فاتحة القول
منذ حوالي قرن ونصف من الزمان جاء الفرنسيون إلى هذه البلاد وهم ينتوون تشييد صرح
مستعمرة «جميلة»، تعوضهم عن خسائر الحروب الاستعمارية الطويلة التي نشبت في القرن
الثامن عشر فأفقدتهم كندا ولويزيانا وغيرهما في أمريكا الشمالية، كما انتهت بضياع معظم
ممتلكاتهم في الهند، ولم يبقَ في حوزتهم إلَّا قليل من جزر الأنتيل في الهند الغربية،
وبعض المراكز التجارية على ساحل الملبار، وعدد ضئيل من الجزر في المحيط الهندي أهمها:
بوربون وموريتيوس (أو إيل دي فرانس). وقد عزا الفرنسيون انحلال إمبراطوريتهم
الاستعمارية القديمة إلى أسبابٍ عدة، ما لبث الفلاسفة والمفكرون الذين أفضى ذيوع
آرائهم إلى قيام الثورة الفرنسية الكبرى أن كشفوا النقاب عن حقيقتها، وشرعوا يبحثون
الوسائل التي تمكِّن مواطنيهم من الاحتفاظ بما بقي في حوزتهم من المستعمرات القديمة من
جهة، وتُعينهم من جهة أخرى على اختيار ميدان جديد لإنشاء إمبراطوريةٍ استعمارية جديدة
تقوم على أسسٍ غير تلك الأسس التي اعتمد عليها نظام الحكم في أملاكهم السابقة. وقد اتفقت
كلمة أكثر هؤلاء الفلاسفة والمفكرين على أن يكون الشرق ذلك الميدان الجديد، وأن تكون
مصر المستعمرة الناشئة الجديدة. وفي سنة ١٧٩٨م أخذت حكومة بلادهم بهذه الآراء، وتضافرت
عوامل سياسية عدة — أهمها الاقتصاص من الإنجليز الذين ظلوا يناصبون فرنسا العداء في
أوروبا — على إقناع هذه الحكومة بإرسال بونابرت على رأس جيش الشرق إلى مصر لوضع نواة
الإمبراطورية الاستعمارية الجديدة؛ ومن ثم كانت الحملة الفرنسية على مصر.
بدأت تجربة الاستعمار الفرنسي الحديث على يد بونابرت، فوضع هذا قواعد الحكم التي
اعتقد أنها خليقة بأن تضمن النجاح لهذه التجربة. وعندما ساء الموقف في أوروبا وحلَّت
الهزيمة بالجيوش الفرنسية، واضطر بونابرت إلى مغادرة هذه البلاد في صيف عام ١٧٩٩م؛ عهد
بقيادة الحملة العامة إلى الجنرال كليبر، وكان بونابرت يرجو أن يستطيع القائد العام
الجديد إتمام ما بدأه هو، وأن يحفظ المستعمرة من الضياع، أو أن يتيح لحكومة الجمهورية
في باريس الفرصة حتى تعقد مع أعدائها صلحًا مشرِّفًا تستطيع بفضله الحصول على مستعمرات
أخرى غير مصر، إذا وجدت لزامًا عليها أن تعيد هذه البلاد إلى السلطان العثماني صاحب
السيادة الشرعية عليها من قديم الزمان. ولكن كليبر كان يتعجل الرحيل وإخلاء هذه
المستعمرة الجميلة. ومع أن مساعيه الأولى في سبيل إخلائها ما لبثت أن فشلت فقد ظل
يعتقد حتى وقت اغتياله أن البقاء في مصر أمر لا جدوى منه ولا طائل تحته، ولا يدري أحد
ماذا كانت تؤدي إليه سياسة كليبر لو طالت حياته وحدث ما يسَّر استئناف المفاوضات مع
العثمانيين والإنجليز. وسنحت الفرصة مرة أخرى لإهمال التعليمات التي تركها بونابرت له
عند ذهابه إلى فرنسا، وقد كانت هذه التعليمات تنص على التمسك بهذه البلاد حتى يحين موعد
عقد الصلح العام في أوروبا، إلَّا إذا حالت دون ذلك ظروف قاهرة، فصَّلها بونابرت في
تعليماته.
على أن اختفاء كليبر من مسرح السياسة ما لبث أن أسلم مقاليد الإدارة والحكم في مصر
إلى رجل كان يؤمن بمزايا التجربة الاستعمارية الجديدة، ويعتقد اعتقادًا راسخًا أن
التمسك بهذه البلاد إلى النهاية يعود على الوطن بأعظم الفوائد، فما ينبغي أن يرغمه على
الجلاء عنها سوى هزيمة ساحقة ماحقة أو ظروف سياسية تنتهي بخروج الفرنسيين من مصر، لقاء
إبرام صلح مشرِّف يعوِّض على فرنسا خسارة مستعمراتها الجديدة في جهات أخرى، وينشر ألوية
السلام العام في أوروبا. ولم يكن هذا الرجل سوى جاك فرنسوا دي منو
Jacques-François de Menou الذي أخذ على
عاتقه منذ حضوره إلى مصر بذل قصارى جهده لتأييد سياسة بونابرت، فكان زعيم
«الاستعماريين» الذين أقضَّ مضاجعهم قبول كليبر و«الكليبريين» المفاوضة بصدد الجلاء؛
ولهذا حرص منو بعد أن دانت له السلطة وتولى قيادة الحملة العامة بعد اغتيال كليبر،
على تنفيذ سياسة بونابرت، فنافح عن «المستعمرة» ما شاء له جهده أن ينافح عنها، بأساليب،
وإن لم يكن أكثرها مطبوعًا بطابع الحكمة أو متسمًا بأصالة الرأي، فقد كانت كافية
لأن تنهض دليلًا على أن صاحبها قد وطَّد العزم على تنفيذ سياسة بونابرت وعدم التفريط
في المستعمرة، حتى إن بونابرت — الذي اضطر إلى التعجيل بإبرام الصلح مع إنجلترا عندما
تبين له حرج الموقف في مصر — لم يسعه سوى إغداق الثناء على ذلك الرجل الذي أُرغم إرغامًا
على تسليم «تلك البلاد المصرية الجميلة»، وحرمان الجمهورية مستعمرتها الناشئة.
١
ولم يكن إيمان منو العميق بنجاح تجربة الاستعمار الفرنسي في مصر صادرًا عن هوى أو
نتيجة ميول ورغبات طارئة، بل تضافرت عوامل عدة على إشعال هذه الجذوة في نفسه وبقائها
موقدة، فقد شبَّ منو وترعرع في أحضان أسرة عريقة عُرفت بالنبل والإخلاص لعرش الملك، وكانت
تملك أرضًا واسعة لا في فرنسا وحدها بل في «المستعمرات» البعيدة كذلك. وما لبث منو أن
انغمر في تيار الحياة العامة في وقت كانت فيه آراء فلاسفة الثورة ومفكريها تتجاوب
أصداؤها في أنحاء فرنسا، فآمن بهذه الآراء الحرة الجديدة، واعتنق مبادئ «الثورة» من
سياسية واقتصادية، وتقلَّب في عدة مناصب أيام الجمعية الأهلية التأسيسية والمؤتمر الوطني.
وقد ترك هذا كله أثرًا لا يُمحى في مزاجه الخاص وخلقه الشخصي.
ينتمي جاك فرنسوا دي منو إلى أسرة نبيلة، نشأ مؤسسها جان دي منو في إقليم
برش Perche بين مقاطعتَي مين Maine في الشمال وأنجو Angou في
الجنوب، ثم وفد إلى تورين Touraine فاستقر بها. ولم يمضِ زمن
طويل حتى أصبح في عام ١٠٥٥م فارسًا، وامتدت أملاك الأسرة على جانبَي أحد فروع نهر اللوار
في بلاد لوش Loches الغنية. وفي القرن الثالث عشر
استطاعت أسرة منو النبيلة أن تُصهِر إلى أسرتَي برتاني Bretagne وأنجو المنتميتين إلى البيت المالك في فرنسا. وفي عام ١٣٣٨
تزوج نيقولا دي منو من جين دي بيان Jeanne de Péan،
فأضاف هذا الزواج إلى أملاك أسرة منو أراضي وقصر بوساي Boussay، فظلت بوساي من ذلك الحين في حوزة فرع أسرة منو الأكبر إلى
أواسط القرن الثامن عشر. حتى إذا تزوجت شارلوت دي منو — ابنة رينييه شارل الوحيدة — من
ابن عمها رينييه فرنسوا دي منو في بدء عام ١٧٤٦م انتقلت هذه الأراضي إلى فرع الأسرة
الأصغر. وفي قصر بوساي وُلِد ابنهما جاك فرنسوا دي منو في ٣ سبتمبر ١٧٥٠م، وكان أصغر
أبنائهما الأربعة. وشب جاك فرنسوا في قصر بوساي، وقضى السنوات الخمس عشرة الأولى من
عمره في أرض تورين الجميلة، مسقط رأس آبائه وأجداده الذين خدموا ملوك كابيه، وفالوا،
والبوربون، بإخلاص وأمانة، حتى لقد سقط من أبناء الأسرة في معركة ملبلاكيه وحدها في عام
١٧٠٩م واحد وعشرون من بيت منو بين قتيل وجريح، في أثناء حروب الوراثة الإسبانية المعروفة
في عهد ملك فرنسا لويس الرابع عشر.
وكان في نوفمبر من هذا العام نفسه أن التحق رينييه فرنسوا دي منو — والد جاك فرنسوا
—
في خدمة جيش الملك، وقد استمر في خدمة لويس الرابع عشر وحفيده لويس الخامس عشر حتى
اعتزل الخدمة في عام ١٧٤٨م بعد أن ارتقى أعلى المناصب. ثم توفي في عام ١٧٦٥م تاركًا
لأرملته العناية بأولادهما.
فما زالت السيدة حتى التحق أبناؤها الثلاثة الكبار بخدمة الملك، أمَّا الابن الرابع
جاك فرنسوا فقد تطوَّع في جيش الكونت دي
بروفنس Provence، حفيد الملك، في يناير ١٧٦٦م، وتدرَّج في سلك الجندية حتى رُقِّيَ
ملازمًا ثانيًا بعد عامين، ثم انتقل إلى سلاح الفرسان في عام ١٧٧٣م، ورُقِّي في العام
التالي يوزباشا بآلاي اللورين. وفي عام ١٧٧٥م سنحت الفرصة لفرنسا لتنتقم من غريمتها إنجلترا،
التي كانت قد أرغمتها في صلح باريس ١٧٦٣م على التخلي نهائيًّا عن مستعمراتها في أمريكا
الشمالية؛ ذلك أن الولايات الثلاث عشرة ما لبثت حتى قامت بالثورة على إنجلترا، ونشبت
حرب الاستقلال في أبريل ١٧٧٥م، وكان من المنتظر أن تجند فرنسا جيوشها وتعد أساطيلها
لتأييد «الأمريكيين» في نضالهم.
وواقع الأمر أن فرنسا أيدت أهل الولايات منذ إعلانهم الثورة على الإنجليز، فتدفقت
الأموال على الثائرين، وتطوع كثيرون من الفرنسيين للخدمة في الجيوش الأمريكية، وراقبت
الحكومة الفرنسية تطور النضال بعين الحذر والقلق. حتى إذا أصدر الأمريكيون «إعلان
الاستقلال» المشهور في ٤ يوليو ١٧٧٦م، ثم أحرزوا أول انتصاراتهم الباهرة في ساراتوجا
في
العام التالي (١٧ أكتوبر ١٧٧٧م)، ووصلت أخبار هزيمة الإنجليز إلى باريس في بدء ديسمبر
من
العام نفسه؛ بادر فرجن Vergennes بإبلاغ المندوبين
الأمريكيين، الذين كانوا قد حضروا يطلبون محالفة فرنسا الرسمية، أن حكومة الملك على
استعداد لعقد هذه المحالفة. وأُبرمت معاهدة التحالف الفرنسي الأمريكي فعلًا في بداية
فبراير عام ١٧٧٨م على أساس تنازل فرنسا نهائيًّا عن كندا، لتضم الولايات الأمريكية إليها
كل ما يمكن الاستيلاء عليه في أثناء النضال من أرض هذه المستعمرة الفرنسية القديمة؛
وذلك لقاء أن تحصل فرنسا على كل ما تستطيع قواتها الاستحواذ عليه من جزر الهند
الغربية.
وجهزت فرنسا أسطولين؛ أحدهما للعمل في المياه الأمريكية بقيادة داستان D’Estaing، والآخر لإرغام الأسطول الإنجليزي على البقاء
محصورًا في المياه الإنجليزية بقيادة دورفيلييه D’Orvilliers، فأبحر داستان إلى أمريكا والهند الغربية، واشتبك
دورفيلييه مع الأسطول الإنجليزي في موقعة أوشانت Ushant البحرية، وكانت معركة غير حاسمة. وعظمت صعوبات الإنجليز
عندما أعلنت إسبانيا البوربونية وحليفة فرنسا الحرب على إنجلترا
في عام ١٧٨٠م رغبةً منها
في انتزاع جبل طارق من قبضة الإنجليز. ووصل جيشن Guichen أمير البحر الفرنسي إلى جزر الهند الغربية ليخلف داستان في
القيادة، ثم أعلنت هولندا الحرب على إنجلترا في العام نفسه، وأرسلت الحكومة الفرنسية
نجدات جديدة إلى المياه الأمريكية بقيادة دي
جراس De Grasse، واستطاع الأمريكيون بقيادة «واشنطن» هزيمة الإنجليز في
يورك تاون York town في ١٩ أكتوبر ١٧٨١م، وكانت
من المعارك الفاصلة التي أرغمت الإنجليز على الاعتراف باستقلال الولايات الأمريكية بعد
فترة قصيرة من الزمن. ومع ذلك فقد لازم التوفيق الإنجليز في عملياتهم البحرية ضد
الفرنسيين، فانتصر رودني Rodney أمير أسطولهم على دي
جراس في مياه الهند الغربية في معركة حاسمة في ١٢ أبريل ١٧٨٢م ووقع دي جراس في أسره.
ومع أن الفرنسيين كانوا يحاولون غزو الشواطئ الإنجليزية بعد أن اطمأنوا إلى تفوقهم
البحري بمؤازرة حلفائهم ضد أساطيل العدو في المياه الإنجليزية؛ فقد تجنَّب أسطولهم
دائمًا الاشتباك مع الإنجليز في معارك كبيرة حاسمة، ولم تسفر هذه المحاولات عن شيء. وما
إن عقد الإنجليز مع الأمريكيين مقدمات الصلح في ٣٠ نوفمبر ١٧٨٢م حتى أبرمت فرنسا
وإسبانيا مقدمات الصلح مع الإنجليز كذلك في فبراير ١٧٨٣م، فوضعت الحرب أوزارها، وتم عقد
الصلح نهائيًّا بين الدول الثلاث في معاهدة فرساي في سبتمبر من العام نفسه.
ذلك كان مدى اشتراك فرنسا في حرب الاستقلال الأمريكية. ويقول منو إنه، ككثيرين غيره
من
مواطنيه، قد أسهم في هذه الحرب، ويؤكد اشتراكه في ست حملات عسكرية قبل انفجار بركان
الثورة الفرنسية (في عام ١٧٨٩م). ومن الثابت قطعًا — كما جاء في سجل خدمته العسكرية —
أنه كان ملتحقًا بالجيش الرابض بشاطئ فرنسا الغربي في مقاطعات أوني
Aunis وبواتو
Poitou
وسانتونج
Saintonge، بين أول مايو ١٧٧٨م و١٣ يونيو
١٧٨٣م. وعلى ذلك فمن المحتمل على ما يظهر أن منو كان بين هيئة أركان الحرب في الجيش
المعد لغزو إنجلترا، ولم تُتح له فرصة الذهاب إلى أمريكا أو إلى جزر الهند الغربية.
٢
على أن عدم اشتراك منو في أية عمليات عسكرية برية أو بحرية في العالم الجديد لم يكن
معناه أنه ما كان يُعنى عناية فائقة بتتبع كل ما يجري من حوادث في أمريكا ثم في جزر
الأنتيل على وجه الخصوص؛ ذلك أن العاطفة الجامحة التي دفعت الفرنسيين دفعًا إلى مؤازرة
الأمريكيين في نضالهم ضد الإنجليز الذين هدموا إمبراطورية فرنسا الاستعمارية الأولى (أو
القديمة)، ثم جعلت الفرنسيين يُقبلون بشغف عظيم على اعتناق تلك المبادئ السياسية
والاقتصادية الجديدة التي تمخضت عنها حركة الاستقلال الأمريكية؛ ما كان يمكن أن ينجو
منو من
أثرها، شأنه في ذلك شأن سائر مواطنيه. بل إن منو كان، فضلًا عن ذلك، صاحب مصلحة ظاهرة
في
تتبُّع حوادث هذا النضال باهتمام وعناية، وخصوصًا في جزر الهند الغربية؛ ذلك أن أسرة
منو
كانت تمتلك إلى جانب أراضيها الغنية في إقليم تورين مزارع واسعة في جزيرة سان دومنجو،
وثلاثة مصانع كبيرة لتكرير السكر. وعلاوة على ذلك فقد تزوج أخ له في عام ١٧٨٢م من سيدة
ذات ثراء تملك في هذه الجزيرة مصانع عدة للبن وحلج القطن وعمل النيلة، وبلغت ثروتها
العقارية ثلاثة ملايين من الفرنكات تقريبًا.
٣
ومنذ انتهاء حرب الاستقلال الأمريكية وجد البارون جاك فرنسوا دي منو متسعًا من الوقت
للانغماس في تلك الحياة الاجتماعية البراقة، التي مكَّنه مركز أسرته النبيلة من
المشاركة فيها بقسط وافر، ففتحت له «الصالونات» أبوابها، وتعرَّف إلى كثيرين من أصحاب
النفوذ والجاه، وناقش مع غيره آراء الفلاسفة والمفكرين. وكلفته هذه الحياة نفقات طائلة
لم يكن في وسعه أن يقوم بسدادها، لانتقال كل أملاك الأسرة في مقاطعة تورين إلى أخيه
الأكبر الماركيز رينيه لويس شارل منذ عام ١٧٧٧م، فلجأ منو إلى الاستدانة، وظل من ذلك
الحين يقترض الأموال دون حساب، كما ظل ينفق دون حساب.
وكان من السهل على البارون منو وقد ألِف عيشة البذح والترف، وقضاء أوقات فراغه
مترددًا على الصالونات والأندية التي انتشرت في أنحاء العاصمة وأكثر المدن في السنوات
التي سبقت اندلاع لهيب الثورة؛ أن يجتمع ببعض كبار القوم من أصحاب التجارب السياسية
الواسعة، فيكسب من مخالطتهم معرفة وخبرة. كما كان من السهل عليه أن يناقش في حرية
وتسامح عظيمين تلك الآراء التي نادى بها فلاسفة الثورة ومفكروها الاقتصاديون خاصة؛ ومن
ثم انعقدت أواصر الصداقة بين منو وشوازيل
جوفييه Choiseul-Gouffier الذي خلف سانت
بريست Saint-Priest في سفارة القسطنطينية منذ ديسمبر ١٧٨٤م، وكانت له آراء معروفة عن
الوسائل التي يجب اتخاذها إذا أرادت فرنسا المحافظة على سلامة تركيا بدلًا من مشاركة
النمسا وروسيا وراثة إمبراطوريتها.
وقد أشرف على المفاوضات التي قام بها الوكلاء والمندوبون الفرنسيون في مصر لعقد
اتفاقات تجارية مع البكوات المماليك، تمنع الأذى عن التجار الفرنسيين وتساعد على دعم
العلاقات التجارية بين فرنسا ومصر وأقطار «الليفانت» وشواطئ البحر الأحمر،
٤ تلك المفاوضات التي أسفرت عن نجاح شارل مجالون أحد التجار الفرنسيين
القدامى في مصر، ثم ترجويه
Truguet مندوب شوازيل
جوفييه؛ في عقد معاهدة تجارية مع مراد بك في عام ١٧٨٥م على نحو ما سيأتي ذكره في
موضعه.
وليس من شك في أن منو استطاع أن يقف من صديقه شوازيل جوفييه على حقيقة ذلك الضعف
الذي
هدد بزوال الإمبراطورية العثمانية، كما عرف منه الشيء الكثير عمَّا كان يجري داخل
أملاك هذه الإمبراطورية وخاصة في اليونان، وكان شوازيل جوفييه قد زار هذه البلاد ونشر
كتابًا عن رحلته فيها ثم عن رحلته في مصر. وقد استطاع شوازيل جوفييه بحكم منصبه في
سفارة القسطنطينية أن يقدم لصديقه منو صورة واضحة عن اضطراب الأحوال في الديار المصرية
والفوضى المنتشرة في أنحائها، وما تلاقيه التجارة الفرنسية من عنت وإرهاق على أيدي
بكواتها. ولم يكن عبثًا ادعاء منو فيما بعد في خطابٍ له إلى روبل
Rewbelle عضو حكومة الإدارة في ٥ أكتوبر ١٧٩٨م أنه قد بدأ من زمن طويل
يُعنى بشئون السياسة ويهتم بدراسة مسائلها.
٥
وفضلًا عن ذلك فقد راقب منو عن كثب تطور الحوادث في داخل فرنسا ذاتها، فقد ساعد
اشتراك حكومتها في حرب الاستقلال الأمريكي على إقفار خزانتها من المال، وأفضى هذا
الارتباك إلى زيادة سوء الأحوال الاقتصادية بالبلاد وذاق الشعب الفرنسي مرارة الضنك
وبؤس العيش، وأفضى ذلك كله إلى ذيوع آراء الفلاسفة والمصلحين الاقتصاديين الأحرار الذين
عُرفوا باسم الفيزيوكرات Physiocrats، وهم الذين
نادوا بإلغاء الضرائب الكثيرة والإتاوات المرهقة، والاستعاضة عنها بضريبة واحدة هي
ضريبة الأرض، على اعتبار أن الأرض مصدر الثروة الطبيعية.
آمن منو بهذه الآراء الاقتصادية، كما آمن بآراء المصلحين السياسيين الذين رغبوا في
تقييد سلطة الملَكية المطلقة، وسهل عليه بعد ذلك، عندما اشتد ارتباك الملكية، واضطرت
إلى دعوة مجلس طبقات الأمة للانعقاد في فرساي في ٥ مايو ١٧٨٩م، أن يظفر بتمثيل «نبلاء»
تورين موطن أسرة دي منو، بوصفه عضوًا من أعضاء طبقة الأشراف في هذا المجلس، ثم ما لبث
أن انضم إلى جانب من انضم من الأشراف ورجال الدين إلى «طبقة العامة» ممثلي الشعب الذين
قرروا الانفصال عن الطبقتين الأخريين، وتأسيس «الجمعية الأهلية» في ١٧ يونيو، ثم شرعوا
على الفور ينظرون في وضع نظام للحكومة وإصلاح المساوئ التي ضجت البلاد منها. ولم يقنع
منو في حياته «الثورية» الجديدة بالوقوف موقف المتفرج، بل أزمع أن يسهم بنصيب وافر في
هذه الحركة «الإصلاحية» العظيمة، وانحاز إلى المتطرفين من اليعاقبة الذين تاقت نفوسهم
إلى إقامة الجمهورية، فانضم إلى غلاة المتطرفين من أعضاء نادي بريتون Breton الثوري، وكان على رأس هؤلاء ثلاثة من الرجال
الذين عُرفوا بالعنف والشدة، هم بارناف Barnave
وديبورت Duport ولاميث Lameth. ووجد منو فرصة مواتية لإظهار «مواهبه» وعرض آرائه الإصلاحية
التي استمدها من خبرته السابقة أيام حرب الاستقلال الأمريكي واختلاطه برجال السياسة
والقلم، عندما شرعت الجمعية الأهلية «التأسيسية» تبحث حقوق الإنسان وتضع دستورًا للحكم
الجديد. وفي ٢٧ أغسطس صدر «إعلان حقوق الإنسان»، وصحب منو الوفد الذي ذهب بعد ذلك
لمقابلة الملك لويس السادس عشر في ٥ أكتوبر ١٧٨٩م يطلب منه الموافقة على إعلان هذه
الحقوق. وظهر كأنما استطاع منو أن يكسب ثقة الجمعية الأهلية التأسيسية، فانتخبه الأعضاء
سكرتيرًا لها في ٥ ديسمبر من العام نفسه.
وعندما قررت الجمعية بيع أملاك الكنيسة بعد أسبوعين من ذلك التاريخ، انتُخب منو
مندوبًا للإشراف على هذه العملية في ٢٧ مارس ١٧٩٠م، وفي اليوم التالي انتُخب رئيسًا
للجمعية الأهلية. واتسعت دائرة نشاطه فصار في ٢٧ أبريل من العام نفسه مفتشًا لحسابات
اللجان المختلفة التي شكلتها الجمعية. وفضلًا عن ذلك فقد كانت له اقتراحات معينة بشأن
التجنيد العام، بوصفه أحد أعضاء اللجنة الحربية. ثم عُهد إليه باعتباره عضوًا في اللجنة
السياسية بأن يبحث مع زميله ميرابو Mirabeau عضو هذه
اللجنة كذلك مسألة أفينيون Avignon، وقد كانت هذه
المدينة تخضع مع أراضي فنيسان Venaissan المجاورة لها
لسلطان البابا منذ القرن الرابع عشر، وحكمها البابوات من روما البعيدة حكمًا صالحًا
طيبًا، ولكن الاضطرابات التي حدثت في فرنسا قبل انعقاد مجلس طبقات الأمة ما لبثت حتى
شملت أفينيون كذلك في مارس عام ١٧٨٩م؛ ومن ثم بدأ «الحزب الفرنسي» بأفينيون — وهو الحزب
الذي كان يبغي الاتحاد مع فرنسا — يعمل لتحريك الثورة الجامحة، وفي ١٢ يونيو ١٧٩٠م أعلن
أهل أفينيون رغبتهم في الاندماج مع فرنسا، وأبلغوا الجمعية الأهلية التأسيسية هذه
الرغبة، واضطرت الجمعية التأسيسية بعد حوادث دامية إلى إرسال لجنة إلى أفينيون لدراسة
هذه المسألة، وكان بناء على تقرير منو وميرابو أن قررت الجمعية التأسيسية في ١٣ سبتمبر
١٧٩١م ضم أفينيون وفنيسان إلى فرنسا. وهكذا كان منو أيام هذه الجمعية التأسيسية من أعظم
أعضائها نشاطًا، يلمع اسمه بين جماعة «الدستوريين» في الجمعية، الذين وإن تمسكوا بمظهر
الملكية وصورتها فقد أرادوا تأسيس الدولة الجديدة على قواعد تكفل سيادة الشعب والمساواة
بين أفراده.
ولم تكد الجمعية الأهلية التأسيسية تنحل وتقوم على أنقاضها الجمعية التشريعية منذ
أول
أكتوبر ١٧٩١م حتى استأنف منو حياته العسكرية، فتولى قيادة أحد آلايات الفرسان في ٢١
أكتوبر، ثم رُقِّي في ٨ مايو من العام التالي أمير لواء. وفي أثناء ذلك كانت حكومة
الجمعية التشريعية قد أعلنت الحرب على النمسا منذ أبريل ١٧٩٢م، واشتد الهياج ضد الملك،
وبدأت الاضطرابات في لافنديه
La Vendée وغيرها من
المقاطعات التي عُرف أهلها بشدة ولائهم للملكية والكنيسة. وانحازت بروسيا إلى جانب
النمسا، فأصدر الدوق برنزويك قائد جيوشها بلاغه المعروف يهدد باريس بالويل والثبور
وعظائم الأمور إذا لحق أي أذى بالملك (٢٧ يوليو ١٧٩٢م). وهاجم الشعب الهائج بتحريض من
اليعاقبة المتطرفين قصر التويلري، ثم كرروا الهجوم على القصر مرة ثانية في ١٠ أغسطس
المشهور في تاريخ الثورة الفرنسية، واعتمد المتطرفون على منو وقواته، وكان مكلفًا مع
جنده ﺑ «الدفاع» عن هذا القسم من باريس الذي جرت فيه حوادث ١٠ أغسطس، ولكن منو على ما
يبدو لم يُظهر نشاطًا كافيًا في هذا اليوم فاتُّهِم بالولاء للملكية. ومع أنه استطاع
أن
يدفع عن نفسه هذه التهمة، فقد ظل موضع شك لدى المتطرفين. وعلى ذلك فقد عمد هؤلاء عند
اجتماع المؤتمر الوطني الذي شُكِّل عند انحلال الجمعية التشريعية في ٢١ سبتمبر سنة ١٧٩٢م
إلى تعطيل مساعي منو، الذي رغب في ملء منصب وزير الحربية، بل وبقي منو بعد ذلك مدة
متعطلًا حتى اضطر إلى كتابة خطاب إلى المواطن باش
Pache وزير الحربية الجديد، يذكر فيه ما بذل من تضحيات أمام الطغيان
والاستبداد السابق، ويعدد خدماته الجُلَّى في عهد الجمعية الأهلية التأسيسية؛ إذ كان
دائمًا يؤيد مصالح الشعب، ويعمل على تقويض دعائم الأرستقراطية، كما أفضت جهوده إلى ضم
أفينيون إلى أرض الوطن، ثم اختتم هذه الرسالة قائلًا: «إن جاك منو الذي قضى سبعًا
وعشرين سنة في الخدمة العسكرية، والذي بدأ حياته جنديًّا صغيرًا، ثم ترقى في السلك
العسكري حتى بلغ رتبة أمير لواء بحكم الأقدمية؛ يطلب الآن استخدامه في أحد جيوش الدولة،
وهو إذ يتقدم بهذا الطلب إنما يعرض على الوطن حياته؛ أي كل ما بقي له وصار يملكه بعد
أن ضحَّى في سبيل الحرية بكل شيء؛ الأسرة والثروة والأصدقاء!» وكان منو يطلب إلحاقه
بجيش من الجيوش التي كان أحد أشقائه لا يزال يحارب في صفوفها لنضال العدو الزاحف على
الحدود الفرنسية.
٦
ولما كانت أسرة منو قد بقيت في بوساي دون أن يخرج أحد من أفرادها مع أولئك
«المهاجرين» الذين غادروا البلاد عند نشوب الثورة، وصاروا يؤلبون الدول ضد الوطن؛ فقد
استجاب وزير الحربية لندائه. ولكن بدلًا من إرساله إلى ميدان القتال على الحدود
الفرنسية، أُلحِق بالجيش العامل في شواطئ لاروشيل؛ أي في تلك الأقاليم الغربية التي سبق
لمنو الخدمة في الجيش المرابط بها قبل اشتعال الثورة. وفي هذه المرة أُرسل منو لإخماد
الاضطرابات العنيفة التي أثارها «الملكيون» في إقليم لافنديه بنوع خاص. وكان في هذا
الميدان «الداخلي» أن رُقِّي منو إلى رتبة فريق General de Division في ١٥ مايو ١٧٩٣م.
غير أن منو الذي لم يُعرف عنه أنه اشترك في أية معركة من المعارك الكبرى، وكان قد
رُقِّي إلى رتبة أمير اللواء «بحكم الأقدمية» على حد قوله هو نفسه؛ سرعان ما ظهر عجزه
ووضحت قلة درايته بفنون الحرب والقتال عندما فشل في إخماد ثورة لافنديه، وألحق الثوار
الملكيون بجيشه هزائم فادحة.
ذلك أن الاضطرابات التي كانت قد انتشرت في «الغرب» من شهور سابقة ما لبثت أن اشتدت
وطأتها منذ استيلاء ثوار لافنديه على مدينة طوار Thouars المحصنة، وانفتح الطريق إلى بلدة سومير Saumur الواقعة على نهر اللوار، وعلى حدود إقليم تورين مسقط رأس أسرة
منو.
ثم أحرز الثوار نصرًا آخر في الجنوب عندما هزموا جيش «الجمهوريين» في فونتناي Fontenay أهم مدن لافنديه وعاصمتها، وسقطت المدينة
بأيديهم، واستطاعوا بعد ذلك أن يحوِّلوا كل نشاطهم لاستئناف العمليات العسكرية في
الشمال بالزحف صوب اللوار وشن الهجوم على سومير.
وفي ١٠ يونيو سنة ١٧٩٣م — أي بعد أقل من شهر من ترقية منو الأخيرة — هوجمت سومير
هجومًا دلَّ على المهارة في فنون الحرب والقتال، وفتحت المدينة أبوابها للثوار. وكان
هذا النجاح الذي مكَّن الثوار من الانتشار على ضفاف نهر اللوار ذا آثار خطيرة؛ ذلك أن
هؤلاء سرعان ما قرروا تحريك الثورة في أقاليم بريتاني ونورماندي ومين Maine، وهي أقاليم كانت قد بدأت تظهر فيها القلاقل
والاضطرابات، حتى إذا نشبت الثورة الجامحة بها زحف ثوار لافنديه على باريس ذاتها،
واستطاعوا القضاء على الجمهورية … وكان هذا مشروعًا خطيرًا، وكاد الثوار ينجحون في
تحقيق أغراضهم.
على أن أخبار هزيمة سومير لم تكد تصل إلى باريس حتى بادر المؤتمر الوطني باستدعاء
منو، وطلب إليه الحضور إلى باريس في التو والساعة. وما كان يشك إنسان في أن هذا القرار
كان بمثابة إصدار حكم الإعدام على قائد سومير المتخاذل. ولكن التوفيق لازم منو في هذه
المرة، وهبَّ لنجدته فريق من أولئك الأصدقاء والزملاء القدماء، الذين وطد منو معهم أواصر
الصداقة أيام الجمعية الأهلية التأسيسية وبعدها، عندما كان من أهم صفات منو أنه رجل
«الصالونات» في العهد القديم، ورجل الأندية و«القهاوي» في عهد الثورة، يعرف كيف يدير
الحديث بلباقة تستميل إليه قلوب سامعيه وتجذب انتباههم. فانبرى الآن كثيرون من هؤلاء
الأصدقاء يدافعون عنه، فأكد له تاليان Tallien في ٢١
يونيو أنه لن يدَّخر وسعًا في الدفاع عنه وتبرئة ساحته. وكان تاليان من رجال القانون،
وأحد أولئك الذين عملوا على التخلص من روبسبيير وتقديمه إلى المقصلة والقضاء على عهد
الإرهاب في فرنسا. وفضلًا عن ذلك فقد جاء تاليان مع الحملة الفرنسية إلى مصر فيما بعد،
ثم ما لبث أن أصبح من أخطر المعارضين لمنو نفسه عندما تولى قيادة الحملة العامة بعد
مقتل كليبر. وانبرى — عدا تاليان — آخرون يدافعون عن منو عندما دُعي لتفسير أسباب
هزيمته ودفع تهمة تواطئه مع العدو، وبخاصة عندما كان المؤتمر الوطني ما زال يذكر تلك
الشبهات التي حامت حول منو بسبب تقصيره في تأييد ثوار باريس، أثناء حوادث يوم ١٠ أغسطس،
فتضافر
بودان Bodin
وبوربورت Bourbotte
ورويل Ruelle
مع تاليان في الدفاع عن منو، وشهد في ١٥ سبتمبر سنة ١٧٩٣م نخبة
من أعضاء المؤتمر الوطني الآخرين، هم
شوديو Choudieu،
ريشارد Richard،
جوبيللو دي فونتناي Goupilleau de Fontenay،
داندينيه Dandenai (الصغير)؛ بأن منو وإن كان قد انهزم في
موقعة سومير فقد كفَّر عن أخطائه بفضل ما بذله من نشاط عظيم قبل ذلك في خدمة الوطن،
ولا شك في أن تلك «الجروح التي أصابته في ميدان الشرف والفخار» من شأنها أن تمحو كل
وصمة قد يلحقها به انتسابه إلى أسرة من الأسر النبيلة القديمة. وأمَّا إذا ترك الجيش
فإنه سوف يشيَّع بالاحترام العميق وهو حائز لثقتهم. وأخيرًا شهد تالو Talot نائب إقليم ماين ولوار في المجلس بأن منو كان
يُظهر في كل المناسبات ضروبًا من المهارة العسكرية التي تدل على القدرة العظيمة وشجاعة
تفوق كل وصف، بل إن منو قد دافع ببسالة ما بعدها بسالة في معارك سانت بيير دي شميل Saint-Pierre de Chemille (سومير) وإن كان
قد خانه الحظ وأدركته الهزيمة في المعركة الأخيرة.
وأمام هذا الدفاع الحار الذي تبرع به أصدقاؤه لم يجد المؤتمر الوطني مناصًا من تبرئة
منو. ثم طلب منو أن يؤذن له بالانسحاب إلى بوساي حتى يعيش كما قال إلى جانب أخيه
«يحرث الأرض ويفلحها، ويبارك ما امتد به الأجل تلك الثورة المجيدة التي نشرت لواء
الحرية على أرض الوطن.» ولكنه لم يُجَب إلى طلبه؛ ذلك أن بوساي كانت قريبة من ميدان
العمليات العسكرية ضد ثورة لافنديه، وانتهى الأمر بإخراج منو من خدمة الجيش العامل في
١٢ سبتمبر سنة ١٧٩٤م. ومع ذلك فإنه ما انقضت شهور قليلة حتى كان قد خرج من عزلته وأُعيد
إلى الخدمة في الجيش مرة أخرى؛ ذلك أن التخلص من روبسبيير والقضاء على عهد الإرهاب سرعان
ما
أفسح الطريق أمام أصدقاء منو، وعلى رأسهم تاليان، لتولِّي زمام السلطة في المؤتمر
الوطني بفضل ما حدث من رد فعل شديد بعد انتهاء عهد الإرهاب، وفوز دعاة الأمن والنظام
على الثوريين المتطرفين من أنصار روبسبيير وسياسته. ووجد منو في تاليان وأصدقائه
القدماء خير من يعاونونه على استئناف نشاطه في خدمة المصلحة العامة، فأُلحق في بادئ
الأمر بجيش الألب، ثم أُرسل للخدمة في أميان، وبعدها في ليون. وحرص منو في أثناء ذلك
كله على إظهار إخلاصه لأصحاب السيطرة في المؤتمر الوطني. ثم أُتيحت لمنو الفرصة للدفاع
عن الذين لم ترضهم «رجعية» المؤتمر أو إجراءاته التي اتخذها في سبيل المحافظة على الأمن
والنظام والقضاء على أعداء الجمهورية في داخل فرنسا ذاتها، فحرَّكوا الثورة في باريس
ضد
المؤتمر الوطني، وتدفقت الجماهير تقتحم داره تارة وتضرب عليها نطاقًا من الحصار تارة
أخرى، يطلبون الخبز والملك، أو الخبز ودستور ١٧٩٣م، كما طلب الثوار طرد الحكومة. ولم
يجد
المؤتمر الوطني مناصًا من الالتجاء إلى القوة لإخماد الثورة، ولكن ألكسيس ديبوا
Alexis Dubois ومن بعده الجنرال كيلمين
Kilmaine اللذين عهد إليهما المؤتمر بتفريق الثوار
سرعان ما فشلا في مهمتهما، وعندئذٍ عهد المؤتمر إلى الجنرال منو بالدفاع عنه، وفي ٢١
مايو سنة ١٧٩٥م نجح منو في تشتيت الثوار وإنقاذ المؤتمر، فكوفئ على ما أظهره من شجاعة
بتعيينه قائدًا أعلى للجيش الداخلي.
٧ واعتقد المؤتمر أنه في وسعه الاعتماد على جيش منو لمنع كل اضطراب قد يحدث
بعد ذلك. ولكن الحظ الذي حالف منو في حوادث ٢١ مايو لم يلبث أن تخلى عنه عندما استؤنفت
الثورة وتجدد هجوم الجماهير على المؤتمر.
وكان السبب في هذه الثورة الجديدة ذلك الدستور الذي فرغ المؤتمر من وضعه لتأسيس نظام
الحكم على نحوٍ يكفل تعيين ثلثَي أعضاء المؤتمر في هيئات الحكومة الجديدة — التي عُرفت
باسم حكومة الإدارة — فأثار هذا العمل حفيظة المعارضين، سواء أكانوا من الملكيين أم من
الإرهابيين، واشتعلت الثورة في باريس يوم ٤ أكتوبر ١٧٩٥م، فاحتشدت جموع الجماهير الصاخبة
تبغي الهجوم على المؤتمر، ولقيت تأييدًا ومؤازرةً من جانب «الحرس الوطني» الذي انضم منه
ثلاثون ألفًا تقريبًا إلى صفوف الثوَّار، فعهد المؤتمر بمهمة الدفاع عنه إلى الجنرال
منو، غير أنها كانت دون ريب مهمة جسيمة، لم يجد منو في نفسه الشجاعة الكافية لمواجهتها.
وعلى ذلك فإنه بدلًا من مقابلة الثوار بالرصاص والمدافع، فضَّل أن يتخذ خطة الإقناع
والجدل معهم. وتعرَّض المؤتمر لأخطار شديدة، فأسرع بعزل منو في مساء اليوم نفسه، وعيَّن
بدلًا منه لجنة من خمسة أعضاء، كان بارَّا Barras
واحدًا منهم، للمحافظة على الأمن والنظام. ووجد بارَّا أن خير من يقوم بهذه المهمة ضابط
شاب، كانت قد حامت حوله الظنون والشبهات بسبب صلاته بزعيم الإرهاب روبسبيير، وحرمته
وزارة الحرب وظيفته، ولكنه ظل منتميًا إلى جماعة بارَّا في العاصمة وحائزًا ثقته، ذلك
الضابط الشاب هو نابليون بونابرت الذي طلب منه بارَّا الآن أن ينقذ المؤتمر. وكان
بونابرت قد أبدى اهتمامًا عظيمًا بمراقبة ما حدث من وقائع في اليوم السابق منذ أن خرج
منو على رأس جيشه لإخماد الثورة، فتبع قوات منو وصار ينتقل معها من مكان إلى آخر، يشهد
عجز القائد وضعفه، ثم خوفه من الاشتباك مع حشود الجماهير الغفيرة وقوَّات الحرس الوطني،
ثم اضطراره إلى الانسحاب بعد أن فشل في «مفاوضاته» مع زعماء الثورة، ثم سمع بونابرت
صيحات النصر التي تجاوبت أصداؤها في كل شوارع باريس عندما اعتقد الثوار والحرس الوطني
أن القضاء على المؤتمر قد بات أمرًا مؤكدًا، فهُرع بونابرت إلى قصر التويلري وشهد جلسة
المؤتمر التي تقرر فيها عزل منو وتأليف لجنة بارَّا التي سبق ذكرها. وكان بونابرت لا
يزال في شرفة المجلس يشهد ما يدور من مناقشات عندما وقف بارَّا، وقد تذكَّر الآن أن في
وسعه أن يعهد بهذه المهمة إلى بونابرت الذي عرفه في طولون عندما قضى على أعداء
اليعاقبة وخلص المدينة من قبضتهم (ديسمبر ١٧٩٣م)؛ فعرض على المؤتمر تكليف بونابرت إخماد
الثورة، فوافق المؤتمر.
وقضى بونابرت ليل ٤-٥ أكتوبر ينظم الدفاع عن التويلري، وكان أول ما اتجه إليه إحضار
تلك المدافع التي تركها «الحرس الأهلي» في مخازنه ودون أن يفطن إلى ضرورة استخدامها
إذا شاء أن يكون النصر في جانبه، فأحضر مورا Murat
هذه المدافع إلى باريس من مخازنها في سابلون Sablons
التي كانت تبعد عن باريس مسافة خمسة أميال تقريبًا، في صبيحة اليوم التالي (٥ أكتوبر).
ونظم بونابرت خطة الدفاع عن المؤتمر بصورة مكَّنته من رد هجوم الثوار على قصر
التويلري مقر اجتماع المؤتمر عندما بدأ هؤلاء غارتهم بعد ظهر اليوم نفسه، فأطلق بونابرت
مدافعه عليهم فلم تمضِ ساعة واحدة حتى كان قد تشتَّت شملهم، ثم بعث بجنده إلى الشوارع
والأزقَّة يجمعون السلاح من الأهالي، ويفرقون أية جموع قد تحتشد من جديد في أنحاء
العاصمة، وهكذا أنقذ بونابرت المؤتمر.
وكان من الطبيعي أن يحنق المؤتمر على منو ويقدمه للمحاكمة لتقصيره و«خيانته»، فاتهمه
بوليتيه Poultier في قاعة المجلس بعد يومين بأنه
أظهر ضعفًا وجبنًا ولجأ إلى المناقشة و«تبادل الرأي» بدلًا من أن يسلط نيران مدافعه
على الثوار. واستمرت الاتهامات توجَّه إلى منو في الأيام التالية. ووقف بارَّا في المجلس
(في ٢٢ أكتوبر) يهزأ بمنو ويبسط للأعضاء ما حدث قبل أن ينجح بونابرت في إخماد الثورة
فقال: «لقد استدعت اللجنة الخماسية قائد الجيش الداخلي الأعلى، فحضر يتبعه عدد من هيئة
أركان حربه، وأجاب على سؤال اللجنة بلهجة تنم عن الصلف الذي يميِّز الضباط الذين خدموا
الملكية: ولقد علمت أن أسلحة تُعطَى لكل قطَّاع الطرق لتسليحهم! هكذا أيها السادة يصف
هؤلاء الطغاة جماهير الجمهوريين وأنصار الجمهورية، بل إن منو ما لبث حتى أعلن أنه لا
يريد أن يرى تحت إمرته أو في صفوف جيشه شراذم من الأشقياء الفجرة والأشرار القتلة الذين
انتظمتهم الفرق الوطنية في عام ١٧٨٩م!»
وقد أسفرت هذه الاتهامات عن تقديم منو للمحاكمة وتوقع كثيرون أن تطيح المقصلة
برأسه. ولكن حدث في هذا الوقت العصيب أن تقدم بونابرت رجل ٥ أكتوبر يطلب الصفح عن منو،
وكان
من أقوال بونابرت أنه ما دام قد قُضي على الثورة فلا داعي الآن لإنزال العقوبة بأحد،
وأن من الحكمة إسدال ستار من النسيان على كل هذه الحوادث. وما كان في استطاعة المؤتمر
الوطني أن يرفض رجاءً تقدَّم به الرجل الذي أنقذه. وعلى ذلك فقد بُرِّئت ساحة منو. وحفظ
منو هذا الجميل لبونابرت طيلة حياته. وكان هذا الحادث سببًا في عقد أواصر الصداقة بين
الرجلين، فقد استطاع منو بفضل لباقته وما اتصف به من حسن المعاشرة أن يستميل بونابرت
إليه ويكسب وده. غير أنه كان من أثر هذه الحوادث كذلك أن ظل منو متعطلًا مدة طويلة من
وقت تبرئته في ١٧ أكتوبر سنة ١٧٩٥م إلى وقت استدعاء بونابرت له لينضم إلى الجيش المحتشد
على شواطئ البحر الأبيض في ٦ مايو سنة ١٧٩٨م … وقد قضى منو كل هذه المدة يبحث عن عمل
دون
جدوى.
صحيح أن منو كان قد وُفِّق إلى استصدار أمر من حكومة الإدارة، التي قامت على أنقاض
المؤتمر الوطني منذ ٢٦ أكتوبر سنة ١٧٩٥م، بأن يُعهد إليه بقيادة القسم الثالث عشر من
جيش
الجمهورية في شهر يوليو سنة ١٧٩٧م؛ ولكن هذا الأمر سرعان ما أُلغي بعد أسابيع قليلة.
وكان سبب الإلغاء أن منو أخفق في هذه المرة كذلك في المهمة التي كُلِّف بالقيام بها يوم
انقلاب ١٨ فركتيدور المشهور، فقد رغب ثلاثة من أعضاء حكومة الإدارة، هم روبل، وبارَّا،
ولاريفليير ليبو La Révellière Lépeaux، أن يُحدثوا
انقلابًا يمكِّنهم من الاستئثار بكل سلطة دون زميليهم الآخرَين
بارثليمي Barthélemy
وكارنو Carnot، ويكفل لهم التخلص من معارضيهم في مجلس الشيوخ والخمسمائة،
وطلبوا إلى بونابرت تنفيذ هذه الخطة التي حددوا لها يوم ٤ سبتمبر سنة ١٧٩٧م (١٨ فركتيدور
من السنة الخامسة الجمهورية). غير أن بونابرت الذي رفض أن يشترك في حوادث هذا اليوم،
ما لبث أن أرسل الجنرال أوجيرو Augereau ليتولى
القيادة في باريس، واعتمد أوجيرو على معاونة سائر القواد لجمع جيش كبير يحاصر به قصر
التويلري.
وكان منو أحد الذين عُهد إليهم بضم قواته إلى هذا القائد، ولكن منو — جريًا على عادته
— لم يشأ الاشتراك في هذه الحوادث العصيبة، فلم يظهر في ذلك اليوم إلَّا حوالي الساعة
الحادية عشرة، وكانت دعواه التي برر بها هذا التلكؤ أنه لم يعرف شيئًا عن حوادث ذلك
اليوم إلَّا في التاسعة صباحًا. ولما كان يقطن في مكان بعيد فإنه لم يستطع الوصول إلى
المكان الذي كان به الجنرال أوجيرو إلَّا بعد ساعة ونصف. وكان من أثر ذلك أنه لم يكد
يستتب الأمر لروبل وصاحبيه حتى بادرت حكومة الإدارة بإلغاء تعيين منو السابق في الجيش
في ١٢ سبتمبر سنة ١٧٩٧م،
٨ فعاد إلى التعطل مرة أخرى.
وفي الشهور التالية لقي منو كل عنت وإرهاق، فإنه لما كان قد اعتاد الإسراف والتبذير،
ولم يغير تعطله شيئًا من أسلوب حياته «الصاخبة»، بل ظل يتردد على المجتمعات والأندية،
ويعقد أواصر الصداقة مع الشابات الجميلات؛ فقد اضطر إلى الاستدانة تارة وإلى بيع ما
تبقى له من بعض الممتلكات أو المقتنيات التي ورثها تارة أخرى. وفضلًا عن ذلك فقد كان
مما أزعجه ولا شك في غير أوقات «نشاطه الاجتماعي» و«مجونه» أن أعداءه صاروا يوجهون إليه
اتهامات كثيرة، بسبب مواقفه «في أيام الثورة» المعروفة، سواء في يوم ١٠ أغسطس سنة ١٧٩٢م،
أو في يوم ٥ أكتوبر سنة ١٧٩٥م، أو في يوم ٤ سبتمبر سنة ١٧٩٧م … وزيادة على ذلك فقد وجد
أعداؤه سببًا آخر لإثارة الشكوك حول إخلاصه للجمهورية والطعن في كفاءته العسكرية، إذ
كان معروفًا أن منو لم يشترك في تلك المعارك الدامية التي خاضت جيوش الثورة غمارها لدفع
العدو عن حدود الوطن، وأنه قضى الوقت بدلًا من ذلك في إخماد ثورة «الفلاحين» في
لافنديه، ولم ينسَ الناس هزيمته في «سومير» بل ظلوا يعيِّرونه بها.
على أن منو سرعان ما وجد ما يشغله عندما اضطر إلى التفكير في شئون الأسرة؛ ذلك بأن
الاضطرابات كانت قد بدأت في جزيرة سان دومنجو حيث كان للأسرة — على نحو ما تقدم القول
— ممتلكات كثيرة، أصبحت الآن مهددة بالدمار، بسبب قيام العبيد أو الرقيق الأسود بالثورة
ضد «البيض» أصحاب الأراضي الواسعة، والذين تتألف منهم فئة الحكام في هذه الجزيرة، فقد
كان سوء الأحوال في هذه المستعمرة ينذر بقيام الثورة بها من مدة طويلة؛ ذلك بأن الحكام
في جزر الهند الغربية الفرنسية عمومًا كانوا يحقدون على المراقبين أو المديرين المكلفين
بالإشراف على الشئون المالية. وعاش التجار وأصحاب الأراضي الواسعة عيشة الترف والبذخ،
شأنهم في ذلك شأن النبلاء والطبقة المتوسطة (البورجوازية) في فرنسا ذاتها، بينما كان
العبيد يؤلفون الطبقة المتذمرة، وكان عدد العبيد يربو كثيرًا على عدد «البيض» الأحرار
في جزيرة سان دومنجو. وقد حدث عند انعقاد الجمعية الأهلية في عام ١٧٨٩م أن حضر إلى فرنسا
ممثلون لأصحاب المزارع، واحتلوا أماكنهم بوصفهم أعضاء في الجمعية الأهلية، وحذا
«المستعمرون» حذو مواطنيهم في فرنسا فأنشئوا «البلديات» في سان دومنجو، كما ألفوا
حرسًا وطنيًّا، بل لقد ذهبوا إلى أبعد من ذلك فادعوا أن من حق الجزيرة أن تصدر
قانونًا خاصًّا بها، فلما قضى حاكم الجزيرة على هذه الحركة فر زعماؤها إلى فرنسا في
أغسطس ١٧٩٠م، وعندئذٍ سُرِّح الحرس الوطني وأُلقي أعضاء «اللجنة الاستعمارية» في
بور أوبرانس
Port-Au-Prince عاصمة الجزيرة في
السجن. وشجعت هذه الحوادث العبيد فقاموا بالثورة يطالبون بالحصول على حقوق المواطن التي
يتمتع بها «أسيادهم» البيض. ولكن البيض سرعان ما قضوا على هذه الثورة وأُعدم زعيمها،
وأقام البيض حكمًا استبداديًّا في الجزيرة عندما وصلت إليها قوات جديدة من فرنسا في
الشهور الأولى من عام ١٧٩١م. ولكن هذه الحوادث سرعان ما أثارت غضب الجمعية الأهلية في
باريس، فعمد أعضاؤها إلى إصدار قرار بإلغاء الرق ومنح الحقوق المدنية لكل سكان
المستعمرات في مايو ١٧٩١م، وذلك دون أن يفكر أحد من أعضاء الجمعية في اتخاذ ما كان يقضي
به الموقف من إجراءات لا غنى عنها للمحافظة على الأمن والنظام في الجزيرة. وعلى ذلك فقد
قام العبيد بحركة عصيان واسعة عندما خُيِّل إليهم أن في استطاعتهم وقد أصبحوا أحرارًا
طليقين وعلى قدم المساواة مع «البيض» أن ينتزعوا من هؤلاء كل سلطة، وأن يستولوا على
أملاكهم قسرًا. فاضطرت الجمعية الأهلية إلى إصدار قرار آخر في سبتمبر من العام نفسه
يهدد بإلغاء «قرار التحرير» إذا استمرت الاضطرابات في جزر الهند الغربية، فكان هذا
القرار سببًا في زيادة الاضطراب شدة على شدة، حتى إن الثورة ما لبثت أن امتدت لا إلى
جزيرتَي مارتينيك وجوادلوب في الهند الغربية فحسب، بل وإلى جزيرتَي بوربون وإيل دي فرانس
(أومورتيوس) في المحيط الهندي كذلك. وكان واضحًا أن الواجب يقتضي من الجمعية الأهلية
إرسال نجدات إلى الجزر وإلى سان دومنجو على وجه الخصوص لإخماد الثورة، ولكن المعارضين
في داخل الجمعية الذين شجعوا الثورة ورغبوا في استمرارها لاتخاذها أداة لعرقلة
أعمال الحكومة، سرعان ما تدخلوا لمنع إرسال الجنود إلى سان دومنجو،
٩ فكان من أثر اشتعال الثورة في الجزيرة أن أحرق العبيد مصانع البن والقطن
والنيلة التي تمتلكها أسرة منو في سبتمبر ١٧٩١م، ثم عمدوا إلى أراضي الأسرة الواسعة
فصادروها واستولوا عليها بدعوى غياب أصحابها عنها. وأصيبت الأسرة بخسائر جسيمة، وصار
كل
ما يشغل أعضاءها هو التفكير في الوسائل التي تمكِّنهم من استرداد ممتلكاتهم وتعوضهم
شيئًا عن خسائرهم.
ولما كانت الاضطرابات قد استمرت طوال العام التالي، وأحرق الثوار مصانع السكر في
أماكن عدة، وأُجبر بولفيريل
Polverel قوميسير الحكومة في الغرب في أغسطس ١٧٩٣م على مصادرة
أراضي الملاك المتغيبين من المهاجرين أو المنفيين، سواء أكان الأولون قد هاجروا إلى بلد
محايد أو حليف لفرنسا. وتبع ذلك تحرير سائر العبيد في جهات الجزيرة الشمالية، فقد وجد
كثيرون من المستعمرين «البيض» في عامَي ١٧٩٢م و١٧٩٣م أن السبيل إلى إنقاذهم من هذه الشرور
واسترداد ممتلكاتهم إنما يكون بالالتجاء إلى إنجلترا والتحالف معها، وكان فريق من هؤلاء
قد بدأ يفاتح الحكومة الإنجليزية في هذا الأمر منذ أن اشتدت الاضطرابات في عام ١٧٩١م،
ولم تشأ حكومة لندن وقتئذٍ أن تجيب ملتمسهم لأنهم كانوا ما يزالون «أقلية»، فظلت ممتنعة
عن إرسال أية قوات إلى سان دومنجو، حتى إذا تكونت المحالفة الدولية الأولى ضد فرنسا،
وأُعلنت الحرب في فبراير ١٧٩٣م، استمع بت
Pitt إلى
رغائب جماعة «المهاجرين» من التجار وأصحاب المزارع الذين حضروا إلى لندن يرفعون شكواهم
إلى الحكومة الإنجليزية ويطلبون نجدتها، فأرسل أسطولًا نزل في الجزيرة في سبتمبر من
العام نفسه، واحتل الإنجليز ميناء بور
أوبرانس
Port au Prince في يونيو ١٧٩٤م، وتمكنوا من إقامة عهد من الهدوء والسكينة في
سان دومنجو استمر عامًا ونصف عام. وكان اثنان من أعضاء أسرة منو من بين هذه الجماعة التي
طلبت مساعدة الإنجليز،
١٠ بيد أن هؤلاء سرعان ما رحلوا عن الجزيرة في أكتوبر ١٧٩٤م عندما هاجمهم
العبيد في ريجو
Rigaud وانتصروا عليهم. وما إن أخلى
الإنجليز الجزيرة حتى انقض الثوار على «المستعمرين» الفرنسيين يقتلونهم ويحرقون ما
بقي من مصانع أو مزارع في أيديهم. واستمر الاضطراب خلال الأعوام التالية،
١١ وحمل لواء الثورة توسيان
لوفرتير
Toussiant Louverture أحد الأهالي السود. وساءت الأحوال في سان دومنجو حتى خرجت هذه
الجزيرة بين عامَي ١٧٩٤م و١٨٠٢م من سيطرة فرنسا الفعلية تمامًا.
وعندما زادت الحال سوءًا في سان دومنجو كان منو في باريس متعطلًا، تقض مضجعه تلك
الإهانات التي استمر أعداؤه يوجهونها إليه دون شفقة أو رحمة. وفضلًا عن ذلك فقد سبَّب
ضياع ممتلكات الأسرة في سان دومنجو، وما ترتب على ذلك من آثار كان أهمها عجز منو عن
الاستعانة بأعضاء الأسرة في معاونته؛ أن أمعن منو في عقد القروض كي يتمكن من العيش حتى
غرق في الدين لأذنيه. وكان سبب هذه الديون — ولا شك — تلك الحياة التي فضَّل منو أن
يحياها، لا في أيام البطالة وحدها بل في جميع الأوقات، سواء أكان شابًّا أم رجلًا أم
كهلًا؛ ذلك أن منو كان يحب الحياة الصاخبة ولياليها المليئة بمغامرات الحب والهوى، ولا
يأنف من مخالطة الراقصات والمغنيات ومن إليهن، يغشى القهاوي والمنتديات مع صواحبه وهن
كثيرات، وقد يستبد به الطيش أو المغالاة في المجون فيعتزم الزواج من إحداهن، حتى إذا
«ثاب إلى رشده» اختص غيرها بعاطفته المشبوبة، وهكذا دواليك، دون أن يعتوره سأم أو ملل.
فعل ذلك في باريس، كما فعل ذلك فيما بعد في مصر حين أتاح له الزواج من سيدة شرقية
الاستمتاع بعدد من الجواري الجركسيات والجورجيات الحسان في «قصره» في رشيد، بل وكما فعل
أيضًا في إيطاليا عندما سلمه الإمبراطور نابليون مقاليد الحكم في تورين وفلورنسا ثم
البندقية. وقد قضى منو في باريس سنوات دون عمل بعد خروجه من الجيش، وظلت تنهال عليه
اتهامات أعدائه له بالجبن وخور العزيمة وخيانة حكومة الجمهورية، وتطارده أشباح تلك
«الأيام المشئومة» — يوم ١٠ أغسطس، ويوم هزيمة سومير، ويوم ٥ أكتوبر — كما كشَّر الفقر
عن
أنيابه لافتراس أسرة دي منو بعد أن خربت أملاكها في سان دومنجو، وثقلت ديون منو نفسه
حتى ناء بها كاهله، ولكن «الجنرال المخادع» استطاع على الرغم من هذا كله أن يجد متسعًا
من الوقت ليرتاد أماكن اللهو والتسلية مع «لابوجون» الجميلة
La Beaujon التي اختارها قلبه من بين سيدات المسارح. وقد شُغف منو بهذه
السيدة شغفًا عظيمًا، حتى إنه صار يصطحبها ويقدمها إلى أصدقائه في كل مكان يذهب إليه،
وصارت تحتل مكان الصدارة في بيته، بل لقد اعتزم منو أن يتزوج منها، واشتُهرت في مجتمعات
باريس وأنديتها باسم «المواطنة منو». ويبدو أن «المواطنة منو» أخلصت الود لصاحبها حتى
آخر أيامه في باريس، حتى إذا وقع عليه اختيار بونابرت بعد ذلك للذهاب معه إلى مصر،
تجشمت متاعب السفر من باريس إلى ليون لتلحق برجلها، فتتمكن من توديعه قبل مغادرته
الشواطئ الفرنسية.
١٢
ولا جدال في أن هذه العشرة الطويلة قد كلَّفت منو ما لا يطيق من مال، فكانت — إلى
جانب ما عُرف عنه من تبذير وإسراف — السبب الذي دعاه إلى الاستزادة من عقد القروض، ثم
الشعور في أوقات صحوه القليلة بثقل وطأة ذلك الضنك الذي عكَّر عليه صفوه نتيجة لانتشار
الثورات في سان دومنجو، وضياع ممتلكات الأسرة في هذه المستعمرة البعيدة.
ومع ذلك فلم يكن منو وحده الرجل الذي شعر بالضيق من جراء قيام الثورات بهذه
المستعمرة، فقد نجم عن تخريب المزارع وإحراق المصانع في سان دومنجو وغيرها أن امتنع
ورود السكر والبن والقطن من جزر الأنتيل إلى فرنسا، فشعرت فرنسا بالضيق وذاقت باريس
على وجه الخصوص ألم الحرمان، واشتدت المطالبة في قاعة الجمعية الأهلية والمؤتمر الوطني
بأن تبادر الحكومة باتخاذ الإجراءات الحاسمة لتنظيم شئون الاستهلاك الداخلي، بتسعير هذه
السلع تسعيرًا رسميًّا من جهة، والعمل على إعادة الأمن إلى نصابه في الجزر من جهة أخرى.
ثم كان لهذه الثورات أثرٌ آخر؛ ذلك أن نزول القوات الإنجليزية سان دومنجو بعد نشوب
الحرب بين فرنسا وأعدائها لم يلبث أن حرك مخاوف الفرنسيين من أن تؤدي القلاقل
والاضطرابات في جزر الأنتيل إلى ضياع هذه المستعمرات، التي بقيت لفرنسا بعد حروب
الاستعمار الطويلة الماضية. وواقع الأمر أن التفكير في بناء إمبراطورية استعمارية جديدة
كان — على نحو ما تقدم — قد بدأ يستأثر باهتمام القادة والمفكرين في السنوات التي سبقت
انفجار بركان «الثورة الكبرى»، فبحث المفكرون و«الفلاسفة» في الأسس التي يجب أن يقوم
عليها بناء هذه الإمبراطورية الجديدة. كما دفع الخوف من ضياع جزر الأنتيل نهائيًّا
هؤلاء المفكرين إلى البحث عن ميادين أخرى تتسع لذلك النشاط الاستعماري.
صحيح أن الفرنسيين قابلوا أخبار نزول الإنجليز في سان دومنجو بشيء كثير من الفتور
والسأم، ولكن أسبابًا عدة — سوف يأتي ذكرها في حينه — ما لبثت أن أحيت رغبتهم في
الاستعمار عمومًا. ومنذ عام ١٧٩٧م استأثرت «مسألة الاستعمار» بقسط كبير من اهتمام حكومة
الإدارة، حتى إن تاليران وزير خارجيتها ما لبث أن ألقى بحثًا أمام هيئة «المجمع العلمي
الفرنسي» في يوليو من السنة نفسها، عن الفوائد التي يمكن أن تجنيها فرنسا من امتلاك
مستعمرات جديدة.
ولم يفت منو ملاحظة هذا النشاط الجديد، وكان من المنتظر — وهو الذي سئم حياة البطالة
وكثر دائنوه، وبرم بذلك الضيق الذي نزل به، وبتلك الإهانات التي ألحقها به أعداؤه — أن
يفكر في وسيلة للخلاص من ذلك كله، بمحاولة إقناع الحكومة حتى ترسله مندوبًا عنها إلى
سان
دومنجو، مسرح الفتن والاضطرابات التي خربت ممتلكات الأسرة، والتي بات من المتوقع أن
تفضي إلى ضياع هذه «المستعمرة» من حوزة الجمهورية. وعلى ذلك فقد بعث منو إلى
روبل
Rewbell عضو حكومة الإدارة برسالة في ٦
أكتوبر ١٧٩٧م يشكو من عنف أعدائه معه، وما يوجهونه إليه من اتهامات، ويطلب أن تهيئ له
الحكومة «ملجأ» يقيه شر هؤلاء الأعداء، وقال منو في مذكرة سابقة إن في استطاعته أن يؤدي
للحكومة خدمات تعود عليه بفائدة محققة لو أنه أُرسل إلى المستعمرات، يعمل كمفتش لجيش
الجمهورية، أو عهدت إليه حكومة الإدارة بمهمة «سياسية».
١٣ وكان هذا آخر سهم في جعبة منو، ولم يكن يدري ماذا يحل به إذا طاش ذلك السهم
ولم يصب هدفه.
غير أن الظروف السياسية ما لبثت أن هيأت الفرصة لمنو حتى «يخدم» الجمهورية، ويقيم
الدليل على كفاءته «السياسية» أو مهارته الإدارية بوصفه مفتشًا للجيش أو حاكم مستعمرة،
عندما صدر قرار حكومة الإدارة في ١٢ أبريل ١٧٩٨م بإرسال «جيش الشرق» إلى مصر بقيادة
بونابرت صديق منو القديم من أيام حادث ٥ أكتوبر، فقد طلب إليه قائد الحملة بناء على
رغبته في ٦ مايو ١٧٩٨م أن يلحق بذلك الجيش المحتشد على شواطئ فرنسا الجنوبية. لقد طلب
منو العمل في المستعمرات، وكان يرجو الذهاب إلى سان دومنجو، فواتته الفرصة للعمل ولكن
في مستعمرة جديدة، وفي ميدان آخر غير جزر الأنتيل والهند الغربية! ميدان الشرق الجديد
الذي اتفق مفكرو «الثورة» وفلاسفتها منذ أمد طويل على أنه خير مكان تستطيع فرنسا أن
تبدأ فيه تجربتها الاستعمارية.