذا الباحث اللامع دراساتٍ في المجلات المتخصِّصة عندما شَرعتُ بتأليف كتابٍ عن عبادة الأحجار عند الساميين عام ٢٠١١م، ثم راسلتُه على الإنترنت فزوَّدني بمزيد من دراساته وتبادَلْنا الأفكار على مدى ذلك العام. ثم توقَّف مشروعي بسبب الأحداث السورية وسفري إلى الصين.

التنقيبات في جزيرة العرب ما زالت في بدايتها؛ ولذلك لا نستطيع اقتفاء أثَر العبادات الصحراوية فيها إلا اعتمادًا على ما أورده الإخباريون العرب، لا سيما ابن الكلبي في مؤلفه الشهير «كتاب الأصنام»، ومنه نعرف بأن العرب لم يعرفوا الأصنام قبل القرن الثالث الميلادي، وأن عباداتهم كانت تدور حول الأنصاب الحجرية حتى بعد دخول الأصنام إلى مقاماتهم الدينية. وقد بقي من تلك الأنصاب حجرٌ واحد حتى الآن وهو الحجر الأسود المقدَّس في الكعبة.

(س): الحجر عند الساميين — كما أفهم مما أوردتَه — كان مثل أي شارةٍ مقدَّسةٍ أخرى، رمزًا مرئيًّا للألوهة الخافية التي كرهوا تصويرها في هيئةٍ بشرية، فإلى أي ألوهة رَمَزَ حجر الكعبة؟ وما سر القداسة التي لازمَته على الرغم من تغيُّر المعتقدات؟
(ج): حسنًا، سأبدأ من التذكير بمعلومةٍ مفادُها أن الألوهة التي أطلق عليها نبي الإسلام اسم «الله» لم تكن جديدةً تمامًا على عرب الجزيرة؛ فهؤلاء على تنوُّع آلهتهم المحلية التي كانوا يعبدونها كانوا يؤمنون بالله كإلهٍ أعلى خالقٍ للسماء والأرض ولكل ما يُرى وما لا يُرى، ويرون في كعبة مكة بيتًا لله، وفي حجر الكعبة الأسود رمزًا مرئيًّا له؛ ولذلك فقد كانوا يحُجُّون إلى الكعبة مرةً في كل سنة لزيارة بيت الله وأداء طقوس الحج. وقد أورد القرآن الكريم أكثر من آيةٍ تدُل على عقيدة العرب هذه، ومنها: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ (أي المشركين) مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ وهنا يجب أن أُذكِّر بأن القرآن وصف عرب الجزيرة بالمشركين أي الذين جعلوا لله شركاء في الألوهية، ولم يدعُهم بالكفار، فإذا كان الحجر الأسود رمزًا لله في الجاهلية، فلماذا لا يُحافظ على قداسته في الإسلام؟
(س): ولكن البعض يرى بأن في هذا نوعًا من الوثنية!
(ج): أعتقد أن مفهوم الوثنية كما يفهمه الكثيرون بحاجة إلى مراجعة؛ فكما أن إنسانَ عصورِ ما قبل التاريخ لم يعبُد الشارة المقدسة ولا الحيوان الذي استُمِدَّت منه تلك الشارة، فإن إنسان العصور التاريخية لم يَرَ في تمثال الإله أو في الحجر الذي يمثِّله سوى رمزٍ مادي يدُل على شيء يتجاوزه. إنه بمثابة النافذة التي إذا فتحتَها ترى الشمس، ومع ذلك فإن النافذة تبقى نافذة والشمس تبقى شمسًا.

إن أي إنسانٍ تربى في ثقافة غير إسلامية أو غير يهودية لا يرى ضَيرًا في تقديس الصوَر الدينية؛ فالمسيحي يركع أمام صورة المسيح أو العذراء في الكنيسة، والبوذي يسجد على وجهه أمام تمثال البوذا؛ لأنهما يعرفان أن ما يقدِّسانه ليس الصورة وإنما ما وراء الصورة. أما المسلم فإنه يُصاب بالذعر لرؤية إنسانٍ راكعٍ أمام صورة. وهنا أودُّ أن أروي حادثةً جَرَت معي بعد أسابيعَ قليلةٍ من وصولي إلى بكين؛ فقد نظَّمَت لي إدارة الكلية التي أقوم بالتدريس فيها جولةً سياحيةً للتعرُّف على بعض معالم المدينة، وكلَّفَت اثنَين من طلابي في قسم الدراسات العليا بمرافقتي في هذه الجولة، وكان البرنامج يتضمن في إحدى فقراته زيارة لمعبد اللاما البوذي. عندما اجتزنا الباب الخارجي وولجنا إلى فناء المعبد وجدتُ الكثير من الزوار يشعلون البخور في مجمرةٍ ضخمةٍ في الوسط ثم يتجهون إلى مدخل القاعة الأولى فمشيتُ معهم، وهناك وجدتُهم ينطرحون أرضًا على جباههم أمام تمثالٍ هائلٍ للبوذا مصنوع من النحاس. وهنا طفَت ثقافتي الإسلامية الهاجعة في اللاشعور، ووجدتُني أنتفضُ بشدة وأقول لمرافقيَّ بلهجةٍ مستنكرة: «إنهم يسجدون لصورة.» لقد اجتازت هذه الجملة عقلي الواعي الذي يعرف تمامًا معنى السجود أمام صورة، ونطق بها لساني كأن من ينطق بها شخصٌ آخر لا أعرفه.

(س): هنالك صنمٌ داخل الكعبة أيام الجاهلية يُدعى «هُبَل»، كان أكبر الأصنام، وكانت قريش تُعظِّمه وتُفضِّله على بقية الأصنام الأخرى؛ الأمر الذي خلق انطباعًا لدى الكثيرين بأن «هُبَل» هو رب الكعبة، فماذا تقول في ذلك؟
(ج): «هُبَل» هو تمثالٌ مستورَد من بلاد الشام، شأنه شأن بقية أصنام العرب الذين لم يكونوا يُجيدون فن النحت، أو أنهم اعتبروه في عداد المهن والحرف اليدوية التي لم تكن تليق بالعرب. ويذكُر ابن الكلبي في كتاب الأصنام أن «هُبَل» كان صنمًا على شكل إنسان، وصل إلى مكة بعد أن كُسِرت ذراعه في الطريق فصنعوا له ذراعًا من ذهب. أما في تفسير الاسم فإن أهل الأخبار العرب ذهبوا في ذلك مذاهبَ شتى، والسبب هو أن الصنم حافظ على اسمه السوري الأصلي هبعل، وهو لقب لإله العاصفة حَدَد ويعني الرب أو السيد. وهو يتألف من مقطعَين؛ الأول هو الهاء أداة التعريف في بعض اللهجات السورية، والثاني بعل الذي يُلفظ أيضًا بصيغة بعلو وبِل. وبما أن قبيلةَ قريش كانت من أصلٍ سوري، ولم تُهاجر إلى الحجاز إلا قبل بضعة أجيالٍ من ميلاد الرسول، فقد كانت لغتها تحتوي على الكثير من المفردات الآرامية، وبالتالي كانت تعرف معنى كلمة هبعل أو هبل. وقد أرادت من وراء استيراد هذا الصنم أن تنصبَ تمثالًا في الكعبة لله بصيغته الجاهلية تحت لقب الرب أو السيد.

وهنا تحضُرني فكرةٌ كنتُ قد أوردتُها في دراسةٍ قديمةٍ لي عن الأصول السورية للآلهة اليونانية؛ حيث تابعتُ اسم الإله أبوللو إلى أصله السوري هبعلو، وقلتُ إن دارسي الميثولوجيا اليونانية لم يتوصَّلوا إلى اتفاقٍ بشأن جذر الاسم؛ لأنه لم يكن يونانيًّا وإنما كان سوريًّا.

(س): نأتي الآن إلى السؤال الهام وهو: متى، وكيف، ولماذا حلَّت فكرة الإله في تاريخ الدين محل فكرة القوة؟
(ج): حصل هذا الانتقال بشكلٍ تدريجيٍّ خلال عصر النحاس، عندما أخذَت القوة تكتسي برداءٍ شخصيٍّ على مهل، واكتملَت هذه العملية خلال الفترة الانتقالية من الألف الرابع إلى الألف الثالث قبل الميلاد، عندما دخلَت الحضارة في عصر البرونز؛ فخلال عصر النحاس أخذَت كبرى القرى الزراعية تتحول إلى أشباه مدن، وخلال الفترة الانتقالية من عصر النحاس إلى عصر البرونز تحوَّلَت أشباه المدن إلى مدنٍ حقيقية، وذلك في وادي الرافدَين الأدنى أولًا، ثم في مصر وسوريا بعد ذلك بقليل. وترافقَت هذه النقلة مع اختراع الكتابة ودخول الحضارة في العصور التاريخية، وبذلك اكتملَت الثورة الثانية في تاريخ الحضارة الإنسانية وهي الثورة المدينية Urban Revolution.
(س): وماذا حصل خلال ذلك مما له علاقة بموضوعنا؟
(ج): عندما كانت أشباه المدن تتحول إلى مدن وتتشكل مؤسساتها المدنية، ترافق هذا التحوُّل مع حصول تغيراتٍ عميقةٍ في البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وبشكلٍ خاص فإننا نعزو إلى التحوُّلات النوعية التي طرأَت على مفهوم السلطة السياسية وأساليب ممارساتها دورًا مهمًّا في تكوين مفهومٍ جديدٍ للسلطة على مستوى الكون، وظهور الآلهة التي تُدير الكون كما يُدير الحاكم المدينة.

لقد كانت جماعة الصيادين في العصور القديمة تعيش في مشاعيةٍ اقتصاديةٍ لا يملك الفرد فيها سوى أدواته الحجرية، أما نظامها السياسي فكان يقوم على اختيار زعيمٍ غير متفرغ لمهام الرئاسة يمكن عزله واختيار غيره في أي وقت. وفي العصر الحجري الحديث كانت الأراضي الزراعية ملكًا لجميع أُسر القرية، وكان رجال القرية يشتركون في الزراعة والحصاد وتربية الماشية ثم يوزِّعون ناتج عملهم على الجميع بالتساوي. أما زعيم القرية فلم تختلف صلاحياته كثيرًا عن صلاحيات زعيم جماعة الصيَّادين، وربما كانت شئون القرية تُدار من قِبَل مجلس للشيوخ. أما الحياة الدينية فكان يُشرِف عليها ساحر القرية أو الشامان بمصطلحات الأنثروبولوجيا الحديثة، والذي كان يقود الطقوس الدينية لا سيما تلك الطقوس الخاصة بالتأثير في القوة من أجل إنزال المطر. هذا ونستنتج مما كشفَت عنه التنقيبات الأثرية في مواقع العصر النيوليتي من بيوت ومقابر، عدم وجود تفاوتٍ في الثروة أو المكانة الاجتماعية بين الأفراد.

ولكن الأمور أخذَت بالتغيُّر مع الاقتراب من فجر المدنية في منطقة الشرق القديم؛ فقد تحوَّل المقام الديني البسيط إلى معبدٍ كبير، وتحوَّل الشامان إلى كاهنٍ أعلى يساعده كهنةٌ أدنى منه مرتبة، وبُني قصرٌ واسعٌ للرئيس الذي تحوَّل إلى ملكٍ مطلق الصلاحيات يفرض سلطته على الجماعة بعد أن كان يستمدُّها منها، وظهر التملُّك الخاص للأرض ووسائل الإنتاج، وتنوَّعَت الحرف اليدوية والاختصاصات. وهكذا نجد أن الفرد الذي لم يكن يشعُر بالسلطة تُمارَس عليه من قِبَل أي جهةٍ كانت عندما كان الجميع أحرارًا ومتساوين، صار ينظر إلى الكون وكأنه نموذج عن المدينة ومحكوم ومسيَّر بسلطة الحاكم، وتحوَّلَت القوة التلقائية التي كانت تتخلَّل العالم إلى سلطة ونظامٍ سلطوي، وظهرَت الآلهة كشخصياتٍ ذات قوة حلَّت محل القوة البدئية.

(س): ولكن هل خرج الآلهة من خيال الإنسان بداعي هذه التحوُّلات المادية فقط؟ ألم يكن لفكرة الإله المشخَّص من مُرتكَزٍ موضوعيٍّ ساعد على ترسيخها إلى جانب تلك التغيُّرات الحاصلة في المجتمع؟
(ج): لم يخرُج الآلهة من خيال الإنسان فجأة، وفكرة الإله المشخَّص كانت تختمر فيما ندعوه في تاريخ الدين بمؤسَّسة عبادة الأسلاف، والجيل الأول من الآلهة كانوا أسلافًا مقدَّسين جرت ترقيتُهم إلى رتبة الآلهة. وتقوم مؤسسة عبادة الأسلاف على فكرةٍ قديمةٍ آمن بها الإنسان البدائي، وهي أن روح الميت بعد انتقالها من المستوى الدنيوي إلى المجال الماورائي المقدَّس، تكتسب قوةً إضافيةً فوق ما لدى البشر، تجعلها قادرة على التأثير في حياتهم وعالمهم إما خيرًا أو شرًّا. ومن هنا نشأَت لدى المجتمعات البدائية طقوسٌ تهدف إلى دفع شر الأرواح أو استجلاب رضاها. ولكن هذه الفكرة لم تتحوَّل إلى مؤسسةٍ فاعلةٍ في الحياة الاجتماعية إلا مع بدايات العصر الحجري الحديث؛ ففي موقع تل المريبط على نهر الفرات عثَر المنقبون على بقايا دفنٍ تعود إلى الألف الثامن قبل الميلاد، تدُل على شواهدَ مبكِّرة لتقديس الأسلاف؛ فقد وُجدَت تحت أرضيات البيوت السكنية هياكلُ عظميةٌ مدفونة دون جماجمها، أما الجماجم فقد فُصِلت وعُرِضَت في الأعلى داخل المسكن على قواعدَ طينيةٍ كنوع من الأثاث الجنائزي المعروض باستمرار أمام أنظار الأحياء. وهذا يعني أن الإنسان النيوليتي كان يعتقد بأن جماجم بعض أسلافه المميَّزين كانت مستودعًا لقوةٍ ماورائية، وأن هؤلاء كان باستطاعتهم منح الخير والبركة للأحياء بعد مماتهم مثلما فعلوا خلال حياتهم.

خلال النصف الثاني من العصر النيوليتي حصل تطوُّرٌ لافتٌ للنظر في طريقة عرض الجماجم داخل البيوت؛ ففي موقع أريحا عمد الإنسان إلى إعطاء ملامح للجماجم المعروضة في البيوت مستخدمًا في ذلك عجينةً من كلس وطين، وملأ محاجر العينَين بأصداف تعطي شكل البؤبؤ، ثم طلى الوجه بلونٍ يماثل لون البشرة الحيَّة، وأخيرًا وضع الجمجمة على قاعدةٍ طينيةٍ تشبه الجذع الإنساني، فبدا التكوين وكأنه تمثالٌ نصفيٌّ للسلف، وكانت هذه الجماجم معروضةً في مجموعاتٍ تتألف كلٌّ منها من جمجمتَين أو أكثر، وقد وُجدَت هذه الشعائر الجنائزية في عدة مواقعَ نيوليتيةٍ أخرى لا سيما في موقع تل الرماد قرب دمشق.

وفي موقع شتال حيوك بسهل قونية الذي ازدهر في أواخر العصر النيوليتي، حصلَت نقلةٌ أدخلَت جمجمة السلف إلى نطاق الحياة الدينية؛ حيث صرنا نرى الجماجم البشرية معروضةً أسفل الحائط الذي عُلِّقَت عليه رءوس الثيران كشارةٍ مقدَّسة. ولكن كان على هؤلاء الأسلاف الذين دخلوا الحياة الدينية كعنصرٍ ثانويٍّ أن ينتظروا حتى أواخر العصر النحاسي لكي يتحوَّلوا إلى آلهة ويحلُّوا محل الشارة المقدَّسة.

(س): حسنًا، بعد ظهور الآلهة كيف قام هؤلاء بترتيب أمورهم وتوزيع الصلاحيات فيما بينهم؟ لا شك في أن مجمع الآلهة الذي يرأسُه كبيرهم كان الخطوة الأولى في هذه العملية؟
(ج): مجمع الآلهة هو ناتجٌ سياسيٌّ متأخر قليلًا؛ ففي مطلع عصر الآلهة كان الأصل في الحياة الدينية هو معتقدٌ بسيط خاص ببلدةٍ ما أو مدينةٍ وما يتصل به من طقوس وأساطير، ومثل هذا الشكل ندعوه عبادة Cult، وغالبًا ما تتركَّز الحياة الدينية في مؤسسة العبادة حول إلهٍ واحدٍ أو حول ثنائيٍّ إلهيٍّ يتألف من ذكر وأنثى، فإذا حصل تقارُب وتفاعُل وتمازُج بين مجموعة من البلدات والمدن والقرى التي تدور في فلكها، والتي تتشارك العيش في منطقةٍ جغرافيةٍ معينة، وشكَّلَت فيما بينها إثنيةً متميزة، تداخلَت عباداتها وتمازجَت، نجم عن ذلك ما ندعوه بدين الشعب، وصار أهل العبادة الواحدة يوقِّرون آلهة العبادات الأخرى مع تركيزهم على عبادةِ إلههِم الخاص، ثم إن دين الشعب أخذ شكله الأخير الثابت عندما نشأ كيانٌ سياسي وحَّد بين هذه الجماعات وجمع آلهتَها في هيئةٍ عليا تُدعى مجمع الآلهة الذي يرأسه كبير الآلهة، والذي غالبًا ما كان إله السماء. ولغرض التوضيح أسوق فيما يأتي مثالًا مستمدًّا من الثقافة السومرية.

ففي وادي الرافدين الجنوبي خلال العصر السومري الذي ابتدأ في أواخر الألف الرابع قبل الميلاد، نشأَت اثنتا عشرة بلدةً تحوَّلَت تدريجيًّا إلى مدن، وكان لكل مدينةٍ إلهُها الخاص؛ فقد عُبِد الإله شمش في مدينة سيبار، وعُبِد الإله سن في مدينة أور، وعُبِدت إنانا في مدينة أوروك، وعُبِد إنليل في مدينة نيبور … إلخ، ثم إن هذه العبادات أخذَت بالتقارُب والتداخُل إلى أن قامت في مدينة أور أُسرةٌ ملكية عملَت على توحيد المدن السومرية في كيانٍ سياسيٍّ واحد، وهي الوحدة التي رسَّخَت الملامح الثابتة لمجمع الآلهة السومري الذي يرأسه إله السماء «آن»، ويبرُز فيه الثالوث الأقدس «آن وإنليل وإنكي».

(س): لماذا نجد لإله السماء هذه المكانة العالية التي تُخوِّله رئاسة مجمع الآلهة؟ وهل نجد ذلك في بقية ميثولوجيات الشرق القديم؟
(ج): إن قبة السماء الزرقاء باتساعها وعمقها وعلُوها أثارت منذ القديم عواطفَ دينيةً غامضة. ونظرًا لأنها تغطِّي الأرض من جميع جهاتها وترتفع فوقَ كلِّ ما يجري في الأسفل، فقد شعَر الإنسان بأنها تُمارِس سلطة وقوة على كل ما يقع تحتها، وكان إلهها هو الإله الأعلى شأنًا ومرتبة. هكذا كان الحال في الميثولوجيا السومرية والبابلية من بعدها، وكذلك في الميثولوجيا الكنعانية حيث نجد «إيل» إله السماء هو رئيس مجمع الآلهة. وفي جزيرة العرب حيث لم يُنتِج الفكر الديني مجمعًا للآلهة، كان الله إله السماء الأعلى شأنًا بين جميع الآلهة، ولكن الأمور لا تدوم على هذه الحال بالنسبة إلى إله السماء، ففي الميثولوجيا السومرية نجد الإله إنليل يقوم بالاستيلاء على معظم صلاحيات إله السماء آن، وهو الذي يقوم بفعل الخلق عندما فصل السماء عن الأرض وأظهر معالم الكون، ولم يَبقَ للإله آن سوى الرئاسة الاسمية. وفي بابل لم يكن إله السماء آنو هو رئيس المجمع خلال العصر الإمبراطوري، وإنما مردوخ الذي أُوكلَت إليه مهمة خلق العالم. فإذا انتقلنا لغرض المقارنة إلى الثقافة اليونانية، نجد أنه في البدء لم يكن سوى العماء أو الشواش البدئي، ظلمة وامتداد بلا نهاية، وكان أول الآلهة ظهورًا من هذا العماء هي الأرض/الأم المدعوة جايا، وبعدها إيروس الحب الجنسي، ثم إن جايا أنجبَت دون زوج بكرها السماء أورانوس وتزوَّجَته، وأنجبَت منه الجيل الأول من الآلهة وهم التيتان، ومنهم كرونوس الذي انقلب على أبيه وخصاه وحل محلَّه، ولكنه ما لبث حتى وقع في شرِّ أفعاله عندما ثار عليه ابنه زيوس وحل محلَّه.
(س): هذه النقلة من مبدأ القوة إلى قوة الآلهة المشخَّصة، هل حصلَت في جميع الثقافات؟ ألم يَبقَ من مبدأ القوة أي أثَر في عصر الآلهة؟
(ج): هذا السؤال يُعيدنا إلى الثقافة الصينية التي بقي فيها مبدأ القوة متعايشًا مع الآلهة المشخَّصة؛ فالآلهة الصينية في المعتقدات التقليدية لم تقطع صلتها تمامًا بماضيها كأسلافٍ مقدَّسة، ولم تكتسب تمامًا خصائص الآلهة المتعالية على البشر وعلى الطبيعة. وتُظهر السير الأسطورية لهؤلاء الأسلاف كيف ابتدأ أمرهم كرجالٍ صالحين على الأرض، ثم جرى تأليههم وعبادتهم فيما بعدُ؛ ولهذا فإن الآلهة الصينية على كثرتها لا تبدو لنا كشخصياتٍ ذات ملامحَ واضحةٍ ووظائفَ دائمة، وإنما ككياناتٍ شبحية لا تتمتع بخصائصَ ذاتية، وتكتسب قوتها من قوة المنصب الذي تشغلُه؛ ذلك أن المنصب الإلهي هو الثابت، أما شاغلوه فمتغيِّرون. ولغرض إيضاح هذه النقطة أقول بأن الإله «سن» أو «نانا» بقي إلهًا للقمر في الثقافة الرافدينية طيلة تاريخ الشرق القديم (ثلاثة آلاف عام)، وشمش بقي إلهًا للشمس، وإنليل بقي إلهًا للهواء، وقِس على ذلك بخصوص بقية الآلهة في ثقافات الشرق القديم، وفي الثقافة اليونانية-الرومانية. أما في الثقافة الصينية فنجد أنه في كل إقليم من الأقاليم الصينية العديدة يجري توزيع الوظائف والاختصاصات بين الآلهة؛ مثل تصريف الرياح وقَدْح البرق وإنزال المطر بشكلٍ مختلفٍ عن الإقليم الآخر، وقد يتم في إقليمٍ ما ترقية أحد الآلهة إلى مقامٍ أعلى، أو تخفيض مرتبته أو حتى صرفه من الخدمة نهائيًّا. أما المصدر الحقيقي لقدرة الآلهة الصينية فهو مفهومٌ مجرَّد عن الألوهة يتمثَّل في قوة السماء التي عُبِدَت منذ مطلع العصور التاريخية الصينية تحت اسم شانغ-تي/Shang Ti خلال عصر أُسرة شانغ، ثم تحت اسم تي يين/Ti’ien خلال حكم أُسرة شو Chou، حيث جرى تصوُّرها كقُوَّة تشغل الجهة العليا من قبة السماء، ولا تشبه في شيء إلهًا أعلى مُسيَّرًا للكون. وإلى جانب تمجيد قوة السماء، فقد استمرَّت طقوس عبادة الأرواح لا سيما أرواح الأسلاف الأسطوريين بنفس الزخم السابق.

وفي أواسط الألف الأول قبل الميلاد عندما ظهرَت المدارس الفلسفية، تابَع الفلاسفة تمجيد قوة السماء، ولم يُدخِلوا تعديلًا على مؤسَّسة عبادة الأسلاف، لا سيما كونفوشيوس الذي اعتبر قوة السماء بمثابة الحضور الروحي الجليل، والقوة الأخلاقية الأعظم، ومصدر كل شيء. وقد رأى أن إرادة السماء تفعل من خلال عنايةٍ متضمَّنة في صلب النظام الطبيعي الذي يقابله على المستوى الإنساني الاجتماعي نظامٌ آخر هو القانون الأخلاقي؛ ولذلك فإن انسجام الفرد مع إرادة السماء الفاعلة في الطبيعة يتحقق بمراعاة النظام الأخلاقي الذي يشكِّل انتهاكه خطيئةً بحق السماء. وعلى الرغم من أن المدارس الفلسفية الكونفوشية الكثيرة التي تتابعَت بعد المعلم الأول حتى مطلع العصور الحديثة، اختلَفَت فيما بينها اختلافًا كبيرًا، إلا أن نظرتها إلى قوة السماء بقيَت على حالها عدا خلافِ بعضِ المفكرين بخصوص الطبيعة الأخلاقية للسماء؛ فقد رأى بعضهم أن السماء تقف إلى جانب الإنسان الطيب وتدعم الحاكم الفاضل، وتمنحه تفويضها ليحكُم، وتسحب تفويضها من الحاكم السيئ الذي يفقد دعمها، بينما رأى آخرون أن قوة السماء هي حياديةٌ أخلاقيًّا وميكانيكيةٌ في عملها. وكما ترى فإن أصحاب الرأي الثاني يقتربون كثيرًا من مفهوم القوة السارية في الطبيعة لدى الشعوب البدائية.

(س): وهل السماء هي من اضطلع بفعل الخلق والتكوين في الثقافة الصينية؟
(ج): نظرية الخلق والتكوين الصينية تقوم على تصوُّراتٍ أقرب ما تكون إلى تصوُّرات الفيزياء الكونية الحديثة؛ أي إنها نظريةٌ غيرُ دينية، بمعنى أن الكون لم يظهر بواسطة قدرةٍ إلهيةٍ متعالية، وإنما نتيجة لما أسميتُه سابقًا ﺑ «حالة فعالية» تلقائيةٍ موجودةٍ في صميم عمليات الطبيعة؛ فهي والحالة هذه نظريةٌ مادية إلى حدٍّ بعيد. وهذه النظرية مبسوطة في واحدٍ من المؤلفات الكلاسيكية الستة السابقة على عصر كونفوشيوس، والتي كانت أساس كل تعليم يجري في الصين. ويُدعى هذا المؤلَّف بالصينية إي كينغ؛ أي كتاب التغيُّرات، وفي اللغات الأوروبية آي تشينغ/I.ching.
تقوم حكمة التغيُّرات على فكرة أن التغيُّر هو سِمة الوجود؛ فكل شيءٍ يجري دون توقُّفٍ مثل ماء النهر، ولكن هذا التغيُّر الدائم ينبغي أن يتم على أرضيةٍ ثابتة وإلا آل النظام الكوني إلى فوضى مطلقة، وهذه الأرضية الثابتة هي المبدأ الأول المدعو بالتاو، أو الواحد غير المُتكثِّر الذي نشأَت عنه الكثرة. ويُرمز للمبدأ الأول بدائرةٍ فارغةٍ تُعبِّر عن الحالة السابقة على توليده للموجودات، وبدائرة يقسمُها خطٌّ ملتوٍ على شكل حرف S إلى مساحتَين إحداهما بيضاء والأخرى سوداء، ترمزان إلى القوة الموجبة يانغ والقوة السالبة ين، اللتين تولَّدتا داخل فراغ التاو، وراحتا تدوران على بعضهما، وعن دورانهما نشأَت الآلاف المؤلَّفة من مظاهر الكون والطبيعة والحياة، والتي تحمل كمياتٍ متفاوتة من هاتَين القوتَين. فإذا غلب اليانغ في هذا المظهر أو ذاك كان ذا طبيعةٍ موجبة (الشمس، النار، السماء، الذكر … إلخ)، وإذا غلب الين كان ذا طبيعةٍ سالبة (القمر، الماء، الأرض، الأنثى … إلخ)، فلا اليانغ يتجلى في طبيعته الصرفة ولا الين كذلك؛ لأن في كل سلب بعض الإيجاب، وفي كل إيجاب بعض السلب؛ ولذلك فقد صُوِّر القسم الأبيض داخل دائرة التاو وفيه بؤرةٌ صغيرةُ سوداء، والقسم الأسود وفيه بؤرةٌ صغيرةٌ بيضاء.
(س): أعتقد أن العلاج الصيني بالإبر يرتكز على وجود هاتَين القوتَين!
(ج): هذا صحيح؛ ففي جسم كل كائنٍ حي طاقةٌ موجبة وطاقةٌ سالبة متوازنتان بدقة، وتتحركان في قنواتٍ غير مرئية، فإذا اختل هذا التوازُن حصل المرض، ولكن غرز الإبر في هذه القنوات من شأنه أن يُعيد التوازن إلى ما كان عليه.
(س): نأتي الآن إلى سؤالٍ مركزي في موضوع الدين والحضارة وهو: هل الدين قوةٌ دافعة للحضارة أم كابحة؟
(ج): هذا يتوقَّف على أي دين نتحدث وعن المكان والزمان. ولكن دعني أقول إن الدين كان من حيث المبدأ قوةً دافعةً للحضارة؛ ففي العصور الحجرية كانت الأغنية الأولى دينية، وكذلك الإيقاع الأول والرقصة الأولى، وكان رجل الدين هو المفكر الأول والفيلسوف الأول، وهو الذي أنتج رسوم الكهوف والدمى العشتارية. وعندما استقر الإنسان في الأرض وخرج من كهوفه، كان رجل الدين هو من وضع التصميم المعماري للبيت الأول. لقد كانت هذه المؤسسة الدينية البدائية هي الأمينة على تراث الجماعة، وهي التي تضمن انتقالَه من جيل إلى جيل.
(س): ولماذا تمتَّع رجل الدين بهذه المكانة المميزة؟
(ج): لأنه كان بلا عمل، كل فرد في الجماعة كان يعمل من أجل تحصيل الرزق، صيدًا كان أم زراعة وعناية بالماشية، أما هو فقد كان متفرغًا للشأن الديني، والشأن الديني بطبيعته نشاطٌ غير نفعي فيه عُلُو على إيقاع الحياة اليومية.
(س): وهل استمرَّت الأمور على هذه الحال في العصور التاريخية؟
(ج): وأكثر؛ فمع فجر المدنية في الشرق القديم ازدادت الثروة، وصار بمقدور اقتصاد الجماعة تفريغُ عددٍ كبيرٍ من الكهنة لرعاية الشئون الدينية، فبُنِيَت المعابد الضخمة التي صارت مراكز لإنتاج الثقافة. ومع اختراع الكتابة في وادي الرافدين الجنوبي جرى استخدامها لأغراضٍ عملية، ثم في تدوين الأساطير، وهي الشكل الأول للأدب الإنساني الذي اتخذ منذ البداية الصيغة الشعرية. وبإمكاننا القول إن المراكز الدينية الضخمة التي تعطي الناظر إليها إحساسًا بالجلال والجمال، والداخل إليها إحساسًا بالرهبة الدينية وبالحضور الإلهي؛ مثل: معبد الكرنك ومعبد الأقصر في مصر، والمعابد ذات الأبراج المُدرَّجة في سومر وبابل، كانت من تصميم الكهنة لأنهم هم الذين يعرفون تلك الصلة الحميمة بين فضاء العمارة وفضاءات الروح. وفي هذه المعابد جرى إنتاج الفنون البصرية؛ مثل المنحوتات البارزة، والتماثيل، والأختام الأسطوانية. وقد كانت الآلهة هي الموضوعات التي تناولَتها فنون النحت، وعندما كان الملك موضوعًا لها كان ذلك بصفته الدينية لا بصفته الدنيوية؛ فالفرعون المصري كان ابنًا للإله رع، والملك السومري كان تجسيدًا للإله دوموزي روح النبات، وكان يتزوج رمزيًّا من إنانا، إلهة خصب الأرض والكائنات الحية، في عيد رأس السنة. أما الأختام الأسطوانية فكانت موضوعاتها مستمدَّة من الأساطير الدينية؛ هذا الدور الرائد للدين في مجال النتاج الثقافي المادي وغير المادي، نستطيع التعرُّف عليه في بقية الثقافات بعيدًا عن الشرق القديم، وإلى درجة يمكننا معها القول بأن ٩٠ بالمائة من ميراث الإنسانية هو نتاجٌ ذو صلة بالدين.
(س): لم تذكُر شيئًا عن المسرح، هناك من يقول بأنه ذو أصل ديني؟
(ج): هذا صحيح؛ فقد وُلدَت الدراما من رحم الطقس الديني. لا سيما من الطقوس الدَّورية الكبرى التي كانت تُقام مرةً في كل عامٍ في عيد الربيع الذي يؤشِّر إلى الدخول في سنةٍ جديدة. وقد حفظَت لنا نصوصُ بلاد الرافدَين تفاصيل نسختَين من هذه الطقوس، وهما النسخة السومرية وهي الأقدم، والنسخة البابلية وهي الأحدث؛ ففي أعياد الربيع السومرية كان الطقس يهدف إلى تجديد حياة الطبيعة من خلال إنشاد وتمثيل دورة حياة الإله دوموزي روح النبات وما جرى له مع حبيبته إنانا؛ فدوموزي يقع في حب إنانا ثم يتزوَّج الإلهان، ومن اتحادهما الجسدي تتجدَّد حياة الطبيعة والإنسان والحيوان، ولكن الموت صنو للحياة ووجهها الآخر، والطبيعة يجب أن تجدِّد نفسها بالموت والانبعاث إلى حياة غضةٍ جديدة؛ ولذلك فإن العريس الإلهي يجب أن يموت، وعفاريت العالم الأسفل تنطلق في إثْره وهو يهرب ويختبئ منها إلى أن تُمسِك به وتسُومَه أنواعًا من العذاب قبل أن تقوده إلى عالم الموتى. وهنا يأخذ المحتفلون بإنشاد سلسلةٍ من البكائيات على الإله الغائب تنتهي بانبعاثه من العالم الأسفل، وعودته إلى الحياة لتبدأ الطبيعة دورةً جديدة.
أما في النسخة البابلية من الطقس، فقد كان المحتفلون يُنشِدون ويُمثِّلون أسطورة التكوين البابلية التي تقُص عن ولادةِ الإله مردوخ واستلامِه رئاسة مجمع الآلهة، وقتلِه للتنين المائي البدئي وصنع الكون من أجزائه، وكان الهدف من هذا الطقس هو إعادة خلق العالم وتجديده. وفي الميثولوجيا الكنعانية لدينا نصٌّ طويلٌ من موقع مدينة أوغاريت يروي عن موت إله الطبيعة بعل وبعثه أيضًا، وقد لاحظ قارئو هذا النص ومفسِّروه وجود جُمَلٍ فيه خارجةٍ عن السياق، فهموا منها أنها عبارة عن توجيهات للممثلين الذين يقومون بالأداء الدرامي له. على أن هذه الحالة الجنينية للدراما لم تنفصل عن أصولها الدينية في بلدان الشرق القديم لينشأ عنها المسرح الذي نعرفه، وإنما تم ذلك في بلاد اليونان، حيث نشأَت التراجيديا عن الطقس الديني المعروف باسم الديثيرامب/Dithyramb الذي يقُص أيضًا عن ميلاد الإله ديونيسيوس وحياته وموته الفاجع ثم بعثه.
(س): لماذا ارتبطت دورة حياة الطبيعة بدورة حياة إلهٍ يموت ويُبعث من جديد؟
(ج): لأن الفكر الديني يقوم على مبدأ أن كل ما يحدُث في العالم المادي هو نسخةٌ لاحقة عما يحدُث في العالم الماورائي؛ ولذلك فإن موت الطبيعة في الخريف وانتعاشها في الربيع لا بد أن يكون انعكاسًا لحدثٍ آخر هو أصلٌ له.
(س): وكيف يساعد الطقس الدرامي على الربط بين الحدثَين؟
(ج): هنا يجب أن أعود إلى التذكير بما أوردتُه سابقًا عن الفرق في الطبيعة والمضمون بين طقوس عهد القوة وطقوس عهد الآلهة؛ فالأولى كانت طقوسًا سحريَّة اعتقد الإنسان بقدرتها على التأثير في القوة من أجل إحداث النتائج المطلوبة، والثانية كانت طقوسًا تعبديَّة تهدف إلى التوسُّل لكائناتٍ روحانيةٍ عاقلة لكي تمُنَّ عليه بالنتائج المطلوبة؛ أي إن إنسان العصور الحجرية والقبال البدائية كان يعتقد بالقدرة الهائلة لطقوسه، أما إنسان العصور التاريخية فكان يعتقد بالقدرة الهائلة للآلهة. غير أن التحول من طقوس التأثير في القوة وما يترتَّب عليها من معتقداتٍ إلى طقوس التضرع والصلوات وتقديم القرابين، لم يتمَّ بشكلٍ كامل؛ حيث بقي الإنسان يعتقد بقدرة طقوسه على إجبار الآلهة على الوقوف إلى جانبه أو حتى مساعدتها على إتمام مهامها؛ ففي مصر القديمة على سبيل المثال كان إله الشمس رع يدخل كل صباح في صراع مع التنين الشرير آبيب الذي يُحاول ابتلاع قرص الشمس ومنعه من الشروق، ولكن انتصار رع على خصمه لم يكن ليتم دون معونة الكهنة الذين كانوا يتلون تعاويذَ معيَّنة خلال الليل من شأنها إظهار الإله الأعلى على خصمه؛ ولهذا فعندما كان البابلي يقوم بأداء دراما انتصار الإله مردوخ على تنين العماء البدئي، لم يكن يؤدي دراما احتفاليةً دنيوية، وإنما طقسًا سحريًّا من شأنه عون الإله على مهمته في إعادة خلق العام لسنةٍ قادمة، والسومري عندما كان يعيد تمثيل دورة حياة دوموزي إنما كان يُساعِد الطبيعة على إتمام دورتها السنوية.
(س): نعود للحديث عن مسألةِ ما إذا كان الدين قوةً دافعة أم كابحة. متى يتحول الدين من قوةٍ دافعة إلى قوةٍ كابحة؟
(ج): من أجمل أقوال يسوع المسيح قوله لليهود الذين احتجُّوا عليه لأنه يشفي الأمراض في يوم السبت الذي يُحرَّم فيه العمل: «السبت جُعِلَ لخدمة الإنسان وليس الإنسان لخدمة السبت.» ومؤدَّى هذا القول هو أن الدين وُجدَ لخدمة الإنسان ولم يُوجَد الإنسان لخدمة الدين؛ فالدين يبقى في خدمة الإنسان طالما حافظ على بِنيةٍ حيويةٍ متطورة، وطالما حافظَت رموزه على طاقتها الإيحائية، ثم يغدو الإنسان في خدمة الدين عندما يتحول الدين إلى بِنيةٍ حجريةٍ جامدة. ويبدأ هذا التحول مع ظهور الأيديولوجيات واختزال الدين إلى كتبٍ مقدسة، ثم يتكرَّس عندما يتحول الكتاب المقدَّس من مرشد إلى معبود في حدِّ ذاته؛ الأمر الذي يحرم الدين من حيويته وطاقاته الإبداعية، ويحوِّله إلى قوةٍ كابحة.
(س): هل ينطبق هذا على الإسلام، مع أن ظهوره ترافق مع صعود حضارةٍ إسلاميةٍ تفوَّقَت في شتى ميادين المعارف والفنون والعلوم؟
(ج): خلال القرون الأولى الهجرية عاش الإسلام فترةً إبداعيةً قلَّ نظيرها؛ فقد نشأ علم الحديث عندما قام بحَّاثةٌ متخصِّصون منذ القرن الثاني بجمع أقوال الرسول وأحاديثه وَفْق أساليبَ دقيقةٍ في التقصي، فظهرَت تباعًا تصنيفاتٌ في الحديث بلغ عددها نحو ٢٣ مصنفًا. وظهر علم الشريعة على يد فقهاءَ متخصِّصين، وتأسَّسَت نحو ١١ مدرسةً فقهية كان أهمها: الفقه الحنفي، والفقه الشافعي، والفقه المالكي، والفقه الحنبلي. وظهر علم الكلام وهو علم العقائد الإسلامية الذي تعدَّدَت مدارسه، وقام علماء الكلام باستخدام أساليب المنطق والبرهان الفلسفي في إثبات صحة العقائد الإسلامية. وظهر علم تفسير القرآن الكريم وتعدَّدَت كُتبه. ونظرًا لغياب المؤسسة الدينية في الإسلام، والتي تعطي لنفسها الحق في قَبول هذا المصنَّف في الحديث أو ذاك، ورفض هذا الفقه أو ذاك، فقد تعايشَت هذه النتاجاتُ الفكرية إلى جانب بعضها بعضًا، ورفدَت بعضها بعضًا.

كما أن الإسلام لم يُحارِب الفلسفة، وظهرَت الفلسفة الإسلامية في القرن الثاني الهجري على يد الفيلسوف العربي الكبير أبو يوسف الكندي، وبلغَت ذروة نضجها بعد عدة قرونٍ على يد ابن رشد. كما أن الإسلام لم يُحارِب العلم وإنما أعطاه قوةً دافعةً كبيرة، ولم يتدخل في قَبول أو رفض أي فكرة أو نظريةٍ علميةٍ كما فعلَت الكنيسة المسيحية. على أن هذه الحيوية التي أبداها الإسلام أخذَت بالاختفاء حتى وصلنا إلى عصر ابن تيمية وتلاميذه عندما أُغلق باب الاجتهاد والتفكير، وحل النقل مكان العقل، وتحول الإبداع إلى عبادة للماضي.

(س): لفت نظري في حديثك ما قلتَه عن عدم وجود مؤسسةٍ دينيةٍ في الإسلام. هل لنا ببعض الإيضاح حول هذا؟
(ج): بعد وفاة الرسول خلفَه صاحبه أبو بكر الذي حمل لقب خليفة رسول الله، ولكن خلافة أبي بكر لم تكن خلافةً دينية وإنما خلافة سياسية، بمعنى أنه لم يكن له مركزٌ ديني أو سلطةٌ دينية رسمية، وكان الناس يستفتونه في مسائلَ دينيةٍ لكونه من صحابة الرسول مثلما كانوا يستفتون بقية الصحابة. وبقيَت الأمور على هذه الحال خلال خلافة عمر وعثمان وعلي. وعندما آلت الخلافة إلى بني أُميَّة، لم يعُد من الضروري أن يكون الخليفة من صحابة الرسول، وفقد منصب الخلافة أي صلةٍ له بالصفة الدينية لشاغل المنصب، فكان الخليفة هو ملك العرب تحت مُسمًّى إسلاميٍّ شكلي. وبهذه الطريقة لم تتحوَّل الدولة العربية إلى دولةٍ إسلاميةٍ في أي عصر من عصورها حتى في عصر الخلافة الفاطمية بمصر؛ حيث كان الإمام الإسماعيلي هو الخليفة؛ ولذلك لم يكن للمسلمين مؤسَّسةٌ دينيةٌ تحكُم شئونهم الدينية مثل الفاتيكان، ولا رئيسٌ ديني مثل بابا الكاثوليك أو بطريرك القسطنطينية. ولم يكن لديهم أيضًا رجالُ دينٍ متفرغون ينتظمون في مراتبَ وظيفيةٍ كما هو الحال عند الخوارنة والقساوسة والمطارنة وغيرهم من أصحاب الرتب الكهنوتية في الكنيسة المسيحية.
(س): وماذا عن المرجعيات الدينية، وكيف نشأَت إذن؟
(ج): إن غياب السلطة الدينية عند المسلمين لم يكن يعني غياب المرجعيات الدينية؛ فلقد كان هناك على الدوام رجالٌ وثق الناس بعلمهم وراحوا يستفتونهم في مسائل العقائد والعبادات والأحكام الشرعية، وكان من واجب هؤلاء العلماء الاستجابة لطالب الفتوى وإعطاؤه الجواب على سؤاله، ولكن هذه الفتوى ليست ملزمة، وبإمكان السائل أن يأخذ بها أو أن يلجأ إلى مرجعيةٍ أخرى.
(س): وماذا عن الجامع الأزهر وأمثاله من المؤسَّسات؟ أليست سلطاتٍ دينية؟
(ج): الجامع الأزهر مؤسَّسة تعليمية، ولم يكن في وقتٍ من الأوقات سلطةً دينية. ومنذ القِدَم كان التعليم الديني يجري في حلقات المساجد؛ حيث كان علماء الدين يلتقون بتلاميذهم ويُعطون علومهم لمن شاء من الرجال والنساء، ويمكن لمن اعتقد أنه أكمل تعليمه الديني أن يلبس الزي الديني، وهو العمامة والقفطان، دون تفويضٍ من أحد أو حصولِه على الإذن بذلك من أي جهة. ولا تختلف مؤسَّسات التعليم الديني الكبرى مثل الجامع الأزهر عن حلقات التعليم الحر إلا في أنَّ من أكمل تعليمه فيها يحوزُ على ثقةٍ أكبر من الناس باعتباره حاصلًا على شهادة من مؤسَّسة تتمتع بسمعةٍ عالية؛ أي إن السلطة الدينية لهؤلاء تأتي من الناس، من الأسفل لا من الأعلى.
(س): وماذا عن وزارة الشئون الدينية التي تُدعى في بعض الدول العربية بوزارة الأوقاف؟ ماذا عن منصب مفتي الجمهورية؟
(ج): وزارة الأوقاف هيئةٌ إداريةٌ بحتة تهتم بالمسائل الوقفية، وإدارة شئون المساجد، وتعيين الأئمة الذين يقودون الصلوات، والخطباء الذين يُلْقون خطبة أو موعظة يوم الجمعة، وتدفع لهم رواتب. أما مفتي الجمهورية فهو مرجعيةٌ دينيةٌ بلا سلطة على أحد، ومنصبه ذو طابعٍ استشاري، ويمكن للسلطة السياسية عزلُه في أي وقتٍ واستبدالُ آخر به.
(س): هذا عن الإسلام. فماذا عن المسيحية من حيث كونها قوةً دافعة؟
(ج): لقد شهدَت المسيحية فترةً قصيرةً من الإبداع والحيوية؛ فخلال القرن الأول الميلادي دُوِّنَت الأناجيل تباعًا، ولم تكن تقتصر على الأناجيل الأربعة المعروفة، كما قام بولس الرسول بكتابة رسائلِه الأربع عشرة وبثِّها في الكنائس حديثة الولادة، ودُوِّنَت رسائلُ أخرى عُزِيَت إلى بعض تلاميذ يسوع؛ مثل يوحنا، وبطرس، ويعقوب. وقد أنجز هؤلاء مؤلَّفاتهم بمبادراتٍ شخصيةٍ ومن دون تكليفٍ من أحد أو وصايةٍ من مؤسسةٍ دينية. ويظهر الطابع الحُر والتلقائي لهذه المؤلَّفات من اختلاف وجهاتِ نظرِ مؤلِّفيها بخصوص سيرة يسوع وتعاليمه، والتي تُعزى إلى أن كل مؤلِّف كان يعمل في استقلالٍ عن الآخر ودون مرجعيةٍ توجِّه عمله، وربما لم يكن على درايةٍ بما أنجزه الآخرون، ولكن في آخر القرن الثاني الميلادي قامت كنيسة روما التي صارت أم الكنائس جميعًا باختيار مجموعةٍ من النصوص التي تم إنتاجها في فترة الإبداع، واعتبرتها وحدها أصلية وقانونية، وجمعتها في كتاب واحد، أما بقية النصوص فقد اعتُبِرَت زائفة ومنحولة. وبذلك ظهر الكتاب المقدَّس المسيحي لأول مرة تحت اسم العهد الجديد. هذه العملية كانت بدايةً للانتقال من مرحلة الحيوية والانفتاح إلى مرحلة الجمود والأيديولوجيا. وقد تكرَّسَت هذه المرحلة في مطلع القرن الثالث الميلادي، عندما أقرَّ مجمع نيقية الذي انعقد في مدينة بهذا الاسم في آسيا الصغرى قانون الإيمان المسيحي، الذي حَسَم كثيرًا من الخلافات بين رجال الدين وعلى رأسها مسألةُ طبيعةِ المسيح. وبذلك دخلَت المسيحية في نفق الجمود والتحجُّر، وتمَّت مصادرة العقل لصالح أيديولوجيا، كانت مناقشة أي بندٍ من بنودها هرطقةً تستوجب المحاكمة. وقد تجلَّى هذا الجمود بأوضح أشكاله في الموقف العدائي الذي اتخذَته الكنيسة من العلم والفلسفة.
(س): هل نستطيع القول إذن بأن المسيحية كانت وراء أُفول روما ودخول أوروبا في العصور الوسطى؟
(ج): عندما صارت المسيحية دينًا رسميًّا للإمبراطورية الرومانية نحو عام ٣١٧م، كانت عوامل الضعف والانحلال باديةً على الإمبراطورية، وما لبثَت طويلًا حتى انقسمَت إلى إمبراطوريةٍ شرقيةٍ وأخرى غربية. ومنذ مطلع القرن الخامس الميلادي تعرَّضَت الإمبراطورية الغربية لغزوات البرابرة القادمين من آسيا الوسطى؛ فعوامل الانحلال كانت عديدة، ولكن بعض المؤرخين يَعْزون إلى المسيحية الدور الرئيسي في توقُّف النبض الحضاري في أوروبا؛ ولهذا فقد ختم المؤرخ جيبون كتابه الشهير «انحلال وسقوط الإمبراطورية الرومانية» بقوله: «لقد وصفتُ انتصار البربرية والدين.»
(س): هل يمكننا القول بأنه كان من الأفضل للحضارة لو أنها بقيَت على الوثنية؟
(ج): لو قلتُ نعم لكنتُ مجحفًا بعض الشيء. كل ما يمكنني قولُه هو أن الوثنية كانت حاضنةً ملائمةً لنُمو وتفتُّح الحضارة.
(س): ما هو السبب وراء وجود زمرة من الأديان يتشابه فيها شكل الخطاب الديني كما تتشابه أساطيرها أيضًا؟
(ج): هناك نوعان من التشابه بين أساطير الشعوب؛ النوع الأول ذو طابعٍ عالميٍّ ويُعزى إلى وحدة اللاشعور الجمعي الإنساني من جهة، وإلى الآلية الواحدة التي يعمل بها عقل البشر من حيث انتماؤهم إلى جنس الإنسان العاقل. ولدينا أمثلةٌ عديدة على هذا النوع من التشابُه؛ مثل دمار العالم بطوفانٍ كبير أو نارٍ سماوية ثم عودته سيرتَه الأولى، ومثل خلق العالم من أشلاء إلهٍ قتيل، وموت إلهٍ آخر من أجل تجديد الطبيعة. أما النوع الثاني فيحصُل بين أديانٍ نشأَت في حاضنةٍ ثقافيةٍ واحدة؛ فالدين ظاهرةٌ ثقافية، وهو ينشأ في بيئةٍ ثقافيةٍ معيَّنة تطبعه بطابعها؛ فالبوذية التي تُنكِر العالم ويتركَّز سعي الفرد فيها على الخلاص منه، قد نشأَت في الهند التي تتسم عقائدها بإنكار العالم، ولم تنشأ في الصين أو اليونان حيث تتسم العقائد بالتوكيد على الحياة في هذا العالم، وعدمِ نشدانِ حياةٍ أخرى بعد الموت.

ولعل المثال الأوضح على النوع الثاني من التشابه هو تلك العروة الوثقى التي تجمع أديان الشرق الأوسط المتأخرة في زُمرةٍ متميَّزة ولا شبيه لها في تاريخ الدين، وأعني بها الزرادشتية والمانوية والمسيحية واليهودية والإسلام؛ فلقد كانت الزرادشتية الأبكر في الظهور، وهي التي قدَّمَت عددًا من الأفكار الجديدة على تاريخ الأديان، دخلَت بعد ذلك في صلب عقائد وطقوس الأديان اللاحقة. ومن أهم تلك الأفكار: التوحيد، والمبدأ الكوني للشر (= الشيطان)، ونهاية التاريخ، والقيامة العامة للموتى، وصراع ملائكة الخير مع جند الشر.

ويطرح الإسلام نفسه كنموذجٍ لانتماء الدين إلى حاضنةٍ ثقافيةٍ بعينها؛ لأنه صهر هذه الديانات الشرق أوسطية في بوتقةٍ واحدة، وخرج بتركيبٍ جديد كل الجدَّة لا يُشبه أيًّا منها. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه السمة الفريدة للإسلام في أكثرَ من موضع، فقد خاطب بني إسرائيل بقوله: وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ (البقرة: ٤١). وأيضًا قوله: وَهُوَ (أي القرآن) الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ (البقرة: ٩١). وخاطب اليهود والمسيحيين بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ (النساء: ٤٧). وقال في خطابه للمسلمين: شَرَعَ (الله) لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى (الشورى: ١٣).

(س): ولكن في هذه الشواهد القرآنية وفي غيرها لم تَرِد إشارةٌ إلى الزرادشتية والمانوية؟
(ج): كان زرادشت أوَّل من قال بأنه تلقَّى وحيًا من الإله الواحد، ورسالة لينقلها إلى بني الإنسان، ثم تبِعَه في ذلك ماني. ونظرًا لما تميَّزَت به تعاليمُ هاتَين الشخصيتَين من رفعة وسُمو، فإننا لا نملك إلا أن نضعهما في زمرة الأنبياء. وقد ورَد في القرآن الكريم إشارةٌ إلى وجودِ أنبياءَ لم يَرِد ذِكرُهم في الكتاب: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ … وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ (النساء: ١٦٣-١٦٤).
(س): أريد أن أختم هذا المحور بسؤالٍ عما أسميتَه في كتابك «لغز عشتار» بالبؤرة الحضارية الأولى؛ حيث افترضتَ بأن الحضارة الكونية السائدة اليوم إنما ترجع في أصولها إلى بؤرةٍ حضاريةٍ أولى تشكَّلَت في منطقة الهلال الخصيب، وساهم في تشكيلها ثورتان حضاريتان هما الثورة النيوليتية الزراعية التي انطلقَت في أواسط الألف التاسع قبل الميلاد في قرن الهلال الخصيب الغربي؛ أي سورية، ثم الثورة المدينية التي انطلقَت في مطلع الألف الثالث قبل الميلاد، في قرنه الشرقي؛ أي في وادي الرافدَين الأدنى. هل ما زلتَ عند رأيك هذا أم صرتَ أكثر ميلًا إلى نظرية البؤر الحضارية المتعدِّدة والمستقلَّة عن بعضها بعضًا؟
(ج): هذه مسألة لا يمكن البرهنة عليها بشكلٍ قاطع، ولكن الشواهد الآركيولوجية التي تحصَّلَت لدينا من مناطقَ شتى من العالم تُرجِّحها. وأنا ما زلتُ عند رأيي مع بعض التعديلات. إن أكثر ما يُؤيد هذه النظرية هو أننا كلما هبطنا في الزمن عن تاريخ انطلاق الثورة النيوليتية في سورية وجدنا أن هذه الثورة تصل إلى مناطقَ أبعدَ عن مركز انطلاقها؛ فباتجاه الشمال اجتازت الأناضول نحو البحر الأسود وقزوين، وباتجاه الغرب وصلت إلى شبه جزيرة البلقان وبعض مناطق أوروبا الشرقية القريبة منذ مطلع الألف السادس قبل الميلاد، ولكنها لم تكتسب بقية مناطق أوروبا قبل عام ٤٠٠٠ق.م. ونحو الشرق وصلَت إلى إيران في الألف السادس قبل الميلاد، وإلى الهند ثم إلى الصين خلال الألف الخامس قبل الميلاد. أما في العالم الجديد فيبدو أن الحياة الزراعية قد مرَّت بفترة تجاربَ ابتدائيةٍ قبل أن تتوطَّد وتغدو نمطًا في الحياة نحو أواسط الألف الثالث قبل الميلاد.

هذا عن الثورة النيوليتية. أما عن الثورة المدينية فإني أعتقد الآن أنه لم يكن من الضروري لها أن تنتقل من بؤرةٍ واحدة؛ لأن القرية الزراعية عندما تتأسَّس فإنها تحتوي في تركيبها على بذرة المدينة، وطريق التحوُّل من القرية إلى شبه مدينة ثم إلى مدينة هو طريقٌ مفتوح، وهو مؤكَّد حتى من دون مؤثِّراتٍ خارجية. ومع أنه لا يمكن إنكار أثَر البؤرة المدينية الأولى على المناطق القريبة منها، إلا أنني أعتقد بأن المناطق البعيدة قد طوَّرَت نظامها المديني بشكلٍ مستقل، لا سيما الصين التي كانت أول بلدٍ متمدِّنٍ في الشرق الأقصى في أواسط الألف الثاني قبل الميلاد، وهذا ما يجعل منها بؤرةً أخرى لحضارة المدينة التي انتقلَت منها إلى بقية أنحاء الشرق الأقصى.

(س): هنالك فكرةٌ أخرى سُقتَها في حديثك عن البؤرة الحضارية الأولى، حيث قلتَ بأن تلك البؤرة التي قدَّمَت الأسس المادية التي قامت عليها الثورة الزراعية، كانت في الوقت نفسه الرقعة التي تشكَّلَت فيها تصوُّراتٌ دينيةٌ مرتبطة بالاقتصاد الزراعي، وأسطورة أولى قلتَ إنها انتقلت مع الثقافة الزراعية إلى كل مكان وصلَت إليه. هل ما زلتَ عند رأيك في ذلك؟
(ج): كلا، لقد قلتُ منذُ قليلٍ إن العقل الإنساني يعمل وَفْق ميكانيكيةٍ واحدة؛ وبالتالي فمن الممكن لأسطورةٍ واحدةٍ أن تنشأ في أمكنةٍ متباعدة، وربما منقطعة عن بعضها، وأعطيتُ لفعالية اللاشعور الجمعي دورًا في هذه العملية. وفيما يتعلق بالتصوُّرات الدينية والأسطورية الزراعية، فإن كل ثقافةٍ زراعيةٍ يمكن أن تُطوِّر تصوراتها وأساطيرها الزراعية الخاصة دون الحاجة إلى مؤثِّرٍ خارجي. الهم الأساسي للمزارع هو المطر وخصب الأرض ودورة الطبيعة، وتصوُّراته الدينية تكاد أن تكون محصورةً في هذه المسائل دون غيرها؛ ولذلك ترى أن الفلاحين عَبْر تاريخ الحضارة لم يكونوا يأبهون كثيرًا للآلهة البعيدة التي كانت تقيم في السماء ولا لمجمع آلهة المدن، بقَدْر ما كانوا يأبهون للقوى الفاعلة في الطبيعة، والتي من شأنها ضمان محاصيلهم، ودفع غائلة الجوع عنهم؛ ولذلك فقد تأخر دخول الشرائح الاجتماعية الفلاحية في أديان التوحيد عن سكان المدن، وعندما دخلوا حولوا آلهة الخصب القديمة إلى قديسين في المسيحية، وإلى أولياء في الإسلام، وجعلوهم شُفعاءَ خصب. ومن هؤلاء القديس جورج أو جاورجيوس كما يُدعى في اللغة اليونانية القديمة ومعناه الفلاح، ويُلقَّب في أوروبا بجورج الأخضر؛ حيث يحتفلون بيومه في الثالث والعشرين من شهر نيسان/أبريل، وهو التاريخ نفسه تقريبًا الذي كانت تُقام فيه أعياد الخِصب القديمة، وفي هذا اليوم كانوا يُمارِسون طقوسًا بهيجةً معيَّنة اعتقدوا أنها تُكثر محاصيلهم وتُبارِكها. وفي بلاد الشام يُدعى القديس جورج مارجاورجيوس، وتُصوِّره الأيقونات الدينية على هيئة فارسٍ يصارع تنينًا خرافيًّا، وهو مشهدٌ مألوفٌ في الميثولوجيا السورية القديمة؛ حيث نجد الإله الزراعي بعل يقتل الحية الجبارة ذات الرءوس السبعة.

وقد انتقلت هذه الشخصية إلى المعتقدات الشعبية الإسلامية تحت اسم الخضر؛ أي الرجل الأخضر، وهو نبيٌّ حيٌّ محجوب عن الأنظار إلى يوم القيامة، ولكنه يظهر في بعض الأحيان لكي يمُد يد العون للبشر، وفي المكان الذي يظهر فيه يُبنى له مَزارٌ يؤمُّه الفلاحون من أجل الحصول على البَرَكة والشفاء، ويُصوِّره القصص الشعبي ورواياتُ الإخباريين جالسًا على طنفسةٍ خضراءَ فوق سطح الماء متشحًا بثوبٍ أخضر، فإذا مشى نبت العشب تحت قدمَيه. وفي فلسطين كان الفلاحون إلى عهدٍ قريب ينادونه إذا تأخَّر المطر قائلين: «يا سيدي خضر الأخضر اسقِ الزرع الأخضر، يا سيدي خضر إلياس اسقِ الزرع اليباس.» وهنالك شخصيةٌ ميثولوجيةٌ زراعية أخرى اختلطَت بالخضر، وهي شخصية النبي التوراتي إلياس الذي أنزل المطر بعد احتباسه ثلاثَ سنوات، وبذلك دخل في زمرة القديسين الزراعيين. وبما أنه لم يمت بل رفعَه الله إليه على ظهرِ مركبةٍ ناريةٍ هبطَت من السماء، فقد صار شبيهًا بالخضر النبي الحي الذي لا يموت. وهناك عادةٌ متَّبعةٌ في جميع أنحاء بلاد الشام، وهي غرس نباتٍ دائم الخضرة طيب الرائحة يُدعى «الآس» فوق قبور الموتى، واسم هذا النبات مشتق من اسم إلياس. ومن الجدير بالذكر أن شخصيات هؤلاء القديسين الزراعيين الثلاثة قد تمازجَت في خيال الفلاحين مسيحيين ومسلمين؛ ولذلك فقد نجد المسيحيين يزورون مقامًا للخضر على أنه مارجاورجيوس، ومسلمين يزورون مقامًا لمارجاورجيوس على أنه الخضر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤