الفصل الثاني

فرنسا والشرق

تمهيد

يذكر كثيرون أسبابًا عدة لإرسال الحملة الفرنسية على مصر، فهناك من يقول إن حكومة الإدارة، وقد صارت تخشى نفوذ بونابرت بعد انتصاراته الباهرة في إيطاليا، أرادت أن تتخلص منه بإبعاده عن باريس، وهناك من يقول إن بونابرت نفسه قد بات لا يرضى بعد ما أحرزه من مجد وفخار في حملة إيطاليا بأن يظل أداة لغيره من أعضاء حكومة الإدارة يستخدمها بارَّا Barras أو كارنو Carnot أو سواهما من رجال هذه الحكومة، الذين كان أكثرهم من «فئة المحامين»، لتهيئة سبل المجد والعظمة لأنفسهم، فصار بونابرت يهدف الآن إلى إحراز السيطرة في فرنسا. ولما كان دستور السنة الثالثة (١٧٩٥م) يمنع الرجال دون الأربعين من أن يصبحوا أعضاء في تلك الحكومة، فقد تحتم الانتظار على بونابرت حتى يبلغ هذه السن. وفضلًا عن ذلك فقد رأى بونابرت بثاقب فكره أن اختلال الأمور بفرنسا لم يبلغ من السوء حدًّا يسوغ خرق الدستور وتسليمه مقاليد الحكم، فقرر التريث حتى «تنضج الكمثرى» فيطلبه الشعب نفسه لتولي قيادته، بل ولا يحجم عن تأييده إذا هو أقدم على إحداث ذلك «الانقلاب» الذي يمكِّنه من الوصول إلى الحكم والتمتع بالسيطرة التي ينشدها. ومع ذلك فقد أدرك بونابرت أن الشعوب سريعة النسيان، وأن يد الزمن لا تلبث أن تسدل ستارًا كثيفًا على أعمال بطولته السابقة إذا هو رضي بالخمول ولم يجدد ذكريات انتصاراته الإيطالية في ميدان آخر يفضل ميدان إيطاليا، ويفتح النشاط فيه آفاقًا جديدةً أمام الشعب الفرنسي في وقت كانت قد أنهكت قوى الشعب تلك الحروب التي ظلت مستعرة طوال القرن تقريبًا، وخسر الفرنسيون من جرائها إمبراطوريتهم الاستعمارية القديمة، بل وكانت — بسبب ما كبدته الشعب من خسائر فادحة — من عوامل ذلك الضنك والاضطراب الاقتصادي والاجتماعي الذي أفضى إلى اشتعال «الثورة الكبرى» وإنشاء الجمهورية.

ولا شك في أن هذا كله أو بعضه صحيح، ولكنه لا جدال كذلك في أن انتظار «نضوج الكمثرى» كان نوعًا من أنواع «الفلسفة» التي اعتمد عليها كثيرون في تفسير ما شهدوه من وقائع بعد حدوثها. ولكن رغبة التخلص من بونابرت، أو التريث حتى يتم نضوج الكمثرى، أو مسعى بونابرت لكسب أكاليل جديدة من المجد والفخار تعيد إلى الأذهان مجد الإسكندر المقدوني، أو قد يتضاءل مجد الإسكندر بجانبها؛ ما كانت كلها مجتمعة تكفي لإقناع حكومة الجمهورية بأن من الخير المجازفة بإخراج جيش كبير إلى الشرق يضم صفوة قواد فرنسا ونخبة علمائها، فتتعرض هذه «العمارة» العظيمة لأخطار العبور في البحر الأبيض المتوسط عندما كانت الأساطيل الإنجليزية مرابطة على منافذ هذا البحر ومتجولة في أنحائه. ولم يكن في استطاعة الفرنسيين، على الرغم مما أحرزوه من انتصارات حاسمة في أرض القارة الأوروبية حتى أرغموا أعداءهم على التسليم وقبول ما أملوه عليهم من شروط قاسية؛ أن ينالوا شيئًا من قوة إنجلترا أو أن يكسبوا نصرًا بحريًّا؛ ولذلك فقد كانت هناك أسباب أبعد غورًا مما اعتاد الكتَّاب والمؤرخون أن يفسروا به مجيء الحملة الفرنسية إلى هذه البلاد.

أمَّا هذه الأسباب فكانت ترتبط ارتباطًا وثيقًا بتاريخ الاستعمار الفرنسي نفسه، واتجاه الرغبة قبل خروج الحملة بزمن طويل نحو إحياء المستعمرات الفرنسية القديمة، أو بناء إمبراطورية استعمارية جديدة إذا كان ذلك الإحياء متعذرًا. حتى إذا عجز الفرنسيون عن عقد الصلح مع إنجلترا التي ناصبتهم العداء منذ إعدام الملك لويس السادس عشر وألبت عليهم الدول، ونجح بت Pitt وزيرها في تكوين المحالفة الدولية الأولى ضد فرنسا (١٧٩٣م)؛ صمم الفرنسيون على الانتقام من إنجلترا، سواء بغزو الإنجليز في بلادهم أو بغزوهم في الهند أهم مستعمراتهم، فكان فتح ميدان الاستعمار الجديد في الشرق من الوسائل التي لجأ إليها الفرنسيون للاقتصاص من خصومهم.

الإمبراطورية الاستعمارية القديمة

لقد أسفرت حروب فرنسا الطويلة في أوروبا والمستعمرات في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وبعد صلحَي أوترخت في عام ١٧١٣م وباريس في عام ١٧٦٣م؛ عن فقد أكثر مستعمراتها في العالمَين القديم والجديد، فلم يعد لها في الهند سوى مراكز تجارية قليلة في شندر ناجور وبوندي شيري وكاريكال ويناون Yanaon وماهي، بينما ضاع منها في أمريكا أقاليم كثيرة: نيوفوندلاند ما عدا جزءًا من شواطئها الشمالية الشرقية للصيد، وجزيرتين صغيرتين جنوبها، ثم جهات خليج الهدسون، وأكاديا، وكندا، ولويزيانا. ولذلك فقد اعتبر المؤرخون أن عهد الإمبراطورية الفرنسية الأولى قد انتهى بحرب السنين السبع (وصلح باريس ١٧٦٣م)، واعتقد كثيرون أن «الإمبراطورية الاستعمارية» لن تقوم لها قائمة بعد ذلك، وفات هؤلاء «المتشائمين» أن فرنسا على الرغم من خسائرها الجسيمة في المستعمرات كانت ما تزال محتفظة بعدد من الجزر ذات الغلَّات الهامة في الهند الغربية، أهمها سان دومنجو، والمارتينيك، وسان لوسيا، وهي جزر الأنتيل التي عرفت باسم «جزر السكر»، وذلك ما عدا جزيرتَي بوربون وموريتيوس أو إيل دي فرانس في المحيط الهندي. وليس من شك في أن فرنسا ما كانت تفيد من كندا قدر ما كانت تجنيه من جزر الهند الغربية خاصة؛ ذلك أن هذه الجزر أمدت فرنسا بالسكر والبن والقطن، وغير ذلك من السلع التي ظلت حاجة الفرنسيين إليها عظيمة. أضف إلى ذلك أن بقاء بوربون وموريتيوس في حوزة فرنسا يجعل هاتين الجزيرتين مراكز تستطيع منها فرنسا بدء محاولة أخرى لبناء إمبراطورية استعمارية جديدة في الشرق الغني. وهكذا ظهر جماعة من «المتفائلين» الذين اعتقدوا أن في استطاعة بلادهم إحياء الإمبراطورية القديمة ثم إعادة التوازن الدولي إلى الحالة التي كان عليها قبل معاهدة باريس، لو أنهم عملوا على إصلاح شئون الجزر أو تلك المستعمرات التي بقيت في حوزتهم، وذلك باستثمار موارد جزر الأنتيل استثمارًا مفيدًا، والاستيلاء على ممتلكات جديدة. وكان في طليعة هؤلاء المتفائلين الدوق دي شوازيل Choiseul وزير خارجية فرنسا منذ عام ١٧٥٧م، والرجل الذي تم على يديه عقد صلح باريس في ١٠ فبراير ١٧٦٣م.
فقد طفق شوازيل يعمل على إزالة ما ترتب على هذا الصلح من آثار أساءت إلى مصلحة بلاده، ووجد أن خير ما يحقق هذه الغاية تدخله في «المسألة الشرقية» إلى جانب حلفاء فرنسا القدماء كالسويد وبولندا وتركيا، يبغي من ذلك أن يعيد إلى فرنسا شيئًا من تفوقها السابق في ميدان السياسة الدولية، وأدرك أن وجود البحرية القوية وبناء الإمبراطورية الاستعمارية، عاملان لا غنى عنهما للنجاح في المضمار الدولي، فبذل جهودًا كبيرة لإحياء البحرية، وكان صاحب الفضل في إثارة عدد من مشروعات الاستعمار الفرنسي الجديدة، كالتوطن في جوايانا الفرنسية والاستقرار بها، وخصوصًا في منطقة نهر كورو، وتأسيس مركز فرنسي جديد في جزيرة مدغشقر على يد موداف Maudave، وتشجيع بوجنفيل Bougainville على الملاحة حول الكرة الأرضية بين عامَي ١٧٦٦–١٧٦٩م. ثم كان من أهم مشروعات شوازيل الاستعمارية تأييد مصالح الفرنسيين في مصر، واستخدام كل مهارته السياسية في محاولة الاستيلاء على مصر ذاتها، حتى يجد مواطنوه في منتجات هذه البلاد وغلاتها ما يعوضهم عن تلك الخسارة التي نزلت بهم بسبب ضياع مستعمراتهم الأمريكية.

غير أن شوازيل لم يكن موفقًا في مشروعاته الاستعمارية، فأخفق مشروع التوطن في حوض نهر كورو، وفتكت الأمراض والحميات بأولئك الفرنسيين الذين غامروا بالهجرة إلى هذه البقاع الموبوءة (١٧٦٣–١٧٦٧م)، ثم أخفقت محاولة أخرى من أجل إنشاء مستعمرة جديدة على ضفاف نهر «إبرواج» في جوايانا كذلك في العام التالي ١٧٦٨م. ومع أن جمهورية جنوه ما لبثت أن باعت لفرنسا جزيرة كورسيكا في العام نفسه على أمل إعادة التوازن في البحر الأبيض المتوسط بعد أن استولى الإنجليز على جزيرة مينورقة الإسبانية (منذ عام ١٧١٣م)، فقد أخفقت جهود الفرنسيين في مدغشقر، وطلب موداف النجدات من فرنسا، ثم انتهى الأمر باستدعائه في ديسمبر ١٧٧٠م، وفي نفس هذا الشهر خرج شوازيل من الوزارة بعد أن ذاع الاعتقاد بأن الفرنسيين تعوزهم القدرة على الاستعمار.

على أن خروج شوازيل من الوزارة وفشل مشروعاته الاستعمارية لم يكن معناه أنه قد قضى على «الفكرة الاستعمارية» في فرنسا قضاء مبرمًا لا قيامة لها بعده؛ ذلك أن مشروع استعمار مدغشقر ما لبث أن عُرض على بساط البحث ثانية على يد بنيوسكي Benyowski المغامر البولندي بين عامَي ١٧٧٢–١٧٧٤م. صحيح أن الحكومة الفرنسية رفضت في آخر الأمر معاضدة بنيوسكي حين اضطر هذا المغامر إلى مغادرة باريس والارتحال إلى أمريكا، غير أن ولاية ماريلاند أمدته بالمساعدات المطلوبة، واستطاع النزول في مدغشقر، ثم قُتل في مايو ١٧٨٦م عند اشتباكه مع القوات الفرنسية التي أُرسلت من جزيرة إيل دي فرانس للقبض عليه؛ إلَّا أنه كان من أثر هذا الحادث من جهة، وبسبب استياء الفرنسيين من فقد إمبراطوريتهم الاستعمارية القديمة من جهة أخرى، أن ظلت الفكرة الاستعمارية باقية، بل لقيت تأييدًا كبيرًا من وقتٍ لآخر من جانب أولئك الفرنسيين الذين ظلُّوا متشبثين بضرورة إحياء مجدهم الاستعماري القديم، سواء أكان ذلك عن طريق إصلاح شئون تلك المستعمرات التي بقيت في حوزتهم أم بالاستيلاء على أرض جديدة، وآية ذلك أن الفرنسيين في السنوات التي سبقت انفجار بركان الثورة الكبرى في عام ١٧٨٩م صاروا يبحثون الأسباب التي اعتبرها المعاصرون مسئولة عن ضياع مستعمراتهم في جزر الهند الغربية بنوع خاص، وتوفَّر فلاسفة الثورة ومفكِّروها إلى جانب الوزراء وغيرهم من رجال الدولة والحكومة، على دراسة هذه الأسباب، التي تناولت بحث القواعد التي قامت عليها الإمبراطورية الاستعمارية القديمة، وبيان جوانب الضعف فيها، والمبادئ التي يجب أن يهتدي بها بناة الإمبراطورية الاستعمارية الجديدة، والأسس التي يجب أن يشيدوا عليها صرح بنائهم.
ولما كانت الإمبراطورية الاستعمارية قد قامت على أساس «الحق الاحتكاري» و«استخدام الرقيق»، فقد بحث فلاسفة الثورة والإنسيكلوبيديون هاتين القاعدتين، فأخذ ديدرو Diderot (١٧١٣–١٧٨٤م) على وجه الخصوص يفسر الاحتكار التجاري وينقده، فقال إنه لما كانت المستعمرات قد أُنشئت فيما وراء البحار لخدمة مصالح الوطن أو الدولة المستعمرة، فقد وقعت هذه المستعمرات تحت حماية الدولة المستعمرة، كما أنها كانت تعتمد في بقائها على ما تمدها به هذه من نجدات وتسديه إليها من خدمات، لتنمية مواردها واستثمارها، حتى بات مؤسسو هذه المستعمرات أصحاب الحق وحدهم في الاتجار معها، ونقل متاجرها ومنتجاتها على ظهور سفنهم، وهذا ما يُعرف باسم الاحتكار التجاري Exclusif، وهو نظام معمول به من أيام كولبير Colbert وزير الملك لويس الرابع عشر. وقد عاد هذا النظام بفائدة محققة على الشركات التجارية الفرنسية التي نقلت المتاجر من جزر السكر وإليها، واحتلت جزيرة سان دومنجو خاصة في هذا النظام مكانًا ملحوظًا حتى غدت محور ذلك النشاط الاستعماري بأجمعه. ومع ذلك فإن الاحتكار التجاري ما كان يخلو من مساوئ عدة، لعل أهمها تحريم دخول موانئ المستعمرات على السفن الأجنبية، فقد تعذر على البحرية الفرنسية بمرور الزمن وازدياد النشاط الاقتصادي في المستعمرات أن تسد حاجة هذه الممتلكات الفرنسية، مما دعا إلى ارتباك الأحوال في الجزر، ولم يكن ثَم مناص من تدبير الوسائل التي تكفل إعادة الاستقرار إلى الحياة الاقتصادية في جزر الهند الغربية.
وواقع الأمر أن الأحوال الاقتصادية في الجزر ما لبثت أن ازدادت سوءًا على سوئها أيام النضال الاستعماري المعروف بين إنجلترا وفرنسا خلال حرب السنين السبع، حتى إن الأهالي في الهند الغربية سرعان ما علا صياحهم يطالبون بتخفيف قيود الاحتكار في عام ١٧٦١م. وأدركت الحكومة حرج الموقف في الجزر في السنوات التالية، فاضطرت بعد ثلاث سنوات فحسب من عقد صلح باريس إلى فتح موانئ سان لوسيا وسان دومنجو في وجه السفن الأجنبية في عام ١٧٦٧م، كما أنها ما لبثت أن اضطرت في عام ١٧٦٩م إلى إلغاء حق شركة الهند الغربية في احتكار التجارة، وكانت هذه الشركة قد تأسست من أيام كولبير، ثم وافقت على دخول السفن الأجنبية إلى عدة موانئ أخرى في جزر الهند الغربية في أغسطس ١٧٨٤م، بل وأجازت بعد عامين اثنين حرية التجارة مع كايين Cayenne عاصمة جوايانا، بل ومع سائر بلدان هذه المستعمرة مدة استمرت حتى عام ١٧٩٢م.
أمَّا مسألة جلب الرقيق الأسود إلى المستعمرات الفرنسية، فقد كانت ترتد في أصولها إلى قانون صدر في عام ١٦٨٥م بتأثير مدام دي منتنون Mme de Maintenon ذات السيطرة المعروفة على لويس الرابع عشر، وكانت هذه السيدة تهدف إلى تحسين أحوال السود المستخدَمين في المستعمرات؛ وذلك لتهيئة السبل لهم لاعتناق الكاثوليكية، ثم الإشراف على تدبير ما يلزمهم من أغذية ولباس، وإمدادهم بالأدوية والعناية بمرضاهم. على أن هذا القانون الذي عُرف باسم قانون السود Code Noir كان ينص كذلك على توقيع العقوبات الشديدة على الأرقَّاء الذين يثبت إهمالهم، أو يسرقون «أسيادهم»، أو يسلكون مسلكًا شائنًا.
فلما كثر «الطلب» من أوروبا على منتجات جزر الهند الغربية، أُغفلت نواحي الخير في هذا القانون. إذ اضطر الأسياد إزاء ازدياد الطلب إلى مضاعفة الإنتاج، فأنشئوا المزارع الواسعة التي اعتمدوا على الرقيق في فلاحتها واستثمارها، وعظم عدد ما جلبوه من الرقيق حتى بلغ في جزيرة سان دومنجو وحدها في عام ١٧٨٩م نصف مليون تقريبًا، في حين أنه لم يكن يزيد قبل ذلك بعشر سنوات على ربع مليون، ولم يكن عدد البيض في هذه الجزيرة يربو على بضعة آلاف قليلة. وإزاء هذه الزيادة المطردة في عدد الرقيق رأى البيض لضمان سيطرتهم في الجزر أن يعملوا لتعديل «القانون الأسود» على نحو يمكِّنهم من تحقيق أغراضهم، فأُهملت العناية بأمر إطعام السود أو السهر على راحتهم، واشتد الأسياد في معاملة أرقائهم فضربوهم بالسياط وبالغوا في إيذائهم، حتى أعادوا بقسوتهم هذه إلى الأذهان ذكرى قدماء الفاتحين الإسبان في العصور السابقة، وكما ظهر في تلك الأيام الخوالي من دافع عن السود، فقد انبرى الآن للدفاع عنهم غليوم رينال Raynal (١٧١٣–١٧٩٦م) من رجال الدين وأعلام الفكر في فرنسا في القرن الثامن عشر.

الاستعمار بين البقاء والزوال

وكان لكتابات رينال — كما كان لكتابات غيره من فلاسفة الثورة ومفكريها — أكبر الأثر في إضعاف تلك الرغبة التي ظهرت أيام شوازيل في إحياء الإمبراطورية الاستعمارية القديمة، كما كان من شأن حملتهم على الاحتكار التجاري واستخدام الرقيق أن انصرف الفرنسيون عامة عن الاستعمار في السنوات التي سبقت اشتعال ثورتهم الكبرى. فقد نجم عن إخفاق تجربة شوازيل في جوايانا أن صار الفرنسيون ينفرون من أية محاولة استعمارية جديدة، ثم زاد نفورهم عندما تصدى الفلاسفة وأصحاب الفكر الجديد لإظهار مساوئ القواعد التي قام عليها صرح الإمبراطورية الاستعمارية القديمة. وكان المسئولون عن ذلك: روسو، ومابلي Mably، ومنتسكيو، وفولتير، إلى جانب رينال، ثم برناردان دي سانت بيير Bernardin de st. Pierre، وأخيرًا بيير بوافر Pierre Poivre، فقد حمل كل هؤلاء على الرق حملة شديدة، وصوروا مساوئ الاستعمار الفرنسي بصورة بشعة مزرية، وأظهروا أن من خطل الرأي أن تناضل فرنسا من أجل امتلاك المستعمرات، بينا هي ما تزال في حاجة إلى استصلاح أراضيها في داخل بلادها ذاتها، والعمل على استثمارها استثمارًا طيبًا نافعًا.

على أنه مما تجدر ملاحظته أن هؤلاء الفلاسفة لم يكونوا جميعًا ضد الاستعمار، ولم يطلبوا إلى فرنسا أن تتخلى عن مستعمراتها، بل إن فريقًا منهم كان لا يرى غضاضة في بقاء «الاحتكار التجاري» أحد أسس الاستعمار الفرنسي القديم، كما فعل منتسكيو الذي وافق كذلك على امتلاك الجزر في البحر الكاريبي، أو بقاء ذلك النظام الاجتماعي القائم في المستعمرات بما في ذلك استخدام الرقيق، كما فعل فولتير الذي نقد الرق باعتباره عملًا شائنًا في نظر الإنسانية. بل إن فولتير — وكان من أصدقاء شوازيل — وافق الوزير على ضرورة الاستيلاء على كورسيكا وحبذ استعمار لويزيانا. أمَّا بيير بوافر فقد طلب إلى مواطنيه أن يبحثوا عن ميادين جديدة لينشئوا بها مستعمرات غير تلك التي ضاعت منهم أو كانت مهددة بالزوال بسبب مساوئ الأنظمة القائمة بها. وكان الشرق ذلك الميدان الجديد الذي دعا «بوافر» مواطنيه إلى محاولة استعماره وفق قواعد وأساليب جديدة.

غير أن تلك الصورة القاتمة التي رسمها بوافر وزملاؤه عن الاستعمار الفرنسي بقواعده القديمة المعروفة، ما لبثت أن طغت على غيرها من صور أو آراء. وفضلًا عن ذلك فقد حالت ظروف عدة وقتئذٍ دون أن يفكر الفرنسيون في ابتكار أنظمة أخرى، أو يقوموا بتجربة استعمارية جديدة في الشرق أو في غيره من الميادين. فقد اشتعلت في عام ١٧٧٤م حرب الاستقلال الأمريكي. ولما كانت فرنسا تريد الانتقام من الإنجليز الذين سلبوها أكثر مستعمراتها القديمة، وتبغي إعادة التوازن الدولي إلى نصابه بهدم سيطرة الإنجليز، فقد تحالفت مع الأمريكيين في عام ١٧٧٨م، وخاضت إلى جانبهم غمار هذه الحرب التي استمرت حتى عام ١٧٨٣م، وذلك دون تفكير في العواقب ودون أن تحسب حسابًا لما قد يترتب على استقلال الولايات المتحدة الأمريكية من آثار سوف تنال من مركز فرنسا ذاتها في جزر الهند الغربية؛ ذلك أن فرنسا تكلفت بسبب اشتراكها في هذه الحرب أموالًا طائلة زادت ضائقتها المالية شدة حتى أضحت عاجزة عن الاحتفاظ ﺑ «النظام القديم» في المستعمرات، ناهيك بمحاولة التوسع الاستعماري في ميادين أخرى جديدة. وفضلًا عن ذلك فقد لجأ الأمريكيون المستقلون إلى التهريب لإنشاء الصلات التجارية الواسعة مع الجزر، وذلك عندما كانت تمنعهم القوانين الفرنسية — وقانون السود خاصة — من الدخول إلى موانئ هذه الجزر، فكان ذلك من أكبر الأسباب التي أرغمت فرنسا على إلغاء إحدى قاعدتَي «الاحتكار التجاري»، وفتحت هذه الموانئ للسفن الأجنبية في أغسطس ١٧٨٤م على ما سبق ذكره، كما اضطرت في ديسمبر من العام نفسه إلى تعديل قانون السود. وكان اتخاذ هذين القرارين إشارة واضحة إلى أن فرنسا لم تعد ترغب في التمسك بالنظام الاستعماري القديم، بل إن هذا النظام قد انحل نهائيًّا في جزر الهند الغربية.

وكان من أسباب انهيار النظام الاستعماري القديم تلك الخطة التي تمسك بها السياسيون ورجال الحكم من وزراء لويس السادس عشر، عندما قصر فرجن Vergennes جهوده على المحافظة على ما بقي في حوزة الفرنسيين من ممتلكات دون محاولة ضم مستعمرات جديدة كان الوزير يعتقد أنه من المتعذر على فرنسا الدفاع عنها أو المحافظة عليها إطلاقًا. وعارض ترجو Turgot «الحق الاحتكاري»، وصمم على عدم إرسال أية نجدات إلى جزر الأنتيل لما يتكلفه إرسال هذه الحملات من أموال طائلة، ولبعد الجزر عن فرنسا، ولم يقنعه توقع الحرب مع إنجلترا بأن من حسن السياسة وأصالة الرأي تعزيز الدفاع عن هذه الجزر، بل إن «ترجو» كان يدعو إلى اعتبار المستعمرات بمثابة دول منفصلة لا يربطها بأرض الوطن سوى بقائها تحت حماية الدول التي تستعمرها … ثم انبرى نكر Necker يندد بمساوئ الرق، ولو أنه أحجم عن تشجيع تحرير الرقيق إلَّا إذا أجمعت الدول الأخرى على إلغاء الرق إلغاء تامًّا، ومع ذلك فإنه لم يكن في وسع هؤلاء السياسيين أن ينبذوا فكرة الاستعمار ظِهريًّا في وقت كانت ما تزال الرغبة في الانتقام من إنجلترا مسيطرة على الأذهان في فرنسا، فقد أيد «ترجو» امتلاك جزر بوربون وإيل دي فرانس، لإمكان استخدام هذه الجزر — على حد قوله — قواعد تستطيع فرنسا أن ترسل منها الحملات إلى الهند عندما يحين الوقت الملائم للاقتصاص من الإنجليز وطردهم من أهم مستعمراتهم في الشرق. ودافع «نكر» عن شركة الهند الشرقية الفرنسية، وأقر الحق الاحتكاري، وأثنى على كولبير ونظام حماية التجارة.

وقد ترتب على هذا التناقض الظاهر في أقوال الفلاسفة والمفكرين ورجال الحكم والسياسة أن برزت فكرتان هامتان كانتا تطغيان على سواهما من الآراء والأفكار؛ هما ضرورة الاستمساك بالمستعمرات، بل والعمل على توسيع رقعتها إذا أمكن، ثم إزالة المساوئ التي أوجدها النظام الاستعماري القديم. ولما كان من المتعذر على كل حال أن يُطلب إلى الفرنسيين أن يتخلوا عن مجدهم الاستعماري الغابر، فقد نجم عن محاولة التوفيق بين هاتين الفكرتين أن اتجهت الرغبة في فرنسا إلى البحث عن ميادين جديدة يستطيع الفرنسيون أن ينشئوا بها مستعمرات جديدة على أسس جديدة، غير تلك الأسس التي أفضت إلى ظهور كل هذه المساوئ التي جعلتهم ينفرون من الاستعمار بوضعه القديم، وسهل على أنصار الاستعمار الجديد أن يجدوا في كتابات وبحوث الفلاسفة والمفكرين ضالتهم المنشودة.

ولما كان بيير بوافر قد بسط في كتاب «أسفاره» المزايا التي تعود على فرنسا من اختيار الشرق ميدانًا لنشاطها الاستعماري الجديد، فقد أضحى الشرق قبلة أنظار مؤيدي الاستعمار في فرنسا. وكان «بوافر» يشير على مواطنيه باستعمار جزيرة مدغشقر لأسباب عدة، لعل أهمها أن هذه المستعمرة الجديدة سوف تستطيع عند نجاحها أن تمد بالمساعدة مستعمرة الفرنسيين في إيل دي فرانس فلا تظل هذه معتمدة في حياتها على الإمدادات التي يأتيها بها الهولنديون عن طريق رأس الرجاء الصالح. ولما كان «ترجو» قد تمسَّك بجزر إيل دي فرانس وبوربون لاستخدامها فيما بعد مراكز لإرسال الحملات منها إلى الهند لطرد الإنجليز؛ فقد اتجهت الرغبة نحو اتخاذ الشرق ميدانًا للتجربة الاستعمارية الجديدة. وفضلًا عن ذلك فقد قويت هذه الرغبة بعد استقلال الولايات المتحدة الأمريكية للأسباب التي ذكرناها، ولأن الاضطرابات التي سرعان ما انتشرت في جزر الهند الغربية نتيجة لاندلاع لهيب الثورة الفرنسية الكبرى، وقيام الخلاسيين والسود يطالبون بالحقوق التي نادت بها الجمعية الأهلية (التأسيسية) في فرنسا، ثم انتشار الاضطرابات على يد توسيان لوفرتير على نحو ما سبق ذكره؛ ما لبثت أن أقنعت الفرنسيين بأن مستعمراتهم في جزر الهند الغربية إنما تسير في طريق الانهيار بخطى حثيثة، وأن من الخير أن يحاولوا «تجربة استعمارية» جديدة في ميادين أخرى قد تعوضهم شيئًا عن خسائرهم في جزر الأنتيل.

وعلى ذلك فإنه لم يكد يصح عزم دعاة الاستعمار الجديد على إنشاء المستعمرات التي يمكن أن تأتيهم بمثل المنتجات والغلَّات التي كانت تأتيهم من جزر الهند الغربية، حتى شرعوا يفكرون في اختيار أصلح الميادين الملائمة لإجراء تجربتهم الاستعمارية الجديدة، وهداهم التفكير إلى أن مصر أحد أقاليم الإمبراطورية العثمانية هي أصلح ميادين الشرق قاطبة لإنشاء المستعمرة الجديدة. وكان لهذا الاتجاه صوب مصر أسباب عدة، منها: ذيوع الاعتقاد وقتئذٍ بأن الإمبراطورية العثمانية على وشك الانهيار، وتوقع تقسيم أملاكها بين الدول، والخوف من استيلاء إحدى هذه الدول على مصر من جهة، ولأن الفرنسيين — وقد ظلت تربطهم بمصر صلات تجارية قديمة، كما أنهم يجدون فيها منفذًا إلى الشرق لتعزيز مستعمراتهم الباقية في المحيط الهندي، والانتقام من إنجلترا خصمهم القديم — ما لبثوا أن وجدوا كذلك أن الخطر بات يهدد البقية الباقية من مصالحهم في هذه البلاد على الرغم من كل محاولاتهم التي بذلوها لإنقاذ بيوتهم التجارية في مصر، وذلك بسبب الفوضى التي انتشرت في البلاد على أيدي البكوات المماليك الذين استبدوا بكل سلطة فيها، وقضوا على كل نفوذ للسلطان العثماني صاحب السيادة الشرعية عليها. فكانت الرغبة في إجراء هذه التجربة الاستعمارية، ثم إنقاذ مصالحهم السياسية والتجارية في وقت هددت فيه الدول بابتلاع ممتلكات الإمبراطورية العثمانية؛ من العوامل التي تضافرت مع غيرها على جعل الفرنسيين يحوِّلون اهتمامهم إلى مصر، حتى إذا دنت ساعة الانتقام من إنجلترا، وتصفية حساب الفرنسيين القديم مع هذا الخصم العنيد الذي قوَّض أركان إمبراطوريتهم الاستعمارية القديمة؛ كان إرسال الحملة الفرنسية على مصر قد بات أمرًا مفروغًا منه، ولا سبيل إلى التراجع عنه.

مصر والمصالح الفرنسية

لقد خضعت مصر لسلطان العثمانيين منذ أن فتحها السلطان سليم الأول في عام ١٥١٧م، ووضع لحكومتها تلك الأنظمة التي أتمها سليمان القانوني من بعده، وأسفرت بعد مضيِّ زمن قليل عن استئثار البكوات المماليك بكل نفوذ وسلطة في البلاد؛ ذلك أن العثمانيين أقاموا إلى جانب الباشا — الحاكم العثماني — ديوانين يضمان رؤساء الفرق العسكرية أو الأوجاقات، وكبار الموظفين والعلماء ورجال الإدارة، وجعلوا رؤساء الفرق العسكرية أصحاب الكلمة المسموعة في الحكومة المركزية، ثم تركوا شئون الحكم في الثغور الهامة والأقاليم في أيدي الصناجق، أو حكام المديريات، وكان أكثر هؤلاء ووكلائهم الذين عُرفوا باسم «الكشاف» من البكوات المماليك، الذين كانوا أوثق صلة بأهل البلاد من غيرهم. وقد قوي شأن البكوات رويدًا رويدًا بعد ذلك، بسبب انشغال الدولة العثمانية بحروبها في القرنين السابع عشر والثامن عشر، حتى إن نفوذهم سرعان ما صار يطغى على كل سلطة للباشا، وأصبح لزعيمهم الذي عُرف باسم «شيخ البلد» من السلطان ما جعله يعزل الباشا ويقدم على حبسه في القلعة، بل إن البكوات المماليك ما لبثوا أن طمعوا في الانفراد بأسباب الحكم وبكل سلطة، وحاولوا طرد العثمانيين من البلاد وقطع صلاتهم بتركيا.

على أن زوال نفوذ الباشا العثماني، ثم تشاحن الهيئات الحكومية المختلفة من أجل الهيمنة على شئون البلاد؛ ما لبث أن ألقى بهذه البلاد في أحضان الفوضى، وقد زاد من شرور هذه الفوضى أن البكوات صاروا يتنافسون فيما بينهم الآن على منصب شيخ البلد، رمز الزعامة والسلطة المطلقة، فاستعر النضال بين القاسمية وذي الفقارية، وكانا من بيوت المماليك صاحبة السطوة والنفوذ وقتئذٍ، يحتكر بكواتهما منصب المشيخة، ويثيرون في البلاد حروبًا أهلية رغبةً في الحصول على هذا المنصب أو تولي إمارة الحج. وكان الباشا العثماني في أثناء ذلك كله قليل الحيلة محدود النفوذ، وكان من أسباب ضعف هؤلاء الباشوات الذين يمثلون السلطان العثماني في البلاد تلك الخطة التي جرت عليها تركيا وعادت بالوبال عليها، عندما أكثرت من تعيين الباشوات وعزلهم، دون أن تسمح باستقرار أحد منهم في الحكم مدة طويلة، خوفًا من طمعه في الانفراد بالسلطة في مصر، وانتهاز فرصة ضعف الإمبراطورية العثمانية لمحاولة الانفصال عنها بإعلان الاستقلال.

غير أن السياسة التي أملت على سليم وسليمان خطة توزيع القوى في مصر بين هيئات حكومية منوعة لا يربط بينها رابط غير اشتراكها جميعًا في التبعية للسلطان العثماني؛ أدَّت إلى انفراد البكوات بالسلطة في البلاد، وكانت من عوامل انتشار الفوضى والاضطراب في مصر، وما لبثت أن أسفرت في نهاية الأمر عن قيام أحد هؤلاء البكوات المماليك بالثورة الجامحة على السلطان العثماني والاستقلال بشئون الحكم والانفصال عن تركيا، فقد عرف علي بك الكبير صاحب هذه الثورة كيف يفيد من ذلك الضعف الذي ألمَّ بدولة العثمانيين نتيجة لحروبهم الطويلة مع روسيا القيصرية في القرن الثامن عشر حتى ضؤل شأن حكامها وعمالها في العراق والشام، واستفحل أمر الشيخ ظاهر العمر الزيداني في عكا وفلسطين، وانزوى الباشا العثماني في الحجاز، بينما صار الشريفيون يتنازعون على الإمارة في مكة، واستطاع علي بك نفسه أن يعلن استقلاله في مصر.

فقد استطاع علي بك الوصول إلى المشيخة في عام ١٧٦٣م، ولم يكد يستمتع بهذا المنصب قليلًا حتى اضطره أعداؤه ومنافسوه إلى الفرار مرتين من مصر خلال ثلاث سنوات، فأقام في الحجاز تارة وفي فلسطين في ضيافة الشيخ ظاهر العمر تارة أخرى، حتى أُتيحت له فرصة العودة إلى القاهرة في عام ١٧٦٦م، فانتقم من أعدائه، وأنزل العقاب الصارم بمحركي الفتن والاضطراب، واستخدم في ذلك أحد مماليكه الذي اشتُهر فيما بعد باسم أحمد «الجزار»، بسبب ما أظهره من قسوة وبطش عند إخماده ثورة عربان البحيرة، وهو أحمد باشا الجزار الذي دانت له فيما بعد باشوية عكا. وحكم علي بك البلاد، ولكن اختلف في وصفه المعاصرون، فقال سافاري Savary الرحالة الفرنسي الذي زار مصر بعد وفاته بزمن قصير إنه أنشأ نوعًا من الحكومة العادلة سعد به المصريون، حتى إن عهد علي بك ليُعتبر بحق «العصر الذهبي» في تاريخ هذه البلاد التي عرف أهلها البؤس والضنك أجيالًا طويلة.١
أمَّا جيمس بروس James Bruce، وهو رحالة إنجليزي زار مصر في عامَي ١٧٦٨م و١٧٧٣م، فكان من أشد الناقمين على تلك الحكومة التي أقامها علي بك، وعلى البكوات وعلى المماليك عامة، ولم يكن يعتقد أن على ظهر البسيطة حكومة أشد قسوة وطغيانًا من «حكومة أولئك الأشرار» الذين يستأثرون بالسلطة في القاهرة.٢ قد يكون سافاري مغاليًا في إعجابه وبروس متطرفًا في كراهيته، ولكنه يبدو على كل حال أن علي بك استطاع أن يقيم نوعًا من العدالة التي فهمها أهل البلاد وقتئذٍ، وكانت ترضى بها معاييرهم التي درجوا على أن يقيسوا بها نجاح الحكومة وعدالتها.٣
وانتهز علي بك فرصة نشوب الحرب بين تركيا وروسيا في عام ١٧٦٨م، وانحياز الباب العالي إلى جانب أعدائه وتصديق وشاياتهم؛ فطرد الباشا العثماني، وامتنع عن دفع الجزية، وضرب النقود باسمه، ووطَّد نفوذه في الصعيد، ثم طمع في نشر سلطانه على بلاد العرب أملًا في أن يتخذ من جدة مقرًّا لتجارة الهند، حتى تتحول تجارة الشرق إلى البحر الأحمر وبرزخ السويس بدلًا من ذهابها إلى أوروبا عن طريق رأس الرجاء الصالح،٤ متأثرًا في ذلك ولا شك بآراء صديقه كارلو روستي Carlo Rossetti التاجر البندقي،٥ ولو أن كثيرين في ذلك الوقت ما كانوا يرون في تجريدة علي بك إلى بلاد العرب والاستيلاء على الحرمين الشريفين إلَّا وسيلة لإشباع «طمعه في الاستيلاء على الممالك» فحسب.٦
وقد ظفر علي بك بعد نجاح حملته في الحجاز في عام ١٨٧٠م بلقب «سلطان مصر وخاقان البحرين»،٧ وشجعه هذا الانتصار على إرسال حملة أخرى إلى الشام، وكان علي بك قد وعد بنجدة حليفه الشيخ ظاهر، فاعتقد الآن أن بوسعه أن يخضع الشام لسلطانه، حتى إذا تمَّ له ذلك غزا تركيا ذاتها وفتحها. وعقد علي بك آمالًا عظيمة على إمكان التعاون مع روسيا خصم العثمانيين العنيد لتحقيق مآربه، واتخذ من تذمر أهل الشام من «عثمان بك بن العظم» الوالي الذي أساء الحكم في سوريا، كما اتخذ من إقبال هذا الوالي على تشجيع أعداء علي بك والترحيب بهم عند خروجهم إلى دمشق ذريعة لفتح الديار الشامية، فاستطاع محمد بك أبو الذهب أحد مماليك علي بك إحراز انتصارات عدة، وعاونه الشيخ ظاهر معاونة صادقة، فسقطت في يده ويد حليفه غزة ونابلس ويافا والرملة واللد وصيدا وغيرها، وسقطت دمشق ذاتها في أبريل ١٧٧١م.
وكان علي بك في أثناء هذه الغزوة يعمل جاهدًا لعقد المحالفات مع روسيا والبندقية، ومع أنه أخفق في هذا المسعى فقد لقي تأييدًا من ألكسيس أرلوف Alexis Orlow قائد الأسطول الروسي في البحر الأبيض، وقد وعد أرلوف بحمل مقترحات البك بصدد المحالفة مع دولته إلى كاترين قيصرة الروسيا. على أن خيانة محمد بك أبو الذهب سرعان ما قضت على كل آماله، ولم تفد معاونة الشيخ ظاهر أو الكونت ألكسيس أرلوف في التخلص من منافسه. واستطاع أبو الذهب أن يؤلب ضده البكوات، فكان تارة يصفه بالكفر والإلحاد وتارة أخرى يتهمه بالعمل على إخضاع هذه البلاد حتى «يقضي على دين الرسول الكريم، ويرغم أهلها على اعتناق المسيحية.»٨ وبالقرب من الصالحية دارت رحى تلك المعارك الحاسمة التي جُرح علي بك في أثنائها، ووقع في أسر أبو الذهب، ثم ما لبث أن مات بعد ذلك بأيام معدودة في ٨ مايو ١٧٧٣م،٩ فقُضي بموته على أول محاولة حدثت في تاريخ مصر الحديثة للتحرر من سلطان الدولة العثمانية. ويرى المعاصرون أن المسئول الأكبر عن إخفاق علي بك كان أولئك الروس الذين فوتوا على أنفسهم بسبب ترددهم وإحجامهم عن وضع ثقتهم في هذا «المملوك المصري» فرصة الاستفادة من حركة علي بك، التي كان يهدف صاحبها إلى الاستئثار بالحكم في مصر والشام؛ ذلك أن نجاح هذا المملوك كان من شأنه على حد قول هؤلاء المعاصرين «نقل تجارة العرب والهند إلى أيدي حلفائه الروس.»١٠

ومع أن محمد بك أبا الذهب كان يرغب في الاستئثار بكل سلطة ونفوذ في مصر بل يطمع في امتلاك الشام كذلك، فقد اختلفت أساليبه عن أساليب «أستاذه» علي بك؛ ذلك أن أبا الذهب وقد شق عصا الطاعة على سيده كان يرى خلاصه واستقامة الأمور له في مصر في إرجاع سيادة العثمانيين على البلاد. وفضلًا عن ذلك فقد اعتمد أبو الذهب على تأييد العثمانيين له في الانتقام من الشيخ ظاهر العمر، غريمه القديم وصديق علي بك، ونال أبو الذهب معاضدة الباب العالي، فاشتبك مع الشيخ ظاهر في معارك حامية انتصر فيها، ولكنه ما لبث أن توفي فجأة في ٨ يونيو ١٧٧٥م بعد أن دانت له عكا.

ولم تفد البلاد شيئًا من أطماع علي بك الكبير ومحمد بك أبو الذهب، بل عمَّت بها الاضطرابات بسبب منازعاتهما وحروبهما، ثم ما لبثت الحال أن ازدادت سوءًا بعد وفاة أبو الذهب، عندما انقسم مماليك علي بك ومحمد بك أبو الذهب شيعًا وطوائف تتنازع فيما بينها للحصول على المشيخة والاستبداد بحكومة البلاد.١١ وفي مايو ١٧٨٦م أرسل الباب العالي حملة عثمانية بقيادة القبطان حسن باشا لردع البكوات وإخضاع البلاد للسيطرة العثمانية، وتخليصها من شرور إبراهيم بك ومراد بك اللذين اقتسما السلطة فيما بينهما من عام ١٧٧٩م، وامتنعا بعد ذلك بأربع سنوات عن إرسال الجزية إلى تركيا.١٢ وكاد النصر يتم لتركيا عندما انهزم مراد ودخل العثمانيون القاهرة في أوائل أغسطس ١٧٨٦م، وفرَّ المماليك إلى الصعيد، ولكن القبطان حسن باشا لم يستطع إخضاع الصعيد، وفضلًا عن ذلك فقد بادرت تركيا باستدعائه عندما نشبت الحرب بينها وبين روسيا في سبتمبر من العام التالي، فاستعاد البكوات سلطانهم في القاهرة، وحاول الباشوات العثمانيون أن يصلوا إلى اتفاق مع إبراهيم ومراد بعد ذلك بصدد إرسال الجزية و«صرة الحرمين» ورفع المظالم عن أهل البلاد، و«أن يسيروا في الناس سيرة حسنة»، ولكن دون نتيجة، بل ظلت الأحوال تسير من سيئ إلى أسوأ. وقد كتب الشيخ الجبرتي١٣ عن سنة تسع ومائتين وألف هجرية (١٧٩٤-١٧٩٥م) أنه «لم يقع بها شيء من الحوادث الخارجية سوى جور الأمراء وتتابع مظالمهم»، ثم عن سنة ١٢١٠ هجرية (١٧٩٥-١٧٩٦م) أنه «لم يقع بها شيء من الحوادث التي يُعتنى بتقييدها سوى مثل ما تقدم من جور الأمراء والمظالم»، وعن سنتَي ١٢١١، ١٢١٢ هجرية (١٧٩٧-١٧٩٨م) أنه «لم يقع فيهما من الحوادث التي تتشوف إليها النفوس أو تشتاق إليها الخواطر فتقيَّد في بطون الطروس سوى ما تقدمت إليه الإشارة من أسباب نزول النوازل وموجبات ترادف البلاء المتراسل.»١٤

وغني عن البيان أن هؤلاء البكوات المماليك ما كانت تعنيهم شئون مصر إلَّا بقدر ما يبتزونه من أموال أهلها بشتى الأساليب والطرق، فلم يُعنوا بتدبير أمور هذه الباشوية التي سيطروا على حكومتها، فاختلت الأمور، وارتبك اقتصاد البلاد، وانتشرت بها المجاعات والأوبئة والأمراض. وساعد على انتشار الضنك انخفاض النيل مرات عدة، وانصراف الفلاح عن العناية بأرضه وزراعته عندما ظلت غلات هذه الأرض نهبًا للبكوات. ولمَّا كان البكوات لا يفقهون شيئًا من شئون الري، ولم يكن يعنيهم مصير هذه البلاد التي تسلَّموا زمامها؛ فقد أهملوا الترع والقنوات، وطغت رمال الصحراء عليها فهدمت أكثرها، كما أتلفت قسمًا كبيرًا من الأرض الصالحة للزراعة، واضمحلت الصناعة، وركدت التجارة، وأُصيب التجار الإنجليز والفرنسيون وغيرهم بخسائر فادحة من جراء تهديد الأمن وانتشار الفوضى في البلاد.

وكان الإنجليز والفرنسيون في طليعة التجار الأجانب الذين أنشئوا بيوتًا تجارية هامة في مصر، وبذلوا ما وسعهم من جهد وحيلة لصون مصالحهم التجارية في هذه البلاد، يبغون تأمين تجارتهم في القاهرة والإسكندرية، والسويس بصفة خاصة، ومنع اعتداءات العربان وغيرهم على القوافل التي تحمل تجارتهم التي كانوا يجلبونها من أوروبا عبر برزخ السويس في طريقها إلى الأسواق الشرقية، أو التي كانوا يجلبونها من الهند والشرق عامة إلى الأسواق الأوروبية. وكان الإنجليز أسبق من فكَّر في إحياء طريق مصر البري القديم عندما توطدت أقدامهم في مستعمراتهم الجديدة في الهند على وجه الخصوص، وخُيِّل إلى وارن هيستنجز Warren Hastings حاكم البنغال أن في استطاعته أن يعتمد على ما أبداه علي بك الكبير من رغبة في إحياء تجارة جدة وفتح طريق التجارة بين الموانئ الهندية وميناء السويس، فقرر هيستنجز أن يعقد معه معاهدة تجارية تعيد الطريق البري إلى سابق عهده، وتؤمِّن التجارة الإنجليزية من الاعتداء عليها في أثناء نقلها عبر البرزخ من السويس إلى الإسكندرية.
ولكنه لم يكد يحضر مندوبو حاكم البنغال إلى القاهرة حتى كان محمد بك أبو الذهب قد تخلَّص من علي بك في الظروف التي سبق ذكرها، فعقد معه المندوبون معاهدة تجارية في ٧ مارس ١٧٧٥م/٤ محرم ١١٨٩ﻫ، خُفِّضت بمقتضاها الضرائب المحصلة على البضائع الآتية من الموانئ الهندية، كما أجازت للإنجليز تصدير المنتجات المصرية دون تحصيل ضرائب عليها، وفُتحت الأسواق الهندية والمصرية لمواطني الطرفين المتعاقدين على السواء، وتعهد أبو الذهب عن نفسه وعن خلفائه في الحكومة بالمحافظة على المتاجر المصدرة إلى الخارج حين نقلها من الطور أو السويس إلى القاهرة.١٥ وكان محمد بك أبو الذهب قبل ذلك بعامين قد أظهر رغبته في فتح هذا الطريق البري عندما نجح جيمس بروس في استصدار «فرمان منه إلى شركة الهند الشرقية التجارية» يتضمن هذه المزايا التي اشتملت عليها معاهدة هيستنجز-أبو الذهب التجارية.١٦
ومع أن جورج بلدوين Baldwin التاجر الإنجليزي الذي كُلِّف الإشراف على مصالح شركتَي الليفانت والهند الشرقية التجارية الإنجليزيتين في هذه البلاد كان من أكبر مؤيدي فتح هذا الطريق البري؛ فقد تضافرت عوامل عدة لإبطال مفعول هذه المعاهدة بسبب معارضة تركيا الشديدة لملاحة السفن الإنجليزية في البحر الأحمر شمالي جدة ودخولها ميناء السويس، خوفًا من أن يؤدي النشاط التجاري المنتظر إلى اجتماع الثروة في أيدي البكوات المماليك وزيادة قوتهم تبعًا لذلك. أضف إلى هذا أن الحكومة الإنجليزية ذاتها كانت تعتقد أن فتح هذا الطريق من شأنه أن يلحق الأذى بتجارة شركة الهند الشرقية، وفضلًا عن ذلك فقد توفي أبو الذهب بعد عقد المعاهدة بشهور قليلة، وكان من أثر الفوضى التي اشتدت وطأتها في البلاد عقب وفاته أن تعطل كل نشاط تجاري.١٧

على أن هذا النجاح الذي أدركه بروس ثم هيستنجز وأسفر عن عقد المعاهدة الإنجليزية-المصرية في عام ١٧٧٥م، ثم رغبة الفرنسيين في تأمين متاجرهم وصيانة مصالحهم في هذه البلاد؛ سرعان ما أفضى ذلك كله إلى محاولة هؤلاء أن يعقدوا مع البكوات المماليك معاهدة تجارية على غرار معاهدة هيستنجز-أبو الذهب، فقد شكا التجار الفرنسيون كثيرًا من المغارم والإتاوات التي فرضها البكوات عليهم، وتعرُّض تجارتهم للنهب والمصادرة في الأعوام التالية حتى اضطروا إلى نقل مركز تجارتهم وقنصليتهم من القاهرة إلى الإسكندرية، بعيدين عن مسرح الاضطرابات والفتن، كما عيَّنوا نائب قنصل في دمياط أحد موانئ التجارة الهامة وقتئذٍ. ثم ما لبثت مصالحهم أن تعرضت لخطر منافسة أجنبية جديدة عندما رغبت الإمبراطورية النمسوية حوالي عام ١٧٨٢م في السيطرة على تجارة الشرق، وتحويل هذه التجارة إلى الطريق البري عبر مصر، واعتمدت في ذلك على التاجر البندقي القديم كارلو روستي الذي عينته قنصلًا لحكومتها في هذه البلاد.

ولما كان فرجن Vergenne الوزير الفرنسي قد عوَّل على التمسك بمصالح دولته التجارية، سواء أكان ذلك في مختلف أسواق العالم أم في ممتلكات فرنسا الباقية في حوزتها، وفضَّل هذه الخطة على محاولة الاستحواذ على مستعمرات جديدة؛ فقد بادر الآن يطلب من شوازيل-جوفييه Choiseul-Gouffier سفيره بالقسطنطينية أن يسعى لدى الباب العالي من أجل فتح الطريق البري للتجارة الفرنسية عبر برزخ السويس، وأوفد شوازيل جوفييه بدوره إلى مصر في عام ١٧٨٤م الضابط ترجويه Truguet لكي يصل إلى اتفاق مع مراد بك في مصلحة التجارة الفرنسية. واستعان ترجويه لدى وصوله إلى القاهرة في بدء العام التالي بوساطة شارل مجالون Magallon على تحقيق أغراضه، وكان مجالون تاجرًا فرنسيًّا أقام في البلاد من مدة طويلة، وعهدت إليه حكومته عند انتقال قنصليتها من القاهرة إلى الإسكندرية في عام ١٧٧٧م بالإشراف على مصالح الفرنسيين في القاهرة، واستطاع مجالون أن يكسب ثقة مراد، كما نشأت صداقة وثيقة العرى بين زوجتَي الرجلين، فأفلح مجالون في وساطته وعقد ترجويه مع مراد بك ومع يوسف كساب، ملتزم الجمارك العام، ومع الحاج ناصر شديد، أحد شيوخ العربان، ثلاث معاهدات في يناير ١٧٨٥م لتحديد قيمة الضريبة المحصلة على البضائع الفرنسية المصدرة من الهند إلى فرنسا في أثناء نقلها عبر برزخ السويس، ولتأمين هذه البضائع من اعتداءات العربان عليها في الطريق بين السويس والقاهرة.١٨

غير أن الفرنسيين لم يفيدوا شيئًا من عقد هذه المعاهدة لاستمرار الاضطرابات والفتن في البلاد، بل سرعان ما رفعوا عقيرتهم بالشكوى من فداحة المغارم والإتاوات التي ألزمهم مراد وإبراهيم، كما ألزما سائر التجار الأجانب، بدفعها. ومع أن جورج بلدوين كان ما يزال عظيم الثقة في إمكان فتح الطريق البري لمصلحة التجارة الإنجليزية، فقد أدركت حكومته أن من العبث الاحتفاظ بقنصليتها في هذه البلاد، فأغلقتها في فبراير سنة ١٧٩٣م وأقالت بلدوين نفسه من منصبه.

ثم ما لبثت أن قابلت بفتورٍ ظاهر أنباء تلك المعاهدة التي عقدها بلدوين بعد ذلك في ٢٨ فبراير ١٧٩٤م، وكانت على غرار معاهدة (ترجويه-مراد) السابقة.١٩ وهكذا ساءت الأحوال في مصر، وظل البكوات المماليك لا يرعوون عن غيِّهم على الرغم من جهود جورج بلدوين ومساعي شارل مجالون الذي عينته حكومة المؤتمر الوطني الفرنسية قنصلًا عامًّا لها في مصر منذ أوائل العام السابق، فقد أرغم إبراهيم بك التجار على دفع أربعة عشر ألف ريال إسباني أبو طاقة في أبريل ١٧٩٤م، واستولى مراد بك على قدر كبير من البضائع. وتعرضت مخازن التجار من ذلك الحين للنهب والسلب، حتى اضطر التجار الفرنسيون في يوليو من العام نفسه إلى إغلاق بيوتهم التجارية في القاهرة، والانسحاب إلى الإسكندرية، واستطاع خمسة منهم حزم أمتعتهم والخروج إلى رشيد، ولكن مرادًا ما لبث أن قبض عليهم وأرغمهم على العودة إلى القاهرة، فظل التجار بالقاهرة تحت رقابة مراد وإبراهيم الصارمة مدة ثلاثة أشهر حتى أذن لهم البكوات بالذهاب في آخر الأمر إلى الإسكندرية، فبلغوها في أبريل ١٧٩٥م، وكان على رأس هؤلاء المنسحبين شارل مجالون نفسه.
واضطرت حكومة الجمهورية إلى إرسال بعثة إلى مصر لتسوية مشكلات التجار الفرنسيين مع البكوات المماليك، فوقع الاختيار على ديبوا-ثانفيل Dubois-Thainville في يوليو من العام نفسه للذهاب إلى القاهرة، وكانت «لجنة الخلاص» قد أوفدت ثانفيل إلى القسطنطينية لمراقبة مندوبي الحكومة الفرنسية في العاصمة العثمانية.
على أن السبب في إرسال ثانفيل لم يكن تكرر شكاوى مجالون وحدها، فقد كانت فرنسا تريد إبطال مشروعات الإنجليز، وبخاصة بعد أن نجح بلدوين في عقد معاهدته الأخيرة مع البكوات المماليك، فقد وطد الإنجليز أقدامهم في جزيرتَي رودس وكريت، وطفقوا يعملون لتعطيل التجارة الفرنسية في البحر الأبيض، ثم تطايرت الشائعات القوية عن رغبتهم كذلك في ربط تجارة البحر الأبيض بتجارة الهند عبر طريق مصر البري لخدمة المصالح الإنجليزية. ولكن ثانفيل الذي وصل إلى الإسكندرية في أكتوبر ١٧٩٥م ما لبث أن فشل في مهمته، فلم ينل التجار الفرنسيون أية تعويضات عن خسائرهم، ولم يظفر ثانفيل من إبراهيم ومراد بأية ضمانات لتأمين التجارة الفرنسية في المستقبل.٢٠
وعلى ذلك فقد ظل شارل مجالون يرسل شكاواه إلى حكومة الجمهورية، وكان مجالون قبل وصول ديبوا-ثانفيل إلى مصر قد بدأ يدعو في رسائله إلى فكرة الاستيلاء على هذه البلاد؛ إذ إن في ذلك وحده خير ضمان للمصالح التجارية، فضلًا عن صيانة المصالح السياسية الفرنسية. فقد كتب مجالون في ١٧ يونيو ١٧٩٥م إلى فرنيناك Verninac المندوب الفرنسي في القسطنطينية: «إنه من العبث أن يعتمد إنسان على الفرمانات أو ما يصدره الباب العالي من أوامر إلى القاهرة في إدخال تغيير من شأنه إصلاح مركز الفرنسيين في مصر، ولا يفيد إصدار هذه الفرمانات في ذلك شيئًا مهما بلغت قوة لهجتها، بل إن استصدار هذه الفرمانات سوف يسيء إلى الفرنسيين ويزيد من حرج مركزهم في هذه البلاد؛ ولذلك فإمَّا أن يعمل الباب العالي بصورة جدية للانتقام مما لحق بالفرنسيين من أذى على أيدي البكوات المماليك، وإمَّا أن يعلن فرنيناك إلى الباب العالي أن الحكومة الجمهورية لها من القوة ما يمكِّنها من تأديب جماعة من الأفراد لا يعرفون سوى العجرفة والكبرياء، ولا يقدرون على شيء في واقع الأمر.» ثم استمر مجالون يقول: «وأمَّا إذا شاءت حكومة الجمهورية أن تولي شئون التجارة اهتمامًا جدِّيًّا، وأرادت أن تجني من هذه التجارة كل فائدة ممكنة؛ فلا مناص في هذه الحالة من أن تمتلك مصر، ومصر كلها، فلا تكتفي بالاستيلاء على ميناء الإسكندرية، بل يجب الاستحواذ كذلك على رشيد ودمياط والقاهرة والسويس، كما يجب أن يكون لها عندما يحين الوقت مراكز تجارية تمتد في طول البلاد وعرضها حتى الشلال الأول.» وفضلًا عن ذلك فإن من شأن الاستيلاء على السويس والسيطرة على البحر الأحمر التمهيد لطرد الإنجليز من الهند، وإبطال استخدام طريق رأس الرجاء الصالح للتجارة الشرقية في النهاية.
وقد بعث مجالون بصورة من رسالته هذه إلى «لجنة العلاقات الخارجية» بباريس، وفي أول أكتوبر من العام نفسه كتب مجالون إلى كولشن Colchën قومسيير هذه اللجنة أن الحكومة الملكية السابقة في فرنسا كانت تفكر في الاستيلاء على مصر لما كانت تنتظره هذه الحكومة من فوائد تجارية عدة إذا هي أقدمت على فتح هذه البلاد وامتلاكها. وعالج مجالون في رسالته هذه كذلك مزايا الاستيلاء على ميناء السويس وبسط سيطرة الفرنسيين على البحر الأحمر. وقد كتب مجالون في هذا المعنى إلى «لجنة الخلاص» في باريس بعد يومين فقط من رسالته الأخيرة.٢١ ثم إن مجالون ما لبث أن طلب في ديسمبر ١٧٩٥م أن تأذن له حكومته بالحضور إلى باريس حتى يبسط أمامها مبلغ الأضرار التي لحقت بالتجارة الفرنسية في مصر، وما كان يتوقعه من إهدار كل مصلحة سياسية وتجارية لبلاده في هذه الأقطار ما دامت حكومته ممتنعة عن اتخاذ إجراء حاسم لصيانة مصالحة، محجمة بسبب ترددها عن التفكير جدِّيًّا في فتح مصر والاستيلاء عليها.

غير أنه لم يكد يصح عزم مجالون على المجيء إلى باريس حتى كانت قد انتهت حوادث الثورة الدامية وانقضى زمانها، وبدأ عهد من الاستقرار والتنظيم الجديد، واستطاع رجال حكومة الإدارة التي تشكلت منذ أكتوبر ١٧٩٥م أن يتفرغوا لبحث المشكلات والموضوعات التي ما كانت تحتمل تأجيلًا أو تأخيرًا كضرورة الذود عن أرض الوطن وبحث المسألة الاستعمارية. وقد تضافرت وقتئذٍ عوامل عدة لتعزيز رغبة الفرنسيين في إحياء إمبراطوريتهم الاستعمارية، وإجراء تجربة الاستعمار الجديدة في مصر، وهي أحد ميادين ذلك الشرق الذي اختاره كتابهم وفلاسفتهم وسياسيوهم بوصفه خير مكان يصلح لتشييد صرح الإمبراطورية الاستعمارية الجديدة. فقد نجم عن شكايات مجالون والتجار الفرنسيين في مصر أن أُعيد مرة أخرى بحث العلاقات بين فرنسا وتركيا صديقتها القديمة. وكان السياسيون قد عُنوا بدرس هذه المسألة في السنوات التي سبقت اندلاع لهيب الثورة الفرنسية، وانقسم الباحثون في مصير الإمبراطورية العثمانية وقتذاك فريقين: أحدهما يتوقع انهيار هذه الإمبراطورية سريعًا، بينا يستبعد الفريق الآخر زوالها، فاستؤنف البحث الآن في هذا الموضوع على ضوء ما وقع من حوادث أظهرت بوضوح وجلاء أن الدولة العثمانية وإن كان ما يزال مقدرًا لها البقاء فقد انتشرت الفوضى على الأقل في مصر إحدى ولاياتها التي كانت تربط فرنسا بها صلات وثيقة، وحدث ذلك بصورة تنذر في آخر الأمر بالقضاء على مصالح فرنسا التجارية والسياسية في البحر الأبيض وفي الشرق عامة، حتى إن الرحالين الذين زاروا مصر في ذلك الحين حرصوا جميعًا على رسم صورة صادقة لهذه الفوضى التي ضربت أطنابها في البلاد فقضت على حياتها الاقتصادية، وعرضت للتلف والبوار أرضها الخصبة الغنية ذات الغلات الوفيرة، ثم أنهكت قوى البلاد حتى جعلتها عاجزة عن رد غارات المعتدين عليها إذا شاءت الدول اقتسام ممتلكات دولة آل عثمان.

الاتجاه نحو مصر

وكان لتقارير وكتابات رجال السياسة الفرنسيين الذين خدموا في القسطنطينية أو القاهرة، ثم أولئك الرحالين الذين زاروا مصر؛ أكبر الأثر في كشف القناع عن حالة الإمبراطورية العثمانية من جهة، وتوجيه أنظار مواطنيهم إلى مصر إحدى ولايات هذه الإمبراطورية من جهة أخرى، وقد أقبل القوم على دراسة هذه التقارير وقراءة هذه الكتب بشغف عظيم عندما تجددت الرغبة في الاستعمار.

وكانت تقارير سانت بريست Saint-Priest سفير فرنسا في القسطنطينية (١٧٦٨–١٧٨٤م)، وجان بابتيست مور Jean Bapteste Mure قنصلها في مصر وقتئذٍ، ثم كتابات الرحالين الثلاثة البارون دي توت Tott   وسفاري Savary   وفولني Volney، الذين ظهرت كتبهم و«أسفارهم» بين عامَي ١٧٨٤م و١٧٨٨م، أهم ما عُني الفرنسيون بدراسته في السنوات القليلة التي سبقت مباشرة مجيء الحملة الفرنسية إلى مصر.

وقد شهد سانت بريست الحرب الروسية التركية التي انتهت بمعاهدة قينارجة في عام ١٧٧٤م، واعتقد أن انحلال تركيا بات أمرًا لا مفر من الاعتراف به. ومع أنه كان يبغي أن تبذل فرنسا قصارى جهدها للمحافظة على كيان تركيا، وهي الدولة التي توطدت أواصر الصداقة بينها وبين فرنسا من أزمان طويلة؛ فقد كان من رأيه أنه إذا تعذَّر إقناع كل من روسيا والنمسا بالعدول عن مناصبة الدولة العداء طمعًا في ممتلكاتها، فإن الواجب يقتضي فرنسا؛ محافظةً على مصالحها، أن تشترك مع هاتين الدولتين في اقتسام ممتلكات تركيا، حتى إذا تقرر ذلك كانت مصر نصيب فرنسا من التركة العثمانية. وقد بنى سانت بريست اختياره هذه البلاد على اعتبارات عدة، أهمها أن مصر «أخصب بقاع الأرض كلها» تنمو بها المحصولات التي تنمو بالمستعمرات الفرنسية في أمريكا (جزر الهند الغربية) وذلك دون مشقة أو تعب، كما أنه من الممكن أن يُجلب العبيد لفلاحة أرضها وزرعها بنفقات تقل كثيرًا عما يحدث في تلك المستعمرات الأمريكية. وعلاوة على ذلك فمصر بلد صحي المناخ، لا يبعد عن شواطئ فرنسا الجنوبية إلَّا بنحو ثلاثة آلاف فرسخ، ولا تستطيع دولة أوروبية أن تنازع فرنسا في امتلاكه. ولما كان من السهل أن تصبح مصر مركزًا لتجارة العالم أجمع، فإن ذلك سوف يؤدي إذا تم إلى إضعاف شوكة إنجلترا وهدم سيطرتها على الهند.

واعتقد سانت بريست أن فرنسا لن تلقى صعوبة ما إذا هي حاولت الاستيلاء على هذه البلاد، لأن الإسكندرية مدينة «مفتوحة» ولا وسائل للدفاع عنها، كما أن حكومة مصر لا قدرة لها على الدفاع بسبب ضعفها والفوضى المنتشرة بها. وفضلًا عن ذلك فإن البكوات المماليك الذين يؤلفون هذه الحكومة من الرقيق «الأجانب» الذين يكرههم المصريون كراهية شديدة. «وعلى ذلك فإن الاستيلاء على مصر أمر لا مفر منه لخدمة المصالح الفرنسية إذا بات مقرَّرًا انهيار الإمبراطورية العثمانية.»٢٢
وكان مور القنصل الفرنسي في مصر يشاطر سانت بريست الاعتقاد بقرب انهيار الإمبراطورية العثمانية، ويتوقع أن تقتسم الروسيا والنمسا ممتلكاتها فيما بينهما، ولا يريد أن تدع فرنسا الفرصة تمر دون أن تأخذ مصر نصيبًا لها من هذه التركة العثمانية. بل إن مور كان يخشى أن تبادر النمسا إلى امتلاك مصر ذاتها، حتى إذا تم لها ما أرادت استطاعت أن تسد حاجتها من تلك المنتجات التي كانت تستوردها من الأسواق الأمريكية، بل وصار في وسعها كذلك أن تصدِّر ما يفيض عن حاجتها من هذه المنتجات نفسها إلى أوروبا. أضف إلى هذا أن وجود النمسا في مصر سوف يمكِّنها من المشاركة في تجارة الهند، ويجعلها قادرة إذا هي أنشأت أسطولًا صغيرًا في ميناء السويس على الاستئثار بكل سيطرة في البحر الأحمر. ولا شك في أن ذلك كله سوف يضمن لهذه الدولة الاستعلاء على غيرها من الدول والتفوق في حلبة السياسة الأوروبية، ولن يسهل إخراجها وقتئذٍ من مصر. ولذلك فإن خير ضمان لمصلحة فرنسا أن تأخذ للأمر عدته من الآن، حتى إذا انهارت الدولة العثمانية سهل على فرنسا احتلال مصر.٢٣

وأوضح مور مقدار ما تجنيه فرنسا من فوائد محققة إذا هي أقدمت على ضم مصر إليها، فقال إن استغلال موارد البلاد سوف يفيد التجارة والصناعة الفرنسية فائدة كبيرة. وكان أهم ما وجه مور إليه أنظار سانت بريست — نفس السفير الفرنسي في القسطنطينية الذي بعث إليه مور بالمذكرة التي بسط فيها هذه الآراء في عام ١٧٨٣م — أن الاستيلاء على مصر سوف يكون من نتائجه إحياء طريق التجارة البري القديم عبر برزخ السويس، واستخدامه في نقل تجارة الهند خاصة، وسوف يوفر فتح هذا الطريق القصير بلا ريب نفقات طائلة ومتاعب عظيمة، وذلك إلى جانب الاقتصاد في الوقت الذي يضيع سدًى عند نقل التجارة وما إليها بطريق رأس الرجاء الصالح حول أفريقيا. ولم يحُل دون استخدام طريق السويس البري سوى سوء الحكم العثماني. ولا ريب في أن مجيء الفرنسيين إلى هذه البلاد سوف يزيل كل عقبة عطلت في الماضي نقل تجارة الهند عبر هذا الطريق.

على أنه مما تجدر ملاحظته كذلك أن مور كان يبغي احتلال القطر المصري بأجمعه من شواطئ الدلتا شمالًا إلى الشلالات جنوبًا، كما كان يرى الاحتفاظ بهذه البلاد سهلًا ميسورًا إذا أُنشئت قلعتان قويتان عند الشلال الأول لمنع اعتداءات شعوب النوبة على الحدود الجنوبية، ووُضعت حاميات قليلة العدد في أنحاء القطر بين أسوان والقاهرة، على أن تظل بالقاهرة حامية كبيرة، وتحتل قوة من الجند إقليم الفيوم، وتستقر حامية كبيرة في دمنهور للدفاع عن إقليم البحيرة ضد عربان الصحراء الغربية، ثم يجري تأسيس عدد من المراكز في الشواطئ الشمالية بين الإسكندرية وطرابلس. وقد اشتملت خطة الدفاع عن مصر على إنشاء نظام من التحصينات القوية للدفاع عن الإسكندرية ذاتها، وتعزيز الدفاع عن أبو قير ورشيد ودمياط ومدخل بحيرة البرلس، وإقامة خط من التحصينات على طول المسافة بين السويس وبحيرة المنزلة؛ أي في المنطقة التي استمرت تأتي منها حملات الغزو من «أزمنة قديمة». بل إن مور ما لبث أن أشار بضرورة إنشاء علاقات الود والصداقة مع أحمد باشا الجزار صاحب عكا، الذي كاد يصبح مستقلًّا عن تركيا وعظمت أطماعه في الاستيلاء على الشام بأجمعها، وكان غرض مور من ذلك تأمين حدود مصر الشرقية من أية اعتداءات عليها من هذه الناحية.٢٤
وعمد مور في أجزاء التقرير التالية إلى بيان الخطة التي يجب على فرنسا اتباعها في حكومة هذه البلاد بصورة تكفل استغلال مواردها على خير وجه، من ذلك أن تستولي الحكومة الفرنسية على الشطر الأكبر من الأراضي المصرية، فتعيد توزيعها وتبيعها لمن يرغبون فيها، حتى يتسنى لها مواجهة نفقات الفتح. وواجب فرنسا كذلك أن تجلب إلى مصر المستعمرين الفرنسيين الذين سوف يستميلهم خصب الأرض إلى الوفود بكثرة عظيمة إلى هذه البلاد، فتحفر الحكومة الترع والقنوات، وتُعنى بوسائل الري التي عملت في العهد العثماني. ويكفي فرنسا لتغطية نفقات الإدارة أن تفرض نوعين فحسب من الضرائب: «ضريبة العشر»، وهي ضريبة الأرض التي تُجبى عينًا من المحصول عند جمعه، وفي وسع الحكومة أن تلجأ إلى طريقة الالتزام إذا شاءت التخلص من متاعب جباية هذه الضريبة، فيلتزم بها القادرون على دفع الضريبة في أوقاتها إلى الحكومة، على أن يقوموا هم بتحصيلها. ثم «ضريبة الكماليات»، وهذه تجبيها الحكومة من الأغنياء، ولكن على شريطة ألَّا يؤثر ذلك في كمية ما يُستهلك من المصنوعات والسلع الفرنسية. ولما كانت الضرائب الجمركية هي مورد إيرادات الحكومة الثالث، فقد تناول مور في تقريره هذه المسألة بشيء من الإسهاب، فقد كان يبغي أن تصبح تجارة الصادر من أهم وسائل اتساع نطاق التجارة الفرنسية في مصر، وزيادة ما يُستهلك من المصنوعات والسلع الفرنسية في الأسواق المحلية؛ ولذلك فقد أشار إلى ضرورة اعتدال الرسوم الجمركية، كما طلب منع دخول الأقمشة الحريرية والقطنية والصوفية إلى مصر، ما دامت لا تُصنع في فرنسا أو لا تحملها سفن فرنسية من موانئ الهند. غير أنه كانت هناك ولا شك موارد أخرى تعود بالنفع على الحكومة، كاحتكار تجارة التبغ والملح والنطرون والسنا. وقدَّر مور ما تستطيع الحكومة أن تجنيه من ضريبة الأرض ومن الجمارك والاحتكارات بحوالي مائة وعشرين مليونًا من الجنيهات سنويًّا.٢٥

ومع أنه كان في وسع فرنسا أن تستولي على جزيرتَي قبرص وكريت من العثمانيين عند انحلال إمبراطوريتهم، فقد رفض مور أن تستعيض فرنسا بهاتين الجزيرتين عن مصر، لا لما في ذلك من خسارة محققة إذا أضاعت فرنسا فرصة الاستيلاء على مصر للأسباب التي سبق ذكرها، بل ولأن امتلاك قبرص وكريت سوف ينجم عنه لا محالة إثارة متاعب ومشكلات عدة بين فرنسا والدول الأوروبية الأخرى الطامعة في أملاك الدولة العثمانية.

وقد اختتم مور هذا التقرير الهام بقوله إنه إذا كان من المتعذر أن تنجح المفاوضات السياسية في منع الاعتداء على تركيا وغزوها، فالواجب يقتضي فرنسا أن تبادر في هذه الحالة بالاستيلاء على مصر؛ إذ بفضل ذلك وحده تستطيع فرنسا أن تحرز مكانة عالية تضمن لها السيطرة والتفوق بين الدول التجارية والبحرية، بل ويصبح في مقدورها أن تؤكد هذه السيطرة وتعمل على تعزيزها.٢٦
وواضح مما تقدم إذن أن السفير الفرنسي في القسطنطينية والقنصل الفرنسي في القاهرة كانا يعتقدان أن انحلال الإمبراطورية العثمانية بات قريبًا، كما أشارا على حكومتهما بضرورة امتلاك مصر. غير أن الحكومة الفرنسية لم تأخذ بهذه الآراء لأن وزير خارجيتها وقتئذٍ كان الكونت فرجن Vergennes، ولم يشاطر الوزير سفيره وقنصله رأيهما في تركيا، بل اعتقد أن الإمبراطورية العثمانية ما زالت بعيدة عن الانهيار، ورأى في قدرة تركيا على البقاء — على الرغم من تلك الحروب الطويلة التي خاضت غمارها — خير دليل على حيويتها وعدم انحلالها، وتمسك في سياسته الشرقية بمبدأ ثابت، هو المحافظة على كيان تركيا؛ إذ كان يرى أنه يكفي لمنع الدول من الإقدام على تقسيم ممتلكات الإمبراطورية العثمانية أن تعلن فرنسا جهرة إصرارها على عدم الاشتراك في أية مشروعات تهدف إلى ذلك. وعلى ذلك فقد استدعى سانت بريست من القسطنطينية.
واطمأن فرجن إلى صواب سياسته عندما سُوِّيت الخلافات القائمة وقتئذٍ بين كل من الروسيا والنمسا من جانب، وبين تركيا من جانب آخر.٢٧ وفي أبريل ١٧٨٤م وصل شوازيل جوفييه السفير الفرنسي الجديد إلى القسطنطينية، ومعه عدد من الضباط والمهندسين والصناع المهرة لتنظيم الجيش والأسطول العثمانيين، وإصلاح الموانئ والقلاع وتقوية المدفعية.

على أن تمسك الحكومة الفرنسية بسياسة المحافظة على كيان الإمبراطورية العثمانية لم يكن معناه أن الفرنسيين قد تخلَّوا نهائيًّا عن فكرة الاستعاضة عمَّا فقدوه من أملاكهم في «الغرب» بإنشاء مستعمرات جديدة في الشرق عامةً ومصر خاصةً. فقد ظل الكتَّاب والمفكرون والرحالة الذين درسوا المسألة الاستعمارية أو زاروا مصر في السنوات التي سبقت انفجار بركان الثورة الفرنسية، يوضحون الأخطار العظيمة التي ظلت تهدد بزوال البقية الباقية من المستعمرات الفرنسية القليلة في جزر الهند الغربية من جهة، ويشيرون إلى مصر على أنها الميدان الذي تستطيع فرنسا أن تجد فيه حاجاتها التي كانت تستمدها من جزر الأنتيل، كالقطن وقصب السكر والنيلة بفضل خصوبة الأرض في مصر، وذلك إلى جانب ما يعود على فرنسا من فوائد أخرى إذا هي احتلت هذه البلاد؛ إذ إنه من شأن ذلك الاحتلال أن يجعل التجارة بين فرنسا وبين الهند وبلاد العرب وفارس وأفريقيا سهلة ميسرة. وعلاوة على ذلك فقد كان لكتابات الرحالين الذين زاروا مصر ونُشرت «أسفارهم» وقتئذٍ أكبر الأثر في توجيه أنظار مواطنيهم نحو الشرق عامة ومصر خاصة باعتبارها خير ميدان يصلح لتشييد إمبراطورية فرنسا الاستعمارية الجديدة.

وكان البارون دي توت Tott من بين أولئك الرحالين الذين زاروا في مهمات رسمية تركيا ومالطا وكريت ومصر إلى غير ذلك من الأقطار والبلدان، وقدَّم تقارير عدة إلى حكومته، وقد نُشرت في عام ١٧٨٤م «مذكراته» التي دوَّنها في أثناء رحلاته. واعتقد دي توت — كما اعتقد سانت بريست والقنصل مور — أن الدولة العثمانية آيلة إلى السقوط لا محالة وفي وقت قريب. كما كان يرى أن الواجب يقتضي فرنسا أن تحتل مصر إذا هي شاءت الاستئثار بتجارة الليفانت أو حوض البحر الأبيض الشرقي، بل إن في استطاعة فرنسا أن تسيطر على تجارة الهند كذلك إذا هي أنشأت قناة تصل بين البحر الأحمر والنيل عند فرع دمياط، أو عملت لإحياء الطريق البري بين السويس والقاهرة، وسوف يسهل على فرنسا إذا تقرر فتح مصر أن تتذرع بما كان يُلحقه البكوات المماليك من أذًى بالتجارة الفرنسية للإقدام على غزو هذه البلاد. وسواء أرغبت فرنسا في العمل منفردة أم استعانت بالنمسا لقاء تأييد أطماعها في القسطنطينية فإن الغزو سوف يكون سهلًا ميسَّرًا بسبب فوضى حكومة المماليك في مصر، وضعف التحصينات المقامة على الشواطئ المصرية الشمالية في الإسكندرية وأبو قير ورشيد ودمياط خاصة.

واعتقد دي توت أن احتلال مصر يكفي لتعويض فرنسا عن كل خسارة قد تصاب بها إذا قُدِّر لها أن تفقد جميع مراكز تجارتها في الليفانت. وعقد دي توت موازنة بين مزايا امتلاك كريت والاستيلاء على مصر، فخلص من هذه الموازنة إلى أن مصر «مستعمرة مثالية» لخصوبة أرضها وصلاح مناخها لإقامة المستعمرين الفرنسيين وقربها من فرنسا، وقلة النفقات اللازمة لإنشاء الصلات الوثيقة بينها وبين أرض الوطن، وسهولة الدفاع عنها، وبفضل ما يهيئه لها موقعها الجغرافي من إمكان تركيز النشاط التجاري بها، فلا توزع فرنسا قواتها في أماكن بعيدة متفرقة، بل يصبح في استطاعتها آنئذٍ أن تشرف من مصر ذاتها على بيوت تجارتها في الليفانت وبلدان وجاقات الغرب المعروفة (طرابلس وتونس والجزائر).

وفضلًا عن ذلك فإن فرنسا لن تلقى مقاومة من جانب تركيا أو الدول الأخرى؛ ذلك أن تركيا مشغولة بنضالها المستمر مع روسيا، وهو نضال أنهك قواها حتى باتت عاجزة عن الدخول في حروب أخرى جديدة. ولن يقدم الإنجليز على مناوأة فرنسا بسبب ما تكبدوه من خسائر في أثناء نزاعهم الطويل مع الولايات الأمريكية. ولما كان الإنجليز يبغون دائمًا انتزاع المستعمرات الفرنسية من أصحابها، فإن امتلاك مصر سوف يعوض فرنسا كذلك عن أية خسائر قد تلحق بها على أيدي الإنجليز في مستعمراتها الباقية. أضف إلى هذا أن الاستيلاء على مصر سوف يفوِّت على روسيا من جهة أخرى فرصة الاستئثار بتجارة الجنوب، ويحد من أطماعها، إذ إن استقرار الفرنسيين بهذه البلاد من شأنه أن يصرف روسيا عن محاولة التوسع ومد نفوذها إلى البحر الأبيض بعد محاولة الاستيلاء على القسطنطينية وبحر الأرخبيل.٢٨
وفي عام ١٧٨٦م نشر سافاري Savary «رسائله» المشهورة عن مصر، وقد ذكر صاحبها الشيء الكثير عن تاريخ البلاد في عهد سيطرة البكوات المماليك أيام علي بك الكبير ومحمد بك أبو الذهب، ووصف تلك الفوضى التي انتشرت في البلاد بعد وفاة أبو الذهب. على أن أهم ما يسترعي النظر في هذه الرسائل أنها كانت تتضمن وصفًا شائقًا لخصوبة أرض مصر، وأرض الدلتا والفيوم بوجه خاص، ووفرة غلاتها الزراعية من القنب وقصب السكر وغير ذلك، كما أنه وصف أهل البلاد وعاداتهم وأخلاقهم وأساليب معيشتهم، ودوَّن كثيرًا من أخبار حملة «القديس لويس» على مصر وواقعة المنصورة، ووصف آثار البلاد القديمة.
وبعد عام واحد من نشر هذه الرسائل ظهرت رحلة فولني Volney في مصر وسوريا. ويختلف فولني عن سافاري في أن هذا الأخير نظر بعين المتفائل إلى حالة مصر على الرغم من الفوضى التي أضرت بالبلاد، على حين كان فولني «متشائمًا» إذ عمد في ذلك الجزء اليسير الذي خصصه من فصول كتابه الطويلة لدراسة جغرافية هذه البلاد وشئون حكومتها وتجارتها ووصف سكانها والأمراض المنتشرة بها وما إلى ذلك، إلى إظهار ما كان عليه الفلاح من بؤس وشقاء بسبب حدوث المجاعات وفتك الأوبئة به. وخرج فولني من مشاهداته بأنه «ليس من السهل أن يبدي كل إنسان رأيه في حال أهل هذه البلاد إذا عرف أنهم أجناس مختلفة وشيع متعددة، وأدرك ما عليه حكومتهم التي لم تكن تدري شيئًا عن تلك المبادئ التي تقر حقوق الملكية وتحترمها، أو تنادي بضرورة تأمين الأفراد على حياتهم وأموالهم وحرياتهم، ووجد جماعة من الجنود الذين عُرفوا بالطغيان واشتهروا بالتبذل يستأثرون بكل سلطة مطلقة. كما أنه من الميسور أن يعرف المرء مدى ما تستمتع به حكومة البلاد من قوة وبأس إذا وقف على مقدار استعدادها الحربي وخبر حال جنودها؛ ذلك أنه لا توجد بالبلاد جميعها، وعلى حدودها بوجه خاص، أية قلاع أو حصون أو مدافع أو مهندسين. هذا بينما يتألف أسطولها في ميناء السويس من حوالي ثمان وعشرين سفينة ذات سلاح ضعيف المفعول تحمل ملَّاحين لا يعرفون كيف يستخدمون هذا السلاح.»
والواقع أن مصر في نظر فولني لم تكن من الناحية العسكرية بالبلد الذي يؤبه له لخلوها من التحصينات المنيعة عامة ولضعف حامية الإسكندرية خاصة. وكانت هذه الحامية تتألف من الجنود الإنكشارية الذين نقص عددهم إلى النصف تقريبًا، وكانوا يمضون الوقت في التدخين ولا دراية لهم بفنون الحرب والقتال.٢٩ وكان من رأي فولني أنه لا بدَّ لصلاح هذه الأحوال وإزالة المساوئ التي رزح الفلاحون تحت كلكلها أن تتحرر مصر من سيادة العثمانيين حتى تتولى تدبير شئونها دولة أخرى تشعر بالعطف على المصريين، وتحمل لهم ودًّا وصداقةً. على شريطة أن تكون كذلك دولة متحضرة ذات نهضة أدبية علمية فنية حتى يمكنها أن تهتم بتراث المصريين القديم، وتُعنى بالبحث عن آثارهم المدفونة في الدلتا والصعيد، وتكشف عن رموز الكتابة الهيروغليفية.٣٠

وقد ذاع الاعتقاد بعد نشر هذه الرحلة أن صاحبها إنما كان يقصد فرنسا عندما تحدث عن تلك «الدولة المتحضرة والمتمدينة» التي يجب أن تحتل مصر حتى تنتشل الفلاحين والمصريين من حياة البؤس والشقاء التي ذاقوا مرها في ظل السيادة العثمانية. وقد صادف ذيوع هذا الاعتقاد — ولا شك — هوًى في نفوس أولئك الفرنسيين الذين كانوا يتوقعون انحلال الإمبراطورية العثمانية القريب، ويريدون الاستحواذ على مصر باعتبارها نصيبهم من تركة هذه الإمبراطورية المنحلة.

ولما كان معنى ذلك أن تنبذ فرنسا ظِهريًّا سياستها التقليدية نحو تركيا، وتقدم على الاشتراك مع غيرها من الدول في تقسيم ممتلكات الإمبراطورية العثمانية؛ فقد بادر فولني في عامَي ١٧٨٨-١٧٨٩م بنشر «آرائه عن حرب الروس والأتراك»٣١ ليدحض المزاعم ويقيم الحجة على أن روسيا وحدها هي الدولة التي يجب أن تترك لها فرصة التصرف كما تريد مع السلطان العثماني؛ وذلك لاعتقاده أن كاترين الثانية قيصرة الروسيا هي التي كان في وسعها أن تنقذ تركيا من الفوضى المنتشرة بها، حتى إذا فعلت ذلك جنت التجارة الفرنسية في الليفانت فوائد كثيرة.

وقال فولني يهدم دعاوى الراغبين في امتلاك مصر: «لا جدال في أن مصر تنتج المحصولات التي تحتاج إليها فرنسا كالشعير والأرز والقطن والقنب والنيلة وقصب السكر وغير ذلك، وصحيح أنها قريبة من فرنسا والدفاع عنها ضعيف سيئ، وفي وسع الفرنسيين أن يعبروا برزخ السويس فيصلوا بطريق مصر إلى تجارة الهند ويعطلوا طريق التجارة حول رأس الرجاء الصالح، ولا شك في أن احتلال مصر سوف يمكِّن الفرنسيين من الحصول على السلع المجلوبة من أفريقيا كالعاج والتبر والمطاط والرقيق، وفي إمكانهم كذلك أن يجمعوا بها العمال الذين تستخدمهم فرنسا الآن في جزر السكر كسان دومنجو وغيرها من جزر الهند الغربية، وذلك إذا استطاعت فرنسا الاحتفاظ بهذه الجزر في النهاية، وعلى الرغم من كل هذه المزايا فإن صعوبات عدة سوف تواجه الفرنسيين ولا مناص من أن يتغلبوا عليها أولًا قبل احتلال مصر واستعمارها؛ ذلك أن فرنسا سوف تجد نفسها مرغمة على خوض غمار حروب ثلاثة: مع الأتراك والإنجليز وأهل البلاد أنفسهم، ومن المتوقع أن يعظم إقبال الوطنيين على محاربة الفرنسيين دون أي تردد لاختلاف الفرنسيين عنهم في الدين والمذهب. وفضلًا عن ذلك فإن انتصار الفرنسيين في هذه الحروب كلها ليس معناه — إذا قُدِّر لهم النصر — أن في وسعهم أن ينجحوا كذلك في استعمار مصر، لاختلاف الدين والعادات والأخلاق.» ثم تساءل: «وكيف يرجو الفرنسيون النجاح وهم الذين أخفقوا في الهند ومدغشقر وجوايانا وحوض المسيسبي، ثم فشلوا كذلك في سان دومنجو؟ لأن الفضل في استعمار هذه الجزيرة إنما يرجع إلى المغامرين الأوائل دون أي تدخل من جانب الحكومة الفرنسية.» وكان من رأي فولني أن تقصر فرنسا جهودها على تحسين الإنتاج في داخل بلادها عندما كان حوالي سدس أرضها الصالحة للزراعة بورًا ولا يلقى عناية، وذلك بدلًا من التفكير في التوسع الخارجي.

على أن انصراف الفرنسيين عن استعمار مصر — كما طلب فولني — كان معناه أن يرضى الفرنسيون عن طيب خاطر بالنزول عن ذلك المركز الذي أرادوا أن تشغله بلادهم بوصفها دولة كبرى لا غنى لها عن امتلاك إمبراطورية استعمارية كبيرة. وقد رفض الفرنسيون أن يفعلوا ذلك في وقت كان العداء فيه مستحكمًا بينهم وبين الإنجليز الذين استولوا في الحروب الماضية على أكثر مستعمراتهم القديمة، ونجح استعمارهم نجاحًا ملحوظًا على الرغم من فقد الولايات الأمريكية. وعلاوة على ذلك فقد كان من المتعذر على الفرنسيين أن ينبذوا ظِهريًّا فكرة الإمبراطورية الاستعمارية عندما كانت ممتلكاتهم الباقية في جزر الهند الغربية مهددة بالضياع لانهيار نظام استعمارهم القديم بهذه الجزر، ولم يصرف الفرنسيين عن الاستعمار في السنوات التالية إلَّا اشتعال الثورة الفرنسية في عام ١٧٨٩م، وما ترتب على ذلك من حوادث كان أهمها تألب الدول ضد الثورة منذ عام ١٧٩١م، ثم تكوُّن التحالف الدولي الأول ضد فرنسا عقب إعدام الملك (١٧٩٣م)، وقيام الاضطرابات والثورات التي سبق وصفها في جزيرة سان دومنجو، واحتلال الإنجليز لأهم موانيها في العام التالي، ففتر عزم الفرنسيين وشغلوا عن التفكير في إحياء إمبراطوريتهم القديمة أو إنشاء أخرى جديدة، حتى وقع من الحوادث بعد ذلك ما جعلهم يتحررون من ذلك الفتور الذي ثبَّط عزائمهم.

ذلك أنه حدث في الهند الصينية حوالي هذا الوقت أن قامت الثورة في كوشين صين، وأرغم نجون أنه Nguen-Anh ملكها على الهرب إلى بوندشيري يطلب مساعدة الفرنسيين ومعاونتهم له في استرجاع عرشه، فأجاب التجار الفرنسيون في بوندشيري رغبته، واستطاع الملك العودة إلى بلاده ظافرًا منصورًا في عام ١٧٩٠م، وعرف للفرنسيين صنيعهم فأخلص لهم الود وأحكم أواصر صداقته مع فرنسا من ذلك الوقت حتى وفاته بعد ثلاثين سنة. فمهدت هذه الحوادث لبدء الاستعمار الفرنسي في الهند الصينية، كما دلت على أن الفرنسيين لا يزالون على الرغم من كل ما ألمَّ بهم يطمحون إلى امتلاك إمبراطورية استعمارية كبيرة، بل ويودُّون من صميم قلوبهم أن تتسع رقعة هذه الإمبراطورية كلما وجدوا إلى ذلك سبيلًا.

وقد أُتيحت الفرصة لتوجيه أنظار الفرنسيين إلى الاستعمار بصورة جدية في أثناء المفاوضات التي بدأت بين بونابرت وحكومة الإدارة من جانب وبين النمسا من جانب آخر، بعد انتصارات بونابرت الباهرة في أثناء حملته الإيطالية. وقد أسفر الاهتمام بالمسألة الاستعمارية وقتئذٍ، كما أسفرت الرغبة في الانتقام من إنجلترا التي صممت على النضال بمفردها ضد الجمهورية بعد انحلال المحالفة الدولية وإرغام النمسا على طلب الصلح؛ عن تقرير إرسال بونابرت على رأس جيش كبير لغزو مصر، ووضع أسس تلك الإمبراطورية الاستعمارية العظيمة التي شاء الفرنسيون الآن أن ينشئوها في ميدان «الشرق الجديد».

الانتقام من إنجلترا

كان أهم ما عُنيت به حكومة الإدارة — منذ أن خلص لها الأمر في أكتوبر ١٧٩٥م — الاقتصاص من النمسا وإنجلترا اللتين صممتا بالاشتراك مع بيدمنت على الاستمرار في النضال ضد الجمهورية على الرغم من تحطيم المحالفة الدولية الأولى وخروج هولندا وبروسيا وإسبانيا وتسكانيا وهس كاسل من الحرب، فأعد كارنو Carnot عضو حكومة الإدارة خطة عسكرية لتدبير هجوم واسع النطاق على النمسا عن طريق ألمانيا والدانوب، ثم عن طريق إيطاليا الشمالية. وفي مارس ١٧٩٦م تسلم بونابرت قيادة الحملة المعدة لغزو إيطاليا، فوصل إلى نيس في اليوم السادس والعشرين من الشهر نفسه، فلم يمر شهر واحد حتى كان القائد الشاب قد هزم جيوش بيدمنت في مونت نوت Montenotte وديجو Dego، وأرغم ملكها أمدوس الثالث Amadeus على عقد الهدنة في تورين. وقد استطاع بونابرت بعد ذلك مطاردة النمساويين فعبر جسر لودي Lodi وأنزل بهم خسائر فادحة (٩ مايو) ودخل ميلان، ثم انتصر على جيوشهم في مواقع عدة، أهمها أركولا Arcola ثم ريفولي Rivoli (١٥ يناير ١٧٩٧م)، وسقطت منتوا Mantua في ٢ فبراير وبسقوطها أصبحت إيطاليا بأسرها تحت رحمة بونابرت، واضطر البابا إلى عقد الصلح. وزحف بونابرت على النمسا وانتصر على جيوشها، وفي ٧ أبريل وصل إلى لوبن Leoben على مسافة ثمانين ميلًا من فينَّا نفسها، وعندئذٍ طلب النمساويون الصلح فعقد بونابرت معهم هدنة لوبن في ١٨ أبريل ١٧٩٧م تمهيدًا لعقد الصلح النهائي.
وقد قضى هذا الانتصار السريع على المحالفة الدولية، ووقع عبء النضال الآن ضد فرنسا على كاهل إنجلترا وحدها؛ ولذلك فقد رغبت حكومتها في عقد الصلح مع الجمهورية، وأرسل بت Pitt رئيس وزارتها اللورد ملمسبري Malmesbury إلى «ليل» للمفاوضة في شروط الصلح مع إنجلترا، ولكن هذه المفاوضات التي استمرت أربعة شهور تقريبًا — من يونيو إلى سبتمبر ١٧٩٧م — سرعان ما أخفقت لإصرار فرنسا على ضرورة نزول الإنجليز عن مستعمرة الكاب الهولندية في جنوب أفريقيا. وكان الإنجليز قد استولوا عليها منذ أن خرجت هولندا من المحالفة (١٧٩٥م)، وخشي هؤلاء استيلاء الفرنسيين على هذه المستعمرة الأفريقية. وفضلًا عن ذلك فقد احتل الإنجليز جزيرة سيلان الهولندية، كما أخذوا ملقا وغيرها. وقد وافق الإنجليز في أثناء هذه المفاوضات على التنازل عن المستعمرات التي أخذوها من هولندا، ولكنهم تمسكوا بمستعمرة الكاب فأثاروا بتمسكهم هذا حفيظة الفرنسيين الذين أغضبهم أن يروا هولندا تفقد مستعمراتها. وكان الفرنسيون منذ انتصارهم على هولندا قبل ذلك بثلاثة أعوام قد أحالوها إلى جمهورية (جمهورية بتافيا)، وأدخلوها تحت سيطرتهم، وباتوا الآن يعلقون أهمية كبيرة على احتفاظ هذه الجمهورية بمستعمراتها في الوقت الذي عجز فيه الفرنسيون أنفسهم عن امتلاك مستعمرات جديدة. وكانت مستعمراتهم في جزر الهند الغربية مهددة بالانهيار التام، بل إن أحد الكتاب الفرنسيين بواسيرول Boiserolle ما لبث أن بادر فنشر بحثًا في أثناء هذه المفاوضات يحذِّر فيه حكومة الإدارة مغبة التفريط في ممتلكات «حليفتها» هولندا، ويطلب إليها أن تبذل ما وسعها من جهد وحيلة حتى تستبقي لهولندا كل مستعمراتها في الهند الشرقية، على اعتبار أن «المحالفة» القائمة بين هولندا وفرنسا تجعل من حق هذه الدولة الأخيرة أن تعد ممتلكات هولندا من المستعمرات الفرنسية. وعلى ذلك فقد غادر ملمسبري أرض فرنسا، وبات من واجب حكومة الإدارة أن تعقد الصلح سريعًا مع النمسا حتى يتيسر لها التفرغ لمنازلة إنجلترا والاقتصاص منها. ومنذ أن شغل تاليران Talleyrand منصب وزير الخارجية في حكومة الإدارة في ١٦ يوليو ١٧٩٧م تعاون مع بونابرت في وضع القواعد التي قام عليها الصلح النهائي مع النمسا.
وكان شارل موريس دي تاليران-بريجور De Talleyrand Périgord (١٧٥٤–١٨٣٨م) من بين أولئك الفرنسيين الذين اضطروا إلى الهجرة من فرنسا في أثناء ثورتها الكبرى، فأقام في إنجلترا مدة شاهد في أثنائها كبار المزارعين والتجار من سان دومنجو يقصدون لندن (سبتمبر ١٧٩٢م) لطلب مساعدة الإنجليز، فأثار نشاطهم اهتمامه بالمسألة الاستعمارية، وكان من رأيه أن فرنسا في وسعها أن تجد ما تستعيض به عن تلك المستعمرات التي خسرتها في حروبها الماضية إذا هي أقدمت مع إنجلترا على اقتسام إمبراطورية إسبانيا الاستعمارية، ولكن هذه الآمال سرعان ما تبددت عندما دخلت إنجلترا في حربها الطويلة مع فرنسا في العام التالي، وطلبت إلى تاليران مغادرة بلادها. وعندئذٍ فضَّل تاليران الإقامة في الولايات الأمريكية، وقد أتاح له وجوده بالولايات فرصة الوقوف على حقيقة الاستعمار الفرنسي بأسسه القديمة التي قام عليها الحق الاحتكاري واستخدام الرقيق، فقد شهد «اللاجئين» من سان دومنجو يفدون إلى المدن الأمريكية للسكنى بها فرارًا من تلك الثورات التي نشبت في جزر الهند الغربية (منذ عام ١٧٩٠م تقريبًا) وقتل عدد عظيم من المستعمرين «البيض» في أثنائها.

وعُني تاليران بجمع طائفة من المعلومات الوثيقة عن تاريخ الاستعمار الفرنسي في أمريكا، حتى إذا غادر الولايات إلى فرنسا أخيرًا في يونيو ١٧٩٦م كان قد أصبح يعتقد اعتقادًا راسخًا أن الواجب يقتضي فرنسا أن تبذل كل جهد في سبيل إعادة الرخاء إلى جزر الهند الغربية، بل وعليها أن تعمل للاستيلاء من جديد على لويزيانا ذاتها حتى يتسنى عودة هذا الرخاء إلى الهند الغربية بفضل ما سوف ينشأ من تعاون بين لويزيانا والجزر. وأمَّا إذا رفضت فرنسا العودة إلى نظامها الاستعماري القديم في أمريكا، فإنه لا غنى لها عن أن تبحث عن مستعمرات أخرى جديدة، وفي ميادين غير تلك التي شهدت إخفاقها.

وفي الفترة التي سبقت اختياره لوزارة الخارجية كرَّس تاليران وقته لبحث المسألة الاستعمارية، ووجد الفرصة سانحة لبسط آرائه عند انضمامه إلى هيئة المجمع العلمي الفرنسي، فأعدَّ بحثًا تلاه على أعضاء هذه الهيئة في ٤ أبريل ١٧٩٧م، تحدث فيه عن العلاقات التجارية التي نشأت بين إنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية على الرغم من الحرب الاستقلالية الأمريكية، وأشار إلى أنه بات واجبًا على فرنسا أن تقطع هذه العلاقات، كما أقام الحجة على أن ذلك سهل ميسور إذا أنشأت فرنسا «مركزًا هامًّا» أو مستعمرة جديدة لها في أمريكا. وكان غرض تاليران أن تكون لويزيانا هذه المستعمرة الجديدة.

غير أن الظروف وقتئذٍ لم تكن مواتية لاستمالة الرأي العام الفرنسي إلى الاستعمار في أمريكا لوصول أخبار الاضطرابات التي حدثت في سان دومنجو إلى باريس في هذه الآونة، ولأن فرنسا لم تكن لديها بحرية قوية تساعدها على تنفيذ هذا المشروع الاستعماري الجديد؛ ولذلك فقد قرر تاليران أن يضع جانبًا مسألة استعمار لويزيانا البعيدة، وأخذ يدعو بدلًا من ذلك إلى الاستيلاء على مستعمرة تكون بسبب موقعها الجغرافي قريبة من فرنسا. وفي ٣ يوليو ١٧٩٧م ألقى تاليران بحثًا آخر في المجمع العلمي كان له أثر حاسم في انتشال الفرنسيين انتشالًا من ذلك الخمول الذي صرفهم عن التفكير في المستعمرات وجعلهم يقنعون بمطالبة الإنجليز بأن يعيدوا إلى هولندا مستعمراتها، وصاروا الآن يشعرون شعورًا عميقًا بأنه بات من الواجب عليهم أن يعملوا هم أيضًا جاهدين من أجل الاستيلاء على مستعمرات جديدة.٣٢

وكان عنوان البحث الذي ألقاه تاليران «رسالة في الفوائد التي تعود (على فرنسا) من امتلاك مستعمرات جديدة في الظروف الحاضرة»، وقد ندد تاليران بقاعدتي الاستعمار القديم حق الاحتكار واستخدام الرقيق الأسود، ثم تحدث عن اضطراب الأحوال في جزر الهند الغربية حتى بات من المتوقع انهيار الاستعمار الفرنسي تمامًا في هذه الجزر، أو انفصالها في آخر الأمر عن فرنسا. وكان أهم ما دعا إليه أن تُعنى بلاده بالبحث في ميادين أخرى عن مستعمرات تنتج المحصولات التي تحتاجها فرنسا وكانت تأتيها من جزر الهند الغربية. وذكر تاليران أن هناك ميدانين فحسب لإنشاء هذه المستعمرات الجديدة هم أفريقيا الغربية ومصر. ولما كان الإنجليز الذين توقعوا أن تزداد الحال سوءًا في جزر الهند الغربية قد سبقوا الفرنسيين في استعمار أفريقيا الغربية، فأسسوا مراكز في سيراليون ثم اعتزموا إنشاء غيرها في بولاما؛ فقد بات أمام الفرنسيين ميدان واحد هو مصر، يستطيعون أن يشيدوا فيه صرح إمبراطوريتهم الاستعمارية الجديدة. وفضلًا عن ذلك فقد رغب شوازيل نفسه — في عام ١٧٦٩م — في الاستيلاء على مصر حتى يعوض بذلك على فرنسا ما فقدته من ممتلكات في أثناء حروبها الاستعمارية السابقة.

ولم يكن تاليران الرجل الذي فكر وحده وقتئذٍ في إمكان استعمار أفريقيا الغربية؛ ذلك أن الاستعمار في أفريقيا كان من الموضوعات التي شغلت أذهان الفرنسيين وكل أولئك الذين أشاروا على فرنسا بامتلاك المستعمرات الجديدة في هذه القارة، عندما وضحت أهمية هذه المسألة، عند تمسك الإنجليز بمستعمرة الكاب الهولندية في أثناء مفاوضات «ليل» التي سبق ذكرها، فقد بعث كارل برنار ودستروم Wadström — وهو رحالة سويدي اهتم اهتمامًا كبيرًا بموضوع الاستعمار في أفريقيا الغربية — برسالة إلى تاليران بعد بحثه الأخير ببضعة شهور يدعو فيها الوزير الفرنسي إلى التفكير جدِّيًّا في ضرورة إقدام فرنسا على امتلاك مستعمرات جديدة، ويقترح عليها أن تحتل الرأس الأخضر على اعتبار أن هذه المنطقة خير مكان يصلح للاستعمار الفرنسي في أفريقيا الغربية، بل إن ودستروم ما لبث أن نشر في بداية العام التالي كتابًا عن الاستعمار في سيراليون وبولاما، اشتمل كذلك على خطابه السابق إلى تاليران، وأهدى منه نسخًا كثيرةً إلى مجلس الخمسمائة، وشكَّل هذا المجلس لجنة لبحث مقترحات ودستروم. وعلى ذلك فقد بات أمام حكومة الإدارة أن تختار بين الاستعمار في أفريقيا الغربية والاستعمار في مصر، ما دام قد رسخ الاعتقاد في دوائر الحكومة بضرورة الاستيلاء على مستعمرات جديدة، وأيد الرأي العام الفرنسي هذه الرغبة. وكان في أثناء المفاوضات التي استمرت بعد توقيع الصلح في لوبن في أبريل ١٧٩٧م وأفضت إلى إبرام معاهدة كامبو فورميو Campo-Formio مع النمسا في أكتوبر من العام نفسه أن اجتمعت الأسباب التي أقنعت حكومة الإدارة ووزير خارجيتها وقائدها المنتظر في إيطاليا بأن الاستعمار في الشرق خير من الاستعمار في أفريقيا الغربية، وأن مصر أفضل أقطار الشرق التي تصلح ميدانًا للتجربة الاستعمارية الجديدة.
وكان غرض بونابرت وحكومة الجمهورية أن يحقق الصلح النهائي مع النمسا، إضعاف أعداء الأمس القريب بصورة تمنعهم من استئناف نضالهم ضد الجمهورية الفرنسية، فلا تتعرض لأية أخطار من جانبهم. كما أراد بونابرت وحكومة الإدارة أن يهيئ هذا الصلح — بفضل ما يتضمنه من قواعد واشتراطات سياسية أو عسكرية — الوسائل التي تمكِّن فرنسا من الاقتصاص من إنجلترا وهزيمتها هزيمة ساحقة ترغمها إرغامًا على طلب الصلح وقبول كل شرط مهما كان قاسيًا قد يتراءى لحكومة الجمهورية أن تفرضه عليها. وعلى ذلك فقد كتب بونابرت من ميلان إلى حكومة الإدارة ثم إلى تاليران وزير خارجيتها في ١٦ أغسطس ١٧٩٧م٣٣ يعرض ما جال بخاطره من آراء بصدد شروط الصلح النهائي مع النمسا، وحتى يمهِّد كذلك لقبول هذا الصلح من جانب حكومة الإدارة دون معارضة، فقال إنه لمَّا كان يخشى أن تصبح النمسا دولة بحرية تهدد مصالح فرنسا في البحر الأبيض المتوسط، فقد قرر الاستيلاء على أسطول جمهورية البندقية وعلى جزر الأيونيان، وأهمها كورفو وسيفالونيا وزانتي.
وقد أرسل بونابرت فعلًا خطابيه هذين عقب احتلال هذه الجزر. وكان السبب في ذلك أن الصلح النهائي سوف يقوم على أساس تنازل النمسا عن ممتلكاتها في بلجيكا ولمبارديا وعلى حدود نهر الرين، لقاء أن ينال النمساويون تعويضًا عن هذه الممتلكات في أستريا ودلماشيا على شاطئ الأدرياتيك الشرقي، وكانت هذه من أملاك البندقية. وفضلًا عن ذلك فقد كان من المنتظر أن تأخذ النمسا مقاطعات البندقية الواقعة بين نهرَي أجليو Oglio   وبو Po وشاطئ الأدرياتيك الشمالي، وبذلك يصبح للنمسا منافذ بحرية هامة تمكِّنها إذا هي استطاعت أن تضم أسطولها إلى أسطول مملكة نابلي من إحراز السيطرة في البحر الأبيض. ولذلك فإن حرمان النمسا من الاستيلاء على أسطول البندقية من جهة، ثم إقدام بونابرت على احتلال جزر الأيونيان من جهة أخرى؛ كان ضروريًّا لمنع هذا الخطر. ووضَّح بونابرت في رسالتيه إلى الحكومة وتاليران أهمية جزر الأيونيان على وجه الخصوص، فقال إن احتلالها يضمن الاحتفاظ للفرنسيين بالسيادة في بحر الأدرياتيك وفي حوض البحر الأبيض الشرقي «الليفانت»، ويساعد على إنعاش التجارة الفرنسية في هذه الجهات. وفضلًا عن ذلك فإنه لما كانت هذه الجزر قريبة من ممتلكات الإمبراطورية العثمانية، وخاصة في ألبانيا التي كان يعمل باشواتها وعلى رأسهم علي باشا صاحب «ينينا» على شق عصا الطاعة والانفصال عن تركيا؛ فقد بات في استطاعة حكومة الجمهورية أن تنشئ صلات وثيقة مع هؤلاء الباشوات ومع الألبانيين الذين عُرف عنهم أنهم يميلون كثيرًا إلى فرنسا. كما أن قرب الجزر من تركيا سوف يمكِّن فرنسا دون شك من أن تعمل بنجاح إمَّا من أجل المحافظة على كيان الإمبراطورية العثمانية ما دام ذلك ممكنًا، وإمَّا من أجل الاستحواذ على نصيبها من ممتلكات العثمانيين عند انهيار إمبراطوريتهم. ولما كان بونابرت يعتقد أن انهيار هذه الإمبراطورية قد صار قريبًا، فقد أصبح لزامًا على فرنسا في نظره أن تفكر جدِّيًّا ودون أي إبطاء في خير الوسائل التي تمكِّنها من المحافظة على تجارتها في الليفانت، وقال بونابرت إن فرنسا سوف تجد بعد وقت قصير أنه لا مندوحةَ عن الاستيلاء على مصر ذاتها من أملاك العثمانيين إذا هي شاءت أن تلحق بإنجلترا هزيمة فادحة. وقد وافقت حكومة الإدارة — على لسان تاليران وزير خارجيتها — في ٢٣ أغسطس٣٤ على احتلال جزر الأيونيان، كما وافقت على جميع الاعتبارات التي ذكرها بونابرت عند كلامه عن تركيا، فقال تاليران إن إنشاء العلاقات الوثيقة مع ألبانيا واليونان ومقدونيا، بل ومع جميع أقطار الإمبراطورية العثمانية المطلة على البحر الأبيض، مسألة ذات أهمية كبيرة، ولا غنى على وجه الخصوص عن إنشاء هذه الصلات الحسنة بين فرنسا ومصر وذلك لما يُنتظر أن تسديه مصر يومًا من خدمات جليلة الشأن لفرنسا.
غير أنه لم يكن من السهل إقناع كل أعضاء حكومة الإدارة — أو غيرهم من العناصر «المعتدلة» في هيئات الحكومة الأخرى — بأن من الحكمة وأصالة الرأي إعطاء النمسا بعض ممتلكات البندقية على الصورة التي ارتآها بونابرت ووافق عليها تاليران لقاء ما أخذته فرنسا من أملاك النمسا ذاتها؛ وذلك حتى يتسنى عقد الصلح سريعًا مع هذه الدولة «لنفرغ لمنازلة إنجلترا.» وحمل هؤلاء المعارضون بشدة على مسلك بونابرت مع البندقية وجنوه. ولكن هذه الصعوبات سرعان ما اختفت عندما أرسل بونابرت الجنرال أوجرو للاشتراك في حوادث انقلاب ١٨ فركتيدور المشهور (٤ سبتمبر ١٧٩٧م)، وهو الانقلاب الذي سبق ذكره عند الحديث عن منو، وانتهى بتغلب روبل وبارَّا وريفليير ليبو على العناصر المعتدلة في الحكومة، فاستطاع بونابرت أن يسيطر على سير المفاوضة مع النمسا وفق رغائبه وحسب القواعد التي وضعها لها والمبادئ التي استرشد بها. وفي ١٣ سبتمبر ١٧٩٧م كتب بونابرت إلى تاليران من بساريانو٣٥ يبسط هذه القواعد والمبادئ في رسالة طويلة لها في تاريخ الحوادث التالية أهمية كبيرة.

ذلك أن بونابرت بسط في هذه الرسالة — وللمرة الأولى — تلك المشروعات التي كان هدفها الاستيلاء على مالطا وعلى مصر. وقد ارتبطت هذه المشروعات بالموضوعات التي أثارتها مفاوضات الصلح، وكانت ذات صلة وثيقة بالموقف السياسي في أوروبا. فقد كان إحراز السيطرة الكاملة في البحر الأبيض أمرًا لا مفرَّ منه إذا شاءت فرنسا الاطمئنان على سلامتها من ناحية النمسا، الأمر الذي دعا بونابرت إلى الاستيلاء على أسطول البندقية واحتلال جزر الأيونيان على نحو ما سبق ذكره. وكان لضمان هذه السيطرة البحرية أن طفق بونابرت يفكِّر جدِّيًّا في ضرورة الاستيلاء على جزيرة مالطا. وفضلًا عن ذلك فإنه لما كان قد تبين أن إنجلترا ما زالت مصممة على التمسك بمستعمرة الكاب الهولندية، وأفضى تمسكها بهذه المستعمرة إلى فشل مفاوضات الصلح معها في «ليل»، وبات اتخاذ العدة للاقتصاص من إنجلترا أمرًا لا مفرَّ منه، فقد دعا بونابرت إلى احتلال مصر نظير استيلاء إنجلترا على مستعمرة الكاب. وكان مما دعاه إلى التفكير في ذلك اعتقاده ثم اعتقاد تاليران أيضًا أن انهيار الإمبراطورية العثمانية بات وشيكًا.

وقد تحدث بونابرت في هذا الكتاب الذي بعث به إلى تاليران عن أهمية امتلاك جزر الأيونيان من الناحية التجارية، وما سوف ينجم عن امتلاكها من آثار في مجريات الحوادث في أوروبا ذاتها. ومن المنتظر أن يتم لفرنسا إحراز السيطرة التامة في حوض البحر الأبيض إذا أقدمت على احتلال مالطا بعد أن احتلت جزر الأيونيان، وبعد أن نزل ملك سردينيا عن جزيرة سنت بيير Saint-Pierre، ونجاحه عندما كان معروفًا عن تحصينات فالتا Valetta عاصمة مالطا أنها من الضعف بحيث يستطيع أسطول الأميرال برويس Brueys مع قوات قليلة احتلال الجزيرة. ثم استمر بونابرت يقول: «أمَّا إذا حدث أن وجدنا أنفسنا من أجل الوصول إلى الصلح مع إنجلترا مرغمين على التسليم باستيلائها على رأس الرجاء الصالح — مستعمرة الكاب الهولندية — فإن الواجب يقتضينا حينئذٍ أن نستولي على مصر، ولم يسبق قط أن امتلكت إحدى الدول الأوروبية هذه البلاد، حقًّا لقد استطاع البنادقة أن يتمتعوا في مصر بنوع من السيطرة، ولكن ذلك حدث من عدة قرون مضت، كما كانت سيطرتهم غير ثابتة الدعائم. وفضلًا عن ذلك فإنه يكفي لفتح مصر إرسال حوالي خمسة وعشرين ألف جندي تحملهم ثماني أو عشر سفن حربية؛ وذلك لأن السلطان لا يملك هذه البلاد حقيقة، وليست له فيها سلطة فعلية، كما أنه لا يستطيع الدفاع عنها.» وقد طلب بونابرت في آخر رسالته أن يبعث إليه تاليران بكل ما تقع عليه يداه من معلومات توضح مدى الأثر الذي يحدثه إرسال حملة فرنسية على مصر في دوائر الحكومة العثمانية.
وقد أجاب تاليران على رسالة بونابرت في ٢٣، ٢٧ سبتمبر ١٧٩٧م٣٦ بصورة لا تدع محلًّا للشك في أن الحكومة الفرنسية — وإن كانت لا تزال ترى أن الوقت لم يحن بعد لغزو مصر — فإنها توافق موافقة تامة على غزو مالطا. ومع ذلك فقد كان معنى تأييد الاستيلاء على مالطا أن حكومة الإدارة قد صارت تسير حثيثًا نحو الاهتمام بأمر الشرق عامة، ونحو الاستيلاء على مصر واستعمارها في النهاية.
ووافقت حكومة الإدارة على احتلال مالطا لأسباب عدة، فقد كان فرسان القديس يوحنا أصحاب هذه الجزيرة يؤيدون النظم الملكية، وأمدُّوا الملك لويس السادس عشر بمساعدات كثيرة لإعانته على اجتياز أزماته المالية، ولمعاونته على تدبير فراره المعروف إلى فارن، كما أقاموا عند إعدامه الصلوات على روحه، واقتصَّت منهم حكومة الثورة بمصادرة أملاكهم وحل جماعتهم في فرنسا، وإلقاء كثير من الفرسان المقيمين بها في غياهب السجون وإعدام عدد منهم، وأرسلت الجمهورية الجواسيس يبذرون بذور التفرقة والشقاق في الجزيرة عندما كثر وفود المهاجرين إليها أيام «الإرهاب» العصيبة.٣٧ وساعد ذلك على انتشار الاضطراب في مالطا، وزيادة ضعف الفرسان الذين كان الانحلال قد بدأ يدب في صفوفهم من مدة طويلة وفقدوا كل قدرة عسكرية. وحاول البرنس دي روهان Rohan رئيس هذه الجماعة أن يبدأ عهدًا من الإصلاح يعيد إلى الفرسان قوتهم السابقة، فاستطاع ممثلوه أن يعقدوا في بطرسبرج معاهدة مع بول الأول قيصر الروسيا في ١٥ يناير ١٧٩٧م أُعيدت بمقتضاها أملاك الفرسان التي استولت عليها الروسيا في بولندا قبل ذلك بعامين، كما أُعطي الفرسان حق إنشاء دير كبير في بولندا يأتيهم بإيرادات وفيرة.٣٨
غير أن الرسول الذي كُلِّف بحمل هذه الأنباء إلى مالطا ما لبث أن وقع في أسر بونابرت في أنكونا في فبراير من العام نفسه، وهو لا يزال في طريقه إلى الجزيرة،٣٩ فأثار هذا الحادث اهتمام بونابرت بأمر مالطا؛ ذلك أن بقاءها بأيدي أعداء الجمهورية من شأنه أن يفصل بين القواعد البحرية الجديدة التي ظفرت بها في بحر الأدرياتيك وقواعدها في إقليم بروفنس، ويصبح خطرًا يهدد تلك السيطرة التي كانت تبغيها فرنسا في حوض البحر الأبيض. وأوجس بونابرت خيفة من علاقات الفرسان بقيصر الروسيا، وعظم الخوف من وقوع مالطا في يد دولة معادية لفرنسا عند وفاة روهان واختيار البارون فردنند هومبش Hompesch رئيسًا للفرسان. وكان هومبش جرمانيًّا، عُدَّ اختياره انتصارًا للسياسة النمساوية،٤٠ ودليلًا على تلك المؤامرات التي كانت النمسا تحيك خيوطها للاستيلاء على مالطا بوصفها جزءًا من مشروع واسع تهدف من ورائه إلى تجزئة أملاك الإمبراطورية العثمانية بالاتفاق مع الروسيا، فتنال هذه الدولة الأخيرة ما تبغيه من ممتلكات العثمانيين لقاء رضائها عن استيلاء النمسا على مالطا إلى جانب ما قد تناله من التركة العثمانية. ومع أن هومبش بادر بإظهار ميوله الودية نحو حكومة الإدارة في رسالة بعث بها إلى باريس في يوليو ١٧٩٧م، فإن هذه الجهود لم تفد شيئًا في إزالة مخاوف الجمهورية من مساعي النمسا خاصة لإحراز السيطرة البحرية في حوض البحر الأبيض المتوسط.
وعلى ذلك فقد رحبت حكومة الإدارة كما رحب تاليران باقتراح بونابرت، فقال تاليران في خطابه إلى بونابرت في ٢٣ سبتمبر:٤١ «إن من مقتضيات صون مصالحنا أن نحول بكل وسيلة دون استيلاء النمسا على مالطا.» ثم عاد تاليران فأكد في رسالته الثانية إلى بونابرت في ٢٧ سبتمبر٤٢ موافقة حكومة الإدارة على اقتراح بونابرت الاستيلاء على مالطا؛ لأن هذه الجزيرة — على حد قول تاليران — قد أصبحت وكرًا للدسائس والمؤامرات التي يديرها النمساويون والروس والإنجليز، ومن المتوقع سقوطها قريبًا في قبضة النمسا، وذلك بناءً على المعلومات التي استقتها حكومة الإدارة كذلك من مصادر أخرى. وكتب تاليران: «إن استيلاء النمسا على هذه الجزيرة إلى جانب حصولها على أستريا ودلماشيا من شأنه أن يتيح لها الفرصة حتى تصبح دولة بحرية في وسعها أن تسبب تلفًا كبيرًا لفرنسا في جمهورية «ما وراء الألب» الإيطالية الشمالية Gisalpin. وفضلًا عن ذلك فإن استيلاء النمسا على مالطا يمكِّنها من إلقاء العراقيل في طريق الملاحة الفرنسية في البحر الأبيض المتوسط بأجمعه، وذلك بفضل ما لهذه الجزيرة من موقع جغرافي ممتاز في حالة ما إذا وقعت مالطا في قبضة إنجلترا أو روسيا، فإن هذه الأخطار سوف تزداد شدة على شدتها.» وعلى ذلك فقد أعطت حكومة الإدارة بونابرت كل سلطة لتنفيذ مشروع الاستيلاء على مالطا عندما يحين الوقت المناسب لإنجاز هذه الخطوة، كما أنها أصدرت أوامرها في هذا الشأن كذلك إلى برويس أمير البحر الفرنسي، وإلى غيره من المختصين في ٣ أكتوبر ثم في ٢١ أكتوبر ١٧٩٧م،٤٣ وهكذا سارت الأمور وفق رغائب بونابرت فيما يتصل بمصير مالطا.
واقتنع تاليران كذلك بأن احتلال مصر سوف يعود على فرنسا بفوائد سياسية وتجارية عظيمة، لعل أهمها إحباط دسائس الإنجليز والروس في تركيا، ثم تمتع فرنسا بذلك المركز التجاري الكبير الذي تنشده، وبخاصة «لأن مصر بوصفها مستعمرة سوف تعوض على فرنسا ما خسرته من منتجات جزر الأنتيل، كما أنها بوصفها طريقًا للمواصلات سوف تهيئ لها السبيل للاستحواذ على تجارة الهند.»٤٤ ومع ذلك فإنه كان واضحًا آنئذٍ أن الوقت لم يحن بعد لإخراج مشروع الحملة على مصر إلى حيز الوجود لعدة أسباب، منها أن بونابرت الذي عقد مع النمسا معاهدة كامبو- فورميو في ١٧ أكتوبر ١٧٩٧م ما لبث أن شُغِل بعد ذلك بإرسال هذه المعاهدة إلى باريس، ومحاولته إقناع الرأي العام الفرنسي بقبول شروط الصلح التي نقدها أولئك الذين لمسوا فيها سخاءً عظيمًا لا تبرره ظروف الموقف، ولا يتفق ومصلحة فرنسا، وكان على بونابرت أن ينال تصديق حكومة الإدارة على المعاهدة.
وعلى ذلك فقد كتب إلى تاليران في ١٨ أكتوبر٤٥ يبسط من جديد المبادئ التي استرشد بها عند عقد الصلح مع النمسا، ويدلي بالحجج التي سوغت في نظره عقد الصلح وفق الشروط التي صار يرجو الآن إقناع الجميع بقبولها وتصديق حكومة الإدارة عليها. وكان أهم ما جاء في هذه الرسالة قول بونابرت إنه وقد انفرط عقد المحالفة الدولية ضد فرنسا بخروج النمسا نهائيًّا من هذه المحالفة، فإن الواجب يقضي على الفرنسيين جميعًا أن يوحِّدوا جهودهم حتى يستطيعوا التفرغ لمنازلة إنجلترا غريمة فرنسا وعدوتها الكبرى، وأمَّا إذا ظهر تهاون في هذه المسألة الخطيرة من جانب الحكومة الفرنسية، فإن إنجلترا سوف تجد الفرصة سانحة للمضي في نشاطها المعروف، فتعمل على انتزاع المستعمرات الفرنسية ومستعمرات هولندا وإسبانيا، وتعطل تجارة الجمهورية، وتحول دون القيام بأي عمل لإصلاح البحرية الفرنسية وتقويتها زمنًا طويلًا. وفضلًا عن ذلك فقد بات من الواجب على الحكومة أن تبذل قصارى جهدها للقضاء على الملكية الإنجليزية قضاءً مبرمًا؛ وذلك حتى تحول دون تدمير الجمهورية على أيدي هؤلاء الإنجليز الذين دأبوا على تدبير المكايد وإشاعة الفساد في فرنسا بغية الوصول إلى تنفيذ مآربهم. ولما كان بونابرت يعتقد أن «الوقت الحاضر هو أكثر الأوقات مناسبة» للقضاء على هذه الملكية، فقد طلب أن تبذل حكومته كل ما وسعها من جهد وحيلة لإحياء البحرية الفرنسية، وتعمل ناشطة في سبيل القضاء على إنجلترا «حتى إذا استطاعت ذلك وقعت أوروبا بأسرها تحت أقدام فرنسا.»

الحملة الكبيرة

وكان لهذه الآراء والحجج التي بسطها بونابرت في رسائله أثرٌ حاسم ولا شكَّ في إقناع حكومة الإدارة بقبول المعاهدة والمبادرة بالتصديق عليها، فقد وصل إلى باريس في ليل ٢٥-٢٦ أكتوبر ١٧٩٧م كلٌّ من برتييه Berthier   ومونج Monge يحملان معاهدة كامبو فورميو٤٦ وقابلا أعضاء حكومة الإدارة في جلسة غير عادية في الساعة السادسة من صباح يوم ٢٦ أكتوبر، فما انقضى ذلك اليوم حتى كانت الحكومة قد صدَّقت على المعاهدة،٤٧ كما اتخذت حكومة الإدارة في اليوم نفسه عدة قرارات لتجنيد قوى الجمهورية من أجل النضال ضد إنجلترا، ونصَّ أحد هذه القرارات على حشد جيشٍ عظيم دون أي إبطاء على شواطئ المحيط بقيادة نابليون بونابرت لهذه الغاية، فبدأ على الفور تنظيم «جيش إنجلترا».٤٨ وأمَّا بونابرت فقد غادر ميلان إلى رشتاد في ١٧ نوفمبر كي يتبادل مع النمسا التصديق على المعاهدة، ثم غادر رشتاد إلى باريس في ٣ ديسمبر، وما إن وصل إلى العاصمة الفرنسية حتى اجتمع برجال الحكومة لبحث موضوع الحملة المزمعة على إنجلترا.
ولم يكن التصميم على إرسال هذه الحملة أول محاولة قامت بها حكومة الإدارة لغزو إنجلترا في عقر دارها؛ ذلك أن هذه الحكومة كانت قد أعدت في يونيو من العام السابق (١٧٩٦م) مشروعًا واسعًا لغزو إنجلترا يقضي بإنزال جيش كبير في كونوت Connaught إحدى مقاطعات إيرلندا الغربية، وإثارة حرب العصابات في ويلز وكورنوول Cornwall، ولم يفسد هذا المشروع سوى إصرار حكومة الإدارة في الوقت نفسه على إرسال حملة إلى الهند لمساعدة تبو صاحب سلطان ميسور Mysore في نضاله ضد الإنجليز، فنشأ بسبب ذلك الخلاف بين لازار هوش Lazare Hoch قائد الحملة والأميرال فيلاري جوايوز Villaret-Joyeuse قائد الأسطول المعد لنقل الجيش إلى شواطئ إيرلندا وإنجلترا، حتى اضطر هوش إلى اختيار قائد بحري آخر هو مورار دي جال Morar de Galles، وكان كبير السن تنقصه قوة الإرادة والعزيمة. وفضلًا عن ذلك فقد كان الأسطول الفرنسي قد بلغ من الضعف درجة جعلت الأمل ضعيفًا في نجاح عملياته، وعجز القائد الجديد عن تجهيزه وإعداده؛ ولذلك فإن الأسطول لم يكد يخرج في آخر الأمر من ميناء برست في ديسمبر حتى كانت الفوضى — على حد قول الجنرال هوش — منتشرة في الأسطول الذي لم تزد قطعه عن سبع عشرة بارجة وثلاث عشرة فرقاطة وخمس عشرة سفينة أخرى، وفي أثناء العمليات التالية عظم ارتباك الأسطول الفرنسي، فانفصلت بارجة القيادة عن سائر قطع الأسطول، واستطاعت سفن قليلة دخول خليج بانتري Bantry Bay في طرف إيرلندا الجنوبي الغربي. ومع أن هوش ودي جال ظلَّا متغيبين فقد حاول الجنود النزول إلى البر، ولكنهم لم يستطيعوا ذلك بسبب هبوب العواصف الشديدة، وأمَّا هوش ودي جال فإنهما لم يتمكنا من الوصول إلى خليج بانتري. وعلى ذلك فقد انسحبت الحملة من المياه الإيرلندية إلى برست في يناير من العام التالي.٤٩
على أن هذا الفشل لم يفت في عضد الفرنسيين الذين ظلت تحدوهم الرغبة في غزو الإنجليز في بلادهم ويعقدون آمالًا عظيمة على إمكان بذر بذور التفرقة بين الشعب وحكومته، حتى إذا قُيِّض لهم الانتصار على إنجلترا أُرغمت هذه على إخلاء ذلك المكان الذي ظلت تحتله من مدة طويلة باعتبارها أمة أوروبية عظيمة، فتغدو دولة ذات أهمية ثانوية لا يسعها عندئذٍ إلَّا أن تفسح الطريق أمام فرنسا المنتصرة حتى تشيد صرح الإمبراطورية الكبيرة التي أرادت إنشاءها في الشرق دون أن تعرقل منافسة الإنجليز نشاطها. وكان بونابرت أحد أولئك الذين أخذوا بهذه الآراء واعتقدوا أنه من الميسور غزو الإنجليز في بلادهم. ومع أن البحرية الفرنسية كانت قد تكبدت خسائر فادحة في أثناء النضال مع الإنجليز بين يناير ١٧٩٣م وديسمبر ١٧٩٧م حتى بلغ ما فقدته فرنسا في أثناء هذه المدة نيفًا ومائتي سفينة حربية بينما كانت خسارة الإنجليز لا تعدو سبعًا وسبعين سفينة؛ فقد اعتقد بونابرت واعتقدت معه حكومة الإدارة أن في وسع فرنسا تدبير أمر حملة أخرى كبيرة ضد إنجلترا. ومنذ أن وصل بونابرت إلى باريس جرى الاستعداد بصفة جدية لتجهيز حملة إنجلترا التي عُرفت من ذلك الحين باسم الحملة الكبيرة La Grande Expédition.
ولم يكن الغرض من تجهيز هذه الحملة الكبيرة كما يتوهم كثيرون ذر الرماد في العيون، وحمل الإنجليز على ترك اهتمامهم بميدان الشرق، وإهمال المراقبة في البحر الأبيض، حتى يتسنى للعمارة الفرنسية الخروج من الموانئ الجنوبية وعبور البحر الأبيض والوصول بسلام إلى الشواطئ المصرية؛ بل إن مشروع هذه الحملة الكبيرة كان مشروعًا جدِّيًّا، ولم يصرف بونابرت وحكومة الإدارة عن تنفيذه سوى اعتبارات قوية سوف يأتي ذكرها في حينه، وآية ذلك ما جرى من مراسلات عدة بين المسئولين عن إعداد الحملة وقواد الجيوش والأساطيل، وصدور طائفة من الأوامر في هذا الشأن. كما أن بونابرت لم يلبث أن قام برحلة تفتيشية هامة في شواطئ فرنسا وهولندا الشمالية، بدأت في أوائل فبراير ١٧٩٨م واستمرت حتى اليوم الحادي والعشرين من الشهر نفسه، فقد زار بونابرت إيتابل Etaples   وأمبلتوز Ambleteuse وبولوني وكاليه ودنكرك وفرنس Furnes   ونيوبور Nieuport وأوستند وجزيرة فالشيرن Walcheren، كما أنه زار في أثناء عودته من هذه الرحلة التفتيشية أنفرس وبروكسل وليل وسان كنتان. وفضلًا عن ذلك فقد كلف عددًا من ضباطه بالتفتيش على بعض المواقع الأخرى، فزار ديزيه Desiax برست،وكليبر Kléber الهافر وبقية الشاطئ الفرنسي، وكافريلِّي Caffarelli دنكرك.٥٠
ومما ينهض دليلًا على أن مشروع هذه الحملة الكبيرة كان مشروعًا جدِّيًّا أن جميع ما أصدرته حكومة الإدارة من أوامر أو اتخذته من قرارات بشأن الاستعداد لهذه الحملة كان خاليًا من أية إشارة إلى مالطا، وذلك على الرغم من أن حكومة الإدارة كانت قد وافقت على غزو هذه الجزيرة واحتلالها منذ سبتمبر ١٧٩٧م، وعلى الرغم من أن بونابرت نفسه كان قد أخذ يستعد لهذا الغزو، فأرسل إلى كورفو يوجين بوهارنيه Eugène de Beauharnais ياوره (وابن زوجه جوزفين) لإخبار الأميرال برويس بعزمه، وليحمل إليه التعليمات اللازمة. كما قرر أن يوفد إلى مالطا ذاتها في نوفمبر ١٧٩٧م،٥١   بوسيلج Poussielgue سكرتير السفارة الفرنسية في جنوة، وكان له أقرباء بمالطا، تحت ستار التفتيش على مراكز التجارة الفرنسية فالتا وأساكل الليفانت؛ وذلك حتى يمهد الطريق لغزو الجزيرة واحتلالها، فبادر بونابرت بعد أن تقرر غزو إنجلترا عقب عودته من روما بمنع بوسيلج من الذهاب إلى مالطا، وبأمره بالعودة إلى باريس فورًا. وواقع الأمر أن الاستعدادات لتجهيز «الحملة الكبيرة» على إنجلترا استمرت قائمة على قدم وساق طوال الشهور الأولى من عام ١٧٩٨م لتدبير الأموال اللازمة لها ووضع الخطط الحربية.

غير أنه سرعان ما تبين لحكومة الإدارة ولبونابرت أنه كان يحول دون تنفيذ هذا المشروع الكبير صعوبات عدة، أهمها: جسامة النفقات التي عجزت حكومة الإدارة عن تدبيرها، وتعذر الحصول على العدد الكافي من السفن لنقل جيش الحملة وإمداده بالمؤن والعتاد الحربي، ناهيك بضرورة اشتراك الأسطول في العمليات الحربية والمعارك المنتظرة في أثناء العبور إلى شواطئ العدو وعند محاولة النزول بأرضه. كما أظهر التفتيش على الثغور الشمالية أنه لا غنى عن القيام باستعدادات عاجلة ملحة في هذه الثغور قبل الإقدام على إرسال الحملة ضد إنجلترا. وعلى ذلك فإنه لم يمضِ يومان على عودة بونابرت من رحلته التفتيشية حتى قدَّم تقريرًا إلى حكومة الإدارة في ٢٣ فبراير ١٧٩٨م عن نتائجها، استهله بقوله: «إنه من المتعذر «على فرنسا» من الآن إلى سنوات عدة تالية أن تحرز أي تفوق بحري مهما «بذلت» كثيرًا من الجهود في سبيل هذه الغاية.» وفضلًا عن ذلك فإن الاستعدادات البحرية لم تقطع سوى شوط يسير منذ صدور الأمر بتجهيز الحملة على إنجلترا. وكانت النغمة الظاهرة في هذا التقرير أنه لا معدى عن تكبد أموال طائلة لإنجاز الاستعدادات اللازمة، ولا مندوحةَ عن تنظيم البحرية الفرنسية وتجهيز عدد كبير من السفن وإعداد الموانئ الشمالية، واتخاذ غير ذلك من التدبيرات الملحة قبل الإقدام على الغزو المنتظر، كجمع سفن المدفعية في ميناءي دنكرك وأوستند قبل نهاية شهر مارس، وإعداد خمس وعشرين بارجة من البوارج الثلاثين الراسية في ميناء برست، وتجهيز مثل هذا العدد من الفرقاطات، وذلك في خلال شهر واحد فحسب، فضلًا عن تدبير النفقات الاستثنائية اللازمة لجيش الغزو، حتى إذا تم ذلك كله كان من الميسور غزو إنجلترا.

ثم اختتم بونابرت هذا التقرير بقوله: «فإذا تعذَّر تدبير الأموال اللازمة التي جاء ذكرها في هذه المذكرة، وصَعُب تنظيم البحرية الفرنسية بالسرعة المنشودة، نظرًا لضعف هذه البحرية البالغ في الظروف القائمة؛ فإن الواجب يقتضي حكومة الإدارة أن تتخلى عن مشروع غزو إنجلترا، وتكتفي بدلًا من ذلك بالتظاهر بالمضي في استعداداتها، بينما توجه كل انتباهها وتجند كل ما لديها من وسائل لتنفيذ مشروعات أخرى، إمَّا بالزحف صوب الراين حتى تستولي من إنجلترا على هانوفر وتنتزع هامبورج كذلك، وإمَّا بإرسال حملة إلى الليفانت حتى تعطل تجارة الهند. فإذا اتضح أنه من المتعذر تنفيذ هذه المشروعات فالأفضل لفرنسا حينئذٍ أن تعقد الصلح مع إنجلترا …»٥٢ وكان من الواضح أن بونابرت إنما يقصد من مشروع الليفانت إرسال الحملة إلى مصر لغزوها، كما كان من الواضح كذلك أن بونابرت بعد عودته من رحلته التفتيشية بات يعتقد أنه من العبث محاولة غزو إنجلترا في عقر دارها، وأن الواجب يقتضي فرنسا أن توجه أنظارها صوب الشرق، وتسعى لغزو إنجلترا بطريق غير مباشر، هو تهديد مستعمراتها في الهند، وذلك بإرسال جيش كبير لفتح مصر والاستيلاء عليها.٥٣
ومع ذلك فقد ظنَّ كثيرون أن بونابرت إنما كان يبغي من تقديم تقريره السابق إلى حكومة الإدارة أن يستحث هذه الحكومة على إنجاز استعدادات «الحملة الكبيرة» بكل سرعة؛ لأن بونابرت حتى ذلك الوقت ما كان يفكر في التخلي عن مشروع غزو إنجلترا.٥٤ وعلى ذلك فإن تقرير كليبر عن زيارته لميناء الهافر والشاطئ الفرنسي لم يكد يرد حتى أصدرت حكومة الإدارة قراراتها في جلستَي ٢٤ و٢٥ فبراير ١٧٩٨م بالعمل بمقترحات بونابرت من أجل إنجاز الاستعدادات اللازمة لغزو إنجلترا،٥٥ غير أنه لم يمضِ أسبوع واحد على اتخاذ هذه الخطوة حتى كانت حكومة الإدارة قد بدأت تعدل بدورها عن مشروع الحملة الكبيرة، وتفكر جدِّيًّا في غزو مصر.٥٦

تقرير الحملة على مصر

وقد تضافرت عوامل عدة لإقناع حكومة الإدارة بالعدول نهائيًّا عن الاقتصاص من إنجلترا بغزوها في بلادها، وتوجيه جهودها نحو الشرق باعتباره خير ميدان ترسل إليه حملتها، لا للانتقام من إنجلترا فحسب، بل ولإنشاء مستعمرة فتية في مصر تصبح نواة لإمبراطورية استعمارية جديدة تعوض على فرنسا خسائرها الماضية في الهند وأمريكا وجزر الهند الغربية، ذلك أن الرغبة في غزو الإنجليز في عقر دارهم ما كانت تطغى على اهتمام حكومة الإدارة بمسألة الاستعمار، بل إن التفكير في الاقتصاص من إنجلترا كان يسير حثيثًا إلى جانب التفكير في إحياء مجد الإمبراطورية الاستعمارية، ولم يكن القضاء على قوة الإنجليز وإرغامهم على قبول الصلح مع فرنسا وفق الشروط التي ترتئيها حكومة الإدارة، ثم إحراز التفوق السياسي في أوروبا، سوى وسيلة لتحقيق أهداف فرنسا الاستعمارية.٥٧ وعلى ذلك فإنه بينما كان بونابرت يقوم برحلته التفتيشية في الشواطئ الشمالية، كانت حكومة الإدارة قد شرعت تدرس جدِّيًّا موضوع الاستعمار في الشرق عندما صارت تُقدَّم إليها التقارير من كل جانب تدعوها إلى تقليب وجوه الرأي علَّها تصل سريعًا إلى قرار حاسم في هذه المسألة الهامة.
وكان أول التقارير التي تلقتها حكومة الإدارة ذلك التقرير الذي قدمه شارل مجالون قنصلها القديم في مصر، فقد تقدم كيف أن شارل مجالون كان قد طلب منذ ديسمبر ١٧٩٥م أن تأذن له حكومته بالحضور إلى باريس حتى يبسط لها مبلغ الأضرار التي لحقت بالتجارة الفرنسية على أيدي البكوات المماليك، فوافقت حكومة الإدارة على مجيئه إلى باريس في ١٦ أغسطس ١٧٩٦م، وغادر مجالون مصر في منتصف العام التالي فبلغ باريس في شهر أكتوبر؛ أي في الوقت الذي استلزم فيه عقد الصلح مع النمسا في كامبو فورميو أن تتفرغ حكومة الإدارة لبحث موضوع الانتقام من إنجلترا بحثًا جدِّيًّا، وفي ٩ فبراير ١٧٩٨م قدم مجالون تقريره المشهور إلى حكومة الإدارة،٥٨ وكان تقريرًا طويلًا تحدَّث فيه صاحبه بإسهاب عن نظام تلك الحكومة التي أنشأها السلطان سليم الأول في مصر، كما أخذ يعدد المساوئ التي شكا منها الفرنسيون في عهد سيطرة البكوات المماليك من أيام علي بك الكبير نفسه، ويبيِّن أهمية استيلاء بلاده على منتجات مصر وتجارتها، ثم انتقل إلى إظهار الفوائد التي ينتظر أن تجنيها فرنسا من فتح مصر وامتلاكها، وهي فوائد يمكن إيجازها في احتمالين؛ فإما أن يعمل الفرنسيون مباشرة من مصر على طرد الإنجليز من الهند عنوةً وقسرًا، وإمَّا أن يقنعوا بتعطيل تجارة الإنجليز مع الهند، ويستأثروا بهذه التجارة من دونهم. فإذا صح عزم الفرنسيين على طرد أعدائهم القدماء من الهند، فالسبيل إلى ذلك سهل ميسور إذا أنشأ الفرنسيون عقب احتلالهم لهذه البلاد أسطولًا صغيرًا في السويس يستطيع نقل الجند والإمدادات إلى شعوب المهراتا الثائرين على الإنجليز وإلى تبو صاحب سلطان ميسور، فيشترك الفرنسيون في النضال المستعر في الهند ضد الإنجليز، وينزلون بأعدائهم هزائم بالغة حتى يقضوا على قوتهم نهائيًّا، ويطردوهم من البنغال شر طردة. أمَّا إذا قرَّ رأي الفرنسيين على الاستئثار بتجارة الهند فحسب، فالسبيل إلى ذلك أن تنشئ فرنسا عند استتباب الأمر لها في مصر مراكز تجارية عدة في القاهرة والإسكندرية ومرسيليا، تكفل حرمان الإنجليز بعد وقت قصير من تجارة الهند؛ لأن الإنجليز سوف يعجزون ولا شك عن مقاومة هذا النشاط التجاري الجديد بزعامة فرنسا.
وبعد أيام قليلة من تقديم تقرير مجالون، تلقت حكومة الإدارة تقريرًا آخر من تاليران وزير خارجيتها عن مسألة «فتح مصر»، أعده تاليران في ١٣ فبراير ١٧٩٨م، ثم طلب إلى حكومته عندما عرضه عليها في اليوم التالي أن تقطع برأي حاسم في شأنه.٥٩ ويحتل هذا التقرير مكانة كبيرة في تاريخ الحملة الفرنسية على مصر، نظرًا لما بذله صاحبه من جهد عندما أخذ على عاتقه أن يعرض العلاقات التي قامت من قديم الزمن بين فرنسا ومصر، وأن يبسط الآراء التي نادى بها كثيرون ممن سبقوه في الكتابة في أوقات مختلفة لإظهار مزايا امتلاك هذه البلاد واستعمارها، وذلك إلى جانب مسعى تاليران نفسه في إقامة الحجة على أن الفرصة قد باتت سانحة لإرسال الحملة على مصر وفتحها. وفضلًا عن ذلك فقد تضمن هذا التقرير ذكر كل تلك المبادئ التي استرشدت بها فرنسا في سياستها الخارجية إزاء الباب العالي في أثناء الغزو الفرنسي، ثم عمل بونابرت نفسه ثم خلفاؤه من بعده على تنفيذها عند احتلال هذه البلاد وبدء التجربة الاستعمارية الجديدة. أمَّا تاليران فقد اعتمد عند إعداد هذا التقرير على كل ما وقعت عليه يده من كتابة الرحالين الفرنسيين الذين زاروا مصر وخاصة فولني، كما اعتمد على تقارير شارل مجالون.٦٠ وليس من شك في أن تاليران وحده كان صاحب هذا التقرير والمسئول عن كتابته، على الرغم من ذيوع الاعتقاد بأنه كان لبونابرت يد في إعداده.٦١
وتحدث تاليران في تقريره عن نظام الحكم الذي أنشأه العثمانيون في مصر منذ عام ١٥١٧م، وكان سببًا في ضياع سلطتهم الفعلية واستبداد البكوات بشئون البلاد، ومسعى الباب العالي دون طائل لاسترداد سلطته المفقودة. وبسط تاليران القول في شكايات الفرنسيين الذين أرهقهم البكوات المماليك — وفي طليعتهم إبراهيم ومراد — بمطالبهم المالية وفرض المغارم عليهم ومصادرة متاجرهم ونهبها. وقد اشتط مراد وإبراهيم في إثقال كواهل الفرنسيين والتعسف في معاملتهم، منذ نشوب الثورة الفرنسية الكبرى — على حد قول تاليران — لنفور هذين الرجلين من «الثورة»، وبسبب تحريض وكلاء الإنجليز والإمبراطورية النمساوية والبندقية، ولم تفلح جهود الحكومة الفرنسية وجهود فرنيناك Verninac مندوبها في القسطنطينية في إزالة شيء من هذه المظالم. وخلص تاليران من ذلك كله إلى أنه قد بات من واجب حكومة الإدارة أن تأخذ على عاتقها تأديب البكوات المماليك بكل شدة.٦٢

وقد ارتأى تاليران — قبل أن يشير إلى الوسائل التي يجب اتخاذها لتأديب هؤلاء البكوات — أن يتكلم عن «منتجات مصر وتجارتها»، فذكر غلات البلاد الزراعية، ووصف موقع مصر الجغرافي، وبيَّن أهمية هذا الموقع من الناحية التجارية؛ إذ إنه أتاح لمصر أن تنشئ علاقات تجارية واسعة مع وسط أفريقيا وشمالها وتركيا والشام وأرخبيل اليونان، وكذلك مع أوروبا تلك القارة التي لا تبعد موانيها الهامة في فرنسا وإسبانيا وإيطاليا عن مصر إلَّا بنحو ستمائة فرسخ، كما أنه كان باستطاعة مصر أن تنشئ بسهولة علاقات تجارية نافعة مع جدة واليمن والهند عن طريق البحر الأحمر. وما من شك في أن انتقال الحكم من أيدي المماليك الطغاة إلى يد حكومة فرنسا الرشيدة سوف يعود بنفع عظيم على هذه البلاد، إذ تتقرر حقوق الملكية، ويطمئن الأفراد على أموالهم وأملاكهم، والتجار على تجاراتهم، ويسود الأمن والسلام، ويعود استخدام الطريق البري في نقل تجارة الهند إلى سابق عهده، ويُهمل شأن طريق رأس الرجاء الصالح حول أفريقيا، وهو طريق طويل يكلف استخدامه نفقات كثيرة، فتجني حكومة الجمهورية الفرنسية أرباحًا طائلة بفضل ما تجمعه من الضرائب الجمركية، وما تحصله من بيع الأراضي؛ لأن الحكومة هي وحدها صاحبة الأرض في مصر.

وفضلًا عن ذلك فإن احتلال مصر وإحياء طريق السويس البري من شأنه أن يحدث انقلابًا في تجارة أوروبا يلحق أضرارًا عظيمة بإنجلترا؛ لأن هذه الدولة إنما تعتمد في تأييد تفوقها السياسي في أوروبا على تجارة الهند، وهي تجارة سوف تفقدها لا محالة عند إحياء الطريق البري، في حين أن إحياء طريق السويس سوف يفيد حكومة الجمهورية دون سواها من الحكومات فائدة محققة بفضل احتلالها هذه البلاد وقربها منها، ونشاط الفرنسيين وكفاءتهم المعروفة. كما أن فرنسا حينذاك لن تهتم مطلقًا بمصير طريق رأس الرجاء الصالح، ولا يعنيها بقاء هذا الطريق وقد فقد أهميته في حوزة الإنجليز أو حوزة غيرهم، بل إن فرنسا سوف تجد من السهل عليها أن تضحِّي بطريق الرأس في سبيل الوصول إلى عقد معاهدة الصلح مع إنجلترا. أضف إلى هذا أن الاستيلاء على مصر سوف يعوض على الجمهورية خسارتها في أمريكا وفي جزر الهند الغربية.٦٣

وتحت عنوان «شكاوى الفرنسيين ومسلك الباب العالي والدول المسيحية» تحدث تاليران عن الاعتراضات التي قد يثيرها المعارضون لمشروع غزو مصر وفتحها، وأهمها ما سوف يلحق الفرنسيين أنفسهم من أذى في تركيا إذا هم أقدموا على غزو أملاك الباب العالي، كما أن احتلال مصر سوف يهدد بضياع تجارتهم في بلاد المشرق (أو الليفانت)، وقد لا تدع تركيا والدول الأوروبية الفرصة تمر دون إعلان الحرب على فرنسا. وانبرى تاليران يدحض هذه الحجج والدعاوى، فقال إن تركيا وحدها المسئولة عن غزو مصر؛ لأنها تركت الفرنسيين يتحملون أنواعًا من المظالم والمغارم الفادحة دون أن تحرك ساكنًا ودون أن تعوضهم شيئًا عن تلك التجارات التي نُهبت والأموال التي سُلبت في مصر خلال السنوات الخمس الماضية، وفي هذا خرقٌ ظاهرٌ للقانون ومخالفةٌ واضحةٌ ﻟ «التزامات الامتيازات»، ودليل ناصع على أن العثمانيين باتوا لا يبالون بتلك الحقوق التي فرضت الامتيازات عليهم احترامها في أنحاء الإمبراطورية العثمانية. ولا ينبغي أن تخشى فرنسا ضياع تجارة الليفانت؛ لأن هذه التجارة كانت قد أفلتت من يد فرنسا إلى أيدي الدول الأوروبية الأخرى منذ اشتعال الثورة الكبرى وانصراف الفرنسيين عن ميادين النشاط الخارجية. وفضلًا عن ذلك فإن إقامة الحكومة الرشيدة المصلحة في مصر سوف يضمن الثروة والرخاء للمصريين تحت الحكم الفرنسي، فيزيد الاستهلاك المحلي تبعًا لذلك، ويشتد الطلب على السلع الفرنسية على نحو يعوض على فرنسا ضياع تجارتها مع تركيا.

ولا شك في أن تركيا سوف تتردد طويلًا قبل إعلان الحرب على فرنسا لقرب ممتلكات الجمهورية من الولايات العثمانية في المورة وألبانيا ومقدونيا، وهذه كلها جهات لا يستمتع العثمانيون فيها بسلطان قوي، بل تغلي فيها مراجل الغضب من الحكم التركي، ويسود بين أهلها الاضطراب بسبب انتشار الآراء الجديدة. ولا يشك تاليران في أن تركيا سوف تفقد هذه الأقطار إذا هي أعلنت الحرب على فرنسا لرغبة اليونانيين الشديدة في التحرر من نير العثمانيين والنضال في سبيل الحرية. وعلاوة على ذلك فإن فرنسا ذاتها لا تريد بصورة من الصور أن تقطع علاقاتها مع تركيا، بل على العكس من ذلك فإن الواجب يقتضي حكومة الجمهورية حين إرسال حملتها على مصر أن ترسل إلى القسطنطينية مفاوضًا لبقًا ماهرًا يحفظ علاقات الود والصداقة مع تركيا. واستبعد تاليران أن يؤلب العثمانيون الدول ضد فرنسا، كما اعتقد أنه لا يحق لفرنسا أن تخشى شيئًا من جانب إنجلترا؛ لأن الحرب القائمة بين الدولتين سوف تفيد فرنسا عند تقرير إرسال حملتها إلى مصر؛ لأن إنجلترا التي يقضُّ مضجعها الخوف من نزول الفرنسيين بأرضها إذا غزوها في عقر دارها، لن تجسر على إخلاء شواطئها من الجند والمجازفة بإرسال قواتها لتعقب «حملة» لا يعرف أحد المكان الذي تقصده، أو الوقت المحدد لقيامها من الشواطئ الفرنسية؛ ذلك أن تاليران نصح بأن يظل مشروع هذه الحملة إذا استقر الرأي على إرسالها إلى مصر سرًّا مكتومًا.

ولم يكن تاليران أيضًا يتوقع أن تُظهر الروسيا وبروسيا والنمسا اهتمامًا كبيرًا بمسألة غزو مصر، ولما يمضِ طويل وقت على اشتراك هذه الدول الثلاث في اقتسام بولندا فيما بينها نهائيًّا. كما أنه لا يحق لفرنسا أن تخشى شيئًا من جانب روسيا البعيدة، أو من جانب بروسيا وهي دولة لا مصلحة لها في معارضة الغزو الفرنسي. هذا إلى أن انشغال النمسا بعلاقاتها مع الأمراء في ألمانيا، وبإدارة شئون ممتلكاتها الجديدة على شواطئ الأدرياتيك سوف يصرفها عن التفكير في امتشاق الحسام من جديد بعد حربها الأخيرة مع الجمهورية. أضف إلى ذلك أن هذه الدول جميعها لن تقدم على إعلان الحرب ضد فرنسا، خوفًا من ازدياد الارتباكات في ممتلكاتها بسبب انتشار «روح الحرية» الجديدة بين الشعوب الخاضعة لها نتيجة لاشتعال الثورة الفرنسية الكبرى.٦٤
وعلى ذلك فإنه لم يكن هناك ما يدعو إلى خوف حكومة الإدارة من ظهور أية صعوبات أو حدوث مقاومة من جانب الدول قد تحول دون تنفيذ مشروع الغزو. وواجب هذه الحكومة الآن أن تتساءل عما إذا كان يحق لها أن تتوقع مقاومة جدية في داخل مصر ذاتها. وللإجابة على ذلك أفرد تاليران جزءًا من تقريره لبحث «قوة المماليك العسكرية»، وخلص من بحثه إلى أن «فتح هذه البلاد لن يكلف الفرنسيين نقطة دم واحدة» لأسباب عدة، منها عداء المصريين الظاهر للبكوات المماليك، حتى إنهم إذا أُعطوا سلاحًا لقتال الفرنسيين الغزاة استخدموا هذا السلاح في قتال أولئك الذين طغوا في حكمهم وبغوا عليهم. أمَّا البكوات المماليك أنفسهم فكانوا ضعافًا لا يزيد عدد جيوشهم على سبعة أو ثمانية آلاف فارس، لا يدرون شيئًا من أساليب الحرب وفنون القتال الحديثة، وإن كانوا أصحاب فروسية وجسارة، فهم لا يعرفون النظام، ويجهلون استخدام المدفعية، وسلاحهم قليل.٦٥
وقد تحدث تاليران بعد ذلك عن «وسائل تنفيذ» مشروع الغزو من حيث إعداد الرجال وتجهيز السفن اللازمة لحملهم إلى مصر، وبيان الموانئ التي تخرج هذه السفن منها، ثم الجهات التي ينزل بها الجند في الشواطئ المصرية. بل ما لبث تاليران حتى فصَّل كذلك خطة الغزو العسكرية، فأشار بضرورة الاستيلاء على رشيد بعد الإسكندرية لضمان السيطرة على مصب النيل، ولإمكان نقل الجند والعتاد إليها بسهولة، حتى إذا اجتمعت قوات الحملة في رشيد انقسمت إلى فريقين؛ يسير أحدهما في النيل، بينما يزحف الفريق الآخر برًّا بمحاذاة النيل صوب القاهرة. ثم نصح تاليران بمطاردة المماليك عند التجائهم إلى الصعيد بعد هزيمتهم المنتظرة بالقرب من القاهرة، وأشار بملاحقتهم حتى أسوان كي يتمكن الغزاة من فرض سيطرتهم على البلاد من الشواطئ الشمالية إلى أقصى الصعيد، فيتسنى للحملة عندئذٍ أن ترسل الغلال وسائر المحصولات من الأقاليم المصرية إلى جنوب فرنسا وإلى جزر الأيونيان لتموينها. ولما كان الاستعداد على الدوام ضروريًّا للدفاع عن البلاد، فقد طلب تاليران أن ينشئ الفرنسيون سلسلة من التحصينات على الحدود في أبو قير والصالحية وأسوان.٦٦
وفضلًا عن ذلك فإن من مزايا احتلال مصر وتوطيد أقدام الفرنسيين فيها، أن يستطيع هؤلاء تنفيذ رغبتهم القديمة بإرسال حملة من القاهرة والسويس لطرد الإنجليز من الهند. واعتقد تاليران أن من السهل تحقيق ذلك لأن الإنجليز لا يملكون قوات كافية للدفاع عن أقطارهم الشاسعة في هذه البلاد البعيدة، حتى إنهم ليعجزون عن وقف هجوم الفرنسيين عليهم إذا أرسل هؤلاء حوالي خمسة عشر ألف جندي فحسب للانضمام إلى قوات تبو صاحب سلطان ميسور. وأشار تاليران على حكومة الإدارة لضمان نجاح هذا المشروع بأن تسرع في إرسال أسطول من السفن والنقالات إلى السويس، تجلبها من الموانئ الأوروبية أو من مستعمراتها في جزيرتَي إيل دي فرانس وروينيون، كما أنه في وسعها إذا خشيت ضياع الفرصة أن تستخدم السفن الآتية إلى السويس محملة بالبن من اليمن وجدة. وقد نصح تاليران كذلك بأن يبقى مشروع هذه الحملة سرًّا مكتومًا حتى لا يعمد الإنجليز إلى تعطيله، ومع ذلك فإنه مما يجدر ذكره أن تاليران لم يكن يهدف إلى استعمار الهند نفسها، بل كان كل ما يبغيه أن يتمكن مواطنوه من طرد أعدائهم منها؛ ذلك أنه إنما كان يهتم باحتلال مصر واستعمارها دون غيرها، على اعتبار أن احتلال هذه البلاد يكفي وحده للسيطرة على تجارة الهند والشرق ما دام قد تم إخلاء الهند من مستعمريها الإنجليز. وقد اعتقد تاليران كذلك أن طرد الإنجليز من الهند أمر لا مفرَّ منه في النهاية إذا شاء الفرنسيون أن يظلوا مستمتعين بسيطرتهم على مصر ذاتها، بل ويكفي حينئذٍ للاحتفاظ بهذه السيطرة أن يظل الزعماء الوطنيون من أهل مصر في مناصبهم تحت رقابة الفرنسيين وسلطان حكومة الجمهورية.٦٧
واختتم تاليران هذا التقرير الهام بتدوين بعض «الملاحظات العامة»، ولعل أهمها اقتراحه أن توضع لجنة مؤلفة من شخصين أو ثلاثة على رأس الحملة المرسلة لغزو مصر، على شريطة أن يتميز أعضاء هذه اللجنة بالحكمة والحذر والإرادة القوية، وأن يكونوا أصحاب معرفة — إن أمكن — بأحوال البلاد التي يذهبون لفتحها. ومع أن تاليران وضع في أيدي أعضاء هذه اللجنة كل سلطة وسيطرة على الجيش، فإنه لم يشأ أن يكونوا من القواد الماهرين؛ لأن الفتح المنتظر لا يتطلب وجود العسكريين الأكفاء، بل يجب أن يقود الحملة رجال أبرز صفاتهم الحكمة وأصالة الرأي، وفي وسعهم أن يحملوا الفرنسيين قاطبة في هذه البلاد على احترام تقاليد أهلها وعاداتهم وشعائرهم الدينية، وكذلك موقفهم من المرأة، فلا يصح أن يسلك الفاتحون مسلكًا قد يجعل المصريين يعتقدون أنهم إنما استبدلوا ظلمًا بظلم، واستعاضوا عن شرٍّ بما هو شرٌّ منه. أمَّا السبيل السوي إلى استمالة المصريين وكسب مودتهم، فهو تبجيل علمائهم وشيوخهم واحترام أهل الرأي منهم؛ لأن هؤلاء العلماء أصحاب سيطرة كبيرة على الشعب وتسلط عظيم على تفكيره. وفضلًا عن ذلك فإن الواجب يقتضي رجال الحملة أن يبذلوا قصارى جهدهم في جذب الرؤساء القبط في البلاد إليهم حتى يعرفوا منهم عدد القرى وتعداد السكان ومساحة الأراضي المزروعة، وغير ذلك من الموضوعات المتصلة بالإدارة المالية، وهي موضوعات لا شك في أن القبط يجيدون معرفتها بسبب اضطلاعهم بتحصيل الإيرادات وجباية الضرائب وما إلى ذلك.٦٨
وقد خلص تاليران من ذلك إلى تقرير حقائق أربع؛ أولها أن الإقدام على غزو مصر وفتحها وسيلة ظاهرة من وسائل الاقتصاص من الباب العالي الذي عبثت حكومته في مصر بحقوق الفرنسيين، وألحقت بهم أذى جسيمًا وإهاناتٍ بالغةً. وثانيها أن الفتح إذا تقرر سوف يكون سهلًا ميسورًا لا يعوقه خطأ، ولا يُخشى عليه أي عطل أو إخفاق. وثالثها أن الفتح لن يتطلب نفقات باهظة، ومن المنتظر أن تجد حكومة الجمهورية في استغلال موارد البلاد ما يعوضها خيرًا دون أي إمهال عن تلك النفقات التي تحملتها. ورابعها أن فتح مصر سوف يعود بفوائد محققة لا حصر لها على جمهورية فرنسا.٦٩

هذا موجز تقرير تاليران المشهور، ولا جدال في أن التقرير إلى جانب ذلك العرض التاريخي البارع الذي مكَّن صاحبه من بسط أحوال البلاد منذ الفتح العثماني إلى مجيء الحملة الفرنسية تقريبًا، قد رسم في خطوط عريضة خطة العمليات العسكرية التي وجد بونابرت وقواده عند حضورهم إلى هذه البلاد أنه لا مناص من اتباعها إذا شاءوا دعم سيطرتهم في مصر من شواطئها الشمالية إلى أقصى حدودها الجنوبية. كما أنه وضع قواعد تلك السياسة التي حاولت حكومته اتباعها في علاقاتهم مع تركيا في أثناء الغزو وبعده. وصحيح أن تاليران أخطأ عندما اعتقد أن مواطنيه لن يلقوا مقاومة من جانب المصريين؛ إذ قد ظل المصريون يناصبون الحملة العداء من وقت قدومها إلى وقت خروجها، ولكنه استطاع من جهة أخرى أن يوضح معالم السياسة التي سار عليها بونابرت ورؤساء الحملة من بعده في حكمهم البلاد، تلك السياسة التي عُرفت باسم السياسة الوطنية الإسلامية. ومع أن هذه السياسة الوطنية الإسلامية لم تفد شيئًا في استمالة المصريين إلى تأييد تجربة الفرنسيين الاستعمارية في مصر، فقد تضافرت عوامل عدة لتقويض أركان هذه السياسة، ولا يمكن بطبيعة الحال أن يعد تاليران نفسه مسئولًا عن إخفاقها.

وفضلًا عن ذلك فقد دلَّ هذا التقرير على أن صاحبه كان ما يزال يعتقد كغيره — وهم كثيرون — أن فتح مصر لا يتطلب جهدًا كبيرًا، وأنه سوف يفضي في النهاية إلى هدم مركز الإنجليز في الهند وطردهم منها، وقد سبق أن قدم تاليران نفسه ثلاث «مذكرات» بهذا المعنى إلى حكومة الإدارة في يوليو ١٧٩٧م، أشار فيها إلى ضرورة التعاون مع أمراء الهند وسلاطينها ضد سيطرة الإنجليز في بلادهم.٧٠ كما تقدم غيره إلى حكومة الإدارة ﺑ «مذكرات» أخرى يشيرون على هذه الحكومة بأن تتخذ من التظاهر بإعداد حملة لغزو إنجلترا ستارًا لإرسال أسطول يحمل جيشًا قويًّا إلى الهند لطرد الإنجليز منها أو لفتحها.٧١ على أن أهمية تقرير تاليران الأخير (١٣ فبراير ١٧٩٨م) إنما تنحصر في أن صاحبه استطاع أن يجمع في بحث واحد بين الفكرتين معًا: فكرة فتح مصر، وفكرة التدخل في الهند، فضلًا عن أنه قد أبرز من ناحية أخرى تلك الفكرة التي ظل شارل مجالون يرددها في تقاريره، وهي اعتبار فتح مصر بمثابة خطوة ممهدة للتدخل في الهند وطرد الإنجليز منها، والتمكن بفضل ذلك من القضاء على تجارتهم في الشرق.
وكان من أثر اتفاق شارل مجالون وتاليران في الرأي ومطالبتهما الحكومة بمحاولة فتح مصر باعتباره وسيلة ناجعة للاقتصاص من الإنجليز بطردهم من الهند؛ أن احتل موضوع غزو مصر مكانًا من تفكير حكومة الإدارة، على اعتبار أن إرسال حملة إلى هذه البلاد بات أمرًا من المحتمل وقوعه؛ إذ دلَّت الحوادث على أنه من المتعذر تنفيذ مشروعات حكومة الإدارة الأخرى التي سبق أن قطعت فيها هذه الحكومة برأي حاسم، كالموافقة على إرسال حملة إلى مالطا (منذ أواخر سبتمبر من العام الماضي)، وهي الحملة التي عُرفت باسم الحملة الصغيرة La Petite Expédition،٧٢ وكتدبير الانتقام من إنجلترا، وإرسال «الحملة الكبيرة» لغزو بلادها. على أنه لم يكد يعود بونابرت من رحلته التفتيشية في الشواطئ الشمالية، ولم تكد توافق حكومة الإدارة على مقترحاته في جلستَي ٢٤، ٢٥ فبراير ١٧٩٨م، حتى تبين لها بعد أيام قليلة أن الحملتين الصغيرة والكبيرة كلتيهما لا يمكن تنفيذهما. وكان مما قضى على مشروع الحملة الصغيرة وصول تقرير بوسيلج عن مالطا، كما قضى تقرير ديزيه عن رحلته التفتيشية في برست والشاطئ الشمالي على مشروع الحملة الكبيرة.
أمَّا بوسيلج فقد استطاع الذهاب إلى مالطا على الرغم من تلك الأوامر التي بعث بها بونابرت إلى أخيه يوسف السفير الفرنسي في روما وقتئذٍ لمنع بوسيلج من القيام بهذه الرحلة،٧٣ ولكن هذه الأوامر وصلت متأخرة، فبلغ بوسيلج «فالتا» في ٢٤ ديسمبر، ١٧٩٧م، و«أخذ يمهد لاحتلال الجزيرة»، ثم بعث عن نتائج مهمته تقريرًا ضافيًا إلى حكومة الإدارة من ميلان في ٨ فبراير ١٧٩٨م، فوصل التقرير بعد عودة بونابرت نفسه من رحلته التفتيشية إلى باريس بيومين أو ثلاثة أيام فحسب. ومع أنه كان من رأي بوسيلج أن تسرع فرنسا باحتلال مالطا، فقد وجد لزامًا عليه أن يحذر حكومة الإدارة من الاعتماد على أية مساعدة داخلية من جانب الفرسان إذا هي قررت الاستيلاء على الجزيرة. كما أن المالطيين أنفسهم سوف يلزمون خطة الحياد التام في أثناء الفتح؛ ذلك أن الفرسان الفرنسيين، ويبلغ عددهم نصف فرسان القديس يوحنا بالجزيرة، ما كان في وسعهم على الرغم من عطفهم الظاهر على فرنسا أن ينحازوا إلى جانب الجمهورية في مشروع سوف يقضي عند نجاحه على جماعة الفرسان بأسرها ويسلبهم موارد رزقهم. واقترح بوسيلج حلًّا لهذه المشكلة أن تعمد الجمهورية إلى استخدام الأساليب الدبلوماسية، كحمل البلاط الإسباني في مدريد على مصادرة أملاك الفرسان في إسبانيا، وإثارة الصعوبات في وجه هومبش رئيسهم، أو إقناع البابا بحل جماعة الفرسان، والاتفاق مع هومبش نفسه حتى يتنازل عن مالطا لقاء إعطائه جزيرة صغيرة أخرى في البحر الأبيض مدى الحياة. وفي خطاب بعث به إلى بونابرت طي تقريره وصف بوسيلج حال الأسطول الفرنسي الرابض في مياه كورفو بقيادة الأميرال برويس وصفًا لا يدع مجالًا للشك في أنه لا يمكن الاعتماد على هذا الأسطول في تنفيذ مشروع «الحملة الصغيرة».٧٤

وبعد أيام قليلة من وصول تقرير بوسيلج إلى باريس، اجتمع بونابرت بقواده الذين أرسلهم إلى الشواطئ الشمالية، وكان من أثر اجتماعه بالجنرال ديزيه على وجه الخصوص (في ٢٧ فبراير) أن زاد اقتناع بونابرت بأنه كان على حق عندما اعتقد أنه من المتعذر إرسال الحملة على إنجلترا من غير أن يسبق ذلك إصلاحات واستعدادات واسعة في الثغور الفرنسية. وهكذا أخفق مشروعا «الحملة الصغيرة» و«الحملة الكبيرة» معًا وفي وقت واحد، وتحتم على حكومة الإدارة أن تختار بين العمل ضد هانوفر وهامبورج، أو إرسال حملة إلى الليفانت، أو عقد السلام مع إنجلترا على نحو ما اقترح عليها بونابرت في تقريره. وفي جلستَي ١ و٢ مارس ١٧٩٨م ناقشت حكومة الإدارة هذه المشروعات الثلاثة.

ومع أن معرفة ما دار بهاتين الجلستين والجلسات التالية من مناقشات ما يزال متعذرًا، فالظاهر أن حكومة الإدارة ما لبثت أن انتهت منذ يوم ٥ مارس إلى تقرير إرسال الحملة على مصر؛ إذ من الثابت قطعًا أن بونابرت قدَّم في هذا اليوم نفسه إلى حكومة الإدارة مذكرة تحدث فيها بإسهاب عن وسائل تنفيذ مشروع «الاستيلاء على مالطا ومصر»، فذكر أنه يكفي للاستيلاء عليهما إرسال حملة من خمسة وعشرين ألف جندي من المشاة وحوالي ألفين أو ثلاثة آلاف من الفرسان، يُنقلون إلى الشواطئ المصرية من موانئ إيطاليا وفرنسا.٧٥ وكان في هذا اليوم نفسه أن صدر قرار حكومة الإدارة بإنجاز الاستعدادات العسكرية اللازمة وفق ما جاء في مذكرة بونابرت عن «الاستيلاء على مالطا وعلى مصر».٧٦ وقد كان لوصول الأخبار إلى باريس وقتئذٍ بنجاح القوات الفرنسية في برن وروما أثر حاسم في إقدام حكومة الإدارة على اتخاذ هذه الخطوة.٧٧
ذلك أنه ما كان يتيسر تجهيز الحملة المزمع إرسالها إلى مصر دون إنفاق الأموال الطائلة، وكانت حكومة الإدارة قد بدأت تشعر بالضائقة المالية خلال الحرب السابقة، على الرغم من أن البلدان المقهورة ظلت تتحمل وقتذاك نفقات جيوش الجمهورية، ولكن لم تكد الحرب تضع أوزارها وتتحطم المحالفة الدولية حتى زادت حدة الضائقة المالية، وظهرت هذه الصعوبات بصورة واضحة عند التفكير في غزو إنجلترا، حتى إن الكثيرين من الفرنسيين الذين عقدوا العزم على الانتقام من إنجلترا ما لبثوا أن صاروا يجمعون التبرعات للحكومة، وأصدرت الحكومة كذلك قرضًا أهليًّا، كما اتخذت قرارات عدة لمصادرة التجارة الإنجليزية.٧٨ غير أن ذلك كله لم يفد شيئًا في انفراج الأزمة، فلم يُجمع من التبرعات مال كثير، كما اكتتب القليلون فقط في القرض الأهلي، ولم تحصِّل الحكومة منه إلَّا ربع ما كانت تقدِّره، كما تعذر تنفيذ بعض قرارات مصادرة التجارة الإنجليزية. وكان إذن في هذه الظروف أن أشار بونابرت بالتدخل في شئون حكومتي برن السويسرية وروما البابوية، ووافقت حكومة الإدارة على أمل أن تحصل على أموال طائلة من الناحيتين نتيجة لهذا التدخل، وقويت الرغبة في التدخل خصوصًا بعد انقلاب ١٨ فركتيدور (٤ سبتمبر)، فاستطاع يوسف بونابرت — السفير الفرنسي في روما — أن يحرِّك فيها الاضطرابات ويستثير «الديمقراطيين» لمعارضة البابا بيوس السادس معارضة شديدة. وفي ٢٧ ديسمبر ١٧٩٧م علا صياح الثوار مطالبين بالجمهورية، وغادر السفير الفرنسي الفاتيكان، وصدرت الأوامر إلى الجنرال برتييه Berthier بالزحف على روما. وفي منتصف فبراير ١٧٩٨م أُعلنت الجمهورية الرومانية، واستولى الفرنسيون على نفائس الفاتيكان، كما جرَّدوا قصور النبلاء من نفائسها، ولم ينج من هذا التجريد غير تلك القصور التي دفع أصحابها أموالًا طائلة لإنقاذ ما يملكون، وسيطر الفرنسيون على مالية الحكومة البابوية. وكان الغرض من ذلك كله — على نحو ما يوضحه قول برتييه نفسه إلى بونابرت عند بدء الزحف على روما — إعداد المال اللازم ﻟ «جيش إنجلترا».٧٩
وكما كان الغرض من الزحف على روما الاستيلاء على النفائس وجمع الأموال، فقد كان الغرض من التدخل في سويسرا الحصول على المال كذلك، فقد استطاع بونابرت منذ نوفمبر ١٧٩٧م أن يعمل على تحريك الثورة والاضطراب في المقاطعات السويسرية بالاتفاق مع الزعماء «الديمقراطيين». وفي ٢٨ ديسمبر من العام نفسه قررت حكومة الإدارة التدخل في سويسرا بصورة حاسمة، فدخل الفرنسيون البلاد في أوائل العام التالي، واحتل الجنرال برون Brune عاصمتها برن في ٥ مارس عام ١٧٩٨م، فانحل اتحاد سويسرا الكونفدرائي، وأُعلنت الجمهورية، وحصَّل الفرنسيون أموالًا طائلة من المقاطعات المختلفة ورجال الدين وأفراد الشعب السويسري، حتى بلغ ما جمعوه أكثر من ثلاثة وعشرين مليونًا من الفرنكات، عدا القدر العظيم من المؤن والذخائر وعتاد الحرب.٨٠ وعلى ذلك فقد أمكن بفضل هذه الأموال التي حصلتها حكومة الإدارة من روما وسويسرا أن تقدم مطمئنة على تجهيز «جيش الشرق» المعد للنزول في مصر، فقد أرسل الفرنسيون كل ما عثروا عليه وخاصة في سويسرا من مؤن وذخائر وعتاد إلى طولون مباشرة، وذلك لاستخدامه في تموين «الحملة المصرية».

وقد حدث في أثناء ذلك كله أن آخر مشروعات الاستعمار — التي كانت ما تزال تشغل أذهان أعضاء الإدارة وهيئات حكومتها الأخرى — قد ظهر قصورها عن تحقيق أماني الفرنسيين ورغباتهم؛ ذلك أنه تعذَّر على اللجنة التي كلَّفها مجلس الخمسمائة بحث مشروع ودستروم أن توافق على الاستعمار في أفريقيا الغربية، بل إنها ما لبثت أن رفضت نهائيًّا هذا المشروع في ١٢ أبريل ١٧٩٨م، وفي اليوم الذي وصلت فيه اللجنة إلى هذا القرار الحاسم كانت حكومة الإدارة من جانبها قد وصلت هي الأخرى إلى رأي قاطع بصدد الاستعمار في مصر، فأصدرت في ١٢ أبريل ١٧٩٨م قرارها التاريخي بوضع «جيش الشرق» تحت قيادة بونابرت.

وكان هذا القرار يتألف من مقدمة وستِّ مواد،٨١ اشتملت المقدمة على الأسباب التي أقنعت حكومة الإدارة بإرسال الحملة على مصر لعقاب البكوات المماليك أصحاب السيطرة على الحكومة في مصر، والذين أنشئوا صلات ودية وثيقة مع الإنجليز، فأساءوا معاملة الفرنسيين ونهبوا أموالهم واعتدوا على أرواحهم، كما أنه لما كان الإنجليز قد استولوا بطريق الغدر والخيانة على رأس الرجاء الصالح، وجعلوا استخدام هذا الطريق متعذرًا على السفن الفرنسية، فقد بات من واجب حكومة الجمهورية أن تبحث عن طريق تجاري آخر. ونصَّت المادة الأولى على إعطاء بونابرت قيادة القوات البرية والبحرية اللازمة للاستيلاء على مصر، ثم طُلب إليه — في المادة الثانية — أن يطرد الإنجليز من ممتلكاتهم في الشرق أو في الجهات التي يستطيع الوصول إليها، وأن يقضي على مراكزهم التجارية في البحر الأحمر خاصة، كما طُلب إلى بونابرت — في المادة الثالثة — أن يشق قناة في برزخ السويس، وأن يبذل قصارى جهده حتى يبسط سلطان حكومة الجمهورية على البحر الأحمر، ونصت المادة الرابعة على أن يعمل قائد الحملة على تحسين أحوال أهل البلاد من المصريين، وطلبت إليه الحكومة في المادة الخامسة أن يعمل على الاحتفاظ بعلاقات الود والصداقة مع السلطان العثماني ورعاياه. ولمَّا كانت حكومة الإدارة تريد أن يظل أمر هذه الحملة سرًّا مكتومًا، فقد نصت المادة السادسة والأخيرة من أوامرها على أن تظل هذه الأوامر غير مطبوعة.
وقد صدر قرار آخر في نفس اليوم (١٢ أبريل) يتألف من مقدمة ومادتين،٨٢ بسطت المقدمة الأسباب التي أقنعت حكومة الإدارة كذلك بالاستيلاء على مالطا، وهي أسباب سبقت الإشارة إليها عند الكلام عن مسألة مالطا، ونصت مادتا هذا القرار على تكليف بونابرت بالقيام بمهمة احتلال الجزيرة، وبقاء هذه الأوامر غير مطبوعة محافظةً على سرِّية الحملة. على أنه مما يجدر ذكره أن حكومة الإدارة ما لبثت أن أصدرت في اليوم نفسه كذلك قرارًا أخيرًا (في ١٢ أبريل)٨٣ تركت فيه للقائد العام أمر الفصل نهائيًّا في مسألة احتلال مالطا، وذلك لخوفها من أن يؤدي الاهتمام باحتلال مالطا الذي اعتبرته هذه الحكومة جزءًا من مشروع الحملة الرئيسي إلى تعطيل حركة الجيش، ومنعه من تحقيق الغرض من إرساله وهو فتح مصر ذاتها والاستيلاء عليها.
غير أن صدور هذه القرارات لم يكن معناه وقتئذٍ أن بونابرت قد نبذ ظِهريًّا فكرة غزو الإنجليز في بلادهم، بل إنه كان ما يزال يعتقد ضرورة المضي في الاستعدادات اللازمة لتجهيز الحملة ضد إنجلترا ذاتها — أي الحملة الكبيرة — حتى إذا جاء الوقت الملائم استطاعت فرنسا أن تسيِّر هذه الحملة عليها. بل إن هناك ما يُثبت قطعًا أن بونابرت حين خروجه على رأس جيش الشرق إلى مصر كان يعقد آمالًا عظيمة على استطاعته العودة سريعًا من هذه البلاد حتى يتولى قيادة الحملة ضد إنجلترا، وآية ذلك تلك المذكرات التي بدأ يقدِّمها لحكومة الإدارة عقب صدور قرارها الأخير عن الحرب المزمعة ضد إنجلترا.٨٤
وكانت الاستعدادات قد بدأت لتجهيز الحملة المزمع إرسالها إلى مصر منذ أن وافقت حكومة الإدارة على مشروع بونابرت عن «الاستيلاء على مالطا وعلى مصر» في ٥ مارس، وقد سبق بيان كيف أُرسِلت الذخائر والمؤن وما إليها من عتاد الحرب الذي جمعه الفرنسيون في سويسرا إلى طولون، كما خصصت الأموال التي استولت عليها جيوشهم في برن للإنفاق على «الحملة المصرية». وفضلًا عن ذلك فقد عُهِد إلى بونابرت نفسه باختيار القوَّاد والضبَّاط والعلماء والمهندسين والجغرافيين ومن إليهم للذهاب معه في هذه الحملة، كما وضعت حكومة الإدارة الأميرال برويس وأسطوله تحت أوامره. وبذل بونابرت قصارى جهده لإنجاز استعداداته بسرعة، فألَّف لجنة كلَّفها بالتفتيش في الموانئ الإيطالية والفرنسية عن السفن الصالحة لنقل الجنود. وبدأ الجيش يجتمع في الشواطئ الجنوبية تحت اسم «الجناح الأيسر لجيش إنجلترا» تضليلًا للعدو، وطلب كثيرون من قوَّاد جيش الرين الانضواء تحت لواء بونابرت في هذه المغامرة الجديدة، وإن كانوا قد ظلوا يجهلون المكان الذي تقصده الحملة، فكان من بين الذين عرضوا خدماتهم بليار ومورا وكفاريلِّي وغيرهم. ومع أن برتييه اعتذر في أول الأمر عن قبول منصب رئيس هيئة أركان الحرب، فقد بادر هو الآخر بالذهاب إلى طولون، وطلب منو أن ينضم إلى الجيش وأجابه بونابرت إلى رغبته على نحو ما سبق ذكره، وظل الجنرال كليبر وحده لا يبدي اهتمامًا بما يحدث، وينشد العزلة بعيدًا عن هذا النشاط كله لعدم اطمئنانه من ناحية «المحامين» أعضاء حكومة الإدارة وحقده عليهم،٨٥ حتى إذا حضر يومًا لزيارة بونابرت، ووثق من استطاعة بونابرت أن يمنع هؤلاء «المحامين» من تعطيل الحملة التي اعتقد كليبر أن الغرض منها لم يكن سوى النزول في إنجلترا لغزوها؛ بادر بالموافقة على الذهاب معه.
واجتمعت السفن المعدَّة لنقل الجيش والمؤن والعتاد في موانئ طولون وجنوه وأجاكسيو وسيفيتا فيكيا تحت إشراف ديزيه Desaix   ودونزيلو Donzelot في سيفيتا فيكيا وبرجوي ديلييه Baraguey d’Hilliers في جنوة، وفوبوا Vaubois في أجاكسيو. واستطاع هؤلاء أن يجمعوا مدفعية كبيرة ونحو ألفين وخمسمائة فارس، وإن كان عدد الخيول التي جُهِّزت للإبحار مع الحملة لم يزد على ثلاثمائة على أمل أن يجد سائر الفرسان خيولًا عربية فيما بعد في مصر ذاتها.
أمَّا بونابرت فقد ظلَّ يشرف بنفسه على كل كبيرة وصغيرة من مقره في باريس، وكان أهم ما عُني به تنظيم الخدمة الطبية فعيَّن ديجنت Desgenettes رئيسًا لأطباء الحملة ولاري Larrey رئيسًا لجرَّاحيها، وعهد إليهما بتنظيم الخدمة الطبية واختيار الأطباء اللازمين لمرافقة «جيش الشرق» وتجهيز الأدوات الطبية والعقاقير وآلات الجراحة وما إليها وإعداد سفن المستشفيات. وفضلًا عن ذلك فقد أشرف بونابرت بنفسه على تأليف لجنة من العلماء عُرفت باسم «لجنة العلوم والفنون»، سوف يأتي الكلام عنها في حينه، فكلف بونابرت كلًّا من مونج وكفاريلِّي وبرتييه والجنرال أندريوسي Andréossy جمع العلماء والجغرافيين والفنانين والرسامين، كما كلَّف مارسيل Jean Joseph Marcel جمع كل ما يمكنه العثور عليه من حروف الطباعة العربية واليونانية في باريس، بل طلب إليه أيضًا أن يذهب إلى روما حتى يأتي بحروف مطبعة «البروبجاندا» الكاثوليكية، مقر الرسالات التبشيرية الأجنبية، وكان البابوات قد أسسوا «البروبجاندا» في القرن السابع عشر، غير أن بونابرت توفيرًا للوقت ما لبث أن كتب في ٧ أبريل ١٧٩٨م إلى مونج في روما أن يقوم بهذه المهمة.٨٦ ونشط العمل في باريس لصنع كل ما يحتاج إليه الرياضيون وعلماء الطبيعيات والكيمياء من أجهزة وأدوات.
وفي ٢٣ أبريل كان بونابرت على وشك مغادرة باريس إلى طولون عندما حدث فجأة أن وصلت الأخبار إلى باريس عن إهانة برنادوت Bernadotte السفير الفرنسي على يد بعض الجماهير الصاخبة في فينا، واضطراره إلى مغادرة العاصمة النمساوية، فخشيت حكومة الإدارة أن يؤدي هذا الحادث إلى فصم علاقاتها مع النمسا، فطلبت إلى بونابرت البقاء في باريس، كما أصدرت أوامرها بوقف إنزال الجنود إلى السفن في طولون، بل ورغبت في أن يذهب بونابرت نفسه إلى «رشتاد» ليطلب من النمسا ترضية عن هذه الإهانة، ولكن بونابرت رفض الذهاب إلى «رشتاد» ونصح بالتريث والتأني، ثم بادرت النمسا بالاعتذار عن الحادث، وهدأت الزوبعة، وغادر بونابرت باريس إلى طولون في ٣ مايو ١٧٩٨م فوصلها بعد ستة أيام تصحبه جوزفين زوجه، وفي معيته بوريين Bourienne سكرتيره.٨٧
ومنذ أواخر أبريل كان سائر كبار قوَّاد الحملة قد حضروا إلى مراكزهم، فكان رينييه Reynier في مرسيليا، ودوجا Dugua في طولون، وكليبر Kléber في سين Seine، وهي بلدة صغيرة قريبة من طولون. ثم كتب بونابرت إلى ديزيه وبرجوي ديلييه وفوبوا، لكي ينضموا بوحداتهم في سيفيتا فيكيا وجنوه وأجاكسيو إلى أسطول الحملة الذي تسلم الكونترأميرال برويس قيادته. وفي ١٩ مايو ١٧٩٨م خرجت الحملة من طولون، وفي الأيام التالية انضمت إليها سائر السفن التي حملت القوَّات المجهزة في جنوه وأجاكسيو، ثم انتظرت الحملة عند كورسيكا قوات ديزيه الخارجة من سيفيتا فيكيا، ولكن ديزيه خرج بقافلته رأسًا إلى شواطئ صقلية، ومنها إلى مالطا، وانتظر في مياهها وصول الحملة.
١  Savary II, 221.
٢  Bruce I, 202.
٣  الجبرتي ١: ٣٨٤، ٣٨٥.
٤  Volney I, 98.
٥  Bruce I, 105.
٦  الجبرتي ١: ٢٥٣.
٧  Savary II, 231.
٨  Savary II, 248-9.
٩  Lusignan 145–153.
١٠  Bruce I, 104-5; Savary II, 248-9.
١١  Delaporte 355–63; Savary II, 258–76.
١٢  الجبرتي ٢: ١١٢، ١١٣، ١١٦، ١١٧.
١٣  الجبرتي ٢: ٢٧٤-٢٧٥.
١٤  الجبرتي ٢: ٢٧٣، ٢٧٨، ٢٨٣.
١٥  Testa II, 17–73.
١٦  Bruce I, Appen. XXVII No. 17. Translation of Firman… pp. ccc-ccci.
١٧  Charles-Roux, Autour 68; Charles-Roux, L’Isthme I, 419-20.
١٨  Testa II, 76–82; Charles-Roux, Autour 172; Charles-Roux, L’Isthme I, An. 6, 7.
١٩  Charles-Roux, Autour 320–3.
٢٠  Charles-Roux, Origines 259–70.
٢١  Charles-Roux, Origines 271–78.
٢٢  شكري، ٦٨–٧٠.
٢٣  Mure-Memoire 646–50.
٢٤  Mure-Memoire 650–58.
٢٥  Ibid. 715–18; 721–32.
٢٦  Ibid. 732–35.
٢٧  Noradounghian I, 351–73; 377–86.
٢٨  Tott 113–76; Charles-Roux, Origines 83–90.
٢٩  Volney I, 7-8; 235.
٣٠  Ibid. 256-7.
٣١  Ibid. 345–445.
٣٢  Lokke-France… 174.
٣٣  Jonquière I, 28-29; Corresp. Napoléon. No. 2103; No. 2106.
٣٤  Jonquière I, 29-30.
٣٥  Jonquière I, 31-32; Corresp. Napol. No. 2195.
٣٦  Jonquière I, 35–38.
٣٧  Grenfell, 11-12.
٣٨  Reybaud III, 78-79 (Traité Définitif, 28 Nov. 1798).
٣٩  Corresp. No. 2676.
٤٠  Reybaud III, 77; Corresp. No. 2676.
٤١  Jonquière I, 35–7.
٤٢  Ibid. I, 37-38.
٤٣  Ibid. I, 39–41.
٤٤  Ibid. I, 35–7.
٤٥  Corresp. No. 2307.
٤٦  Corresp. No. 2306.
٤٧  Corresp. Inédite VII, 283–295; Corresp. Nos. 2303–2305.
٤٨  Jonquière I, 41.
٤٩  Wilson-Cam. Mod. His. Vol. VIII, 473–75.
٥٠  Corresp. Nos. 2414, 2415.
٥١  Charles-Roux, Origines, 307.
٥٢  Jonquière I, 172–6; Corresp. No. 2419.
٥٣  Marmont-Memoire I, 347.
٥٤  Jonquière I, 176.
٥٥  Jonquière I, 186; Corresp. No, 2421.
٥٦  Jonquière I, 184-5.
٥٧  Corresp. No. 2307.
٥٨  Magallon-Memoire, 205–224.
٥٩  Jonquière I, 154–168.
٦٠  Ibid. I, 154.
٦١  Rose-Cam. Mod. His. Vol. VIII, 596.
٦٢  Jonquière I, 154–8.
٦٣  Jonquière I, 158–160.
٦٤  Jonquière I, 160–162.
٦٥  Jonquière I, 162-163.
٦٦  Ibid. I, 164–166.
٦٧  Ibid. 165-166.
٦٨  Ibid. 166–168.
٦٩  Ibid. 168.
٧٠  Ibid. 169.
٧١  Charles-Roux. Origines, 320–22.
٧٢  Corresp. No. 2364.
٧٣  Jonquière I, 73.
٧٤  Ibid. 126–136.
٧٥  Jonquière I, 197–201; Corresp. No. 2426.
٧٦  Reybaud III, 30-31; Ader 5-6.
٧٧  Rose. loc. cit.
٧٨  Jonquière I, 83–6.
٧٩  Rose-Ibid. 638.
٨٠  Jonquière I, 87; Rose-Ibid. 639-40.
٨١  Jonquière I, 343-44; Corresp. Nos. 2491, 2495.
٨٢  Jonquière I, 344-5; Corresp. No. 2496.
٨٣  Jonquière I, 355 (Not 1); Corresp. No. 2497.
٨٤  Jonquière I, 350–2; Corresp. No. 2502.
٨٥  Reybaud III, 33.
٨٦  Corresp. No. 2479.
٨٧  Reybaud III, 32–40; 43.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥