مشروع للمناقشة

(حجرة الإدارة بمسرح، في الجانب الأوسط من الحجرة يوجد مكتب، أمام المكتب مقعدان كبيران متقابلان؛ إلى اليسار مكتبة، وبابٌ مغلق يؤدي إلى الخارج، في الجانب الأيمن كنبة ومقعدان وخوان، على الكنبة يجلس الممثل والممثلة. على المقعدين يجلس المخرج والناقد، الجميع في أواسط العمر مع تفاوت.)

المخرج : يجب أن نفتتح الموسم بعملٍ باهر.
الممثلة (متنهدة) : الحق أن الفن جمال وعذاب.
الممثل (ناظرًا في ساعة يده) : متى يحضر الأستاذ؟
الناقد : إنه في الطريق إلينا.
المخرج : كثرت المسارح واشتدت المنافسة بينها لدرجة الوحشية.
الممثل : وعلينا يقع عبء المحافظة على القمة.
الممثلة : هذا ما قصدته بالعذاب.
الناقد : تُرى هل انتهى الأستاذ من كتابة المسرحية؟
المخرج : لا أظن، ولكنه سيحدثنا عن الفكرة العامة.
الممثلة : لن يبدأ الموسم قبل أشهر.

(يُفتح الباب إلى اليسار ويدخل السكرتير.)

السكرتير : الأستاذ.

(يدخل المؤلف، يخرج السكرتير ويغلق الباب، المؤلف متقدم في السن ولكنه من النوع الذي يتعذر تحديد سنه، وهو أنيق المظهر وبادي الصحة والعافية رغم تقدمه في السن، ينهض المخرج والناقد والممثل لمصافحته، يذهب لمصافحة الممثلة في مجلسها. يمضي إلى المكتب فيقف مستندًا إلى مقدمته، ينتقل المخرج والناقد إلى المقعدَين المتقابلَين أمام المكتب، يعود الممثل إلى مجلسه إلى جانب الممثلة.)

الناقد (للمؤلف) : صحتك عال.
المؤلف : شكرًا.
المخرج : الجو فظيع ولكن ضاحيتك مرتفعة الموقع ومعتدلة الجو.
المؤلف : التفكير من شأنه أن يرفع الحرارة.
الناقد : إلى أي حدٍّ يمكن أن نقول إن عملك اكتمل؟
المؤلف : سينتهي على أي حال في موعده.
الناقد : إذا أردنا أن نحدد روايتك الجديدة فأي اسم يمكن أن نطلقه عليها؟
المؤلف : إنك ناقد لا تخلو من داء النقاد في غرامهم بالأسماء، أنا لا تهمني الأسماء، إنما أبدأ من انفعالٍ معين ثم أترك الاسترسال لوحي القلم.
الناقد : ولكن المسرحية بناء، ولا يسع البناء أن يضرب في الأساس ضربةً واحدة ما لم تكن الصورة النهائية متبلورة بشكلٍ ما.
الممثل (في شيء من العصبية) : سنصل في نقاشٍ غير محدود، أريد أن أطمئن إلى وجود بطولةٍ حقيقية.
الممثلة : وأضيف إلى قول زميلي أن خير دور تمثله المرأة هو الحب. (ثم موجهة الحديث إلى المخرج)، تكلم فأنت المخرج.
المخرج : لكل رواية أسلوبٌ خاص لإخراجها.
الممثلة : ولكن الحب ضرورة لا غنى عنها.
المخرج : إنه ضرورة حقًّا، ولكن لا يمكن فرضه على المؤلف.
المؤلف : هذا كرم منك إذا تذكرنا محاولاتك السابقة للوثوب فوق رأسي.
المخرج (ضاحكًا) : أنت تؤلف وأنا أفسِّر، فأنت حر في تأليفك، وأنا حر في تفسيري.
المؤلف : ولكني أعرف ما أريد قوله.
المخرج : بل إني أعتبر ذلك من اختصاصي.
الناقد : الأمر يتوقف على نوع العمل، ثمة عمل لا يختلف في تفسيره أحد، وآخر تتعدد في تفسيره وجهات النظر.
الممثل : ما يهمني حقًّا هو دور البطولة، أريد أن أكون بطلًا لا مهرجًا.
المخرج : ولكن المهرج يمكن أن يكون بطلًا أيضًا.
الممثل : إني أرفض ذلك كل الرفض.
المخرج : ثمة زمن يخلق الأبطال وآخر يخلق المهرِّجين.
الممثل : مهرجون لا أبطال.
المخرج : المسألة نسبية.
الممثلة : سنضلُّ في متاهة الآراء، حدِّدوا أفكاركم.
الممثل : حسن، أريد بطولة بالمعنى التقليدي.
الممثلة : وأريد أن ألعب دور حب لا يُنسَى.
الناقد : ويلزمني الوضوح الذي يمكِّنني من نقد العمل وتقديمه.
المخرج : أطالب بالحرية الكاملة للتفسير.
المؤلف : ماذا يبقى لي أنا؟
الممثل : أن تحقق لنا مطالبنا الفنية العادلة في صيغةٍ ناجحة تستحوذ على إعجاب الجمهور.
المؤلف : إنكم بحاجة إلى سكرتير لا إلى مؤلف.
الممثلة : بل نريد تفاهمًا وتعاونًا.

(المؤلف يغادر موقفه متمشيًا حتى منتصف الحجرة وهو مقطب، ثم يعود إلى موقفه مستندًا إلى مقدم المكتب.)

المؤلف : إني أحب الصراحة، والحق أقول لكم إنه لا وجود لكم قبل أن توجد الفكرة التي تنجزونها.
الممثل (في حِدَّة) : بل نحن موجودون قبل أي فكرة.
المؤلف : إذا لم توجد القصة فأنتم مجرد أشخاص لا معنى فني لهم.
الناقد : ألا يؤثر في خيالك وأنت تؤلف أشخاص الممثلين مثلًا؟
المؤلف : كلا، إني أستغرق في عملية الخلق فحسب، ثم يختار العمل بعد ذلك ممثليه ومخرجه.
الناقد : هذا فرضٌ مثالي، ولكن الواقع أن المؤلف إنما يتعامل مع زمان ومكان وجمهور وممثلين وممثلات ومخرجين ونقاد أيضًا!
المؤلف (ضاحكًا في سخرية) : يا لها من أفكار غريبة عن عملية الخلق!
الناقد : لا يمكن أن تترك لخيالك العنان ما دمت مرتبطًا بمسرحٍ ما، وجمهور ما، وإمكانيات فنية محدودة.
المؤلف : أو في كلمةٍ واحدة هي فبركة بلا زيادة.
الناقد : إنها محاولةٌ صادقة للتوفيق بين خيالك الخلاق والضرورات بفبركة لا محيص عنها لتقول في النهاية ما تريد قوله، وما يتطلبه الزمان والمكان مما يود الناس أن تقوله.
المؤلف (بلهجةٍ مزدرية) : أصدق وَصْف للفن التجاري.
الناقد : الفن معاملة، والمعاملة نوع من التجارة، والنجاح وجه من وجوه المعاملة.
المؤلف : هذا يعني أنكم المؤلف لا أنا.
الناقد : التأليف جماعي وإن بدا فرديًّا.
الممثل : لذلك أطالب ببطولةٍ تقليدية وهو طلب عادل.
الممثلة : وأطالب بالحب وهو مطلبٌ طبيعي.
المخرج : وأطالب بالحرية ليتم لعملك الكمال المنشود.
المؤلف (غاضبًا) : تمردٌ سخيفٌ مضحك، ولولاي لما كنتم شيئًا مذكورًا!
الناقد (بلطف) : ولولانا ما كنتَ مؤلفًا على الإطلاق.
المؤلف : أستطيع أن أكتب مسرحية لنفسي!
الناقد : محض كلام، كيف يثبت أنها مسرحية إذا لم يقيَّض لها مخرج وممثلون وجمهور ونقاد؟
المؤلف (غاضبًا) : إن مهنتي الخلق لا الجدل، الجدل مهنة العاجزين عن الخلق.
الممثلة : إني أكره الجدل وأخاف عواقبه، وسوف ينتهي بنا إلى خصامٍ مرير بدلًا من عرض مسرحي رائع.
الممثل : ولكن لا خير في مصالحة تجيء على حسابنا.
المؤلف : من الضروري أن أكتب مسرحيتي بلا قيد أو شرط.
الناقد : لا يجوز أن تهمل الاعتبارات التي عدَّدتها.
المؤلف : إني ملزم باحترام الخلق الفني وحده.
الممثل : والبطولة؟
الممثلة : والحب؟
المخرج : بعض الهدوء، إنه لم يحدثنا بعدُ عن قصته. (صمت) أستاذنا العزيز، حدثنا عن قصتك.
المؤلف : إنها مجرد مشروع وخطوطٍ عامة.
المخرج : ليكن.
المؤلف : إنها قصة رجل وامرأة.
الممثل : ثمة مجال لبطولة.
الممثلة : ومكان أرجح للحب.
المؤلف : يلتقيان في غابة.
الناقد : غابة؟
المؤلف : يلتقيان في غابة.
الناقد : ولِمَ غابة؟
المؤلف (محتدًّا) : أنا حر.
المخرج : أنا الحر.
الناقد : أخشى أن ترجع بنا إلى عهد الرومانسية البائد؟
الممثلة : هو مكانٌ طريف على أي حال، والعري فيه لا يمكن أن يُتَّهم بالافتعال.
الناقد : اللقاء اليوم في الشارع، في البص، في ملهًى ليلي.
المخرج : ربما أراد من الغابة أن تهيئ له جوًّا موحشًا حافلًا بأخطار الإنسان والحيوان.
الناقد : المدينة أحفل بكل ذلك من أي غابة.
المؤلف (ضاربًا الأرض بقدمه) : يلتقيان في غابة.
الممثلة : بعض الحِلم حتى يتم صورته.
المؤلف : في الغابة أخطار لا حصر لها فهما يبحثان عن مأوًى يحميهما.
الممثل : ليس في ذلك شيء من البطولة.
الممثلة : ولكنه مجالٌ طيب للحب.
الممثل : لا حب بلا بطولة.
الممثلة : الحب في ذاته بطولة.
الممثل : ليست هي ما أبحث عنه.
المخرج : إنه يريد أن يقاتل؛ يقاتل الوحوش، يقاتل المجهول.
الممثل : أحسنت.
المخرج : ومن ثم يوجد الصراع وهو أساس الدراما.
الممثل : أما مجرد البحث عن مأوى!
الممثلة : لعله يكتب قصة حب؟
الممثل : الحب لا يكفي وحده موضوعًا لمسرحية.
المخرج : وأي مجال يترك لحريتي في مسرحية بحث عن مأوى؟
المؤلف : أنا لا أعترف بحريتك المزعومة.
المخرج : أنا أفسر فأنا حر.
المؤلف : هل تستطيع بحريتك أن تغير النهاية؟
المخرج : صدقني فإن حرية المخرج هي زينة العرض المسرحي.
المؤلف : هل تستطيع أن تغير النهاية؟
المخرج : لم تحدثنا عن النهاية.
المؤلف : يجدان مأوًى على درجة من الأمان.
الممثلة : أراهن على أن الحب سيبدأ دوره الخالد.
المؤلف : يحصنانه ضد أهوال لا حصر لها ولا عد.
الممثلة : أكمل .. إني منتظرة.
المؤلف : يمضيان أوقات الراحة في عناقٍ حار.
الممثلة (تقف من الانفعال وتنتقل إلى جنب المؤلف) : ألم أقل لكم؟
المؤلف : وفي لحظة من لحظات العناق الحار يسقطان جثتَين هامدتَين.

(صمت.)

(يتبادلان النظرات، تمضي الممثلة إلى المكتبة على اليسار وتستند إليها مغمضة العينَين.)

الناقد : جثتَين هامدتَين؟
المؤلف : نعم.
الناقد : وهي النهاية؟
المؤلف : ماذا تتوقع بعد ذلك؟
الناقد : ولكن ما أسباب الموت؟
المؤلف : أي سبب تفترضه، لنقل إنه العناق نفسه!
الممثلة (متقدمة خطوات) : الحق أني لم أفهم شيئًا.
المخرج : وماذا عن الأخطار المحدقة بهما؟
المؤلف : لم أتم دراستي لها بعدُ، ولكن يمكن القول بأنهما قد ينجحان في تحصين مأواهما.
الناقد : ستكون نهاية متشائمة.
الممثل : وبلا بطولة تخفف من وقعها.
الممثلة : دور الحب غني، ولكن النهاية؟
المخرج : من حسن الحظ أنه لم ينتهِ من دراسته، وأنه لا بد أن تسبق النهايةَ سلسلةٌ من صراعات شائقة.
المؤلف (متهكمًا) : ربما تكون حرًّا في كيفية الوصول إلى النهاية التي أختارها، ولكن لا حرية لك في تغييرها.
المخرج (في شبه ثورة) : يمكن أن أُسدل الستار عند لحظة من لحظات النصر.
المؤلف : في تلك الحال لن يزعم أحد بأن الرواية روايتي.
الممثل (وهو يهبُّ واقفًا) : أنا البطل، أنا الجمهور، وإني أرفض الأدوار الهابطة!
المؤلف : قدِّر للسانك قبل النطق موضعه من اللباقة.
الممثل : إني ممثلٌ قديم، لعبت أدوارًا خالدة؛ صارعت القدر، صارعت الأبطال، صارعت المجتمع، اليوم يراد مني أن ألعب دور الهارب، وأن أموت مستهلَكًا في عناقٍ حار، خَبِّرني بالله أي نوع من الدراما تكون، تراجيديا؟ ملهاة؟
الناقد : أجل .. النوع المسرحي غير واضح.
المؤلف : أنا أقدم مسرحيات لا أسماء.
الناقد : ولكنها تنكَّبت سبيل الجلال الحق.
المؤلف : الجلال الحق، ما زلتم تحنون إلى القدر والأبطال الخرافيين وأسطورة المجتمع، ولكن القدر لم يعد إلا موضةً بالية، والبطولة الخرافية مراهقة، وهل يتمخض المجتمع إلا عن لُعبة يعبث بها أطفالٌ شريرون لم تحسَن تربيتهم؟! إني أعرف عملي تمامًا.
الممثل : إني أرفض مسرحيتك.
الممثلة : لكنها ما زالت قصة حب.
الممثل : إنكِ مخطئة يا عزيزتي، تصوري أن نلتقي في غابة وأن نلوذ بمأوى! لا مجال للمناجاة أو الحب الحقيقي، ستكون أعصابنا متوترة طوال الوقت، الحب لا ينمو في هذا الجو، مجرد عناقٍ عصبي، يروِّح عن نفسه بالشهوة، ثم نقع جثتَين، ستكونين طيلة الوقت محدقة في فزع، مرتعشة الأطراف، مضطربة الأمعاء، دميمة الوجه، مجرد لبؤة ثائرة، ثم جثةً هامدة.
الممثلة : كلا .. كلا.
الممثل : ولن يبقى لنا من الحوار إلا كلماتٌ متشنجة، واستغاثاتٌ معربدة، وهذيان طويل عن الأخطار المحدقة بنا، ثم نقع جثتَين هامدتَين!
المؤلف (محتدًّا) : لستَ إلا ممثلًا فلا تجاوز حدَّك.
الممثل (في غضب وعجرفة) : أنا المسرح .. أنا الجمهور!
المؤلف : لست إلا ممثلًا.
الممثل (وغضبه في تصاعد) : وما أنت؟ كم من الجمهور رأوك؟ وكم ممن يرونك يعرفون من أنت!
المؤلف : يا لها من وقاحة!

(الممثل يرمي المؤلف بنظرةٍ متوعدة، الممثلة تقترب منه بسرعة فتضع يدها على ذراعه ملاطفة.)

الممثلة : لا يليق بكما الخصام.
الناقد : ترى هل تحلُّ بمسرحنا اللعنة؟
المؤلف : ليلتزم كلٌّ بحدوده.
المخرج : الحلم والهدوء، لا تدفعوني إلى اليأس.
الممثلة : عليك بالتماسك، وإلا فشلنا وأعرض عنا الجمهور.
الممثل : إن من يسلبني مجدي إنما يسلبني كرامتي وحياتي.
المؤلف : لكل زمان مجده الخاص به.
الممثل : العبث ببطولتي التي عشقها الجمهور محاولة لقتلي.
المؤلف : مجدك الحق أن تلعب دورك بمهارة أيًّا كان دورك.
الممثل : ولو كان الهرب والموت بين أحضان امرأة؟
المؤلف : ولو كان.
الممثل : سينصرف عنكم الجمهور ولن ينفع الندم.
المؤلف : الجمهور يودُّ أن يرى نفسه.
الممثل : لا كما هي ولكن كما يجب أن تكون.
المؤلف : على أساس من واقعها الحقيقي.
الممثل : أهذه هي الكلمة الأخيرة في البطولة؟
المؤلف : لا يمكن التنبؤ بالمسرحية التالية.
الممثل : إذا تجهمني زماني فعليَّ أن أعتزل.
المؤلف (متهكمًا) : ها أنت تفكر في الهروب في حياتك رغم ثورتك عليها فوق خشبة المسرح.
الممثل : إني أرفض مسرحيتك.
الناقد (للمؤلف) : فكرتها طيبة ولكن أعِدِ النظر في النهاية.
المؤلف (بكبرياء) : كلام لا يليق أن يوجه إلى مؤلف.
الناقد : هل نسيت تاريخك القديم؟ هل نسيت روائعك؟
المؤلف : آخر مسرحية خير ما ألَّفت حتى اليوم.
الممثل : حتى هذه المسرحية الشاذة؟
المؤلف : ستكون خير ما ألفت حتى اليوم.
الممثل (صائحًا في غضب وموجهًا كلامه للجميع) : إنه يضمحل وهو لا يدري.
المؤلف (في غضب) : لستَ أهلًا لمناقشتي. (الممثل يرميه بنظرةٍ غاضبةٍ متوعدة مرةً أخرى، ولكن الممثلة تأخذه من ذراعه إلى مجلسها السابق فوق الكنبة)، (صمت)، (محادثًا نفسه)، تعب وعذاب وها هي النهاية، من يدري بمتاعب الخلق إلا من يعانيه؟ ثم لا يكفيه ذلك فتتمرد عليه مخلوقاته، وأي تمرد! تعيب خلقه، تعيبه بكل جهل وقِحَة، تذكِّره بعمله القديم كأنه عاجز عن تكرار نفسه، تتهمه بالكسل وهي الخامة العاجزة عن تفهُّم الجديد، وتبيُّن مزاياه، هل يكمل الخلق إذا جاء على هوى المخلوق؟ وقد تدرجت معهم من البسيط إلى المعقد، وها هم ينعتون البسيط بالجلال والمعقد بالتفاهة، عقولٌ قاصرة فكيف يمكن أن يتموا الرحلة الطويلة معي؟
الممثل (مخاطبًا نفسه أيضًا تجنبًا للخصام) : الخلق شيءٌ عظيم أما الغرور فلا عظمة له، لسنا مخلوقات ولكننا شركاء، هو يعرف ذلك وإن أنكره حين الغضب، المسرحية لا تحيا وحدها، يلزمها مخرج وممثلون ونقاد وجمهور، ما قيمة النصر بغير هؤلاء؟ هل تبقى الرواية هي هي إذا تغير الممثلون؟ هل تبقى هي هي إذا تغير المخرج؟ الحق أننا خالقون أيضًا، وهو مخلوق لنا بمعنًى من المعاني، وجميعنا معذَّبون بالخلق، والجزاء ليس عادلًا، إننا نعيش فترة ثم نختفي كالفقاعات، أما كلماته فتبقى على مدى الأيام.

(صمت.)

الناقد : نريد أن نُصفِّي الجو، وبالاحترام المتبادل نُصفِّيه لا بالتفاخر.
الممثل (آتيًا بحركة تدل على الحسرة) : إني أبكي الأيام السعيدة الماضية، أخاف ألا تعود مرةً أخرى، كنت أخطِر على خشبة المسرح رمزًا للإنسان في ذروة نبله ونضاله، وعلى المسرح كانت تتواجه قوى الخير والشر وبينهما تقوم الإرادة الحرة المتوثبة، والخير لم يكن ينهزم وإن حاقت به هزيمة، والشر لا ينتصر وإن أحرز نصرًا، ذلك أن خشبة المسرح لم تكن تخلو من إلهٍ عادل.
الممثلة (تتأثر فتقوم تتمشى وهي تتكلم) : أجل، المرأة كانت وحيًا، الحب كان دينًا، النور يهزم جيوش الظلام بنصله اللامع، الأمومة مقدسة، الوفاء مقدس، الرذيلة شيطان، لا شيء لهو ولعب.
الممثل : أين الآلهة؟ أين البطولة؟ أين الحب؟ أين الأمل؟ لم تبقَ إلا غابةٌ مليئة بالوحوش، وآدميان هاربان لائذان بكهف، لم يبقَ إلا الخوف والتوجس والهستيريا والموت، أي دور هذا؟ (الممثل يقف منفعلًا ثم يهتف بصوتٍ مرتفع) إني أرفض مسرحيتك.
المؤلف : لا تتخطَّ حدودك.
الممثل : لم أتخطَّ حدودي.
المؤلف : لا تحلم كالمراهقين.
الممثل : لا تتخطَّ حدود اللياقة.

(صمت.)

المؤلف : هذا هو مشروع روايتي الجديدة، وإني مقتنع به.
الممثل : إني أرفضها.
الممثلة (بصوتٍ منخفض) : على العين والرأس ولكن …
المخرج : عملي يبدأ بعد انتهاء عملك.
الناقد : لا أدري هل يبكي المُشاهد أو يضحك؟
المؤلف : لم يكن أحد يجادلني فيما مضى.
الممثل : كان العمل رائعًا.
المؤلف : المؤلف الحق يطالب بالطاعة والإعجاب.
الممثل (متهكمًا) : الطاعة والإعجاب؟
المؤلف (منفعلًا بالغضب) : وإلا هدمت المسرح على من فيه.
الممثل : إني أشهدكم على ما يقول.
المؤلف : من حقي أن أقول ما أعتقده.
الممثل : تحت شرط ألا تمسَّ كرامة الآخرين.
المؤلف : لقد خلقت منكم نجومًا وكواكب، ولن يعجزني أن أخلق غيركم.
الممثل : الحق أننا نحن الذين خلقناك.
المؤلف : لو تخلَّيتُ عنك لتسولتَ حتى الموت.
الممثل : لولاي لما نجحتْ لك رواية واحدة ولبثتَ مؤلفًا ناشئًا! (الممثل يتقدم إلى الممثلة فيأخذ بيدها متجهًا في تحدٍّ إلى المؤلف)، هل نسيت فضل هذه الفنانة؟ أو حسبت أن الجمهور يتدفق علينا من أجلك؟
المخرج (للمؤلف ممتعضًا) : وأنا يا أستاذ؟ هل نسيت عروضي الرائعة؟
الناقد (للمؤلف أيضًا) : سامحك الله، وقلمي الذي كرَّسته للإشادة بعبقريتك؟ إن الناس لا تثني عليك إلا بكلماتي.
الممثل (غاضبًا) : نحن الذين خلقناك.
المؤلف : سأعهد بعملي إلى آخرين، اغْرُبوا عن وجهي.
الناقد : لكل مسرح رجاله، ونحن رجال هذا المسرح.
المؤلف : إذن لن تقدَّم به مسرحيات بعد اليوم.
المخرج : سيغلقه الظلام ويدركه العدم.
المؤلف : لن أتضوَّر جوعًا، إني رجل لم تُغرِه الحياة الدنيا مثلكم، ولكنكم ستتسولون في مجرًى عام.
الممثل : ولكن لن تخلق، وهو ألعن من التسول.
المؤلف : حسن، فليمضِ كلٌّ إلى سبيله.

(صمت.)

الناقد : لقد حلَّت اللعنة بمسرحنا.
الممثلة : قلبي يتمزق.
المؤلف : أنتم المسئولون عن ذلك.
الممثل : أنت وحدك المسئول.
المخرج : مسرحٌ عريق في القدم والنجاح.
الممثلة : يئس من اللحاق به الأعداء.
المؤلف : وبطرت نعمته أصحابه.
الناقد : لا أصدق، لن يهون أمره على أحدٍ منا (ثم موجهًا الخطاب للمؤلف)، وأنت على وجه الخصوص، ليست أول مرة يعصف بك الغضب.
المؤلف (مشيرًا إلى الممثل) : جاوز حدود اللياقة باستهانة لا تغتفر.
الناقد : ما تزال قابلة للغفران.
المخرج : لن يدرك مسرحنا العدم ولو اضطررنا إلى إعادة تقديم الروايات القديمة.
المؤلف : هذا هو الإفلاس، ولن يخفى على أحد.

(صمت.)

الناقد : لنكن إيجابيين في حوارنا، أصغوا إليَّ، يمكن استخلاص عنصر صراعٍ بطولي من مجرى الرواية.
الممثلة (بلهفة) : كيف؟
الناقد : الرواية ما زالت مشروعًا، وقد قال الأستاذ إن الرجل والمرأة سيلوذان بكهف، أليس كذلك؟
الممثلة : بلى.
الناقد : إنه كهفٌ كبير، لاذ به كثيرون. (ينظرون إلى المؤلف مستطلعين فلا يعترض) لدينا كهف وسط غابةٍ مليئة بالوحوش والأخطار المجهولة، وهو في الوقت نفسه مكتظ بالناس، ثمة فرصة لقيام صراع ما بين بطلنا وبين أحد أو أكثر من الآخرين.
الممثل : صراعٌ سخيف، غير بطولي! إذا كانت الأخطار تحدق بالكهف من كل جانب، فكيف يجوز أن يقوم صراع بينهم؟!
الممثلة : وكيف يطيب الحب في مثل ذلك الجو؟!
الناقد : قد يكون صراعًا غير منطقي، ولكنه ممكن إذا قِيس بمقاييس الطبيعة البشرية، وبخاصة إذا توفَّرت أسبابه.
الممثلة : أسبابه؟
الناقد : المرأة، عدم وفرة الماء والغذاء.
الممثل : الصراع الحق هو ما قام بين البطل والوحوش، أو بينه وبين المجهول.

(ينظرون جميعًا إلى المؤلف مستطلعين.)

المؤلف (بفتور) : ثمة مجال لصراع في الداخل وآخر في الخارج.
الناقد : يسعدني أن نعود إلى المناقشة.
المؤلف : لم أفرغ من عملي بعدُ.
الناقد : المناقشة تفتح الأبواب.
المؤلف : ولكنها تفسح المجال للرغبات الشخصية التي لا تمتُّ إلى الفن بصلة.
الممثلة : رغباتي فنية وليست شخصية.
الممثلة (في رقَّةٍ متناهية) : النهاية مهمة جدًّا.
المؤلف : المؤلف يكتب مسرحياتٍ متتابعة، لكل مسرحية شخصيتها المستقلة، ولكنها في مجموعها مسرحيةٌ كبرى ذات نهاياتٍ متكاملة.
الممثل : ما يهمنا الآن هي مسرحية الافتتاح.
المؤلف : لم أفرغ من عملي بعدُ.
الممثلة : ليكن صراع من أي نوع كان، ولكن يجب أن ينتهي بانتصار الحب.
المخرج : كيف يمكن استخلاص إيقاعٍ غرامي من ضجيج الغابة الموحشة؟
الممثلة (بحدَّة) : إذن الأفضل ألا يكون للمرأة دور!
الممثل : ما أجمل أن ينتهي الصراع في الداخل إلى القضاء على أسبابه، ومن ثم يتجهون جميعًا نحو الخارج.
الناقد : وماذا يقع في الخارج؟
الممثل : صراعٌ جديد فنصرٌ جديد.
الممثلة : وحبٌّ طيلة الوقت!
الناقد : حلمٌ جميل ولكن الجمهور لم يعد يستسلم للأحلام طويلًا.
المخرج : ثمة مشروعٌ مضاد وهو أن يقضي الصراع على اللائذين بالكهف، ثم تقتحمه الوحوش فتلتهم الأحياء والجثث.
الناقد : كئيب أكثر مما تحتمله الأعصاب.
المخرج : لم يبقَ إلا أن يستمر الصراع بالداخل والتهديد في الخارج.
الناقد : نهايةٌ مفتوحة تدعو للبلبلة.
الممثلة (محتجة) : تتكلمون عن الصراع ولا تذكرون الحب بكلمة.
المخرج : أيًّا كان الحال فسوف تتخلله لحظات حب وغناء ورقص.
الناقد : ولكن هل يتفق ذلك مع مرارة الصراع؟
المخرج : هكذا تمضي الحياة، وبذلك نُرضي جميع الأذواق.

(ينظرون إلى المؤلف مستطلعين.)

المؤلف : لم أفرغ من عملي بعدُ.
الناقد : ما رأيك في الاقتراحات التي عُرضت؟
المؤلف : لا رأي لي الآن.
الناقد : ولكننا استعرضنا كافة الاقتراحات المحتملة.
المؤلف : لا حصر للاحتمالات الممكنة.
الممثل : عُدنا على الأقل بصراعٍ بطولي من أي نوع كان؟
الممثلة : وبحبٍّ يستحق هذا الاسم؟
المؤلف : لا أعدُ بشيء.
الممثل : ولكنك حر وبوسعك أن تعد وأن تفي بما تعد.
المؤلف : لا تتحدث عني بخير أو شر.
الناقد : حذارِ أن يعاودنا الخصام.
المخرج : نحن في حاجة إلى استراحةٍ قصيرة، بنا إلى البوفيه لنتناول بعض المرطبات.

(ويذهب الناقد والمخرج والممثل. الممثلة تقف ولكنها لا تبرح مكانها، المؤلف يغادر موقفه عند المكتب ليتمشَّى ذهابًا وجيئة، ثم يعود إلى موقفه مستندًا إلى مكتبه، والممثلة تتابعه بعينَيها طوال الوقت.)

المؤلف (كأنما يسأل نفسه) : هل حقًّا حلَّت اللعنة بمسرحنا؟
الممثلة : لن تحلَّ بنا إلا إذا قرَّرتَ أنت ذلك.
المؤلف : ولكنه بمعنًى ما مسرحي، إنه جزء من نفسي لا يتجزأ.
الممثلة : ونحن عناصره التي لا يقوم إلا بها.
المؤلف : عملٌ واحد وهدفٌ واحد.
الممثلة : بالحق نطقت.
المؤلف : فيم الخلاف إذن؟
الممثلة : لا خلاف حقيقي ولكنه الخوف، لقد أفسدت المنافسة المريرة أعصابنا.
المؤلف : بالتالي ضقت بهم ذرعًا.
الممثلة : ليتسع لهم صدرك. (صمت) هل يضايقك وجودي؟
المؤلف : بل يسعدني.
الممثلة (في شيء من التردد) : أودُّ أن أخلو إليك بعض الوقت.
المؤلف : بكل سرور، فرصةٌ طيبة.
الممثلة : لا قيمة لأكليشهات المجاملة لمن يتطلع للعاطفة الحقيقية! (ينظر إليها في تساؤل ودهشة)، لِمَ الآن؟ لِمَ أختار هذه اللحظة لأفضي إليك بأسرارٍ قديمة؟ ربما لأنني شعرت لأول مرة بأنك تهددنا حقًّا بالفراق الأبدي.
المؤلف : أعترف بأنني ضقت بالعناء والمكابرة.
الممثلة : عِدْني بألا تقرر الفراق مهما يكن من عنادهم ومكابرتهم.
المؤلف : كيف يمكن أن أعد بذلك؟!
الممثلة : عدني بلا قيد أو شرط؟
المؤلف : بلا قيد أو شرط؟!
الممثلة : بلا قيد أو شرط.
المؤلف : إني أشكر لكِ عواطفكِ، ولكنه طلب غير عادل.
الممثلة : لأنه مسرحك؛ لأنه مسرحنا، لأننا أسرتك، ولأنني …
المؤلف : ولأنك؟
الممثلة : ولأنني .. ولأنني .. ولأنني لولاك ما عرفت طريقي إلى المسرح.
المؤلف : حقًّا؟
الممثلة : نعم.
المؤلف : لم تحدثيني عن ذلك من قبلُ.
الممثلة : لم أحدثك عن نفسي قط. (صمت، يتبادلان نظراتٍ صامتة) ألا تذكر أيام زمان؟
المؤلف : بلى، حينما كنتِ طفلة.
الممثلة : حينما كنت فتاةً صغيرة لا طفلة.
المؤلف : كنتُ ألمحكِ في الطريق أحيانًا.
الممثلة : أكنتَ تراني حقًّا؟
المؤلف : من حيٍّ واحد كنا، إني أذكر تلك الأيام.
الممثلة : اعتقدت أنك لم ترني قط.
المؤلف : في الشرفة رأيتك وأمام باب البيت.
الممثلة : وقلت لنفسي إما إنه إله أو إنه صَخْر.
المؤلف : صخر؟!
الممثلة : ذلك أنك لم تعرف سهر الليالي ولا الوسائد المبللة بالدموع. (يتبادلان نظرةً طويلة، هي تُلقيها إليه بثبات، وهو بدهشة) وصممتُ على أن أكَبِّر نفسي لعلِّي ألفت نظرك؛ انتعلتُ حذاء بكعبٍ عالٍ، غيرتُ التسريحة، ضيقت أعلى الفستان لأبرز صدري، ولكنك لم ترني.
المؤلف (باسمًا) : آسف جدًّا، كنتِ صغيرة وكنتُ كبيرًا.
الممثلة : المسألة أنك لم تحبني. (صمت) ولحبِّك أحببت المسرح، أحببت مسرحك، غيَّرت مجرى حياتي رغم معارضة أهلي الشديدة.
المؤلف : إني أغبط نفسي على الخدمة التي قدمتُها للمسرح دون تخطيط.
الممثلة : ومضى حبي ينمو بلا حدود، ولما تخرجت في المعهد اتصلت بك تليفونيًّا، طالبة ناشئة تعرض نفسها على المؤلف الكبير.
المؤلف : متى كان ذلك؟ إني لا أذكره.
الممثلة : طبعًا؛ فهو حديث يتكرر يوميًّا عشرات المرات.
المؤلف : أكرِّر الأسف.
الممثلة : وسدَّ سكرتيرك الطريق في وجهي، ومن ناحيةٍ أخرى لم تكن تبرح ضاحيتك أغلب الوقت، ولا تزور المسرح إلا في أوقاتٍ نادرة وفي ظروفٍ مجهولة لي، وهكذا وجدت بابك مغلقًا بعد طريقٍ طويل شققته بالجهاد والعناد والصبر.
المؤلف : حكاية مؤسفة حقًّا.
الممثلة : ما مضى قد مضى.
المؤلف : ولكنكِ عَرفتِ بالإصرار طريقك إلى مسرحنا.
الممثلة : سلمت بتوجيه السكرتير فذهبت إلى المخرج.
المؤلف : وسيلة ناجعةٌ فيما يبدو.
الممثلة : قابلته واقترحت عليه أن يختبرني في مكتبه ولكنه …
المؤلف : ولكنه؟
الممثلة : اعتذر بضيق الوقت وكثرة الأعمال، ثم دعاني إلى مسكنه الخلوي! (المؤلف يبتسم، الممثلة تقطِّب) غادرتُه متحدية، وغالبت ترددي حيالك حتى غلبته، فكتبت لك رسالةً مطوية اعترفت لك فيها بحبي الذي أسرني منذ صباي. (صمت) لا تتذكر شيئًا؟!
المؤلف : الحق …
الممثلة (مقاطعة) : الحقُّ أنك تتلقى مئات الرسائل مثلها!
المؤلف : لم تكن لي ثقةٌ كبيرة في الرسائل.
الممثلة : ذهبت إلى المسكن الخلوي. (صمت) كثيرًا ما يدفع الحب الخائب إلى المساكن الخلوية.
المؤلف : الحياة سلسلة من التجارب المتناقضة.
الممثلة : هكذا انضممت إلى مسرحك.
المؤلف : مهما يكن من أمر فقد كسب بك نجمةً لامعة.
الممثلة : وعندما قدمت لك لأول مرة وضح لي أنك لا تتذكرني.
المؤلف : ولكن سرعان ما تذكرتك.
الممثلة : وثبت لديَّ أن حبك سرابٌ مستحيل؛ فلذتُ بصمت الكبرياء. (صمت) ودفعني حبك المستحيل من بيتٍ خلوي إلى بيتٍ خلوي.
المؤلف : الحق أنك اشتهرت في الوسط بكثرة العشق!
الممثلة : على حين أني لم أعرف من الحب إلا حبك.
المؤلف : فنانةٌ كبيرة وقلبٌ كبير.
الممثلة : تصورني الرسوم الكاريكاتورية امرأةً شهوانية بينا أنني أعاف في أعماقي الشهوة والفساد.
المؤلف : إني أصدقك.
الممثلة : ولكنني أعبر من خلال علاقاتي العابرة بالآخرين عن تشوُّفي الخالد إليك.
المؤلف : إني أحترم عاطفتكِ وأفهم سلوككِ.
الممثلة : ولكنك لا تحبني؟
المؤلف : أحبك بقدر ما يستطيع شخص في سنِّي أن يحب امرأة في سنك.
الممثلة : إنك من الذين يتعذر تقدير أعمارهم، حتى قيل عنك إنك في سياحاتك الموسمية حول العالم تجدد شبابك وتنفق في ذلك عن سعة!

(المؤلف يغرق في الضحك وهي لا تحول عنه عينَيها.)

المؤلف : هل تؤمنين بالأساطير؟
الممثلة : نعم.
المؤلف : أعترف أن حبكِ سيجدد شبابي.
الممثلة : إنك تتكلم من بعيد، ولا ألومك فلا حق لي عليك، ولكن لِمَ لَم تتزوج؟
المؤلف : لم يكن الزواج من أهدافي أبدًا.
الممثلة : عدو للمرأة؟
المؤلف : لعلي لم أتزوج لشدة حبي للمرأة.
الممثلة : لا خبرة لي بالمغالطات اللفظية.
المؤلف : أعترف بأنني شيء غير مهضوم من وجهة نظر الطبيعة البشرية.
الممثلة : على كل حال ما مضَى قد مضَى، وما يهمني الآن هو ألا تفكِّر في هجر مسرحنا. (صمت) طالما أنت على رأسه فإني أشعر بأني أعمل في بيتي، وبأن حياتي رغم تمزقها وضياعها لم تفقد كل معنى لها، وبأني إذا كنت أخفقت في أن أكون خليلتك أو زوجكَ فإني على الأقل نجمة مسرحياتك.
المؤلف : النجمة التي ساقت إليَّ الملايين.
الممثلة : ولا تنس أن الحب هو الدور الذي خلَّدني.
المؤلف : وشارك في تخليد أعمالي.
الممثلة : وإنني أشعر وأنا أقوم به بأنني أمارس حبك الكبير الذي استحال عليَّ خارج المسرح.
المؤلف : إني مدين لك بالكثير.
الممثلة : عدني إذن ألا تهجرنا مهما يكن من أمر. (صمت.) ألا تريد أن تعدني؟
المؤلف : بدا التفاهم اليوم مستحيلًا.
الممثلة : إنهم يحبونك أيضًا، صدقني إنهم يحبونك أيضًا، المسألة أنهم خائفون، المنافسة مُرة ومزلزِلة للأعصاب، وهم من طول ما مارسوا البغضاء في نزاعهم مع المسارح المحيطة بنا انطبعت البغضاء في أساريرهم وسلوكهم ونوازعهم، كأنما قد فقدوا القُدرة على الحب، ألفوا التحدي والوقاحة والتهور، تصوروا في غضبهم أنه يمكن أن يوجد هذا المسرح بدونك، محض خيالٍ مريض، تخيلوه بأخيلةٍ هزيلةٍ مريضة، ولو ضننت عليهم بوجودك لتقوَّضت الجدران فوق رءوسهم، وتلاشت فرص الندم.
المؤلف : لا أوافق على أن أكرر نفسي بحالٍ.
الممثلة : سيدي .. هل حقًّا لم يبقَ للفن إلا غابة وكهف ورجل وامرأة يموتان في حومة هذيان؟
المؤلف : إنني أعرف ما أصنع.
الممثلة : ولكننا لم نعرفه بعدُ.
المؤلف : علينا أن نواجه الحقائق، هذه مواجهة وليست هروبًا.
الممثلة : هبني قدرًا من الحب ليستقيم دوري، ووفِّر له نصيبًا من البطولة!
المؤلف : ممثل متعجرف! .. أهو آخر عشاقك؟
الممثلة : نعم.
المؤلف : أيعاملك ببطولة؟
الممثلة (ضاحكة في امتعاض) : معاملته لي تتم وراء جدران لا أمام الجمهور.
المؤلف : إنه برمجي نساء كما هو معروف.
الممثلة : ربما.
المؤلف : لماذا ارتضيتِه عاشقًا؟
الممثلة : ليس أسوأ من غيره.
المؤلف : إنه لا يمارس البطولة إلا فوق خشبة المسرح.
الممثلة : والحب الحقيقي أين يمارس إلا فوق خشبة مسرحك!
المؤلف : إنهم يكرهون مشروعي الجديد؛ لأنه يعكس بصدق خبايا نفوسهم.
الممثلة : كنت رفيقًا بهم في الزمان الأول.
المؤلف : كانت دنيا أخرى، وكانوا ناشئين مبتدئين.
الممثلة : أوْلِهِم بعض الاحترام الذي نعموا به قديمًا.
المؤلف : أعترف لك بأنني أعاملهم دائمًا باحترام.
الممثلة : حقًّا؟
المؤلف : وروايتي الجديدة أكبر دليل على ذلك!
الممثلة : لا أفهمك يا حبيبي.
المؤلف : عليك أن تفهميني يا حبيبتي.
الممثلة : ما أحلى هذا الحديث، نتحدث كما لو كنا حبيبين حقًّا.
المؤلف : نحن كذلك.
الممثلة : حقًّا؟
المؤلف : كلٌّ بطريقته.
الممثلة : ليس للحب إلا طريقةٌ واحدة.
المؤلف : بل له طرقٌ كثيرة.
الممثلة : وما طريقتك في الحب؟
المؤلف : العمل.

(تقترب منه خطوة، تمعن فيه النظر.)

الممثلة : ألم تحب بطريقتي البسيطة؟
المؤلف : ربما، ولكن بعيدًا عن الوسط الفني.
الممثلة (متنهدة) : تصور أنني لم أدخل الوسط الفني إلا سعيًا وراء حبك. (صمت). والآن هل تَعِدني؟
المؤلف : أرجو أن تسير الأمور سيرًا حسنًا.
الممثلة : شكرًا.
المؤلف : عفوًا.
الممثلة (بعد تردد) : أود أن أُقبِّلكَ ولو قبلةً واحدة.

(الممثلة تقترب منه، يتعانقان متبادلَين قبلةً طويلة، في ذات اللحظة يدخل الممثل وفي أعقابه المخرج والناقد؛ المؤلف والممثلة يفترقان في كثير من الارتباك، الممثل يذهل لحظة، ثم يحاول الهجوم على المؤلف، ولكن المخرج والناقد يحولان دون ذلك.)

الممثل (صائحًا) : داعرةٌ محترفة، وعجوزٌ مُنحلٌّ .. سأحطم رأسك.
الممثلة : اخرس .. لا تتكلم بغير فهم.
الناقد : ما رأيناه لا يجوز أن نسيء فهمه، ما هو إلا عناق أبوي!
الممثل : أبوي! أنت لا تعرف شيئًا عن تدهور الشيوخ!
المؤلف : تأدب.
الممثل : سأحطم رأسك، لن تفلت من قبضتي.
الممثلة : اخرس، قلت لك ألا تتكلم بغير فهم!
الممثل : إني خير من يفهمكِ يا خنزيرة!
الممثلة : ما أنت إلا حيوانٌ غبي.
الممثل : لا زلتِ بغيًّا تنتقلين من فراشٍ إلى فراش.
الممثلة : تأدب وإلا أسكتك بالحذاء.
الممثل : ولكنك تنتقلين هذه المرة إلى نعش.
الممثلة (للآخرين) : أسكتوا هذا الحيوان الأعمى.
الناقد (ضاربًا جبينه بيده) : لقد حلَّت بمسرحنا اللعنة.
الممثلة (بصوتٍ مرتفع) : لن تحلَّ بمسرحنا اللعنة.
المخرج : سوء فهم واضح، واضح البراءة.
الناقد (مخاطبًا المؤلف) : بوسعك أن تحسم سوء الظن بكلمة.

(المؤلف يلزم الصمت في كبرياء.)

المخرج (للممثلة) : لديكِ بلا شكٍّ ما تدافعين به عن نفسك.
الممثلة : إني أرفض أن أقف موقف الاتهام.
الممثل : لقد رأيناهما متلبسَين!
المخرج : يجب أن تخجلَ من نفسك.
الناقد : حتى إن سوء الظن أمرٌ مخجل.
المخرج (للمؤلف) : تكلم يا أستاذ. (ثم للممثلة). تكلمي أنت، علينا أن ننتهي من سوء التفاهم ونصفِّيه بسرعة لنستأنف مناقشة المشروع الجديد.
الممثل (للمخرج) : يا للغرابة! إنك تتكلم عن أعمق العلاقات البشرية كما لو كانت عبث أطفال.
المخرج (للممثل) : لقد وجدتني ذات يوم في مثل موقفك، وكانت حيال خيانةٍ حقيقية لا مجرد سوء تفاهم بريء، وكان غريمي وقتذاك صديقنا الناقد، كيف تصرفت؟ كظمت غضبي وواصلت تدريباتي للمسرحية الجديدة.
الممثل : أنت جبان.
المخرج : أنت حيوان.

(الممثل يوجه لكمة لرأس المخرج؛ المخرج يترنَّح واضعًا يده على موضع الضربة، يمضي إلى الكنبة ويرتمي عليها، يسند رأسه إلى مسندها ويمد ساقَيه في إعياء. الممثلة تثور وتلطم الممثل على خده فيعميه الغضب ويوجه لطمة إلى رأسها فتقع إلى جانب المخرج، الناقد يسرع إلى إجلاسها، ويهجم على الممثل، يتبادلان الضرب حتى يسقطا متتابعين. يقومان مترنحَين ويلوذ كلٌّ منهما بمقعد حول الكنبة. الأربعة جالسون متقاربين وفي حالة إعياءٍ شديد تقارب الإغماء. وطيلة الوقت لزم المؤلف موقفه وهو يراقب ما يحدث ببرود.)

(صمت.)

(يُفتح الباب فيدخل السكرتير، يتجه نحو المؤلف دون أن ينتبه إلى الآخرين.)

السكرتير : مندوب مجلة إيزيس.

(يدخل مندوب المجلة، السكرتير يغادر الحجرة، المندوب يمضي إلى المؤلف فيصافحه، يتحول إلى الجالسين ولكنه يتوقف في ذهول، يردد بصره بينهم وبين المؤلف، يتراجع إلى قريب من المؤلف.)

المندوب : آسف على مجيئي دون موعدٍ سابق.
المؤلف : إنها مفاجأة ولكنها سارَّة.
المندوب (مشيرًا إلى الجالسين) : ماذا حصل لهم؟
المؤلف : فرغوا لتوِّهم من تدريبات الرواية الجديدة.
المندوب : حقًّا! مجرد تدريبات؟
المؤلف : مجرد تدريبات.
المندوب : إنها روايةٌ عنيفة فيما أرى؟
المؤلف : لا تخلو من عنف.
المندوب : إني أرى آثار كدمات، وألمس إعياءً واضحًا على وجوههم، كأنما هي رواية من روايات رعاة البقر!
المؤلف : لا تخلو من حيوانات.
المندوب : حتى فنانتنا الكبيرة تطرح رأسها في شبه إغماء، إنه لأمر غير معقول!
المؤلف : لا تخلو من جنون.
المندوب : إن عرض مسرحية بذاك العنف شهورًا متواصلة يجب أن يُعدَّ معجزة!
المؤلف : وهي لا تخلو من معجزات.
المندوب (مشيرًا إلى الممثلة) : هل أصيبت وهي تدافع عن شرفها؟
المؤلف : أصيبت وهي تدافع عن شرف البطل.
المندوب : ولكن المعتاد أن البطل يَذود عن شرف الآخرين بالإضافة إلى شرفه هو؟
المؤلف : هي لا تخلو من طرافة وجدَّة!
المندوب : لعل المسرحية تميل إلى التشاؤم؟
المؤلف : لا تخلو من تشاؤم.
المندوب : ولكن موقف البطلة يدعو للتفاؤل فيما أعتقد؟
المؤلف : لا يخلو من تفاؤل.
المندوب : كيف تجمع مسرحية بين التشاؤم والتفاؤل وهما نقيضان؟
المؤلف : لا تخلو من تناقض.
المندوب : معذرة يا عميد المؤلفين ألا يعتبر ذلك ضعفًا؟
المؤلف : لا تخلو من ضعف.
المندوب : ولِمَ لَم تبلغ بها الكمال المعهود منك؟
المؤلف : الكمال للموت وحده.

(المندوب يضحك عاليًا، ثم يعقب ذلك صمت.)

المندوب : جميع المسارح تتساءل عن عرضكم القادم، وقد بلغت المنافسة بينها ذروة المرارة، المؤامرات تدبر في الظلام، المرتزقة يُستأجرون لإحداث الشغب، ألا يمكن أن يسود السلام بين المسارح؟ (صمت). كثيرون من العقلاء يعقدون عليك الآمال بوصفك عميد المؤلفين لتقوم بخطوةٍ حاسمة في هذا السبيل؟
المؤلف : لا وقت عندي إلا للعمل.
المندوب : هلا كرَّست لذلك يوم راحتك الأسبوعي؟
المؤلف : يوم الراحة للراحة.
المندوب : إنهم يحلمون بأن تجمع المسارح في وحدةٍ متعاونة يسودها السلام الذي يسود مسرحك.
المؤلف : لن أجد في سني هذه من يمكنه التفاهم معي.

(المندوب يبتسم وهو يشدُّ على ذراع المؤلف إعجابًا وتقديرًا.)

المندوب : أعلم أنك لا تحب الحديث عن روايةٍ جديدة قبل عرضها، ولكن لديَّ بعض أسئلةٍ تقليدية يتابعها الجمهور عادة بشغف. (المؤلف يهزُّ رأسه بالموافقة صامتًا) كم من الوقت استغرقت في كتابتها؟
المؤلف (حاسرًا كُمَّ الجاكتة عن معصمه اليسرى) : أنا لا أستعمل الساعات.
المندوب : ممَّ استلهمت فكرتها العامة؟
المؤلف : شرعتُ في كتابتها عقب تفكيرٍ طويل في المغص.
المندوب (ضاحكًا) : هل يمكن إرجاعها إلى تجربةٍ شخصية مرَّت بك في حياتك العامرة؟
المؤلف : ربما أمكن إرجاعها إلى علاقةٍ قديمة قد قامت بيني وبين مطربٍ أخرس.
المندوب : مطربٌ أخرس؟
المؤلف : نعم.
المندوب : وكيف أمكنك معرفة تطريبه؟
المؤلف : هذا ما ستُجيب عنه المسرحية.

(المندوب يضحك عاليًا، يصافح المؤلف. يذهب. المؤلف يلقي نظرة على الجالسين، يسوِّي ربطة عنقه ومنديل جيب الصدر تأهبًا للذهاب. الممثلة تنظر نحوه، تقاوم ضعفها فتعتدل في جلستها.)

الممثلة : انتظر. (تُدلِّك رأسها، تقوم بصعوبة، تمضي إلى أقرب المقعدين المتقابلين أمام المكتب لتعتمد عليه) متى نجتمع لنقرأ النص الجديد؟ (صمت) لا تهجرنا. (صمت) لقد وعدت بألا تهجرنا. (صمت) (مشيرة إلى الجالسين) ما وقع بيننا ليس الأول من نوعه، ولن يكون الأخير. (صمت) سوف تعود المياه إلى مجاريها. (صمت) (مشيرة إلى الممثل) سيكون أول من يعتذر، إني خير من يعرفه. (صمت) (يتبادلان نظرةً طويلة، هي متطلعة في لهفة، وهو لا ينمُّ وجهه عن شيء، فيتصافحان ثم يمضي على مهل إلى الخارج ويرد الباب وراءه. الممثلة تتابعه بعينَيها ثم تظل رانية إلى الباب.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤