الفصل الثالث

اليهودية في فلسطين ومسألة الجليل

ينشأ كل دين في سياق تاريخي معين وتحت شروط معينة، ثم تأخذ معتقدات هذا الدين في التغير والتطور، حتى تكتسب صيغتها الأخيرة التي لا تبدي استجابة للتغيير إلا في حدود الاجتهادات التي تطال المظهر من دون الجوهر، من هنا، فإن فهم أي دين مرتبط إلى هذا الحد أو ذاك بفهم الشروط التاريخية التي أحاطت بولادته ونشأته وتطوره، تغدو هذه المسألة أكثر حيوية وأهمية في دراستنا للدين اليهودي، وذلك بسبب الصلة الوثيقة التي يعقدها كتاب التوراة بين هذا الدين وتاريخ شعب معين هو «شعب إسرائيل»، وقد صارت هذه الصلة إلى درجة من القوة بحيث يصعب على قارئ التوراة التمييز بين الدين والتاريخ؛ لأن التاريخ هنا لم يعد إلا المسرح الذي تتجلى فيه مقاصد الإرادة الإلهية من خلال علاقة إله التوراة بشعبه المختار إسرائيل، كما أن الرسالة الروحية في كتاب التوراة كما يقدمها محرروه، لا تتكشف دفعة واحدة، وخلال حقبة قصيرة من الزمن، ومن خلال شخصية روحية واحدة، وإنما تتكشف عبر فترة زمنية تمتد قرابة ١٣٠٠ سنة، ومن خلال شخصيات روحية عديدة تبدأ بإبراهيم، الأب الأول، نحو عام ١٨٠٠ق.م. وتنتهي بعزرا الكاهن نحو عام ٤٥٠ق.م.

ولكن إلى أي حد تكتسب الرواية التوراتية مصداقية تاريخية؟ وإلى أي حد نستطيع الوثوق بالمخطط التاريخي العام لتكشف الرسالة الروحية في التوراة كما رسمه لنا محرروه؟ ما هو السياق التاريخي البديل لنشوء اليهودية؟ وما هو المدى الزمني والجغرافي الحقيقي لانتشار اليهودية؟ هل دانت فلسطين يومًا باليهودية؟ هل كان لليهود كيان سياسي في فلسطين في يوم من الأيام؟ ومتَّى وأين؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه في هذا الفصل، وهو الذي سيوصلنا أخيرًا إلى استقصاء البيئة الثقافية لمنطقة الجليل، مسرح الإنجيل.١

حتى وقت قريب كان الباحثون التوراتيون والمؤرخون، على حد سواء، مقتنعين إلى هذا الحد أو ذاك بالطابع التاريخي للرواية التوراتية، وبالصلة العضوية بين الديانة اليهودية وتاريخ شعب إسرائيل كما ترسمه هذه الرواية، غير أن المعلومات الآثارية والتاريخية التي توفرت بين أيدي الباحثين خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وبخاصة منذ أوائل ثمانينياته، قد قادت العديد من المؤرخين وعلماء الآثار الراديكاليين في الغرب، إلى الفصل بين الصورة التاريخية لإسرائيل القديمة وصورتها التوراتية.

وكلما كانت هذه المعلومات تتراكم ويتم الربط بينها، تبين للباحثين صعوبة ملاءمتها مع الرواية التوراتية عن أصول إسرائيل، وعن مملكتها الموحدة مملكة شاءُول وداود وسليمان، وعن مملكتيها التوأمين السامرة ويهوذا، أي إن النشاط الأركيولوجي المحموم الذي كان يهدف إلى إثبات الرواية التوراتية، قد أدى أخيرًا إلى عكس الغاية المنشودة، وبدأت حلقات الرواية التوراتية تخرج واحدة إثر أخرى من مجال التاريخ إلى مجال الأدب الديني، ولم يبقَ من أحداث ما يدعى بالأسفار التاريخية في التوراة (من سفر يشوع إلى أخبار الأيام الثاني) ما يتقاطع مع المصادر الخارجية، ويتفق مع نتائج التنقيب الأثري، سوى بضعة أخبار من الهزيع الأخير لحياة مملكتي السامرة ويهوذا، يشوبها الغموض والتشوش، ويثقل كاهلها المنظور اللاهوتي للمحررين التوراتيين.

إننا نعرف الآن أن ما يُدعى بعصر الآباء الذي ابتدأ بإبراهيم وانتهى برحيل أولاد يعقوب واستقرارهم في مصر، هو عبارة عن مجموعة قصص مستوحاة من ماضٍ خرافي لا يمكن وضعه في إطارٍ تاريخي حقيقي، ونعرف أيضًا أن الجماعات التي توطنت في مناطق الهضاب الفلسطينية في عصر الحديد الأول ١٢٠٠–١٠٠٠ق.م. (وهي الفترة المفترضة لدخول القبائل الإسرائيلية أرض كنعان) لم تخرج من مصر في هجرة جماعية قوامها مئات آلاف الأشخاص، ولم تدخل فلسطين بعد فترة تجوال في الصحراء، ولم تفتك بالسكان المحليين وتحل محلهم، ولم تأتِ معها بديانة نزل وحيها في سيناء، إن ثقافة هؤلاء المستوطنين كما تعكسها مخلفاتهم المادية تدل على انتمائهم إلى الثقافة الفلسطينية، فهم سكان محليون من مناطق فلسطين الكبرى تسربوا ببطء إلى مناطق الهضاب الفلسطينية التي كانت خالية من السكان، نتيجة موجة الجفاف الطويل التي ضربت المنطقة خلال عصر البرونز الأخير، ولا علاقة لهم بالقبائل العبرانية التي تسلسلت من أولاد يعقوب الخرافيين.

ونعرف الآن، وعلى وجه التأكيد، أن المناطق الهضبية الفلسطينية لم تشهد خلال القرن العاشر قبل الميلاد قيام مملكة موحدة حكمها على التوالي شاءول وداود وسليمان، لمت شمل القبائل العبرانية في كيان سياسي قوي، ثم ضمت إليها معظم المناطق الفلسطينية وجزءًا كبيرًا من شرقي الأردن وسورية الجنوبية، ذلك أن نتائج المسح الأركيولوجي الشامل لمناطق الهضاب الفلسطينية، تقول لنا بأن قيام مثل هذه المملكة لم يكن مستبعدًا فقط، بل كان مستحيلًا، فالمناطق الهضبية الشمالية (مرتفعات السامرة) لم تكن تحتوي في أواخر القرن الحادي عشر ق.م. وهي الفترة المفترضة لحكم الملك شاءول، إلا على ٢٠٠ مستوطنة زراعية صغيرة لا يتجاوز عدد سكانها مجتمعة بضعة آلاف نسمة، أما منطقة الهضاب الجنوبية (مرتفعات يهوذا) فلم تحتوِ حتى نهاية القرن العاشر، أي إلى الفترة المفترضة لموت الملك سليمان وانحلال المملكة الموحدة، إلا على بضع عشرات من المستوطنات الزراعية لا يتجاوز عدد سكانها الألفي نسمة، وأما مدينة أورشليم العاصمة المفترضة لهذه المملكة، فقد كانت خلال كامل القرن العاشر مدينة مهجورة ولا أثر فيها لحياة سكنية، إن ما يقوله لنا علم الآثار هو أن المملكة الموحدة لكل إسرائيل لم تقم لها قائمة؛ لأن القاعدة الاقتصادية والسكانية لم تتوفر فيها، ولم يكن هنالك عاصمة أو مراكز حضارية ذات شأن.٢

أما بخصوص المملكتين التوأمين إسرائيل (= السامرة) ويهوذا اللتين نشأتا عن المملكة الموحدة عقب موت الملك سليمان عام ٩٣١ق.م. فإن علم الآثار يقول لنا بأن مملكة إسرائيل قد ظهرت كدولة مكتملة النمو في منطقة الهضاب الشمالية قبل قرن ونصف تقريبًا من ظهور مملكة يهوذا في الجنوب، وإن الدولتين لم تتعاصرا إلا لفترة قصيرة جدًّا، إن المسح الأركيولوجي الميداني الشامل لمناطق الهضاب الفلسطينية، قد رسم لنا الصورة الأكثر قربًا إلى الحقيقة، بخصوص تشكل مملكة إسرائيل التاريخية ومملكة يهوذا، فهاتان الدولتان قد نشأتا على الخلفية العامة لثقافة عصر الحديد، وفي حقبتين متباعدتين، وشروط متباينة، وقد جاء سكان هاتين الدولتين من مناطق فلسطينية متعددة، ومن المناطق الرعوية في البلدان المجاورة؛ لأن الطابع الثقافي المحلي الكنعاني هو الطابع السائد في جميع المواقع، من هنا، فإن الروابط التي يمكن أن تكون قد جمعت بين هاتين المملكتين، ليست أكثر قوة من الروابط التي جمعت أي دولتين في منطقة فلسطين والجنوب السوري، والقاعدة المشتركة بينهما ليست إلا من ابتكار قصة الأصول التوراتية، أما قصة الأسباط الاثني عشر من بني إسرائيل، فلم تعد اليوم سوى رواية لاهوتية لا تحمل أي مصداقية تاريخية.

هذا وتبين لنا الدراسة النقدية المدققة للأسفار التوراتية، ولنصوص الحملات الآشورية على فلسطين خلال النصف الأول من الألف الأول قبل الميلاد، أن المساحة التي شغلها كل من إسرائيل ويهوذا لم تتعد المناطق الهضبية إلا على شكل مدٍّ استعماري قصير الأجل ومتقطع، لم يتوصل إلى استيعاب سكان المناطق المستعمرة وضم أراضيها بشكل كامل، وبشكل خاص فقد كانت منطقة الجليل منذ القرن العاشر تحت السيطرة غير المباشرة لكل من مملكتي صور ودمشق، بحيث بسطت دمشق نفوذها السياسي على الجليل الشرقي، وبسطت صور نفوذها على الجليل الغربي، أما بخصوص وادي يزرعيل (مرج ابن عامر) الذي يفصل مرتفعات السامرة عن مرتفعات الجليل، فقد تحكمت صور بمدينة يزرعيل الواقعة عند مدخل الوادي غربًا، والتي يمر بها الطريق التجاري الساحلي قبل صعوده إلى فينيقيا، وتحكمت دمشق ببقية المدن وصولًا إلى بيت شان عند مخرج الوادي شرقًا. وعندما شعر ملوك السامرة بالقوة توسعوا شمالًا باتجاه وادي يزرعيل والجليل، ولكن بقاءهم في هذه المناطق لم يدم طويلًا؛ لأن الحملات الآشورية المتوالية التي قادت أخيرًا إلى سقوط السامرة، قد حرمتها من جميع ممتلكاتها الشمالية قبل أن تُجهز عليها.

لقد اختلفت مصائر إسرائيل–السامرة ويهوذا، مثلما اختفت وتباينت أصولهما وتباينت نشأتهما، فقد دمر الآشوريون السامرة عاصمة إسرائيل في عام ٧٢١ق.م. وسبوا قسمًا كبيرًا من السامريين إلى آشور وأحلوا محلهم سكانًا جددًا من المناطق المقهورة الأخرى، واختفت مملكة السامرة إلى الأبد من التاريخ، وحلت محلها مقاطعة السامرة التابعة لآشور، أما يهوذا فقد عاشت بعد دمار إسرائيل قرابة قرن ونصف من الزمان، بسبب سياسة العمالة لملوك آشور، ثم انتهت بعد فترة قصيرة من زوال سلطان آشور وصعود المملكة البابلية الجديدة، وعندما قام نبوخذ نصر الكلداني بتدمير أورشليم نحو عام ٥٨٧ق.م. سبى قسمًا كبيرًا من أهلها إلى مناطق بابل، وبقوا هناك حتى سقوط العاصمة بابل بيد قورش الفارسي عام ٥٣٩ق.م.

إضافة إلى تباين أصول يهوذا وإسرائيل، واختلاف مصائرهما التاريخية، فإن القاعدة الدينية التي جمعت بينهما لم تكن أكثر تجانسًا من القاعدة الدينية التي جمعت أي مملكتين في فلسطين خلال تلك الفترة من حياتهما، إن المسح الآثاري الشامل لمنطقتي إسرائيل ويهوذا، من أكبر المدن إلى أصغر القرى، لم يساعدنا على تلمس أي أثر للمعتقدات والطقوس التوراتية، كما رسمها لنا محررو التوراة، وذلك خلال كامل الفترة السابقة على العودة من السبي وإعادة بناء هيكل أورشليم، فجميع المعابد والمقامات الدينية والتماثيل وشارات الألوهة، تشير إلى استمرارية دينية منذ عصر البرونز الأخير إلى عصر الحديد (أي من العصر الكنعاني إلى العصر المدعو بالإسرائيلي)، والديانة التي سادت هنا هي ديانة كنعانية تقليدية، أما الإله يهوه، الذي تركز حوله المعتقد التوراتي فيما بعد، فلم يكن العثور على كتابات تذكره بالطريقة التي صورته بها أسفار التوراة، ولا على هياكل ومقامات ومذابح مكرسة له، لقد كان هنالك إله اسمه يهوه، ولكنه غير يهوه المعروف في التوراة، فهو يذكر في عدد قليل من النقوش التي اكتشفت قرب مدينة حبرون (الخليل)، وبعض المناطق الواقعة إلى الجنوب من يهوذا، إلى جانب عدد آخر من الآلهة الفلسطينية، وتذكر معه زوجته عشيرة، وهي الإلهة الكنعانية المعروفة لنا جيدًا من نصوص أوغاريت والنصوص الفينيقية.

إن الدين اليهودي لم يتشكل في سياق تاريخ شعب إسرائيل كما ترويه الأسفار التوراتية؛ لأن مثل هذا التاريخ لم يكن إلا أخيولة أدبية من ابتكار المحررين التوراتيين، الذين ابتدءُوا منذ مطلع العصر الفارسي (أواخر القرن السادس ومطلع القرن الخامس ق.م.) بابتكار قصة أصول للمجتمع الجديد الذي تشكل في مقاطعة «يهود» الفارسية، التي قامت على جزء من أراضي مملكة يهوذا البائدة، ودعيت في العصر الهيلنستي بمقاطعة «اليهودية»، ومع ابتكارهم لقصة الأصول هذه، فقد نسج المحررون إليها قصة أصول أخرى للمعتقد التوراتي المتأخر، فجعلوا هذا المعتقد يظهر لأول مرة في عصر الأب الأول إبراهيم، ويتطور عبر بقية الرواية التوراتية، ولكننا نعلم الآن على وجه اليقين أن الديانة اليهودية قد بدأت بالتشكل والتطور خلال العصر الفارسي، وقسم لا بأس به من العصر الهيلينستي، أي خلال القرون الثلاثة الواقعة بين أواخر القرن السادس وأوائل القرن الثاني قبل الميلاد، وهي الفترة التي تمت خلالها الصياغة التدريجية للأسفار التوراتية، كما شهدت هذه الفترة تشكل الإثنية اليهودية التي عبرت عن نفسها بالتمرد على الحكم السلوقي نحو عام ١٧٠ق.م. ومع ذلك فإننا جاهلون بحقيقة ما جرى خلال هذه الفترة؛ لأن الرواية التاريخية في التوراة تنتهي مع سفر نحميا، نحو عام ٤٤٠ق.م. أما المصادر الخارجية فصامتة تمامًا عما كان يجري في مقاطعة اليهودية حتى مطلع القرن الثاني الميلادي.

ولكننا نستطيع تقديم بعض التكهنات بهذا الخصوص، فلقد عاد مسبيو يهوذا بعد أن أطلقهم قورش الفارسي، ووجههم لإعادة بناء مدينة أورشليم وهيكلها، وجاءت عودتهم على ثلاث دفعات رئيسية، على ما نفهم من النص التوراتي، كانت الأولى بقيادة أحد أفراد النسل الملكي واسمه شيشبصر نحو عام ٥٣٩ق.م. في عهد قورش الأول، والثانية نحو عام ٥٢٢ق.م. في عهد الملك داريوس حفيد قورش، بقيادة زرُبابل، وهو الذي أعاد بناء هيكل أورشليم، أما الموجة الثالثة والأخيرة فكانت بقيادة عزرا الكاهن نحو عام ٤٥٨ق.م. وفي عهد عزرا أعيد بناء مدينة أورشليم من قبل نحميا الذي عينه البلاط الفارسي واليًا على المقاطعة، ويبدو أن عزرا الكاهن هذا، هو الذي ابتدأ عملية تحرير أسفار التوراة بعد أن طابق بين الإله العالمي الواحد للديانة الزرادشتية، والإله الفلسطيني القديم يهوه، وهو الذي ابتدر نواة الشريعة التوراتية التي قامت في البدء على عدد من بنود الشريعة الزرادشتية، ثم أخذت بالتوسع تدريجيًّا على عهد خلفائه من كهنة أورشليم.

خلال القرون التالية التي توسعت فيها حلقات القصة التوراتية لم يكن محررو التوراة يبتكرون كل شيء من بنات أفكارهم، وإنما أفادوا من التاريخ السياسي لمملكتي إسرائيل ويهوذا، ومن التراث الديني والأدبي المحلي، ويبدو أن الوحدات الأساسية للقصة التوراتية قد وُلدت كلٌّ على حدة، وتم إنتاجها من قبل محررين مختلفين، وعلى فترات متباعدة، واستخدم كل محرر أو مجموعة محررين مصادر وموروثات متباينة المنشأ، ثم جاءت عملية التنسيق الأخيرة لتجمع بينها في رواية مطردة، ومن خلال منظور أيديولوجي وكرونولوجي مفروض عليها من خارجها، وبذلك تم إنجاز كتاب التوراة، وظهرت إسرائيل التوراتية ككيان ذهني وأدبي على أنقاض تاريخ السامرة ويهوذا المطمور تحت ركام الدمار الآشوري والبابلي، ومع تكامل حلقات هذا الكتاب، كانت اليهودية تتشكل تدريجيًّا وتغدو مصدرًا للتلاحم الإثني والاجتماعي في هذه المقاطعة الصغيرة والمنسية، التي قامت على جزءٍ لا يتعدى ربع مساحة مملكة يهوذا الكنعانية القديمة، وقد بقيت اليهودية محصورة في هذه البقعة الضيقة من المناطق الهضبية الفلسطينية حتى ظهور الأسرة المكابية التي حكمت أورشليم في أواسط القرن الثاني الميلادي، وظهر منها ملوك أقوياء استغلوا فترة ضعف السلطة المركزية السلوقية، فتوسعوا شمالًا باتجاه السامرة ووادي يزرعيل والجليل، وفرضوا الدين اليهودي بالقوة على السكان.

(١) مقاطعة اليهودية في العصر الهيلينستي

آلت فلسطين مع بقية مناطق بلاد الشام إلى الإسكندر المقدوني، بعد انتصاره الحاسم على الفرس في معركة إيسوس عام ٣٣ق.م. وبعد وفاة الإسكندر، تم تقسيم الإمبراطورية الفارسية بين قادته الرئيسيين، فآلت بلاد الشام إلى سلوقس، بينما احتفظ بطليموس بمصر وفلسطين وشرقي الأردن، تلا ذلك فترة صراع بين السلوقيين والبطالمة، دامت قرابة قرن كامل، آلت في نهايته فلسطين وسورية الجنوبية إلى السلوقيين، وعندما دخل الملك السلوقي أنطوخيوس الثالث إلى أورشليم عام ١٩٨ق.م. أعطى المدينة امتيازات خاصة، واعترف بنظامها السياسي القائم على السلطة الكهنوتية برئاسة الكاهن الأعلى للهيكل.

على عكس الحكَّام الفرس السابقين، فقد كان الحكام الإغريق مهتمين بنشر ثقافتهم الخاصة وأساليب حياتهم، جريًا على سُنة الإسكندر الأكبر، وهذا ما تقبلته المناطق المحكومة عن طيب خاطر، بل وسعت إليه حثيثًا، نظرًا لما يوفره لها من مزايا عند الحاكم، وكان من أنجع وسائل نشر الثقافة الإغريقية هو نظام المدينة اليونانية «بوليس»، فقد قام الحاكم الإغريقي بإنشاء مدن جديدة، وأعاد تنظيم وإعمار مدن قديمة على النمط الإغريقي، وجميعها أُعطي لقب البوليس، سواء دخل هذا اللقب في اسمها الجديد أم لم يدخل، ولقب «البوليس» لا يتوقف عند التسمية السطحية فقط، بل إنه ينطوي على مضامين سياسية واجتماعية ودينية عميقة الأثر في حياة المجتمع المدني، فالمدينة التي تكتسب اللقب تُحكم إداريًّا وسياسيًّا على نمط دولة المدينة الإغريقية، بمجالسها الشعبية وبقية مؤسساتها السياسية، وتشاد فيها معابد للآلهة اليونانية بعد مطابقتها مع الآلهة المحلية القديمة، وتُنشر فيها الثقافة اليونانية عن طريق عدد من المؤسسات المدنية مثل الجمنازيوم، وهو بناءٌ مخصص للتدريب على الألعاب الرياضية، والستاديوم وهو ملعب مفتوح يحتوي على مدرجات لمشاهدة السباقات والألعاب الرياضية، والأوديوم وهو بناء مسقوف من الأعلى ومفتوح الجوانب ذي مدرجات، مخصص للاستماع إلى الموسيقى ومشاهدة العروض المسرحية الخفيفة، والمسرح المدرج الضخم الذي تُقدم فيه العروض المسرحية الطويلة، والليكيوم وهو قاعة مخصصة للاجتماعات والمناظرات والمحاضرات، والآجورا وهو رواق يحف بإحدى الساحات الرئيسية مخصص للاجتماعات السياسية.

في عام ١٧٥ق.م. ورث العرش السلوقي أنطوخيوس الرابع (أبيفانوس) الذي وجد فيه أنصار الحركة الإصلاحية الميالون إلى الثقافة الهيلينية في أورشليم نصيرًا قويًّا، فقد عمد هذا الملك التواق إلى نشر الثقافة الهيلينية إلى دعم الإصلاحيين عن طريق إزاحة الكاهن الأعلى المحافظ أونياس، واستبداله بواحد من الكهنة ذوي الميول الإصلاحية واسمه ياسون، وقد ابتدأ ياسون عملية إسباغ الطابع الهيليني على المدينة ببناء جمنازيوم قرب جدار الهيكل، وقام بتحويل الإيرادات الهائلة للهيكل من الإنفاق على الذبائح والقرابين إلى الفعاليات والنشاطات والمرافق ذات النفع العام، كما أنفق على المباريات والألعاب الرياضية بسخاء، وبعد بضعة أعوام أصدر أبيفانوس مرسومًا يستبدل فيه الشريعة الموسوية الناظمة للعلاقات المدنية في مقاطعة اليهودية بالقانون المدني السلوقي، وحوَّل هيكل أورشليم من مركز ديني محلي إلى مركز ديني عالمي، وذلك بالمطابقة بين يهوه اليهودي وزيوس الأوليمبي، ونصب تمثالًا لزيوس–يهوه في الهيكل.

لو أن ما حصل في أورشليم قد حصل في أي مدينة سورية تطمح إلى مرتبة المدينة اليونانية، لكان أمرًا طبيعيًّا بل ومرغوبًا فيه من قبل الجميع، ولكن المجتمع اليهودي الذي بقي محافظًا في غالبيته، لم يكن جاهزًا بعد للانفتاح، ولم تجد عامة المتدينين في عبادة يهوه–زيوس إلا شكلًا من أشكال عبادة بعل التي نددت بها أسفار الأنبياء، وما لبث التململ حتى تحول إلى تمرد اتخذ شكل حرب عصابات بقيادة رجل يدعى متَّى حشمون، وهو سليل أسرة كهنوتية، وأولاده الخمسة. بعد عامين من المواجهات بين الثوار والقوات السلوقية، استطاع الإخوة الخمسة بقيادة يهوذا الملقب بالمكابي طرد الحامية السلوقية خارج منطقة أورشليم عام ١٦٤ق.م. وطهروا المعبد من كل رموز الإصلاح الديني، ولكن الأمور لم تستقر تمامًا للإخوة الذين دُعوا بالمكابيين إلا في عام ١٤٣ق.م. عندما أعلن سمعان آخر الإخوة المكابيين، استقلال مقاطعة اليهودية عن سلوقيا، ونصب نفسه كاهنًا أعلى تتركز بين يديه جميع السلطات الدينية والدنيوية، وبذلك تم تأسيس أول كيان سياسي مستقل لليهود في فلسطين، دام قرابة ثمانين سنة.

ابتدأ سمعان بخطة شاملة لمحو كل آثار الهيلينية والعودة إلى التقاليد الدينية القديمة، فألغى المؤسسات التربوية والثقافية الهيلنستية، وأحل محلها نظامًا قويًّا للتعليم قوامه شبكة من المدارس التي تعلم أسفار التوراة، ويقصدها الشبان بدل الجمنازيوم والملاعب والمسارح اليونانية، وساعده في حملته الثقافية هذه طائفة الصدوقيين، وهي طائفةٌ متزمةٌ تلتزم التفسير الحرفي للكتاب المقدس، وترفض كل شكل من أشكال التفكير الحر، حكم سمعان من عام ١٤٢ إلى عام ١٣٤ق.م. وعمل خلال هذه الفترة على توسيع مناطق نفوذ باتجاه الغرب والشمال الغربي، فضم إليه يافا وحصل بذلك على ميناء على البحر المتوسط.

لم يأتِ تشكيل الدولة المكابية نتيجة للقوة العسكرية للمكابيين، ولا لبطولات وتضحيات أولاد متَّى حشمون الذين رفعهم الخيال الشعبي في سفري المكابيين إلى مصاف الأبطال الخرافيين، فمقاطعة اليهودية لم تكن سوى مقاطعة صغيرة وفقيرة ومتخلفة في كل المجالات، ولم يكن بمقدورها تحقيق الاستقلال لولا التفكك السياسي للدولة السلوقية، وصعود نجم روما التي كانت في ذلك الوقت تضغط على سلوقيا وتفرض عليها الإتاوات الباهظة. وفي الحقيقة، فإن استقلال مقاطعة اليهودية قد جاء في سياق سلسلة من العمليات الانفصالية عن الإدارة المركزية، وقيام العديد من الولايات السلوقية بإعلان استقلالها، مستفيدة من الخلافات المستمرة بين أفراد الأسرة المالكة السلوقية، والصراع على السلطة فيما بينهم.

بعد وفاة سمعان المكابي عام ١٣٤ق.م. خلفه ابنه المدعو جون هيركانوس، كان هيركانوس تلميذًا نجيبًا للتوراة، وقد اعتقد أن الحكمة الإلهية قد اختارته لإعادة فتح كنعان على طريقة يشوع بن نون، فبدأ بتجهيز جيش مدرب من المرتزقة الذين أنفق عليهم بسخاء، وعندما أحس بقوته كانت السامرة هدفه الأول، فأحرقها ودمرها وذبح عشرات الآلاف من سكانها، وألحق كامل مناطقها بأملاكه وصولًا إلى وادي يزرعيل، حيث أعمل السيف في سكان بيت شان وقتل منهم الآلاف، ثم توجه نحو الجنوب وضم إليه منطقة أدوم، وفي كل مكان وصلت إليه قواته كان على الأهالي إما مواجهة الموت أو اعتناق اليهودية. وعلى الرغم من أنه لم يتخذ لقب الملك، إلا أن مقاطعة اليهودية قد تحولت في عهده إلى مملكة كبيرة تم اكتسابها بحد السيف.

تُوفِّي هيركانوس عام ١٠٤ق.م. وخلفه ابنه أرسطو بولس الأول، الذي اتخذ لقب الملك، واستطاع خلال سنة واحدة من حكمه ضم منطقة الجليل، ثم تُوفِّي فجأة وخلفه أخوه أليكسندر ينايوس. كان ينايوس آخر الشخصيات المهمة في الأسرة المكابية، وهو الذي وسع حدود الدولة اليهودية إلى أقصى مدًى جغرافي لها، وذلك باستيلائه على معظم مناطق شرقي الأردن، إضافة إلى ما تبقى من المناطق الغربية والساحل، بينما كان السلوقيون يقفون موقف المتفرج بانتظار الضربة الأخيرة المتوقعة من روما، والتي لم تتأخر كثيرًا، كان ينايوس أشرس الحكام المكابيين (ويدعون أيضًا بالحشمونيين)، فقد تابع سياسة التهويد تحت قوة السلاح وطبقها على أوسع نطاق، كما مارس القمع والإرهاب والقتل الجماعي في كل مكان، ولم ينجُ من طغيانه سكان اليهودية أنفسهم، وهذا ما أحدث تململًا شعبيًّا واسعًا، ما لبث حتى تحول إلى تمرد بقيادة الطائفة الفريسية.

نشأ الفريسيون من قلب الطبقات الشعبية، وقد ورثوا قسمًا لا بأس به من أفكار الإصلاحيين القدماء، ولكنهم تميزوا بالاعتدال وبقوا ضمن الإطار العام للعقيدة التقليدية، وقد قالوا بأن يهوه عندما أنزل الشريعة على موسى قد أنزل معها شريعة شفوية تم تداولها عبر أجيال من الحكماء، وبواسطتها يمكن تفسير وتكميل الشريعة المكتوبة بما يتلاءم والظروف المستجدة. وفي المقابل فقد رفضت الطائفة الصدوقية هذه الأفكار، وأصرت على عدم وجود شريعة غير مكتوبة، وأدانت كل التفسيرات المرنة والعصرية الناجمة عن إعمال المنطق الفريسي في النصوص المقدسة، وقد وقفت الطبقات الشعبية إلى جانب الفريسيين، بينما وقفت الأرستقراطية والكهنوت إلى جانب الصدوقيين والحكَّام، وتحول التوتر إلى تمرد فإلى حرب أهلية غلب عليها الطابع الطبقي، ولم تنتهِ إلا بوفاة أليكسندر ينايوس عام ٧٦ق.م. وصعود زوجته سالومي على العرش.

حكمت سالومي تسع سنوات (٧٦–٦٧ق.م)، وتقربت من الفريسيين فأوكلت إليهم مراكز حساسة في الدولة، فكانت سنوات حكمها عهد استقرار ومصالحة بين شرائع المجتمع المتناقضة، وبعد وفاتها تنازع ابناها أرسطو بولس الثاني وهيركانوس الثاني على السلطة. في ذلك الوقت كان القائد الروماني بومبي قد صفَّى المملكة السلوقية، ودخل دمشق عام ٦٥ق.م. فقصده الأخوان المتنازعان وكلٌّ منهما يسعى إلى تثبيته حاكمًا إقليميًّا على اليهودية وممتلكاتها، ولكن وزير هيركانوس المدعو أنتيبار، وهو آدومي، قصد دمشق واتفق مع القائد الروماني على فتح أبواب أورشليم أمام الرومان، مقابل الاعتراف بسلطة سيده هيركانوس على أورشليم، وكان، عندما وصل الرومان، أن أنصار أرسطو بولس تحصنوا في المدينة ورفضوا فتح الأبواب، فحاصرهم الرومان ثلاثة أشهر ثم فتحوا المدينة عام ٦٣ق.م. وعلى الأثر ثبت بومبي هيركانوس في منصبه، ولكن لا كملك بل ككاهن أعلى يتمتع بصلاحيات الحكم والإدارة على مقاطعة اليهودية، التي تم تجريدها من كل المناطق التي كسبها المكابيون، وإعادتها مرةً ثانيةً مجرد مقاطعة صغيرة من مقاطعات فلسلطين، وبذلك انتهت أول وآخر دولة مستقلة لليهود دامت قرابة ثمانين سنة فقط، وذلك من عام ١٤٢ إلى عام ٦٣ق.م.

(٢) مقاطعة اليهودية في العصر الروماني

خلال العشرين سنة الأولى من العصر الروماني في سورية، لم يحصل تغير يُذكر على النظام الإداري الذي وضعه بومبي؛ لأن روما كانت تشهد في ذلك الوقت أحداثًا جسامًا قادت إلى نهاية الجمهورية وصعود القيصرية، بعد صراع على السلطة بين بومبي ويوليوس قيصر انتهى بانتصار قيصر الذي أنهى الجمهورية عام ٤٨ق.م. وقد قام الوزير الداهية أنتيبار الآدومي خلال هذه الفترة بسلسلة من التحركات الدبلوماسية، قادت أخيرًا إلى اعتراف قيصر بهيركانوس الثاني وتثبيته في منصبه. بعد بضع سنوات قامت مجموعة يهودية أصولية باغتيال الوزير أنتيبار فأُعطي المنصب إلى ابنه هيرود.

كان هيرود آدوميًّا من جهة الأبوين؛ ولهذا لُقب بهيرود العربي؛ لأن الآدوميين في القرن الأول قبل الميلاد كانوا قد ذابوا في الجماعات النبطية العربية التي استقرت في مناطقهم التقليدية الواقعة إلى الجنوب من البحر الأحمر باتجاه خليج العقبة. أما عن ديانة هيرود، فكانت نوعًا من اليهودية السياسية التي ورثها عن أبيه أنتيبار الذي لم يولد من أسرة يهودية، ولكنه تهوَّد خلال خدمته في قصر المكابيين وترقيته فيه، من هنا، فإن اليهود لم يعتبروا هيرود يهوديًّا قط، مثلما لم يعتبر نفسه كذلك، وكانت فترة حكمه صراعًا مستمرًّا مع اليهود والديانة اليهودية التقليدية.

نحو عام ٤٠ق.م. دفعت الأصولية اليهودية إلى واجهة الأحداث واحدًا من أفراد الأسرة المكابية يدعى أنتيغونوس، وهو ابن أخٍ لهيركانوس الثاني. وقد تآمر هذا لقلب نظام الحكم، وتراسل مع البلاط الفارسي لمعونته في مشروعه، فأمده الفرس بجيش ساعده على دخول أورشليم، فقبض على عمه وأودعه في السجن بعد أن قطع أذنيه، أما هيرود فقد استطاع الهرب ولجأ إلى روما، كانت الأوضاع في روما شديدة التعقيد عقب مقتل يوليوس قيصر، وكانت السلطة بيد مجلس الشيوخ الذي يدير الأمور من خلال حكومة ثلاثية مؤلفة من أنطونيو وليبيدو وأوكتافيان، الذي صار فيما بعد قيصرًا تحت لقب أوغسطوس، فمثل هيرود أمام مجلس الشيوخ والحكومة الثلاثية، وأقنعهم بأنه الوحيد القادر على استعادة أورشليم إلى روما، فعيَّنه المجلس ملكًا على اليهودية مطلق الصلاحية وزوده بجيش قوامه ٣٠٠٠٠ جندي، سار معه إلى أورشليم حيث هزم الفرس ودخل المدينة عام ٣٧ق.م. فحكمها مدة تزيد عن الثلاثين سنة.

بعد أن صار أوكتافيان قيصرًا عقب تغلبه على أنطونيو في معركة أوكتيوم الشهيرة، تابع دعم هيرود وأعطاه المزيد من المقاطعات، حتى اشتملت مملكته على جميع المناطق السابقة للمكابيين في عصر أليكسندر ينايوس، وزادت عليها شمالًا باتجاه حوران والجولان في الجنوب السوري، فقد أثبت هيرود أنه الوحيد القادر على تدعيم سلطة روما في هذه المناطق، وكان أكثر الحكام السوريين ولاءً لها ودعمًا لجيوشها في مواجهة الفرس، يضاف إلى ذلك أنه قد أثبت للرومان أن الدولة اليهودية لن تعود إلى سابق عهدها كدولة دينية، وذلك بفصله لمنصب الكاهن الأعلى عن منصب الحاكم، وإحلاله للقوانين الرومانية محل الشريعة التوراتية من أجل الفصل في العلاقات المدنية، وعندما حاول السنهدرين، وهو المحفل اليهودي الذي يساعد الكاهن الأعلى في مهماته، التدخل من أجل منع تطبيق القوانين الرومانية على اليهود، أعدم هيرود ٤٦ من أعضائه البارزين، ثم أخذ يعين ويعزل الكاهن الأعلى على هواه، وبذلك تم تحميل منصب الكاهن الأعلى إلى مجرد وظيفة رسمية، وجرده من سلطانه وهيبته السابقة.

حكم هيرود مملكته بقبضة من حديد، حتى إن آخر مجازره ضد اليهود قد تمت وهو على فراش الموت، ولكن عصره كان عصر ثراء وازدهار في جميع المجالات، لقد أحب هيرود جمع المال، ولكنه أحب إنفاقه بسخاء أيضًا، فعمل على تنشيط التجارة والإفادة من مكوسها، وجعل طرقها آمنة، والتزم تحصيل الضرائب في مملكته الواسعة، وشارك روما في عائداتها، وكان جل إنفاقه على المرافق والمشاريع العامة، وبما أنه كان محبًّا للفكر الهيليني ولطرائق الحياة الإغريقية، فقد عمل على تزويد أورشليم بكل مظاهر ومرافق المدينة الرومانية–اليونانية، فبنى فيها مؤسسات ثقافية هيلينية كالمسرح والملعب الرياضي، وبما أنه لم ينظر إلى نفسه كحاكم يهودي، وإنما كحاكم لكل الشعوب المنضوية تحت لواء هذه المملكة الرومانية، فقد زاد اهتمامه بالمناطق الأخرى عن اهتمامه باليهودية، فبنى أو أعاد بناء مدن وثنية عديدة، وأشاد فيها معابد للآلهة المحلية، وبعيدًا عن المناطق التابعة لمملكته، فقد طالت عطايا هيرود التي بذلها للمشاريع العمرانية ذات الطابع الهيليني جميع مدن بلاد الشام، وتجاوزتها إلى أرض اليونان.

لقد كان هيرود أكثر من هيليني متحمس، كما وصفه المؤرخون، كان موطنًا عالميًّا يؤمن بوحدة الأديان والثقافات، وبانفتاح الحضارات على بعضها وتعاونها على بناء دولة عالمية شمولية، لا فضل فيها لدين على دين ولا لعرق على عرق، وهو لم يكره شيئًا قدر كراهيته للتعصب العرقي والديني والانغلاق الثقافي والمذهبي، ومن هنا جاءت كراهيته وكراهية اليهود له، ومع ذلك، فقد بنى في أورشليم هيكل يهوه الذي ذاع صيته في المنطقة، وكان درة نشاطات هيرود العمرانية، ولم يكن في ذهنه عندما بنى هذا الهيكل سوى مشروع أنطوخيوس أبيفانوس القديم، الذي هدف إلى مطابقة الإله يهوه بالإله زيوس الأوليمبي، وقد جاء بناء الهيكل الجديد انطلاقًا من هيكل زرُبابل القديم الذي وسعه إلى الضعف وزاد عليه في الأبهة والعظمة، حتى كان لمعان جدرانه المبنية بالحجر الأبيض المطعم بالذهب والفضة يبهر أنظار القادمين من مسافة بعيدة.

لم تكن مملكة هيرود يهودية، بل على العكس، فلقد عمل هيرود طوال حياته على قمع روح العصبية اليهودية، وأتاح لشعوب مملكته حياة دينية حرة وشجعها على ممارسة طقوسها، وساعدها على بناء معابدها الخاصة، وهذا ما حفز غالبية من تهوَّد تحت قوة السلاح على الارتداد عن اليهودية والعودة إلى دين أسلافه، وعندما تُوفِّي في عام ٤ق.م. قسمت مملكته بين أولاده الثلاثة، فأعطيت اليهودية والسامرة والآدومية إلى أرخيلاوس والجليل إلى أنتيباس، وشرقي الأردن والجولانية إلى فيليبس، حكم أرخيلاوس بن هيرود في أورشليم فيما بين عام ٤ق.م. و٦م، ثم تمت إزاحته لتصبح منطقة اليهودية مقاطعة تُحكم من قبل ناظر روماني (Procurator) يتبع مباشرة إلى القنصل الروماني، الذي يدير ولاية سورية من دمشق، ومنذ ذلك الوقيت بقيت مقاطعة اليهودية ضمن حدودها السابقة التي رسمها لها بومبي، تُحكم من قبل نُظار رومانيين، بلغ عددهم حتى دمار أورشليم عام ٧٠م أربعة عشر ناظرًا، وفيما عدا بونتوس بيلاطس الذي ارتبط اسمه بمحاكمة يسوع وصلبه، فإننا لا نعرف عن هؤلاء النظار سوى أسمائهم.

في عام ٦٦م قامت الأصولية اليهودية بآخر جولاتها من أجل استعادة الاستقلال، ولكن التمرد أُخضع بقسوة من قبل الرومان، وقام القائد الروماني تيتوس بإحراق وتدمير هيكل هيرود ومعظم أحياء أورشليم عام ٧٠م، ولكن الحياة لم تتوقف تمامًا في المدينة، وبقي قسم من السكان يعيش فيها، ولكن من دون معبدٍ ولا ذبائح ولا طقوس، أما في بقية مناطق المقاطعة، فقد تناقص عدد السكان نتيجة الحرب والنزوح، وأقفرت الأراضي الزراعية وتدهورت الحياة الاقتصادية بين عامي ١٣٠ و١٣١م، قام الإمبراطور هادريان بزيارة عدد من المناطق الشرقية للإمبراطورية، وأرسى القواعد لبناء عدد من المدن الرومانية فيها، وقد أعلن خلال هذه الزيارة عن عزمه على بناء مدينة رومانية في موقع أورشليم، وهذا ما أشعل نار الثورة اليهودية الثانية بقيادة رجل يدعى سمعان باركوخبا، الذي استولى على أورشليم وأعلن اليهودية دولة مستقلة.

جاء رد فعل روما هادئًا، وقامت استراتيجية هادريان على التمشيط البطيء لمناطق اليهودية التي سقطت تدريجيًّا، وهنا يقول المؤرخ الروماني ديوكاسيوس إن الرومان استولوا على خمسين بلدةً وذبحوا الثوار فيها كما هدموا ٩٨٥ قرية، حتى بلغ عدد القتلى ٨٥٠٠٠٠ نسمة، بعد ذلك جرى الهجوم الأخير على أورشليم عام ١٣٥م، وهُدمت حجرًا حجرًا وسويت جميع أبنيتها بالتراب، أما من بقي حيًّا من اليهود فقد تم بيعه في أسواق النخاسة، حتى إن سعر اليهودي صار أدنى من سعر الحمار، بعد ذلك أقام هادريان في موقع أورشليم مدينة رومانية تحت اسم إيليا كابيتولينا، ومنع دخول أي يهودي إليها تحت طائلة الموت، وإيليا كابيتولينا هذه هي التي سلم سكانها المسيحيون مفاتيحها إلى عمر بن الخطاب خلال الفتوح العربية لبلاد الشام.

(٣) الجليل مسرح الإنجيل

تبدو منطقة فلسطين صورة مصغرة عن الغرب السوري الذي تُشكل قسمه الأدنى الجنوبي، وهي تتألف من المناطق الجغرافية التالية:
  • (١)

    شريط الموانئ الساحلية، وأهمها عكو (عكا)، ويوبا (يافا)، وأشقلون (عسقلان)، وغزة.

  • (٢)

    السهل الساحلي، وهو شريط خصب من الأرض الموازية للبحر.

  • (٣)

    منطقة التلال المنخفضة (أو سهل شفلح) ويشكلها الانحدار التدريجي لمنطقة الهضاب الفلسطينية.

  • (٤)

    الهضاب الفلسطينية وهي بمثابة الامتدادات المنخفضة لجبل لبنان الشرقي، وتتألف من أربعة أقسام: (أ) مرتفعات الجليل في الشمال، يليها وادي يزرعيل (مرج ابن عامر)، الذي يفصل الجليل عن بقية الهضاب الفلسطينية. (ب) الهضاب المركزية أو مرتفعات السامرة. (ﺟ) مرتفعات يهوذا. (د) نجدة النقب.

  • (٥)

    وادي الأردن، وهو غورٌ عميق يمتد بين طبرية والبحر الميت، ثم يستمر بعد ذلك في وادي عربة.

إن الصورة العامة التي تقدمها لنا جغرافية فلسطين، هي صورة منطقة متنوعة تتألف من بيئات معزولة بعضها عن بعض، وقد انعكست هذه الجغرافية المتنوعة على الحياة السياسية، ففي منطقة كهذه يصعب تحقيق الوحدة السياسية؛ لذا فقد كانت فلسطين على الدوام مقسمة إلى عدد من الدويلات الصغيرة المستقلة، وتتجلى عزلة البيئات الفلسطينية بشكل خاص في مناطق الهضاب، ونموذجها منطقة الجليل التي يفصلها عن الهضاب المركزية ومرتفعات يهوذا وادي يزرعيل العريض والخصب، فمنذ أواخر عصر البرونز القديم، في أواخر الألف الثالث قبل الميلاد، ظهرت في الجليل الأعلى مدينة حاصور الشهيرة في العالم القديم، والتي تحكَّمت في منطقة الجليل فيما يشبه دولة المدينة الموسعة خلال عصر البرونز الوسيط والحديث، وصولًا إلى دمارها في نهايات القرن الثالث عشر قبل الميلاد (ربما على يد شعوب البحر).

تشير الدلائل الأركيولوجية والتاريخية إلى أن صلات الجليل الثقافية والسياسية مع منطقة الساحل الفينيقي، ومع العالم السوري الأوسع، كانت أقوى من صلاته مع المنطقة الفلسطينية، فإلى جانب اللقى الأثرية والبنى المعمارية المكتشفة، والتي تشير بقوة إلى روابط الجليل مع الشمال أكثر من روابطه مع الجنوب، وقد ورد اسم حاصور في أكثر من عشرين رقيمًا اكتشفت ضمن أرشيف مدينة ماري على الفرات الأوسط. ونعرف من هذه الرُّقم عن عدد القناصل والسفراء الذي كانوا يفدون إلى حاصور من الممالك الكبرى، وعن شحنات البضائع التي كانت ترسل إليها من ماري، كما ونعرف عن اسم أشهر ملوكها المدعو إبني هدو، الذي لعب دورًا مهمًّا في السياسة السورية خلال الفترة التي يغطيها أرشيف ماري.

في عصر الحديد الأول والثاني، الذي شهد مولد مملكتي السامرة ويهوذا، بقيت منطقة الجليل على عزلتها عن مناطق الهضاب الأخرى، ولا يوجد لدينا دليل على صلات ثقافية مع السامرة، بل على العكس من ذلك، فالفخاريات وغيرها من اللقى المكتشفة خلال هذا العصر تشير بقوة إلى مؤثرات فينيقية، وصورية (نسبة إلى صور) بشكل خاص، ويبدو أن الجليل قد وقع تحت سيطرة صور آنًا وتحت سيطرة دمشق آنًا آخر، كما وقع تحت سيطرة السامرة لفترة قصيرة خلال الهزيع الأخير من حياتها، وتأثر بالحملات الآشورية التي ساقت إلى السبي أعدادًا كبيرة من سكانه وأحلت محلهم سكانًا من المناطق المقهورة الأخرى.

تنقصنا المعلومات عن منطقة الجليل خلال العصر الفارسي، أما خلال العصر الهلينيستي والروماني فقد تَهَلْين الجليل مثلما تَهَلْينت فينيقيا والسامرة وشرقي الأردن، ونشأت فيه مدن جديدة ذات طابع إغريقي، أهمها مدينة سيفوريس ومدينة تبيرياس (طبرية) التي بناها هيرود ودعاها باسم الإمبراطور الروماني تيبريوس. كان التركيب الإثني لهذه المدن متنوعًا، فقد احتوت على ذخيرة أساسية من السكان الجليليين القدماء، وعلى شرائح أخرى تم تهجيرها إلى الجليل من قبل الآشوريين، وعلى جاليات يونانية، أما الديانة الغالبة فكانت كنعانية تقليدية تم تطعيمها بعناصر إغريقية بعد مطابقة الآلهة المحلية مع الآلهة الإغريقية والرومانية؛ ولهذا يطلق مؤلف إنجيل متَّى على الجليل اسم جليل الأمم، أي جليل الوثنيين (متَّى ٤: ١٥).

ونظرًا لبُعد مقاطعة اليهودية وعزلتها عن جيرانها، لم يحتوِ الجليل حتى مطلع القرن الثاني قبل الميلاد إلا على جالية يهودية قليلة العدد، وكان الجليليون ينظرون بعداوة إلى هؤلاء، ويعتبرونهم جسمًا دخيلًا على المجتمع الجليلي، وعندما ثارت مقاطعة اليهودية على الحكم السلوقي وجد الجليليون في هذا مناسبة للتخلص من اليهود، وهذا ما دفع بيهوذا المكابي عام ١٦٤ق.م. إلى الإسراع لنجدة يهود الجليل وإجلائهم إلى أورشليم، نقرأ في سفر المكابيين الأول ٥: ١٤–٢٣: «وبينما هم يقرءُون الكتاب إذا برسل قد وفدوا من الجليل وثيابهم ممزقة وأخبروا قائلين: قد اجتمعوا علينا من بطُلمايُس وصور وصيدا وكل جليل الأمم ليبيدونا … فلما سمع يهوذا المكابي والشعب هذا الكلام، عقدوا مجمعًا كبيرًا وتشاوروا فيما يصنعون لإخوتهم الذين يعانون الشدة وهجمات الأعداء، فقال يهوذا لسمعان أخيه: اختر لك رجالًا وامضِ فأنقذ إخوتك الذين في الجليل … ومضى سمعان إلى الجليل وشن على الأمم حروبًا كثيرة، فانسحقت الأمم أمام وجهه، فتتبعها إلى باب بطُلمايُس، فسقط من الأمم نحو ثلاثة آلاف رجل وسلب غنائمهم وأخذ اليهود الذين في الجليل، وعربات من حديد، مع النساء والأولاد وكل ما كان لهم، وجاء بهم إلى اليهودية بسرور عظيم».

ولكن الوضع في الجليل تغير ظاهريًّا بعد ضمه إلى أملاك اليهودية في عهد الملك المكابي أرسطو بولس الأول، وفرض الدين اليهودي على أهله بقوة السلاح من قبل خَلَفه الملك أليكسندر ينايوس، وذلك في مطلع القرن الأول قبل الميلاد، أي قبل جيلين أو ثلاثة أجيال من ميلاد يسوع، ومع ذلك فقد بقيت الديانة اليهودية بمثابة قشرة سطحية تعلو الثقافة والمجتمع الجليليين والمراجع اليهودية ملأى بالإشارات إلى قلة دين الجليليين وجهلهم بأداء الطقوس والواجبات الدينية اليهودية، وعدم وجود فريسيين أو كتبة أو علماء شريعة بينهم يعلمونهم أصول دينهم. ويروي أحد المراجع الربانية المتأخرة أن ناموسيًّا يدعى يوحنا بن زكاي، قد صعد من اليهودية وأقام في مدينة جبارا الجليلية حيث نذر نفسه مدة ثمانية عشر عامًا لتعليمهم أصول الدين الصحيح، ولكنه في نهاية هذه الفترة تخلَّى عن مهمته وقفل راجعًا إلى أورشليم وهو يقول بأن الجليليين قوم يكرهون التوراة، وأما عن الفريسيين والكتبة والناموسيين الذين حاورهم يسوع في الأناجيل، فإننا نفهم دومًا من سياق النص أنهم لم يكونوا مقيمين في الجليل، وإنما زوار جاءُوا من اليهودية في مهمات مؤقتة.

بعد دخول الرومان إلى سورية واستيلائهم على أورشليم عام ٦٣ق.م. وانسلاخ الجليل وبقية المقاطعات التي ضمها المكابيون بالقوة إلى الدولة اليهودية، ساد جوٌّ من التسامح الديني شجع الكثيرين على الارتداد عن اليهودية والعودة إلى دين آبائهم، ولا سيما في عهد الملك هيرود الذي شجع الديانات المحلية على التعبير عن نفسها، وبنى المعابد لها، وهذا يعني أن الجليل لم يقع تحت السيطرة اليهودية إلا لفترة قصيرة لم تزد على أربعين سنة، وأن من بقي على اليهودية في الجليل بعد ذلك لم ينظر إلى نفسه كيهودي أرثوذكسي، مثلما لم يُعد يهوديًّا حقًّا من قبل أهل اليهودية.

في جليل الأمم هذا ولد يسوع، وعاش طفولته وشبابه، وفيه بشر برسالته الجليلية الأممية، وكان تلاميذه وأتباعه جليليين، وهو لم يذهب إلى اليهودية إلا في آخر رحلته التبشيرية حيث صلبه اليهود، وأما عن أبويه، فربما كانا على الديانة الكنعانية التقليدية، أو من أسرة تهودت قبل جيلين أو ثلاثة، واستمرت على اليهودية بحكم العادة، أو أنهما كانا من أتباع جماعة روحانية من جماعات جبل الكرمل، وهذا ما نرجحه، وما قدمنا له من شواهد.

بعد هذا المدخل التاريخي الذي توصلنا في نهايته إلى رسم صورة لبيئة الجليل التي عاش فيها يسوع، وألقينا ظلالًا من الشك حول يهودية يسوع، وكونه قد ولد في أسرة يهودية، سوف نلجأ إلى مقاربة نقد–نصية نستنطق من خلالها الأناجيل الرسمية الأربعة، لنتبين منها الموقف الحقيقي ليسوع من اليهود واليهودية.

١  بما أن هذا الفصل يستند إلى عشرات المراجع الحديثة في تاريخ وعلم آثار فلسطين، فإني لم أشأ أن أثقل على القارئ بذكرها جميعًا، فعلى من أراد الاستزادة الرجوع إلى مؤلفي «آرام دمشق وإسرائيل» ومؤلفي الآخر «تاريخ أورشليم».
٢  كما قلت في الحاشية السابقة فأنا لا أريد في هذا الفصل الإثقال على القارئ بذكر عشرات المراجع الحديثة المتعلقة بالموضوع، يمكن لمن يرغب في الاستزادة الاطلاع على كتابي «آرام دمشق وإسرائيل» وكتابي الأخير «تاريخ أورشليم».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤