المحور الثالث

الدين والأسطورة

(س): فيما مضى من حديثك كنتَ تذكُر أحيانًا تعبير «أسطورة» أو «أساطير» وأحيانًا ميثولوجيا، ما الفرق بين التعبيرَين؟
(ج): هما شيءٌ واحد، ولكن تعبير ميثولوجيا له دلالتان؛ فهو من ناحيةٍ أُولى يدل على مجمل أساطيرِ ثقافةٍ ما، كأن نقول الميثولوجيا المصرية أو الميثولوجيا اليونانية. ومن ناحيةٍ ثانيةٍ يدُل على العلم الخاص بدراسة الأساطير. وكما نلاحظ من صيغته الإنكليزية Mythology فإنه مشتق من كلمة Myth وأصلها اليوناني هو Mytos وَفْق ما ذكرتُه في جوابٍ سابقٍ لي.
(س): وما هو أصل كلمة أسطورة أو أساطير في اللغة العربية؟
(ج): هي من السطر وهو الصف من الكلمات، وجمعها أسطر وسطور، وجمع الجمع أساطير؛ فهي والحالة هذه الخط والكتابة؛ ولذلك نقول سَطَّرَ بمعنى كَتَبَ. وقد وردَت كلمة أساطير الأولين في القرآن الكريم بمعنى أحاديث وحكايا الأولين: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا (أي محمد) فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (الفرقان: ٥)؛ ولذلك فقد استنبط المترجمون المحدَثون مفردةَ أسطورة كمعادل ﻟ Myth في اللغات الأوروبية.
(س): هل يمكننا القول إذن بأن الأسطورة هي من حيث المبدأ حكاية أو قصة؟
(ج): هذا صحيح.
(س): ولكن كلما ذكَرتَ الأسطورة كان ذكركَ لها مترافقًا مع الدين، فهل هما من طبيعةٍ واحدة؟
(ج): هذا يقودنا إلى الحديث عن بِنية الدين ومكوناته. إن النظرة الفاحصة على تاريخ الدين وجغرافيته تكشف لنا عن بِنيةٍ موحَّدةٍ للدين في أي مكان أو زمان. وهذه البِنية تتألف من عددٍ المكونات الرئيسية هي: (١) المعتقَد. (٢) الطقس. (٣) الأسطورة. فالمعتقَد هو مجموعة من الأفكار التي نكوِّنها عن المجال القدسي بعد أن أحسسنا بوجوده ولمسنا آثاره من حولنا. وبينما تتصف عقائد الديانات البدائية بالبساطة وقلَّة ما تحتويه من أفكار، فإن عقائد الديانات العُليا تتصف بالتعقيد والتركيب وكثرة ما تحتويه من أفكار، كما هو الحال في الأديان الواسعة الانتشار في العالم؛ مثل البوذية، والمسيحية، والإسلامية.

ولكن الأفكار التي نَصُوغها عن المجال القدسي لا تصنع دينًا إلا عندما تدفعنا إلى سلوك وإلى فعل، فننتقل من التفكير في المجال القدسي إلى اتخاذ مواقفَ عمليةٍ منه، وهذا ما يفعله الطقس. والطقس هو سلسلةٌ مرتَّبةٌ من الأفعال والصيغ الكلامية المصحوبة أحيانًا بالرقص والموسيقى، تُؤَدَّى بشكلٍ جماعيٍّ في أوقاتٍ معينة، أو كلما دَعت إليها الحاجة. وفي عصر الآلهة أُضيفت إليها الأدعية والصلوات والقرابين أو حلَّت محلها. هذا الطابع الجمعي للطقس هو الذي يُرسِّخ المعتقد عند الجماعة، ويعطيها الإحساس بالوحدة والانسجام. وفي الحقيقة فإن العقيدة التي لا تُزوَّد بالطقوس والشعائر تبقى في نطاق الفلسفة بسبب افتقارها إلى نظامٍ طقسيٍّ يُحدِث صلةً مع القوى التي آمن العقل بوجودها.

أما الأسطورة فإنها نوع من الأدب، وربما كانت أقدم أنواع الأدب. إنها قصة تحكمها مبادئ السرد القصصي من حبكة وعقدة وشخصيات وما إليها، ولكنها ليست قصةً دنيويةً مما يتداوله أفراد الجماعة في مجالسهم، بل قصة مقدَّسة لا تُتلى إلا في مناسباتٍ دينيةٍ معيَّنة. أما شخصياتها فتنتمي إلى المجال القدسي، وهي لا تتطرق إلى الإنسان إلا في علاقته بالشخصيات الماورائية؛ وبالتالي فإن موضوعاتها تقتصر على المسائل الكبرى؛ مثل: خلق العالم، وأصل الإنسان، والموت، والحياة، والعالم الآخر وما إليها. من هنا فإن الفرد إذا كان حُرًّا في تصديق أو عدم تصديق أي قصة تُروى له، فإنه يشعر وهو يستمع إلى الأسطورة برهبةٍ تدفعُه إلى تصديقِ كل ما ترويه له.

(س): هل نستطيع القول إذن بأن الطبيعة القدسية للأسطورة هي المعيار الرئيسي في التعرُّف على النص الأسطوري؟
(ج): هذا صحيح؛ فعلى النص الذي تنطبق عليه الصفة الأسطورية أن ينتمي إلى منظومةٍ دينيةٍ بعينها، أما النص الذي ينشأ ويعيش خارج أي منظومةٍ دينيةٍ فهو نصٌّ دنيويٌّ ينتمي إلى أحد الأجناس الشبيهة بالأسطورة؛ مثل: الحكاية الخرافية، والحكاية البطولية، والقصة الشعبية.
(س): حسنًا، لقد وصفنا النص الأسطوري، ولكن دعنا نتحدَّث عن آلياتِ عمله وأبرزِ وظائفه.
(ج): تعمل الأسطورة على اختزال تجربتنا مع العالم الموضوعي، ثم إعادة تقديمه إلى الوعي بعد أن تمَّ تفسيره وترتيبه. وفي الحقيقة فإن كُلًّا من الفلسفة والعلم يقوم بالمهمة ذاتها، ولكن بينما يلجأ هذان إلى العقل التحليلي الذي يُجزِّئ العالم ثم يُعيد تركيبه من أجل فهمه، معتمدًا في ذلك على البرهان العقلي بالنسبة للفلسفة، والبرهان التجريبي بالنسبة للعلم؛ فإن الأسطورة تضع الإنسان بكليته في مواجهة العالم وبجميع ملكاته العقلية والحدسية، الشعورية واللاشعورية، وتستخدم كل المجازات الممكنة من أجل صياغة رؤيةٍ متكاملةٍ لهذا العالم ذاتِ طابعٍ كُلَّانِي يعادل تجربة الإنسان الكُلانية وغير المُتجزِّئة معه.
(س): أعتقد أنني بدأتُ لا أفهم!
(ج): حسنًا، إن كُلًّا من العلم والفلسفة والأسطورة يستجيب على طريقته لمطلب النظام؛ أي لمطلب أن يعيش الإنسان ضمن عالمٍ مفهومٍ ومرتَّب، وأن يتغلَّب على حالة الفوضى الخارجية التي تتبدَّى للوعي في مواجهته مع الطبيعة؛ فالفلسفة تُنتِج نظامًا من المفاهيم التجريدية المترابطة يدَّعي تفسير العالم، والعلم بدوره يُنتِج نظامًا من المبادئ والقوانين التي يعتمد بعضها على بعض، وتنتهي بترميز العالم في بِنًى رياضية. وفي مقابل هرم نظام المفاهيم الفلسفية وهرم نظام القوانين الرياضية، فإن الأسطورة تعتمد من جانبها على خلق نظامٍ قوامه الآلهة والقوى الماورائية التي يعتمد بعضها على بعض في هرمية للأسباب والنتائج؛ فهي تؤنسن الكون حين تبُثُ فيه عنصر الإرادات الإلهية الفاعلة، وترى في كل ظاهرةٍ موضوعيةٍ نتاجًا لإرادةٍ ما؛ أي إنها تصنع صورةً لكونٍ حيٍّ لا يقوم على ميكانيكياتٍ متبادَلة التأثير، بل على إراداتٍ وعواطفَ تتبدَّى في شكلٍ حركي. وهي في سعيها لخلق هذه الصورة تعتمد على خزَّان لا ينضب مَعينه من وسائل الترميز، وتفتح البوابات بين الوعي واللاوعي؛ ولذلك فإن مُتلقِّي الأسطورة لا يشعر بأنه أضاف إلى معارفه شيئًا جديدًا، وإنما غدا أكثر توافقًا مع نفسه ومع العالم؛ لأن ما تنقله الأسطورة من معانٍ لا يشبه الوقائع والمعلومات، إنه إيحاء لا إملاء وإشارات لا تعليم وتلقين. وهي في سعيها هذا تلجأ إلى استخدام الظلال السحرية للكلمات أكثر من مدلولاتها المباشرة.
(س): فيما يتعلق بهذه الخصيصة الأخيرة، أرى أن الأسطورة تقف إلى جانب الشعر!
(ج): وأكثر من ذلك؛ فالشعر هو وليد الأسطورة، وقد شقَّ لنفسه طريقًا مستقلةً بعد أن أتقن عن الأسطورة ذلك التناوب بين التصريح والتلميح، وبين الدلالة والإشارة، وبعد أن تعلَّم منها كيف يمكن للغة السحرية أن تقول من دون أن تقول، وأن تُشبعك بالمعنى دون أن تقدِّم لك معنًى دقيقًا ومحددًا، وذلك من خلال رسالةٍ كُلانيةٍ غير تفصيلية؛ ولهذا السبب يرى أفلاطون في كتابه «الجمهورية» ضرورة استبعاد الشعراء من المدينة الفاضلة؛ لأن السماح بالشعر يعني إفساح المجال وفتح الطريق أمام الأسطورة.
(س): دعنا الآن نختبر معاييرك التي وضعتَها من أجل التعرُّف على النص الأسطوري. إلى أي حدٍّ تنطبق تلك المعايير على أسطورةٍ مثلِ أسطورة أوديب اليونانية المعروفة على نطاقٍ واسعٍ بسبب ما أعطتها مدرسة التحليل النفسي من تفسيرات؟ وما هي الفكرة الدينية الكامنة وراءها؟
(ج): على الرغم من أن أسطورة أوديب تنتمي إلى الموروث الثقافي اليوناني، إلا أنها تقوم على فكرةٍ دينيةٍ موجودة في الثقافة اليونانية وفي أكثر من منظومةٍ دينية، وهي فكرة القضاء والقدر؛ فأوديب كان محكومًا عليه بأن يقتل أباه ويتزوَّج من أمه، وعندما علم بهذا القدَر حاول الهرب منه دون جدوى إلى أن قتل أباه وهو لا يعرفه، وتزوَّج من أمه وهو لا يعرف أنها أمه.

وفكرة القضاء والقدَر موجودة في الإسلام أيضًا، وهي من أركان الإيمان؛ حيث على المسلم أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدَر خيره وشره من الله تعالى. وفي القرآن الكريم أكثر من آية في موضوع القدَر ومنها: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا (التوبة: ٥١). و: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ (الحديد: ٢٢).

وفي الثقافة الصينية نجد مثل هذه الفكرة في كتاب التغيرات (آي تشينغ)؛ فإضافة إلى مفهوم التغيُّر الدائم الذي يجري على خلفيةٍ ثابتة، هنالك مفهومٌ شبيهٌ بمفهومِ عالم المُثُل عند أفلاطون؛ فكل حادثٍ في المستوى المرئي للعالم يحصل بتأثير صورة أو فكرة في المستوى غير المرئي؛ وعليه فإن كل ما يجري على الأرض هو نسخةٌ لاحقةٌ زمنيًّا عن أمرٍ جرى في مستوًى يقع خارج إدراكنا الحسي. والحكيم الذي يكون متواصلًا مع المستوى الخفي للوجود يُتاح له الاطلاع على تلك الصور والأفكار من خلال حَدْسه المباشر، ويصبح في وضعٍ يسمح له بالتدخُّل في الأحداث الجارية في العالم.

ومن ناحيةٍ أخرى، فقد اعتقد الفلاسفة الصينيون بالقَدَر الذي عبَّرَت عنه اللغة الصينية بكلمة «مينغ» وهو الشيء الذي لا يستطيع الإنسان السيطرة عليه أو تغييره. وقد عالج كونفوشيوس موضوع القدَر ولا سيما في كتاب «المحاورات» وأشار إليه بصيغة «تيان مينغ» أي القضاء السماوي. ومن أقواله فيه: «إن الحياة والموت يعتمدان على السماء؛ ولذلك ما علينا سوى أن نعمد إلى تقويم أنفسنا ونترك القدَر يأخذ مجراه.»

هذا جوابي على سؤالك المتعلق بأسطورة أوديب اليونانية، ولكن يتوجَّب عليَّ القول طالما أنكَ أثرتَ مسألة الميثولوجيا اليونانية، بأن كثيرًا من القصص المتوارثة عن الثقافة اليونانية والتي يضعها الباحثون في الميثولوجيا اليوم في زمرة الأساطير ليست في واقع الحال كذلك.

(س): هل في ذهنك بعض الأمثلة على مثل هذه القصص؟
(ج): تلك الحكايا التي تدور حول الأبطال الخرافيِّين؛ مثل: بيرسيوس، وجيسون، وتيسيوس؛ فلقد قام بيرسيوس مثلًا بقتل المرأة الأفعى ميدوزا التي تُحوِّل الرجال بنظرتها إلى حجارة، ثم قام برحلة إلى إثيوبيا حيث أنقذ العذراء إندروميدا المقيدة أمام تنينٍ هائلٍ قربانًا له، وأعمالٌ بطولية أخرى من هذا القبيل. مثل هذه القصص ينبغي لنا تصنيفها في زُمرة الحكايات الخرافية، ونموذجها في الأدب الشعبي العربي قصة سيف بن ذي يزن والأميرة ذات الهمة.
(س): لنكن الآن أكثر تخصيصًا وتحديدًا فيما يتعلق بالطريقة التي تعمل بها الأسطورة على خدمة الدين.
(ج): تنشأ الأسطورة عن المعتقد الديني وتكون بمثابة امتدادٍ طبيعيٍّ له؛ فهي تعمل على توضيحه وإغنائه، وتزوِّده بذلك الجانب الخيالي الذي يربطه إلى العواطف والانفعالات الإنسانية، كما تعمل على تزويد فكرة الألوهة بألوان وظلالٍ حيَّة؛ لأنها ترسمُ للآلهة صورهم وشخصياتهم، وتُعطيهم الصفات والأسماء والألقاب، وتكتبُ لكلٍّ منهم تاريخه وسيرته الذاتية، وتحدِّد علاقات بعضهم ببعض.

إن الخبرة الدينية ليست من حيث الأساس خبرةً عقلية بقدْر ما هي خبرةٌ عاطفيةٌ انفعالية؛ ولذلك فإنها لا تتطلَّب البرهان ولا تتطلَّع إليه، وإنما تتطلب معادلًا موضوعيًّا يعكسها إلى الخارج من خلال ميثولوجيا تجعل التجربة الدينية مشتركةً مع الآخرين. وهنا تعمد الأسطورة إلى استنفاد القوى السحرية للغة من أجل التعبير عن خبرةٍ كُلانيةٍ بالقدسي لا تنفع في توصيلها مفردات اللغة المستمدة من التجربة اليومية. وهذا ما يفسر لنا لماذا لم يعمد كُهَّان الديانات القديمة وأصحاب الرسالات الدينية إلى مخاطبة الناس بصيغة البرهان وإنما بصيغة البيان. إن الاستماع إلى بضع آياتٍ من كتابٍ مقدَّسٍ تُغني المؤمن عن قراءة مئات الصفحات التي تُخاطِب عقله بالمنطق والبرهان، ومن هنا تأتي تلك المناعة التي أظهرها الدين حتى الآن أمام النقد رغم لامعقولية تعبيراتِه الرمزية.

(س): هل تلعب الأسطورة الدور نفسه في الأديان التوحيدية؟
(ج): لا يُوجد دين بدون أساطير تعمل على توضيح المعتقد وإغنائه، فإذا وُجدَ مثل هذا الدين فإن أتباعه سوف يبحثون عاجلًا أم آجلًا عن أساطيرَ تَروي عندهم تلك الحاجة المتأصِّلة في النفس الإنسانية إلى الأسطورة. ومثالنا الحي على ذلك البوذية؛ فالبوذية في حلَّتها الأصلية التي صاغها سيدهارتا غوتاما كانت مجردةً من الأساطير لأنها كانت ديانةً بدون آلهة، وكان البوذا يصرف أذهان تلاميذه عن المسائل الميتافيزيكية التي كانوا يسألونه بشأنها، ويركِّز لهم على الهم الأساسي للبوذي، ألا وهو التحرُّر من هذا العالم المادي، ومن إسار دورة الميلاد والموت بقُوى الإنسان الشخصية؛ لأن الآلهة إذا وُجدَت فلن تستطيع مد يد المساعدة إليه، ولكن هذه الصيغة من البوذية لم تَبقَ على حالها، وجاء معلمون بوذيون فقالوا إن البوذا كان يعلم سرًّا أنه ليس على الإنسان أن يُخلِّص نفسه، وإنما يمكن له الحصول على المساعدة. وهكذا بدأَت بالظهور بوذيةٌ جديدةٌ هي بوذية سُميت بالماهايانا؛ أي المركبة الكبرى؛ لأنها صارت قادرة على تخليص أعدادٍ كبيرةٍ من الأرواح، أما البوذية الأصلية فقد دُعيت بالهينايانا؛ أي المركبة الصغرى؛ لأنها لم تكن تصلُح إلا لتخليص نُخبة من الناس. وهكذا صار الكون حتى حدوده الخارجية مشبعًا بالكائنات الماورائية الحانية التي تستطيع مد يد العون إلى البشر، وعادت الأدعية والصلوات إلى البوذية بعد أن كانت بلا فائدة، وجرى إمداد الأتقياء بالرسوم الجدارية والمنحوتات لكي يسجدوا أمامها ويتضرَّعوا إليها، ولم يعُد الخلاص أمرًا يمكن تحقيقه بالجهد الذاتي فقط.
(س): ما نوع الأساطير التي نجدها في الديانات التوحيدية؟
(ج): لدينا أساطيرُ رئيسية وأخرى ثانوية؛ فمن الأساطير الرئيسية هنالك أسطورة الخلق والتكوين، وجنة عدن، وعصيان الإنسان الأول وسقوطه، وتمرُّد الملاك إبليس وتحوُّله إلى شيطان، ويمكن اعتبار مشاهد اليوم الأخير والجنة والنار بمثابة أساطيرَ تعليميةٍ تهدف إلى تزويد المعتقد بصورةٍ حيةٍ نابضة. ومن الأساطير الثانوية التي تُروى عن مسيرة التاريخ البشري لدينا أسطورة الطوفان الكبير، وقصص الأنبياء، وما جرى لهم مع أقوامهم، وتدمير المدن العاصية التي لم تستجب لرسالة الأنبياء.
(س): هل هنالك من أسطورةٍ مركزيةٍ بين ما ذكرتَ؟
(ج): بالتأكيد؛ فأسطورة التكوين في كل المنظومات الميثولوجية هي أم الأساطير.
(س): لماذا؟ ومن أين تأتي أهميتها؟
(ج): لأنه مع فعل الخلق يبدأ تاريخ الألوهة وتاريخ الإنسان، أما ما سبق ذلك فقد كانت الألوهة في حالةٍ أشبهَ بالعدم لأنها لم تكن تفعل شيئًا؛ ولهذا سُئل نبي الإسلام من قِبَل أحد صحابته: «أين كان الله قبل أن يخلق خلقه؟» فأجاب: «كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء، وخلق عرشه على الماء.» ولدينا حديثٌ قدسي (أي المتكلم فيه هو الله) يتداوله الصوفية بشكلٍ خاصٍّ يقول: «كنت كنزًا مخفيًّا لا أُعرف، فخلقتُ الخلق، فبه عرفوني.» أي إن الألوهة المتسربلة بالأبدية لا تُعلِن عن نفسها إلا عند دخولها في الزمن وفي تاريخ الكون والإنسان، وذلك مع قيامها بفعل الخلق الذي مد المكان وأطلق الزمان. إن فعل التكوين الذي أظهرَت الألوهة من خلاله كل ما عداها، هو الذي أخرجها من حالة الكمون في الأزلية الساكنة إلى حالة الوجود والفعالية. وهي بإظهارها ما عداها قد أظهرَت نفسها بالمقابل؛ ولهذا يضع الصوفي عبد الكريم الجيلي على لسان الحق قولَه لِوليِّه: «لا تتقيد باسم العبد؛ فلولا العبد ما كان الرب. أنتَ أظهرتَني كما أنا أظهرتُك». كتاب الإنسان الكامل.
(س): وهل هذا يعني أن الإله الخالق كان قبل الخلق وجودًا افتراضيًّا؟
(ج): هذا إذا فسَّرنا الوجود الافتراضي بأنه حالة من عدم الفعالية؛ فالإله الأزلي القابع وراء الزمن الجاري موجود في ذاته ولذاته، وهو لا يباشر وجوده الفعلي إلا عندما يبتدر الزمن ويُعلِن عن فعاليته فيه؛ ولهذا يمكن أن نقول بأن الأسطورة لا تتشكَّل عندما يُكَوِّن الإنسان في ذهنه صورًا للآلهة، بل عندما يعزو إلى هذه الآلهة بدايةً محدَّدةً في الزمن، وعندما تُباشِر فعاليتها في سياقٍ زمني. وهنا يتحوَّل الوعي الإنساني من فكرة الألوهة إلى تاريخها.
(س): الدخول في التاريخ يعني أن الميثولوجيا سوف تُتابع سرد تاريخ الألوهة وتشابُكَه مع تاريخ الإنسان.
(ج): وهذا ما يقوم به التاريخ الميثولوجي، أو التاريخ المقدَّس كما أدعوه، عندما يكشف عن فعاليات الكائنات الماورائية في الأزمان الميثولوجية الأولى، وما نَجَم عنها في عالم الطبيعة والإنسان. إن كل ما يجري في العالم المنظور ينشأ عن بوادرَ أولى متجذِّرة في الزمن الأسطوري، زمن الأصول؛ فالجنس البشري محكوم عليه بالكدِّ والمشقَّة في تحصيل معاشه؛ لأن الآلهة خلقَته لكي يحمل عنها عبء ما كانت تقوم به من أعمالٍ لتحصيل قوتها، على ما تقوله لنا أسطورة أتراحاسيس ونصوصٌ بابليةٌ أخرى. أو لأن الله قال لآدم: «ملعونة الأرض بسببك، بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك.» على ما يقوله لنا سِفر التكوين في التوراة، والمؤسسات الاجتماعية المختلفة مثل الملوكية الوراثية والكهنوت موجودة لأنها نزلَت من السماء على ما نعرفه من أسطورة آدابا وأسطورة إيتانا والنسر البابليتَين، والمرض حل بجسم الإنسان بسبب خطيئة الإله إنكي، على ما نعرف من أسطورة إنكي وننخرساج، وصار الموت محتَّمًا على الإنسان بسبب خطيئة ارتكبها الإنسان الأول، على ما نعرف من أسطورة آدابا البابلية وأسطورة آدم وحواء، والشر دخل في نسيجِ خلقِ الله الحسَن بسبب تمرُّد ملاك في السماء على خالقه وتحوُّله إلى شيطان … إلى آخر ما هنالك من أفعالٍ وأحداثٍ قادت إلى تكوين الصورة الحالية لعالم الإنسان.
(س): وهل يعني هذا أن الأسطورة هي نوع من التاريخ، من حيث إنها تُشبِع عند الإنسان ذلك التوقَ إلى معرفة أصول وجذور الأوضاع الراهنة؟
(ج): إن الأسطورة والتاريخ هما بمثابة وسيلةٍ يفهم منها الإنسان نفسه ويعي شرطه، وتوقُنا الآن إلى قراءة وفهم التاريخ يصدُر عن الدافع نفسه الذي كان يدفع أسلافنا إلى الاستماع إلى الأساطير، ولكن ما يميِّز هاتَين المنظومتَين عن بعضهما هو أن الفكر الحديث أحلَّ أفعال الإنسان وقوانين التطوُّر محل مشيئة وأفعال الآلهة كمُحرِّك للتاريخ؛ أي إنه استبدل التاريخ المقدس بالتاريخ الدنيوي.
(س): نحن نعرف ما هو التاريخ الدنيوي وكيف نشأ، ونعرف عن آلياته، ولكن ما هي آليات التاريخ المقدَّس؟
(ج): كان لدى الإنسان القديم، كما لدى الإنسان الحديث، رغبة في الاحتفاظ بنوع من الذاكرة الجمعية التي تعطي وجوده في هذا العالم معنًى ومغزًى. وبدون هذه الذاكرة التي نسجَتْها له الميثولوجيا يصير إلى حالةٍ أشبه بالموت؛ لأن نسيان الماضي هو نوع من الموت؛ فالموت نسيان، والموتى الهابطون إلى العالم الأسفل في الميثولوجيا اليونانية يشربون في طريقهم من نبعٍ يُدعى نبع النسيان لكي يقضوا الحياة الأخرى بدون ذاكرة؛ أي بدون تاريخ. غير أن ما يفرق الذاكرة الجمعية الأسطورية عن الذاكرة الجمعية التي يصنعها علم التاريخ هو محتوى كلٍّ منهما؛ فالتاريخ الأسطوري لا يَحفِل بغير الأحداث الناجمة عن عمل الآلهة، أو عن تداخُل عالم الآلهة بعالم البشر. أما الأحداث الدنيوية، وأما أعمال الإنسان، فلا قيمة لها ولا تستحق الجمع والحفظ، فإذا قُيض لحادثةٍ أو شخصيةٍ ما أن تخلُد في الذاكرة فإن ذلك لن يأتي إلا عن طريق أسطرتها وارتفاعها من مستوى الواقع إلى مستوى الحدث الميثولوجي؛ فملوك اليونان القدماء مثل يوليسيس وأغاممنون ومينيلاوس، لم تصل أخبارهم أسماع الإغريق إلا بعد أن ألبسَتْهم الإلياذة حُلَّةً ميثولوجيةً أصيلة. والشيء نفسه ينطبق على جلجامش السومري والملك آرثر وفرسان المائدة المستديرة لدى الأنكلوساكسون.
(س): هل تعني أن الإنسان كان غافلًا عن دوره في تاريخ الحضارة؟
(ج): هذا شيءٌ غريبٌ بالفعل ولكنه صحيح. لقد عزا الإنسان إلى الآلهة في الميثولوجيا الرافدينية كل منجزاته الحضارية وابتكاراته التكنولوجية التي قادت عملية الارتقاء والتقدم؛ فالإله، لا الإنسان، كان أول راعٍ وأول فلَّاح، وأول من دجَّن الحيوان وحلب البقر وصنع الزبدة والجبن، وأول من طحن القمح وخبز الخبز، وأول من صنع المحراث والمِعوَل. ولقد مضى دهرٌ على الآلهة وهم يقومون بكل الأعمال اللازمة لتأمين قوَّتهم إلى أن جاء وقتٌ قرَّروا فيه خلق الإنسان لكي يحمل عبء العمل عنهم ويخلدوا هُم للراحة.
(س): هل يُعقل أن ذلك الإنسان الذي صنع الثورة النيوليتية، أول ثورةٍ حضاريةٍ شاملة في التاريخ، كان جاهلًا بما فعل؟
(ج): وأكثر من ذلك؛ فقد كان جاهلًا بأنه صنع الثورة الثانية، وأعني بها الثورة المدينية، ولم يكن يعرف الكثير عن أصل وتطوُّر ونُمو المدن التي بناها أسلافه في ماضٍ قريبٍ إليه، واعتقد بأن مُدنَه التي يسكنها قد بنتها الآلهة في سالف الأزمان. والإشارات الموجودة في النصوص المشرقية حول هذا الموضوع عديدة؛ فمدينة نيبور السومرية بناها الإله إنليل، ومثلها أوروك التي يصفها مطلع ملحمة جلجامش بأنها صنعةُ يد الآلهة، ومثلها أيضًا إيريدو التي بناها الإله إنكي، وبابل العظيمة التي بناها الإله مرودخ.
(س): وماذا عن الأعمال التي كان الإنسان يُنجِزها في زمنه لا في أزمان الأصول الأولى؟
(ج): إذا كان للإنسان بعد ذلك أن يباشر بنفسه أي عملٍ إبداعيٍّ مهم، فإن الآلهة هي التي تأخذ بيده وتُرشِده إلى كيفية تحقيقه؛ فالملك السومري غوديا بَنى في مدينته لجش معبدًا وَفْق تصميمٍ أطلعَته عليه الإلهة نيدابا في الحُلم، والملك الآشوري بَنى مدينة نينوى وَفْق هيئةٍ مرسومةٍ في القبة السماوية منذ الأزمنة الأولى، والملك داود تلقَّى من الرب تصميمَ هيكلِ أورشليم (سِفر أخبار الأيام الأول)، وعلى هذا التصميم اعتمد ابنُه سليمان في تنفيذ المشروع. يُضاف إلى ذلك أن الآلهة السومرية كانت تحتفظ بمجموعةٍ من الألواح الفخَّارية أو الرُّقُم تُدعى مي/Me دُوِّنَت عليها نواميس الحضارة، وهذه النواميس عبارةٌ عن النماذج السماوية التي تجعل كل إنجازٍ حضاريٍّ على الأرض ممكنًا. وقد كانت هذه الألواح موجودةً في حوزة إنكي إله مدينة إيريدو، أول مكانٍ مُتحضِّرٍ في سومر، وعندما أرادت إنانا إلهة مدينة أوروك أن تنقل تقاليد الحضارة إلى مدينتها سافرَت إلى إيريدو حيث استقبلها إنكي وصنع لها وليمةً وراح الاثنان يشربان البيرة، وعندما لعبَت الخمرة برأس إنكي راحت إنانا تطلب منه إعطاءها نواميس الحضارة واحدًا بعد آخر وهو يلبِّي لها ما تطلب، إلى أن حازتها جميعًا وسافرَت بها إلى أوروك، قبل أن يصحو إنكي من سكرته. ومن هذه النواميس وعددُها أربعون نذكُر الآتية: الكهنوت الأعلى، التاج النبيل، الملوكية، قضيب وحبل قياس المسافة، الخنجر والسيف، فن الجيش، أدوات الموسيقى، الغناء، بيوت السكن، حرفة الخشب، حرفة النحاس.
(س): إن هذا المصدر السماوي لكل إبداعٍ يُذكِّرني بأننا ما زلنا ننسب كل فكرةٍ إبداعيةٍ إلى إلهامٍ خارجي.
(ج): ولهذا كان الإغريق ينسبون كل إبداعٍ أدبيٍّ أو فني يصدُر عن الإنسان إلى ربَّات الفنون والموسيقى اللواتي كُنَّ يُلهِمن الشعراء والرسامين والنحاتين، وكان العرب أيضًا ينسبون كل إبداعٍ شعريٍّ إلى جنيات وادي عبقر اللواتي كُنَّ يُلهِمن الشعراء، ومن هنا جاء تعبير العبقري الذي يدُل على الشخص الفائق للإبداع والمتواصل مع منبع الحكمة الخفي. هذه الحكمة أوجدها الله قبل أن يكون هناك سماء وأرض وكانت له بمثابة وسيط للخلق، على ما نقرأ في كتاب التوراة: «ومنذ ذلك الحين هي موجودة في حضرته واقفة قدَّامه» (سفر الأمثال: ٨). والله يَمُنُّ بالحكمة على من يشاء؛ ولذلك عندما قال للملك سليمان أن يطلب منه شيئًا لم يطلب سليمان إلا أن يُعطيَه ربُّه الحكمة: «ففاقت حكمة سليمان حكمة جميع بني المشرق وكل حكمة مصر» على حدِّ تعبير سفر الملوك الأول (٣). وفي القرآن الكريم نجد أن الحكمة هي هبةٌ من عند الله يزوِّد بها أنبياءه والصالحين من عباده: وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ (البقرة: ٢٥١). وأيضًا: وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ (النساء: ١١٣). وأيضًا: ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ (الإسراء: ٣٩). وهذه الحكمة التي تلقاها الرسول سوف ينقلها بدوره إلى الناس: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (البقرة: ١٥١).
(س): هذا التركيز على التاريخ المقدَّس هل جعل الإنسان القديم بدون ذاكرةٍ دنيويةٍ من أي نوع؟
(ج): إنَّ تجاهُل الإنسانِ لحقيقة ما جرى في الماضي لا يعني أن المجتمعات القديمة لم تحتفظ أبدًا بذاكرةٍ دنيوية، ولكن هذه الذاكرة الدنيوية في حال وجودها لم تلعب دورًا في مساعدة الإنسان على فهم حاضره باعتباره نتاجًا لأفعاله ومنجزاته الماضية؛ فالعبرة ليس بما نحفظه عن الماضي، بل في المعنى الذي نُسبِغه على ذلك الماضي، وفي القيمة التي نُعطيها له، وفي أثَر ما نتذكَّره من أفعالٍ على حركة التاريخ.
(س): متى استقل التاريخ عن الأسطورة؟
(ج): جاء استقلال التاريخ عن الأسطورة في غمرة الصراع الذي حصل في الثقافة اليونانية بين الفلسفة والأسطورة. ونجَم عن ذلك ظهورُ المؤرخين الأوائل من أمثال هيرودوتس وتوسيديد، ولكن هذا الاستقلال لم يحدُث دفعةً واحدة؛ لأن المؤلَّفات التاريخية الأولى بقيَت إلى هذا الحد أو ذاك متأثرةً بأسلوب القص الميثولوجي، لا سيما عند هيرودوتس الذي اعتمد أسلوبه في الكتابة التاريخية على ما يسمعه من قصصٍ يُوردُها دون تدقيق أو تمحيص. وبعد ذلك ظهر في ثقافة الشرق القديم مؤرِّخون باشروا نوعًا من الكتابة التاريخية المستقلة عن الأسطورة؛ مثل بيروسوس (برغوشا) البابلي الذي أنجز مؤلَّفًا عن تاريخ بابل، وفيلو الجبيلي الذي أنجز مؤلَّفًا عن تاريخ الفينيقيين، ومانيتو المصري.
(س): واليوم وبعد هذه المسيرة التي قطعها جنس الكتابة التاريخية، هل يمكننا القول بأن التاريخ قد حقَّق استقلاله تمامًا عن الأسطورة؟
(ج): ما زال بينهما ما يُشبِه «شعرة معاوية» التي لم تنقطع؛ فحتى أواسط القرن العشرين كان المنقِّبون الآثاريون (مسيحيين كانوا أم يهودًا) يأتون إلى فلسطين وهم يحملون معول التنقيب بيد، وكتاب التوراة (أو العهد القديم المسيحي) باليد الأخرى، ولم يكن جهدُهم منصبًّا على الكشف عن معلوماتٍ آثاريةٍ جديدة، وإنما على إثبات المرويات التوراتية. وعندما تمَّ اكتشاف مدينة إيبلا التي ازدهرَت في الشمال السوري أوساط الألف الثالث قبل الميلاد، وأُحيلَت رُقُمُها الكتابية إلى عالِم اللغات القديمة الإيطالي بيتيناتو، خرج هذا العالِم من قراءاته الأولى بنظريةٍ تَعقِد صلةً بين رُقُم إيبلا وكتاب التوراة. الحالة اليوم أفضل بكثير؛ فالآثاريون التوراتيون لم يعثُروا على أثَرٍ لداود وسليمان أو مملكة كل إسرائيل التوراتية، كما لم يعثُروا على حجرٍ واحدٍ من هيكل سليمان المزعوم، وهناك من علماء الآثار الإسرائيليين من يطالب اليوم بوضع التوراة على الرف عند كتابة تاريخ فلسطين أو التنقيب في أرضها. أما بيتيناتو فقد خسر سمعته الأكاديمية واضطُر إلى الاعتذار بعد سنواتٍ عن آرائه المتعجِّلة الأولى، ولكننا ينبغي أن نبقى دائمًا على حذر؛ لأن نوعًا من النزوع الأسطوري يبقى كامنًا وراء عمل المؤرِّخين من جهة، ووراء فَهمِ قُراء التاريخ لما يقدَّم إليهم من مادة؛ لأن «شعرة معاوية» لم تنقطع بعدُ.
(س): وماذا عنا نحن العرب؟ هل توصَّلنا إلى نزع الأسطرة عن التاريخ؟
(ج): ليس بعدُ؛ فمن ناحيةٍ أولى نحن ننتمي إلى زُمرة الأمم المستضعفة التي لم تشارك حتى الآن في صنع العالم الذي نعيشه، وفي محاولتها لتعويض شعورها العارم بالنقص فإنها تلجأ إلى استعادةٍ استيهاميةٍ لعصورها الذهبية الماضية. ومن ناحيةٍ ثانية، وعلى غرار الحركات القومية الأوروبية في القرن العشرين، فقد نشأ لدينا مشروعان قومِيَّان هما المشروع القومي العربي والمشروع القومي السوري، وقد شارك هذان المشروعان المشاريع الأوروبية في هوَسِها التاريخي، وتحوَّل التاريخ من عملية استقصاءٍ موضوعيٍّ للماضي إلى سرديةٍ رومانسيةٍ عن ذلك الماضي، ورُحنا نقرأ التاريخ على ضوء الحاضر وليس العكس.
(س): ما الفرق بين الهَوَس التاريخي والعناية الجدِّية بالتاريخ؟
(ج): في الهوس التاريخي نحن نُعيد بناء التاريخ وفقًا لأيديولوجيا مسبقة، في الوقت الذي ينبغي فيه على الأيديولوجيا أن تُبنى على أساس معرفةٍ علميةٍ موضوعية بالتاريخ.
(س): في حديثكَ السابق عن نشوء المسرح عن الطقس، وجدنا كيف تحوَّل الطقس إلى أداءٍ دراميٍّ لأسطورةٍ معيَّنة، فهل هناك من علاقةٍ وثيقةٍ بين الطقس والأسطورة؟
(ج): إن الطقس والأسطورة ينشآن عن أفكارٍ دينيةٍ مبدئية تتشكَّل لدى الإنسان من إحساسه بوجود بُعدٍ ماورائي للوجود، وهو يعبِّر عن هذا الإحساس بطريقتَين؛ الأولى سلوكيةٌ تتبدى في الطقس، والأخرى ذهنيةٌ تتبدى في الأسطورة. وعلى الرغم من العُروة الوُثقى التي تجمع بين الطقس والأسطورة، فإن كُلًّا منهما ينشأ في معزلٍ عن الآخر من حيث الأصل، وبعد ذلك قد يلتقيان وقد لا يلتقيان؛ فقد نجد طقوسًا تُمارَس دون مرجعيةٍ ميثولوجيةٍ وأساطير يجري تداولها دون طقس. وقد نجد طقسًا ينشأ عن أسطورة مثلما هو الحال في الطقوس الدورية الكبرى، أو أسطورة تنشأ عن طقس. وتنشأ الأسطورة عن الطقس عندما يفقد طقسٌ ما معناه وغاياته بمرور الأيام، ويتحوَّل إلى إجراءاتٍ غامضةٍ لا يعرف ممارسوها مدلولاتها ومضامينها. ويمكن أن أسوق شواهدَ عديدةً عن نشوء الأسطورة عن الطقس ولكني سوف أكتفي هنا بمثالٍ من الثقافة الإسلامية، وهو تفسير شعيرة السعي بين الصفا والمروة وهي من شعائر الحج في الإسلام.

فلقد ورث الإسلام عن الوثنية القديمة طقوس الحج، وأبرزها الطواف حول الكعبة سبع مرات، والسعي بين الصفا والمروة، وهما مرتفعان قريبان من الكعبة، سبع مرات، وأخيرًا الوقوف على جبل عرفة من أجل الدعاء والابتهال إلى الله. ومن بين هذه الطقوس كان طقس السعي بين الصفا والمروة أكثرها غموضًا لدى المسلمين بعد أن مارسوه طويلًا، ولكن معناه كان واضحًا لدى عرب ما قبل الإسلام؛ فعلى مرتفع الصفا كان هنالك حجرٌ مقدَّسٌ على ما يبدو لنا من مراجعة معنى كلمة صفا في القواميس العربية والتي تعني الحجر الضخم الأملس، ومثلها كلمة صفوان. ويبدو أيضًا أن على مرتفع المروة كان هناك حجرٌ مقدَّسٌ آخر؛ لأن القواميس العربية تفيدنا بأن المرو هو حجر الصوَّان ومفردها مروة، وبذلك يكون معنى السعي بين الصفا والمروة لدى الجاهليين هو تبجيل حجر الصفا، ثم الانتقال بعد ذلك لتبجيل حجر المروة، وإعادة هذه الشعيرة سبع مرات لأن الرقم سبعة كان رقمًا مقدَّسًا عند العرب، مثلما هو كذلك عند بقية الشعوب السامية.

ولكي يزيل المسلمون هذا الغموض عن طقس الصفا والمروة فقد شاعت لديهم أسطورةٌ تتعلق بهاجر زوجة إبراهيم وابنها إسماعيل؛ فقد كانت زوجة إبراهيم الأولى سارة عاقرًا ولم تُنجِب له ولدًا مدة طويلة، وعندما دخل على زوجته الثانية هاجر (في الرواية التوراتية لقصص إبراهيم كانت هاجر جاريةً لا زوجة) أنجبَت له ابنه الأكبر إسماعيل. وبعد خمس سنواتٍ أنعم الله على إبراهيمَ بولدٍ من سارة دعاه إسحاق، وعندما بدأ إسحاق يكبر خافت سارة على ميراث زوجها من أن يذهب إلى إسماعيل بدلًا من ابنها إسحاق، فطلبَت من إبراهيم أن يطرد هاجر وابنها، فحزن إبراهيم وتردَّد، ولكن وحْيًا جاء من السماء يطلب منه الرضوخ لرغبة زوجته، فأخذ هاجر وابنها وتوجَّه إلى البرِّية يبحث عن مكانٍ يتركهما فيه، وسار إلى جانبه ملاكٌ لكي يدُلَّه على هذا المكان. وكان إبراهيم كلما رأى مكانًا فيه ماء وزرع عَرَضَ على الملاك أن يترك هاجر وإسماعيل فيه، ولكن الملاك كان يرفض ذلك. وهكذا إلى أن وصل بهم إلى موقع مكة، وكانت مكانًا قفرًا ليس فيه بشر ولا زرع ولا ماء، وقال لإبراهيم إن هذا هو المكان. رضخ إبراهيم لمشيئة الله وودَّع هاجر وإسماعيل وهو يقول على ما ورَد في القرآن: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ (إبراهيم: ٣٧). لم يكن مع هاجر سوى بقيةٍ من تمر وقليلٍ من الماء في قِربتها، وعندما نفد الماء عطشَت وعطش الصبي حتى أوشك على الهلاك، فراحت تبحث عن ماءٍ هنا وهناك، وصَعدَت إلى مرتفع الصفا لكي تُلقي نظرةً إلى ما حولها، فتراءى لها سرابٌ على المروة ظنَّته ماء، فانطلقَت مسرعة وارتقت إلى هناك ولكنها لم تجد ماءً، ثم إن سرابًا تراءى لها على الصفا فظنَّته ماءً فانطلقَت مسرعةً وارتقت إلى هناك، ولكنها لم تجد ماءً، ثم تكرَّر معها هذا الوهم سبع مراتٍ وهي تروح وتجيء بين الصفا والمروة، وعندما يئسَت عادت إلى الطفل فرأت الماء ينبجس من تحت قدمَيه، فراحت تجمعه بكفَّيها وهي تقول زُم زُم؛ أي ضيِّق فوُّهتَك، وشربَت وسقت ابنها؛ ولذلك دُعي بئر مكة بزمزم. هذه هي الأسطورة الإسلامية التي نشأَت عن طقسٍ قديمٍ نُسيَت أصوله.

(س): عندي هنا ملاحظة أودُّ التوقُّف عندها، وهي أننا في السورة التي أوردتَها نجد أن البيت الحرام (أو الكعبة) كان قائمًا عندما استقرت عنده هاجر وابنها إسماعيل الصغير. وذلك من قول إبراهيم: «إني تركت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرم.» ولكن الشائع عند المسلمين أن إبراهيم وابنه إسماعيل هما اللذان بنيا البيت الحرام، وبذلك يكون بناؤه قد تم بعد وصول هاجر لا قبله.
(ج): هذه المعلومة عند المسلمين مستمدَّة من آية وردَت في موضعٍ آخر: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ … (سورة البقرة: ١٢٧).
(س): ألا يُوجد هنا تناقُض بين سورة إبراهيم وسورة البقرة؟
(ج): النص الديني لا يهتم بتقديم معلومةٍ دقيقةٍ وموثقة، ولكنه يقدِّم فكرة يمكن التعبير عنها بأكثر من طريقة. والفكرة التي قصدَت الآيتان إلى التعبير عنها هي قدسية هذا المكان بصرف النظر عن تاريخ بنائه ومتى بُنِي. إن ما يبدو لنا من تناقُضٍ أحيانًا في النص الديني نابعٌ من اختلاف منطقنا الحديث عن «منطق» القَص الأسطوري.
(س): هذا الاختلاف بين المنطق الأسطوري وبين منطقنا الحديث، هو الذي يقف حائلًا بيننا وبين فهم الرسائل المتضمَّنة في العديد من الأساطير. أليس كذلك؟
(ج): هذا صحيح. لقد قلتُ سابقًا إن النص الديني المتسلِّح بالأسطورة لا يتوجه بخطابه إلى عقل السامع أو القارئ بقَدْرِ ما يتوجَّه إلى عواطفه وملكاته النفسية؛ ولذلك فإنه لا يَحفِل بالبرهان ولا يتطلَّع إليه، ولا يقدِّم لك وسائل تسمح لك بإثباته أو دحضه. لننظر على سبيل المثال إلى ما ورد في مطلع أسطورة التكوين التوراتية: «في البدء خلق الله السماوات والأرض، وكانت الأرض خَرِبَة وخالية وعلى وجه الغَمر (أي المحيط المائي البَدئي) ظُلمة، وروح الله يرفرف فوق المياه. وقال الله ليكن نورٌ فكان نور، ورأى الله النور أنه حسن، وفصَل الله بين النور والظُّلمة، ودعا الله النور نهارًا والظُّلمة دعاها ليلًا. وكان مساء وكان صباح يومًا واحدًا.» والآن، إذا نحن تلقَّينا هذا النص الأسطوري النموذجي وَفْق المنطق الفلسفي أو المنطق العلمي لرفضناه جملة وتفصيلًا، فكيف يكون هناك نور قبل أن يكون هناك مصدرٌ للنور وقبل خلق الأجرام السماوية؟ وكيف يمكن الفصل بين النور والظلام وولادة اليوم الأول إذا لم يكن هناك شمسٌ تُشرِق وتغيب؟ ولكن الأسطورة تصدُر عن عقل قبل فلسفي، إنها حَدْس بالكُليات يُموضع معرفته الكلية غير المجزَّأة في صور ومشاهد وشخصياتٍ مفعمة برموزٍ ذات دلالاتٍ بعضها يتصل بعالم الشعور وبعضها يتصل باللاشعور؛ ومن هنا فإنها لا تُشكِّل معرفةً بالمعنى الدقيق للكلمة؛ ولذلك فنحن إذا ما تلقَّينا هذه الأسطورة بعد إزاحة عقلنا التحليلي، كما كان القدماء يفعلون، لشعرنا بقُوَّتها وسَطوتها، وبما تُحاوِل أن تُودِعه فينا.

ومن ناحيةٍ أخرى فإن المنطق الأسطوري ينظر إلى البرهان كشأنٍ مُتضَمَّنٍ في عملية البيان؛ ولذلك فهو يستخدم لغةً شعريةً تستفيد من الظلال السحرية للكلمات أكثر من دلالاتها المباشرة، على ما قلتُه سابقًا. لننظر على سبيل المثال إلى مطلع سورة العاديات في القرآن الكريم الذي يُعبِّر أفضل تعبيرٍ عما أقوله هنا: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا * إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (العاديات: ١–٦). إن قارئ هذه السورة في رأيي لا يحتاج إلى كُتب التفسير ولا إلى القواميس لكي يعرف معنى الكلمات الواردة فيها، لأن هذه الكلمات لم تكن مقصودة لدلالاتها المباشرة، وإنما لظلالها السحرية. وفي الحقيقة لو أنكَ وجدتَ المعاني في القواميس، ثم قرأتَ هذه السورة لغمُض عليك المعنى، وإذا أهملتَ المعاني وتركتَ النص يتسلسل إليكَ دون واسطةٍ لأدركتَ الرسالة.

(س): هل بقي للأسطورة دَورٌ تلعبه في حضارة اليوم، أم أن زمنها قد ولَّى إلى غير رجعة؟
(ج): لم يعُد للأسطورة كما حدَّدتُها وعرَّفتُها دورٌ تلعبه في حياة المجتمعات الحديثة، وذلك لأكثر من سبب؛ فأولًا: لقد نجحَت الفلسفة ثم العلوم الطبيعية والإنسانية بالاستيلاء على معظم ميادينها. وثانيًا: لأن نبع الأساطير القديمة قد نضبَ بعد أن استولت الأديان الكبرى على ٩٠٪ من مساحة الكرة الأرضية، وحالت دون استمرار ذلك التوالُد التلقائي القديم للأساطير، بعد أن اكتفى كلٌّ منها بعددٍ محدودٍ منها لم يتغيَّر ولم يتبدَّل على مَرِّ القرون؛ الأمر الذي أفقد الأسطورة الكثير من قُوَّتها الإيحائية. وثالثًا: لأن الفلسفة والعلم قد غيَّرا من آلية تفكير الإنسان الحديث وحوَّلاه من تفكيرٍ حدْسي إلى تفكيرٍ خطيٍّ ينطلق من المقدِّمات إلى نتائجها خلوٍ من قفزات الخيال وفعاليات الحواسِّ الخفية، ولكن غياب الأسطورة لا يعني اختفاء ذلك النزوع الأسطوري المتجذِّر في السيكولوجيا الفردية والجمعية، والذي جعل الأسطورة ممكنةً من حيث المبدأ، فهذا النزوع باقٍ في أعماق النفس ويعمل خلف آليات التفكير الحديث.
(س): وما هي آليات عمل هذا النزوع الأسطوري؟
(ج): يعمل النزوع الأسطوري على خلق بدائل للأسطورة تقوم ببعض أدوارها؛ مثل الشعر والفن التشكيلي، اللذَين يعيدان إلينا ذلك الحَدْس الخلَّاق والإدراك الباطني للمدهش والرائع والفائق و… والقدسي. وهناك الرواية التي ورثَت عن الأسطورة فن القَص وراحت تُقدِّم لقُرائها فُرصًا لاختبار حياةٍ جديدةٍ تفُوق حياتهم اليومية العادية جمالًا ومعنًى. وهناك الدراما التي ترافقَت نهضتُها في أوروبا مع الثورتَين العلمية والصناعية، وما أحدثَتاه من فراغٍ ميثولوجيٍّ داخلي وَجَدَ بديله على خشبة المسرح. أما السينما فلعلَّها أكثر الفنون صدورًا عن النزوع الأسطوري في النفس الإنسانية، حتى يُمكنَنا اعتبارها الصانع الرئيسي لأساطير العصر الحديث. إن فيلم حرب النجوم الذي اختتم القرن العشرين، قرن السينما، بأسطورةٍ فضائيةٍ رائعة، شُوهد على مدى عدة سنوات في كل صالة سينما حول العالم، ومن قِبَل كل كبيرٍ وصغير، وكل عالمٍ وجاهل، حتى إن الرئيس الأمريكي رونالد ريغان دعا مشروع الدرع الصاروخي الذي يحمي الولايات المتحدة من أي هجومٍ نووي، دعاه باسم حرب النجوم.

ولكن هذا النزوع الأسطوري يجعل في الوقت نفسه جماهير دولة العلم سواء في الشرق أم في الغرب أكثر انقيادًا للخرافات. ولا أدلَّ على ذلك من أن أي خبرٍ ينتشر عن ظهور طيف السيدة العذراء في مكانٍ ما، يدفع حتى العلماء إلى ترك مخابرهم والتوجُّه إلى ذلك المكان. لقد زالت الأسطورة حقًّا ولكنها تعمل في السر، وتتخفَّى خلف هذا القناع أو ذاك، ونحن نستطيع الركونَ إليها كمَيلٍ ونزوعٍ يعمل كخميرة لأشكال التعبير الفني، ويُزوِّدنا بمنظارٍ مُلوَّن يُعيد البهجة والمعنى للحياة، ولكن علينا في الوقت نفسه أن نحذَر مما تقود إليه الطبيعة غير العقلانية لهذا النزوع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤