الفصل الثالث

غزو مصر

الاستيلاء على مالطا

وصلت العمارة الفرنسية إلى شواطئ مالطا في ٩ يونيو ١٧٩٨م، فساد الرعب والارتباك أنحاء الجزيرة، وطلب بونابرت إلى هومبش رئيس الفرسان أن يأذن بدخول السفن إلى الميناء، ولكن هومبش رفض أن يسمح لأكثر من أربع سفن بالدخول اعتمادًا على أن مالطا كانت في سلام مع فرنسا، وأن قوانين الحياد ما كانت تبيح له أن يفعل غير ذلك، ثم عمد هومبش في الوقت نفسه إلى تهيئة سبل الدفاع عن الجزيرة، فاتخذ بونابرت من مسلك رئيس الفرسان ذريعة لغزو مالطا وإخضاعها، فأعدَّ إنذارًا اتَّهم فيه جماعة فرسان القديس يوحنا الأورشليمي بأنهم يمالئون الإنجليز أعداء الجمهورية، ويمدُّونهم بالمؤن، ويعمل ملاحوهم في سفنهم، بينما هم لا يقيمون وزنًا لأوامر حكومة الجمهورية.١ وبادر بونابرت بإنزال الجند إلى البر، وكلف الجنرال رينييه Reynier بالاستيلاء على جزيرتَي جوزو Gozo   وكومينو Cumino، كما كلَّف فوبوا ولان Lannes وديزيه ومارمون Marmont بغزو مالطا، فتقهقرت جموع المالطيين دون نظام إلى فالتا، ولم يبد هومبش أي اهتمام بالدفاع عن الجزيرة، بل ظل معتزلًا في سرايه حتى طلب إليه أهل الجزيرة في منتصف ليل ١٠ يونيو أن يسلِّم مالطا إلى الفرنسيين، وفي صبيحة اليوم التالي كان قد انقطع إطلاق المدافع من الحصون،٢ وفي ١٢ يونيو سلَّم الفرسان مالطا إلى بونابرت، وتنازلوا لفرنسا عن سيادتهم على الجزيرة، كما تنازلوا عن جميع أملاكهم في مالطا وجوزو وكومينو لقاء أن يتعهد الفرنسيون من جانبهم باستخدام نفوذهم في مؤتمر رشتاد Rastadt الذي ظل منعقدًا منذ نوفمبر من العام الماضي لتقرير السلام النهائي بين فرنسا والإمبراطورية؛ وذلك حتى ينال هومبش إمارة في ألمانيا تعويضًا له عن فقد مالطا، كما وعد الفرنسيون بتعويضه عن الأضرار التي لحقت بممتلكاته في الجزيرة، وبأن يدفعوا له معاشًا سنويًّا كبيرًا، وسمحوا بعودة الفرسان الفرنسيين إلى الوطن أو أن يظلُّوا بالجزيرة إذا شاءوا البقاء بها على أن يتمتعوا بحقوق المواطنين الفرنسيين.٣ وفي نفس اليوم الذي أُبرِم فيه هذا الاتفاق نزل بونابرت في مالطا ثم دخل عاصمتها في اليوم التالي.٤
وأقام بونابرت بهذه الجزيرة خمسة أيام، استطاع في أثنائها أن يضع لها دستورًا جديدًا، وينظِّم حكومتها، ويجري ترتيبات إدارية ومالية عدة على أنقاض «النظام القديم»، ووفق المبادئ والتعاليم التي نادت بها «الثورة الكبرى»، فأنقصت امتيازات الكنيسة، وحوَّلت أملاك الفرسان إلى أملاك أهلية، وأُلغي الرق كما أُلغيت محكمة التفتيش، وأُزيلت ألقاب النبل والشرف، وأُعيد تنظيم التعليم، وأُنشِئت المستشفيات، وأُعلِنت المساواة بين الأهالي أمام القانون.٥ وأمر بونابرت هومبش بمغادرة الجزيرة فأبحر إلى تريستا، كما طلب إلى فوبوا أن يرسل إلى المنفى في روما كلًّا من قنصلي إنجلترا وروسيا. وهكذا لم تمضِ أيام قلائل على نزول بونابرت في مالطا حتى كانت قد انحلت جماعة الفرسان بالجزيرة، واندمجت مالطا ذاتها في فرنسا اندماجًا كليًّا.٦

الوصول إلى مصر

وفي صبيحة يوم ١٩ يونيو غادرت الحملة مالطا في طريقها إلى الشواطئ المصرية بعد أن ترك بونابرت سانت جان دانجلي Saint Jean d’Angely قوميسيرًا فرنسيًّا عامًّا بالجزيرة، وترك الجنرال فوبوا مع أربعة آلاف رجل لحماية فالتا عاصمتها.٧ ولما كان بونابرت يخشى أن يفاجئ الأسطول الإنجليزي العمارة الفرنسية في أثناء سيرها فقد عمد إلى تغيير اتجاهه، وأبحر صوب كريت بدلًا من الإبحار مباشرةً صوب الإسكندرية، وفي مياه كريت علم بونابرت أن نلسن Nelson أمير البحر الإنجليزي كان لا يزال يجدُّ في أثره، فاستمرت العمارة في سيرها بكل سرعة إلى الإسكندرية، وما إن قربت من الشواطئ المصرية حتى أرسل بونابرت الفرقاطة جينون Junon في ٢٧ يونيو لتنقل إلى الفرنسيين بالإسكندرية أنباء وصول الحملة، وحتى تأتي بالقنصل الفرنسي من الثغر، فنجحت جينون في مهمتها، وأحضرت السيد مجالون الذي تولَّى أعمال القنصلية في الثغر بدلًا من شارل مجالون عمه، وأخبر مجالون بونابرت بأن أسطولًا إنجليزيًّا بقيادة نلسن زار الإسكندرية قبل ذلك بثلاثة أيام فقط، ثم غادرها للبحث عن العمارة الفرنسية في مياه أزمير، كما وصف الأخطار التي يتعرض لها «الإفرنج» بالمدينة بسبب تعصب الأهلين ضد المسيحيين.٨ وأزعجت هذه الأخبار بونابرت إذ خشي عودة نلسن إلى المياه المصرية، فقرر النزول إلى الشاطئ، وأذاع بين جنوده لأول مرة المكان الذي كانت تقصده الحملة، فطبعت مطبعة مارسيل على ظهر بارجة القيادة أوريان L’Orient منشورًا من القائد العام إلى جيشه في يوم ٣٠ يونيو عرف الجند منه على وجه التحقيق أن مصر هي هدفهم.٩
وفي أول يوليو أمر بونابرت بإنزال الجند إلى البر. وكانت العمارة قد رابطت بالقرب من مرابط وبرج العرب. وانتقل بونابرت من البارجة أوريان إلى سفينة صغيرة حتى يشرِف بنفسه على عملية نزول الجند. ولم يمنع الظلام الحالك وهبوب العواصف القوارب من نقل الجند إلى مرابط، وكانت حماسة الجند عظيمة. وكان الجنرال منو أول من لمست قدماه أرض مرابط، يتبعه القائدان بون Bon وكليبر، وبعد جهادٍ عنيف استمر ست ساعات تمكَّن جنود منو وبون وكليبر ورينييه وديزيه — وهم رؤساء أقسام الجيش الخمسة — من النزول إلى البرِّ، وما إن علم بونابرت في الساعة الواحدة من صباح اليوم التالي بأن الجيش المعد للزحف على الإسكندرية قد تم نقله إلى الشاطئ حتى نزل هو الآخر إلى البر، ولما كان قد أنهكه التعب فقد تدثر بمعطفه ونام على الرمال مدة ساعتين، وفي الساعة الثالثة صباحًا استعرض الجيش، وكان عدد الجنود الذين استطاعوا النزول حتى ذلك الوقت خمسة آلاف، منهم ألف من جند كليبر وألف وخمسمائة من جند بون وألفان وخمسمائة من جند منو تنقصهم المدفعية والخيول، ومع ذلك فقد أصدر بونابرت أوامره بالزحف على الإسكندرية، فزحف الجيش بحذاء الشاطئ، وكان منو يتولى قيادة الجناح الأيسر، وبون الجناح الأيمن، بينما تولى كليبر قيادة القلب، وفاجأ البدو وجماعة من المماليك مقدمة الجيش الزاحف، ولكنهم ما لبثوا أن ارتدوا سريعًا، وعند بزوغ الشمس كان الجيش قد بلغ الإسكندرية، وصمم حاكمها السيد محمد كُرَيِّم على مقاومة الفرنسيين والدفاع عنها.
ورتب بونابرت جيشه استعدادًا للهجوم على الإسكندرية، فكلَّف الجنرال منو الهجوم عليها من الجهة الغربية، بينما يقتحم الجنرال كليبر باب رشيد، ويزحف الجنرال بون صوب عمود السواري. وأبدى منو في أثناء الهجوم شجاعةً فائقةً، فكان في طليعة جنده الذين حاولوا اقتحام أسوارها وأُرغِم ثلاث مرات على الارتداد عنها، وأصيب بجراح عديدة، ولكنه كان لا يكاد يسقط من أعلى الأسوار حتى يعاود الكرَّة مرة أخرى، وأخيرًا نجح في اقتحامها، وأصيب الجنرال كليبر كذلك بجرح في جبهته، ولكن جنده سرعان ما اكتسحوا جموع الأهلين والإنكشارية والعربان الذين حضروا للدفاع عن المدينة، واستطاع بون ومارمون اقتحام باب رشيد،١٠ ومع ذلك فإنه ما إن اقتحم الفرنسيون الأسوار حتى «رجع أهل الثغر إلى التترس في البيوت والحيطان»١١ وصاروا يطلقون النار على الفرنسيين من النوافذ، وكاد بونابرت نفسه يصاب بطلق ناري في أحد شوارع المدينة الضيقة عند دخوله الإسكندرية، غير أن هذه المقاومة لم تستمر سوى ساعات قليلة.١٢

احتلال القاهرة

ولما كان كليبر ومنو لا يزالان يشكوان من جراحهما، فقد ترك بونابرت كليبر حاكمًا على الإسكندرية، كما قرر أن يعهد إلى الجنرال منو بالحكم في رشيد عند الاستيلاء عليها، وانتقلت قيادة جيشه إلى الجنرال فيال Vial. وفي مساء ٣ يوليو بدأ الزحف على القاهرة، فأرسل بونابرت دوجا للاستيلاء على رشيد، وإعداد حملة نيلية تسير في النيل حتى تلتقي عند الرحمانية بسائر الجيش الزاحف برًّا. كما أرسل بري Perrée مع أسطول صغير من المراكب الخفيفة إلى مصبِّ النهر للدخول في النيل عند استيلاء دوجا على رشيد. وبدأ الجيش زحفه في طريق الصحراء الشاق إلى القاهرة، فاجتمعت مختلف الفرق في دمنهور يوم ٧ يوليو، وفي هذا اليوم نفسه غادر بونابرت مع هيئة أركان حربه الإسكندرية، ثم استأنف الجيش زحفه من دمنهور إلى الرحمانية ثم إلى شبراخيت، وبالقرب من شبراخيت اشتبك الفرنسيون مع فرسان مراد بك في معركة حامية (١٣ يوليو) لم يلبث أن انهزم فيها مراد واضطر إلى التقهقر صوب القاهرة، وكان في هذه المعركة أن شكَّل بونابرت جيشه في هيئة مربعات خمسة حتى يدفع عنه غائلة فرسان المماليك،١٣ ثم واصل الجيش زحفه على القاهرة.
ولم يكن هذا الزحف «نزهة عسكرية»، بل لقي الجند في أثنائه شدائد وصعوبات كثيرة حتى سرت بينهم روح استياء خطيرة، وكان أشد الناقمين أولئك الذين رسخ اعتقادهم من ذلك الحين بأن فولني وسافاري وغيرهما من الرحَّالين الفرنسيين الذين زاروا هذه البلاد ووصفوا خصوبة أرضها، ووفرة خيراتها، واعتدال مناخها، وما كان بها من مدن جميلة؛ قد غرروا بمواطنيهم الذين صدقوا هذه الأكاذيب وآمنوا بها، فكان هذا الاستياء منشأ ذلك الانقسام الذي استفحل أمره فيما بعد بين أنصار الاستعمار في مصر والراغبين في الجلاء عنها، فأفصح كثيرون من ضباط الحملة عن هذا الاستياء، خصوصًا في تلك الخطابات التي بعثوا بها إلى ذويهم في فرنسا، ووقعت في أيدي أمراء البحر الإنجليز بعد ذلك، فكتب بواييه Boyer في ٢٨ يوليو أنه «لا يكاد الإنسان يخرج من الإسكندرية لاعتلاء النهر حتى يلقى صحراء قاحلة تنبسط رحابها أمامه كما تنبسط كف اليد، لا يعثر فيها المرءُ إلَّا على بئرٍ ملحة بعد أن يقطع كل مرة أربعة فراسخ أو خمسة، ومن السهل إدراك ما يكون عليه حال جيش يُرغَم على اجتياز المساحات الواسعة من الأرض المقفرة دون أن يجد الجند مأوى يلجئون إليه فرارًا من القيظ الشديد الذي لا يحتمله أحد. أمَّا الجنود فكان كل فرد منهم يحمل من المؤن ما يكفيه خمسة أيام بتمامها إلى جانب جرابه وكسائه. وكان الكساء رداء من الصوف الثقيل.

ولهذا لم يكد يواصل الجنود سيرهم ساعة واحدة فقط حتى أنهكهم القيظ، وشرعوا يتخلصون من أحمالهم الثقيلة بإلقاء مؤنهم، لا يفكرون إلَّا في يومهم فحسب، ولا يأبهون لما قد يصيبهم في غدهم، ثم استبد بهم الظمأ ونال منهم الجوع، فلم يجدوا ماءً يشربونه أو طعامًا يأكلونه، وهكذا تميز هذا الزحف بوقوع الكوارث الكثيرة، فسقط الجنود من الإعياء بسبب الحرِّ والعطش، وأطلق آخرون الرصاص على أدمغتهم يدفعهم إلى ذلك تأثرهم بما كانوا يشاهدونه من حال زملائهم، وألقى فريقٌ ثالث بأنفسهم وكل ما يحملون من عتاد وأسلحة في النيل فماتوا غرقًا، وتكررت هذه المآسي كل يومٍ من أيام هذا الزحف.

ومما يدعو للأسى حقًّا أن الجند خلال زحف استمر سبعة عشر يومًا ما كانوا يجدون خبزًا يأكلونه، بل اعتمدوا في غذائهم على الشمَّام والبطيخ وما كانوا يعثرون عليه من الدجاج وبعض الخضراوات، وشارك القوَّاد الجنود هذا النوع من الطعام، حتى إن بونابرت نفسه ما كان يستطيع في أكثر الأوقات أن يحصل على غير وجبة واحدة كل ثماني عشرة أو أربع وعشرين ساعة، لأن الجنود كانوا يسبقونه في الدخول إلى القرى ينهبون كل ما تصل إليه أيديهم، فلا يجد القائد العام عند حضوره شيئًا، ويضطر إلى الرضا بالقليل الذي يمكنه العثور عليه في هذه القرى.»١٤
وشكا غير بواييه كثيرون، وكان أهم ما أزعج هؤلاء على ما يبدو حرمانهم النبيذ، إذ منعهم بونابرت من شربه تنفيذًا لتلك السياسة الإسلامية التي صحَّ عزمه على اتباعها من اللحظة الأولى كما سيأتي ذكره، فاستبدَّ بهم العطش، وخدعهم سراب الصحراء فزاد في إيلامهم، وسقط كثيرون صرعى بفعل الشمس في رءوسهم، وجعل الهذيان فريقًا من الجند ينشدون التخلص من الحياة بإطلاق الرصاص على أنفسهم، وبذل الأطباء والجراحون، وعلى رأس هؤلاء الأخيرين لاري Larrey، قصارى جهدهم لإنقاذ هؤلاء البائسين، وعظم يأس القوَّاد، حتى بلغ من عظيم غيظهم أن ألقى دوماس Dumas   ولان Lannes   ومورا Murat بقبعاتهم على الرمال، وصاروا يعلنون سخطهم على حكومة الإدارة دون حرجٍ أو اكتراثٍ، ويتهمون جميعًا هذه الحكومة بأنها إنما أرسلتهم إلى مصر للتخلص منهم، وينعون على بونابرت أنه قبل أن يقع في حبالهم كما يفعل أيُّ صبيٍّ صغير.١٥

واعترف بونابرت نفسه بمبلغ ما تكبده الجنود من مشقات عظيمة في أثناء هذا الزحف المضني، حتى بات لا يزيدهم وعد قائدهم بالوصول إلى القاهرة بعد قليل إلا حزنًا وكآبةً. وكان مما زاد في صعوبات الجند الزاحفين أن العربان ظلوا يتعقبونهم؛ يقتلون الجنود المتخلفين، ويفاجئون الجيش بهجوم خاطف، الأمر الذي جعل بونابرت يعمد إلى تقسيم جيشه إلى خمسة مربعات، يتألف كل ضلع من ضلوعها من ستة صفوف، فاتخذ العلماء والجرحى ومن إليهم مكانهم وسط هذه المربعات، بينما وضعت المدفعية بينها، وقد احتفظ الجيش بهذا النظام حتى في أوقات راحته، وأفاد نظام المربعات في كسب موقعة شبراخيت.

وفي ١٩ يوليو وصل الفرنسيون إلى أم دينار على مسافة خمسة عشر ميلًا من بلدة الجيزة. وفي ٢١ يوليو اشتبكوا مع قوات المماليك بقيادة مراد بك في معركة إمبابة أو الأهرام الفاصلة،١٦ وحلت الهزيمة بمراد، فانسحب بفلول جيشه إلى الصعيد. أمَّا إبراهيم الذي وقف بجيشه على ضفة النيل اليمنى عند بولاق ولم يحرك ساكنًا للاشتراك في المعركة، فقد حمل أمواله ونفائسه وقصد مع جماعته إلى بلبيس في طريقه إلى الشام، وقد صحبه أبو بكر باشا نائب السلطان في حكم مصر. ولما كان البكوات قد تركوا القاهرة دون اتخاذ أي إجراء للدفاع عنها، فقد ساد الذعر وعمَّ الاضطراب القاهرة، وقرر المشايخ والعلماء تسليم المدينة، فأرسلوا الرسل إلى بونابرت — وكان لا يزال بالجيزة — يستفسرون عن مقاصد الفرنسيين، ويطلبون «أمانًا» منهم لبعث الطمأنينة في نفوس القاهريين، وأجاب بونابرت رغبتهم، فذهب المشايخ لمقابلته.١٧ وفي ٢٤ يوليو دخل بونابرت القاهرة بعد أن احتل جزء من الجيش مصر القديمة وبولاق والقاهرة ذاتها، ووقف ديزيه على مسافة فرسخين من الجيزة في طريق الصعيد، وأُرسلت القوات لحراسة طريق الشام.١٨ وفي ٢ أغسطس بدأت مطاردة الفرنسيين لقوات إبراهيم بك، وأرسل بونابرت الجنرال رينييه لتعزيز طلائع الجيش الزاحف في الشرقية بقيادة الجنرال لكليرك Leclerc فاحتلوا الخانكة، ثم قصد بونابرت نفسه إلى بلبيس فبلغها في يوم ٩ أغسطس ولكنه لم يجد بها إبراهيم بك الذي غادرها إلى الصالحية. وفي ١١ أغسطس اشتبك الفرنسيون مع إبراهيم بك في معركة بالقرب من الصالحية، فأظهر فرسان المماليك براعة وجسارة فائقة حتى كاد النصر يفلت من بونابرت لولا أن وصلت إليه النجدات سريعًا، وقد ساعده انشغال إبراهيم بردِّ اعتداء العربان على متاعه في إحراز نصر كلفه جهدًا بالغًا، فانسحب إبراهيم إلى سيناء، وعاد بونابرت إلى القاهرة. وفي أثناء عودته إلى القاهرة بلغه في ١٣ أغسطس نبأ تحطيم الأسطول الفرنسي في واقعة أبو قير البحرية.
وكان برويس قد أبحر بأسطوله من مياه الإسكندرية إلى أبو قير في ٧ يوليو، وذلك بعد أن أصرَّ بونابرت على استبقاء الأسطول في الشواطئ المصرية، ووجد برويس أنه من المتعذر على بوارجه دخول ميناء الإسكندرية القديم. وفي خليج أبو قير فاجأه نلسن أمير البحر الإنجليزي الذي ظل يبحث عن العمارة الفرنسية في البحر الأبيض، بعد أن سبقها في الدخول إلى الإسكندرية في الظروف التي وصفها مجالون لبونابرت عند وصول الأسطول الفرنسي إلى الشواطئ المصرية، فأنزل بالفرنسيين هزيمة بالغة يوم أول أغسطس ١٧٩٨م،١٩ وكان لهذه المعركة نتائج خطيرة.

ذلك أن تحطيم أسطول برويس في أبو قير كبَّد البحرية الفرنسية خسارة جسيمة، وقضى على كل أمل في إمكان إحياء هذه البحرية التي كانت قد ضعفت ضعفًا كبيرًا في أثناء الحروب الأخيرة في المياه الأوروبية وفي المياه الأمريكية وفي مياه الهند الغربية خاصة، فظل الإنجليز أصحاب السيطرة في البحار، وكان من أثر تأييد سلطانهم في البحر الأبيض المتوسط — بعد أن حطَّموا أسطول برويس — أن فرضوا حصارًا شديدًا على الشواطئ المصرية حتى بات من المتعذر تمامًا على فرنسا أن ترسل النجدات؛ العتاد الحربي أو أية إمدادات أخرى إلى جيش الشرق في مصر، ولم يسع الفرنسيون حينئذٍ إلا أن يعتمدوا اعتمادًا كليًّا في تدبير شئونهم وسد حاجات حملتهم في هذه البلاد على موارد القطر الداخلية وحدها، وكان لذلك أكبر الأثر في تلك السياسة الإسلامية الوطنية التي أرشد إليها تاليران في تقريره إلى حكومة الإدارة (في ١٣ فبراير ١٧٨٩م)، ووطد بونابرت العزم على اتباعها، وكان غرضها استمالة المصريين إلى تأييد الحكم الفرنسي، وإقناعهم بأن الفرنسيين ما حضروا إلى بلادهم إلى ليعدلوا بينهم ويهيئوا لهم سبل العيش السعيد، فلا يشعر المصريون أنهم إنما استبدلوا بحكم البكوات المماليك حكمًا لا يقل عنه ظلمًا وعدوانًا أو قد يفوقه في شروره وآثامه. فأصبح غرض هذه السياسة الإسلامية الوطنية الآن توفير أسباب الحياة للفرنسيين أنفسهم، وترويض المصريين بشتَّى الأساليب على قبول حكم أجنبي عنهم لم يكن هناك مندوحة عن أن يسبب لهم إرهاقًا عظيمًا، فثاروا ضده، وتعسف الفرنسيون معهم تعسفًا شديدًا، وساءت العلاقات بين المصريين والفرنسيين حتى انعدم كل أمل في حدوث أي «تفاهم» بين الفريقين، أو إمكان تعاون أهل البلاد مع حكَّامهم الجدد على الرغم من كل تلك الأساليب التي ابتكرها بونابرت عند «تطبيق» سياسته الإسلامية الوطنية في مصر.

واستندت سياسة بونابرت الإسلامية الوطنية إلى قواعد ثلاث: احترام الدين الإسلامي، والمحافظة على تقاليد أهل البلاد وعاداتهم الدينية، وانتزاع المصريين من أحضان الخلافة العثمانية ببذر بذور التفرقة بين المصريين والعثمانيين، والقيام بدعاية واسعة بين الشعوب الإسلامية في الأقطار المجاورة لإظهار مبلغ احترام الفرنسيين للدين الإسلامي والمسلمين، ولإقناع كبار حكَّامهم بأن إنشاء صلات الود والصداقة مع الفرنسيين في مصر، واستئناف النشاط التجاري بين بلادهم وبين مصر سوف يعود بفوائد كبيرة على هؤلاء الحكَّام، وأخيرًا إنشاء حكومة وطنية لتكون أداة تمكِّنه من معرفة رغبات المصريين، والوقوف على حقيقة نياتهم وآرائهم، ويتخذ منها وسيلة لإذاعة أوامره وتحقيق مآربه بصورة تضمن استقرار الحكم الجديد وعدم انتقاض المصريين عليه. وقد كانت هذه ولا شك وسائل تدل على الحكمة وأصالة الرأي، ولم يكن ثم مناص من نجاحها في دعم أركان المستعمرة الجديدة لو أن بونابرت نفسه وقادة الحملة من بعده وسائر الفرنسيين عرفوا كيف يسلكون الطريق السوي في علاقاتهم مع المصريين، أو أن هؤلاء المصريين قد بلغوا من قصر النظر وقلة الدراية حدًّا يسدل ستارًا كثيفًا على أعينهم حتى يصدِّقوا دعاوى الفرنسيين العريضة ويؤمنوا بها.

وكان لبونابرت عند مجيئه إلى هذه البلاد آراء قاطعة في «الإسلام» بوصفه دينًا وعقيدةً وقوة لها أثرها في سير الحضارة ونموها، فقد اهتم قبل حضوره إلى مصر بدراسة كتاب الله الحكيم وسيرة نبيه الكريم وتاريخ العرب، ومع أنه قد تحدث كثيرًا عن احترامه للدين الإسلامي، ثم حاول بطرق شتى أن يلقي في روع المصريين أنه قد اتخذ الإسلام دينًا، فمن الثابت قطعًا أن بونابرت لم يشهر إسلامه على نحو ما فعل منو مثلًا، بل إنه وهو ابن الثورة الفرنسية الكبرى ما كان يؤمن بدينٍ من الأديان، ولم يبلغ في يوم من الأيام تغلغل العقيدة الدينية في نفسه مهما كان نوع هذه العقيدة درجة قد تحدث تأثيرًا ظاهرًا في سياسته، أو يمكن لإنسان أن يعزو إليها تلك السياسة الإسلامية الوطنية التي قرر اتباعها في مصر، بل إن بونابرت كان يسترشد في سياسته الإسلامية هذه باعتبارات سياسة عملية فحسب.٢٠ وآية ذلك أنه عندما انهدم كل أمل لديه في إمكان الاتفاق مع العثمانيين، وانحاز هؤلاء إلى جانب أعدائه في الحرب ضده، واضطر إلى تسيير حملته على الشام حتى يشن الغارة عليهم في أقرب أقطارهم إلى مصر، قبل أن يبدءوا هم بغزو هذه البلاد؛ فكَّر بونابرت في أن يتخذ من «إحياء الإسلام» وسيلة لانتزاع مصر وبلاد العرب من أحضان الخلافة العثمانية، حتى يعتمد في ذلك على مركزين هامين من مراكز الإسلام، هما القاهرة ومكة: القاهرة حيث يوجد بها الجامع الأزهر — أو جامعة السربون الأزهرية تشبيهًا بجامعة السربون في باريس — فالقاهرة لذلك مركز علمي وديني معًا، ومكة مقر العلوم الإسلامية الدينية البحتة. وعقد بونابرت آمالًا كبيرة على استطاعة الإسلام أن يستمد من هذين المركزين قوة جديدة، تكفل له الإصلاح على ضوء تلك العلوم الحديثة التي انتظر بونابرت أن يفضي نشاط علماء الحملة الفرنسية إلى ذيوعها نتيجة لانتشار ألوية الحضارة في هذه البلاد من جهة، ثم انضواء الأقطار المجاورة تحت ألوية هذه الحضارة من جهة أخرى.٢١
وقد بدأ بونابرت يتخذ العدة لتنفيذ سياسته الوطنية الإسلامية وهو لا يزال على ظهر أوريان بارجة القيادة، فأصدر منشورًا إلى جنده في ٢٢ يونيو ١٧٨٩م٢٢ يوضِّح لهم عقائد الشعوب التي سوف يعيشون بينها، فقال إن المصريين شعب إسلامي، ينطق بالشهادتين، ويجب ألا يخطئ الفرنسيون عقائدهم، بل عليهم أن يسلكوا معهم نفس الطريق التي سلكوها مع شعوب اليهود والطليان من قبل، فيحترموا أئمة المسلمين وكبار علمائهم، كما احترموا حاخامي اليهود وأساقفة المسيحيين، وأن يظهروا لهم جانب التسامح في أعيادهم التي يذكرها كتابهم، وأن يحترموا جوامعهم كما احترموا دور عبادة اليهود والمسيحيين.

وأظهر بونابرت لجنوده أن المصريين يسلكون مع المرأة مسلكًا يختلف عمَّا يفعله الفرنسيون، وذكرهم بأن من يقدم على اغتصاب امرأة إنما هو سفاحٌ زنيم لا في نظر المصريين فحسب بل وفي نظر أهل بلاد العالم قاطبة. ثم نهاهم عن النهب والسلب؛ ذلك أن قليلين قد يثرون بسببه، بينما يفقد سائر الفرنسيين شرفهم وتسوء سمعتهم، فيتخذهم المصريون أعداءً لهم، ويزول كل أمل في استمالتهم، فيلحق الأذى بمصلحة الفرنسيين ذاتها، فضلًا عمَّا سوف يحدث نتيجة للنهب والسلب من القضاء على موارد البلاد، وحرمان الفرنسيين الانتفاع بها.

وكما رسم بونابرت خطوط تلك السياسة الإسلامية الوطنية التي وطَّد العزم على اتباعها في مصر، فقد شرع يعد الخطة لتوضيح معالم تلك السياسة للمصريين أنفسهم، رجاء استمالتهم إلى جانب حكومته، فأعدَّ منشورًا طبعه مارسيل على ظهر البارجة أوريان، وأذاعه بونابرت عند دخوله الإسكندرية في ٢ يوليو ١٧٩٨م،٢٣ تحدَّث فيه بونابرت عن سبب قدومه لغزو بلادهم؛ وذلك حتى «يخلص أهالي مصر جميعهم» من طغيان البكوات المماليك «الذين يتسلطون في البلاد المصرية، يتعاملون بالذل والاحتقار في حق الملة الفرنساوية، ويظلمون تجَّارها بأنواع الإيذاء والتعدِّي.» ولما كان يريد أن يفصل بين المصريين والبكوات، فقد أشار بونابرت في منشوره إلى أن «زمرة المماليك كانوا مجلوبين من بلاد الأبازة والجراكسة، ومع ذلك فقد ظلوا من زمان مديد … يفسدون في الإقليم الحسن الأحسن، الذي لا يوجد في كرة الأرض كلها مثيل له حتى ساد الفساد، وأقفرت البلاد من تلك المدن العظيمة التي زيَّنتها في الأزمان الغابرة، وانسدت الترع، وانطمرت الخلجان الواسعة، وكسدت التجارة، وزال المتجر المتكاثر، وما أزال ذلك كله إلا الظلم والطمع من المماليك الذين نبذوا طاعة السلطان العثماني، بل إن هؤلاء لم يطيعوا السلطان أصلًا إلا لطمع أنفسهم.»

وقد كشف هذا المنشور عن مبلغ ما بذله بونابرت من عناية وجهد في تفهم نفسية تلك الشعوب التي جاء لغزو بلادها وعقليتها، كما أشار بجلاء ووضوح إلى القواعد العامة التي اعتزم بونابرت أن يبني عليها صرح سياسته الإسلامية الوطنية. وعلى ذلك فقد حرص على إظهار إسلامه وإسلام جنده، فبدأ منشوره بالشهادتين، وأكَّد اعتناقه الدين الإسلامي، فدفع عن نفسه ما قد يلصقه به أعداؤه من تهمة القدوم إلى هذه البلاد حتى يزيل دين أهلها بأنه «أكثر من المماليك يعبد الله سبحانه وتعالى، ويحترم نبيه والقرآن العظيم»، وشرع يسوق الأدلة والبراهين على صحة دعواه، وعلى أن «الفرنساوية هم أيضًا مسلمون مخلصون»، فقال: «إنهم قد نزلوا في رومية الكبرى، وخرَّبوا فيها كرسي البابا الذي كان دائمًا يحثُّ النصارى على محاربة الإسلام، ثم قصدوا جزيرة مالطا وطردوا منها الكوالِّرية (فرسان القديس يوحنا الأورشليمي) الذين كانوا يزعمون أن الله تعالى يطلب منهم مقاتلة المسلمين.»

وقد وجد بونابرت مبررًا لزوال ملك البكوات في اعتقاد المسلمين أن الأمور مرهونة بأوقاتها، وأن المولى سبحانه وتعالى قد قدَّر ما يصيب الإنسان في الأزل، وأن الناس عند الله تعالى سواسية لا يفضل بعضهم بعضًا إلا بالحكمة، وحسن السريرة، والتمسك بأهداب الدين وشعائره.

فقال يفسر زوال سلطان المماليك: «فأمَّا رب العالمين القادر على كل شيء، فإنه قد حكم بانقضاء دولتهم … فحضر الآن ساعة عقوبتهم.»

وقال يظهر فساد حكومتهم، وافتقار هذه الحكومة إلى سند تعتمد عليه في بقائها وفرض سيطرتها الغاشمة على المصريين: «إن جميع الناس متساوون عند الله، وإن الشيء الذي يفرقهم عن بعضهم هو العقل والفضائل والعلوم فقط، وبين المماليك والعاقل والفضائل تضارب، فماذا يميزهم عن غيرهم حتى يستوجبوا أن يتملكوا مصر وحدهم، ويختصوا بكل شيءٍ أحسن فيها من الجواري الحسان، والخيل العتاق، والمساكن المفرحة؟ فإن كانت الأرض المصرية التزامًا للمماليك فليرونا الحجة التي كتبها الله لهم، ولكن رب العالمين رءوفٌ وعادلٌ وحليمٌ.»

ولما كان البكوات قد استأثروا بشئون البلاد، وأبعدوا المصريين عن مناصب الحكم، وحرموهم الاستمتاع بكل ما تضفيه هذه المناصب على شاغليها من مظاهر السيادة؛ فقد رسم بونابرت صورة لتلك الحكومة الوطنية التي اعتزم إنشاءها في مصر، تضم بين أعضائها نخبة من كبار المصريين وأفاضلهم، يعملون على إسعاد أهل البلاد قاطبة، فقال: «ولكن بعونه تعالى من الآن فصاعدًا لا ييئس أحدٌ من أهالي مصر عن الدخول في المناصب السامية، وعن اكتساب المراتب العالية، فالعلماء والفضلاء والعقلاء بينهم سيدبرون الأمور، وبذلك يصلح حال الأمة كلها.»

على أن بونابرت الذي أدرك قيمة تلك الروابط التاريخية والدينية التي جمعت بين المصريين والعثمانيين تحت لواء الخلافة العامة، ما كان يرضى أن يظهر في غزوه هذه البلاد بمظهر المعتدي على حقوق السلطان العثماني، فبات يهمه إقناع المصريين بأن الفرنسيين أصدقاء للسلطان العثماني، وأنهم لا يفكرون قط في مناصبة الباب العالي العداء، فقال: «ومع ذلك، الفرنساوية في كل وقت من الأوقات صاروا محبين مخلصين لحضرة السلطان العثماني وأعداء أعدائه، أدام الله ملكه.»

وفضلًا عن ذلك فقد كان تمسك بونابرت بصداقة الباب العالي من المبادئ التي قررها تاليران في تقريره المعروف (١٣ فبراير ١٧٩٨م)، واسترشد بونابرت بها في سياسته العامة نحو تركيا، حتى يمنع هذه الدولة من إعلان الحرب عليه والانضمام إلى أعدائه. وقد اختتم بونابرت هذا المنشور بدعوة المصريين إلى الهدوء والسكينة، كما حذَّرهم الانحياز إلى جانب المماليك في النضال المنتظر أو مقاومة الفرنسيين.

ورغب بونابرت في إزالة ما قد يجول في أذهان المصريين أنه إنما جاء إلى هذه البلاد وقد أعلن الحرب على السلطان العثماني، وبيَّت النية على الغدر به والاعتداء على حقوقه، فطلب إلى «كل قرية تطيع العسكر الفرنساوي، وتنصب علم الفرنساوية، الذي هو أبيض وكحلي وأحمر، أن تنصب كذلك صنجاق السلطان العثماني محبنا دام بقاؤه!»

ثم أوجز غرضه من إصدار هذا المنشور عندما نصَّ في طلبه الأخير على أن: «الواجب على المشايخ والعلماء والقضاة والأئمة أن يلازموا وظائفهم، وعلى كل أحدٍ من أهالي البلد أن يبقى في مسكنه مطمئنًّا، وكذلك تكون الصلاة قائمة في الجوامع على العادة، والمصريون بأجمعهم ينبغي أن يشكروا الله سبحانه وتعالى لانقضاء دولة المماليك، قائلين بصوت عالٍ: أدام الله إجلال السلطان العثماني، أدام الله إجلال العسكر الفرنساوي، لعن الله المماليك، وأصلح حال الأمة المصرية!»٢٤
ومنذ أن دان له الحكم في القاهرة حرص بونابرت على توصية قوَّاده وضبَّاطه ورجال المملكة عمومًا في القاهرة والأقاليم أن يظهروا على الدوام احترامهم العظيم لعقيدة أهل البلاد وشعائر دينهم وتقاليدهم. وفضلًا عن ذلك فقد رأى بونابرت — في مناسبات عدة — أن يظهر هذا الاحترام بصورة واضحة، اعتقد واعتقد كثيرون غيره أن من شأنها إقناع المصريين بصدق دعاوى حكَّامهم الجدد. وواتت الفرص بونابرت بعد أسابيع قليلة من دخولها القاهرة للاشتراك مع المصريين في احتفالاتهم «القومية»، وأعيادهم الدينية، فترأس مهرجان قطع الخليج، وأقام الاحتفال بالمولد النبوي،٢٥ وطلب إلى الجنرال مارمون Marmont في ٢٢ أغسطس ١٧٩٨م أن يزور الشيخ المصري لمناسبة الاحتفال بالمولد النبوي ويبسط له القول عن اجتماعه بالعلماء والمشايخ في القاهرة، وعن اقتناعه العظيم بقدسية دين محمد — صلوات الله عليه — وطهره.٢٦ ونشرت صحيفة لوكورييه دوليجبت بأول أعدادها وصفًا رائعًا لهذا الاحتفال، وبعث بونابرت بهذه الصحيفة إلى كليبر حاكم الإسكندرية، حتى يطبع من هذا الوصف بعد ترجمته نسخًا عدةً يذيعها في جميع بلاد الشرق.٢٧
وواقع الأمر أن بونابرت كان يعتمد اعتمادًا كبيرًا على إذاعة أخبار احتفائه بهذه الأعياد الدينية لكسب محبة المصريين واستمالتهم إلى تأييد حكومته، حتى إنه ما لبث أن طلب إلى الحكام الفرنسيين من مختلف مديريات القطر أن يوزِّعوا منشوراتٍ عدةً بين أهل البلاد تحمل إليهم أنباء احتفاله بالمولد النبوي في عام ١٢١٤ﻫ «عندما استمع القائد العام لقصة المولد، ثم أقبل على الصلاة يحف به كبار المشايخ»،٢٨ واحتفل الفرنسيون بالموالد الأخرى، وبأول أيام شهر الصوم، وفي أول سبتمبر سنة ١٧٩٨م أقيم الاحتفال بتعيين أمير الحج.

على أن هذه الاحتفالات لم تُحدث الأثر الذي انتظره الفرنسيون منها في استمالة المصريين إليهم على نحو ما سنوضحه في الفصول التالية، وكأنما قد تبين لبونابرت أنه لا يكفي أن يحتفل الفرنسيون بهذه الأعياد أو أن يقولوا إنهم مسلمون حتى يصدق الناس دعاواهم، بل إن ترديد هذا القول من شأنه أن يجعل المصريين يسيئون الظن بهم ويشكُّون في نياتهم، ما دامت هذه المظاهر والأقوال مفتقرة إلى ما يؤيدها من واقع الدين وحقائقه، وبخاصة عندما ظل الفرنسيون يشربون الخمر وقد حرَّم الإسلام شربه، ويعرف أهل البلاد أنهم كسائر النصارى لم يختنهم أحد. ولذلك فقد بذل بونابرت قصارى جهده حتى يحمل علماء الأزهر على تفسير كتاب الله الكريم «بما يتفق ومصلحة جنده»، وأن يصدروا فتوى تجيز للفرنسيين اعتناق الإسلام على الرغم من عقبتي الخمر والختان، وتدعو الناس إلى أن يقسموا يمين الطاعة والولاء للقائد الفرنسي، حتى يستند سلطانه بفضل ذلك على أساس شرعي في مصر. ومع أن أئمة المذاهب الأربعة أصرُّوا على تحريم الخمر، فقد أفتوا بجواز إسلام الجند الفرنسيين على الرغم من أنهم لم يُختنوا، وأعلن بونابرت ذلك في الجوامع، ثم ما لبثوا بعد ذلك أن جاءوا بفتوى أخرى تخفف شيئًا من قيود حرمة الخمر في حالات خاصة وتجيز إسلام الفرنسيين.

وبادر بونابرت بإعلان هذه النتيجة السارة من أعلى المآذن،٢٩ غير أن شيوخ الأزهر وسائر المصريين ظلُّوا على الرغم من هذه الفتوى لا يصدِّقون ادعاءات بونابرت، ويعتقدون أن بونابرت وجيشه ليسوا سوى كفرة.
ومع ذلك فقد ثابر بونابرت على سياسته الإسلامية الوطنية، وكان من وسائله محاولة فصم تلك العلاقات الدينية، التي ظلت تربط بين المصريين والعثمانيين من أزمنة قديمة، وبعث آمال المصريين في نصرة الإسلام، وإقناعهم بأن الإسلام في وسعه أن يكسب قوة جديدة إذا نهضت القاهرة نهوضًا يرقى بها إلى مصاف المراكز الدينية الهامة في العالم الإسلامي، فتشغل إلى جانب مكة المكرمة مكان الزعامة في هذا العالم، على أن يتم ذلك كله بالتعاون بينهم وبين الفرنسيين. وعلى ذلك فإنه ما إن ساءت علاقة بونابرت بالسلطان العثماني وانضمت تركيا إلى جانب الإنجليز والروس في إعلان الحرب ضد فرنسا على أثر تحطيم أسطول برويس في معركة أبو قير البحرية خاصةً؛ حتى شرع بونابرت يبذر بذور التفرقة بين المصريين والعثمانيين، ويظهر السلطان العثماني في صورة من أصبح لا يهتم بمصلحة الإسلام ولا يحرص على الشريعة المحمدية. وكان من دعاواه في ذلك أن السلطان ظل متمسكًا بعلاقات الود والصداقة مع فرنسا طالما كانت هذه أمة عريقة في مسيحيتها، حتى إذا تبدلت الأحوال بها وأضحى الفرنسيون أكثر عطفًا على الإسلام والمسلمين، وأقرب ميلًا إلى تفهم العقيدة الإسلامية؛ نبذ السلطان صداقتهم، فإذا كان ذلك مسلك الأتراك مع هذه الدولة الصديقة التي ظلت على ولائها لهم من قديم الزمن، فإن هؤلاء ولا شكَّ سوف يعجزون عن المحافظة على تراث الإسلام، ولا مفرَّ من أن تقتسم الدول المسيحية، وفي مقدمتها روسيا وألمانيا، أملاك العثمانيين الإسلامية فيما بينها.٣٠
وتحدَّث بونابرت إلى العلماء والمشايخ (الذين تألف منهم ديوان القاهرة) عن عقائد هؤلاء الحلفاء الجدد، الذين فضَّلهم السلطان على فرنسا، فقال إن الروس يعتقدون بوجود آلهة ثلاثة، بينما يؤمن الفرنسيون بوجود إله واحد فحسب هو إله المجد والنصر الذي بعث ببونابرت نفسه إلى هذه البلاد، ليقضي على الفوضى المنتشرة بها ويوطِّد فيها دعائم النظام والعدالة.٣١ وقد وضَّح بونابرت (في كتاب له إلى الشيخ المصري) أسس تلك الحكومة التي أراد إنشاءها في مصر منفصلة عن الخلافة العثمانية، فقال إنه يرجو أن يحين الوقت سريعًا للتشاور مع علماء المصريين ومشايخهم وأهل الذكر منهم في سبيل إنشاء نظام حكومي موحَّد يستند في أحكامه إلى القرآن الكريم، ويسترشد بما جاء في كتاب الله العزيز من مبادئ وأسباب تحقق سعادة البشر.٣٢ ثم حرص بونابرت على إظهار نياته ورغبته الصادقة في إحياء قوة الإسلام، وما يكنُّه من محبةٍ للمسلمين وعطفٍ عليهم، وابتعاده عن كل ما يؤذيهم في عقائدهم؛ فشرع يوفد الرسل ويكتب الكتب إلى أمراء المسلمين وحكَّامهم في الأقطار المجاورة لمصر، وهي أقطار كانت ولا تزال منضوية تحت لواء الخلافة وتدخل في صورة من الصور في نطاق الإمبراطورية العثمانية، فطلب إلى المواطن بوفوازان Beauvoisins أن يذهب إلى يافا لمقابلة أحمد باشا الجزار صاحب عكا، حتى يدفع ما كان يتهمه به أعداؤه من الرغبة في الاستيلاء على بيت المقدس وهدم دين الإسلام الحنيف، فيؤكد للجزَّار باشا صداقة الفرنسيين وأنهم لا يبغون استرقاق المسلمين، بل يريدون على العكس من ذلك تحريرهم وخلاصهم.٣٣
وكتب بونابرت إلى حاكم درنة وإلى حاكم طرابلس يطلب عقد أواصر المحبة والصداقة معهما،٣٤ وفعل مثل ذلك مع إمام مسقط،٣٥ وطلب إلى الإمام علاوة على ذلك أن يبعث بهذه الأخبار إلى تبو صاحب، ثم كتب بونابرت إلى تبو صاحب يخبره بعزمه على طرد الإنجليز من الهند،٣٦ وأرسل الكتب إلى شريف مكة٣٧ لتوطيد العلاقات التجارية كذلك بين مصر وبلاد العرب والهند، ثم إلى عبد الرحمن الرشيد سلطان دارفور يستميله إليه، ويعده بتأمين القوافل القادمة من دارفور إلى مصر للتجارة، ويطلب إليه إرسال ألفين من العبيد الأشدَّاء،٣٨ وفضلًا عن ذلك فقد استكتب أعضاء ديوان القاهرة رسالة إلى شريف مكة في أول سبتمبر ١٧٩٨م تحدَّث فيها أعضاء الديوان عن الجهود التي بذلها بونابرت لتأمين طريق الحج، وأثنوا على سياسته، وذكروا اهتمامه البالغ بأعياد المصريين الإسلامية والقومية، واشتراكه في الاحتفالات والمهرجانات التي حرص على إقامتها في مناسبات هذه الأعياد جميعها.٣٩
ولما كان السلطان العثماني — وهو خليفة المسلمين — قد أصبح عاجزًا عن الاضطلاع بأعباء مهام منصبه الدينية منذ انحيازه إلى جانب أعداء الفرنسيين، ومغادرة نائبيه مصر؛ فقد عمد بونابرت إلى نقل تلك الوظائف الدينية التي كان يقوم بها هؤلاء باسم السلطان (والخليفة) إلى العلماء والمشايخ المصريين، كما اضطلع هو الآخر بنصيبٍ منها على غرار ما فعل عندما ترأس الاحتفال بحلول شهر الصوم المبارك عام ١٢١٣ هجرية، فكتب إلى حكومة الإدارة في ١٠ فبراير ١٧٩٩م أنه قد احتفل بهذا اليوم احتفالًا فخمًا «وقام بالوظائف التي كان يقوم بها الباشا العثماني في هذه المناسبة.»٤٠ وعندما خرج القاضي العثماني إلى الشام، قرر بونابرت أن «يجتمع علماء المسلمين ويختاروا باتفاقهم قاضيًا شرعيًّا من علماء مصر وعقلائهم لأجل موافقة القرآن العظيم باتِّباع سبيل المؤمنين … على أن يكون لابسًا من عندي، وجالسًا في المحكمة، كما كان يفعل الخلفاء في العصر الأول، باختيار جميع المؤمنين.»
وطلب إلى أعضاء الديوان أن يخبروا أهل مصر أنه «انقضت وفرغت دولة العثمانلي من أقاليم مصر، وبطلت أحكامها منها، (وأن يخبروهم) أن حكم العثمانلي (وهم أصحاب الخلافة) أشدُّ تعبًا من حكم الملوك المستبدين، والذين لا تربطهم أواصر الخلافة بشعوبهم كسلاطين آل عثمان، أو لا تقيِّدهم أحكام الدستور على غرار الجمهورية الفرنسية ذاتها، بل كان العثمانيون أكثر ظلمًا من هؤلاء الملوك، والعاقل يعرف أن علماء مصر لهم عقل وتدبير وكفاية وأهلية للأحكام الشرعية، يصلحون للقضاء أكثر من غيرهم في سائر الأقاليم.»٤١
وفي أمر أصدره بونابرت ينقل إلى الحكام الفرنسيين في المديريات نبأ اختيار الشيخ العريشي، الذي أجمعت كلمة العلماء على اختياره للقضاء في مصر؛ طلب إليهم أن يبيِّنوا لأهل البلاد أن حكومة العثمانيين قد زالت أيامها من مصر، وأن تعاليم القرآن الكريم لا تقر بحال أن يحضر «العثمانلي» من القسطنطينية ليقوموا بالقضاء في بلد لا يفهمون لغة أهله. وفضلًا عن ذلك فإن إستانبول ذاتها لم يدخل فيها الإسلام ويعتنق أهلها العقيدة المحمدية إلَّا بعد أن كان قد مضى على وفاة الرسول ثلاثة أو أربعة قرون، بل إنه لو عاد النبي الكريم نفسه إلى الأرض مرة ثانية لما ظهر بها ولما اتخذ مقامه بين أهلها، ولنزل حتمًا بأرض القاهرة المقدسة وعلى ضفاف النيل. أمَّا زعيم العالم الإسلامي اليوم فهو شريف مكة صديق الفرنسيين، ولا جدال في أن علماء القاهرة قد أضحوا وحدهم أهل العلم دون سائر الناس، ولا يعارض إنسان في أنهم أكبر العلماء إطلاقًا في أقطار الإمبراطورية العثمانية جميعها.٤٢
وحاول بونابرت اختيار أعضاء الديوان الذي أراد إنشاءه في مصر من بين هؤلاء العلماء، تحقيقًا لأهم أغراض سياسته الإسلامية الوطنية، وذلك بإقامة نوع من الحكم يشرِك العناصر الوطنية إشراكًا محدودًا مفيدًا في إدارة شئون البلاد إلى جانب الحكَّام الفرنسيين، وتحت إشراف هؤلاء الحكام وسيطرتهم التامة؛ وذلك لضمان استقرار الأمن والنظام في مصر،٤٣ بفضل استمالة الرؤساء الدينيين وانحيازهم إلى تأييد الحكم الفرنسي، حتى يتسنَّى له الاستفادة مما كان يستمتع به هؤلاء من نفوذ واسع لإقناع المصريين بالرضا بحكومة الفرنسيين، وحملهم على الخضوع لسلطانهم، والإخلاد إلى السكينة، والابتعاد عن المقاومة. فقد أراد بونابرت أن يستعين بنفوذ هؤلاء العلماء والمشايخ الذين قرر أن يشكل دواوينه منهم — سواء في القاهرة أم في الأقاليم — على تفهم آراء المصريين ومعرفة مطالبهم ورغباتهم، كما أراد أن يتخذ من أعضاء الدواوين أداة تمكِّنه من إنجاز المشروعات التي صحَّ عزم الفرنسيين على تنفيذها، وذلك دون حدوث اصطدام بينهم وبين الأهالي.
وغنيٌّ عن البيان أن بونابرت كان يستهدف من وراء ذلك كله التفاهم مع المصريين، واستمالتهم إليه من أجل توطيد سيطرة الفرنسيين في مستعمرتهم الجديدة، ولو أن كثيرين يزعمون — اعتمادًا على ما جاء في بعض أقوال بونابرت نفسه — أن غرض قائد الحملة الأعلى كان إنشاء إدارة وطنية أهلية، و«تمصير» أداة الحكومة بصورة تكفل تدريب المصريين على الاضطلاع بأعباء الحكم في بلادهم؛ فإن هذه كانت مزاعم عريضة ولا يقرها الواقع، على نحو ما سيأتي ذكره مفصلًا فيما بعد. وكما يدل تأليف ديوان القاهرة من جهة — وهو أهم هذه الدواوين — وكما يتضح من معرفة الأعمال التي اضطلع بها أعضاء هذا الديوان من جهة أخرى؛ فقد صدر أمر بونابرت بتأسيس ديوان القاهرة في ٢٥ يوليو ١٧٩٨م،٤٤ وصار يتألف من عشرة أعضاء مصريين هم: الشيخ عبد الله الشرقاوي رئيسًا، والشيخ خليل البكري والشيخ مصطفى الصاوي بوصفهما نائبَي رئيس، والشيخ محمد المهدي سكرتيرًا، والشيخ سليمان الفيومي والشيخ موسى السرسي والشيخ مصطفى الدمنهوري والشيخ أحمد العريشي والشيخ يوسف الشبراخيتي والشيخ محمد الدواخلي أعضاء. كما ضمَّ الديوان إليه ممثلين عن جالية الإفرنج في هذه البلاد ثلاثة من الأوروبيين هم كاف Caffe   وولمار Wolmar   وبودوف Baudeuf، وعين مونج Monge قومسييرًا فرنسيًّا، وكُلِّف بالإشراف على أعمال الديوان، فلم يكن أعضاؤه من المصريين وحدهم.
ولما كان الغرض من تأليف هذا الديوان المعاونة على استقرار النظام واستتباب الأمن والهدوء في القاهرة، فقد بحث الديوان في أولى جلساته الإجراءات التي يجب اتخاذها لتحقيق ذلك، وأسفر البحث عن صدور قرار بوضع الأختام على بيوت المماليك، كما قرَّ الرأي على إعطاء الأمان لكبار القاهريين حتى يطمئنوا إلى الإقامة بالعاصمة.٤٥ وفضلًا عن ذلك فقد وافق الديوان على تعيين «محمد أغا المسلماني أغات مستحفظان، وعلي أغا الشعراوي والي الشرطة، وحسن أغا محرم أمين احتساب.» وظاهرٌ من رواية الشيخ الجبرتي أن الفرنسيين أنفسهم هم الذين أشاروا بتعيينهم، واضطر أعضاء الديوان إلى الإذعان بعد أن «كانوا ممتنعين عن تقليد المناصب لجنس المماليك، (فعرَّفهم الفرنسيون) أن سوقة مصر لا يخافون إلَّا من الأتراك ولا يحكمهم سواهم، وهؤلاء المذكورون من بقايا البيوت القديمة الذين لا يتجاسرون على الظلم كغيرهم، كما قلَّدوا ذا الفقار كتخدا محمد بيك كتخدا بونابرته.»٤٦ وكان المسئول عن اختيار هؤلاء الأربعة الذين تتألف منهم في الحقيقة إدارة شئون الشرطة في المدينة وملاحظة الأمن والنظام فنتور Venture كبير التراجمة، ومجالون Magallon الذي قام بأعمال القنصلية الفرنسية نائبًا عن عمِّه وقابل بونابرت في عرض البحر قبل النزول إلى الشواطئ المصرية، وبودوف Baudeuf أحد تجَّار مرسيليا وعضو الديوان،٤٧ «وحضر ذلك المجلس أيضًا مصطفى كتخدا بكر باشا والقاضي»، «ومن أرباب المشورة الخواجا موسى.»
وفي ٢٧ يوليو ١٧٩٨م صدر أمر بونابرت بإنشاء دواوين في الأقاليم على غرار ديوان القاهرة،٤٨ فيكون لكل مديرية ديوان من سبعة أعضاء. وأوضح بونابرت الغرض من إنشاء دواوين الأقاليم، فقال إن مهمة أعضائها السهر على مصالح أقاليمهم المختلفة، فيعرضون على ديوانهم ما قد يصلهم من شكاوى الأهلين، ويمنعون وقوع اعتداء القرى بعضها على بعض، ويراقبون الأفراد من أصحاب السمعة السيئة، ويوقعون عليهم ما قد يستحقونه من عقوبة، مستعينين في ذلك إذا لزم الأمر بالجنود الفرنسيين. وطلب بونابرت كذلك تعيين أغا للإنكشارية على رأس قوة من الأهالي مهمته المحافظة على الهدوء والسكينة، والعمل على استتباب الأمن واستقرار النظام، على أن يُفصل في كل ما يتصل بشئون وظائفه بحاكم الإقليم الفرنسي. وفضلًا عن ذلك فقد طلب بونابرت إلى أعضاء دواوين الأقاليم أن يقوموا بتبصير الأهالي بما يعود بالفائدة عليهم ويحفظ صوالحهم؛ أي إرشادهم وبذل النصح لهم لتلبية مطالب الإدارة الفرنسية والابتعاد عن مقاومة الفرنسيين، أمَّا هذه المطالب فكانت تأدية الضرائب ودفع الميري.

وواقع الأمر أن أهم ما كان يُعنى به بونابرت إلى جانب استقرار الهدوء والسكينة، تنظيم مالية البلاد بصورة تضمن استغلال مواردها وتحصيل إيراداتها، فنصَّ أمر تشكيل دواوين الأقاليم على تعيين «مباشر» في كل مديرية من مديريات القطر لجباية الميري وأموال الضرائب وإيرادات أملاك المماليك التي صادرتها حكومة الجمهورية الفرنسية، وقد عُيِّن وكلاء فرنسيون إلى جانب هؤلاء المباشرين، لمراقبة هذه الشئون جميعها. ولم يكن تعويد المصريين حكم أنفسهم ما يهدف إليه بونابرت من هذا النظام الذي استنه لإدارة الحكومة الإقليمية.

واستقر رأي بونابرت على أن ينشئ في القاهرة «ديوانًا عامًّا» يجمع مندوبين عن ديوان القاهرة ودواوين الأقاليم؛ وذلك حتى يستعين بهم في تنظيم شئون القضاء وحقوق الملكية وطرق توريثها وتحديد الضرائب وجبايتها واستقرار الحكومة الإقليمية،٤٩ كل ذلك على نحو يمنع الاصطدام مع تعاليم القوم الدينية وتقاليدهم وعاداتهم، فيستخدم العلماء والأئمة وأصحاب المكانة من أعضاء هذا الديوان العام الذين حرص بونابرت على اختيارهم من بين الذين اشتهروا بالعلم والكفاءة، وعُرف عنهم حسن استقبالهم للفرنسيين؛ في تجنب كل ما قد يستثير شعور المصريين الديني إذا هو اتخذ في هذه المسائل الشائكة قرارًا قد يتعارض مع عقائدهم وتقاليدهم دون موافقة أئمتهم وعلمائهم، يحمله على ذلك الاعتقاد أن المصريين لن يحرِّكوا ساكنًا، أو يقوموا بالثورة ضد حكَّامهم الجدد إذا هم اطمأنوا إلى أن هؤلاء لا يبغون التعرض لعقائدهم الدينية وتقاليدهم وعاداتهم القديمة، فيظفر بونابرت على الأقل بوقوفهم موقف الحياد والتسامح من حكومته، وانصرافهم إلى شئونهم تاركين الأمور تجري في أعنَّتها، لا يزعجهم انتقال مقاليد الحكم من يد جماعة إلى أخرى.
وعلى ذلك فقد صدر أمر بونابرت في ٤ سبتمبر سنة ١٧٩٨م باجتماع الديوان في القاهرة،٥٠ وعندما حضر مندوبو دواوين الأقاليم إلى القاهرة صدر أمر بونابرت بتأسيس الديوان العام في ٣ أكتوبر،٥١ ثم كلَّف مونج وبرتوليه Berthollet القومسييرين الفرنسيين في هذا الديوان أن يسألا أعضاءه الرأي في مسائل القضاء والملكية والإرث والضرائب ونظام تأليف دواوين الأقاليم. وعقد الديوان العام أولى جلساته يوم ٥ أكتوبر سنة ١٧٩٨م، وعرض مونج وبرتوليه مشروعات الحكومة على أعضائه الذين كان من حقهم فقط إبداء الرأي والنصيحة في هذه المسائل التي أراد بونابرت الاستنارة بآرائهم فيها. وقد استمر الديوان العام يعقد جلساته حتى يوم ٢٠ أكتوبر، وقد وصل الأعضاء في كل هذه المسائل إلى حلول أرضت السلطات الفرنسية، ما عدا المسائل المالية فقد استلزمت مناقشات طويلة، ولم يُعط الديوان فرصة البت فيها. وكان الاختلاف على هذه المسائل أهم أسباب تلك الثورة التي فوجئ بها الفرنسيون في القاهرة يوم ٢١ أكتوبر.
ذلك أن المصريين لم يصدقوا ادعاء بونابرت الإسلام، ولم يفلح في استمالة المصريين إلى تأييد حكومته على الرغم مما بذله من جهود كبيرة في هذا السبيل. وفضلًا عن ذلك فقد تضافرت عوامل عدة لتحريك هذه الثورة، وسوف يأتي ذكرها مفصَّلًا عند الكلام على آثار الحملة الاجتماعية والسياسية، وقد أوجزها المعلم نقولا التركي في قوله:٥٢ «إنه بعد أن مكثت الفرنساوية في المملكة المصرية مقدار ثلاثة أشهر، كان المسلمون يظنُّون أن تُورَد لهم الأوامر من الدولة العثمانية بتقريرهم على المملكة، حسبما كانوا يشيعون أنهم حضروا إلى مصر بإرادة السلطان سليم، وكانوا يوعدونهم في وزير إلى القلعة السلطانية من طرف الدولة العثمانية، وقد كان يخبر أمير الجيوش بقدوم عبد الله باشا العظم من الشام إلى مصر وأعدَّ له منزلًا لينزل به وأمر بتدبيره وفرشه، وإذ مضت المدة المعينة ولم يحضر أحد، فتسبب من قبل ذلك أسباب كثيرة للنفور وإبداع الفتن والشرور؛ من قتل السيد محمد كريم لأنه كان أحد الأشراف، ومن ورود المكاتيب من الأمراء المصريين بالاستنهاض إلى أهل تلك الأقاليم، وكتابات أحمد باشا الجزَّار إلى البلدان المصرية واستنهاضهم على الفرنساوية، وإن قادم عليهم العساكر العثمانية، ثم قيام أهالي بر دمياط، والحوادث التي بدتها العرب والفلاحين، وعفو الفرنساوية عنهم وعدم القصاص لهم. وقد كان الفرنساوية يخرجون النساء والبنات المسلمات مكشوفات الوجوه في الطرقات، ثم اشتهار شرب الخمر وبيعه إلى العسكر، ثم هدم جوامع ومنارات في بركة الأزبكية لأجل توسيع الطرقات لمشي العربانات. وكان المسلمون يتنفسون الصُّعَداء من صميم القلوب، ويستعظمون هذه الخطوب، وصاحوا: لقد آن أوان القيام على هؤلاء الليام، فهذا وقت الانتصار إلى الإسلام، فشعر أمير الجيوش بما في ضمائرهم وما أكتموه في سرائرهم، فأبرز أمرًا لسائر حكَّام الخطوط بأن كلًّا منهم يأمر بخلع الأبواب المركبة في الشوارع، وفي يوم واحد خُلِعَت تلك الأبواب العظام، وبعضها أُحرِقت بالنيران. فركِب أمير الجيوش وأخذ معه المهندسين ومنهم الجنرال كفرال (كفاريلِّي) الملقب «أبو خشبة» لأنه كانت رجله الواحدة مقطوعة من ساقه، ومصطنع له رجل من خشب، فهذا الجنرال كان أعظم المهندسين في مملكة الفرنساوية. وبدأ أمير الجيوش يجول بهذا الجنرال على سائر الأماكن التي حول دائرة مصر، وغرس على رأس كل مكان بيرقًا إشارة لبناية القلع، فإذا شاهدت الإسلام هذا الاهتمام تحركت للقيام.»
على أن المعلم نقولا التركي عندما عرض أسباب هذه الثورة أغفل أقوى البواعث الداعية إليها، عندما أثقلت مطالب الفرنسيين المالية كاهل المصريين، وتذرع بونابرت بشتَّى الوسائل لجمع الأموال سواء أكان ذلك بفرض الغرامات ومصادرة الأملاك وتحصيل الضرائب أم نتيجة لتلك التنظيمات الإدارية المستحدثة التي لم يجد المصريون في وجودها إلَّا وسيلة لابتزاز المال منهم وتجريدهم من مقتنياتهم وأملاكهم، وتضييق سبيل الكسب والعيش في وجوههم؛ وذلك بأن الفرنسيين الذين أُرغِموا إرغامًا على الاعتماد في تدبير شئونهم وسد مطالبهم على موارد البلاد وثروتها بعد تحطيم أسطولهم في أبو قير وانعدام كل رجاء في وصول الإمدادات إليهم من فرنسا؛ ما لبثوا أن وجدوا أنفسهم منساقين إلى ابتكار الوسائل التي تمكِّنهم من جمع المال فحسب دون تفكير فيما قد تؤدي إليه أساليبهم «المالية» من إثارة كوامن الحقد ضدهم وتأليب المصريين ودفعهم إلى الثورة عليهم. بل إن الفرنسيين كانوا قد بدءوا يجمعون المال منذ أن وطئت أقدامهم أرض مصر وقبل أن تنزل بهم كارثة أبو قير، فكلَّف بونابرت غداة وصوله الإسكندرية كلًّا من مجالون وبوسيلج أن يجمعا عشرين من تجار الإسكندرية الأثرياء حتى «يبيعا» لهم سبائك من الذهب والفضة كان بونابرت قد أحضرها معه لقاء ثلاثمائة ألف فرنك٥٣ ذهبًا، وفي نفس اليوم (٦ يوليو) طلب بونابرت من القائمين على شئون جمرك الإسكندرية أن يدفعوا مائة وخمسين ألف فرنك من حساب الجمارك.٥٤ وكان من الوسائل التي اعتمد عليها في الحصول على المال بكل سرعة أنه أعطى حق التزام جمرك القاهرة ومصادر الإيرادات القانونية إلى الأفراد عندما قدر مجالون أن هذا الالتزام سوف يأتي بأموال طائلة.
وفضلًا عن ذلك فقد اتخذ بونابرت إجراءات سريعة لمصادرة أموال البكوات المماليك وأتباعهم في أنحاء البلاد، فأصدر أمرًا في ٧ يوليو بتشكيل لجنة في كل مديرية لوضع الأختام على أملاك المماليك وأملاك أعداء الفرنسيين،٥٥ كما كان من واجب هذه اللجنة السهر على تحصيل الضرائب من مباشرة وغير مباشرة بكل دقة.٥٦ ثم أصدر عقب دخوله القاهرة أوامره المشددة (في ٢٧ يوليو) إلى رشيد والإسكندرية والجيزة وقليوب لمصادرة أملاك المماليك، والاستيلاء على مقتنياتهم.٥٧ وقد شهدنا عند صدور الأمر بتشكيل دواوين الأقاليم كيف أن بونابرت أمر كذلك بوجود مندوب فرنسي للإشراف على تحصيل الميري وضرائب الأطيان، وتحصيل جميع الإيرادات التي كانت من نصيب المماليك، ثم صارت الآن من حق الجمهورية الفرنسية.٥٨ ثم حتَّم بونابرت في اليوم نفسه على جميع الأفراد الذين كانوا قد انتهزوا فرصة الاضطرابات التي حدثت في القاهرة عند هزيمة البكوات ودخول الفرنسيين القاهرة فنهبوا دور البكوات، أن يقدموا كل ما كان بأيديهم من هذه المنهوبات إلى مخازن الحكومة.٥٩ ثم شكَّل بونابرت لجنة لتحديد قيمة الضريبة التي طلب من كل سيدة من زوجات المماليك أن تدفعها لقاء السماح لها بالبقاء في القاهرة والاحتفاظ بمقتنيات زوجها.٦٠
وتوالى فرض الغرامات وتحصيل الإتاوات بعد ذلك، فأرغم بونابرت (في ٣٠ يوليو) كبار تجَّار الإسكندرية أن يدفعوا ثلاثمائة ألف فرنك ذهبًا، بعد استنزال ثلاثين ألف فرنك كان كليبر قد أخذها منهم قبل ذلك، وأُمهِلوا يومًا واحدًا لسداد هذا المبلغ.٦١ وفي نفس اليوم طلب إلى السيد محمد كريم أن يدفع غرامة قدرها ثلاثمائة ألف فرنك، وأمهله خمسة أيام لسدادها وإلَّا «فصل رأسه»، ولمَّا لم يدفع السيد محمد كريم هذه الغرامة اتُّهِم بالخيانة، وأُمهِل ثمانية أيام أخرى وأُنقِص المبلغ إلى ثلاثين ألفًا ولكن كريم لم يدفع، فأُعدِم في ٥ سبتمبر ١٧٩٨م.٦٢ كذلك طلب إلى أهل رشيد أن يدفعوا غرامة قدرها مائة ألف فرنك وأُمهلوا يومين لسدادها، وقدم أهل دمياط مائة وخمسين ألفًا.٦٣ وفضلًا عن ذلك فقد طلب بونابرت المال من التجار، فحصَّل من تجار الحرير مبلغًا كبيرًا من الريالات النمساوية، كما طلب إلى تجار خان الخليلي أن يدفعوا ثلاثة عشر ألف ريال، وأرغم الأقباط على دفع مبلغ كبير.٦٤
وما إن دخل بونابرت القاهرة حتى عمد إلى تنظيم «الضربخانة» أو دار سك النقود التي وجدها بها، ثم كلف الكيمائي برتوليه بحث تحويل الريالات النمساوية المصنوعة من الفضة إلى عملة «الميدي» المصنوعة من المعدن الرخيص، والتحقق من مقدار الربح الذي يمكن أن تجنيه الحكومة من هذه العملية، وكان قد بلغ بونابرت أن تحويل الريالات إلى هذه العملة الصغيرة يأتيه بما يبلغ ثلث قيمة الريالات المستبدلة ربحًا صافيًا، ولمَّا كان بونابرت قد أرغم تجار الإسكندرية — كما سبق القول — على «شراء» جزء من سبائك الذهب والفضة التي أحضرها معه؛ فقد قرر الآن استرجاع هذه السبائك ممن ذهبت إلى أيديهم، وتحويلها مع ما وجده من «عملة جيدة» بالقاهرة إلى عملة الميدي الرخيصة،٦٥ وطلب إلى كليبر حاكم الإسكندرية أن يجمع هذه السبائك التي سبق إعطاؤها إلى تجار الثغر في نظير أن ينال هؤلاء ما يساوي قيمتها عينًا من المحصولات والغلَّات الزراعية كالأرز والقمح.٦٦
ولمَّا كان قد اجتمع لدى الفرنسيين بفضل هذه الإجراءات الصارمة كميات كبيرة من السبائك والحُلِيِّ والنقود الذهبية والفضية، إلى جانب الشيء الكثير من مقتنيات البكوات المماليك وأتباعهم و«أعداء الجمهورية»؛ فقد عمد الفرنسيون إلى التخلص من الأمتعة والفرش والأثاث النفيس وما إلى ذلك، فأنشأ بونابرت «شركة تجارية» لتصريف ذلك كله في الأسواق المحلية (المصرية) وفي الأسواق الخارجية (الأوروبية) — إذا استطاع ذلك — فازدحمت أسواق القاهرة والمدن الكبيرة بسنِّ الفيل والحرير والمجوهرات والحلي المصنوعة من الذهب والماس والساعات ذات الرقَّاص وغير ذلك من النفائس التي جمعها الفرنسيون من بيوت المماليك وكبار المصريين في القاهرة وبولاق ومصر العتيقة بصفة خاصة، وأرغموا الأهالي على تسليمها في نظير «أذونات» يصرفونها من الضربخانة في أجلٍ معين لم يكن يقل عادةً عن ثلاثة شهور.٦٧
وقد أسفرت المناقشات التي دارت في الديوان العام بصدد تنظيم شئون القضاء وحقوق الملكية ومسائل التوريث وتحديد الضرائب وجبايتها وما إلى ذلك؛ عن صدور عدة أوامر في هذه الموضوعات، فصدر في ١٠ سبتمبر ١٧٩٨م أمر بإنشاء محكمة تجارية في هذه المدن بعد تزكية من مدير الشئون المالية، على أن تقوم بأعمالها دون مقابل، وحُدِّدَت الرسوم التي يدفعها أصحاب القضايا باثنين في المائة من المبالغ المحكوم بها.٦٨ وفي ١٦ سبتمبر ١٧٩٨م صدر أمر بإنشاء مكتب في كل مديرية لتسجيل مستندات التمليك وجميع المستندات التي يُحتمل أن تصبِح موضع نزاع قضائي، وذلك في نظير تحصيل رسوم عليها بنسبة قيمتها. ونصَّ هذا الأمر على أنه لا يمكن الاعتراف بممتلكات الأشخاص التي لم يسبق تسجيلها، واعتبار كل ما كان غير مسجل من الممتلكات الأخرى أملاكًا أهلية، وأمهل أصحاب هذه الممتلكات شهرًا واحدًا لتسجيلها في مدينة القاهرة وشهرين في مديريات القطر، فإذا لم يسجِّلها أصحابها في بحر هذه المدة أصبحت من نصيب الجمهورية الفرنسية. وقد نصَّ هذا الأمر كذلك على ضرورة تسجيل الوصايا وعقود التخارج والقسمة بين الورثة في مدة عشرة أيام من تاريخ تحريرها، واشتمل هذا الأمر على تفصيلات وافية عن «تعريفة التسجيل»، فتراوحت الرسوم بين ٢٪ و٥٪، هذا عدا تحديد فئات معينة من الرسوم المحصلة على شهادات الميلاد والعرائض وتنفيذ الأحكام والحجز وقسائم الطلاق وما إلى ذلك.٦٩ ثم صدر في اليوم نفسه أمر آخر ألزم كل فرد من أصحاب المهن أو الأعمال — مهما كان نوعها — بأن يحصل على ترخيص من إدارة التسجيلات حتى يتسنَّى له تأدية عمله، وعليه أن يجدِّد هذا الترخيص سنويًّا، ويشتمل هذا الأمر على فئات الرسوم التي تُدفع لقاء الحصول على هذه «التراخيص»، سواء أكان طالبوها من التجَّار أم الصنَّاع أم النسَّاج أم البنَّائين وغيرهم، وقد تراوحت هذه الرسوم بين عشرة ريالات ومائتين وخمسين ريالًا.٧٠
وعندما عجز كثيرون من تجار الحرير والبن، ومن الأقباط، وكذلك نساء المماليك وزوجة مراد بك خصوصًا، عن دفع الغرامات المطلوبة في أوقاتها، عاد بونابرت فأصدر أمره إلى بوسيلج (مدير الشئون المالية) في ٢١ سبتمبر مشدِّدًا عليه بضرورة ملاحظة سداد هذه الأموال بكل سرعة بسبب الحاجة الملحة إليها.٧١ و«بسبب هذه الحاجة الملحة» إلى المال أصدر بونابرت عدة أوامر في المدة التالية لتشكيل اللجان وتنظيم الإدارة المالية عمومًا، واتخاذ ما يكفل جمع الضرائب والأموال بسرعة، وذلك كي يتسنى لخزانة الحملة أن تحصل على الموارد التي تستطيع بها أن تسد حاجات الجيش ونفقات الإدارة،٧٢ من ذلك أن بونابرت أصدر أمرًا في ١٦ أكتوبر سنة ١٧٩٨م لتحديد الضريبة المحصلة على المباني، كالوكايل والحمَّامات ومعاصر الزيت والسمسم وطواحين الغلال والأحواش والحوانيت والقهاوي والجباسات والبيوت والغرف، فقُسِّمت هذه المباني درجات أولى وثانية وثالثة ورابعة، وتراوح ما فُرِض عليها بين ثمانية عشر ريالًا على الوكايل التي من الدرجة الأولى، ونصف ريال فقط على الحوانيت من الدرجة الرابعة.٧٣
تلك كانت قصة التنظيمات والإجراءات المالية التي لجأ إليها بونابرت بغية الحصول على المال بكل وسيلة، ونشط بوسيلج وغيره من عمَّال الإدارة المالية الفرنسيين لتنفيذ هذه الأوامر بكل دقة، حتى إن المصريين سرعان ما وجدوا أن من المتعذر عليهم محاولة الإفلات من دفع الغرامة أو الضريبة أو تسديد الرسوم، وعظم استياؤهم على وجه الخصوص من إنشاء المحاكم التجارية أو «محاكم القضايا» ومصلحة التسجيلات وإدارة أملاك الحكومة، حتى إن مؤرِّخي الحملة الفرنسيين اعتبروا تذمر المصريين من هذه المحاكم ومصلحة التسجيلات أهم أسباب الثورة التي قامت بالقاهرة عقب انفضاض الديوان العام.٧٤
وكتب الشيخ الجبرتي يصف ما أحدثه إنشاء محكمة القضايا ومصلحة التسجيلات، وما تركته أساليب منظماتهم المالية عمومًا من آثار سيئة في نفوس المصريين بأسلوب من التهكم اللاذع، فقال في حوادث ١٦ ربيع الثاني ١٢١٣ﻫ/٢٧ سبتمبر ١٧٩٨م: «وفيه شرعوا في ترتيب ديوان آخر وسموه محكمة القضايا، وكتبوا في شأن ذلك طومارًا وشرطوا فيه شروطًا، ورتَّبوا فيه ستة أنفار من النصارى القبط، وستة أنفار من تجار المسلمين، وجعلوا قاضيه الكبير ملطي القبطي، الذي كان كاتبًا عند أيوب بك الدفتردار، وفوَّضوا إليهم القضايا في أمور التجار والعامة والمواريث والدعاوى، وجعلوا لذلك الديوان قواعد وأركانًا من البدع السيئة، وكتبوا نسخًا من ذلك كثيرة أرسلوا منها إلى الأعيان، وألصقوا منها نسخًا في مفارق الطرق ورءوس العطف وأبواب المساجد، وشرطوا في ضمنه شروطًا، وفي ضمن تلك الشروط شروطًا أخرى بتعبيرات سخيفة يُفهم منها المراد بعد التأمل الكثير لعدم معرفتهم لقوانين التراكيب العربية، ومحصله التحيل على أخذ الأموال، كقولهم بأن أصحاب الأملاك يأتون بحججهم وتمسكاتهم الشاهدة لهم بالتمليك، فإذا أحضروها وبيَّنوا وجهة تملكهم لها إمَّا بالبيع أو الانتقال لهم بالإرث لا يُكتفى بذلك بل يؤمر بالكشف عليها في السجلات، ويُدفع على ذلك الكشف دراهم بقدر عيَّنوه في ذلك الطومار، فإن وجد تمسكه مقيَّدًا بالسجل طُلب منه بعد ذلك الثبوت، ويدفع على ذلك الإشهاد بعد ثبوته وقبوله قدرًا آخر، ويأخذ بذلك تصحيحًا ويُكتب له بعد ذلك تمكين، ويُنظر بعد ذلك في قيمته، ويدفع على كل مائة اثنين، فإن لم يكن له حجة أو كانت ولم تكن مقيَّدة بالسجل أو مقيَّدة ولم يثبت ذلك التقييد، فإنها تُضبط لديوان الجمهور وتصير من حقوقهم. وهذا شيء متعذرٌ، وذلك أن الناس إنما وضعوا أيديهم على أملاكهم إمَّا بالشراء أو بأيلولتها لهم من مورثهم، أو نحو ذلك بحجة قريبة أو بعيدة العهد، أو بحجج أسلافهم ومورثيهم، فإذا طولبوا بإثبات مضمونها تعسَّر أو تعذَّر لحادث الموت أو الأسفار، أو ربما حضرت الشهود فلم تُقبَل، فإن قُبلت فُعل به ما ذُكر. ومن جملة الشروط مقررات على المواريث والموتى، ومقاديرها متنوعة في القلة والكثرة، كقولهم إذا مات الميت يشاورون عليه ويدفعون معلومًا كذلك، ويفتحون تركته بعد أربع وعشرين ساعة، فإذا بقيت أكثر من ذلك ضُبِطت للديوان أيضًا، ولا حقَّ فيها للورثة، وإن فُتحت على الرسم بإذن الديوان يدفع على ذلك الإذن مقررًا، وكذلك على ثبوت الورثة، ثم عليهم بعد قبض ما يخصهم مقرر، وكذلك من يدَّعي دَينًا على الميت يثبته بديوان الحشريات، ويدفع على إثباته مقررًا، ويأخذ له ورقة يستلم بها دينه، فإذا استلمه دفع مقررًا أيضًا، ومثل ذلك في الرزق والأطيان بشروط وأنواع وكيفية أخرى غير ذلك، والهبات والمبايعات والدعاوى والمنازعات والمشاجرات والإشهادات الجزئية والكلية، والمسافر كذلك لا يسافر إلا بورقة ويدفع عليها قدرًا، وكذلك المولود إذا وُلد ويقال له إثبات الحياة، وكذلك المؤجرات وقبض أجر الأملاك وغير ذلك.»٧٥
وقد تقدَّم كيف أن هذه المسائل كانت موضع بحث أعضاء الديوان العام الذين وصلوا إلى حلول أرضت الفرنسيين في أكثرها، ولكنه كان من المتعذر عليهم أن يقروا هؤلاء على ما أرادوه من تنظيماتهم المالية؛ ذلك أن أعضاء الديوان ما لبثوا أن اعترضوا اعتراضًا شديدًا على ضرورة تقديم مستندات التمليك لتسجيلها، كما اعترضوا على فداحة رسوم المحاكم التجارية (محاكم القضايا)، وأثبتوا اعتراضاتهم هذه في الردود التي بعثوا بها إلى بونابرت، وعندئذٍ وجد بونابرت أن يتخلص من هذه المعارضة بمحاولة تشكيل لجنة ﻟ «اقتراح» نظام جديد لتحديد قيمة الرسوم التي يجب دفعها عند الفصل في القضايا، فكتب إلى مونج وبرتوليه في ١٨ أكتوبر لشكر أعضاء الديوان على ما بذلوه من جهد وعناية، ويطلب إليهم تأليف هذه اللجنة. وانتهز بونابرت الفرصة فطلب إلى أعضاء الديوان أن يعملوا على تهدئة النفوس، وإقناع القاهريين بالإخلاد إلى السكينة، وأن ينصحوهم بإظهار الطاعة والرضا بالعيش في علاقات حسنة مع الفرنسيين وعدم إثارة غضبهم، وتعريض القرى للخراب والدمار نتيجة لحنق الفرنسيين عليهم، وكان سبب ذلك ما بلغ بونابرت من أن المهيجين قد عمدوا إلى ترويج الإشاعات الكاذبة عن عودة البكوات المماليك إلى القاهرة قريبًا.٧٦

ومع ذلك فإن شيئًا لم يحدث لإزالة أسباب التذمر الحقيقية، وذلك بمحاولة الوصول إلى حل «المسألة المالية» بصورة يرضى عنها أعضاء الديوان والمشايخ وسائر المصريين. وفضلًا عن ذلك فقد انعقد الديوان يوم ٢٠ أكتوبر، وأُحضرت «قائمة مقررات الأملاك والعقار» التي كان قد صدر بها أمر بونابرت منذ أربعة أيام، وتمت في هذه الجلسة الموافقة على هذه المقررات، ويبدو أن ذلك كان آخر أعمال الديوان؛ إذ إن الديوان ما لبث أن انفض بعد ذلك، غير أنه لم يكد يُذاع أمر هذه المقررات على سواد القاهريين حتى انفجر بركان الثورة. ووصف الشيخ الجبرتي ذلك الحادث الذي حرَّك الثورة بقوله:

«وفي يوم السبت ١٠ جمادى الأولى ١٢١٣ﻫ/٢٠ أكتوبر ١٧٩٨م عملوا الديوان، وأحضروا قائمة مقررات الأملاك والعقار، فجعلوا على الأعلى ثمانية فرانسة والأوسط ستة والأدنى ثلاثة، وما كان أجرته أقل من ريال في الشهر فهو معافى، وأمَّا الوكائل والخانات والحمامات والمعاصر والسيارج والحوانيت فمنها ما جعلوا عليه ثلاثين وأربعين، بحسب الخسة والرواج والاتساع، وكتبوا بذلك مناشير على عادتهم وألصقوها بالمفارق والطرق، وأرسلوا منها نسخًا للأعيان، وعيَّنوا المهندسين ومعهم أشخاص لتمييز الأعلى من الأدنى، وشرعوا في الضبط والإحصاء، وطافوا ببعض الجهات لتحرير القوائم وضبط أسماء أربابها. ولما أُشيع ذلك في الناس كثر لغطهم، واستعظموا ذلك، والبعض استسلم للقضاء، فانتبذ جماعة من العامة وتناجوا في ذلك، ووافقهم على ذلك بعض المتعممين الذي لم ينظر في عواقب الأمور، ولم يتفكر أنه في القبضة مأسور، فتجمع الكثير من الغوغاء من غير رئيس يسوسهم ولا قائد يقودهم، وأصبحوا يوم الأحد متحزبين، وعلى الجهاد عازمين.»٧٧ وكانت الثورة.
وكان هؤلاء المتعممون الذين ذكرهم الشيخ الجبرتي هم بعض مشايخ الأزهر الذين فزع إليهم الناس عندما استبد بهم الضيق، يشاورونهم في الأمر ويسألونهم النصيحة. وفي الأزهر سرعان ما تألفت «لجنة من المتآمرين» الذين جمعوا حولهم الناقمين على الحكم الفرنسي، فكان من بين هؤلاء عددٌ من المشايخ الذين أغضبهم عدم إشراك بونابرت إياهم في منظمات الحكومة «الوطنية» الجديدة ومؤسساتها. وفضلًا عن ذلك فقد أصدر السلطان فرمانًا يحرِّض المسلمين على القيام ضد الكفرة الفرنسيين،٧٨ كما أن زعيمَي المماليك «مراد وإبراهيم» ظلا يبعثان بالرسل إلى الأزهر لتحريك الفتنة، وأذاع هؤلاء أن بونابرت يريد إرغام المسلمين على اعتناق المسيحية، وأن جيشًا من المماليك والعثمانيين سوف يحضر قريبًا إلى الشاطئ المصري لطرد الفرنسيين من البلاد، ولقيت دعوتهم آذانًا صاغية، وأقبل مشايخ الأزهر العلماء والمؤذنون يحرِّضون على الثورة، حتى إذا كان يوم ٢١ أكتوبر انفجر بركانها.٧٩
غير أن هذه الثورة كانت قصيرة الأجل،٨٠ فقد استطاع بونابرت إخمادها بعد أن احتلت قواته الأزبكية والمرتفعات الممتدة بين القاهرة والقبة، وصدرت التعليمات في اليوم التالي إلى الجنرال بون Bon٨١ لمهاجمة حي الأزهر، وإطلاق مدافعه على الجامع الأزهر إذا اقتضى الأمر في ذلك، كما عهد إلى الجنرال دومارتان Dumartin بمحاصرة الجامع وقطع السبل المؤدية إليه، ثم دخل الفرنسيون «إلى الجامع الأزهر وهم راكبون الخيول، وبينهم المشاة كالوعول، وتفرقوا بصحنه ومقصورته، وربطوا خيولهم بقبلته، وعاثوا بالأروقة والحارات، وكسروا القناديل والسهَّارات، وهشَّموا خزائن الطلبة والمجاورين والكتبة، ونهبوا ما وجدوه من المتاع والأواني والقصاع والودائع والمخبَّآت بالدواليب والخزانات، ودشتوا الكتب والمصاحف وعلى الأرض طرحوها وبأرجلهم ونعالهم داسوها، وأحدثوا فيه وتغوطوا وبالوا وتمخطوا، وشربوا الشراب وكسروا أوانيه وألقوها بصحنه ونواحيه، وكل من صادفوه به عروه ومن ثيابه أخرجوه.»٨٢
ومع أن نقولا التركي يقول إن «الحرب قد استقامت ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع كبست الفرنساوية على جامع الأزهر، وملكوا الجامع وسلبوا ما كان فيه من الودايع والذخاير»،٨٣ فالثابت — كما يؤخذ من رواية الشيخ الجبرتي ورواية الفرنسيين أنفسهم٨٤ — أن الفرنسيين ارتكبوا فعلتهم الشنعاء في اليوم الثاني من الثورة (٢٢ أكتوبر)، ومهما يكن من شيءٍ فإنه لم يكد ينقضي اليوم الثالث حتى كانت الثورة قد أُخمِدت. ويؤخذ مما كتبه بونابرت — سواء في تقريره المفصَّل إلى حكومة الإدارة بعد ذلك، أم إلى الجنرال رينييه Reynier — أن الثوار قد تراوحت خسائرهم بين ألفين وألفين وخمسمائة، بينما لم يفقد الفرنسيون سوى ستة عشر قتيلًا، وبلغ جرحاهم واحدًا وعشرين، وذلك عدا من ذُبِح منهم في الطرق، وقد بلغ هؤلاء عشرين رجلًا من مختلف الرتب.٨٥
وكان من أثر ثورة القاهرة أن استبدل الفرنسيون بسياسة الود والصداقة مع المصريين والتحبب إليهم خطة الصرامة وسوء المعاملة، فأنزل بونابرت عقوبات شديدة بعدد من المشايخ الذين اشتركوا في هذه الثورة، وأصدر أمرًا في ٣ نوفمبر ١٧٩٨م بإعدامهم ومصادرة ممتلكاتهم،٨٦ ثم عطَّل الديوان مدة شهرين، فلم يُعِد تأليفه إلَّا في شهر ديسمبر عندما رأى الخروج بحملته إلى الشام، فأعلن عندئذٍ تشكيل الديوان في منشور أذاعه على القاهريين في ٢١ ديسمبر.٨٧ وكان يتألف في هذه المرة من ديوانين: الديوان العمومي أو الكبير من ستين عضوًا يمثلون سكان القاهرة، وكان هذا الديوان ينعقد بدعوة من حاكم العاصمة، والديوان الخصوصي أو الديمومي — كما سمَّاه الشيخ الجبرتي — من أربعة عشر عضوًا يُختارون من بين أعضاء الديوان العمومي، وينعقد هذا الديوان يوميًّا في القاهرة. وكان جلوتيه Glautier أحد أعضاء المجمع العلمي المصري المندوب الفرنسي في هذا الديوان، وسوَّغ بونابرت إعادة تشكيل الديوان بقوله إنه كان قد اقتص من أولئك الذين «أوقعوا الفتنة والشرور بين القاطنين بمصر فأهلكهم الله بسبب فعلهم ونيتهم القبيحة»، وقد حسُنت أحوال القاهريين ومعاملتهم في أثناء مدة إبطال الديوان، وأمره «الباري سبحانه وتعالى بالشفقة والرحمة على العباد، فامتثل أمره، ونسي ذنوب الأشرار وأهل الفتنة التي وقعت سابقًا، فقد توجه خاطره إلى ترتيب الديوان كما كان.»٨٨
ومع ذلك فقد تعذَّر على الفرنسيين أن يتمتعوا بالهدوء والسلام في البلاد بسبب انتشار الاضطرابات في الوجهين البحري والقبلي، وكانت مقاومة المصريين قد بدأت بصورة جدية في بعض البلدان قبل انفجار ثورة القاهرة، ثم استفحل أمرها منذ شهر أكتوبر، وتزعم مراد بك المقاومة في الوجه القبلي. حقيقةً كان بونابرت قد حاول الاتفاق مع مراد عقب فرار المماليك إلى الصعيد بعد هزيمة إمبابة على أن يحكم مراد في مديرية جرجا تحت سيادة الفرنسيين والتبعية لهم،٨٩ وأوفد لهذه الغاية روشتي Rossetti قنصل النمسا السابق وصديق البكوات للمفاوضة مع مراد، وتوقيع معاهدة لإنهاء الحرب بينه وبين بونابرت،٩٠ ولكن مراد أصرَّ على المُضِيِّ في القتال، ورفض الاعتراف بغير سيادة السلطان العثماني، وندد بأولئك «الفرنسيين الكفرة» الذين غزوا مصر على الرغم من المعاهدات القائمة،٩١ وعلى ذلك فقد استمرت العمليات العسكرية في الصعيد كما سيأتي ذكره مفصلًا. وانعدم بسبب هذه الاضطرابات والثورات كل رجاء في إمكان التعاون بين الفرنسيين والمصريين، وزيادة على ذلك فقد شُغل بونابرت ورجاله في الشهور التالية بأمر الحملة الشامية عندما نشب الصراع العنيف بين فرنسا وقائدها في مصر من جانب، وبين أعضاء المحالفة الدولية الثانية من جانب آخر، وكان تأليف هذه المحالفة التي انضمت إليها تركيا بعد ترددها الطويل السابق في امتشاق الحسام ضد فرنسا، من آثار هزيمة أسطول برويس في موقعة أبو قير البحرية.

الحرب الشامية

ذلك بأن مسألة بقاء الإمبراطورية العثمانية أو انهيارها كانت من المسائل التي شغلت تاليران وبونابرت من أيام صلح كامبو فورميو على نحو ما تقدم، واعتقد كلاهما أن انهيار هذه الإمبراطورية واقعٌ لا محالة، وأن الواجب يقتضي من فرنسا ألَّا تدع الفرصة تمر دون الاشتراك مع سائر الدول في اقتسام ممتلكات رجل أوروبا المريض، على الرغم من علاقات الود والصداقة التي ربطت تركيا بفرنسا من أزمنة بعيدة، فكان من رأي تاليران عندما تقدم بتقريره المشهور إلى حكومة الإدارة في ١٤ فبراير ١٧٩٨م أن إرسال الحملة إلى مصر يجب ألَّا يكون سببًا في إنهاء هذه العلاقات، ثم عاد فأكَّد ذلك في تقرير آخر قدمه إلى حكومة الإدارة في ١٦ مارس من العام نفسه،٩٢ ولذلك اهتم بونابرت عند خروج الحملة إلى مصر بضرورة الاحتفاظ بصداقة العثمانيين وعدم استثارتهم ضد فرنسا، واعتقد بونابرت وتاليران أن في استطاعتهما التوفيق بين غرضين متناقضين، أحدهما يرمي إلى دعم علاقات المودة والصداقة مع تركيا، بينما يهدف الآخر إلى اقتطاع جزء من ممتلكات هذه الدولة، وقد توقف استمرار العلاقات الودية بين فرنسا وتركيا أو انفصامها وانضمام تركيا إلى أعداء الجمهورية، على مدى نجاح السياسة الجديدة التي اتخذت لنشاطها ميدانين هامين؛ أحدهما في القاهرة، والآخر في القسطنطينية.
أمَّا في القاهرة فقد بدأ بونابرت هذه السياسة الجديدة عندما تحدث في منشوره إلى «أهالي مصر جميعهم» عن صداقة الفرنسيين «لحضرة السلطان العثماني» وإخلاصهم له، وأعلن أن من أسباب مجيء الفرنسيين إلى هذه البلاد رغبتهم في معاقبة المماليك الذين «امتنعوا عن طاعة السلطان.»٩٣ وقد حرص بونابرت خلال الشهور التالية على أن يدخل في رُوع الباشا العثماني في مصر وباشا دمشق والصدر الأعظم وأحمد الجزار أنه لم يحضر إلى مصر مناصبًا السلطان العداء، أو لغرضِ الاعتداء على حقوقه في هذه البلاد، فكتب إلى بكر باشا من معسكر الجيزة في ٢٣ يوليو ١٧٩٨م٩٤ أن غرض الفرنسيين من احتلال مصر إنما هو طرد المماليك بسبب خروجهم على الباب العالي، وعدائهم للحكومة الفرنسية، ويطلب إلى بكر باشا البقاء في القاهرة نائبًا عن السلطان العثماني، كما طلب إليه أن يؤكد للباب العالي أن استيلاء الفرنسيين على مصر لا يمكن أن يعد خسارة للدولة؛ لأن الخراج الذي أرسلته مصر في الماضي سوف يجري إرساله إلى تركيا في المستقبل. ومع أن بكر باشا آثر الخروج مع فلول المماليك الهاربة بزعامة إبراهيم بك «قاصدين البرية والديار الشامية»،٩٥ فقد كتب إليه بونابرت ثانية في ٣١ أغسطس٩٦ يطلب إليه العودة إلى القاهرة لاستئناف وظائفه بها، ويؤكد له صداقته واحترامه لشخصه، ولكن بكر باشا رفض إجابة دعوته.
وبسط بونابرت الغرض من مجيء الحملة إلى مصر في كتاب بعث به إلى الصدر الأعظم في ٢٢ أغسطس ١٧٩٨م،٩٧ فقال إنما هو معاقبة المماليك الذين أساءوا إلى التجارة الفرنسية، ثم أخبر الصدر أن تاليران وزير الخارجية في باريس قد عيَّن سفيرًا لحكومته لدى الباب العالي حتى يعقد اتفاقات مع تركيا لإزالة كل ما ينشأ من صعوبات نتيجة للاحتلال الفرنسي في مصر، ولدعم أركان تلك الصداقة القديمة التي ربطت دائمًا بين تركيا وفرنسا، والتي يعتبرها بونابرت ضرورية للبلدين ولا غنى عنها. ولما لم يتلقَّ بونابرت ردًّا على رسالته عاد فبعث بكتابٍ آخر إلى الصدر الأعظم في ٩ نوفمبر،٩٨ أكد فيه صداقة الجمهورية للباب العالي، ورفضها الانضمام إلى أعضاء المحالفة التي تألفت ضد تركيا من النمسا والروسيا. وقال بونابرت إن الدول التي اقتسمت بولندا فيما بينها سابقًا تريد اليوم اقتسام تركيا؛ ولذلك فواجب الباب العالي في هذه الظروف أن يعتبر فرنسا دولة صديقة مستعدة دائمًا للعمل ضد أعدائه. ولما لم يجب الصدر الأعظم بشيء على هذه الرسالة كذلك، بادر بونابرت فبعث إليه بكتاب آخر في ١١ ديسمبر، عهد بحمله إلى القسطنطينية في هذه المرة إلى بوشان Beauchamp قنصل الجمهورية في مسقط، عسى أن يكون هذا الخطاب دليلًا على صدق رغبة بونابرت في المحافظة على علاقات الود والصداقة مع تركيا، غير أن بوشان الذي غادر الإسكندرية في ١٣ فبراير من العام التالي سرعان ما وقع في قبضة الإنجليز وهو ما يزال في طريقه بالقرب من رودس.
وحاول بونابرت كذلك أن يستميل إليه الحكَّام وأصحاب الحل والعقد في البلدان المجاورة لمصر، والتي توقع أن تأتيه منها جيوش العثمانيين إذا قامت الحرب بينه وبين تركيا، فكتب إلى عبد الله العظم، باشا دمشق، في ٣١ أغسطس ١٧٩٨م٩٩ يؤكد رغبته في العيش معه بسلام، ويردد ادعاءه المعروف أنه إنما حضر إلى مصر للانتقام من المماليك فحسب. وكان بونابرت قد كتب قبل ذلك بأيام قلائل (٢٢ أغسطس)١٠٠ إلى أحمد باشا الجزَّار حاكم صيدا وعكا وصاحب السلطان في فلسطين، يذكر السبب الذي دعاه إلى الحضور إلى مصر، وهو معاقبة المماليك وقتالهم، الأمر الذي يتفق تمامًا ومصلحة الجزار باشا نفسه؛ لأن هؤلاء المماليك كانوا ألد أعدائه وخصومه، ونفى عن نفسه تهمة الرغبة في قتال المسلمين، وقال مدللًا على صدق دعواه إن مالطا لم تكد تخضع له حتى أطلق سراح ألفين من الأتراك الذين ظلوا يرسفون في أغلال الاسترقاق سنوات طويلة، ناهيك بما فعله عند حضوره إلى مصر مع الأئمة والعلماء الذين أمَّنهم على حياتهم ووظائفهم، كما وضع المساجد تحت زعامته، وصار يهتم بشئون الحج، والاحتفال بالمولد النبوي وغيره من الاحتفالات «الدينية والوطنية».
وحمل هذه الرسالة كالميه-بوفوازان Calmet-Beauvoisin من ضباط هيئة أركان الحرب، وكانت مهمته١٠١ أن يؤكد للجزار صداقة الفرنسيين له، وينفي تلك الشائعات التي زعم مروجوها «زورًا وبهتانًا» أن بونابرت يريد الاستيلاء على بيت المقدس، والقضاء على العقيدة الإسلامية، كما كلَّفه بونابرت أن يعرض على الجزار صداقة الفرنسيين، وينصحه بالعدول عن التسلح أو التدخل في النزاع القائم إذا حدَّثت الجزار نفسه بذلك. وغادر بوفوازان بولاق في طريقه إلى عكا في ٢٤ أغسطس، ولكنه لم يستطع النزول إليها بل هُدِّد ﺑ «قطع رأسه» إذا فعل، واضطر إلى العودة على نفس السفينة التي حملته إلى عكا،١٠٢ فوصل إلى دمياط في ٧ سبتمبر، ثم قدَّم إلى بونابرت بمجرد وصوله إلى القاهرة تقريرًا عن فشل مهمته والأخطار التي عرضت له والإهانات التي لحقت به.١٠٣ ومع ذلك فقد كتب بونابرت إلى الجزار مرة أخرى في ١٩ نوفمبر، يؤكد له رغبته في عدم الدخول في حرب معه؛ لأنه لا يعد الجزار باشا عدوًّا له «بيد أن الوقت قد حان لأن يوضِّح الجزار باشا موقفه»، حتى إذا ظلَّ يسمح لإبراهيم بك بالاحتماء في الحدود المصرية فإن بونابرت يعتبر ذلك عملًا عدائيًّا، ويرى لزامًا عليه أن يزحف إلى عكا، أمَّا إذا أراد الجزار أن يعيش في سلام مع بونابرت فالسبيل إلى ذلك أن يعمل على إبعاد إبراهيم بك مسافة أربعين فرسخًا من الحدود المصرية، وأن يطلق التجارة حرة بين دمياط وسوريا، ولقاء ذلك تعهد بونابرت بعدم الاعتداء على أملاكه، وإطلاق التجارة حرة من جانبه بين مصر وسوريا في البر والبحر.١٠٤
غير أن كل هذه المساعي ما لبثت أن باءت بالفشل عندما أخفقت السياسة الفرنسية في القسطنطينية ذاتها، وانضم الباب العالي في آخر الأمر إلى المحالفة الدولية ضد فرنسا. وتفصيل ذلك أن فرنسا كانت قد اهتمت ببحث الوسائل التي ترجو منها المحافظة على علاقات الود والصداقة مع تركيا منذ أن قررت إرسال الحملة إلى مصر، وصار من الواجب على حكومة الإدارة أن تبت في هذا الموضوع بكل سرعة، عندما توفي فجأة في القسطنطينية في أواخر عام ١٧٩٧م أوبير دوباييه Oubert-Dubayet سفيرها في تركيا، في وقت كانت قد تطايرت فيه الشائعات عن احتشاد السفن والجنود في شواطئ فرنسا الجنوبية. فاقترح تاليران في تقريره إلى حكومة الإدارة في ١٤ فبراير ١٧٩٨م إرسال مفاوض ماهر إلى القسطنطينية، يستطيع أن يرعى مصالح فرنسا في تركيا، ولمَّا كان من المتعذر اختيار السفير الجديد في التو والساعة، فقد أُبقي روفان Ruffin سكرتير السفارة الأول في القسطنطينية، ثم رُقِّي إلى منصب قائم بالأعمال في ٧ مارس.
وظل منصب السفير خاليًا حتى إذا بات إرسال الحملة إلى مصر أمرًا مفروغًا منه، عاد تاليران فاقترح على حكومة الإدارة في ١٦ مارس ضرورة إرسال سفير إلى تركيا، تكون مهمته١٠٥ عند وصول أخبار نزول الحملة إلى الشواطئ المصرية أن يؤكد للريس أفندي — وزير الخارجية — صداقة فرنسا لتركيا، ورغبتها في أن تعيش في سلام معها، وأن يدخل مع الريس أفندي في مفاوضات تطول لمدة شهرين أو ثلاثة شهور حتى يتسع الوقت لتثبيت أقدام الفرنسيين في مصر، فيعرض على الباب العالي حلًّا للموقف: إمَّا أن يبقى الباشا العثماني في مصر، فتدار حكومة البلاد باسم الباب العالي، على شريطة أن تظل القوة العسكرية في أيدي الفرنسيين الذين يقومون بتحصيل الميري والضرائب، ويدفعون منها ١٥٠٠ كيسة أو ٢٢٥٠٠٠٠ فرنكًا سنويًّا، ويدخل في ذلك ما يناله الباشا العثماني في القاهرة من مرتبات ومخصصات، وإمَّا أن يتنازل السلطان عن كل حقوقه في السيادة على مصر إلى فرنسا لقاء أن تترك فرنسا له جزر الليفانت.
ثم كتب تاليران إلى روفان في ١١ مايو ١٧٩٨م يبسط له أسباب الحملة على مصر، ولم تكن تخرج عمَّا ذكره تاليران في تقاريره السابقة، وقد وصلت إلى روفان هذه الرسالة في ٢٨ يونيو في وقتٍ كانت قد بلغت فيه الأخبار القسطنطينية من مدة عن هدف الحملة وغرضها.١٠٦
وكان الذائع كما جاء في رسائل الباشوات والقضاة وعمال الحكومة في المورة وكريت أن الفرنسيين إنما يبغون الاستيلاء على كريت والمورة ومصر، الأمر الذي أزعج السلطان إزعاجًا كبيرًا، لا سيما وأنه لم يكن لدى الباب العالي وقتذاك من القوة ما يكفي لإرغام الحكومة الفرنسية على إعطاء بيان يفسر استعداداتها العسكرية، ويوضح أغراضها منها. وعندما وصلت تعليمات تاليران الأخيرة استمر روفان يتظاهر بعدم معرفة هدف الحملة، ثم ازداد مركزه حرجًا بعد ذلك عندما بلغ السلطان سقوط مالطا، وخشي العثمانيون أن يكون هدف الحملة الاستيلاء على مصر ذاتها، حتى إذا كان يوم ١٧ يوليو ذاع نبأ وصول الحملة إلى الإسكندرية، ومن ذلك الحين كان مقضيًّا بالفشل على كل محاولات الفرنسيين لاستمالة تركيا. غير أن تركيا لم تجد لديها من القوة ما يمكِّنها من إظهار عدائها لفرنسا علانيةً. وعلى ذلك فقد اكتفى العثمانيون بالتضييق على روفان خاصةً والفرنسيين عامةً في جميع أنحاء الدولة، حتى إذا جاءت أخبار هزيمة الأسطول الفرنسي في موقعة أبو قير كشفت تركيا القناع عن نواياها، ففي آخر سبتمبر ١٧٩٨م ألقى العثمانيون القبض على روفان وعلى الرعايا الفرنسيين وسجنوهم، فكان معنى ذلك انقطاع العلاقات بين البلدين وإعلان الحرب من جانب تركيا على فرنسا.١٠٧
وكان سبب الفشل في القسطنطينية صعوبة المهمة التي كُلِّف روفان القيام بها عندما تعذر عليه إقناع الباب العالي بصداقة الفرنسيين له، حين احتلت جيوشهم جزءًا من الممتلكات العثمانية. وعلاوة على ذلك فإن حكومة الإدارة لم ترسل إلى القسطنطينية ذلك السفير والمفاوض الماهر الذي أشار تاليران بضرورة إرساله، وذلك على الرغم من أن بونابرت كان قد وافق على تقرير تاليران الذي قدمه إلى حكومة الإدارة في ١٦ مارس ١٧٩٨م، ووافق على إرسال سفير إلى القسطنطينية. ويبدو أن السبب في عدم ذهاب سفير فرنسي إلى تركيا في الوقت المناسب هو أن بونابرت كان يتنازعه عاملان: عامل الرغبة في السيطرة بنفسه على المفاوضات مع تركيا، ثم حرصه على إشراكه أولئك الذين يقبل النصح منهم في مواجهة كل ما قد يحدث من أخطار نتيجة العمل بنصحهم حتى يطمئن إلى عدم خيانتهم له أو انصرافهم عن تأييده. وعلى ذلك فقد طلب بونابرت أن يكون تاليران نفسه السفير الفرنسي الجديد في القسطنطينية، ثم بدلًا من إرساله دون إمهال إلى تركيا اكتفى بإصدار أمره إليه في ٢٣ مايو،١٠٨ لكي يكون على قدم الاستعداد لمغادرة باريس بمجرد صدور تعليمات أخرى، حتى إذا تم الاستيلاء على مالطا بعث إليه بونابرت بأمرٍ آخر في ١٨ يونيو١٠٩ يطلب إليه الذهاب إلى القسطنطينية، ثم أرسل فرقاطة لتحمل السفير الجديد إلى تركيا.
والحق أن مسئولية التأخير لم تكن كلها من نصيب بونابرت وحده؛ ذلك أن تاليران نفسه لم يكن يرغب في الذهاب إلى القسطنطينية، إمَّا خوفًا من الوقوع في قبضة الإنجليز الذين كان لأسطولهم السيطرة الكاملة على البحر الأبيض، وإمَّا رغبة في البقاء في باريس لمواجهة العاصفة، عندما بدأ أفُق السياسة يتلبد بالغيوم. على أن حكومة الإدارة سرعان ما وجدت الاستغناء عن خدمات تاليران في وزارة الخارجية أمرًا متعذرًا بسبب اضطراب الموقف السياسي في أوروبا، ولهذا اقترح تاليران أن يُعيَّن سفير آخر في القسطنطينية، وقرَّ الرأي على ذلك في ١١ مايو؛ أي قبل أن يبعث بونابرت بأوامره الأولى إلى تاليران (في ٢٣ مايو) ببضعة أيام، ومع ذلك لم يصدر أمر نهائي بتعيين سفير جديد إلَّا في ٢ سبتمبر. ووقع الاختيار على ديكورش Descorches ممن خدموا سابقًا في تركيا. ثم ضاع وقت آخر قبل قيام ديكورش إلى القسطنطينية، حتى إذا ما وصلت إلى باريس أخبار القبض على روفان وسجنه أُوقف إرساله نهائيًّا، واستطاع بونابرت عند إملاء مذكراته في منفاه في سنت هيلانة أن يحمِّل حكومة الإدارة مسئولية الفشل في تنفيذ تلك السياسة التي سبق الاتفاق عليها بينه وبين أعضاء هذه الحكومة قبل إبحاره إلى مصر، فإنه لما كان الفرنسيون — على حدِّ قوله — لم يتقدموا إلى الباب العالي بأية بيانات توضِّح أغراض الحملة المرسلة إلى مصر، ولم يحضر إلى القسطنطينية ذلك السفير الفرنسي الذي سبق الإعلان عن حضوره؛ فقد اضطر الباب العالي إلى الارتماء في أحضان الروسيا وإنجلترا.١١٠
وكان وجود السفير الفرنسي في القسطنطينية في ذلك الوقت أمرًا لا غنى عنه، لا لإقناع العثمانيين بحسن نيَّات فرنسا فحسب، بل ولإبطال مساعي الإنجليز والروس، الذين نشطت سياستهم نشاطًا عظيمًا لاستمالة تركيا حتى تنضم إلى أعداء فرنسا، فقد دأب سبنسر سمث Spencer Smith، الوزير الإنجليزي، على إفساد العلاقات بين تركيا وفرنسا، وساعده في ذلك ما كان يساور الأتراك من شكوك في نيَّات الفرنسيين بسبب ما كان يُذاع من شائعات عن أغراض الحملة التي يجهِّزها هؤلاء في طولون. وانقلبت هذه الشكوك إلى مخاوف ظاهرة عندما جاءت الأخبار منبئة بسقوط مالطا أولًا، ثم بوصول الحملة إلى الشواطئ المصرية. وراقب سبنسر سمث نشاط روفان وانتبه انتباهًا عظيمًا لكل ما كان يجري من محادثات بينه وبين رجال الحكومة العثمانية، واهتم كذلك بازيل تامارا Basile Tamara المندوب الروسي بمراقبة نشاط الفرنسيين في القسطنطينية، وكان أعظم ما يخشاه الروس أن ينتشر نفوذ فرنسا في الليفانت، وبخاصة بعد استيلاء الفرنسيين على جزر الأيونيان، ثم زادت مخاوف القيصر بول الأول عندما احتل بونابرت مالطا، فكانت هذه المخاوف سببًا في أن يعمل القيصر من أجل الاتفاق مع تركيا على الرغم من رغبته في السلام مع الجمهورية، فاجتمع المندوب الروسي في الآستانة بالريس أفندي في يوليو ١٧٩٨م، ومن ذلك الحين سارت المفاوضات بين تركيا والروسيا من جانب والروسيا وإنجلترا من جانب آخر. وكان الغرض منها إقناع تركيا بالدخول في محالفة ضد فرنسا، وإعلان الحرب على الجمهورية. وتردد الباب العالي في أول الأمر، ولكنه سرعان ما نبذ هذا التردد ظِهريًّا عندما بلغته هزيمة الأسطول الفرنسي في أبو قير، فأصدر منشورًا في ٩ سبتمبر ندد فيه بتصرف فرنسا، ثم ألقى القبض على روفان ومواطنيه في آخر سبتمبر وسجنهم، وكان هذا العمل في عُرْف السياسة العثمانية بمثابة إعلان الحرب على فرنسا.
وكان اللورد نلسن Nelson من كبار مؤيدي سياسة إعلان الحرب على فرنسا من جانب تركيا؛ ذلك بأن نلسن كان يرغب بعد انتصاره الحاسم على أسطول برويس أن تجهز تركيا جيشًا وأسطولًا لطرد الفرنسيين من مصر نهائيًّا، فأثنى على سبنسر سمث لما أبداه من همة وكفاءة لحمل الباب العالي على التفكير في مصالحه تفكيرًا صحيحًا، وإعلان الحرب على فرنسا.١١١ ثم أدركت الحكومة الإنجليزية أهمية الاشتراك العسكري السريع مع تركيا لإخراج الفرنسيين من مصر عندما أصرَّ هنري دنداس Dundas، أحد الوزراء الإنجليز الذين اهتموا بشئون الهند خاصةً، على ضرورة إخراج بونابرت وجيشه من مصر محافظةً على المصالح الإنجليزية في الهند ذاتها. وقدَّم الإخصائيون في مسائل الهند، كالكولونيل فولارتون Fullarton   ووارن هيستنجز Warren Hastings وغيرهما، التقارير الضافية عن المركز الذي تتمتع به مصر في تجارة العالم بفضل موقعها الجغرافي، وتوضيح أهمية الاحتفاظ بالوضع القائم بها، وعدم سقوطها في أيدي الأعداء، خوفًا على مصالح إنجلترا في الهند ذاتها. وكان لتحول روسيا إلى العمل والاتفاق مع تركيا عدوتها القديمة أثرٌ حاسمٌ ولا شكَّ في إقناع الحكومة الإنجليزية بضرورة التدخل.١١٢
وعلى ذلك فقد اختار جرانفيل Granville وزير الخارجية الإنجليزية السير سدني سمث Sir Sidney Smith، وكان خبيرًا بالشئون العثمانية، للتعاون مع الأتراك، فصدرت إليه التعليمات بالذهاب إلى القسطنطينية على ظهر تيجر Le Tigre المركب الحربية التي استولى عليها الإنجليز من الفرنسيين في يونيو ١٧٩٥م،١١٣ حتى يعمل مع أسطوله بالاشتراك مع الأساطيل الروسية والعثمانية للدفاع عن الإمبراطورية العثمانية، و«لإزعاج العدو في هذه الجهات». ثم أعطى سدني سمث حقوقًا دبلوماسية تخوِّله الاشتراك مع أخيه سبنسر سمث — الوزير الإنجليزي في القسطنطينية — في المفاوضات المنتظرة.١١٤ واختار جرانفيل كذلك الكولونيل كوهلر Koehler ليذهب إلى القسطنطينية على رأس بعثة عسكرية مهمتها تنظيم الجيش العثماني وإعداده، وذلك كما جاء في تعليمات كوهلر في ٧ نوفمبر سنة ١٧٩٨م، حتى يستطيع الحلفاء هزيمة الجيش الفرنسي في مصر وتدميره، وتحطيم نقالاته وسفنه الأخرى في ميناء الإسكندرية.
وقد أبحر كوهلر إلى القسطنطينية في أوائل ديسمبر من العام نفسه، أمَّا السير سدني سمث فقد وصل القسطنطينية في آخر ديسمبر في وقتٍ كانت قد قطعت المفاوضات شوطًا بعيدًا بين الريس أفندي وسبنسر سمث من جانب، ثم بين الأول والمندوب الروسي من جانب آخر، وكان غرض الإنجليز أن تتزعم تركيا — في نطاق المحالفة المزمع عقدها — النضال ضد الفرنسيين في الشرق.١١٥ وقد أسفرت المفاوضة عن عقد محالفة دفاعية هجومية لمدة ثماني سنوات بين روسيا وتركيا، وقَّعها في يوم ٢٥ ديسمبر كل من تمارا وأحمد عاطف الريس أفندي،١١٦ فتعهَّد كل من المتعاقدين بضمان أملاك الآخر، ونصَّت المحالفة على أن الغرض منها المحافظة على ممتلكات روسيا وتركيا لا الرغبة في التوسع، وذلك حرصًا من الدولتين المتعاقدتين على حفظ التوازن الدولي، وتأييد السلام في أوروبا. ثم دعت الدولتان المتحالفتان سائر الدول الأوروبية، كالنمسا وإنجلترا وبروسيا، وجميع رؤساء الحكومات الأخرى للانضمام إلى المحالفة تحقيقًا لهذا الغرض نفسه.
وفي ٥ يناير ١٧٩٩م عقدت إنجلترا محالفة مع تركيا، وقَّعها من الجانب الإنجليزي كلٌّ من سدني سمث وسبنسر سمث،١١٧ وجاء فيها: «إن جلالة ملك بريطانيا، الذي تربطه بإمبراطور روسيا أواصر المحالفة الوثيقة، قد انضمَّ الآن في هذه المحالفة المبرمة بين إنجلترا وتركيا إلى المحالفة الدفاعية التي تم إبرامها أخيرًا بين السلطان العثماني وقيصر روسيا.»
فضمِن الطرفان المتعاقدان كلٌّ منهما أملاك الآخر، وتعهَّد جورج الثالث ملك إنجلترا بضمان جميع ممتلكات الإمبراطورية العثمانية دون أي استثناء، وكما كانت قبل الغزو الفرنسي في مصر، وتعهد السلطان العثماني من جانبه بضمان الممتلكات البريطانية دون استثناء كذلك. وفضلًا عن ذلك فقد نصَّت المعاهدة على ضرورة مواصلة الحرب بالاشتراك فيما بين الحليفين المتعاقدين، فلا يقدم أحدهما على إبرام الصلح منفردًا مع الأعداء دون موافقة الآخر. وبذلك مهَّد عقد هاتين المعاهدتين لتأليف المحالفة الدولية الثانية ضد فرنسا؛ إذ إنه سرعان ما انضمت مملكة نابولي إلى الحلفاء بمقتضى معاهدة القسطنطينية في ٢١ يناير ١٧٩٩م، كما ضغطت كل من إنجلترا وروسيا على الحكومة النمساوية، فأعلنت النمسا الحرب على فرنسا في ٢٤ يناير، وظلَّت بروسيا وحدها خارجة عن نطاق هذه المحالفة.١١٨
وما إن تم توقيع هاتين المحالفتين حتى شمَّر السير سدني عن ساعد الجد، وأخذ يدفع الأتراك دفعًا لإنجاز استعداداتهم لبدء العمليات العسكرية دون إبطاء، وكان أكثر ما أثار همومه ومتاعبه حالة الضعف التي كانت عليها البحرية العثمانية، حتى إنه كان من المتعذر الاعتماد على الأتراك وحدهم للقيام بأي عمل جدِّي دون مساعدة خارجية، فعوَّل السير سدني على أن يطلب النجدة من إنجلترا، فكتب في ذلك إلى اللورد نلسن (في ٢٤ يناير)١١٩ كما أنه طلب الإمدادات المالية من حكومته حتى يمكن تجهيز الأسطول العثماني، أو تقدم هي أسطولًا إنجليزيًّا للعمل بدلًا منه. وفضلًا عن ذلك فقد طفق السير سدني يكثر من عقد الاجتماعات مع الوزراء العثمانيين لبحث برامج العمليات العسكرية والبحرية ضد «الحملة» في مصر، ثم أبحر أخيرًا إلى رودس للاتفاق مع حاكمها حسن بك، وإلى عكا للاتفاق مع حاكمها الجزار باشا، بصدد برامج العمليات الحربية.١٢٠ ولقي سدني سمث في أثناء ذلك كله متاعب جمَّة، سببها غضب اللورد نلسن الذي ساءه أن تفلت من يده فرصة الإشراف على حصار مصر، والدفاع عن الشواطئ التركية، وأن يعين للقيام بهذه العمليات الهامة أحد الضباط الذين لم يشتركوا في معركة النيل (أو معركة أبو قير البحرية)، فضلًا عن إعطاء ذلك الضابط (أي سدني سمث) حقوقًا تجعله شبه مستقل عن قيادة نلسن في البحر الأبيض.١٢١ وزادت متاعب السير سدني بسبب عدم وصول كوهلر الذي تأخر خروجه من إنجلترا في وقت كانت الحاجة فيه ماسة إلى تنظيم القوات البرية العثمانية وإعدادها، وبخاصة عندما بدأ بونابرت نفسه يتأهب للزحف على سوريا في يناير ١٧٩٩م.١٢٢
ذلك أن أسبابًا عدةً كانت قد أقنعت بونابرت بضرورة غزو الشام قبل أن يبدأ أعداؤه الهجوم عليه في مصر، فقد بعثت إليه حكومة الإدارة منذ أن أخفقت مساعيها السياسية في القسطنطينية بكتاب في ٤ نوفمبر ١٧٩٨م،١٢٣ تذكر فيه استحالة المواصلات بين مصر وفرنسا، وإرسال الجند والذخيرة إلى بونابرت ما دام الإنجليز والروس أصحاب السيطرة في البحر الأبيض، وتطلب إليه أن يتخذ ما يراه من وسائل تكفل له الاعتماد على موارده في مصر فحسب، ثم تركت له أن يختار بين خطط ثلاث للعمل؛ أولاها: البقاء في مصر مع دعم مركزه بها بصورة تمكِّنه من دفع هجوم الأتراك عليه، وثانيتها: التقدم إلى الهند، حيث يجد كما هو منتظر شعوبًا على استعداد للانضمام إليه بغية تقويض دعائم السيطرة الإنجليزية في تلك البلاد، وثالثتها: الزحف برًّا إلى القسطنطينية، فيسبق بذلك عمليات العدو الذي يهدده. ذلك بأن صعوبات الموقف السياسي في أوروبا ما كانت تسمح لحكومة الإدارة بإصدار أية تعليمات أخرى، كما أن العودة إلى فرنسا باتت متعذرة. ولما كان بونابرت قد زحف بجيشه على سوريا، فقد يبدو أنه إنما فعل ذلك تنفيذًا لتعليمات حكومة الإدارة، غير أن هذه التعليمات وصلت إلى بونابرت يوم ٢٥ مارس سنة ١٧٩٩م؛ أي بعد أن أخذ يضيِّق نطاق الحصار على عكا بنحو أسبوع.
وواقع الأمر أن بونابرت كان قد كتب إلى حكومة الإدارة منذ ١٧ ديسمبر١٢٤ سنة ١٧٩٨م ينبئها بما كان يقوم به الأتراك في سوريا من استعدادات عدائية ضده. ولما كان الجزار قد امتنع عن الرد على رسائله، ووصلت إلى بونابرت التقارير من رينييه عن زحف جند إبراهيم بك والجزار باشا صوب الحدود المصرية (٣٠ ديسمبر)، ثم بلغه نبأ احتلال الجزار لقلعة العريش، وكانت العريش على مسيرة خمسة أيام فحسب من القطية آخر معاقل الفرنسيين في الحدود الشرقية؛١٢٥ فقد قرر بونابرت لهذه الأسباب جميعًا أن يسبق أعداءه ببدء الهجوم من جانبه، وأصدر أمره في ١١ يناير سنة ١٧٩٩م لطليعة الجيش بالسير نحو العريش، ثم استمر في الأيام القليلة التالية إصدار الأوامر الخاصة بالعمليات العسكرية. وفي ٦ فبراير بدأت الحملة السورية بوصول الجيش إلى قطية، فلم تمضِ أيام ثلاثة حتى كان الفرنسيون قد التحموا مع حامية العريش في معركة حامية. وفي ١٠ فبراير غادر بونابرت القاهرة، فبلغ العريش يوم ١٧ فبراير، واحتشدت جموع الفرنسيين ومدفعيتهم تحت أسوارها، واشتد إطلاق نيران المدافع على العريش، حتى اضطر إبراهيم أغا حاكمها إلى توقيع شروط التسليم في ٢٠ فبراير، فأُخليَت القلعة، واحتل الفرنسيون العريش، وأمضى الجيش بها بضعة أيام للراحة، واستؤنف الزحف بعدها إلى سوريا.١٢٦
وكان بونابرت قبل مغادرته القاهرة بساعة واحدة في طريقه إلى العريش قد كتب إلى حكومة الإدارة يبسط الأسباب التي أقنعته بالهجوم على سوريا١٢٧ فقال إن الإنجليز قد حصلوا من الباب العالي على وعد بإعطاء أحمد الجزار باشوية دمشق إلى جانب عكا، وإن عبد الله باشا وغيره من الباشوات العثمانيين يقيمون الآن في عكا استعدادًا للهجوم على مصر، وإنه — أي بونابرت — سوف يغادر القاهرة لقتالهم.

أمَّا الأغراض التي يرجو الوصول إليها من هذا الزحف، فقد لخَّصها بونابرت في قوله إنها أولًا: دعم فتوح الفرنسيين في مصر، ودفع خطر الهجوم على هذه البلاد من أية جيوش قد تنوي الزحف عليها من جهة الحدود الشرقية، أو تريد الاشتراك في العمل مع جيش أوروبي قد ينزل إلى الشواطئ المصرية، وثانيًا: إرغام الباب العالي على توضيح موقفه بصورة تساعد على نجاح المفاوضات التي لا شكَّ في أن حكومة الإدارة قد بدأتها مع الباب العالي في القسطنطينية، ثم تأييد بوشان الذي أُرسِل في مهمة لنفس الغرض إلى القسطنطينية، وثالثًا: حرمان الأسطول الإنجليزي في البحر الأبيض من تموين سفنه من سوريا، وذلك عند استطاعة بونابرت خلال شهرَي الشتاء اللذين بقيا له أن يجعل من الشاطئ السوري منطقة «صديقة»، سواء أتحقق ذلك بالطرق الدبلوماسية أم بحد السيف والمدفع. ومما يجدر ذكره أن بونابرت ما لبث أن ختم رسالته هذه بقوله إنه ما كان يسعه عند قيامه بهذه الحملة التفكير في موقف الجمهورية الفرنسية ذاتها لانقطاع أخبارها عنه مدة شهرين كاملين.

وواصل الجيش زحفه بعد سقوط العريش، فاحتل الفرنسيون خان يونس، ثم سقطت غزة والرملة واللد، وحاصر الجيش يافا فسقطت بعد أربعة أيام في ٧ مارس سنة ١٧٩٩م، وفي ٩ مارس أرسل بونابرت إلى شيوخ نابلس يخيرهم بين الحرب والسلام، حتى إذا اختاروا السلام طردوا من نابلس المماليك ورجال الجزار باشا. كما أصدر في اليوم نفسه منشورًا موجَّهًا إلى شيوخ وعلماء وأهل غزة والرملة ويافا يطلب منهم أن يخلدوا إلى الهدوء والسكينة، ويعدهم باحترام شعائرهم وعقائدهم الدينية، ونشر العدالة بينهم.١٢٨ ثم كتب إلى الجزار يدعوه إلى ترك القتال والعيش في سلام مع الفرنسيين، والانضمام إليهم ضد أعدائهم المماليك والإنجليز.١٢٩ وفي ١٣ مارس كتب بونابرت تقريرًا مفصَّلًا يصف فيه لحكومة الإدارة موقف الجزار العدائي، وإخفاق جميع ما قام به من محاولات لاستمالته، كما تضمَّن هذا التقرير ذكر المعارك التي خاضها جيش بونابرت في العريش وغزة ويافا خصوصًا. ووجد بونابرت في يافا عددًا كبيرًا من المصريين المحتمين في قلعتها، ومن بينهم السيد عمر مكرم، فلم يتعرض لهم بأذى، بل إن بونابرت على حدِّ قوله في الرسالة التي وصفت حوادث الغزو في الرملة ومدينتَي اللدِّ ويافا، وقرئت في ديوان القاهرة، قد «رقَّ قلبه لأهل مصر الذين كانوا في يافا من غني وفقير، فأعطاهم الأمان، وأمر برجوعهم إلى بلدهم مكرمين.»١٣٠
على أن الوباء سرعان ما انتشر بين الجند المرابطين في يافا، وزاد من خطره وجود حوالي ثلاثة آلاف من أسرى العثمانيين في حالة رثَّة سيئة، فكثرت الإصابات بين الفرنسيين. ولما كان هؤلاء متذمرين من قلة ما لديهم من مؤن. وكان الجيش على وشك استئناف الزحف على العدو؛ فقد بات من واجب قائد الحملة العام أن يفصل في أمر هؤلاء الأسرى، ولهذا عقد بونابرت مجلسًا حربيًّا لبحث هذه المسألة، ورئي في بادئ الأمر أن يرسل الأسرى إلى مصر، ولكن صعوبات عدة حالت دون ذلك، منها عدم وجود المؤن اللازمة لهؤلاء الأسرى في أثناء سيرهم الشاق إلى مصر، ويتعذر الاستغناء عن عدد من الجند الفرنسيين لحراستهم، كما كان يخشى من وقوعهم في قبضة الإنجليز إذا هم أُرسِلوا بحرًا إلى مصر، فقرَّ الرأي على إعدامهم رميًا بالرصاص وذلك بدلًا من أن يُتركوا في يافا يقضي عليهم الجوع بها، أو ينتهزون الفرصة للانضمام إلى جيش العدو ثانيةً، فأُعدِموا. ولا جدال في أن إعدامهم كان وصمة عارٍ في جبين قائد الحملة وذلك باعتراف المؤرخين الفرنسيين أنفسهم،١٣١ لأنه مهما كان نوع الأعذار التي انتُحلت لارتكاب هذه الجريمة الشنيعة، فإن هؤلاء المقاتلين كانوا قد آثروا التسليم وفق شروط اتفقوا عليها مع بوهارنيه Beauharnais   وكروازييه Croisier، من ياوران بونابرت، وما كان ينبغي بحالٍ من الأحوال، ومهما كانت الأسباب، أن يخلف الفرنسيون وعودهم، وأن يخرقوا قوانين الحرب المعترف بها. وفضلًا عن ذلك فقد كان في وسع بونابرت — كما يقول بعض أنصاره — أن يوفِّق بين ما يتطلبه العمل من أجل المحافظة على جيشه، وما كان يقتضيه واجب التمسك بتلك الشروط التي ارتضاها المحاربون في ميدان القتال. وقد لقي بونابرت جزاء ما فعلت يداه عندما أصرَّ العثمانيون وأحلافهم الذين نجوا من مذابح يافا على المقاومة بكل شدة أخذًا بثأرِ إخوانهم، فجنى بونابرت تحت أسوار عكا ثمار ما غرسه على شاطئ يافا.١٣٢
فقد استأنف الفرنسيون زحفهم بعد سقوط يافا فاحتلوا حيفا، ثم وصلوا إلى عكا وكانت ذات تحصينات منيعة، فبدأ بونابرت في حصارها في ١٨ مارس، وكان حصارًا شاقًّا طويلًا استمر ثلاثة شهور، صمدت في أثنائها عكا أمام قوات بونابرت بفضل ما أبداه أحمد الجزار من ضروب المقاومة العنيدة، وبفضل المساعدة التي استطاع السير سدني سمث أن يقدمها إلى العثمانيين المحاصَرين، وكان قد تمكَّن من الوصول إلى عكا قبل بونابرت بيومين اثنين فحسب. وفضلًا عن ذلك فقد استطاع السير سدني أن يُبقي الطريق مفتوحًا لوصول النجدات من رودس إلى عكا، وأن يشتت أسطولًا فرنسيًّا كان يحمل مدافع الحصار إلى بونابرت،١٣٣ كما أحضر على ظهر سفينته تيجر إلى عكا الكولونيل فيليبو Phélipeaux، زميل بونابرت في مدرسة بريين Brienne الحربية، وأحد المهاجرين الذين انضموا إلى أعداء الثورة منذ عام ١٧٩٢م، وقد التحق فيليبو بعد ذلك بخدمة إنجلترا بوصفه من ضباط المدفعية، وقدَّمه الآن السير سدني سمث إلى الجزار باشا باعتباره خير من يستطيع الإشراف على عمليات الدفاع عن عكا المحاصرة،١٣٤ وقد قام فيليبو بواجبه على خير وجه، وكثيرًا ما حاول بونابرت اقتحام أسوارها فأخفق في هجومه المتكرر على عكا في ٤، ٨، ١٠ مايو، حتى اضطر أخيرًا إلى رفع الحصار عنها في ١٧ مايو.
وحاول بونابرت في أثناء حصار عكا أن يستميل إليه شيوخ وزعماء البلدان المجاورة، فكتب إلى ملَّا مراد زاده بدمشق يطمئنه على استمرار الحج إلى مكة المكرمة، والمحافظة على شعائر المسلمين في دمشق، كما كتب يستميل إليه ابن الشيخ عمر ظاهر، الذي خلفه الجزار في باشوية صيدا، بعد أن قضى عليه، فلجأ ابنه الشيخ عباس بن الظاهر إلى جبل الدروز، وعاش معززًا مكرَّمًا بينهم، واستمتع بنفوذٍ عظيمٍ، يكاد لا يقل عن نفوذ أميرهم بشير الشهابي، فكتب إليه بونابرت الآن يعده بإرجاعه إلى حكومة البلدان التي اغتصبها الجزَّار من أبيه. وكتب إلى الأمير بشير يعده عند ظفره بضمان استقلاله، وإعطائه ميناء بيروت، وتخفيض الجزية التي يدفعها، كما كتب إلى شيخ نابلس يستميله إليه.١٣٥ وقد لبَّى الدروز دعوة بونابرت، فحضر وفدٌ منهم كان عباس بن الظاهر على رأسه لتحية بونابرت وعقد محالفة معه.١٣٦ غير أن هذه المساعي ما كانت لتسفر عن نتيجة جدية ما دام بونابرت عاجزًا عن اقتحام أسوار عكَّا المنيعة، وعاجزًا عن الزحف إلى الأمام ومطاردة العدو.
حقيقةً استطاع بونابرت أن يحرز انتصارًا كبيرًا على قوَّات العثمانيين المحتشدة في جبل طابور في ١٦ أبريل ١٧٩٩م، وأصبح الطريق إلى الشام مفتوحًا بفضل هذا الانتصار، ولكن وجود معقل الجزار باشا الحصين في عكَّا دائمًا في مؤخرته منعه من استئناف الزحف، بل إن بونابرت ما لبث أن أرسل إلى حكومة الإدارة في ١٠ مايو١٣٧ تقريرًا مفصَّلًا عن جميع المعارك التي خاض جنده غمارها منذ حصار عكَّا، وقد تحمَّل جيشه في أثنائها خسائر كبيرة، فقتل من قوَّاده بون Bon وكفاريلِّي وديتروي Detroye   وهوراس ساي Horace Say. وكان من الواضح أن بونابرت قد اعتزم رفع الحصار عن عكا والعودة إلى القاهرة. وهكذا لم تمضِ أيام قليلة حتى كتب بونابرت إلى ديوان القاهرة في ١٦ مايو يعلن عزمه على مغادرة الشام، ويعد بالوصول إلى القاهرة سريعًا،١٣٨ وفي اليوم التالي أذاع بونابرت نداءً بين الجند أبلغهم فيه قرار العودة إلى مصر.١٣٩
ومنذ ٢٠ مايو صدرت الأوامر النهائية باتخاذ الترتيبات اللازمة لتنظيم تقهقر الجيش عن عكَّا والعودة إلى مصر، فغادر الجيش عكا، ثم مرَّ في تقهقره بيافا وغزَّة، ووصل إلى العريش في أول يونيو. وفي ١٤ يونيو دخل بونابرت القاهرة دخول الظافر المنتصر، وأقيمت الاحتفالات سترًا لهزيمة عكا. فوصف المعلم نقولا التركي موكب بونابرت بقوله:١٤٠ «فدخل مصر بموكبٍ شهير، ورآه الكبير والصغير، ومشت أمامه جميع العساكر الفرنساوية، وحكَّام وأعيان وعلماء وأغوات مدينة مصر المحمية، ودخل من باب النصر بالعز والنصر، وكان يومًا عظيمًا.» ولما كانت قد تطايرت الشائعات عن وفاته في أثناء الحملة الشامية، وانتشرت الاضطرابات في القطر بسبب غيبته الطويلة؛ فقد وجد لزامًا عليه أن يقضي على كل شك يكون قد ساور القاهريين في حقيقة انتصاره، وأصدر لهذه الغاية منشورًا في ١٩ محرم ١٢١٤ﻫ/٢٣ يونيو ١٧٩٩م «من محفل الديوان الخصوصي بمحروسة مصر»، لإذاعته في القاهرة وفي المديريات، تحدث فيه عن دخوله القاهرة من «باب النصر يوم الجمعة في موكب عظيم، وشنك جليل فخيم، وصحبته العلماء، والوجاقات السلطانية، وأرباب الأقلام الديوانية، وأعيان التجار المصرية، وكان يومًا عظيمًا مشهودًا، وخرجت أهل مصر لملاقاته، فوجدوه هو الأمير الأول بذاته وصفاته، وظهر لهم أن الناس يكذبون عليه، شرح الله صدره للإسلام. والذي أشاع عنه الأخبار الكاذبة العربان العاجزة، والغز الهاربة، ومرادهم بهذه الإشاعة هلاك الرعية، وتدمير أهل الملة الإسلامية، وتعطيل الأموال الديوانية، لا يحبون راحة العبيد، وقد أزال الله دولتهم من شدة ظلمهم، إن بطش ربك لشديد.»
وقد بسط بونابرت في هذا المنشور أخبار انتصاراته في الحرب الشامية، ثم ما فعله في عكا على وجه الخصوص عندما خرَّب أسوارها وهدم قلعتها التي تحصَّن بها الجزار باشا. وجاء في هذا المنشور أن بونابرت إنما رجع «إلى مصر المحروسة لأجل شيئين؛ «الأول»: أنه وعدنا برجوعه إلينا بعد أربعة أشهر، والوعد عند الحر دين. و«الثاني»: أنه بلغه أن بعض المفسدين من الغز والعربان يحرِّكون في غيابه الفتن والشرور في بعض الأقاليم والبلدان.»١٤١ وقد فصَّل بونابرت حوادث هذه «الفتن والشرور» التي حدثت في غيابه في تقرير له إلى حكومة الإدارة من القاهرة في ١٩ يونيو،١٤٢ فتحدَّث عن اشتعال الثورة في بني سويف، وهجوم إحدى السفن الإنجليزية على الإسكندرية وضربها بالمدافع في شهر فبراير ١٧٩٩م، ثم غرق تجليامنتو Tagliamento، من سفن المدفعية الفرنسية، في اشتباكٍ لها مع العدو أمام القصير في ٦ فبراير، ثم قيام الثورة في إحدى مدن مديرية الشرقية وإحراق هذه المدينة، كما ذكر مطاردة العربان بجوار الجيزة، وثورة مصطفى بك أمير الحج،١٤٣ وثورة البحيرة، وكان سببها ادعاء رجلٍ من أهل درنة أنه المهدي المنتظر، فتبعه مئات من المغاربة، واشتعلت الاضطرابات في دمنهور، التي ما لبث هذا المهدي حتى استولى عليها، فلم تخمد الثورة بها إلَّا عند حضور الجنرال لانوس Lanusse، الذي أوقع بأهل دمنهور مقتلةً عظيمةً، واضطر المهدي إلى الفرار إلى الصحراء بعد أن جُرِح،١٤٤ وقد اضطر لانوس كذلك إلى الاشتباك في قتال مع الثوار عند بحر مويس. وفضلًا عن ذلك فقد وصل إلى السويس مركبان إنجليزيان أطلقا عليها القذائف ثم انسحبا (في ٤ مايو).
وشُغل بونابرت في أثناء إقامته بالقاهرة بالقضاء على الفتن وتهدئة النفوس، ولكن سرعان ما جاءته الأخبار عن وصول الحملة العثمانية إلى الشواطئ المصرية، وكان بونابرت يتوقع مجيء هذه الحملة من مدة، وصار يتخذ العدة لإتمام التحصينات اللازمة، خصوصًا في العريش وقطية والإسكندرية، ويستعد لمقابلتها منذ عودته إلى القاهرة. ونزل الأتراك عند أبو قير في ١٤ يوليو، ثم احتلوا قلعتها في ١٧ يوليو، وانتقل بونابرت من القاهرة إلى الرحمانية في ١٩ يوليو لمواجهة الخطر الجديد، واتخذ مقر قيادته في الإسكندرية، فلم تمضِ أيام قلائل حتى التحم الفرنسيون مع العثمانيين في معركة أبو قير البرية في ٢٥ يوليو، وكانت حربًا شديدةً انهزم فيها العثمانيون شرَّ هزيمة، وجُرح حسين سيد مصطفى باشا قائدهم،١٤٥ ثم سُلِّمت قلعة أبو قير في ٢ أغسطس.١٤٦ وأرسل بونابرت التقارير الضافية عن هذه المعركة إلى حكومة الإدارة في ٢٨ يوليو، ثم في ٤ أغسطس ١٧٩٩م،١٤٧ وقدَّر خسائر الأتراك في المعركة بنحو ثمانية عشر ألف جندي. وفي ١١ أغسطس عاد بونابرت إلى القاهرة.

رحيل بونابرت إلى فرنسا

وكان من أثر الانتصار في هذه المعركة أن زال كل خطر على مصر من جانب العثمانيين على الأقل لبضعة شهور تالية؛ وذلك لأن هذا الفصل من فصول السنة لم يكن يسمح باستئناف العمليات العسكرية الهجومية من ناحية البر، فضلًا عن أن اندحار العثمانيين كان لا يشجعهم على إنزال قوَّات جديدة من البحر إلى الشاطئ المصري.١٤٨ وكان الفرنسيون محقِّين عندما نشرت صحيفتهم لوكورييه دوليجبت في ٦ أغسطس أن انتصار أبو قير قد أنهى عمليات «حملة السنة السابقة الدفاعية».١٤٩ بيد أن «معركة أبو قير البحرية» تمخضت عن نتائج أخرى هامة؛ إذ استطاع الفرنسيون بفضل اتصالهم بالعثمانيين والسير سدني سمث أن يقفوا على شيءٍ كثيرٍ مما كان يحدث في أوروبا بعد أن كادت تنقطع عنهم تمامًا أخبار القارة، منذ أن تحطم أسطولهم في أول أغسطس من العام السابق. وكان للأخبار التي جاءتهم عن طريق العثمانيين والسير سدني سمث خصوصًا أعظم الأثر في إقناع بونابرت بضرورة العودة إلى فرنسا بكل سرعة.
فقد انقطعت أخبار الوطن عن بونابرت من مدة طويلة، حتى اضطر إلى الخروج إلى سوريا وهو لا يزال متعطشًا إلى هذه الأنباء، فلم يظفر ببغيته إلَّا أمام أسوار عكا؛ ذلك أن حكومة الإدارة حاولت مرارًا الاتصال ببونابرت فأوفدت إلى مصر المواطن وينان مورو Winan Moreau١٥٠ يحمل أخبار ما جدَّ من حوادث في القارة، بعد تلك التي حملها إلى مصر المواطنان هاميلان Hamelin   وليفرون Livron، كما أرسل يوسف ولوسيان أخوا بونابرت رسولًا آخر من أسرة بارباكي Barbaki اليونانية، وإن كان هناك من يشك في صحة هذه الواقعة،١٥١ فوصل الرسولان إلى القاهرة في أوائل مارس ١٧٩٩م، وأرسلهما دوجا حاكم القاهرة إلى سوريا، فحظيا بمقابلة بونابرت أمام عكا في ٢٥ مارس.١٥٢ وليس من شك في أن هذه الرسائل التي وصلت إلى بونابرت أمام عكا كانت تحمل أنباء الموقف في فرنسا وفي أوروبا عمومًا، ولا جدال في أن هذه الأنباء أثارت مخاوف بونابرت من تعرُّض فرنسا ذاتها لخطر الغزو الأجنبي في أثناء غيابه عنها.١٥٣ وفضلًا عن ذلك فقد أثبت المعاصرون رسالة من حكومة الإدارة إلى بونابرت محررة في باريس في ٢٦ مايو ١٧٩٩م،١٥٤ تسلَّمها بونابرت بعد عودته من سوريا إلى القاهرة، وتشير هذه الرسالة إلى الأخطار المحدقة بالجمهورية، بسبب الجهود الخارقة للعادة التي تبذلها كل من النمسا والروسيا، وتطلب إلى بونابرت العودة بالقسم الأكبر من قوَّاته إن لم يكن الجيش كله، وذلك حتى يقود جيوش الإمبراطورية.
على أنه كان من المتعذر أن يعود قائد الحملة العام إلى فرنسا ما دامت مصر مهددة بالغزو؛ ولذلك فقد شُغل بونابرت على نحو ما رأينا باتخاذ التحصينات اللازمة، وتوزيع قوَّاته بين الحدود الشرقية والشواطئ الشمالية بصورة تمكِّنه من مقابلة العدو. ولمَّا كان بونابرت لا يزال شديد التعطش لمعرفة حقيقة الموقف في أوروبا، فقد انتهز فرصة الاشتباك مع العثمانيين لجمع المعلومات التي يريدها. وأكَّد مصطفى باشا القائد العثماني الذي وقع في أسره أن الحرب قد بدأت فعلًا في أوروبا من ستة شهور مضت، وأن الهزيمة قد لحقت بالجيوش الفرنسية. وعمد مصطفى باشا إلى مراوغةِ بونابرت، فلم يشأ أن يطلعه على كل ما كان لديه من أنباء، حتى يظل القائد الفرنسي نهبًا للشكوك والمخاوف.١٥٥ فلم يجد بونابرت بدًّا من محاولة الاتصال بالإنجليز، لعله يظفر منهم ببغيته، فاتخذ من مسألة تبادل الأسرى وسيلة لبلوغ غرضه، فبدأت المفاوضات مع الأتراك والإنجليز، وأوفد بونابرت لهذه المهمة الضابطين مرلان Merlin   وديكورش Descorches، واستطاع الأخير أن يحمل إلى بونابرت مجموعة من الجرائد الإنجليزية، وكذلك العدد الصادر من غازيتة فرنكفورت الفرنسية في ١٠ يونيو سنة ١٧٩٩م،١٥٦ وعرف بونابرت منها مقدار الهزيمة التي لحقت بالجيوش الفرنسية في ميادين القتال المختلفة، وعبث محاولة الأسطولين الفرنسي والإسباني الإفلات من رقابة جيرفيس ونلسن في البحر الأبيض.١٥٧
وتركت هذه الأخبار أثرًا عميقًا في نفس بونابرت، فقال بوريين: «وقد ظللنا شهورًا عدةً لا تصلنا أية أخبار من فرنسا؛ ولذلك فإنه ما إن وصلت بونابرت غازيتة فرنكفورت الفرنسية حتى انكب على قراءتها بشغف زائد، فلما فرغ من القراءة قال: «لقد وقع ما كنت أخشاه وضاعت إيطاليا فما أتعسهم! لقد ذهبت انتصاراتي جميعها سدًى ولا بدَّ لي من العودة حالًا دون أي إبطاء.»١٥٨ واستدعى بونابرت الجنرال برتييه وأطلعه على الجريدة، ثم أبلغه عزمه على الرحيل، ورغبته في اصطحابه معه، على أن يظل ذلك مكتومًا بينهما، ثم استدعى بونابرت أمير البحر غانتوم، وأمره بإعداد الفرقاطتين ميرون Muiron    وكارير Carrère، ثم مركبين آخرين وذلك لحمل بونابرت وصحبه إلى فرنسا.
ومع أنه يبدو في رأي كثيرين أن بونابرت كان قد اعتزم الرحيل إلى فرنسا من مدة سابقة، أو بالأحرى وهو لا يزال أمام أسوار عكا،١٥٩ فقد جاء تنفيذ هذه الرغبة بالسرعة التي تمَّ بها «مفاجأة» أثارت غضب أولئك الذين كانوا يودُّون هم كذلك العودة إلى الوطن، وصاروا يعتبرون الآن رحيل قائد الحملة «فرارًا من الميدان» مزريًا.١٦٠ ومع ذلك فمن المعروف أن بونابرت كان لا يتوقع البقاء في مصر طويلًا، بل كان قد عقد العزم على العودة السريعة إلى فرنسا لتولي قيادة الحملة المعدَّة لغزو إنجلترا حسب اتفاقه مع حكومة الإدارة، كما أن حكومة الإدارة كانت تنتظر عودته، ولم يحُل دون تنفيذ هذه الرغبة سوى انهزام أسطوله في أبو قير، وإعلان تركيا الحرب على فرنسا، وخروجه أخيرًا إلى الشام، كما أنه ظل يجهل حرج الموقف في أوروبا.١٦١ وعلى ذلك فإنه ما إن وصلته أخبار القارة وهو لا يزال بسوريا، حتى أخذ يفكر جديًّا في الرحيل إلى فرنسا، يدل على ذلك كتابه إلى غانتوم في ٢١ يونيو سنة ١٧٩٩م؛ أي بعد وصوله إلى القاهرة بأسبوعٍ واحدٍ فقط، يأمره فيه بإعداد الفرقاطتين ميرون وكارير، حتى يكونا على أهبة السفر في أي وقت من الإسكندرية.١٦٢
ومع أن الأخبار التي بلغته عن متاعب الجمهورية كانت غير كاملة، وتنتهي بتاريخ الحوادث التي ذكرتها عند ٨ فبراير سنة ١٧٩٩م؛ فقد كانت كافية لأن تقضَّ مضجعه، حتى إنه ما لبث أن كتب إلى حكومة الإدارة في ٢٨ يونيو ينصحها بعقد الصلح مع العدو إذا عجزت عن إرسال النجدات إليه من الجند والأطباء والجراحين، إلى جانب الأسلحة التي يستطيع بفضلها أن يسدَّ تلك الثغرات التي أحدثتها الحرب السورية في صفوفه، وأن يحتفظ بفتوحه في مصر ذاتها.١٦٣ وعلى ذلك فإنه ما إن اطمأن على هذه البلاد من خطر الغزو القريب بعد انتصاره في معركة أبو قير البرية في ٢٥ يوليو، حتى شرع يعمل جديًّا لمغادرة البلاد بكل سرعة، وتضافرت عوامل عدةٌ غير ما وقف عليه من أنباء الحرب في أوروبا على إقناعه بضرورة العودة.
ذلك أن الانتصار في هذه المعركة سوف يتيح له فرصة العودة إلى باريس رافع الرأس موفور الكرامة، فلا يذكر مواطنوه أمام هذا النصر الباهر شيئًا عن تلك الهزيمة الشنيعة التي حلَّت بأسطوله في العام الماضي. وفضلًا عن ذلك فقد دلَّت الاضطرابات التي وقعت في فرنسا ذاتها على أن الوقت قد حان لاقتطاف تلك «الكمثرى» التي انتظر بونابرت نضجها وقتًا طويلًا. وكان اشتعال الثورة في إقليم فنديه Vendée، وتعرُّض دستور عام ١٧٩٥م للزوال، وحديث اليعاقبة عن عودة الإرهاب؛ أشد الأخطار التي هددت كيان البلاد الداخلي. وهكذا اجتمع من العوامل الداخلية والخارجية ما صار يكفي لتوجيه الأنظار إلى بونابرت، ودعوته للحضور على عجل لإنقاذ الوطن.١٦٤
غير أن استعداد بونابرت للرحيل لم يمنعه من إتمام الإجراءات اللازمة للاطمئنان على تحصينات الحدود الشرقية والشواطئ، كما حاول أن يفتح باب المفاوضة من أجل عقد الصلح مع تركيا، فكتب إلى الصدر الأعظم في ذلك في ١٧ أغسطس ١٧٩٩م،١٦٥ ولم ينتظر بونابرت ردًّا على رسالته لأنه سرعان ما وصله من غانتوم في مساء اليوم نفسه أن السفن الإنجليزية والعثمانية قد أبحرت إلى قبرص، فطلب بونابرت من مرافقيه في السفر المنتظر أن يكونوا على أهبة الاستعداد للقيام مع قائد الحملة العام «برحلة في الوجه البحري» عند منتصف الليل، وفي صباح يوم ١٨ أغسطس غادر بونابرت بولاق مبكِّرًا، وأصدر وهو بمنوف في طريقه إلى الشاطئ أوامر عدة إدارية بشأن تنظيم الجيش وتوزيع قوَّاته، كما كتب إلى الجنرال كليبر في دمياط يطلب منه الحضور بكل سرعة لمقابلته في رشيد، وحدد يوم ٢٤ أغسطس موعدًا لهذه المقابلة؛ وذلك حتى يبحث معه «مسائل في غاية من الأهمية.»١٦٦ وعندما بلغ بونابرت الرحمانية في ٢٠ أغسطس كتب إلى منو في رشيد كي يحضر لمقابلته في اليوم التالي في مكان يقع بين أبو قير والإسكندرية. وفي يوم ٢١ أغسطس وصل بونابرت إلى «بركة غطاس»، وكان في اليوم التالي فقط١٦٧ عند اقترابه من الإسكندرية أن أخبر بونابرت رفقاءه أنه يعتزم اصطحابهم إلى فرنسا.
ولما كان يخشى من ظهور بعض سفن العدو بالقرب من الإسكندرية، فقد قرر بونابرت الرحيل دون انتظار حضور كليبر، واكتفى بمقابلة منو، فأطلعه على عزمه وعهد إليه بالقيادة في الإسكندرية ورشيد والبحيرة،١٦٨ كما سلَّمه طائفةً من الأوامر والتعليمات التي كان قد أعدَّها لكليبر. وفي مساء يوم ٢٢ أغسطس خرجت الفرقاطتان تصحبهما سفينتان صغيرتان من الإسكندرية، فكان على ظهر الفرقاطة ميرون كلٌّ من بونابرت وبرتييه وبوريين وبوهارنيه وديروك ومونج وبرتوليه، عدا آخرين غيرهم، بينما حملت الفرقاطة كارير القواد لان Lannes   ومورا Murat   ومارمون Marmont، وآخرين. وفي يوم ٩ أكتوبر ١٧٩٩م نزل بونابرت في ميناء فريجوز Fréjus في شاطئ فرنسا الجنوبي، وذلك بعد رحلة استغرقت سبعة وأربعين يومًا. وفي اليوم نفسه غادر بونابرت فريجوز إلى باريس،١٦٩ وكان في أثناء سفره إلى باريس أن كتب من مدينة إكس Aix في ١٠ أكتوبر رسالة إلى حكومة الإدارة١٧٠ يبسط فيها الأسباب التي أرغمته على العودة، ويذكر الإجراءات التي اتخذها للدفاع عن الشاطئ المصري بإشراف الجنرال كليبر وتحت قيادته، ثم أشاد بذكر النتائج التي ترتبت على انتصاره في موقعة أبو قير البرية، فقال: إن مصر قد زال عنها بفضل هذا الانتصار خطر الغزو تمامًا، وأصبحت ملكًا خالصًا لفرنسا، ولا ينازع الفرنسيين في امتلاكها أي منازع. وفي ١٣ أكتوبر وصل بونابرت إلى باريس.

كليبر وقيادة الحملة

على أن الرحيل عن مصر لم يكن معناه أن بونابرت كان ضعيف الإيمان بمشروع الاستعمار الفرنسي في هذه البلاد، أو أنه يرغب تسليم هذه المستعمرة «الجميلة» إلى أعدائه، إلا إذا أُرغِم على ذلك إرغامًا واقتضى عقد الصلح في أوروبا أن تتخلى فرنسا عن مصر ثمنًا لإنقاذ الجمهورية.

ولذلك فقد بدا اختيار كليبر لقيادة الحملة العامة في نظر كثيرين من المعاصرين أمرًا غريبًا؛ لأن كليبر كان وقتئذٍ من زمرة أولئك الذين اعتقدوا بأن مشروع الاستعمار الفرنسي في مصر مقضيٌّ عليه بالفشل لا محالة، بسبب ما تضافر من عوامل جعلت في نظرهم مركز «الحملة» في هذه البلاد على جانبٍ عظيمٍ من الخطورة، نظرًا إلى تحطيم أسطولها، وما تكبدته من خسائر فادحة في الحرب الشامية، وفي أثناء النضال المستعر ضد الثورة المشتعلة في الصعيد وسائر الأقاليم المصرية، وتعذر جلب النجدات من جندٍ وأسلحةٍ وذخائر ومؤن، مع حاجة المستعمرة النائية إلى ذلك كله، عندما ظل الأسطول الإنجليزي صاحب السيطرة في البحر الأبيض، وكاد ينقطع كل اتصال بين مصر وفرنسا. أضف إلى ذلك ما كان يتوقعه هؤلاء «الزاهدون» في استعمار مصر من إطباق جيوش العدو على هذه البلاد لغزوها من كل جانب.

وقد عزا كثيرون اضطرار بونابرت إلى تسليم قيادة الحملة إلى كليبر من جهة، ثم انحياز كليبر إلى جانب أولئك الناقمين على مشروع الاستعمار الفرنسي في مصر من جهة أخرى؛ إلى أن بونابرت ما وقع اختياره على كليبر إلا لرغبته في عودة الجنرال ديزيه إلى فرنسا، واعتقاده أن كليبر كان أكفأ قوَّاد الحملة بعد ذهاب ديزيه، وأقدرهم على تحمل عبء المسئولية،١٧١ فعهد إليه بقيادة الحملة، ويستندون في ذلك إلى ما جاء في تعليمات بونابرت نفسه إلى منو في ٢٢ أغسطس سنة ١٧٩٩م. وقال أصحاب هذا الرأي تعزيزًا لما ذهبوا إليه إن العلاقات بين الرجلين لم تكن ودية في أثناء وجود بونابرت في مصر، وزعموا فضلًا عن ذلك أن عدم صفاء العلاقات بينهما أثَّر تأثيرًا بالغًا على السياسة التي اتبعها كليبر فيما بعد، حتى إنه أهمل تنفيذ التعليمات التي تركها له بونابرت، وصار يطلب الجلاء عن مصر بكل وسيلة. واستندوا في ذلك إلى أن الرجلين لم تكن بينهما معرفة سابقة قبل مجيئهما إلى مصر، وإلى أن بونابرت كثيرًا ما كان ينقد إدارة كليبر في حكومة الإسكندرية، كما أن هذا الأخير لم يكن راضيًا عن بعض أعمال بونابرت وتصرفاته، فكان أن عظمت أسباب الجفاء بينهما. وهذا القول وإن كان أعظمه صحيحًا فإنه لم يُعرف عن بونابرت من جهة أخرى أنه كان يجفو الرجل ذلك الجفاء الذي يجعل كل تعاون بينهما متعذرًا، ويحمل كليبر على التفريط في مصلحة الوطن نكايةً في بونابرت فحسب.
نعم، من المسلَّم به أنه لم يكن بينهما معرفةٌ ولم يتقابلا قط قبل قيام الحملة إلى هذه البلاد،١٧٢ ومع ذلك فقد أسهم كليبر في حروب الجمهورية، فضلًا عن اشتراكه في إخماد ثورة الفنديه، وأظهر كفاية ممتازة عند قيادة جيش السامبروالموز، حتى إن حكومة الإدارة ما كانت لترضى بالاستغناء عن خدماته عندما طلب كليبر الاستقالة من قيادة هذا الجيش،١٧٣ بل ظلَّ يقوم بأعباء منصبه حتى تسلَّم الجنرال هوش قيادة جيش السامبروالموز في مارس ١٧٩٧م. وقائدٌ تلك مكانته ما كان بونابرت ليغفل عن السؤال عنه ومعرفة نشاطه. ومع أن كليبر فضَّل العزلة بعد ذلك فلم يشترك في انقلاب ١٨ فركتيدور (٤ سبتمبر ١٧٩٧م)، على خلاف ما فعل منو الذي أخفق في مهمته على نحو ما سبق ذكره؛ فإنه ما بدأ العمل جديًّا للانتقام من إنجلترا عقب عقد الصلح مع النمسا في كامبو فورميو حتى قرر بونابرت الاستفادة من خدماته، فبعث إليه بالجنرال كفاريلِّي أحد أصدقاء كليبر الحميمين وزملائه في جيش السامبروالموز يطلب إليه الالتحاق بجيش إنجلترا في يناير ١٧٩٨م، فقبل كليبر، وفي ١٢ أبريل صدر قرار حكومة الإدارة «باستخدام كليبر تحت قيادة بونابرت في الحملة المعدة في طولون». ومع أن الغرض من إعداد هذه الحملة قد ظلَّ سرًّا مكتومًا، فقد كان كليبر أحد أولئك الأفراد القلائل الذين وثق بهم بونابرت، فوقف على حقيقة أمر الحملة وذلك قبل صدور الأمر بتعيينه، فانكب يفحص التقارير والخرائط الخاصة بالهند وفارس ومصر، ويدرس مجرى النيل وطبيعة الأقاليم والبلدان المصرية التي توقَّع حدوث المعارك الهامة بها، وقد حدث ذلك كله قبل سفره إلى طولون.١٧٤
وحملت البارجة فرنكلان الجنرال كليبر إلى الشواطئ المصرية، فاشترك في الهجوم على الإسكندرية، ولكنه أُصيب بجرحٍ في رأسه، فانتقلت قيادة جيشه إلى الجنرال دوجا، وترك كليبر في حكومة الإسكندرية، على الرغم من نزوع نفسه إلى الخدمة العاملة، والالتحاق بقائده بونابرت الذي حمل له في قلبه محبة واحترامًا كبيرين كثيرًا ما أفصح عنهما بعبارات صريحة حاسمة،١٧٥ حتى إن بونابرت ما لبث أن وعد في ٣٠ يوليو بضمه إلى صفوف الجيش العامل خلال الأسبوعين التاليين، ولكن نزول الكارثة بأسطول برويس في أول أغسطس سرعان ما جعل الرجلين يجفو أحدهما الآخر.
فقد كان كليبر لا يوافق على الخطة التي اتخذها برويس من أول الأمر لمقابلة أسطول العدو، فيقف بسفنه جامدة تطوي قلاعها في خطٍّ غير متحرك يتيح لعدوٍّ امتاز بالمهارة إصابة هدفه بكل سهولة. كما ساء كليبر أن يرى بونابرت يسيء إلى كونترأميرال «بلانكيه-دوشايله Blanquet Duchayla»، ويحاول إلقاء شطر من مسئولية الهزيمة على عاتقه، مع ما أبداه هذا الأميرال من ضروب البسالة على ظهر بارجته فرنكلان، وإصابته في أثناء المعركة.١٧٦ واتسعت شُقة الخلاف بين كليبر وبونابرت عندما عمد هذا الأخير إلى فرض الغرامات يملأ بما يتجمع منها لديه خزانته الخاوية، فلم يرضَ كليبر عن هذه السياسة حرصًا منه على عدم تنفير الأهلين، وبخاصة عندما صارت تحضر إليه وفود العربان للاتفاق على السلام معه. ولما كان كليبر نفسه في حاجةٍ ملحةٍ دائمًا إلى المال للإنفاق على شئون الإدارة والجيش في الإسكندرية، ثم لتموين الإسكندرية ذاتها بالغلال والمؤن، خوفًا من انتشار المجاعة بها؛١٧٧ فقد استولى على الأموال التي خصصها بونابرت وأرسلها لإصلاح البقية الباقية من الأسطول المتحطم، ودفع منها مرتبات الجند المتأخرة، كما أنفق منها على فروع الإدارة المختلفة. وساء بونابرت هذا التصرف، وألحَّ في ضرورة تسليم المبالغ التي أرسلها له إلى الأسطول، وشدَّد عليه في جمع غرامة كبيرة من تجار الإسكندرية، ووجَّه إليه نقدًا لاذعًا؛ إذ كتب إليه في إحدى رسائله: «إن إدارة الإسكندرية تكلِّف ضعف ما يُنفَق على سائر الجيش، كما تكلِّف مستشفيات الإسكندرية التي لا يوجد بها سوى ألف جريح فقط مبلغًا من المال يزيد كثيرًا على ما تتكلفه مستشفيات الجيش بأجمعها.»١٧٨ فعدَّ كليبر هذا القول تأنيبًا لا يستحقه، كما امتنع عن جمع الغرامة المطلوبة، وعرض على بونابرت استقالته من حكومة الإسكندرية، كما أنه طلب تحقيقًا في أمرٍ لو صحَّ نسبته إليه لخسر سمعته، وثبتت عليه تهمة تبديد أموال الجيش، وهو الرجل الذي لم يحضر إلى مصر «لكي يجمع ثروة».١٧٩
وقد يعدُّ كثيرون ذلك النقاش الذي دار بين الرجلين خلال شهرَي أغسطس وسبتمبر ١٧٩٨م سببًا لوجود الجفاء الذي اعتقد هؤلاء أنه كان من المتعذر على الرجلين نسيانه. ومع ذلك فمن الثابت أن بونابرت سرعان ما أخذ يسعى لإزالة أي أثرٍ قد ينجم عن إساءة لم تكن متعمدة بحالٍ من الأحوال،١٨٠ فوسَّط كفاريلِّي في الأمر، ثم دعا كليبر إلى القاهرة، فوصلها في ٢١ أكتوبر.١٨١ وعندما خرج الجيش إلى سوريا كان كليبر من بين قوَّاده، وأولاه بونابرت ثقته الكاملة، وظهر تعاون الرجلين في أثناء معركة جبل طابور التي كان عامل النصر الحاسم فيها وصول بونابرت بنجداته لتعزيز قوات كليبر، ووفَّاه بونابرت حقَّه من الثناء عندما اعترف في رسائله بجهوده في هذه المعركة، ورفض أن يتحدث عن نصيبه هو في إحراز هذا الانتصار في تقريره الذي رفعه عن معركة جبل طابور إلى حكومة الإدارة في ١٠ مايو ١٧٩٩م.١٨٢ ومع ذلك فقد ذكر مارمون وبوريين أن سوء التفاهم كان سائدًا بين الرجلين في أثناء الحملة السورية، ويبدو أن ذلك قد حدث في أثناء حصار عكَّا؛ لأن كليبر كان يرى أن الثغرة التي فتحها الفرنسيون في أسوار عكَّا من الضيق بحيث لا تسوغ هجوم الجيش على هذا الحصن المنيع، فأشار بإرجاء الهجوم، كما أنه لم يجد الخنادق التي شقَّها الفرنسيون حول القلعة ذات عمقٍ يكفي لحماية الجنود من نيران العدو. وفضلًا عن ذلك فقد أظهر كليبر شيئًا من الضجر والملل وهو في المؤخرة يحمي ظهر الجيش في أثناء تقهقره من سوريا. ومن الواضح أن تلك لم تكن أسبابًا كافيةً لإثارة سوء التفاهم بين الرجلين، ناهيك بمثل ذلك الجفاء المزعوم بينهما.١٨٣
وواقع الأمر أن بونابرت عندما اختار كليبر لقيادة الحملة العامة، إنما فعل ذلك بعد إمعان الفكر، وعن رغبة صادقة، وما كان ليفضِّل عليه ديزيه لملء هذا المنصب، وإن كان هذا الأخير «أكثر تواضعًا من كليبر، ويساويه في كفايته العسكرية».١٨٤ ذلك أن كليبر كان قد أثبت مقدرة إدارية فائقة في أثناء حكمه بالإسكندرية، لا يقلل من شأنها ذلك الخلاف الذي حدث بينه وبين بونابرت، وكان من أسبابه الهامة إنفاق كليبر المال في غير الوجوه التي أرادها بونابرت. وفضلًا عن ذلك فإن ديزيه نفسه كان قد ارتكب كثيرًا من «المخالفات» الإدارية في أثناء حملته في الصعيد، وذلك عندما صار يستولي على الأموال من الأقاليم التي لم تشملها قيادته؛ وذلك للإنفاق منها على جيشه وعلى عملياته العسكرية، حتى إن بونابرت ما لبث أن كتب إلى زايونشك Zajonchek قومندان بني سويف في ١٧ أغسطس ١٧٩٩م،١٨٥ أي قبل سفره بخمسة أيام فقط ينهاه عن الخطأ الذي يرتكبه بسماحه للجنرال ديزيه بأن يستولي على أموال مديريته، ويلفت نظره إلى أمر أصدره بونابرت في اليوم نفسه لمنع وقوع أي تهاون في جمع الأموال والميري في الأقاليم، وعدم استقطاع شيءٍ من المبالغ المتحصلة مهما تكن الأسباب.١٨٦
وواضح من كل ما تقدم أن بونابرت لم يكن مرغمًا على اختيار كليبر لقيادة الحملة العامة، بل إن هناك ما يدعو كذلك إلى الاعتقاد بأن هذا الاختيار كان قد تمَّ الاتفاق عليه مقدَّمًا بين بونابرت وحكومة الإدارة قبل خروج الحملة، فقد حدث عندما قدم بونابرت إلى حكومة الإدارة مذكرته المعروفة عن الحرب ضد إنجلترا (١٣ أبريل سنة ١٧٩٨م)١٨٧ — وقد رأى بونابرت أن شتاء عام ١٧٩٩م هو خير الأوقات ملاءمة لبدء هذه الحرب — أن مرلان دي دويه Merlin de Douai، أحد أعضاء هذه الحكومة الذين حضروا مناقشة موضوع الغزو وقتئذٍ؛ ما لبث أن أكد لأخصائه حصول الاتفاق بين بونابرت وحكومة الإدارة على أن يتسلم الجنرال كليبر قيادة الحملة العامة في مصر عند عودة بونابرت إلى فرنسا.١٨٨

وعلى ذلك فإذا ثبت أنه لم يحدث من كليبر وبونابرت ما يدعو لإثارة الجفاء بين الرجلين بالصورة التي تجعل التعاون بينهما متعذِّرًا، وإذا ثبت كذلك أن بونابرت لم يكن مرغمًا على اختيار كليبر للقيادة العامة؛ فالواجب يقتضي كل منصف أن يبحث سياسة كليبر كقائد عام للحملة في مصر على ضوء جديد لا يلبث أن يكشف عن حقيقةٍ واضحةٍ، هي أن هذه السياسة وإن كانت تقوم في جوِّها على مبدأ الجلاء عن مصر، فإنها كانت تتفق من نواحيها المختلفة مع الأهداف التي تضمنتها التعليمات التي تركها إليه بونابرت نفسه قبل رحيله إلى فرنسا.

وقد بادر منو منذ ٢٤ أغسطس بإرسال هذه التعليمات التي تركها بونابرت بين يديه باسم كليبر إلى قائد الحملة العام في رشيد،١٨٩ وكان بونابرت قد أعدَّ مع هذه التعليمات أمرًا بإعطاء القيادة العامة إلى كليبر،١٩٠ وترك بعض الأوراق التي تحمل آخر الأنباء عن الموقف في أوروبا، كما أعدَّ مذكِّرات منفصلة تتناول بعض المسائل التي أشار إليها في تعليماته. ولعل أهم ما جاء في هذه التعليمات١٩١ حديث بونابرت عن الكتاب الذي بعث به إلى الصدر الأعظم لفتح مفاوضات الصلح مع تركيا،١٩٢ وضرورة إرسال حامل هذا الكتاب إلى قبرص، ثم إرشاداته لقائد الحملة الجديد في موضوع الصلح مع تركيا عمومًا. ولمَّا كان بونابرت يعلم بحاجة الحملة إلى الإمدادات، فقد أخذ على عاتقه مسئولية إرسالها، واعتمد بونابرت في ذلك على إمكان خروج الأسطول الفرنسي والأسطول الإسباني الحليف من موانئ فرنسا وإسبانيا محمَّلين بالأسلحة والذخائر وقسم من الجيش الاحتياطي كذلك،١٩٣ ثم وعد باتخاذ الإجراءات الكفيلة بإبلاغ كليبر كل ما يهمه من أخبار من حينٍ لآخر، كما بسط قواعد السياسة الداخلية الواجب اتباعها في مصر ذاتها، وقوامها «أولًا» الاعتماد على صداقة المسيحيين، مع منعهم من الاستخفاف بمواطنيهم دفعًا لتعصب «الأتراك» ضد الفرنسيين. «وثانيًا» التمتع بثقة مشايخ القاهرة، لما لهم من نفوذ ظاهر على سائر أفراد الشعب. وأشار بونابرت كذلك إلى ضرورة إتمام تحصينات الإسكندرية والعريش والبرلس، والعمل بكل وسيلة لتنظيم شئون الإدارة «المرتبكة»، على أن يُعهد إلى المواطن بوسيلج — وهو رجل جدٍّ وعملٍ — بالشئون المالية فحسب، لعله بفضل ما اكتسبه من خبرة ودراية بأحوال البلاد يستطيع تنظيمها.

وكان أهم أجزاء هذه التعليمات ولا شك تلك التي تناولت المفاوضات مع العثمانيين، فقد خوَّل بونابرت الجنرال كليبر الحق في إبرام الصلح مع تركيا، ثم قيَّد هذا الحق في الوقت نفسه بقيودٍ معينة، فلا يتم اتفاقٌ إلَّا إذا أخفقت حكومة الجمهورية في محاولاتها الاتصال بالجنرال كليبر، وتعذر وصول أية نجدة وأي خبر إليه من فرنسا خلال الشهور المقبلة «من الآن إلى شهر مايو» من عام ١٨٠٠م، ثم تفشى الطاعون وهلك بسببه ألف وخمسمائة جندي، وبات لذلك من المخاطرة زجُّ الجيش في الحملة المتوقعة، فعندئذٍ فقط يحق له إبرام الصلح مع تركيا، ولو كان الجلاء عن مصر من شروط هذا الصلح الأساسية. ثم عاد بونابرت فطلب من كليبر أن يعمل حتى في حالة قبول هذا الصلح على إرجاء تنفيذ شروطه إلى حين الصلح العام في أوروبا إذا كان هذا ممكنًا. كما طلب إليه أن يشترط في نظير الصلح على أساس الجلاء عن مصر انفصال الباب العالي عن المحالفة الدولية، وإعطاءه الفرنسيين حق التجارة في البحر الأسود، والموافقة على هدنة ستة شهور يتم في أثنائها تبادل التصديق على المعاهدة، حيث إنه من المتعذر تنفيذها قبل التصديق عليها، وأن يشترط فضلًا عن ذلك عدم حصول أي عمل عدائي خلال هذه الهدنة. وقد أوضح بونابرت في تعليماته أسباب هذه القيود جميعها بقوله مخاطبًا كليبر: «وإنك تقدر أكثر من أي شخص آخر أيها الجنرال المواطن أهمية احتلال مصر وبقائها في يد فرنسا … إن الإمبراطورية العثمانية المهددة بالانهيار من كل جانبٍ تتداعى أركانها اليوم، وسيكون إخلاء فرنسا لمصر من المصائب التي تعظم نتائجها، إذ قد ترى في أيامنا هذه البلاد تنتقل إلى يد أوروبية أخرى.»

أمَّا المذكرات التي ضمَّها بونابرت إلى هذه التعليمات فكانت أربعًا أملاها بونابرت في تاريخ سابق؛١٩٤ عن «الإدارة الداخلية» وأعمال «التحصينات» ثم «الدفاع عن مصر» وأخيرًا عن «الشئون السياسية»، فتكلم في مذكرته الأولى عن ضرورة استمالة المشايخ والعلماء الدينيين حتى يتعاونوا مع الفرنسيين في إدارة شئون البلاد، فيفيد الفرنسيون من معاونة هؤلاء لهم، وهم قومٌ عدولٌ أغنياء وعلى خلق عظيم، فضلًا عن زعامتهم المعترف بها بين أهل البلاد، وانتهز بونابرت الفرصة فتحدث عن مكانة القاهرة في العالم الإسلامي بعد مكة المكرمة، وضرورة المُضِيِّ في محاولة إقناع المصريين بأن الفرنسيين يحبون القرآن «الكريم» ويحترمون الرسول . ووصف بونابرت المماليك بأنهم كانوا قوةً انتهى أمرها، وأوصى بأن يستمر استخدام الأقباط في تحصيل الضرائب، والقيام بغير ذلك من أعباء الإدارة المالية التي اضطلعوا بها؛ وذلك حتى يحين الوقت الذي يمكن استبدال أوروبيين بهم. وكان من رأيه أن يجري تعويد المصريين على الخدمة العسكرية حتى يمكن إلحاقهم بالجيش والبحرية.

وتحدث بونابرت في مذكراته عن «التحصينات» و«الدفاع عن مصر»، فأشار بضرورة إقامة الحصون في العريش والقطية والصالحية وفي وادي الطوميلات لصد هجوم البدو على مصر من جهة حدودها الشرقية، كما أشار بدعم تحصينات الإسكندرية وأبو قير ودمياط، وهي الأماكن التي يستطيع العدو إنزال قواته بها في الشواطئ الشمالية. وكان من رأيه أن هناك طرقًا ثلاثة يمكن منها غزو مصر ذاتها: أولها طريق غزة وبرزخ السويس للجيوش المجتمعة في الشام، وثانيها الشاطئ الشمالي للحملات الآتية من جهة البحر الأبيض، وثالثها الهجوم من الشرق والشمال معًا إذا اتَّحد العثمانيون والإنجليز في زحفٍ مشتركٍ على مصر، فيحضر الأولون من جهة الشرق، بينما ينزل الآخرون قواتهم في الشاطئ الشمالي، ووضع بونابرت خططًا مفصَّلة لمقابلة كل غزو محتمل.

وكانت مذكرته عن «الشئون السياسية» مذكرة هامة حقيقةً، رسمت خطوط تلك السياسة الأفريقية التي هدفت إلى اتخاذ مصر قاعدة يعمل الفرنسيون منها على دعم صلاتهم بأمراء الدول الأفريقية وسلاطينها، والتوغل في قلب القارة المجهولة، فطلب بونابرت أن يوفَد ممثلون إلى ممالك سنار والحبشة ودارفور لإنشاء العلاقات التجارية واستقدام نحو عشرة آلاف من العبيد سنويًّا لإلحاقهم بالجيش، وكان بونابرت قد بدأ فعلًا في تنفيذ هذه السياسة عندما بعث بالكتب إلى الحكَّام في درنة وطرابلس ودارفور على نحو ما سبق ذكره، ولمَّا كان لفرنسا قنصل في طرابلس فقد أشار بونابرت إلى ضرورة إقناع طرابلس وتونس بفائدة إرسال ممثلين سياسيين من قبلهم إلى مصر، وعقد بونابرت آمالًا كبيرة على استخدام هؤلاء في فتح طريق الاتصال بين مصر وفرنسا.

وعرض بونابرت في هذه المذكرة الموقف كما بدا له بين تركيا وإنجلترا وروسيا من جانب، وبين فرنسا من جانب آخر. ومما تجدر ملاحظته أنه ما كان يعتقد بصعوبة الاتفاق مع العثمانيين إذا نجح كليبر في استمالة الحجاج الوافدين إلى مصر للذهاب إلى مكة أو عند العودة منها إلى بلادهم، فيحمِّلهم الكتب والرسائل الشفوية إلى الصدر الأعظم، وإذا استطاع كذلك أن يرسل إلى الصدر الأعظم مفاوضين مهرة يستطيعون إقناع الصدر بأن الفرنسيين لا يريدون امتلاك مصر وإنما يستخدمونها طريقًا فحسب للوصول إلى الهند للانتقام من إنجلترا. وكان بونابرت لا يشك في نجاح هذه المحاولات لاعتقاده أن السلطان العثماني ما أقدم على الحرب ضد فرنسا إلَّا مرغمًا، وقد بات الآن يبغي إنهاءها بسبب الخسائر الفادحة التي تكبدتها جيوشه المرسلة من الشام ورودس من جهة، ثم انتباهه إلى كل هذه الأخطار التي أحدقت به من ناحية روسيا، وهي الدولة التي ناصبت تركيا العداء من أزمان بعيدة.

وفضلًا عن ذلك فقد اعتقد بونابرت أن عودة الصفاء والمودة بين الأتراك والفرنسيين إلى ما كانت عليه أيام فرنسوا الأول، كفيل بأن يمنع روسيا من القيام بأي عملٍ عدائيٍّ ضد جيش الشرق في مصر؛ ذلك بأن انتصار الفرنسيين السريع ثم جلاءهم عن هذه البلاد من شأنه إقناع القيصر بالتزام خطة المسالمة مع فرنسا التي لا يحمل القيصر في صدره أية ضغينة ضد جيشها في مصر. ولا جدال في أن الإنجليز وحدهم هم الذين يصرون على طرد الفرنسيين من هذه البلاد، ومع ذلك فقد كان من رأي بونابرت أن الفرصة قد أفلتت من أيديهم منذ أن انتقلت الحرب إلى إيطاليا وألمانيا ودول الشمال نتيجة لتأليف المحالفة الدولية الثانية، فأصبحت إنجلترا في حاجة ملحة إلى استخدام كل قوَّاتها في الحرب القارية. ومع ذلك فإن بونابرت ما كان يخشى شيئًا من استطاعة الإنجليز التفرغ لمناصبة الفرنسيين العداء في مصر، والاهتمام برعاية مصالحهم في الهند إذا حلَّت الهزيمة بالمحالفة الدولية وساد السلام في أوروبا؛ وذلك بأن تركيا سوف تجد أن من مصلحتها في هذه الظروف الجديدة أن تسعى لاجتذاب مودة الفرنسيين المنتصرين بصورة تحرم الإنجليز من الاعتماد على معاونة تركيا.١٩٥

تلك كانت فحوى التعليمات والإرشادات التي تركها بونابرت للجنرال كليبر، وواضح منها أن بونابرت عندما غادر هذه البلاد كان مهتمًّا قبل أي أمرٍ آخر بضرورة التفرغ لمنازلة أعداء فرنسا، وتحطيم المحالفة الدولية الثانية، وإرغام إنجلترا على قبول الصلح مع الجمهورية. وبناء على ذلك فقد غدا بقاء الحملة في مصر أو الجلاء عن هذه البلاد أمرًا أراد بونابرت مجرد المساومة فيه مع تركيا لإخراجها من المحالفة ضد فرنسا، فهو لا يتردد إذن في إخلاء مصر إذا تطلب الموقف العسكري والسياسي في أوروبا ذاتها هذا الجلاء، وكان من شأن ذلك إتاحة الفرصة لبونابرت حتى يعقد سلامًا في مصلحة دولته؛ ولذلك فإن أكثر ما كان يرجوه بونابرت أن يستطيع قائد الحملة الجديد إرجاء الخروج من مصر والجلاء عنها أطول مدة ممكنة، وإلى أن يتمَّ نهائيًّا عقد الصلح العام مع أعداء الجمهورية في أوروبا. على أن تنفيذ هذه السياسة كان مرتبطًا بتلك الخطة التي سوف تمليها ظروف الموقف على قائد الحملة الجديد، الذي كان من حقه بفضل إحاطته بدقائق المركز الذي وجد فيه جيش الشرق وقتئذٍ أن يتحمل مسئولية البت فيما إذا كان في قدرته البقاء في هذه المستعمرة الجميلة والتمسك بها مدة طويلة أو الجلاء عنها في أقرب وقتٍ وبكل سرعة.

تقرير كليبر

بلغت تعليمات بونابرت ورسائله الجنرال كليبر مساء ٢٢ أغسطس وهو لا يزال في دمياط، فقد وصل إلى رشيد بعد يومين ولم يجد أحدًا في انتظاره بطبيعة الحال لرحيل بونابرت في مساء يوم ٢٢ أغسطس نفسه على نحو ما تقدم، فاستبد به الغضب حتى إنه كتب إلى منو في صبيحة اليوم التالي لوصوله (٢٥ أغسطس) يقول إنه ما إن حضر إلى رشيد حتى وجد أن «الطير كان قد فر من وكره»، ويسأل منو في سخرية ظاهرة أن «يبسط له بعض تفصيلات عن رحيل «البطل» وصحبه المبجلين».١٩٦ غير أن هذا الغضب الطارئ سرعان ما خفَّت حدَّته رويدًا رويدًا عندما أخذ كليبر يتدبر الموقف وجاءته الأنباء من منو بانتقال القيادة إليه، حتى إنه ما لبث أن كتب إلى منو في عصر اليوم نفسه يطلب حضوره إليه للتحدث معًا في بعض الشئون الهامة ويقول له «إنه وإن كان يوافق على الأسباب التي حملت بونابرت على الرحيل فإن لديه — على الأقل — ما يقوله عن الشكل الذي تمَّ به هذا الرحيل.»١٩٧ ومع ذلك فقد أقبل كليبر من تلك اللحظة على تصريف الأمور بكل همة، فأصدر وهو لا يزال في رشيد منشورًا إلى قوَّاد الحملة، كما أصدر منشورًا آخر إلى الجند عند انتقاله إلى القاهرة١٩٨ لتهدئة نفوسهم وتطييب خواطرهم، فعزا رحيل بونابرت المفاجئ إلى «أسباب قهرية»، وتحدث عن انتظار وصول النجدات من فرنسا في وقتٍ قريبٍ إحياءً لأملهم. وفي ٢ سبتمبر جمع إليه القوَّاد وضبَّاط الوحدات المختلفة، كما عقد الديوان وأكَّد لأعضائه أنه لا يقل عن بونابرت رغبة في حمايةِ الدين الإسلامي ورعايته والسهر على سعادة المصريين وبسط ألوية العدالة بينهم، بل إنه وعد أن يحذو حذو بونابرت «الذي ظفر بمحبة العلماء والمشايخ والوجوه والأعيان باتباعه خطة العدل والنزاهة»؛ وذلك حتى يكون — على حدِّ قوله — جديرًا بتلك المحبة التي تمتع بها بونابرت.١٩٩ وانكبَّ كليبر يدرس شئون الإدارة عامة والمالية خاصة؛ فأعاد تنظيم الحكومة، وأصدر أمرًا في ١٤ سبتمبر ١٧٩٩م بتقسيم القطر المصري إلى ثمانية أقاليم إدارية كانت حواضرها سبعًا، هي: القاهرة حاضرة الجيزة والقليوبية وأطفيح وحاضرة بلبيس والشرقية والعريش والسويس، ثم حواضر الإسكندرية ودمياط وسمنود ومنوف وبني سويف وأسيوط. وأبقى كليبر الدواوين التي أنشأها بونابرت في الأقاليم كما نظم شئون تحصيل الضرائب، وعُني بضبط حسابات المديريات المختلفة فضلًا عن عنايته بسائر فروع الإدارة والاهتمام بنشاط الجنرال ديزيه في الصعيد،٢٠٠ فدل هذا النشاط على أن كليبر قد قرَّ عزمه على الاضطلاع بأعباء منصبه الجديد بكل همة.
ولكن وجود كليبر بالقاهرة سرعان ما جعله يلمس عن كثب مقدار السخط الذي أثاره رحيل بونابرت الفجائي بين فريقٍ كبيرٍ من رجال الحملة، حتى إن هؤلاء المتذمِّرين صاروا يعتقدون أن بونابرت ما غادر هذه البلاد إلَّا ليأسه من دعم أسس السيطرة الفرنسية في مصر نهائيًّا، وباتوا يعلِّقون آمالًا كبيرةً بسبب هذا الفشل نفسه على العودة قريبًا إلى فرنسا.٢٠١ وكان أشد الناس تذمُّرًا وتألُّمًا من ذهاب بونابرت دون أن يصحبهما معه، دوجا قائمقام القاهرة، وبوسيلج المختص بالشئون المالية. وكان بونابرت قد كتب إلى دوجا يوم مغادرته الإسكندرية خطابًا يفيض عطفًا واحترامًا للرجل الذي استحق ثناءه بسبب ما أبداه من نشاطٍ وحكمةٍ ساعدا على تهدئة الخواطر واستتباب الأمن والنظام في أثناء غياب بونابرت في حملة الشام،٢٠٢ فأنبأه بسفره إلى فرنسا «لأسباب قهرية»، ووعده بإرسال سفن حربية إلى هذه البلاد في الشتاء القادم في استطاعة دوجا أن يعود على واحدة منها إلى أرض الوطن.٢٠٣ ولكن دوجا ظل فترة من الزمن يعتقد أن بونابرت لم يغادر هذه البلاد وأنه لا يزال بالإسكندرية، فكتب إليه في ٢٦ أغسطس٢٠٤ يستوضحه سبب «سكوته» ثم «هروبه» دون إطلاع خلصائه على عزمه واصطحابهم معه، ولم يظفر دوجا بطبيعة الحال برد على رسائله، وعندئذٍ تأكد لديه رحيل بونابرت، فأصدر أمرًا يوميًّا يسوغ فيه رحيل القائد العام بوصول أوامر مشددة إليه بذلك من حكومة الإدارة، ويناشد الفرنسيين والمصريين على السواء «عدم القلق» بسبب غياب بونابرت،٢٠٥ ومع أنه شعر بالخجل والحيرة بسبب تشدده السابق في تكذيب هذا النبأ، واعتقد أنه إنما كان فريسة نفاقٍ وخدعة كبيرة،٢٠٦ فإن دوجا ما لبث حتى أخذ يعدُّ رسالة إلى «بارَّا» عضو حكومة الإدارة يصف فيها حال الحملة السيئة التي تركها عليها بونابرت، فقال:٢٠٧ إن بونابرت غادر البلاد «وتخلَّى» عن الحملة والخزائن والمخازن خاوية، فلا مالَ ولا بارود ولا سلاح، وتحصينات الإسكندرية وبلبيس والعريش ضعيفة وسيئة، ولقد فتك الوباء والرمد بعددٍ عظيمٍ من الجند إلى جانب من أهلكتهم المعارك السابقة، وقد ظلَّ الباقون دون ملابس، وقد تراكمت الديون على الحملة، ونقص عدد الجيش إلى سبعة آلاف جندي، وهذا كله في وقت يهدد فيه العدو — وهو على مسيرة ثمانية أيام فحسب — بالزحف على القاهرة.
وكان بوسيلج كذلك من أشد الناقمين على بونابرت بسبب عدم اصطحابه له في رحلته إلى فرنسا، وهو الذي اعتقد في قرارة نفسه أن بونابرت ما كان يستطيع الاستغناء عن خدماته، ولم يكسر من حدةِ نقمته عليه أن بونابرت شاء أن يتركه إلى جانب كليبر لمعاونته؛ لأن بوسيلج كما قال بونابرت كان رجل جد وعمل، وله إلمام بشئون الإدارة المصرية «المرتبكة»، ولم يفعل شيئًا في استلال سخيمته ذلك الكتاب الذي بعث به إليه بونابرت في الوقت الذي كتب فيه إلى دوجا نفسه ينبئه باضطراره إلى العودة إلى فرنسا بكل سرعة،٢٠٨ بل اعتقد بوسيلج أن بونابرت تعمَّد إخفاء نيَّاته عنه، كما تعمد أن يتركه في هذه البلاد، وكان هذا الاعتقاد كافيًا لأن يثير كوامن حقده ضد بونابرت والتشفي من ذلك الرجل الذي صار يصفه بالغدر والخيانة وقلة الوفاء، وكانت وسيلته إلى ذلك أن يهوِّل على كليبر الأمر، ويعمد إلى المبالغة عند تصوير جسامة ذلك الارتباك المالي الذي أشار إليه بونابرت في تعليماته.٢٠٩ واستطاع بوسيلج أن ينال بغيته بسبب اعتماد قائد الحملة الجديد عليه وعلى زميله دوجا في كل ما كان يطلبه من معلومات تبيِّن له «حقيقة» الموقف.٢١٠ ذلك أن كليبر الذي ظلَّ بعيدًا عن «مركز الأعمال»، ولا يعرف من دقائق الإدارة وتفاصيلها إلَّا ذلك النزر اليسير الذي أتاحته له فرصة وجوده بالإسكندرية ودمياط، بل إن كليبر الذي لم يشهد من أقاليم الدلتا سوى جزءٍ صغيرٍ من أرضها ذات الزراعة القليلة بسبب وقوعها «على حافة الصحراء» ظل يجهل كذلك ما كانت تتمتع به هذه «المستعمرة» من مواد للثروة العقارية يمكن استغلالها واستثمارها. وعلى ذلك فقد سهل على بوسيلج أن يدخل في روعه زيادة النفقات على الإيرادات زيادة عظيمة واستحالة الموازنة بين الدخل والمنصرف، بل استمرار الفرق بين الإيرادات والنفقات في الزيادة. واستعان بوسيلج في رسم هذه الصورة القاتمة بزميله دوجا الذي طفق هو الآخر يتحدث عن حال الجيش السيئة، فقال إن الجند تنقصهم الملابس والأسلحة والذخائر، وإنهم كانوا موزعين في طول البلاد وعرضها … في حامياتٍ صغيرةٍ يسهل على العدو اكتساحها.٢١١ فكان من سوء طالع كليبر حقًّا أن يجد بجانبه عند وصوله إلى القاهرة هذين الرجلين الناقمين على بونابرت شرق نقمة، فغدا هو الآخر ينظر إلى حالة الحملة بمنظار قاتم، ويحمِّل بونابرت مسئولية ما نزل بالجيش من بلاء عظيم.
وساعد على ذلك أن القاهرة حين مجيء كليبر إليها كانت قد أصبحت عالمًا يزخر بكل أولئك المتذمرين من الجند، الذين كانت لا تزال عالقة بأذهانهم ذكرى الأهوال التي صادفوها في زحفهم الصحراوي على القاهرة، واستبدَّ بهم الهمُّ والقلقُ منذ أن تحطم أسطول برويس في أبو قير، ثم جاء رحيل بونابرت ضغثًا على إبَّالةٍ، فصوَّر لهم الوهم والوجل أنهم إنما أُبعِدوا إبعادًا إلى هذه البلاد النائية، بل ونُفوا إليها، ولا سبيل الآن للعودة إلى أرض الوطن، فبات شغلهم الشاغل تدبير كل وسيلة للخروج من هذا المأزق، وادعى كثيرون المرض حتى يحصلوا على «شهادات مرضية» من أطباء الحملة وجرَّاحيها أمثال ديجنت Desgenettes   ولاري Larrey تجيز تسريحهم من الجيش.٢١٢ وكان لا يقل القوَّاد والضبَّاط عن جنودهم رغبةً في العودة إلى فرنسا، وعظُم تذمُّر الضباط على وجه الخصوص عندما فوجئوا برحيل بونابرت، وتطرف جماعة منهم فعدُّوا هذا الرحيل «هروبًا» يجب أن يُحاكم صاحبه أمام مجلس عسكري يقضي بإعدامه، كما يُحاكم كل جندي يجرؤ على التخلي عن مركزه في مواجهة العدو،٢١٣ وبلغ توتر أعصاب كبار رجال الحملة حدًّا جعل قائدين كالجنرال لانوس Lanusse والجنرال جونو Junot يحتدمان في نزاع أفضى إلى مبارزة كان من الميسور اجتنابها،٢١٤ واعتقد كثيرون أن غياب ديزيه في الصعيد وعدم وجوده إلى جانب كليبر في هذه الظروف الدقيقة كان من العوامل التي ساعدت على طغيان موجة التذمُّر على كل حكمة ورويَّة،٢١٥ فكان من أثر ذلك كله أن بدأ كليبر ينقد «مسلك» قائده السابق ويتهكم عليه في مجالسه الخاصة تهكُّمًا جارحًا، وبلغ حنق كليبر حدًّا جعله يفكر في إساءة بونابرت ويعمل على إثارة المشاكل بين بونابرت وزوجه من باريس،٢١٦ فأمر بترحيل السيدة فوريس Fourès إلى فرنسا حتى تلحق «بالبطل والعاشق الذي فقدته»،٢١٧ وأركبها منو البحر، ولكن الإنجليز سرعان ما قبضوا عليها وأعادوها إلى مصر ثانيةً. ونجم عن تسرع كليبر وعدم تحفظه في مجالسه أن ذاعت أقواله عن بونابرت، وصارت تتناقلها الألسن، وانقسم الجيش من ذلك الحين إلى فريقٍ يعتب على بونابرت مسلكه ويريد العودة إلى الوطن، وآخر أخذ على عاتقه دفع كل اتهام يوجَّه إلى قائدِ الحملة السابق، ويتمسك بالبقاء في مصر، وكان منو على رأس ذلك الفريق الثاني. واتسعت شقة الخلاف بين الفريقين عندما طفق كليبر ينقد بشدة سياسة حكومة الإدارة التي أفضت إلى الاشتباك مع العثمانيين، ويذكر صراحةً أنه لم يكن من رأيه بتاتًا «الذهاب إلى سوريا؛ لأن الصحراء — على حدِّ قوله — إنما هي بمثابة خندق» يفصل بين سوريا ومصر، كان يجب على الفرنسيين أن يتركوا للعدو مشقة اجتيازه، بينما يتحصن جيش الشرق في بلبيس والصالحية.٢١٨
فكان تحت تأثير هذه العوامل جميعها أن أرسل كليبر إلى حكومة الإدارة تقريره المشهور عن مركز الحملة في مصر عند رحيل بونابرت إلى فرنسا، ومع أن الإنجليز الذين صادروا هذا التقرير ثم نشروه يحمل يوم ٨ أكتوبر سنة ١٧٩٩م تاريخًا لكتابته،٢١٩ فقد اتفق الرأي على أن كليبر كتب هذا التقرير في ٢٦ سبتمبر،٢٢٠ وقد استهلَّه بعبارات تهكَّم فيها على بونابرت الذي غادر البلاد بكل سرعة دون مقابلته، وترك له خطابًا إلى الصدر الأعظم في القسطنطينية مع أنه كان يعرف تمامًا أن الصدر موجودٌ في دمشق، ثم تحدَّث عن حال جيش الشرق السيئة بسبب نقص قوَّاته إلى النصف تقريبًا، واتِّساع رقعة البلاد التي يطلب إليه احتلالها والتمسك بها والدفاع عنها ضد جيوش الباب العالي وإنجلترا وروسيا، وهي دول كبيرة تعمل متحدة لغرض واحد هو إخراج الفرنسيين من مصر، بينما ينقص الجنود الملابس والمؤن والأسلحة والبارود، وتفتك بهم الدوسنطاريا والرمد والأمراض الأخرى، ويستبد بهم الإعياء والتعب. والأمل في أن تستطيع «المسابك» التي أُنشئت ومصنع البارود في الروضة أن تسدَّ حاجة الجيش، كما أنه من المتعذر تنفيذ شيءٍ من الأوامر الكثيرة التي تركها بونابرت قبل رحيله لإمداد الجيش بالملابس وبحاجاته الأخرى، وذلك بسبب العوز المالي؛ لأن بونابرت قبل مغادرته البلاد كان قد استنفد كل مواردها خلال الشهور القليلة الأولى من الاحتلال، وجمع من غرامات الحرب كل ما يستطيع إنسان أخذه من البلاد، وحتى إن اللجوء إلى مثل هذه الأساليب الآن من شأنه أن يحرِّكَ الثورة ضد جيش الشرق في الوقت الذي يحيط فيه العدو بالفرنسيين من كل جانب، وفضلًا عن ذلك فإن بونابرت غادر مصر والخزائن خاوية خالية، ورواتب الجنود المتأخرة تبلغ حوالي أربعة ملايين فرنك، بينما تنوء الحملة تحت عبء دين ثقيل يقدَّر مع غيره من المطالب المستعجلة بحوالي عشرة ملايين فرنك، ولا تستطيع الحكومة أن تحصِّل شيئًا من الضريبة إلَّا في شهرَي نوفمبر وديسمبر، بل وقد يتعذر عليها أن تفعل ذلك عندئذٍ بسبب القتال المتوقع مع العدو؛ لأن مصر على خلاف ما يبدو من سكون أهلها الظاهر تكاد تكون متوثبة للثورة عند أول سانحة؛ إذ يتربص المصريون الدوائر بالفرنسيين، ويعتمدون في ذلك على المماليك الذين ما فتئوا ينجدونهم بالأسلحة وإرسال المال، في حين أن إبراهيم بك ما زال رابضًا بحوالي الألفين من مماليكه في غزة، وقد وصل ثلاثون ألفًا من جيش الصدر الأعظم والجزَّار باشا إلى غزة كذلك.

ثم انتقل كليبر من ذلك إلى الحديث عن «تخلص» بونابرت من مسئولية مواجهة هذه الأخطار التي كان يعرف تمام المعرفة وجودها، والتي ما كانت تجيز له تعليمات حكومة الإدارة محاولة التخلص منها. وناقش كليبر التعليمات التي تركها له القائد السابق بشأن إبرام الصلح مع الباب العالي «حتى ولو كان الجلاء عن مصر» شرطًا أساسيًّا لإبرامه، ثم تساءل: وماذا يستطيع ألف وخمسمائة رجل أن يفعلوا في أرض واسعة يجب الذود عنها ضد قوَّات العدوِّ الجسيمة إلى جانب الاشتباك في معارك يومية مع الأهلين؟ مع العلم بأن الإسكندرية والعريش، وهما «مفتاحا مصر» — على حدِّ قول بونابرت — تعجزان لأسباب عدة عن الدفاع والمقاومة، ولا يعني الانتصار في معركة أبو قير البرية أن الأتراك سوف يعجزون — كما توهَّم بونابرت — عن استئناف عملياتهم العسكرية بكل همة.

وعلى ذلك فإن كل ما يستطيع كليبر أن يفعله هو أن يمضي قُدُمًا في مفاوضات الصلح التي حاول بونابرت نفسه بدءها مع الأتراك، إذا أجاب الصدر الأعظم على رسالة بونابرت، فيقترح كليبر حينئذٍ إرجاع مصر إلى الباب العالي بشروط لخَّصها في «أن يوجد باشا في مصر نائبًا عن السلطان العثماني كما كان الحال سابقًا، وأن يترك له الميري الذي كان من حقِّ الباب العالي أن يتسلمه في الماضي، ولو أن الباب العالي ما كان يحصِّل من هذا الميري شيئًا، وأن يفتح طريق التجارة بين مصر وسوريا، وأن يبقى الفرنسيون في مصر يحتلُّون مواقعها المحصَّنة، ويجمعون الإيرادات بما في ذلك الضرائب الجمركية؛ وذلك حتى تعقد حكومة الإدارة الصلح مع إنجلترا.» وقال كليبر إنه يؤدي خدمة كبيرة لوطنه إذا ظفر ببغيته، ولو أنه توقَّع أن يحول دون تحقيق صلح على هذه الأسس تدخل الإنجليز واستخدام نفوذهم لإحباط مساعيه مستعينين في ذلك ولا شك بما عُرف عن الأتراك أنفسهم من صلف وكبرياء يجعل قبولهم هذه المقترحات متعذَّرًا. وقد سوَّغ كليبر قبول مبدأ الجلاء من جانبه كقاعدة أساسية لإبرام الصلح مع تركيا بعجز البحرية الفرنسية؛ ذلك أن فرنسا منذ أن فقدت بحريتها قد خسرت في رأيه تلك القوة الدافعة التي حرَمتها من السيطرة على الموقف والتي جعل فقدها إبرام الصلح مع تركيا أفضل الوسائل التي تمهِّد للفرنسيين طريقًا شريفًا يخلصون به من مشروع لا يمكن أن يحقق الأغراض التي دعت إليه. وأرسل كليبر مع تقريره بيانًا بالأدوات اللازمة للمدفعية، ثم ملخَّصًا بالديون التي عقدها بونابرت وغادر البلاد دون أن يسدِّد شيئًا منها.٢٢١ ولمَّا كان قد بلغه وصول سفن عثمانية أمام دمياط في انتظار أسطول القبطان باشا المجهز في يافا، فقد بادر كذلك بكتابةِ هذه الأنباء في ذيل تقريره، وقدَّر كليبر عدد الجيش العثماني من خمسة عشر إلى عشرين ألف جندي.

وهكذا كان واضحًا أن كليبر عندما بعث بهذا التقرير إلى حكومة الإدارة كان يعتقد أنه بات من المتعذر على الحملة البقاء في مصر طويلًا، وأنه قد وطَّد العزم على المفاوضة من أجل الجلاء عنها، وأراد أن يستند في عزمه هذا على أن الجيش والإدارة قد بلغا درجة من سوء الحال والارتباك تقضي على كل أمل في إمكان الاحتفاظ بالبلاد في وجه العدو المتألب عليها من كل جانب، وذلك بسبب حاجة الجيش إلى الأسلحة والعتاد إلى جانب النقص الظاهر في قوَّاته، ثم بسبب ضعف وسائل الدفاع في قطية والعريش وبلبيس ودمياط والإسكندرية، وهي مراكز الدفاع الهامة عن مصر.

على أن إعداد التقرير بالصورة المتقدمة كان معناه أن بونابرت وحده هو المسئول الأول عن إبلاغ الحملة إلى تلك الحال السيئة التي كانت عليها عند سفره؛ ولذلك فقد اعتبر كثيرون هذا التقرير بمثابة «اتِّهام» موجه ضد بونابرت نفسه،٢٢٢ وكان من المنتظر لهذا السبب عينه أن يعمد كثيرون إلى فحص الأقوال وتقدير الاعتبارات التي جاءت به والتي بنى عليها كليبر عزمه على المضي في مفاوضات الصلح من أجل الجلاء عن مصر بكل سرعة، حتى إذا تبين أنها غير صحيحة سقط الاتهام الموجه ضد بونابرت، وتحمَّل كليبر وحده مسئولية الرغبة في الجلاء.
ومع أن كليبر اهتمَّ في تقريره بإظهار حاجة الجيش إلى الأسلحة والمهمات، إلى جانب بيان ما وقع من نقص عظيم في قوَّاته، وذلك فضلًا عن اهتمامه بإظهار عوز الحملة وحاجتها الملحة إلى المال؛ فقد اتفق رأي الكثيرين — حتى من بين أنصار كليبر والمدافعين عنه — على أن تقرير ٢٦ سبتمبر ١٧٩٩م كان يحوي تفصيلات غير صحيحة،٢٢٣ ذلك أن عدد جيش الحملة عند خروجها إلى مصر في مايو ١٧٩٨م كان يبلغ ٢٩٤٠٢،٢٢٤ وقدَّر ديجنت طبيب الحملة خسارة جيش الشرق إلى ما بعد معركة هليوبوليس وثورة القاهرة الثانية بحوالي ٨٥٤٢،٢٢٥ يقابل ذلك انضمام آلاف الجنود البحريين إلى الجيش بعد كارثة أبو قير البحرية ثم إنشاء ثلاث فرق من اليونانيين (في أكتوبر ١٧٩٨م) عدد كل منها مائة في كلٍّ من القاهرة ودمياط ورشيد لحراسة «عربات البريد» في الطريق،٢٢٦ أي إن الجيش كان يبلغ عند رحيل بونابرت حوالي اثنين وعشرين ألف رجل.٢٢٧ وفضلًا عن ذلك فقد أعدَّ دوجيرو Doguereau رئيس أركان حرب المدفعية إحصائية في أول سبتمبر ١٧٩٩م جاء فيها أن عدد مدافع الجيش تبلغ ١٦٦، بينما وُجد في الحصون ٢٣٧ مدفعًا، أمَّا عدد القنابل أو الجلل فقد بلغ ٣٣٨٧٤٦، وبلغ عدد طلقات البنادق لدى المشاة ٥٧٨٨٩٣١ خرطوشة، ويقول الجنرال داماس Damas إنه كان بالإسكندرية وحدها ٦١ مدفع حصار من الطراز الفرنسي، و٨٨ مدفعًا من طراز أجنبي، عدا ١٨ مدفع ميدان و٤٨ مدفعًا من غير قنادقها.٢٢٨
ويدلُّ البحث من ناحية أخرى على أن كليبر كان محقًّا لدرجة ما في شكواه من قلة المال، وحاجة الحملة المستمرة إليه، على الرغم من الغرامات والإتاوات التي فرضها وجمعها بونابرت والمبالغ التي استدانها، حتى إن دوجا في القاهرة ما لبث حتى شكا من قلة المال أثناء الحرب الشامية، وطفق يؤكد حاجته الملحة إليه دائمًا،٢٢٩ فقد بلغ المتأخر من رواتب الجيش والبحرية حتى أواخر شهر أغسطس ١٧٩٩م حوالي ٩٥٥٠٧٩٥ فرنكًا، ولم يكن من المنتظر تحصيل ما يكفي من الضرائب والغرامات المالية وما إليها لسدِّ نفقات الحملة لأسبابٍ عدة، لعلَّ أهمها أن مياه الفيضان في عام ١٧٩٩م لم تغمر جميع الأراضي الزراعية، وذلك بينما بلغت رواتب الجيش ١٣٠٠٠٠٠ فرنك في الشهر الواحد،٢٣٠ وبلغت الديون التي تركها بونابرت ١١٣١٥٢٥٢٢٣١ فرنكًا، ومع ذلك فقد اعتقد كثيرون أن هذه الأزمة المالية لم تصل إلى درجة من الخطورة تجيز لقائد الحملة الجديد أن يملأ تقريره بمغالطات أو مزاعم غير صحيحة، فضلًا عن أن هذه الأزمة لم تكن كافية في نظرهم لإقناعه بضرورة الجلاء عن مصر بكل سرعة.٢٣٢
ووصل تقرير كليبر إلى باريس في ١٢ يناير ١٨٠٠م، كما وصلت في الوقت نفسه تقارير عدة بعث بها دور Daure مدير المهمات، وأستيف Estève مدير الخزانة، وكذلك طائفة من الضبَّاط ورؤساء المدفعية والمشاة والفرسان وآخرون غيرهم، استطاع بونابرت القنصل الأول أن يعتمد عليها في تفنيد ما جاء في تقرير كليبر من مزاعم، فكان مما ذكره بونابرت أن أحدًا في مصر لم يكن يعلم أن الصدرَ الأعظمَ عندما بعث إليه بونابرت برسالته كان قد غادر القسطنطينية، وعلاوة على ذلك فقد كان الصدر الأعظم في أرمينيا العليا في نهاية شهر أغسطس ١٧٩٩م، وعندما كتب كليبر تقريره؛ أي في أواخر سبتمبر، كان الصدر في الطوروس وليس في دمشق أو في حلب.٢٣٣ وناقش بونابرت قول كليبر عن نقص قوَّات الحملة وحاجة الجيش إلى الأسلحة والملابس وما إلى ذلك، فذكر مستندًا إلى ما جاء في تقارير دور وأستيف وغيرهما أن الجيش في شهر سبتمبر ١٧٩٩م كان يبلغ ٢٨٥٠٠، ولديه القدر الكافي من الأسلحة والملابس، ثم تناول مسألة حاجة الحملة للمال فقال إن المرتبات كانت تُدفع للجنود من مدة طويلة، ولا تزيد المتأخرات على ١٥٠٠٠٠ فرنك، ولو أن هذه كانت من زمنٍ بعيد. وفضلًا عن ذلك فمن المنتظر حسبما جاء في تقرير أستيف أن تحصِّل الخزانة ستة عشر مليونًا من الفرنكات. واعترض بونابرت كذلك على قول كليبر إن مصر على الرغم من هدوئها الظاهر كانت لا تخضع للفرنسيين، فكتب أن «مسلك الشعب في أثناء الحرب السورية كان لا يدع مجالًا للشك في أنهم يميلون إلى الفرنسيين، وعلاوة على ذلك فإنه لا يجب أن يخشى الإنسان شيئًا من جانب المماليك لضعف البكوات إبراهيم ومراد وعجزهما عن الهجوم أو المقاومة، كما أنه لا يوجد في سوريا في شهر سبتمبر سنة ١٧٩٩م رجلٌ واحدٌ من جيش الصدر الأعظم، بل إن الجزَّار باشا قد سحب جنده من غزة إلى عكا، فأصبح لا يوجد في غزة سوى أربعمائة فحسب من مماليك إبراهيم بك.»٢٣٤ وعُني بونابرت عنايةً خاصةً بدفع ذلك «الاتهام» الذي وجهه إليه كليبر عندما ذكر في تقريره أن بونابرت قد غادر مصر وهو يعلم بوجود «أزمة خطيرة» ويشعر باقتراب هذه الأزمة، حتى إنه — على حدِّ قول كليبر — ما لبث حتى أشار عليه في تعليماته بأن يعقد صلحًا مع الأتراك على أساس الجلاء عن مصر في الظروف التي أوضحها بونابرت له في تعليماته، فقال بونابرت: «إن هذه الأزمة الخطيرة كانت لا توجد إلَّا في مخيلة كليبر نفسه، ثم في مخيلة أولئك المتآمرين الذين أرادوا استثارة كليبر وحمله على ترك مصر ومغادرتها»، ذلك أن بونابرت الذي بدأ المفاوضات مع القسطنطينية غداة وصوله إلى الإسكندرية ثم استأنفها وهو في سوريا ما كان يبغي من وراء ذلك إلَّا تحقيق أغراض معينة، منها منع الباب العالي من إعلان الحرب وصرفه عن قتال الفرنسيين، أو على الأقل كسر حدته، وحتى يستطيع بطريق الرسل الفرنسيين والأتراك المستخدمين في هذه المفاوضات الوقوف على أخبار الحوادث في أوروبا ذاتها. وأمَّا تلك الأزمة الخطيرة التي تحدَّث عنها كليبر، فإنه لم يكن هناك قطُّ ما يدعو لوجودها؛ لأن الجيش الروسي الذي قيل عنه إنه يرابط في الدردنيل لم يكن إلَّا وهمًا وخيالًا، وكذلك الحال فيما يتعلق بذلك الجيش الإنجليزي الذي اجتاز المضيق، كما أن الصدر الأعظم سرعان ما يصطدم مع الجزَّار باشا بسبب غيرة الجزار الشديدة. أضف إلى ذلك كله أن جيش الصدر لا يزيد على خمسة آلاف فحسب، وفي وسع الصدر إذا شاء أن يجمع في آسيا أربعين أو خمسين ألفًا من الرجال، غير أن هؤلاء سيكونون كما يبدو من الرجال الذين لم يشهدوا قتالًا قط قبل ذلك، ولا يمكن أن يبلغ هذا الجيش قوة العثمانيين الذين قاتلوا في معركة جبل طابور، فالخطر المتوقع من جانب الصدر الأعظم وجيشه لا يستند إلى أي أساس، والحقيقة أن «مصر لا يهددها خطر ما إلَّا من جانب أصحاب الفكر السيئ والروح الخبيثة من رجال أركان الحرب الفرنسيين أنفسهم.» ثم انتقل بونابرت من ذلك إلى ذكر الأسباب التي دعته إلى إجازة عقد الصلح، فقال إنها كانت خوفه من انتشار الوباء في عام ١٨٠٠م وهلاك عدد عظيم من جند الحملة، ورغبته كذلك وبعد أن قضى الوباء في العام السابق على سبعمائة جندي تقريبًا أن يخفف من عبء المسئولية الملقاة على عاتق خلفه في القيادة، فأجاز له عقد الصلح دائمًا على شريطة أن يظل في مصر حتى يتم عقد الصلح العام في أوروبا. ومع ذلك فلم يحدث ما يقتضي تنفيذ هذا الجزء من التعليمات؛ لأن كليبر كتب تقريره في شهر سبتمبر سنة ١٧٩٩م، وكان لا يزال أمامه متسعٌ من الوقت حتى شهر مايو سنة ١٨٠٠م قبل عقد الصلح مع الباب العالي. ومن المحتمل — على حدِّ قول بونابرت — أن تكون قد وصلت إلى كليبر في أثناء هذه المدة الطويلة أخبار من فرنسا.٢٣٥ وقد دافع بونابرت بعد ذلك عن حالة التحصينات في العريش والإسكندرية، كما تحدَّث عن أهمية انتصاره في معركة أبو قير البرية، ثم اختتم «تعليقاته» على تقرير كليبر بقوله: «إن رسالة كليبر تظهِر مقدار القلق الذي استولى على هذا القائد، كما أنها تزخر بالمزاعم الباطلة.»٢٣٦
وسواء أكان كليبر يستند إلى أسباب قوية في طلب المفاوضة مع الباب العالي من أجل الجلاء عن مصر أم كان بونابرت محقًّا في دعواه أن الموقف في مصر في شهر سبتمبر وفي الشهور القليلة التالية لم يكن يسوِّغ عقد الصلح مع العثمانيين على أساس الجلاء عن مصر؛ فمن الواضح أن كليبر قد بات يعتقد اعتقادًا صحيحًا أن الحملة قد ساء حالها لدرجة خطيرة، حتى إنه إذا تبيَّن أن عقد الصلح أمر متعذر فإن من نتائج الدخول في المفاوضة مع الأتراك منع هؤلاء من الزحف على مصر، ثم كسب الوقت حتى تصله النجدات اللازمة من مالٍ وسلاحٍ من فرنسا. وزيادة على ذلك فقد اعتقد كليبر أنه بسلوكه هذا الطريق إنما ينفذ جوهر التعليمات التي تركها بونابرت له.٢٣٧ ولا مراء في أن فتح باب المفاوضة مع الصدر الأعظم كان متممًا لتلك الخطوة التي خطاها بونابرت من قبل عندما بعث برسالته إلى الصدر الأعظم في ١٧ أغسطس ١٧٩٩م، وقد استحث فيها بونابرت الصدر الأعظم على ضرورة المفاوضة في مصر وفرنسا معًا لتسوية جميع المسائل التي كانت مثار النزاع بين الدولتين، والتي كانت تسويتها لا تتطلب جهدًا يستمر — كما قال بونابرت — أكثر من ساعتين،٢٣٨ ذلك أن هذه «الخطوة» السياسية كانت تقتضي الدخول في المفاوضات مباشرةً مع العثمانيين لعقد صلحٍ منفرد مع تركيا يمكن بفضله انتزاع تركيا من المحالفة الدولية الثانية ضد فرنسا من جهة، وبقاء فرنسا في مصر من جهة أخرى، أو على الأقل الاتفاق على هدنة مع العثمانيين تحول دون استمرار الأعمال العسكرية فترة من الزمن لا تحصل إنجلترا في أثنائها على أية معاونة من العثمانيين في أثناء نضالها ضد فرنسا، فضلًا عن أن هذه الهدنة سوف تتيح الفرصة للفرنسيين لاستئناف القتال بكل همة إذا وصلتهم النجدات في مصر أو العمل على إنهاء مفاوضات الصلحِ بنجاح إذا تبين أنه من المتعذر إرسال هذه النجدات إلى جيش الشرق.٢٣٩

مفاوضات الصلح واتفاق العريش

وعلى ذلك فقد بادر كليبر بالكتابة إلى يوسف ضيا باشا الصدر الأعظم في ١٧ سبتمبر ١٧٩٩م،٢٤٠ ينفي رغبة فرنسا في انتزاع مصر من تركيا، ويذكر أن سبب إرسال الحملة إلى هذه البلاد إنما كان محاولة إلقاء الرعب في قلوب الإنجليز وتهديد ممتلكاتهم في الهند، وإرغامهم إرغامًا على قبول الصلح مع فرنسا، فضلًا عن الانتقام مما لحق بالفرنسيين من أذى على أيدي المماليك، وتخليص مصر من سيطرة البكوات وإرجاعها إلى تركيا، ثم طلب كليبر من الصدر أن يخدم بلاده بعقد الصلح مع فرنسا، حتى إذا ارتأى الصدر أن يرسل مفاوضًا إلى كليبر قوبل هذا المفاوض بكل ترحيب. وفي أوائل أكتوبر وصل محمد رشدي أفندي رسول الصدر الأعظم يحمل ردًّا٢٤١ على كتاب بونابرت السابق (في ١٧ أغسطس)، وكان كتابًا — على حدِّ قول كليبر — يدل على «الكبرياء والعجرفة القريبة من الإهانة البالغة»، ولكن كليبر سرعان ما تغلب على غضبه … وكتب إلى منو في ١١ أكتوبر حتى يتصل بأية سفينة أوروبية قد تكون أمام الإسكندرية بغية الدخول في مفاوضات مع الإنجليز أو الروسيين على أمل أن تحرك هذه الأحاديث غيرة الأتراك فيصبحون أكثر ميلًا للتفاهم مع الفرنسيين، فضلًا عن إتاحة الفرصة لكسب الوقت دائمًا إذا أصر كليبر على عدم إغلاق باب المفاوضة.٢٤٢ ومع أن كليبر لم يستطع كبح جماح نفسه في اليوم التالي عندما قابل محمد رشدي أفندي الرسول العثماني الذي حمل إليه كتاب الصدر، وذلك بحضور مصطفى باشا القائد العثماني الذي أسره الفرنسيون في معركة أبو قير البرية، وبحضور بوسيلج؛٢٤٣ فقد أمكنه أن يبسط القواعد التي أرادها للصلح مع تركيا، وكانت هذه تتلخص «أولًا» في جلاء الفرنسيين عن مصر، وعقد معاهدة دفاعية هجومية بين فرنسا وتركيا يطلب إلى إنجلترا الانضمام إليها؛ وذلك حتى تتمكن الدول المتحالفة من الدفاع عن كيان الإمبراطورية العثمانية ضد روسيا، وقد طلب كليبر أن تظل هذه المفاوضات المتعلقة بمسألتي الجلاء والمحالفة سرًّا مكتومًا عن روسيا. «وثانيًا» فإنه لما كان اشتراك إنجلترا في المحالفة ضروريًّا للدفاع عن تركيا، فقد بات عقد الصلح أولًا بين فرنسا وإنجلترا أمرًا لا مناص منه ولا محيد عنه لتحقيق هذه الغاية، وأخيرًا فقد تمسك كليبر بعدم الجلاء عن مصر حتى يتم عقد الصلح بين فرنسا وإنجلترا، على أن كليبر قد وافق حتى يقيم الدليل على رغبة الفرنسيين في إخلاء هذه البلاد حقيقة على وجود أحد الباشوات لتمثيل السلطان العثماني في مصر من تاريخ التوقيع على الاتفاق. وواضح أن كليبر كان يهدف من هذه العروض إلى إقناع الصدر الأعظم بأن روسيا هي أكبر أعداء الدولة العثمانية، وأن من مصلحة العثمانيين أنفسهم أن يقنعوا الإنجليز بذلك، وأن يعملوا على دعمِ المحالفة المنتظرة بصورة تجعلها ذات أثرٍ فعَّال في أي نضال قد ينشب مع روسيا، والحيلولة دون توسع هذه الدولة على حساب تركيا أو اتفاقها مع النمسا على اقتسام ممتلكات العثمانيين فيما بينهما. واقتنع كل من محمد رشدي أفندي ومصطفى باشا بأن هذه القواعد التي بسطها كليبر كانت حكيمة وعادلة، وكان من رأيهما بدء المفاوضة مع الإنجليز. ووعد كليبر بإعطاء كل مساعدة للعثمانيين إذا وقف الروس على «سرِّ» هذه المفاوضات وشنُّوا هجومًا مفاجئًا على تركيا. كما وافق محمد رشدي أفندي ومصطفى باشا على أن المماليك لا يستحقون سوى المعاملة التي عاملهم بها الفرنسيون، وأظهرا استعداد الباب العالي لطرد المماليك من مصر نهائيًّا، وحكم هذه البلاد بالطريقة التي يحكمها بها الفرنسيون أنفسهم.٢٤٤
وبعد مرور عشرة أيام على هذه المحادثات تقريبًا جاء كليبر رد الصدر الأعظم على رسالته التي بعث بها إليه في ١٧ سبتمبر، وكان رد الصدر لا يحمل أي أمل في إمكان الوصول إلى اتفاق عندما رفض الدخول في أية مفاوضة إلَّا على أساس جلاء الفرنسيين عن مصر دون قيد أو شرط،٢٤٥ فكلف كليبر مصطفى باشا — وكان «صديقًا للفرنسيين» والواسطة التي استخدمها وقتئذٍ كل من كليبر والصدر الأعظم في إرسال رسائلهما٢٤٦ — بأن يكتب إلى الصدر عن المحادثات الأخيرة، وأحال كليبر الصدر إلى خطاب مصطفى باشا.٢٤٧ ثم سنحت الفرصة لسير المفاوضات بعد ذلك سيرًا حثيثًا عندما قرر السير سدني سمث التدخل في المفاوضات الدائرة بين الأتراك والفرنسيين؛ ذلك أن الصدر الذي اعتزَّ اعتزازًا كبيرًا بالمحالفة الجديدة بين تركيا وروسيا وإنجلترا كان يثق ثقة عظيمة بالسير سدني سمث الذي حضر مفاوضات القسطنطينية في مرحلتها الأخيرة،٢٤٨ فبادر الآن بإطلاع السير سدني على رسائل بونابرت وكليبر إليه ثم ردوده عليها.٢٤٩ وانتهز السير سدني الفرصة فكتب إلى كليبر في ٢٦ أكتوبر عام ١٧٩٩م٢٥٠ يقول إنه من المتعذر أن يقبل الأتراك «منفردين» الصلح أو الهدنة ما دامت معاهدة التحالف المبرمة بينهم وبين الإنجليز في ٥ يناير ١٧٩٩م قائمة. وفضلًا عن ذلك فإنه ما كان في وسع الفرنسيين أن ينسحبوا من هذه البلاد دون موافقة بريطانيا أو علمها؛ لأن الإنجليز هم أصحاب السيطرة في البحر الأبيض. وخشي سدني سمث أن يظنَّ الفرنسيون أنه إنما يريد انسحابهم من مصر خوفًا منه على المصالح الإنجليزية في الهند، فأكَّد زوال كل خطرٍ على الهند من بقاء الفرنسيين في مصر؛ لأن الإنجليز استطاعوا القضاء على تبو صاحب في معارك فبراير-مايو ١٧٩٩م، واقتسمت شركة الهند التجارية أملاكه الواسعة مع أعدائه،٢٥١ بل إن الإنجليز إنما أرادوا إخلاء مصر من الفرنسيين؛ لأنهم تعهدوا بالمحافظة على كيان الإمبراطورية العثمانية، ولا مراء في أن خروج الفرنسيين من مصر سوف يساعد على عقد السلام في أوروبا. ورحَّب كليبر بتدخل سدني سمث في المفاوضة لاتفاق ذلك مع رغبته التي أبداها في أثناء المفاوضة مع محمد رشدي أفندي، ولاقتناعه بأن هذه المفاوضات «من المحتمل أن تصبح مقدمة لعقد السلام العام»؛ أي ذلك السلام الذي لا يشك كليبر في أن سدني سمث يشاطره الرغبة في عقده، ولو أن الرغبة في الصلح لا تعني أن موقف الحملة في مصر كان ضعيفًا، أو أن جيش الشرق لا يمكنه دفع هجوم الأعداء عليها … فقد تحدَّث كليبر عن نجاح الحملة في السيطرة على الموقف في مصر، وقوة التحصينات التي أنشأها جيش الشرق فيها، ووفرة استعدادات هذا الجيش وكثرة رجاله. وواضح أن غرض كليبر من تصوير الحالة في مصر تصويرًا يختلف عمَّا جاء في تقريره إلى حكومة الإدارة إنما كان إقناع المفاوضين الإنجليز والأتراك بأن الدخول في هذه المفاوضة ما كان لرغبةِ رجال الحملة وجنودها في الخروج من مصر مهما كلفهم ذلك من ثمن والعودة السريعة إلى أرض الوطن.٢٥٢ وأخيرًا ناشد كليبر السير سدني سمث أن يتعاون معه لوقف القتال بين الإنجليز والفرنسيين، كما ذكر له أنه كتب إلى الصدر الأعظم حتى يوفد مندوبين لإجراء المفاوضة في أي مكان يختاره الصدر، وذلك مع الجنرال ديزيه وبوسيلج مدير الشئون المالية اللذين اختارهما كليبر لهذه الغاية، ولو أن كليبر يفضِّل أن تجري المفاوضة على ظهر إحدى سفن السير سدني سمث نفسه.
ولمَّا كان الصدر الأعظم مصرًّا على ضرورة جلاء الفرنسيين كخطوة لا مناص من اتخاذها قبل الدخول في مفاوضات الصلح، فقد حرص كليبر في رسالته إلى سدني سمث على توضيح هذه المسألة وإقناع السير سدني بأن الجلاء لا يمكن أن يتم إلَّا كنتيجة من نتائج المفاوضة وعند نجاحها. كما أنه حاول في الوقت نفسه إقناع الصدر الأعظم بذلك، فأرسل إليه في ٨ نوفمبر٢٥٣ الكتابَين المتبادلَين بينه وبين السير سدني، كما اقترح على الصدر إرسال شخصين للمفاوضة، وقويَ أمل كليبر في نجاح محاولته عندما وصله في اليوم التالي كتابٌ من الصدر الأعظم ردًّا على رسالته السابقة كان خاليًا من الكبرياء والعجرفة، وبأسلوب «في غاية من التأدب والملاطفة»، ولو أن يوسف ضيا كان لا يزال مصرًّا على عدم الدخول في مفاوضات من أجل عقد الصلح أو الاتفاق على هدنة مع الفرنسيين طالما بقي هؤلاء في مصر.٢٥٤ وكان من أسباب تفاؤل كليبر انتصار جيش الشرق على حملة عثمانية صغيرة بقيادة سيد علي بك نزلت عند دمياط، واتخذت مواقعها على مصب النيل قريبًا من البحر؛ وذلك لإرغام الفرنسيين على الدفاع عن الشواطئ المصرية الشمالية حتى يتمكن الصدر الأعظم بفضل ذلك من الزحف بجيشه على الحدود الشرقية،٢٥٥ فهزمهم الجنرال فردييه Verdier وأنزل بهم خسارة كبيرة وأسر قائدهم،٢٥٦ وكتب السير سدني الذي راقب الحملة على ظهر بارجته تيجر في ٨ نوفمبر يقول معلِّقًا على هذه المعركة: إن الفرنسيين لا بدَّ وأن يكونوا قد تحملوا هم كذلك خسائر كبيرة من أثرها إقناعهم، ولا شك بأن الاشتباك مع جيش عظيمِ العدد وإن كان غير نظامي، ولا ينال منه فقد بعض قواته شيئًا، سوف يكلِّفهم ثمنًا باهظًا في النهاية مهما أحرزوا من انتصارات ضده. وعقد السير سدني آمالًا كبيرًا على إمكان استمالة الفرنسيين للاتفاق على إخلاء مصر دون سفك دماء أخرى إذا هو أفلح في إقناعهم بصدقِ هذه الحقيقة.٢٥٧
غير أن السير سدني لم يكن في حاجة لمحاولة إقناع الفرنسيين بصدق هذا الرأي وحصافته، لأن كليبر نفسه كان لا يقل عنه رغبة في عقد الصلح، حتى إنه خشي من أن يعتقد الأتراك أنه قد بات لا يرغب في المفاوضة بعد انتصار فردييه في دمياط، فبادر بالكتابة إلى يوسف ضيا في ١٠ نوفمبر٢٥٨ يؤكِّد له رغبته في المفاوضة، ويطلب إليه أن ينزل عن رأيه الذي تمسك به طويلًا؛ لأن إخلاء مصر لا بدَّ أن يسبقه مفاوضة من أجل الاتفاق على تنفيذه. وأمام هذه الرغبة الصادقة في المفاوضة والاتفاق من جانب كليبر. ولما كان الفرنسيون قد هزموا الأتراك في دمياط، فبرهن جيش الشرق بذلك على قدرته على المقاومة.٢٥٩ وكان السير سدني شديد الرغبة كذلك في الاتفاق، فقد تضافرت العوامل التي جعلت في النهاية البدء في مفاوضات الصلح ممكنًا. واستعد السير سدني للرحيل إلى المياه المصرية، وعدَّ اختيار ديزيه وبوسيلج لتمثيل الجانب الفرنسي في هذه المفاوضة اختيارًا موفَّقًا.٢٦٠
ووجد كليبر لزامًا عليه وقد تم الاتفاق على بدء المفاوضات أن يخبر حكومة الإدارة بما حدث، فغادر لهذه الغاية المواطن بارَّا، من أقرباء بارَّا عضو حكومة الإدارة، الإسكندرية في ٣ نوفمبر ١٧٩٩م يحمل رسائل عدة إلى باريس تشرح حقيقة الموقف في مصر، ثم أوفد في ٢٤ نوفمبر جروسبير Grosbert من ضبَّاط المدفعية برسائل أخرى مع صور من الأوراق التي حملها بارَّا.٢٦١ وفي ٧ ديسمبر أصدر كليبر تعليماته الأولى لمندوبيه ديزيه وبوسيلج وذهب كلاهما لمقابلة السير سدني سمث على ظهر بارجته تيجر، فحملهما هذا في ٢٥ ديسمبر إلى يافا لمقابلة الصدر الأعظم من أجل الاتفاق على الهدنة واختيار مكان المفاوضة. ولكن الصدر الذي أكمل استعدادات الغزو وبدأ عملياته العسكرية كان قد وصل إلى العريش منذ ٢٢ ديسمبر وشرع في تضييق الحصار عليها. وعلى ذلك فقد انتقل المفاوضان الفرنسيان إلى المعسكر العثماني في العريش.٢٦٢
وكانت التعليمات التي أصدرها كليبر لمندوبيه في ٧ ديسمبر تعليمات مفصَّلة،٢٦٣ طلب فيها وقف القتال في أثناء المفاوضة، كما أنه وافق على إخلاء مصر، ولو أنه اشترط لذلك انحلال المحالفة الثلاثية (من تركيا وإنجلترا وروسيا) ضد فرنسا، وإخلاء جزر كورفو وزانتي وسيفالونيا وعودتها إلى فرنسا. وكان العثمانيون قد احتلوا هذه الجزر عندما غزا الفرنسيون مصر. ولما كان إخلاء مصر يعود بفائدة كبيرة على إنجلترا، فقد أراد كليبر أن تعطي هذه الدولة إلى جانب تركيا ضمانًا ببقاء جزيرتَي مالطا وجوزو Gozzo في حوزة فرنسا. واشتملت التعليمات على تفصيلات أخرى خاصة بالاتفاق المزمع عقده، لعل أهمها ما تعلق بالاهتمام بأمر الأهالي الذين ساعدوا الفرنسيين وخدموهم في مصر وتأمينهم على حياتهم وأموالهم. وقد اختتم كليبر هذه التعليمات بقوله: إذا تمسك العدو بضرورة الجلاء عن مصر من غير قيد أو شرط نتيجة لتطور الحوادث في أوروبا بصورة تعرِّض الحدود الفرنسية للغزو ووقعت في يد العدو المراكز الفرنسية الهامة أو باتت هذه مهددة بهجومه عليها؛ فالواجب يقتضي المفاوضين الفرنسيين عندئذٍ أن يعلنا عدم موافقة القائد العام على جلاءٍ كالذي يتمسك به العدو، إلَّا إذا وصلت كليبر أوامر مكتوبة من حكومته.
فدارت من ثم مفاوضات طويلة اعترضتها صعوبات عدة منشؤها مطالبة كليبر بانحلال المحالفة الدولية الثانية وإعادة جزر الأيونيان (كورفو، زانتي، سيفالونيا) إلى فرنسا، كما رفض سدني سمث إعطاء ضمان جديد من جانب إنجلترا لممتلكات الإمبراطورية العثمانية، أو نزول جيش الحملة عند العودة في غير الموانئ الفرنسية.٢٦٤ وتمسك المفاوضان الفرنسيان بمطالبهما ولكن دون نتيجة. ثم انتقلت المفاوضات إلى العريش في الأسبوع الأول من شهر يناير ١٨٠٠م في معسكر الصدر الأعظم. وكان العثمانيون قد استولوا على قلعة العريش منذ ٣٠ ديسمبر، وبحث سدني سمث مع يوسف ضيا الشروط التي عرضها الفرنسيون للصلح، وقرَّ الرأي على رفضها، وسلم السير سدني إلى المفاوضين الفرنسيين في ٨ يناير مذكرة بالمواد التي تم الاتفاق عليها بينه وبين الصدر الأعظم،٢٦٥ وكتب إلى كليبر في اليوم التالي يطلب منه إعطاء مفاوضيه تعليمات جديدة كما قال إنه لا يساوم في هذه المسألة، وليس في عزمه أن يرجو خروج الجيش الفرنسي من مصر، فسيان لديه بقاء هذا الجيش وخروجه، ولو أن بقاء الجيش سوف يفقده كل قدرة على العمل في أفريقيا أو آسيا بسبب تضافر العوامل المعاكسة ضده من كل جانب، بينما يمنع خروجه سفك الدماء دون جدوى.٢٦٦
غير أن كليبر قبل وصول كتاب السير سدني سمث كان قد بعث بتعليمات جديدة إلى ديزيه وبوسيلج، تنازل فيها عن أكثر تلك الشروط التي قيَّد بها قبول الجلاء في تعليماته السابقة، والسبب في ذلك أن كليبر على الرغم من انتصار فردييه في دمياط كان لا يزال مقتنعًا بسوء حال الحملة، بل ويتوقع زيادة هذه الحال سوءًا كلما طال بها المقام في مصر دون وصول أية نجدات إليها من فرنسا، حتى إنه كتب منذ ٣ ديسمبر ١٧٩٩م إلى حكومة الإدارة يحمل إليها أنباء قبول الصدر الأعظم للمفاوضة، ويقول إنه لا يستطيع الاشتباك مع العدو في المعركة المقبلة إذا ظل لا تصله النجدات السريعة، ويخشى من أن يرغمه العدو على القتال خصوصًا في الحدود السورية.٢٦٧ ثم زاد اقتناع كليبر بضرورة عقد الصلح مع العثمانيين عندما أرسل إليه ديزيه وبوسيلج «الأخبار» التي وقفا عليها من السير سدني، وكلُّها تدل على خطورة موقف الجمهورية في أوروبا بسبب الحصار الذي فرضه الإنجليز على مالطا وعلى الأسطول الفرنسي في ميناء برست، وانهزام الفرنسيين وأحلافهم في هولندا، وتسليم الأسطول الهولندي دون قتال، وإعلان روسيا والباب العالي الحرب على إسبانيا حليفة الجمهورية، ومحاصرة الروس لجنوة.٢٦٨ ثم لم تمضِ أيام قليلة على إرسال هذه الأخبار إلى كليبر حتى بادر المفاوضان الفرنسيان بإرسال أخرى تصل بأنباء أوروبا إلى يوم ١٠ أكتوبر ١٧٩٩م، وقد تأكد لدى كليبر بفضلها أن الفرنسيين قد فقدوا إيطاليا، وحلَّت بهم الهزائم في ميادين عدة أخرى، وأن الثورة قد اندلع لهيبها من جديد في فنديه، وأن الوطن في خطر.٢٦٩ وعلى ذلك فقد أرسل كليبر إلى مفاوضيه تعليمات جديدة في ٣ يناير ١٨٠٠م، نزل بمقتضاها عن مطالبه السابقة مكتفيًا بمطالبة الباب العالي لقاء الجلاء عن مصر بالتزام الحياد في أثناء الحرب، وبأن يصبح لجيش الشرق عند عودته بسلاحه وذخائره وعتاده إلى فرنسا الحق في أن يقوم بنصيبه من العمليات العسكرية «ضد أي إنسان وفي أي مكان.» ورضي كليبر بتسليم قلعة العريش ضمانًا للمعاهدة،٢٧٠ وكان كليبر عندما بعث بهذه التعليمات لا يزال يجهل سقوط قلعة العريش في قبضة العثمانيين، ولكن سرعان ما وصلت الأخبار في اليوم التالي (٤ يناير) عن سقوط هذه القلعة، كما وقف على تفصيلات هامة زادته اقتناعًا بضرورة إبرام الصلح بكل سرعة، فقد زحف الصدر الأعظم على العريش بدعوى أنه لا يستطيع انتظار المفاوضة في وقت لم يكن مندوبا كليبر قد اتصلا بعد بالسير سدني سمث على ظهر بارجته تيجر.٢٧١ وحاول كليبر أن يصل إلى عقد هدنة مع العثمانيين ولكن دون جدوى،٢٧٢ فقد ظلَّ هؤلاء يحاصرون العريش وأصلوا قلعتها نارًا حامية حتى استولوا عليها في ٣٠ ديسمبر، وأوقعوا بالفرنسيين مذبحة كبيرة. وكان مما آلم كليبر وقضَّ مضجعه أن سبب سقوط قلعة العريش كان مردُّه إلى عصيان حاميتها، فقد طلب حوالي ثمانين من رجال الحامية إلى قائدهم كزال Cazals تسليم القلعة إلى العدو، ومع أن الجنرال استطاع تهدئة النفوس ووطد العزم على الاستمرار في المقاومة حتى أواسط يناير، وهو الوقت الذي انتظر فيه نفاد ذخيرته؛ فقد سدد العدو الضرب، وأمر كزال فريقًا من الحامية بالخروج للالتحام مع العدو، ولكن أحدًا لم يطع هذا الأمر سوى ثلاثة فقط، ثم علا صياح الجنود يطلبون التسليم، وأبطلوا إطلاق النار، وشرعوا يدعون العثمانيين لاقتحام أسوار القلعة، فتسلق هؤلاء الأسوار وشددوا الهجوم على القلعة، وعندئذٍ لم يرَ كزال مناصًا من التسليم. غير أن هذا التسليم لم يمنع الأتراك من الإيقاع برجال الحامية، فقضوا عليهم في مذبحة مروعة، وعظمت الكارثة عندما انفجر مخزن للبارود، فكانت خسائر الفرنسيين جسيمة.٢٧٣ وما إن بلغت كليبر هذه التفصيلات حتى أرسل ينبئ ديزيه وبوسيلج بسقوط العريش ويطلب منهما إنهاء المفاوضة بسرعة، كما كتب إليهما في اليوم التالي (٥ يناير) بما وقع في العريش «ذلك الحادث الذي لا يشكُّ في أنهما وقفا على حقيقته، ولم يتهاونا في الاحتجاج لدى الصدر الأعظم على حدوثه.»٢٧٤ ومع ذلك فإن عصيان حامية العريش لم يكن الأول من نوعه، فقد تمرد الجنود في عزبة البرج (القريبة من دمياط) في ٢٢ نوفمبر، وفي ١٧ ديسمبر كتب الجنرال لانوس عن عصيان فريق من حامية الإسكندرية كذلك،٢٧٥ بل إن تمرد حامية العريش كان يُعزى إلى سريان روح التمرد من حاميات الإسكندرية ودمياط، ومن دمياط على وجه الخصوص لسبب نقل طائفة من جنود حاميتها المتمردين إلى العريش.٢٧٦ أضف إلى هذا كله أن القاهرة ذاتها كانت لا تخلو من المتمردين، حتى أصبحت سجون القلعة — كما كتب كليبر نفسه إلى دوجا — وكرًا جديدًا للمتآمرين يحيكون فيه خيوط مؤامراتهم، ويصدرون منه كل يوم وريقات يحضُّون فيها الجنود في مختلف الفرق على الثورة والعصيان.٢٧٧ وعلى ذلك فقد بادر كليبر في ٧ يناير ١٨٠٠م بإرسال تعليمات جديدة إلى ديزيه وبوسيلج نزل بفضلها عن كل الشروط التي ذكرها في تقرير ٢٦ سبتمبر إلى حكومة الإدارة أو تضمنتها تعليماته السابقة، وأراد أن يقيِّد بها الجلاء أو يكسب بما قد تثيره من مناقشات مع المفاوضين الأتراك بعض الوقت، فنصَّت تعليمات ٧ يناير٢٧٨ على ضرورة العناية بأمور ثلاثة فحسب، هي عدم دخول الجيوش العثمانية إلى مصر إلَّا عند وصول السفن المعدة لنقل الحملة، وهي السفن التي يجب على الصدر الأعظم أن يقوم بإعدادها وتزويدها بالمؤن، ثم طلب تسليم عدد من الرهائن، إلى جانب إعطاء تعهدات أخرى حتى يضمن بذلك ملاحظة تنفيذ المعاهدة والهدنة التي تتبعها ملاحظة دقيقة، وأخيرًا عدم فرض أية قيود تحد من حق جيش الحملة في العمل ضد أعداء الوطن جميعهم عند عودة الجيش إلى فرنسا.
ولما كان كليبر قد صحَّ عزمه على السير قُدُمًا في المفاوضة، فقد كتب إلى الصدر الأعظم في يومَي ٧ و١٠ يناير ١٨٠٠م يطلب إليه أن يرسل إلى الصالحية مندوبين عثمانيين للمفاوضة معه مباشرة.٢٧٩ وكان نزول كليبر عن شروطه السابقة ينبئ بحدوث تحول جوهري في موقفه من مسألة الجلاء إطلاقًا، ولا ريب في أن كليبر قد أدرك ما ينطوي عليه هذا التحول من خطورة كبيرة، ذلك أنه ما لبث حتى كتب إلى حكومة الإدارة بعد يومين اثنين من إرسال تعليماته الأخيرة يفسِّر في واقع الأمر الأسباب التي أقنعته بقبول الجلاء عن مصر دون قيد أو شرط، فبسط مراحل المفاوضات السابقة وما وقع من حوادث في أثنائها، ومن أهم هذه الحوادث سقوط قلعة العريش، إلى أن قال: وعلى ذلك فإن ظواهر الأمور تدل جميعها على أن الجيش الذي أتولى قيادته سوف يكون قد وصل إلى إحدى موانئ الجمهورية في شهر أبريل ١٨٠٠م، وما إن ينتشر هذا الخبر في أوروبا حتى ينقسم الرأي في فرنسا؛ فينقد فريقٌ مسلك قائد الحملة بينما يؤيده فريق آخر، ولكنني سوف أعتصم بالهدوء والسكينة، فلا أزجُّ بنفسي في هذا النقاش العظيم لاقتناعي بأن الحكومة مهما كان شعورها سوف تمتنع عن البتِّ في هذه المسألة حتى تستمع كذلك إلى كل ما لديَّ من أقوال في ذلك.٢٨٠ وكان كل ما أراد كليبر أن يتمسك به في هذه المرحلة انحلال المحالفة الثلاثية ضد فرنسا، كما عقد آمالًا كبيرة على إمكان الوصول إلى اتفاق بشأن الهدنة التي أرادها في أثناء المفاوضة.
غير أن هذه التعليمات الجديدة سرعان ما أثارت استياء ديزيه وبوسيلج لنزول كليبر عن الشروط التي قيَّد بها الجلاء من جهة، ولاعتقادهما من جهة أخرى، كما كتبا إلى كليبر في ١٣ يناير، أن الأتراك لن يوافقوا على انحلال المحالفة خوفًا من أن يؤدي ذلك إلى إعلان روسيا الحرب عليهم، فضلًا عن أن إنجلترا سوف تبذل ما وسعها من جهد وحيلة لضمان استمرار هذه المحالفة حتى يحين الوقت لعقد السلام العام في أوروبا. أضف إلى ذلك كله أن ديزيه وبوسيلج كانا ضعيفي الأمل في إمكان الاتفاق على الهدنة بين فرنسا وتركيا، أو موافقة الأتراك على عدم الدخول إلى مصر حتى يرحل الفرنسيون عنها؛ لأن أكثر جنودهم يقيمون فعلًا في العريش؛ أي في أرض مصرية، ومن المتعذر إقناعهم بعد أن سقطت قلعة العريش في قبضتهم بالانسحاب إلى ما وراء الحدود ثانية.٢٨١
وحدث في اليوم التالي ما توقعه ديزيه وبوسيلج، فأصرَّ المفاوضان العثمانيان — الريس أفندي والدفتردار — على ضرورة جلاء الفرنسيين دون قيد أو شرط، واستمرت النجدات تأتي إلى المعسكر العثماني في العريش، كما أن الجنود العثمانيين كانوا يلحون في بدء الزحف بكل سرعة حتى يتخلصوا من مشاق العيش وشظفه في معسكرهم. وعلى ذلك فقد طلب المفاوضان الفرنسيان من كليبر في ١٤ يناير يسألانه إمَّا أن يأمر بقطع المفاوضة ويأذن لهما في مغادرة المعسكر العثماني، وإمَّا أن يخوِّلهما الحق في الاتفاق على الجلاء دون قيد أو شرط، وبالصورة التي يريان من المصلحة قبولها؛ وذلك حتى يستطيعا النجاة من خطرِ شعرا أنه يتهددهما إذا بقيا طويلًا في العريش دون الوصول إلى نتيجة حاسمة.٢٨٢
على أن كليبر كان قبل أن تصله رسالة مفوضَيْه قد كتب إليهما من الصالحية في ١٥ يناير٢٨٣ أنه لا يزال مصِرًّا على إخلاء مصر، ويريدهما أن يقبلا الصلح حتى ولو رفض الصدر الأعظم انحلال المحالفة الثلاثية وقبول الهدنة. وكان كل ما طلبه كليبر منهما ألَّا يبديا هذا الجلاء في صورة تسليم، «بل يجب عليهما أن يكسباه صفة المعاهدة على أساس ما جاء في مذكرة سدني سمث الموقعة في ٣٠ ديسمبر»، وكان سدني سمث قد وافق في هذه المذكرة على أن يفرغ الجلاء في قالب معاهدة مبرمة بين طرفين، يتحمل فيها الطرف العثماني التزامات معينة في نظير تقرير مبدأ الجلاء.٢٨٤ وما إن وصلت كليبر رسالتا ديزيه وبوسيلج حتى بادر بالكتابة إليهما من جديد في ١٦ يناير، يطلب إليهما الاتفاق على الجلاء متمسِّكًا في هذه المرة بهدنة لمدة شهر واحد فحسب؛ وذلك حتى يستطيع جنود الحملة الانسحاب من الوجه القبلي. وهكذا وافق كليبر على مبدأ هذا الجلاء دون قيد أو شرط، فكان ذلك تسليمًا صريحًا من جانبه.
واستاء المفاوضان الفرنسيان من هذا التسليم استياء شديدًا، وانبرى ديزيه على وجه الخصوص يحذر قائده مغبة الاندفاع في قبول الجلاء عن مصر دون قيد أو شرط؛ ذلك أن كثيرين — كما قال ديزيه — قد باتوا يتحدثون الآن عن وقوع انقلاب أو ثورة تسلم بونابرت بفضلها زمام الحكم في فرنسا. وفضلًا عن ذلك فإن الجيش العثماني أداة لا تصلح للقتال، بل يكفي لصد أي هجوم يقوم به أن تقف فرقة فرنسية في وجهه. غير أن تحذيرات ديزيه ذهبت جميعها سدًى أمام إصرار كليبر الذي بعث إلى ديزيه برسالة طويلة بسط فيها الأسباب التي أقنعته بضرورة الصلح على أساس الجلاء، ثم عرض على ديزيه قيادة الحملة التي لم يقبلها كليبر — على حد قوله — إلَّا مرغمًا، وذلك إذا ظل ديزيه مصِرًّا على عدم الموافقة ويرى أن في وسعه الوصول إلى حل حاسم آخر.٢٨٥
ومع أن كليبر على ما يبدو قد قرر أن يتحمل وحده مسئولية قبول الجلاء عن مصر دون قيد ولا شرط، فإن هذه كانت ولا شك مسئولية جسيمة ما لبث كليبر أن شعر بخطورتها، وصحَّ عزمه على ألا ينفرد وحده بتحمل العبء كله، فاستمع إلى نصيحة داماس Damas رئيس أركان حربه،٢٨٦ وعقد في الصالحية مجلسًا حربيًّا لبحث مسألة الصلح حضره تسعة من القواد، كان منهم إلى جانب داماس دافو Davout   ورينييه Reynier   وفريان Friant   ورامبون Rampon، كما حضره دور Daure مدير المهمَّات. على أن هؤلاء لم يكن في استطاعتهم أن يردوا القائد العام عن عزمه عندما كان كليبر قد خوَّل مفاوضيه نهائيًّا الحق في الاتفاق على الجلاء قبل دعوة المجلس إلى الانعقاد.٢٨٧ ومع ذلك فقد كان واضحًا أن المجلس لا يوافق على شروط الصلح كما بسطها لهم كليبر، واشتدت معارضة الجنرال دافو على وجه الخصوص لهذه الشروط، غير أن الحاضرين ما لبثوا أن وقَّعوا على محضر هذه الجلسة بالموافقة،٢٨٨ واستطاع كليبر أن يكتب إلى ديزيه وبوسيلج في ٢٠ يناير أنه كان من رأي القواد المجتمعين «نظرًا لسكوت الحكومة الطويل، وخصوصًا بعد عودة بونابرت إلى فرنسا» أنه لم يعد هناك أي أمل في وصول نجدات من أرض الوطن.
ذلك ولما كان الاحتفاظ بمصر متعذِّرًا بعد، فقد بات الاشتباك في المعركة المقبلة لا جدوى منه ولا طائل تحته حتى إذا كُفل النصر للفرنسيين، أمَّا إذا أُصيبوا بالهزيمة فإن الجيش سوف تحل به الكوارث لعدم وجود أية موارد لديه.٢٨٩ وكتب كليبر في اليوم نفسه إلى دوجا في القاهرة يخبره بما حدث و«موافقة زملائه الإجماعية»، وطلب إليه في الوقت ذاته أن يبدي رأيه فيما جرى، كما سأله أن «يستشير» الجنرال لانوس إذا كان هذا الأخير قد وصل إلى القاهرة، ووافق دوجا بطبيعة الحال على الجلاء نزولًا على رأي زملائه.٢٩٠ وما إن كمل توقيع أعضاء المجلس الحربي على محضر الجلسة حتى بعث كليبر بهذا المحضر إلى ديزيه وبوسيلج في ٢٢ يناير.٢٩١ ونشطت المفاوضات في اليومين التاليين، وفي ٢٤ يناير سنة ١٨٠٠م وقَّع ديزيه وبوسيلج على اتفاق العريش كما وقَّعه وكيلا الصدر الأعظم.٢٩٢
ويتألف اتفاق العريش من مقدمة واثنين وعشرين بندًا، وقد أُفرِغ الاتفاق في قالب معاهدة تفرض في شكلها الظاهر التزامات معينة على الطرف العثماني، وذلك في نظير قبول الطرف الفرنسي الجلاء عن مصر وإخلاءها، فجاء في مقدمة الاتفاق كما نُشر وقتئذٍ منقولًا إلى العربية٢٩٣ أن «الجيش الفرنساوي بمصر عندما قصد أن يوضِّح ما في نفسه من وفور الشوق لحقن الدماء، ورأى نهاية الخصام المضر الذي قد حصل ما بين المشيخة الفرنساوية والباب العالي؛ قد ارتضى أن يسلِّم بخلو الإقليم المصري حسب الشروط الآتي ذكرها، بأمل أن بهذا التسليم يمكن أن يتجه ذلك إلى الصلح العام في بلاد المغرب قاطبةً.»

أمَّا أهم هذه الشروط فكانت تلك التي نصَّت على انسحاب الجيش الفرنسي «بالأسلحة والعزال بالأمتعة إلى الإسكندرية ورشيد وأبو قير، لأجل أن يتوجَّه وينتقل بالمراكب إلى «فرانسا»، إن كان ذلك في مراكبهم الخاصة بهم أم في تلك التي يقتضي للباب العالي أن يقدِّمها لهم بقدر الكفاية.» ومما تجدر ملاحظته أن الاتفاق لم يفرض قيودًا على حرية الجيش العائد في العمل ضد أعداء الوطن، كما وافق الطرفان على هدنة ثلاثة شهور قد تطول مدتها إذا لزم الأمر، ويتم في أثنائها نقل الحملة. واشترط الطرفان صيانة مصالح رعايا كل من الدولتين فرنسا وتركيا في ممتلكات الأخرى، فنصَّت المادة التاسعة على «ترجيع الأموال والأملاك المتعلقة بسكان البلاد والرعايا من الفريقين»، كما حرص الفرنسيون على عدم إلحاق الأذى بمن ساعدوهم وخدموهم في مصر في أثناء الاحتلال، فجاء في المادة العاشرة: «فلا يحصل التشويش لأحد من سكان الإقليم المصري من أي ملة كانت؛ وذلك لا في أشخاصهم ولا في أموالهم، نظرًا إلى ما يمكن أن يكون قد حصل من الاتحاد ما بينهم وبين الفرنساوية من إقامتهم بأرضِ مصر.» وقد تضمنت المواد الأخرى تفصيلات كثيرة بشأن الجلاء وإخلاء الأقاليم المصرية، وما يرتبط بذلك كله من تدابير مالية وصحية وغيرها. على أن أهم ما يجدر ملاحظته من هذه التفصيلات النص على ضرورة الحصول من الباب العالي أو من حلفائه الإنجليز والروس على «فرمانات الإذن وأوراق المحافظة بالطريق»؛ أي الحصول على جوازات مرور لضمان عدم الاعتداء على جيش الشرق في أثناء نقله إلى الموانئ الفرنسية، ثم ضرورة أن تجهِّز تركيا أو إنجلترا وروسيا «السفن اللازمة لرجوع الجيش المذكور بالأمن والأمان إلى بلاد فرانسا»، على أن تتعهد تركيا وحلفاؤها بعدم التعرض للجيش الراجع بأي أذى.

واحتاط أصحاب الاتفاق لفض كل ما قد ينشأ من «مشاكل» عند تنفيذه، فذكر الشرط الثالث أن «رحيل الجيش الفرنساوي يقتضي تدبيره بيد الوكلاء القادمين لهذه الغاية من قبل الباب الأعلى وسري العسكر كلهبر، وإذا حصل خصام ما بين الوكلاء المذكورين بوقت الرحيل في هذا الصدد فليُنتخب من قبل حضرة سدني سمث رجل لينهي المخاصمات المذكورة حسب قواعد السياسة البحرية السالكون عليها ببلاد الإنكليز»، وجاء في الشرط الحادي والعشرين: «فكل ما يمكن حدوثه من المشاكل التي تكون مجهولة ولم يمكن الاطِّلاع عليها في هذه الشروط، فلا بد من إنجازها بوجه الاستحباب ما بين الوكلاء المعينين لهذا القصد من قبل الجناب الوزير الأعظم عالي الشأن وحضرة الجنرال كلهبر سري العسكر العام، بوجه يسهل ويحصل الإسراع بالخلو.» وقد صدق كليبر على اتفاق العريش في ٢٨ يناير ١٨٠٠م.٢٩٤
ومع أن السير سدني لعب دورًا ظاهرًا في نجاح المفاوضات وعقد اتفاق العريش، فقد امتنع عن التوقيع عليه، ولم يكن ذلك الامتناع عن رغبة منه في التنحي عن حمل نصيبه من المسئولية أو لأنه كان يضمر في نفسه الرغبة في مناقشة هذا الاتفاق فيما بعد، وهو الرجل الذي نجحت سياسته أيما نجاح٢٩٥ فاستطاع تحقيق أغراضه بموافقة الفرنسيين على الجلاء عن مصر، وعودة هذه البلاد إلى حظيرة الدولة العثمانية. وفضلًا عن ذلك فإن استرجاع العثمانيين سيادتهم على مصر من شأنه أن يمكِّن الأسطول الإنجليزي من استخدام موانئ الإسكندرية ودمياط ورشيد، والاختلاف إليها طالما بقيت المحالفة العثمانية الإنجليزية، ثم إن سدني سمث بفضل ما جاء في شروط هذا الاتفاق كان يحتل مكانًا ممتازًا يمكِّنه من ملاحظة تنفيذ سياسة الجلاء بكل دقة، وذلك عندما أقامه الاتفاق «حكَمًا» ينظر في فض ما قد يحدث من خلافات مستعصية بين الأتراك والعثمانيين بشأن الجلاء عن مصر بكل سرعة.
وما إن صدق كليبر على اتفاق العريش حتى أصدر منشورًا إلى ديوان القاهرة في أول فبراير يبلغه الخبر، ووُزِّعَت من هذا المنشور نسخٌ عدة في جميع الأقاليم، وحاول أن يردَّ عقد الاتفاق إلى رغبة الأمة الفرنسية في أن تحتفظ بعلاقات الودِّ والصداقة القديمة مع الإمبراطورية العثمانية، وأن ترى هذه البلاد تعود مرة أخرى إلى العثمانيين، كما أنه كان يرجو أن يمهِّد الاتفاق إلى عقد الصلح العام في أوروبا.٢٩٦ وطرب المصريون لهذه الأنباء فأقبلوا يقدمون المال والمؤن اللازمة «لترحيل الفرنساوية» عن طيب خاطر، وكان سرور الفرنسيين الذين انتظروا العودة السريعة إلى أرض الوطن لا يقل عن سرور المصريين، فقابل الجيش نبأ الاتفاق الذي أعلنه إليهم كليبر في ٢٧ يناير بفرحٍ عظيمٍ.
ذلك أن كثيرين من جند الحملة ورجالها كانوا يرون في الحصول على تلك الشروط التي تضمنها اتفاق العريش نجاحًا كبيرًا لسبب ظاهر، هو أن هذا الاتفاق قد كفل لهم العودة القريبة إلى فرنسا، والجيش لا يزال موفور الكرامة مرفوع الرأس لم يلحق العار والشنار بشرفه العسكري، تخفق أعلامه وتدق طبوله، بل إن فرح الجنود كان عظيمًا حتى إنهم باتوا يعدون اللحظات عدًّا مترقبين الإذن بالرحيل، وقد نفد صبرهم حتى إن الجنرال فردييه من كبار قوَّادهم ما لبث أن هتف نشوان جزلًا: «لتذهب مصر إلى جهنم وبئس المصير، ولتحيا أوروبا وليحيا أهلها!»٢٩٧
غير أن كثيرين من المسئولين سرعان ما استفاقوا بعد نشوتهم الأولى لجسامة مسئولية الإقدام على إخلاء مصر، ثم عظم الشعور بخطورة الموقف رويدًا رويدًا حتى إن كليبر نفسه — بعد إعلان نبأ الاتفاق على جنده — ما لبث أن صار يمعن الفكر في عواقب هذه الخطة التي اتخذها على أن يتحمل وحده مسئولية العمل بها منذ أن فرض إرادته فرضًا على ذلك المجلس الحربي الذي دعاه للانعقاد في الصالحية لإقرار تعليماته إلى ديزيه وبوسيلج على نحو ما سبق ذكره. وعلى ذلك فقد انحصر اهتمامه الآن بعد أن أذاع على جيش الشرق نبأ الاتفاق في بيان الأسباب التي اعتقد أنها تسوِّغ عقده، وقد بدأ كليبر يبسط طرفًا من هذه الدوافع في منشوره الذي أصدره في ٢٧ يناير وتضمن نبأ الاتفاق،٢٩٨ فقال إن ظروفًا قهرية هي التي أرغمته على الصلح، ثم أشار إلى الظروف التي تولى فيها قيادة الحملة فقال: «ولو أني سُئِلت في حمل ذلك العبء الثقيل الذي تركه لي بونابرت لما قبلته دون تردد؛ وذلك لأني أشعر يقينًا بأن مشاقَّه مضنية، ولم يكن في وسعي الاختيار بين رفض هذه القيادة العامة وقبولها.»
وكتب كليبر في اليوم التالي إلى حكومة الإدارة٢٩٩ يذكر الأسباب التي دعته إلى قبول مبدأ الجلاء دون قيد أو شرط، فعزا ذلك إلى عجز الأسطولين الفرنسي والإسباني عن انتزاع السيطرة البحرية من الأسطول الإنجليزي وخروجهما من البحر الأبيض، وانزوائهما محاصرين في ميناء برست. وفضلًا عن ذلك فقد حدث عند انقلاب ٢٠ بريريال السنة السابعة (١٨ يونيو ١٧٩٩م) — وهو الانقلاب الذي دخل بفضله أعضاء جدد في حكومة الإدارة — أن وجهت اتهامات كثيرة إلى أعضاء الحكومة السابقين، فاعتُبِروا مسئولين عن جميع الأضرار التي لحقت بالجمهورية الفرنسية بسبب إرسال الحملة إلى مصر. ولمَّا كانت الحكومة قد التزمت الصمت الطويل، وذلك على الرغم من وصول بونابرت إلى فرنسا، فقد بات واضحًا أنه لم يعد هناك أي أمل في وصول النجدات السريعة إلى جيش الشرق. وعلى ذلك فقد وجد كليبر، كما استمر يقول، أن خير ما يفعله هو أن يحاول كسب الوقت، فاستمر في المفاوضة التي مهَّد لها سلفه حتى حدث «ما غيَّر وجه المسألة عند سقوط قلعة العريش بسبب تسليم حاميتها لخور عزائم رجالها وجبنهم.»

وامتنع كليبر عن خوض غمار معركة فاصلة مع العدو، لقلة ما لديه من جنود كانوا موزَّعين في مراكز عدة، ولخوفه من أن تنزل كارثة الهزيمة بجيش الشرق. وقد عزا كليبر انتشار روح التمرد والعصيان بين الجنود وخصوصًا في دمياط والإسكندرية إلى «نفاد صبر هؤلاء، والأثر السيئ الذي تركه رحيل بونابرت في نفوسهم»، ومع ذلك فإن كليبر لم يشأ — على حد قوله — أن يبتَّ في أمر الصلح إلى بعد استشارة قوَّاده، فجمع لذلك مجلسًا حربيًّا ما لبث أن وافق على إبرام الصلح. ثم اختتم كليبر هذه الرسالة الطويلة بإظهار رجائه أن يمهِّد هذا الاتفاق إلى انضمام الباب العالي إلى الفرنسيين، ثم إلى خروج الإنجليز من محالفة «ليس من مصلحتهم مؤازرتها وتعضيدها»، ثم إن الصلح التام أخيرًا كإحدى نتائج تسليم مصر.

وعاد كليبر إلى الكتابة مرة أخرى لحكومة الإدارة في ٣٠ يناير،٣٠٠ فقال إن بونابرت لم يذكر في تعليماته شيئًا عن زحف الصدر الأعظم لأنه لم يكن يتوقع حدوثه. وفضلًا عن ذلك فقد وعد بونابرت بإرسال النجدات إلى مصر معتمدًا على وجود الأسطولين الفرنسي والإسباني في البحر الأبيض. وما كان يظنُّ إنسان وقتئذٍ أن هذين الأسطولين سوف يخرجان من البحر الأبيض ويعودان إلى المحيط الأطلنطي، وما كان يظنُّ إنسان كذلك أن «الحملة المصرية — وهي التي أُغفِل شأنها تمامًا وأُهمِلت — سوف تصبح مادة الاتهام الموجهة ضد أولئك الذين أمروا بقيامها.»

وهكذا حاول كليبر أن يسوق من الأدلة والبراهين ما يكفي في نظره لقبول إبرام الصلح على أساس الجلاء فحسب، وقبل المدة التي حددها بونابرت في تعليماته بستة شهور على الأقل، ودون التقيد بتلك الشروط التي نصت عليها التعليمات. وكان أهم ما استند إليه كليبر في ذلك أنه قد بات متعذرًا على حكومة الإدارة أن ترسل أية نجدات إلى مصر بسبب هزيمة جيوشها في أوروبا، ومحاصرة أسطولها في ميناء برست، فضلًا عن أن كليبر نفسه لم تكن لديه قوات تكفيه لصد الجيوش العثمانية المتدفقة على الحدود، وخصوصًا بعد استيلاء هؤلاء على قلعة العريش. أضف إلى ذلك كله أن تسليم هذه القلعة كشف عن روح التمرد والعصيان في الجيش، وعدم إحجام جنود الحملة عن ارتكاب الخيانة.

ولمَّا كان كليبر يريد التنصل من كل مسئولية إذا بقيت هناك مسئولية بعد هذه الأدلة والبراهين التي ساقها، فقد تعمَّد أن يصوِّر إرسال الحملة إلى مصر كنتيجة لقرار كان يخلو من الحكمة السياسية، وعلاوةً على ذلك فقد اتهم بونابرت بقِصَرِ النظر عندما ترك الحملة في أشد الأوقات حرجًا، وصار يمنِّي النفس بالقدرة على إرسال النجدات إلى مصر في ظروف لم يكن لبونابرت أي سلطان عليها. ولا شكَّ في أن محاولة كليبر التنصل من مسئولية عقد الصلح إنما يدل من جانب آخر على مقدار ما كان كليبر نفسه يشعر به من خطورة الخطوة التي خطاها عند عقد اتفاق العريش، وزاد هذا الشعور في الأيام التالية رويدًا رويدًا حتى انتهى إلى قلقٍ شديد استبدَّ بالقائد العام عندما سرت روح المعارضة ضد اتفاق العريش بين قوَّاد الحملة وضبَّاطها، وانقسم المعارضون فريقين؛ أحدهما لا يرضى بالجلاء عن مصر إلَّا عند عقد السلام العام في أوروبا، وذلك تنفيذًا للتعليمات التي تركها بونابرت، وكان الجنرال ديزيه على رأس هؤلاء المعارضين، وفريقٌ آخر من الاستعماريين الذين حضروا إلى مصر لإنشاء تلك المستعمرة الجديدة التي أرادوا بها تعويض فرنسا عن خسائرها في جزر الأنتيل بالهند الغربية، وقد تمسَّكوا بضرورة البقاء في مصر، وتزعم هؤلاء الجنرال منو.

فقد حذَّر ديزيه الجنرال كليبر مغبةَ الاندفاع والإلحاح في طلب الصلح؛ لأن السير سدني سمث — كما كتب ديزيه في ٩ نوفمبر ١٧٩٩م — لم يكن هدفه من المفاوضة مع الفرنسيين سوى إقناعهم بضرورة «الخروج من مصر بكل سرعة».٣٠١ وكان من رأي ديزيه فضلًا عن ذلك أنه ما كان يجب الخوف من الجيش العثماني الذي قال إنه يتألف من جماعات تعيش في بؤس وشقاء خير ما يمكن أن توصف به أنها «عصابات من اللصوص وقطَّاع الطرق، ولا قدرةَ لها على الوقوف أمام فرقة واحدة فقط من فرق الجيش الفرنسي.»٣٠٢ وكان ديزيه ولا شكَّ محقًّا فيما ذهب إليه، وبرهنت الحوادث فيما بعد على صحة رأيه، بل إن مورييه سكرتير اللورد إلجين Elgin، السفير الإنجليزي في القسطنطينية، لم يلبث هو الآخر بعد أن مكث مع الجيش العثماني فترة من الزمن بين شهرَي فبراير ويوليو ١٨٠٠م أن شبه المعسكر العثماني «بسوقٍ كبيرة مكتظَّة بالباعة الذين يشاركهم الجنود أنفسهم هذه المهنة، فيقصد تجار الخيل وغيرهم هذه السوق، وتُعقد بها الصفقات في مزادات علنية»، كما تكثر المنتديات والمقاهي، حتى انعدم كل نظام في هذا المعسكر.٣٠٣
ومع ذلك فقد مضى كليبر في سبيله وطلب من ديزيه — عندما قرب موعد رحيل هذا الأخير إلى فرنسا — أن يبذل قصارى جهده لدى أصحاب السلطة في باريس لتأييد ذلك «الرجل الضعيف الذي اعتمد في أعماله على مجابهة الحقيقة وإعمال الفكر والروية فحسب»، لعل ديزيه يستطيع إزالة غضب هؤلاء على كليبر،٣٠٤ ولكن ديزيه الذي خضع لأوامر قائد الحملة على الرغم من عدم موافقته على الجلاء ما لبث أن كتب إلى بونابرت في ٢١ فبراير ١٨٠٠م قبل إبحاره من الإسكندرية بأيام قلائل٣٠٥ لينقل إليه خبر اتفاق العريش، ويعتذر عن توقيعه عليه عندما ذهبت جهوده سدًى في محاولة إعطاء بونابرت سعة من الوقت تمكِّنه من إرسال النجدات إلى مصر، واضطراره في آخر الأمر إلى الامتثال لأوامر كليبر القاطعة بشأن التوقيع على اتفاق العريش.
وعندما وصل ديزيه إلى طولون بعد رحلة شاقة متعبة في البحر الأبيض،٣٠٦ بادر بالكتابة إلى بونابرت في ٥ مايو ١٨٠٠م، فقال إن كليبر رفض أن يسمح له باللحاق بقائده الأعلى حتى يقف إلى جانبه في ميدان القتال، «فاستبقاه في مصر وأرغمه على توقيع اتفاق العريش.»٣٠٧
وحذا بوسيلج، المفاوض الفرنسي الآخر الذي وقَّع على اتفاق العريش، حذو ديزيه زميله، وذلك بأن بوسيلج الذي غادر الإسكندرية إلى طولون في ١٤ مارس من العام نفسه، ووجد ديزيه ما زال بالحجر الصحي بطولون؛ لم يلبث أن كتب هو الآخر إلى بونابرت في ٥ مايو يبسط الأسباب التي دعت إلى بدء المفاوضة التي انتهت باتفاق العريش،٣٠٨ وكانت هذه لا تعدو كل ما ذكره كليبر نفسه من حجج ودعاوى سردها في تقاريره ورسائله إلى حكومة الإدارة. ذكر بوسيلج كذلك أنه كان من المنتظر أن يتعطل خروج الحملة من مصر على الرغم من توقيع اتفاق العريش؛ وذلك لعدم حضور السفن التي التزم العثمانيون بتجهيزها لنقل الجيش إلى فرنسا، وقد حاول بوسيلج في هذه الرسالة أن يحمل كليبر وحده مسئولية تقرير الجلاء عن مصر.

منو واتفاق العريش

أمَّا فريق الاستعماريين الذين رغبوا البقاء في مصر، فقد كان أشد معارضة لاتفاق العريش وصاحبه من ديزيه وبوسيلج ومن نحا نحوهما، وكان من الطبيعي أن يتزعم الجنرال منو هذه المعارضة القاسية، فقد حضر منو إلى مصر يحدوه أمل واحد عظيم هو إمكان إنشاء مستعمرة «جميلة» في هذه البلاد، تعوض على فرنسا خسائرها في الهند الغربية من جهة، وتعوض على منو نفسه بعض الخسائر التي تكبدتها أسرته في جزيرة سان دومنجو من جهة أخرى. وعلى ذلك فإنه ما استقر به المقام في رشيد، التي عيَّنه بونابرت في حكومتها بعد سقوط الإسكندرية، حتى انكب على عمله الجديد بكل همة، واستطاع بعد فترة قصيرة من تعيينه أن يرسل إلى بونابرت في ١٥ يوليو ١٧٩٨م٣٠٩ تقريرًا ضافيًا عن رشيد، وما كان لأرضها من قيمة اقتصادية كبيرة. ثم لم يمضِ شهران حتى أردف هذا التقرير بآخر في ٢ سبتمبر من العام نفسه،٣١٠ عرض فيه ما هداه إليه إعمال الفكر في مزايا الديار المصرية من الناحية الاستعمارية، فتحدَّث عن موارد البلاد الاقتصادية بالتفصيل، ثم أظهر ما يمكن أن تجنيه مصر من فائدة محققة إذا هي بادرت بإنشاء صلات تجارية هامة مع دول أفريقيا الشمالية ووسط أو قلب القارة الأفريقية ذاتها.
ولما كان منو حريصًا على بقاء «المستعمرة الجديدة» في حوزة فرنسا، فقد شرع يوضح في رسالة أخرى إلى قائده في ٧ سبتمبر٣١١ ضرورة استخدام وسائل الإقناع والملاطفة والملاينة مع الأهلين من أجل استمالتهم؛ لأنه كان من المتعذر كما قال أن يقيم الفرنسيون صرح سلطانهم في البلاد من غير أن يعتمدوا في ذلك على محبة المصريين أنفسهم لهم.٣١٢ بل لقد كانت لحكومة منو في رشيد أهمية واضحة؛ لأن هذه الحكومة إنما تُعتبر بحقٍّ بداية التجربة الاستعمارية الجديدة التي كان من أقوى دعائمها تلك السياسة التي ابتدعها بونابرت، والتي عُرفت باسم السياسة الوطنية الإسلامية، وهي سياسة كان منو نفسه من كبار مؤيديها، حتى إن بونابرت الذي عرف في منو هذا التأييد الصريح ما لبث أن امتدح حصافته، ثم كتب يشكره على ما كان يُظهره من ضروب الإجلال والاحترام للنبي الكريم ، ثم عهد إليه في ٢٠ أكتوبر ١٧٩٨م بالحكم في إقليمي البحيرة والإسكندرية، على الرغم من أن منو كان قد رغب في الحضور إلى القاهرة. وذلك — على حد قول بونابرت — لأن «مصلحة الجيش التي خدمها منو خدمة صادقة كانت لا تزال تقتضي وجوده بعض الوقت في الشمال.»٣١٣
وعلى ذلك فقد بقي منو في منصبه، ولم يصحب بونابرت عند خروجه في حملة الشام. ثم قطع منو في سياسته الوطنية الإسلامية شوطًا بعيدًا فاعتنق الإسلام دينًا، وتزوج من بيت معروف في رشيد. ومع أن هناك من يعزو إسلام منو إلى رغبة هذا القائد في التمتع بملذات الحياة وسط «حريم» شرقي،٣١٤ فقد أصرَّ منو على التمسك بعقيدته الجديدة في مناسبات عدة، حتى إنه عند استعداده للرحيل من هذه البلاد عند خروج الحملة في آخر الأمر، لم يشأ أن يغادر الأراضي المصرية دون أن يحتفظ «كما يجب على كل مسلم» بمصحفين من المصاحف الشريفة، عدا ثلاثة أو أربعة من كتب الدين الصغيرة. وكتب منو في هذا المعنى إلى الجنرال هتشنسون Hutchinson القائد الإنجليزي الذي سلَّم إليه الإسكندرية،٣١٥ كما أنه حرص على إقناع القبطان باشا قائد القوات العثمانية بأنه إنما اعتنق الإسلام عن روية وبعد تفكير عميق «عندما وضح له أن الإسلام عقيدة سمحة طيبة، وأن الدين الإسلامي أعظم ديانات العالم طرًّا وأعلاها شأنًا»،٣١٦ وفضلًا عن ذلك فقد اختار منو زوجًا له السيدة زبيدة بنت السيد محمد البوَّاب، وعقد عليها لأنها كانت على حد قوله: «من سلالة الرسول »، ويُعرَف أهلها بالأشراف، ويتعممون لذلك بعمامة خضراء، وصار ينظر بعين الغبطة والسرور إلى أن ولده منها «سليمان مراد» سوف يكون من زمرة الأشراف المنتسبين إلى البيت النبوي الكريم.٣١٧
وكان قران منو من السيدة زبيدة في ٢٥ رمضان ١٢١٣ﻫ، الموافق لليوم الثاني من شهر مارس عام ١٧٩٩م.٣١٨ ولعل أكبر ما يؤخذ على منو أنه ظل راغبًا في قضاء «شهر العسل» إلى جانب زوجه، أو تمضية الوقت كما يقول خصومه وسط الحريم في رشيد، فظل مدة شهرين ممتنعًا عن تلبية دعوة بونابرت والشخوص إلى سوريا كي يتسلم حكومتها.
وعندما اضطر في آخر الأمر إلى تنفيذ أوامر قائده تباطأ في الانتقال بصورة مكَّنته من الوصول إلى القطية في وقت كان بونابرت نفسه قد وصل إلى القطية في طريق عودته من سوريا٣١٩ فقابله منو بها، وعندئذٍ أوفده بونابرت إلى العريش حتى ينظر أحوالها. ثم قام منو بعد ذلك برحلة إلى وادي النطرون، حتى إذا أنزل العثمانيون جندهم في أبو قير عهد إليه بونابرت بالقيام على حصار قلعة العريش، فظل منو على حصارها حتى سقطت.٣٢٠ وفي أغسطس ١٧٩٩م قابل منو بونابرت قبل رحيل القائد العام إلى فرنسا، فأعطاه بونابرت قيادة الإسكندرية ورشيد والبحيرة، وسلَّمه ما كان لديه من أوامر وتعليمات إلى الجنرال كليبر وسائر قواد ورجال الحملة.
وعندما عُرِفت رغبة كليبر في المفاوضة مع العدو، اعتقد منو في أول الأمر أن كليبر إنما كان يرجو من مفاوضته مع العثمانيين حمل هؤلاء على الخروج من المحالفة الدولية، فضلًا عن تأمين الحدود المصرية الشرقية من جهة سوريا. وعلى ذلك فإنه سرعان ما صار يدعو إلى تأييد سياسة المفاوضة والوصول إلى اتفاق مع الأتراك يحقق هذين الغرضين، فكتب إلى كليبر في ٦ أكتوبر ١٧٩٩م٣٢١ أن في وسعه دعم مركزه في المفاوضة إذا هو أرسل إلى الصدر الأعظم مفاوضًا ماهرًا يثق بكفاءته؛ ذلك أن العثمانيين إذا فتحوا عيونهم قليلًا استطاعوا أن يلحظوا وجه الغرابة في تلك المحالفة «الشنيعة» التي عقدوها مع غرمائهم الروس. ولا جدال في أن كليبر سوف ينال فخرًا عظيمًا إذا استفاق الأتراك على يده، وتنبهوا إلى الأخطار التي كانت تحدق بهم، ووضع كليبر أسس معاهدة جديدة معهم.
ولما كان معروفًا عن منو أنه من أشد أنصار التجربة الاستعمارية في مصر، واشتُهر لذلك بتأييده لبونابرت، وتزعم أولئك الذين يتمسكون بضرورة البقاء في هذا القطر، على الأقل حتى يحين موعد عقد الصلح العام في أوروبا؛ فقد وجد كليبر أن من حصافة الرأي إذا هو شاء أن يكسر من حدة المعارضة ضد الجلاء أن يشرك في المفاوضة أحد كبار مؤيدي الاستعمار في مصر. وعلى ذلك فإنه ما بدأت المفاوضات بصورة جدية حتى بادر بالكتابة إلى منو في ١٠ نوفمبر ١٧٩٩م٣٢٢ يدعوه إلى القاهرة، حتى إذا حضر في الوقت الملائم — أي في خلال ثمانية أيام — أوفده كليبر إلى المعسكر العثماني مزوَّدًا بالسلطات اللازمة للمفاوضة، وذلك «حتى يزيل منو عن عينَي الصدر الأعظم المسكين تلك الغشاوة التي منعته من إدراك جسامة الأخطار التي تحدق بتركيا، وحتى يقنعه منو بالفائدة المرجوة من الإصاخة بسمعه إلى صوت العقل والحكمة …»

بيد أن منو في هذه الآونة كان قد أدرك حقيقة نيَّات كليبر، وعرف أنه إنما يريد الجلاء عن البلاد وإنهاء مشروعات الفرنسيين الاستعمارية في الشرق، وخشي منو من الوقوع في الشرك الذي نصبه كليبر له، فاعتذر عن عدم إمكانه الحضور إلى القاهرة «في الوقت الملائم». ولما كان كليبر قد طلب تسليم الجنرال لانوس قيادة الإسكندرية عند مجيء منو إلى القاهرة، فقد بادر منو بتسليمه القيادة ورضي الانزواء في رشيد.

وجاء انزواء منو — عقب رحيل بونابرت وتولية كليبر القيادة العامة، وفي الوقت الذي بدأ فيه كليبر المفاوضة من أجل النزوح عن هذه البلاد — دليلًا جديدًا على أن منو الذي رفض الاشتراك في هذه المفاوضة كان لا يزال مصِرًّا على مقاصده ومقاصد بونابرت قائده الأول، ولا يؤازر بتاتًا سياسة الجلاء التي اختطها كليبر لنفسه والتي لقيت تأييدًا يكاد يكون تامًّا من جانب جيش الحملة برمته. واستهدف منو بسبب موقفه من مسألة الجلاء إلى سخط أولئك الراغبين في العودة السريعة إلى الوطن ونقمتهم، حتى إنهم صاروا يلصقون به مختلف الاتهامات ويتقولون عليه الأقاويل الكثيرة، ويصفونه بأنه «كان مصريًّا أكثر منه فرنسيًّا»، ويفضِّل البقاء في مصر على رعاية مصلحة فرنسا. وكان من الطبيعي أن يغضب منو من هذه التهم التي وُجِّهَت إليه جزافًا، وأن يحتج على أصحابها لدى قائد الحملة، واتخذ منو من احتجاجه ذريعة في الوقت نفسه لبسط آرائه، والدعوة للاستعمار في مصر، فقال في رسالته إلى كليبر في ٢٤ نوفمبر ١٧٩٩م٣٢٣ إن خصومه يعزون دعوته إلى القاهرة «إلى تعذُّر جباية الضرائب من الأتراك والمصريين في الجهات التي خضعت لحكومته، وأنه يرعى مصالح أهل البلاد أكثر مما يرعى مصالح الفرنسيين أنفسهم»، ثم انتقل منو من ذلك إلى الكلام عن مزايا استعمار مصر فقال إن متهميه لا يدرون شيئًا عن أبسط الوسائل اللازمة لتأسيس المستعمرات، ولا يدركون أن امتلاك مصر من شأنه أن يمكِّن الجمهورية من تعويض خسائرها في جزر الأنتيل، كما يصون تجارة الفرنسيين في المشرق وجزر الأرخبيل. وفضلًا عن ذلك فقد كان من رأيه أنه ليس بالأمر العسير أن يتم التفاهم مع الإنجليز بصدد بقاء الفرنسيين في مصر في سلامٍ وهدوء إذا اطمأن الإنجليز إلى أن أعداءهم لا يريدون إزعاجهم في الهند. ودافع منو عن زواجه من السيدة زبيدة فقال: «وهل يعرف أولئك الحمقى الذين يعيبون عليَّ الزواج من سيدة مسلمة أنني ما فعلت ذلك إلَّا بدافعٍ من حسن السياسة واستجابة لعاطفة حب الوطن؟»
وواقع الأمر أن رسالة منو إلى كليبر إنما كانت تشير إلى تلك المبادئ التي استرشد بها في سياسته دائمًا، وعززتها كتاباته من آنٍ لآخر ثم أيدتها أعماله، وهي مبادئ مدارها الاحتفاظ بمصر وإنشاء مستعمرة بها على أساسين هامين، هما استمالة الأهالي وجذب ودِّهم من جهة، ثم التفاهم والاتفاق مع الإنجليز من أجل البقاء في مصر من جهة أخرى. وعلى ذلك فقد أصبح من المتوقع أن تلقى مفاوضات العريش في هذه الظروف كل معارضة من جانب منو. ومع أن أحدًا لم يستشر منو في مسألة الصلح وعلى وجه الخصوص بعد انزوائه في رشيد، فقد ظل منو يبعث بالكتب والتقارير إلى كليبر طوال شهر يناير، حتى لا تلين قناته أمام إصرار «الإنجليز والفرنسيين والأتراك جميعًا» على إخلاء مصر، فكان من أهم ما كتبه منو في هذا الشأن تقرير ١٦ نيفوز من السنة الثامنة للجمهورية، الذي أرسله إلى كليبر في ٦ يناير ١٨٠٠م بعنوان «مذكرة عسكرية وإحصائية عن مصر».٣٢٤

وقد أراد منو في هذا التقرير أن يهدم الرأي الذي أخذ يروج وقتئذٍ بين رجال الحملة، وهو أن بقاء مصر في حوزة فرنسا قد أضحى عديم الجدوى؛ وذلك لإخفاق الفرنسيين في طرد الإنجليز من الهند، فأثبت منو في قسمي هذا التقرير الأول والثاني إحصائية لما كانت عليه تجارة فرنسا الخارجية قبل «الثورة»، ثم ما آلت إليه بعدها، فقدَّر أن الربح الذي جنته فرنسا من تجارة إمبراطوريتها الاستعمارية القديمة في عام ١٧٨٩م كان يُربِي على مائتي مليون فرنك، حتى إذا نشبت حروب الثورة في أوروبا، واستولى الإنجليز على جزر الأنتيل، واندلع لهيب الثورات في جزر الهند الغربية، وصار صيد الأسماك في «تير-نيف» متعذرًا، وبات متعذرًا كذلك الاتصال بين فرنسا والهند الشرقية وجزر الروينون وإيل دي فرانس، ثم الشاطئ الأفريقي الغربي، ثم اشتركت وجاقات الغرب وأساكل الليفانت (أو المشرق) مع كل أوروبا في النضال ضد فرنسا، فقدت فرنسا بسبب ذلك كله من تجارة المستعمرات ما تبلغ قيمته نيفًا ومائة مليون من الفرنكات سنويًّا، وبقيت لفرنسا تجارتها مع إسبانيا والدول التي آثرت الحياد في النضال القائم إلى جانب بعض دول الأعداء التي رغبت في التجارة المستترة، وذلك برفع أعلام البلدان المحايدة على صواري سفنها.

وخرج منو من ذلك إلى حقائق معينة أجملها في قوله: «لقد فقدت فرنسا جزر الأنتيل إلى الأبد، ولن تعيد إنجلترا إلى الفرنسيين ممتلكاتهم التي فقدوها في الهند، بل إنها ولا شك سوف تمنعهم من إنشاء أية صلات تجارية مع دول البحر الأبيض المتوسط، وهذا إلى أن إنجلترا سوف يكون من نصيبها — بفضل معاهدة المحالفة والتجارة التي أبرمتها مع الولايات المتحدة — تلك المكانة ذاتها التي تمتعت بها فرنسا سابقًا في القارة الأمريكية، وهكذا لم يبقَ لفرنسا موضع في هذا العالم حتى تبدأ فيه من جديد تشييد صرح إمبراطوريتها، ولا مناص من استمرار هذه الحال على الأقل ما دام الفرنسيون لا يلجئون إلى استخدام الوسائل التي تكفل لهم إنشاء مستعمرة تستطيع أن تعوِّضهم شيئًا عمَّا فقدوه من أملاكهم.»

وانبرى منو، في القسم الثالث من هذه المذكرة الهامة، يوضِّح ما ينبغي على فرنسا أن تفعله حتى تجتاز هذا المأزق بسلام، فألح في ضرورة بقاء مستعمرة فرنسية في مصر، ثم التمسك بهذه المستعمرة لتعويض الفرنسيين عن خسائرهم في أمريكا والهند الغربية، مستندًا فيما ذهب إليه إلى أنه «كان يدخل في اعتبار الحكومة الفرنسية — ولا شك — عند إرسال حملتها إلى مصر إنشاء مستعمرة في هذه البلاد تعوِّض على الجمهورية خسائرها؛ لأن الأموال الطائلة التي أُنفِقَت في تجهيز هذه الحملة ومختلف العتاد الكثير الذي جُمِع، وإعداد الرجال الذين وقع الاختيار عليهم لمرافقتها؛ إنما يدل على أن الغرض من إرسال هذه الحملة لم يكن لمجرد النزهة، وإنما كان للغزو وإرساء الفتوح الجديدة على قواعد قوية ودعائم ثابتة، ولم يحدث الغزو إرضاء لشهوة الطمع فحسب لأن مصر لها من موقعها الجغرافي ما يجعلها مقرًّا ومستودعًا لتجارة الهند الآتية بطريق البحر الأحمر ونهر النيل وميناء الإسكندرية.

ولا يقلل من شأن هذه الحقيقة بحال من الأحوال أن الإنجليز موجودون بالهند، وأن الفرنسيين مضطرون إلى التخلي عن فكرة إقصاء هؤلاء وطردهم منها؛ ذلك لأن مصر تتمتع بثروة داخلية تجعلها من خير مستعمرات العالم، فهي تنتج الأرز والقمح والشعير والنيلة وغير ذلك بكميات عظيمة، فضلًا عن نمو شجر العنب بكثرة، ووفرة الخيول وأجود أنواع الحيوان، وكذلك النطرون. ومما يدعو إلى التفاؤل في إمكان قيام صناعات الحرير والزيوت وجود شجر التوت والزيتون، وعلاوة على ذلك فإن بمصر من شجر قصب السكر والقطن وغير ذلك مما يسهل معه انتظار حصول فرنسا على خير من هذه المستعمرة الغنية، بل إن مصر — إذا قُدِّر لها أن تتمتع بإدارة حازمة مصلحة — ستكون بعد عشر سنوات فحسب أفضل مستعمرات العالم أجمع، ولا يتأتى ذلك بالاقتصار على استغلال منتجات الأرض، بل على المستعمرين أن ينشئوا إلى جانب ذلك مصانع لتكرير السكر وصنع النيلة، وفي وسع فرنسا أن تستقدم من سان دومنجو المستعمرين حتى يجلبوا معهم إلى مصر صناعاتهم.»

واعتمد منو في هذا الجزء من مذكرته على ذلك البحث الذي ألقاه تاليران في المجمع العلمي بباريس في ٣ يوليو ١٧٩٧م، ولمَّا كان يريد استرعاء انتباه جيش الشرق إلى ما جاء في هذا البحث، فقد أشار منو إليه في مذكرته، وطفق يوضِّح كيف أن تاليران كان يتوقع أن تفقد فرنسا ذات يوم مستعمراتها الأمريكية، ويطلب لذلك من بلاده أن تتخذ العدة لتعويض هذه الخسارة، وذلك علاوة على ما ذكره تاليران نفسه من أن الدوق دي شوازيل كان يسعى منذ ١٧٦٩م لإقناع تركيا بطريق المفاوضة بضرورة نزولها عن مصر إلى فرنسا، كما بيَّن بوضوح وجلاء ما كان هنالك من وجوه الشبه بين منتجات مصر ومنتجات جزر الأنتيل، فضلًا عن تحذير أبناء وطنه من استعداد الإنجليز وإصرارهم على سبق الفرنسيين في مضمار الاستعمار والاستيلاء على جميع ما يفقده هؤلاء من مستعمراتهم إلى جانب امتلاك الأراضي الواسعة الجديدة.

ولمَّا كانت هناك صعوبات ولا ريب سوف تعترض جيش الشرق، وتحول دون استعماره مصر والاستقرار بها، فقد شرع منو في الجزء التالي من مذكرته يشرح وسائل تذليل هذه الصعوبات بقوله: إن التغلب على «تعصب» أهل البلاد سهل ميسر إذا سلك الفرنسيون مع الأهلين طريق التسامح، وحكموهم بالعدل والقسطاس فاستمالوهم إليهم. وفضلًا عن ذلك فإن لدى جيش الشرق من القوة العسكرية ما يمكِّنه من الاحتفاظ بالسيطرة الكاملة في البلاد، فإذا اعترض معترض بأن مصر سوف تظل في أثناء الحرب محرومة من التجارة مع غيرها من البلدان الأخرى، وتعجز لذلك عن تموين جيش الشرق؛ فمن السهل دفع هذا الاعتراض بما ظهر من القدرة على الحصول على إيراد كبير من مصر سنويًّا، زد على ذلك أنه إذا اتفقت الكلمة على أن تترك الهند وتجارة الخليج الفارسي للإنجليز ينتفعون بها، فإن هؤلاء سوف يقتنعون بدورهم أن يتركوا مصر للفرنسيين. أمَّا إذا هدد الروسيون جيش الشرق في مصر، فإن هذا التهديد لا يلبث أن يستثير معارضة الإنجليز خوفًا من تضخم قوة الروس لدرجة يُخشى معها بأس هذه القوة، ولن يهدأ بال الإنجليز حتى يحطِّموا كل أمل لدى الروس في الاستيلاء على مصر. أمَّا إذا كان الخطر الذي يتهدد الفرنسيين في مصر آتيًا من جانب الأتراك، فمن الميسور إزالة هذه المخاوف بالاتفاق مع الأتراك أنفسهم، على أساس أن «يحتفظ الباب العالي بنوعٍ وقسطٍ من السيادة الدينية يكفي لاشتراكه في ممارسة سلطان السيادة العليا مع الفرنسيين في مصر»، فضلًا عن دفع قدرٍ من المال إلى الباب العالي سنويًّا.

أمَّا إذا قيل إن فرنسا لا تملك بحريةً نافعة، فالجواب على ذلك أن عقد الصلح مع إنجلترا من شأنه أن يلغي حاجة فرنسا إلى بحرية حربية كبيرة، وكذلك إذا قيل إن الوباء سوف يفتك بعدد كبيرٍ من الفرنسيين في هذه البلاد، فوسيلة التغلب على هذه الصعوبة أن يكافح الفرنسيون هذا الوباء، «ومتى كان الوباء أشد فتكًا من الحُمَّيات الخبيثة في جزر الأنتيل؟!» ومع ذلك فهناك حقيقة واحدة لا ينبغي أن تعزُب عن بال إنسان، هي أنه إذا ترك الفرنسيون مصر فقد خسروها إلى الأبد، ولا أمل في عودتهم إليها مرة أخرى؛ ذلك بأن الإنجليز والروس سوف ينتهزون هذه الفرصة للاستيلاء عليها، ولا شك في أن هؤلاء إذا أبقوا مظاهر السيادة للباب العالي سيصبح في مقدورهم أن يدعموا مراكزهم في هذه البلاد بصورة تحقق سيطرتهم على السلطان العثماني نفسه في النهاية.

تلك كانت مذكرة ١٦ نيفوز المشهورة، وقد بسط صاحبها آراءه على أساس البقاء في مصر وعدم الجلاء عنها. حقيقةً اشتملت هذه المذكرة على بعض الآراء «الخيالية» كاعتقاد منو أن في وسع الفرنسيين أن يتفقوا مع الإنجليز على أساس أن يترك هؤلاء غرماءهم في مصر ويرضوا باستقرارهم في أرضها، أو اعتقاده أنه من الميسور إنشاء مستعمرة ناجحة في هذه البلاد دون الحاجة إلى وجود بحرية حربية قوية لدى فرنسا. ومع ذلك فقد كانت الفكرة الواضحة في هذه المذكرة أن الواجب يقتضي جيش الشرق أن ينظر إلى مصر من ناحية قيمتها التجارية والاقتصادية، ومن واجبه كذلك ألَّا يفرط في هذه البلاد بتاتًا.٣٢٥
غير أن كليبر وقد قرَّ رأيه على الجلاء لم يعر هذه المذكرة أي التفاف، بل مضى في سياسته قُدُمًا حتى إن منو اضطر إلى الكتابة إليه ثانية في ١٧ يناير ١٨٠٠م٣٢٦ يحضُّه على عدم التفريط في المستعمرة، وأنشأ يقول إن كليبر ولا شك سوف يتمتع بمكانة تضمن له الشهرة الخالدة والصيت البعيد إذا هو قرر الصلابة أمام الإنجليز والروس والأتراك جميعًا، ثم اشترط كل ما يحقق مصلحة بلاده، ولكن كليبر ما لبث أن أبرم اتفاق العريش في ٢٤ يناير، وبدأت المعارضة تشتد وتقوى بين طائفة من قواد الحملة ورجالها تزعمهم منو الذي ما لبث أن كتب إلى بونابرت في ٢٤ فبراير٣٢٧ يصف له حزنه العميق لما حدث بسبب الاتفاق على الجلاء عن مصر دون قيد أو شرط، ويسهب في ذكر الفوائد العظيمة التي تعود على فرنسا من بقاء هذه البلاد في حوزتها، كما كان يحز في نفسه ضياع تلك النفقات الطائلة التي تكبدتها الحملة بسبب أعمال التحصينات العديدة، وإنشاء المعامل، والعناية بوسائل الري وما إلى ذلك. وطفق يتحدث عن الوسائل التي تمكِّن من عقد الصلح مع إنجلترا وتركيا من غير حاجة إلى الخروج من مصر، حتى إذا آن وقت عقد الصلح العام في أوروبا، وكانت فرنسا غير راغبة في الاحتفاظ بمصر، أو هي تعجز عن ذلك، كان في وسعها على الأقل أن تطلب تعويضًا كبيرًا لقاء الجلاء عنها. وواقع الأمر أن منو كان يعتبر اتفاق العريش نصرًا عظيمًا للسير سدني سمث الذي استطاع إخراج الفرنسيين أو «طردهم» من مصر، دون حاجة إلى الاشتباك معهم في معركة واحدة.٣٢٨
ووجد منو من بين ضباط الحملة ورجالها من شاطره هذه الآراء، فكان هناك توسار Tousard الذي أحزنه كفرنسي أن يترك بلدًا غنيًّا طيِّبًا كمصر، وكان هناك القائد دافو الذي كان أظهر المعارضين لكليبر عند انعقاد المجلس الحربي في الصالحية وأراد أن يعرف عنه الجميع هذا الموقف، ثم أقبل على تأييد منو، وما لبث قبل إبحاره مع ديزيه إلى فرنسا في ٣ مارس أن جدَّد احترامه وتأييده له.٣٢٩ وزاد عدد المعارضين لاتفاق العريش رويدًا رويدًا كلما قرب موعد الرحيل إلى فرنسا، حتى ذكر أحد المعاصرين٣٣٠ أن هذه المعارضة بدأت في أول الأمر في صورة عدم الاتفاق على الطريقة التي يجري بها إخلاء البلاد، ثم ما لبثت أن انتقلت من ذلك إلى عدم الرضا عن المعاهدة ذاتها ورفض فكرة الإخلاء رفضًا قاطعًا، وأزعجت هذه المعارضة الجنرال دوجا إزعاجًا شديدًا، وكان دوجا من الأفراد القليلين الذين وافقوا على سياسة كليبر، واعتزم العودة إلى فرنسا (مع بوسيلج)، فلقي عنتًا كبيرًا من جانب المعارضين «الذين ظلوا يعطلون رحيله من الإسكندرية مدة طويلة حتى اضطر قبل إقلاعه منها (في ١٤ مارس) أن يشكو طائفة من الرجال كفيال Vial ودافو «الذين أرادوا منع أحد مؤيدي اتفاق العريش من إبلاغ صوته إلى أسماع أولي الشأن في فرنسا.»٣٣١
وما إن قويت المعارضة ضد اتفاق العريش حتى انزعج كليبر انزعاجًا عظيمًا، ثم استبد به القلق عندما تلقى لدى وصوله من الصالحية إلى القاهرة في ٨ فبراير ما حرص الإنجليز على إذاعته من أنباء عن سقوط حكومة الإدارة ووصول بونابرت إلى الحكم في فرنسا، وكانت هذه ولا شك أنباء خطيرة، وبخاصة وقد ظل كليبر لا يصله شيء من أخبار الوطن أو من أخبار بونابرت منذ رحيل هذا الأخير في شهر أغسطس من العام السابق.٣٣٢ ثم سرعان ما تأيدت صحة هذه الأنباء عندما وصل إلى أبو قير في ٢٧ فبراير لاتور موبورج La Tour Maubourg رسول الحكومة يحمل إلى جيش الشرق طائفة من الرسائل والتقارير والصحف، فأيَّد الرسول حدوث الانقلاب — انقلاب برومير الذي وضع بونابرت على رأس القنصلية — كما اشتملت الأوراق التي أتى بها على وصف مسهب لحوادث هذا الانقلاب وصورة من دستور القنصلية الجديد.٣٣٣ على أن الأمر الذي استرعى انتباه كليبر أكثر من غيره كان خلو هذه الرسائل والتقارير من أية إشارة قد يستدل منها على أن الحكومة الجديدة تعتزم إرسال نجدات سريعة إلى مصر، كما أن بونابرت لم يعن بإرسال كلمة تشجيع واحدة إلى جيش الشرق أو إلى قائده،٣٣٤ وفضلًا عن ذلك فقد حنق كليبر حنقًا كبيرًا عندما عثر ضمن رسائل جروسبير على خطاب بعث به الأخير في ٢ يناير ١٨٠٠م٣٣٥ إلى حكومة القنصلية عند وصوله إلى فيلافرانكا يقول فيه إن جميع جنود الحملة يجدون كفايتهم من الأردية والملابس، ولا سبب للخوف من جيوش الصدر الأعظم؛ لتفوُّق جيش الشرق على العثمانيين، حتى إن انتصار كليبر عند التحامه مع هؤلاء في المعركة المقبلة سوف يكون عظيمًا ساحقًا، وعلاوة على ذلك فإن الحماس يملأ صدور الجند، كما تملأ قلوبهم المحبة لقائدهم الذي يتمتع بثقتهم العظيمة وتسود بينهم روح عالية طيبة. فجاء كلام جروسبير مناقضًا لما ذكره كليبر نفسه في تقريره المعروف لحكومة الإدارة عن حالة الجيش السيئة، وهي الحالة التي أوفد كليبر هذا الضابط المدفعي ليبسط حقيقتها مشافهة لدى أعضاء الحكومة، على أمل أن يعزز جروسبير بأقواله كل ما سطره كليبر في رسائله وتقاريره، ولذلك فقد ثارت ثائرة كليبر ووصف عمل جروسبير ومسلكه ﺑ «الجبن والنذالة».٣٣٦
وحُقَّ لكليبر أن يغضب وأن يتألم؛ ذلك أن مركزه كان في غاية الحرج بسبب وصول بونابرت إلى أعلى مناصب الحكم في فرنسا، وفي وسعه بفضل منصبه الجديد أن ينظر تلك الاتهامات الخطيرة التي وجهها إليه كليبر في تقرير ٢٦ سبتمبر، وأن يفصل في موضوع كان هو نفسه أحد طرفَي الخصومة فيه،٣٣٧ ومع ذلك فقد كان إيمان كليبر عظيمًا بضرورة الاتفاق على أساس الجلاء عن مصر، حتى إنه ما لبث أن كتب إلى دوجا يقول٣٣٨ إنه كلما قلَّب وجوه الرأي فيما فعله من أجل الانتهاء من مسألة البقاء في مصر ازداد يقينًا بأن الأجيال المقبلة سوف تتوج هامته بأكاليل من المجد والفخار؛ لأنه وجد لديه من الشجاعة ما جعله يقرر بصورة معقولة إنهاء مغامرة «جنونية» سرعان ما ينبذها صاحبها نفسه ومبتكرها بصورة تدل على الجبن وعدم الشجاعة. كما مضى يقول في رسالة بعث بها في الوقت نفسه٣٣٩ (٦ مارس) إلى بوسيلج: «إن الإقدام على تأسيس مستعمرة دون أن يكون لدى الدولة التي ترغب في تأسيسها حكومةٌ مستقرة أو بحريةٌ قوية، وخزانتها خاوية، وهي تخوض في الوقت نفسه غمار الحروب في أوروبا؛ مما يدل على منتهى السخف والهذيان، ويشبه محاولة فرض الحصار على مكان دون أن يكون لدى أصحاب الحصار أي سلطان في الميدان ولا ذخائر حرب لديهم، بل إنه لأشد سوءًا من ذلك … وفي وسع بونابرت القوي القدير أن يكمم أفواه الناس فلا ينطقون بالحقيقة وقتًا من الزمن، ولكن الحق قمينٌ بأن يظهر عاجلًا أو آجلًا فيعرفه الجميع.»
وفضلًا عن ذلك فقد ساء كليبر — على حدِّ قوله — أن يتصدى للمعارضة بعض أولئك الذين وقَّعوا بأسمائهم على محضر المجلس الحربي الذي انعقد في الصالحية، وقرر أصحابه الموافقة على الصلح، وطلب كليبر من دوجا وبوسيلج أن يذكرا الحقيقة كاملة عند عودتهما إلى فرنسا، وألَّا يخشيا في قول الحق لومة لائم. وفي ٢٧ مارس كتب كليبر٣٤٠ إلى وزارة الحرب في باريس يبدي «دهشته العظيمة» من خلو كل ما جاء به لاتور موبورج من رسائل وتقارير من ذكر شيء قد يُستفاد من أن الحكومة إنما تعتزم إرسال النجدات السريعة إلى مصر، ثم خلوها كذلك من أية تعليمات جديدة بعد أن تغير الموقف منذ رحيل بونابرت إلى فرنسا، الأمر الذي يدعو إلى اغتباط كليبر على حدِّ قوله بتلك التسوية التي انتهى إليها حديثًا. وفي ٢٧ مارس كان قد انقضى أسبوع تقريبًا على آخر اشتباك وقع بين الفرنسيين والعثمانيين في معركة كبيرة، نتيجة نقض الإنجليز والعثمانيين لعهودهم، خرج منه كليبر منصورًا مُظَفَّرًا، وهكذا فإنه على الرغم من المعارضة الشديدة التي أثارها خصوم الاتفاق، والتي ازدادت حدتها بعد وصول لاتور موبورج يحمل أخبار انقلاب ١٨ برومير الذي أوصل بونابرت إلى القنصلية، ثم على الرغم من أن العدو قد نكث عهده، فقد ظل كليبر يؤمن إيمانًا صحيحًا بسداد تلك السياسة التي استهدفت الجلاء عن مصر، والتي أفضت إلى عقد اتفاق العريش. وفضلًا عن ذلك فإن كليبر لم يكن مسئولًا بحال من الأحوال عن نقض هذا الاتفاق، بل وقع قسط كبير من مسئولية نقضه على عاتق الإنجليز أنفسهم.

إنجلترا ونقض اتفاق العريش

ومسئولية الإنجليز عن نقض اتفاق العريش حقيقة لا تقبل جدلًا أو مناقشة؛ ذلك لأن العثمانيين حلفاءهم على الرغم من تلك اللهجة الجافة التي اصطنعها الصدر الأعظم في رسائله إلى كل من بونابرت وكليبر، كانوا يرحبون بفكرة المفاوضة مع الفرنسيين حتى يتسنى إخراج هؤلاء من البلاد وعودة الديار المصرية إلى حظيرة الدولة العثمانية، فضلًا عن أنه لم يكن من مصلحة العثمانيين في شيء أن يخوضوا غمار حربٍ عنيفة مع الفرنسيين في مصر، لاختلال نظام جيوشهم، ولخروج أحمد باشا الجزار على سلطانهم، وتحصُّنه في عكا، وإقدامه على قطع المواصلات بين الجيش العثماني الزاحف على الحدود المصرية وبين القسطنطينية بدلًا من مساعدته، حتى ساد الشعور عقب انسحاب الفرنسيين من عكا بأن الصدر الأعظم إنما أعد جيوشه الجرارة لإنزال العقوبة بكل أولئك الباشوات الذين نبذوا سيادة السلطان العثماني، ولم يكن يحاول طرد الفرنسيين من مصر. وكان مما أقضَّ مضجع العثمانيين رؤيتهم أسطول حلفائهم الروس يمخر عباب المياه العثمانية، فعظمت مخاوفهم حتى إنهم صاروا يعتبرون المبادرة بتحصين المضايق مفضَّلًا على كل ما عداه؛ لأن مصر أو أي إقليم آخر من أقاليم الإمبراطورية العثمانية لا يعدو كونه عضوًا في جثمان الدولة، بينما تُعتبر المضايق بمثابة «الحلقوم» إذا أطبق الأعداء عليه فلا مناص من هلاك الجثمان كله.٣٤١
وعلى ذلك فقد اجتهد الأتراك في مبدأ الأمر حتى يبقوا المفاوضة مع الفرنسيين سرًّا مكتومًا، على أمل النجاح في الوصول إلى اتفاق يضمن خروج هؤلاء الأخيرين من مصر، حتى إذا قطعت المفاوضة شوطًا تبيَّن منه أن القائد الفرنسي يريد حقيقة الجلاء عن مصر، وصار ضروريًّا كذلك أن يبحث العثمانيون مع حلفائهم مسألة إعداد «جوازات المرور» اللازمة للفرنسيين حتى لا تتعرض لهم بشيءٍ أساطيل الحلفاء من الروس والإنجليز في أثناء عودتهم بطريق البحر الأبيض؛ اضطر الأتراك إلى مفاتحة حلفائهم في أمر هذه المفاوضة، فعلم بها السير سدني سمث في أواخر أكتوبر عام ١٧٩٩م؛ أي بعد مضيِّ شهرين تقريبًا على بدئها. ولم يذكر الريس أفندي وزير الخارجية العثماني عنها شيئًا للوزير الإنجليزي في القسطنطينية سبنسر سمث Spencer Smith إلَّا في ٣٠ أكتوبر حينما طلب الريس أفندي إلى حلفائه الإنجليز والروس أن يعاونوا الدولة في إخراج الفرنسيين من مصر، وذلك بإعطاء هؤلاء جوازات المرور اللازمة لهم. ومع أن تمارا Tamara المندوب الروسي كان قد وافق على إعطاء عدد من هذه الجوازات، فقد حاول سبنسر سمث من ناحيته أن يكسب بعض الوقت حتى يتدبر الأمر الذي فوجئ به مفاجأة، واعترض على عودة الجيش الفرنسي بكامل عدده وعدته دفعة واحدة إلى فرنسا، خوفًا من أن يلحق الأذى بمصلحة الحلفاء أنفسهم من جراء عودة جيش الشرق والحرب ما زالت دائرة الرحى في أوروبا.
وقضى الأتراك وقتًا ثمينًا يحاولون تبديد مخاوف سبنسر سمث، وتفتَّق ذهن تمارا عن «خدعة حربية» للغدر بالجيش الفرنسي العائد إلى بلاده، واقترح الأتراك على الإنجليز قبول هذه «الخدعة»، ومدارها أن يُنقل الفرنسيون إلى مكان ما بدلًا من إنزالهم في الشواطئ الفرنسية، حتى إذا تركوا السفن انقض عليهم الحلفاء وفتكوا بهم في مذبحة عظيمة، ثم شرَّدوا من بقي منهم أحياء بعد أن يسلبوهم أرديتهم وملابسهم وكل ما يحملون.٣٤٢ وقد دل اقتراح الأتراك هذه «الخدعة» على الإنجليز أنهم كانوا يريدون الحصول على جوازات المرور بصورة من الصور، وأمام إلحاح الأتراك وإلحافهم وافق سبنسر سمث في ٣ نوفمبر على إعطاء هذه الجوازات، ولكنه اشترط موافقة اللورد إلجين Elgin السفير الإنجليزي الجديد على ذلك، وكان من المنتظر وصول هذا السفير إلى القسطنطينية بين آونة وأخرى.
على أن وصول إلجين إلى القسطنطينية بعد أيامٍ قلائل سفيرًا فوق العادة لدى السلطان سليم ما لبث أن سبب ارتباكًا ظاهرًا في دوائر الباب العالي؛ ذلك بأن سفارته كانت تنتزع من سبنسر سمث وأخيه السير سدني كل صفة تخوِّلهما حق المفاوضة مع الأتراك والروس في وقت كانت المفاوضات من أجل جلاء الفرنسيين عن مصر قد قطعت شوطًا يدعو إلى الأمل في إمكان إنجازها على النحو الذي يريده الأتراك أنفسهم، ويتفق مع وجهة نظرهم، فضلًا عن أن اللورد إلجين عند حضوره إلى القسطنطينية كان يجهل حقيقة الموقف في مصر، وعليه علاوة على ذلك مجابهة أمور عدة واتخاذ قرار عاجل بشأنها، من ذلك أن المفاوضات بين الأتراك والفرنسيين في مصر كانت قد وصلت إلى مرحلة هامة منذ أن توسط السير سدني في الأمر، ووقع على كتابه المعروف إلى كليبر في ٢٦ أكتوبر ١٧٩٩م بوصفه وزيرًا مفوَّضًا لدى الباب العالي،٣٤٣ ومن ذلك أن الأتراك كانوا مصممين على استرجاع مصر وجلاء الفرنسيين عنها بكل سرعة، بينما انبرى تمارا المندوب الروسي يدعو الآن لنبذ الموافقة على هذا الجلاء، ويطلب إلى الإنجليز أن يرفضوا ذلك على خلاف ما كان يريده سابقًا، ومن ذلك أنه كان على اللورد إلجين أن يبدي رأيًا قاطعًا في مسألة تلك «الخدعة الحربية» التي اقترحها العثمانيون بتحريض من تمارا للقضاء على جيش الحملة.
ورفض إلجين «الخدعة الحربية»، ولكنه أقر بأن للعثمانيين الحق في المفاوضة والاتفاق على أساس جلاء الفرنسيين من مصر وإخلاء هذه البلاد منهم، لا سيما وقد وافقت روسيا على هذا المبدأ، والروسيا من أعضاء المحالفة. وانحصر الاهتمام لذلك في فحص ما يطلبه الفرنسيون من ضمان يكفل عدم تعرض الأسطول الإنجليزي لهم عند نقلهم من مصر إلى بلادهم، غير أنه كان يسوء إلجين أن يظل السير سدني سمث بوصفه وزيرًا مفوَّضًا يلعب دونه دورًا هامًّا في المفاوضات، كما أن إلجين سرعان ما غيَّر موقفه من مسألة الاتفاق بين الأتراك والفرنسيين على أساس جلاء هؤلاء الأخيرين عن مصر. وكان لهذا التغيير أسباب عدة، منها أن الأتراك أنفسهم قد ظهر الآن ترددهم في قبول الصلح عندما استهوت الخدعة الحربية أفئدتهم، فأرادوا لو تمكَّن الأسطول الإنجليزي في البحر الأبيض من أن يقبض على الجيش الفرنسي العائد إلى بلاده، ويعمل على إبادته وإفنائه. وكان أعظم ما يخشاه إلجين من اتفاق الصدر الأعظم وكليبر ثم عودة السلام بين تركيا وفرنسا أن يزداد نفوذ الفرنسيين في القسطنطينية حتى يطغى على كل نفوذ آخر، وقد لمس إلجين بنفسه آثار النفوذ الفرنسي الكبير في القسطنطينية على الرغم من وقوع الحوادث الأخيرة. وقد بسط إلجين ذلك كله في رسالة بعث بها إلى اللورد جرنفيل Grenville وزير الخارجية الإنجليزية في ١١ نوفمبر سنة ١٧٩٩م.٣٤٤
على أنه مما تجدر ملاحظته أن إلجين ظل ما يقرب من شهر لا يطلع السير سدني على آرائه أو ما وصل إليه من نتائج، بل إن إلجين الذي شكا في ١١ نوفمبر من انتحال السير سدني صفة الوزير المفوض ما لبث حتى قرر في ١٧ نوفمبر أن يترك لتقديره وتقدير الصدر الأعظم الفصل في مسألة جوازات المرور؛ لأن الحماية التي يمنحها السير سدني — بوصفه قائد القوات البحرية الإنجليزية في الليفانت — لجند الحملة عند خروجهم من مصر ونقلهم إلى بلادهم تساوي في قيمتها وأهميتها جوازات المرور التي يصدرها إلجين نفسه.٣٤٥ ولعل إلجين كان لا يزال يريد مصانعة السير سدني عندما شاهد عند قدومه إلى القسطنطينية مقدار ما نشأ من علاقات طيبة بين الصدر الأعظم والسير سدني سمث، حتى إن الصدر صار يثق فيه ثقة عظيمة، ولا يرى ما يدعو إلى إبعاده عن المفاوضة وميدان العمل على الرغم من تعيين سفير إنجليزي جديد في القسطنطينية، طالما أن الأمور كانت تسير في نظر الصدر سيرًا طيبًا،٣٤٦ أو لعل إلجين من جهة أخرى كان لا يزال في حاجة إلى وقت أطول يصرفه في فحص موضوع الصلح بين تركيا وفرنسا، حتى إذا قر رأيه على شيء استطاع أن يخطو خطوة حاسمة في هذه المسألة.
وعلى أي حال فقد بدأ إلجين يوضح موقفه من السير سدني سمث من أواسط شهر ديسمبر، فكتب إليه في ١٧ ديسمبر ثم في ٢٢ ديسمبر يعترض على فعله ويحتج على دخوله في مفاوضة من أجل إخراج الفرنسيين من مصر دون أن يشرك معه في هذه المفاوضة الأتراك أنفسهم؛ إذ لم يحضر مؤتمرات الصلح التي عقدها السير سدني مع الفرنسيين — على حد قول إلجين — أحد من العثمانيين يحمل من الباب العالي تعليمات يستطيع بفضلها المساهمة جديًّا في المفاوضة، مع ما في ذلك من تعريض المحالفة مع الأتراك إلى خطر الانهيار. وكتب إلجين: «حقًّا إن تخليص مصر من قبضة الفرنسيين لأمرٌ هام، ولكن هذه الرغبة لا يجب أن تكون سببًا في إثارة ظنون الحكومة العثمانية وشكوكها، وهي الحكومة التي من واجبها أن تسلك في شئونها الطريق الذي تعتبره ملائمًا لمصالحها، ولكن بشريطة أن يكون هذا المسلك متفقًا في الوقت نفسه وجميع الارتباطات التي التزمت بها تركيا نحو إنجلترا.»٣٤٧ وواضح من هذا القول كذلك أن إلجين صار يخشى عواقب محاولة الأتراك أن يعقدوا صلحًا منفردًا مع فرنسا، وكان أهم ما أخذه إلجين على السير سدني سمث أنه لم يحتط لهذه المسألة، فيدبر الأمر بصورة تكفل تعاون الباب العالي مع الإنجليز في اتحاد متين من شأنه أن يحمل العثمانيين على الاستمرار في الحرب ضد فرنسا بعد إنقاذ مصر.

تلك كانت اعتراضات اللورد إلجين على عمل السير سدني سمث، وبعض هذه الاعتراضات يستند ولا شك إلى أسباب صحيحة، بينما بعضها الآخر لا مسوِّغ له. فالقول بضرورة اشتراك مفاوض عثماني في المباحثات الجارية مع العثمانيين في مصر كان لغوًا لا طائل تحته؛ لأن المفاوضات إنما بدأت بين كليبر والصدر الأعظم قبل تدخُّل السير سدني سمث على نحو ما سبق ذكره. غير أن إلجين كان على حق فيما يبدو في اعتراضه الآخر عندما طالب ببقاء العثمانيين إلى جانب الإنجليز في الحرب ضد فرنسا بعد خروج جيش الشرق من مصر؛ وذلك لأن السير سدني لم يعر هذا الموضوع أي اهتمام؛ لأسباب ظاهرة، منها أنه كان لا يقيم وزنًا كبيرًا لقدرة الأتراك العسكرية؛ لما عرفه عن ضعف جيوشهم وفساد نظامها، فلم يهتم بمواصلتهم القتال ضد الفرنسيين بعد خروج هؤلاء من مصر. وفضلًا عن ذلك فقد اعتقد السير سدني أن في وسع الأسطول الإنجليزي مراقبة مصر وتركيا معًا إذا وقع في كلتيهما من الأحداث ما يدعو إلى هذه الرقابة.

ومع ذلك فقد جاءت هذه الاعتراضات جميعها متأخرة؛ لأنها لم تبلغ السير سدني سمث في الوقت المناسب؛ أي قبل توقيع اتفاق العريش الذي حدث كما هو معروف في ٢٤ يناير سنة ١٨٠٠م. وعلى ذلك فإنه ما إن وصلت أنباء هذا الاتفاق إلى القسطنطينية في منتصف فبراير، حتى أظهر اللورد إلجين امتعاضه لحدوث الاتفاق دون الأخذ باعتراضاته من جهة، ولأنه لم يشترك في عقده من جهة أخرى. وبدأ إلجين من ذلك الوقت حملة شديدة ضد اتفاق العريش وضد «صاحبه»، وطفق يبعث بالكتب إلى اللورد جرنفيل طوال شهرَي فبراير ومارس يبسط فيها أسباب معارضته، ومنها أن الفرنسيين مشهورون بالغدر والخيانة، فلا يجب الوثوق بما أخذوه على أنفسهم من حيث الجلاء عن مصر في خلال ثلاثة شهور، بل إن رغبتهم في الاحتفاظ بجزر الأيونيان وجزيرة مالطا لتدل دلالة واضحة على أنهم يبغون العودة في المستقبل القريب إلى مصر واحتلالها مرة أخرى، ثم إن إلجين شعر باستياء عظيم من ناحية السير سدني الذي تجاهل دعوته للمساهمة في المفاوضة، حتى إن اللورد ما لبث أن اتهم السير سدني بأنه كان «يعمل ضد نفوذه». أضف إلى هذا كله أن السير سدني رضي بتضحية العثمانيين حلفاء الإنجليز لسبب مبالغته في اعتبار الفرنسيين أصحاب بسالة وبطولة تقتضيه أن يحفظ لهم شرفهم العسكري، كما أنه أنهى الحرب في مصر دون أن يتدبر منع الجيش الفرنسي العائد إلى وطنه من الاشتباك مع الإنجليز وحلفائهم في ميادين أخرى، ودون أن يوضِّح للعثمانيين أنفسهم أن عليهم التزامات معينة نحو حلفائهم الإنجليز، ودون أن يحصل منهم على أي تعهد بضرورة المثابرة على بذل كل ما في وسعهم من جهد إلى جانب حلفائهم في القضية المشتركة ضد فرنسا، مما يتعارض جميعه وما كان يفهمه إلجين نفسه عن حقيقة المهمة التي أُوفد من أجلها إلى سفارة القسطنطينية، وقوامها «تأييد المحالفة الثلاثية حتى تثمر فائدتها في مواصلة الحرب ضد فرنسا، ثم العمل على تعزيز الميول التجارية، ثم دعم الودية الموجودة الآن في الإمبراطورية العثمانية نحو إنجلترا، وذلك بالحصول على مزايا النفوذ الإنجليزي في القسطنطينية بصورة تحرم فرنسا عند عقد الصلح من استعادة نفوذها السياسي في تركيا بذلك التفوق الذي أفادت منه الأمة الفرنسية في تشييد صرح عظمتها من الأزمنة السابقة إلى الوقت الحاضر.»٣٤٨

وانتقد إلجين نشاط السير سدني نقدًا مرًّا، وعدَّه مسئولًا عن هذه الأخطاء جميعها، ذلك بأنه اتخذ لنفسه سلطات «الوزير المفوض»، فطلب الهدنة، ثم اقترح مبدأ الجلاء، ثم أظهر تأييده لاتفاق العريش، وصار من المتعذر عليه الآن أن يطلب من الأتراك أن ينكصوا على أعقابهم، وأن يلغوا هذا الاتفاق وينقضوا عهودهم. ومع ذلك فقد كان السير سدني سمث نفسه — على حد قول إلجين — أول من عمل على إثارة الشكوك والمخاوف في نفس السفير الإنجليزي من ناحية الفرنسيين الذين قد يندمون على قبولهم الاتفاق، ويعمدون إلى استئناف القتال، ويحضرون إلى مصر مرة ثانية. بل إن السير سدني كان متجنيًا على اللورد إلجين عندما ادعى أنه وافق على جلاء الفرنسيين من مصر بالصورة التي تضمنها اتفاق العريش، حتى إن إلجين ليجد لزامًا عليه الآن — على حد قوله في رسالته إلى جرنفيل في ٢٦ فبراير ١٨٠٠م — أن يصرح جهرًا وعلانية أنه لم يقترح شيئًا من شروط الاتفاق، بل ولا يعرف شيئًا من أمر هذه المقترحات ذاتها حتى وقت وصول اتفاق العريش إلى القسطنطينية.

وواضح أن إلجين عندما جهر بهذا القول إنما فعل ذلك مدفوعًا بعامل الحنق والغيظ فحسب، لأن إلجين كان يعلم في واقع الأمر منذ حضوره إلى القسطنطينية في نوفمبر ١٧٩٩م أن ثَم مفاوضات تدور بين العثمانيين والفرنسيين في مصر، وكان ما عرفه من أمرها كافيًا لأن يزعجه إزعاجًا شديدًا، حتى كتب في ذلك إلى جرنفيل خطابه المعروف في ١١ نوفمبر، فضلًا عن أن مبدأ الجلاء عن مصر كان مطروحًا على بساط البحث منذ وصول السير سدني سمث إلى القسطنطينية في ديسمبر من العام السابق، وقد تُبُودلت بشأنه المذكرات الكثيرة بين الروس والإنجليز والعثمانيين، حتى إن إلجين نفسه عند قدومه لم يرَ من الحكمة في أول الأمر أن يتدخل لتعطيل نقل جيش الحملة من مصر إذا تمت الموافقة بالسبل الودية على مبدأ الجلاء، فرفض «الخدعة الحربية»، ثم كتب في ١٦ نوفمبر إلى حاكم الهند العام ينقل إليه أخبار المفاوضة التي اضطلع بها السير سدني سمث لتخليص مصر من قبضة الفرنسيين لقاء شروط معقولة. ومما هو جدير بالذكر أن إلجين عندما بعث بهذه الرسالة إلى الهند كان يؤمن بضرورة إبطال كل ما يبذله الفرنسيون من محاولات تكفل لهم البقاء والاستقرار في مصر رعايةً لمصالح الإنجليز في الهند ذاتها.

وعلى ذلك فإن الإنجليز سوف يسخون، بفضل ما لديهم من نفوذ كبير، في منح كل التسهيلات اللازمة لإخراج الفرنسيين من مصر «لأن استخلاص مصر من قبضة فرنسا ما هو — على حد قول إلجين — إلَّا حلقة أخرى في سلسلة تلك الانتصارات العظيمة التي أحرزها الجند (الإنجليز) في الهند حديثًا.» ومع ذلك فقد مضى إلجين في معارضته لاتفاق العريش، حتى إنه كتب إلى اللورد كيث Keith أمير البحر الإنجليزي في ١٠ مارس سنة ١٨٠٠م يطلب إليه إرسال قوة بحرية إلى المياه المصرية أمام الإسكندرية، رجاء أن يستطيع كيث فرض شروط جديدة للصلح على الفرنسيين.٣٤٩

على أن كيث كان قد بلغه قبل وصول رسالة إلجين إليه أوامر صريحة من حكومته تقتضيه أن يرفض أي اتفاق أو معاهدة بشأن الجلاء عن مصر طالما كان هذا الاتفاق لا ينص على ضرورة أن يسلم الفرنسيون أنفسهم كأسرى حرب تسليمًا مطلقًا دون قيد أو شرط، والعلة في ذلك أن إلجين لم يكن وحده حامل لواء المعارضة ضد اتفاق العريش، بل شاطرته الحكومة الإنجليزية مسئولية نقض هذا الاتفاق، عندما تبدلت سياستها رويدًا رويدًا من العمل على إخراج الفرنسيين من مصر بأية صورة من الصور إلى الرغبة في استبقاء جيش الشرق في مصر ومحاصرته بها؛ ذلك أن انتصار نلسن العظيم في موقعة النيل (أو معركة أبو قير البحرية) سرعان ما بدد مخاوف الإنجليز على ممتلكاتهم في الهند من بقاء الفرنسيين واحتلالهم مصر، وما إن وصلت أخبار هذا الانتصار إلى لندن في ٢ أكتوبر ١٧٩٨م حتى فقد الاهتمام بشئون مصر والشرق عمومًا مكانته القديمة، وبات الإنجليز لا يرضون إلَّا بأمرٍ واحد فحسب؛ إمَّا جلاء الفرنسيين عن مصر من غير قيد ولا شرط وتسليمهم كأسرى حرب، وإمَّا بقاؤهم محصورين في دائرة فتوحهم الضيقة، فيُمنعوا من الاتصال بفرنسا حتى يفنوا في هذه البلاد عن آخرهم. وحصار الحملة في مصر سهل هين لا يكلف الإنجليز سوى ملاحظة منافذ البحرين الأبيض والأحمر، كما أنه أقل خطورة ومشقة من السماح بعودة جيش الشرق إلى فرنسا، واشتراكه في المعارك الدائرة في أوروبا.

واعتقد الإنجليز منذ انتصارهم في معركة النيل أن هذا الجيش قد أصبح تحت رحمتهم، وزاد يقينهم عندما سقطت في أيديهم رسائل جيش بونابرت التي بعث بها الجنود والضباط إلى أهليهم وذويهم، فصادرها أسطول نلسن الرابض في البحر الأبيض قبل أن تصل إلى أصحابها، وانتهى الإنجليز من قراءتها إلى أن جيش الشرق قد بات بسبب ما لقيه من صعوبات لا يستطيع دفع هجوم العدو عليه، وبلغت استهانة الإنجليز بجيش الشرق لذلك حدًّا جعل نلسن يعلق على هذه الكتب عند إرسالها إلى لندن بأسلوب ملؤه الهزء والسخرية،٣٥٠ ثم رسخ اعتقادهم بأن مصير جيش الشرق إلى الهزيمة لا محالة عندما جاءتهم الأخبار عن رحيل بونابرت إلى فرنسا، فاعتبروا هذا الرحيل «هروبًا»، وعدُّوه دليلًا جديدًا على أن نهاية جيش الشرق في مصر قد قربت. وما إن صادر الإنجليز بعد ذلك تقرير ٢٦ سبتمبر الذي بعث به كليبر إلى حكومة الإدارة حتى تأيَّد لديهم أن «الحملة» سوف تهلك عاجلًا، ويتلاشى ذكرها وسط كارثة مروعة. وعلى ذلك فقد اعتبر الإنجليز رغبة الفرنسيين في المفاوضة من أجل الجلاء والعودة إلى الوطن دليلًا على الهزيمة واعترافًا ظاهرًا بها.
وفي أثناء نشوة «الانتصار» هذه وصلت إلى لندن في يومَي ٨، ٩ ديسمبر ١٧٩٩م رسائل سبنسر سمث واللورد إلجين في موضوع جوازات المرور التي يطلبها الأتراك لتسهيل عودة جيش الشرق إلى فرنسا، فأصدرت الحكومة قرارها في ١٢ ديسمبر بعدم السماح للفرنسيين بإخلاء البلاد، فإذا كان إلجين قد وافق على خروجهم فمن الواجب أن تصدر الأوامر إلى اللورد كيث حتى يرغم الفرنسيين على العودة إلى مصر ثانية. وفي ١٥ ديسمبر صدرت الأوامر إلى اللورد كيث ألَّا يوافق بحال من الأحوال على عودة جيش الشرق إلى فرنسا، أو على تسليم هذا الجيش إلَّا إذا سلم أفراده كأسرى حرب للدول المتحالفة، فإذا ظهر أن السفير الإنجليزي في القسطنطينية قد وافق على إعطاء جوازات المرور لهذا الجيش قبل أن يعرف رغبات حكومته، فالواجب يقتضي اللورد كيث عندئذٍ أن يرفض الاعتراف بصحة هذه الجوازات، وأن يرغم السفن المزوَّدة بها على العودة ثانية إلى الإسكندرية.٣٥١ وقد بسط جرنفيل وجهة نظر الحكومة الإنجليزية في هذه المسألة، وفحواها أنه لا مناص من اشتراك الدول المتحالفة في قبول تسليم العدو، ولا يصح لأحد أعضاء المحالفة أن يتفق «منفرِدًا» مع العدو عند تسليمه، وهل يستطيع الأتراك على حد قوله «أن يجيزوا لأنفسهم الاتفاق منفردين على «تسليم» مع العدو على حدة، بينما يرجع إلينا وحدنا الفضل في إرغام هذا العدو على التسليم؟ فإمَّا أن يكون الأتراك حلفاء للإنجليز، وهم في هذه الحالة لا يستطيعون العمل من غير أن نشترك فيه معهم، وإمَّا أن يكونوا غير حلفاء لنا، وعندئذٍ لن يستطيعوا تقييد الإنجليز بأي عمل يأتونه هم من جانبهم فقط.» ولا مراءَ في أن هذه كانت حجة قانونية سليمة، ولكن العيب كل العيب فيها أنها جاءت متأخرة. وكان الواجب إعلانها عند بدء المفاوضة بين الأتراك والفرنسيين؛ أي من تسعة شهور سابقة على الأقل. وفضلًا عن ذلك فإن الجهر بهذا القول الآن معناه تجاهل كل ما وقع من حوادث في أثناء هذه الشهور الطويلة، لوجود السير سدني سمث في مياه الليفانت وهو لا يزال مزوَّدًا بالسلطات الدبلوماسية التي أعطاه إياها جرنفيل نفسه وخوَّلته حق المفاوضة، كما كان السير سدني يتمتع بقيادة بحرية «شبه مستقلة»، وله على الأقل وقتئذٍ بحكم الواقع فعلًا حق التدخل في عمليات العثمانيين العسكرية. أضف إلى ذلك كله أن السلطات في لندن ما كانت تجهل نوع «الحل» الذي يفضله السير سدني على سواه لإنهاء المشكلة القائمة، وقوامه تسليم الفرنسيين بمبدأ إخلاء مصر والجلاء عنها بكل سرعة ومن غير حاجة إلى إراقة الدماء إذا كان ذلك ممكنًا.٣٥٢

ولذلك فإن هذه القرارات التي اتخذتها الحكومة الإنجليزية، والأوامر والتعليمات التي أصدرتها في غضون الأسبوعين الأولين من شهر أغسطس؛ إنما تدل دلالة واضحة على أن موقف هذه الحكومة في مسألة بقاء جيش الشرق في مصر أو جلائه عنها كان مفضيًا ولا شك إلى تعطيل اتفاق العريش عند إبرامه، وذلك قبل عقد هذا الاتفاق بأربعين يومًا على الأقل.

وواقع الأمر أن معارضة الإنجليز ضد هذا الاتفاق ما لبثت أن زادت شدة على شدتها، وكان اللورد نلسن في زمرة أولئك الذين تسببوا في إخفاقه؛ ذلك أنه كان يكره بونابرت كراهية عظيمة حتى سماه ﺑ «الشريد»، واعتقد أن هلاكه قد بات وشيك الوقوع بعد تحطيم أسطوله في أبو قير ثم انسحابه من عكا،٣٥٣ ثم طفق يؤكد لسبنسر سمث واللورد إلجين بمجرد أن وصله خبر المفاوضات أن الفرنسيين في مأزق لا يُرجى خلاصهم منه، وأنه لا يمكن أن يصدق أنهم يبغون حقيقة إخلاء مصر، «وحتى إذا رغبوا في ذلك، فإنه لن يسمح لفرنسي واحد بالعودة إلى أوروبا ورحى الحرب في هذه القارة لا تزال دائرة، بل سيتركهم يفنون في مصر جميعًا حتى يصبحوا عظة وعبرة لغيرهم، ويقرأ العالم فيما نزل بهم درسًا من دروس العدل الإلهي.»٣٥٤ وكان نلسن قد رفض منذ ١٨ مارس ١٧٩٩م أن ينال الفرنسيون جوازات مرور حتى تحملهم سفنهم بسلام إلى بلادهم، وأصدر في ذلك أوامر قاطعة إلى السير سدني حتى لا يسمح لفرد منهم بمغادرة الأراضي المصرية.٣٥٥ وما إن عرف بعد ذلك أن المفاوضات قد قطعت شوطًا بعيدًا، وأن البحث يدور حول إعطاء جوازات المرور لجيش الشرق، حتى كتب إلى السير سدني في ١٥ يناير ١٨٠٠م٣٥٦ مُصِرًّا على عدم إعطاء أية جوازات للفرنسيين، وكان كل ما اهتم به أن يعجِّل الصدر الأعظم بزحفه على مصر حتى تبدأ تلك المعركة التي ما كان نلسن يشك في أنها سوف تنتهي بتحطيم الفرنسيين تحطيمًا تامًّا.٣٥٧
وهكذا تضافرت عوامل عدة على نقض اتفاق العريش، ووقع على كاهل اللورد كيث إبلاغ كليبر تعليمات حكومته، وكانت هذه التعليمات قد وصلته في أوائل يناير ١٨٠٠م، فأعد رسالة إلى كليبر في اليوم الثامن من يناير ذكر فيها هذه التعليمات، على أن يقوم السير سدني بإيصال هذه الرسالة إلى كليبر في مصر، وكتب كيث خطابًا آخر إلى السير سدني في ١٠ يناير، وقد تسلم سدني سمث هذه الرسائل وهو بقبرص في ٢٢ فبراير ١٨٠٠م؛ أي بعد انقضاء شهر تقريبًا على عقد اتفاق العريش.٣٥٨ أمَّا كيث فقد كتب إلى كليبر: «إنه بناء على ما وصله من أوامر قاطعة من حكومته بصدد عدم قبول أي اتفاق مع الجيش الفرنسي بقيادة الجنرال كليبر في مصر وسوريا إلَّا إذا ألقى هذا الجيش سلاحه وسلَّم جنده كأسرى حرب، ثم ترك للدول المتحالفة كل السفن والذخائر الموجودة في ميناءي الإسكندرية وفي المدينة ذاتها، وعدم السماح لأحد من الجند عند حدوث الاتفاق بالعودة إلى فرنسا إلَّا على قاعدة تبادل الأسرى؛ لذلك يرى اللورد كيث من واجبه أن يذكر للجنرال كليبر أن جميع السفن التي تبحر من هذه البلاد محملة بالجنود الفرنسيين ومزوَّدة بجوازات للمرور تحمل توقيع أناس غير أولئك الذين من حقهم وحدهم إعطاؤها سوف يرغمها ضباط البحر تحت قيادته على العودة إلى الإسكندرية، كما أن السفن التي يُعثر عليها في طريق عودتها إلى أوروبا مزودة بجوازات للمرور بناء على اتفاق خاص بين الفرنسيين وبين إحدى الدول المتحالفة سوف تُضبط كغنائم حرب ويُعتبر الجنود الذين تحملهم هذه السفن أسرى حرب.»٣٥٩ وعندئذٍ كان قد بات واضحًا أن كل ما ظل يبذله سدني سمث على وجه الخصوص طوال الشهور الماضية من جهد وحيلة لإخراج الفرنسيين من مصر دون حاجة إلى الاشتباك معهم في معارك جديدة إمَّا لإرغامهم على التسليم كأسرى حرب وإمَّا لإفنائهم وإبادتهم؛ قد ذهب جميعه سدًى وباءت سياسته بالفشل.٣٦٠ وفضلًا عن ذلك فقد ظهر الآن كأنما قد تعطل أمر الفصل في مسألة الحملة الفرنسية في مصر فترة أخرى من الزمن، بيد أن سدني سمث الذي احتضن اتفاق العريش وكان حريصًا على نجاحه ما لبث أن جدد سعيه بكل همة ونشاط كي يحمل حكومته على قبول هذا الاتفاق وتنفيذه.

استئناف القتال ومعركة هليوبوليس

ويرجع اعتقاد سدني سمث بإمكان إخراج الفرنسيين من مصر دون حاجة إلى الاشتباك معهم في معارك جديدة إلى الوقت الذي وصل فيه إلى القسطنطينية في أواخر عام ١٧٩٨م؛ أي بعد أن أحرز نلسن انتصاره الحاسم في موقعة أبو قير البحرية، وكشفت الرسائل التي صادرها الإنجليز في البحر عن مبلغ ما وصل إليه حال جيش الشرق في مصر من ضعف وسوء أفقده في نظر الإنجليز كل قدرة على المقاومة ما لم تصله نجدات جديدة من فرنسا، اطمأن السير سدني سمث إلى تعذر إرسالها إليه بفضل يقظة الأسطول الإنجليزي في البحر الأبيض. وفضلًا عن ذلك فقد كان الأتراك أنفسهم — على نحو ما تبين للسير سدني في أثناء مفاوضاته معهم من أجل عقد المحالفة المعروفة في شهر يناير من العام التالي — حريصين كل الحرص على ضرورة إخراج الفرنسيين من مصر بكل سرعة، يدفعهم إلى ذلك على وجه الخصوص أن الإنجليز لم يكن في نيتهم وقتئذٍ إرسال أية قوة برية للاشتراك في العمليات العسكرية، مكتفين بدلًا من ذلك بوضع جزء من أسطولهم في مياه المشرق فحسب. وعلى ذلك فقد سهل الاتفاق في المؤتمرات التي حضرها وزراء الباب العالي والمندوب الروسي تمارا إلى جانب السير سدني على تقرير مبدأ ترحيل الجيش الفرنسي إلى بلاده عند سنوح الفرصة الملائمة. ومنذ اتخاذ هذا القرار في أوائل مارس ١٧٩٩م تقدم البحث في مسألة عودة جيش الشرق إلى فرنسا بخطوات واسعة، حتى إن السير سدني ما لبث أن أعد فعلًا صورة جوازات المرور التي تُعطى لأفراد هذا الجيش عند ترحيلهم.٣٦١
وقد سبق كيف أن نلسن رفض في ١٨ مارس أن يحصل الفرنسيون على جوازات المرور، وأصدر في ذلك أوامر قاطعة إلى السير سدني،٣٦٢ بيد أن سدني سمث ما وقف منذ شهر أكتوبر على حقيقة المفاوضات الدائرة بين الأتراك والفرنسيين حتى اعتزم التدخل بنفسه في هذه المفاوضة، فأثار بعمله هذا جدلًا كبيرًا حول حقه في التدخل وإشرافه على سير المفاوضة.٣٦٣ وكان اللورد إلجين أول المعترضين على تسمية السير سدني نفسه «وزيرًا مفوَّضًا لدى الباب العالي» بمقتضى ما أُعطي إليه وإلى أخيه سبنسر سمث من سلطات خوَّلتهما حق المفاوضة، والاتفاق على نصوص معاهدة التحالف التي أُبرِمت مع العثمانيين في ٥ يناير ١٧٩٩م. حقيقة ألغى مجيء السفير الجديد إلى القسطنطينية هذه الحقوق منذ نوفمبر من العام نفسه، ولكن وجود السير سدني في مكان المفاوضة — سواء كان ذلك في العريش أم في غيرها — وبُعد اللورد إلجين عن مكانها، ثم ما فعله اللورد إلجين نفسه من حيث تخويله السير سدني حق الاتفاق في مسألة جوازات المرور في ١٧ نوفمبر، وارتياح الصدر الأعظم إلى سير المفاوضات بإرشاد السير سدني وتوجيهه لثقته العظيمة به، ثم عدم صدور أية أوامر من جانب حكومته تمنعه من الاشتراك في المفاوضة؛ كل ذلك كان من أثره أن يظل السير سدني ماضيًا في شأنه. وفضلًا عن ذلك فقد اعتبر الفرنسيون أن من حقه المفاوضة بفضل ما لديه من تعليمات تخوِّله ذلك، ولأنه بوصفه قائدًا للقوات البرية والبحرية الإنجليزية فحسب كان لديه من السلطات اللازمة ما يخوِّله حق المفاوضة.٣٦٤
وعلى كل حال فقد مضى السير سدني في طريقه لا يأبه لاعتراضات المعترضين حتى ظفر ببغيته وتم اتفاق العريش في ٢٤ يناير ١٨٠٠م على نحو ما سبق ذكره، وصح عزم السير سدني على مقاومة كل نفوذ يرمي إلى هدم الاتفاق ونقضه عندما تبين له اشتداد حملة المعارضة ضده،٣٦٥ فكتب إلى نلسن من المعسكر العثماني بعد ستة أيام فحسب من عقد اتفاق العريش يرد على رسائل أمير البحر الإنجليزي التي منعه فيها من إعطاء جوازات المرور للفرنسيين، ويبسط الأسباب التي دعته إلى قبول الاتفاق فقال: «إنه لما كانت عملياتنا الكبرى في هذه الجهات إنما تستهدف استعادة مصر وإرجاعها إلى حلفائنا وتأمين الممتلكات البريطانية في الهند، وكل هذه فوائد تتطلب للوصول إليها تضحيات كبيرة؛ فإني لا أشك بتاتًا في أنكم سوف توافقونني على أن هذه المفاوضات قد حققت أقصى ما قد يرجو الإنسان بلوغه في حرب — مع عدو — من المتعذر أن يكون غرضها تحطيم عدو متصف بالشجاعة والبسالة، أو إلحاق العار به وإهانته من غير حاجة إلى ذلك، فضلًا عن أنه مما يجب أن يذكره المرء دائمًا أن الجيش المدرَّب الذي عركته التجارب مهما اشتد تذمره من الحال التي هو عليها، فإن اليأس سوف يجعله يحتفظ طويلًا ببلاد منعزلة تشق القنوات العديدة أرضها وتكثر بها السدود حتى إنه ليتعذر الدخول إليها …»٣٦٦
وما إن وصلته في قبرص رسالة اللورد كيث إلى كليبر حتى بادر بإرسالها مع أحد ضباطه إلى القائد الفرنسي، وحمَّل السير سدني هذا الرسول خطابًا آخر منه إلى كليبر في اليوم نفسه (٢١ فبراير)، كان بمثابة اعتذار عن سياسة حكومته التي أفضت إلى نقض اتفاق العريش، واستند سدني سمث عند تلمس الأعذار لفعلة حكومته إلى أن الأوامر التي أُرسِلت إلى اللورد كيث بين ١٥، ١٧ ديسمبر من العام السابق كانت قديمة، ولا مراءَ في أن الحكومة إنما بعثت بها إليه وهي لا تزال تعتقد أن المفاوضة كانت تجري بين الأتراك والفرنسيين وحدهما ودون أن يشترك فيها حلفاء العثمانيين، كما أرادت الحكومة من هذه الأوامر أن تمنع تنفيذ أية اتفاقات لا تقرها معاهدة التحالف القائمة وتتعارض معها. ثم مضى السير سدني يقول أما وقد ذاع أمر الاتفاق وعرف الجميع به، فهو لا يشك في أن قرار الحظر المفروض على السفن المعدة لنقل الجيش سوف يُرفع قبل وصولها، وأنه — أي السير سدني — سوف يبذل كل ما وسعه من جهد وحيلة لتأييد الاتفاق، ويعتذر عن التأخير الذي حدث في إبلاغ هذه الأوامر إلى كليبر بطول المدة التي تعطلت الخطابات في أثنائها في الطريق، ويطلب إلى القائد الفرنسي بقاء الأمور على ما كانت عليه عند بدء المفاوضة، إذا كان الفرنسيون لم يشرعوا بعد في إخلاء بعض مراكزهم في البلاد؛ وذلك لحين وصول أوامر أخرى من الحكومة الإنجليزية مناسبة للظروف الحالية. وذكر السير سدني في ختام كلامه أنه يعتزم الحضور بنفسه سريعًا أمام الإسكندرية حتى يتسلم جواب كليبر على رسالته.٣٦٧
وغادر السير سدني قبرص، وعند وصوله إلى الإسكندرية كتب إلى بوسيلج في ٨ مارس ١٨٠٠م — وكان بوسيلج لا يزال بالإسكندرية — يصف الصعوبات التي يضعها رؤساؤه في طريق أي اتفاق من طراز اتفاق العريش لمنع تنفيذه، ويحاول إقامة الحجة على صدق نياته بعدم وصول أية تعليمات مخالفة من حكومته في أثناء المفاوضة؛ ذلك بأن أوامر حكومته الأخيرة إنما كانت مؤرخة في ١٠ يناير، ولم تبلغه في قبرص إلَّا يوم ٢٢ فبراير فقط؛ ولذلك فإنه يرى لزامًا عليه أن يطلع الفرنسيين على حقيقة الموقف، ويعد في الوقت نفسه بأن يبذل قصارى جهده في إقناع حكومته بأن ما تم الاتفاق عليه كان عملًا حكيمًا، ولدى السير سدني من الأسباب ما يجعل أمله في النجاح قويًّا.٣٦٨

وكان غرض السير سدني من محاولة إشاعة روح الطمأنينة في نفوس الفرنسيين، على الرغم مما كانت تحمله أوامر حكومته الأخيرة من معنى التحدي والاستفزاز، أن يمنع استئناف القتال بين الفرنسيين والأتراك؛ وذلك لإدراكه أن نجاح جهوده من أجل الحصول على موافقة حكومته على اتفاق العريش وتنفيذ سياسته إنما يتوقف على منع حدوث أي اشتباك بين جيش الصدر الأعظم وكليبر.

ولذلك فقد كتب٣٦٩ إلى اللورد إلجين منذ ٢٠ فبراير يرجوه «أن يتعاون معه في منع استئناف القتال»، وطلب إلى القبطان باشا أن يرسل على جناح السرعة النقالات اللازمة لحمل جيش الشرق من الإسكندرية. وفضلًا عن ذلك فقد أعلن السير سدني حتى يؤكد للفرنسيين حسن نيته أنه لن يتردد في تنفيذ اتفاق العريش من الناحية التي تخصه «فلا يمنع أي مركب فرنسي يغادر الشواطئ المصرية، ولو أنه لا يستطيع أن يعطي ضمانًا عن مسلك سائر السفن الإنجليزية الخاضعة لقيادته حيالها.» وبالفعل استطاع كل من دوجا وديزيه وبوسيلج وسائر صحبهم مغادرة الإسكندرية،٣٧٠ بل إن السير سدني ما لبث أن حاول الاجتماع بالجنرال كليبر للاتفاق معه على هدنة، ولكنه لم يستطع مغادرة بارجته تيجر، كما أن كليبر لم يستطع مغادرة القاهرة.
وطفق السير سدني من ناحية أخرى يعمل لاستمالة معارضي الاتفاق من مواطنيه الإنجليز، فظل طوال شهرَي فبراير ومارس ١٨٠٠م يبعث بالكتب إلى إلجين ونلسن وإلى وزارة البحرية الإنجليزية، حتى يقروا «حلًّا» يكفل خروج الفرنسيين من مصر دون حاجة إلى إراقة دماء جديدة على نحو ما تضمنه اتفاق العريش.٣٧١ ولعل أهم هذه الكتب كان كتابه إلى نلسن في ٨ مارس، ثم كتابه إلى اللورد كيث في ١٣ مارس، فقد حاول في كتابه الأول أن يلقي مسئولية الاتفاق على عاتق اللورد إلجين عندما أخذ يقول: «إنه لما كان اللورد قد أكد عليَّ بضرورة إنهاء هذه المسألة وقبل كل شيء منع الفرنسيين من كسب الوقت، ثم طلب إليَّ في الوقت نفسه أن أترك العثمانيين يدبرون شئونهم بالطرق التي تحلو لهم، فإنه لم يعد في استطاعتي إذن فعل شيء سوى قبول ذلك الوعد الذي أعطاه الصدر الأعظم للجنرال كليبر في ردِّه الأول عليه في أكتوبر ١٧٩٩م، وفحواه أنه في إمكان الجيش الفرنسي أن ينسحب بأسلحته على سفنه وغير ذلك من السفن التي يقدمها له الباب العالي عند الحاجة إليها.»٣٧٢
وحاول السير سدني في رسالته الثانية أن يستميل اللورد كيث إلى جانب أولئك الذين ساهموا جديًّا في إتمام الاتفاق على أساس الجلاء عن مصر، فامتدح كليبر لنبوغه العسكري ولفضائله وحسن شمائله، وأثنى على بوسيلج لتمسكه بالمبادئ والآراء الحرة، ثم قال: «ولم يدُر بخلدي بتاتًا أننا قد نعمد إلى وضع عقبات في طريق اتفاق لا شك في أنه يفيدنا كثيرًا، ومن الواضح أنه ما كان يمكن الوصول إليه على أي أساس آخر مع جيش مدرب حنكته التجارب ولم تنزل الهزيمة بساحته، ومن المتعذر أن يقبل هذا الجيش التسليم كأسرى حرب.»٣٧٣
وأثمرت جهود السير سدني سمث في لندن عندما وصلت أخبار اتفاق العريش إلى العاصمة في غضون شهر مارس ١٨٠٠م، وانقسم الرأي بصدد هذا الاتفاق فوافق فريق عليه، على الرغم من شدة معارضة أولئك الذين أغضبهم «جنون» السير سدني، حتى إنه رضي بعودة جيش الشرق إلى أوروبا، ولم يترك «عصبة من اللصوص وقطَّاع الطرق» — على حدِّ قول اللورد نلسن — يهلكون في مصر. واستند مؤيدو الاتفاق إلى ما جاء في رسالة بعث بها اللورد كيث نفسه إلى وزارة البحرية الإنجليزية في أول مارس، من ذلك أن السير سدني كان الضابط الذي وُجد في ميدان العمل، ولا نزاع في أنه كان يستطيع إعطاء العدو ما يراه من شروط ملائمة تصون المصلحة، فضلًا عن أن اللورد إلجين لم يقتصر على التفكير في ضرورة إخراج الفرنسيين من مصر، بل أوصى كذلك توصية شديدة بلزوم إنجاز الاتفاق من أجل إخراجهم، ووافق على ذلك أيضًا «السفير الروسي» رسميًّا.٣٧٤
ولمَّا كان من المتعذر على الحكومة أن تنقض عملًا قام به أحد رجال الدولة؛ لما في ذلك من الإساءة إلى سمعتها، وإضعاف الثقة بها، والانتقاص من هيبتها في نظر حلفائها وأعدائها على السواء؛ فقد اقتنع جرنفيل وزير الخارجية بضرورة الامتناع عن أي عمل قد يتعارض مع التعهدات «التي التزمها السير سدني سمث خطأ باسم حكومة صاحبة الجلالة»، فكتب في ذلك إلى اللورد إلجين في ٢٨ مارس، وطلب إليه أن يعمل بالاتفاق مع الباب العالي حتى يتم إعداد جوازات المرور اللازمة للجيش الفرنسي، على أن يظل الإنجليز حلفاء للباب العالي فحسب، ولا يكونوا طرفًا في المعاهدة، وعلى أن يحترم الإنجليز هذه الجوازات كذلك. بل طلب إليه علاوة على ما تقدم أن يلفت نظر العثمانيين والروس إلى ضرورة تنفيذ الاتفاق الذي تم الارتباط به مع العدو بكل أمانة إذا شاهد من هؤلاء نزوعًا إلى القيام بعمل عدائي ضد الفرنسيين، قبل أو بعد خروجهم على ظهر السفن التي تنقلهم إلى بلادهم.٣٧٥ وفي ٢٩ مارس صدرت أوامر وزارة البحرية الإنجليزية بهذا المعنى إلى اللورد كيث، ولو أن هذه الوزارة كانت لا تزال مصرة على أن السير سدني سمث لم يكن مزوَّدًا بسلطات تخوله الحق في عقد اتفاق من هذا القبيل، بل إن الحكومة كما مضت هذه التعليمات تقول: لم تقبل اتفاق العريش إلَّا لاعتبار واحد، هو أن «قائد جيش العدو قد عامل السير سدني على ما يبدو كشخص اعتقد القائد الفرنسي عن حسن نية أنه كان مزوَّدًا بالسلطات التي تخوِّله الحق في إبرام هذا الاتفاق.»٣٧٦

وسواء أكان السير سدني مزوَّدًا بهذه السلطات أم كانت وزارة البحرية على حق في دعواها، فقد نجح سدني سمث بعد لَأْيٍ وعناء في الوصول إلى غرضه، ولكن هذا النجاح لم يسفر عن نتيجة لأن موافقة الحكومة الإنجليزية على اتفاق العريش جاءت متأخرة؛ إذ كان كليبر قد اشتبك مع العثمانيين في معركة كبيرة في ٢٠ مارس؛ أي قبل صدور أوامر الحكومة الإنجليزية بأسبوع تقريبًا، ولم تفد شيئًا محاولات السير سدني سمث في منع استئناف القتال بين جيش الشرق وجحافل الصدر الأعظم.

فقد شرع كليبر ينفذ اتفاق العريش عقب عقده مباشرة، فنقل عتاد الجيش وذخائره إلى الإسكندرية حيث كان يجري العمل على قدم وساق استعدادًا للرحيل، وشرع الجيش في إخلاء الصعيد، كما نزح عن مراكز عدة في الوجه البحري ما لبث العثمانيون أن احتلوها في القطية والصالحية وبلبيس ودمياط وعزبة البرج، وأحضر يوسف ضيا الصدر الأعظم جيشه إلى بلبيس، بينما رابطت طلائعه في الخانكة على بعد أربع ساعات من القاهرة. وكان الفرنسيون على وشك إخلاء القلعة وسائر حصون القاهرة عندما بلغت كليبر رسالة السير سدني من قبرص تنبئه بصدور الأوامر إلى الأسطول الإنجليزي في البحر الأبيض أن يحول دون تنفيذ اتفاق العريش. وأمام هذا التحول المفاجئ لم يجد كليبر مناصًا من وقف عملية الإخلاء واتخاذ طائفة من التدابير العاجلة لدرء الخطر الذي يتهدده من انتشار العثمانيين في قسم كبير من البلاد، فأمر جند الرحمانية ورشيد بالحضور إلى القاهرة، وشدد على جند الصعيد لكي يسرعوا بالمجيء إلى العاصمة، وعسكرت القوات الفرنسية في منبسط القبة، وأرسل كليبر صورة من كتاب اللورد كيث إلى الصدر الأعظم، وأعلنه بأنه قد قرر تأجيل إخلاء القاهرة، ويعتبر زحف الجيش العثماني الرابض في بلبيس عملًا عدوانيًّا.٣٧٧
على أن الصدر الذي كان يتشوق إلى دخول القاهرة رفض أن يتريث في الأمر، فزحف بجيشه على الخانكة ثم ما لبثت طلائعه أن وصلت إلى المطرية على مسافة ساعتين من القاهرة، بينما اتخذت قوَّاته الأمامية مواقعها في سهل القبة بين المراكز الفرنسية ذاتها. وعندئذٍ وجد كليبر لزامًا عليه في ١٢ مارس أن يطلع جنوده على حقيقة الموقف، وتوقع تعطيل تنفيذ اتفاق العريش «بعض الوقت»، ولو أنه عزا ذلك إلى تغيير حدث في قيادة الأسطول الإنجليزي.٣٧٨ ثم حاول في الأيام التالية بين ١٥، ١٨ مارس أن يصل إلى تفاهم مع العثمانيين على أساس أنه يتعذر التسليم بإخلاء القاهرة قبل أن تصل موافقة رؤساء الأسطولين الإنجليزي والروسي في البحر الأبيض على معاهدة العريش، وأنه لا مناص لذلك من بقاء جميع القلاع في العاصمة وفي الوجه البحري عمومًا في حوزة الفرنسيين حتى تأتي هذه الموافقة، ولكن الأتراك الذين توهموا على حدِّ قول كليبر أن «هذه العروض المتواضعة» دليل على ضعف الفرنسيين، وأن هؤلاء يعجزون عن صد جيوشهم؛ سرعان ما رفضوها، وتمسك الصدر بضرورة إخلاء القاهرة حسبما نص عليه الاتفاق، علاوة على إخلاء جميع القلاع وإخلاء الوجه البحري كذلك.٣٧٩
واستند الأتراك في ذلك على أن رفض الحكومة الإنجليزية لا أهميةَ له، وغير ملزم لهم ما دام الباب العالي نفسه قد وافق على المعاهدة،٣٨٠ ثم زاد الموقف حرجًا عندما استمر الأتراك في استعداداتهم فأحضروا مدافعهم من العريش، كما جاءتهم الإمدادات من المنصورة والمنوفية والغربية والقليوبية والشرقية، بل إنهم لم يقنعوا بذلك فطفقوا يوزعون المنشورات في طول البلاد وعرضها ضد الفرنسيين «الكفار أعداء الدين الإسلامي، الذين لا يرعون عهدًا ولا ذمة»، ويؤسسون مراكز لتحريك الثورة عليهم في القاهرة والمحلة الكبرى ودمياط. وأمام هذا الخطر الداهم إذن اضطر كليبر إلى اتخاذ العدة لمناجزتهم قبل أن يستفحل أمرهم ويستطير شرهم، فنشر على الجند في ١٨ مارس خطاب اللورد كيث، وعلق عليه بقوله: «ولا يسع المرء أن يرد على هذه الإهانات إلَّا بإحراز النصر فاستعدُّوا للمعركة.»٣٨١
ومنذ أن صح عزم كليبر على قتال الأتراك شرع يتدبر خطة المعركة المقبلة وكان عليه أن يختار أحد أمرين: إمَّا البقاء في القاهرة وانتظار الصدر الأعظم بها، وإمَّا التقدم للالتحام مع العثمانيين في معركة حاسمة، وفضَّل كليبر الخروج لمقابلة العدو، فما وافت الساعة الثانية من صبيحة يوم ٢٠ مارس ١٨٠٠م حتى بدأ الجند يخرجون من ثكناتهم بكل سكون في صورة مربعات، يتولى الجنرال فريان قيادة مربعَي الميمنة، والجنرال رينييه مربعَي الميسرة، بينما تبعهم كليبر وأركان حربه، وبقي الجنرال فردييه بالقاهرة للدفاع عنها. وزحف الفرنسيون صوب المطرية حيث أقام ناصف باشا ابن الصدر الأعظم على رأس قوة كبيرة من الإنكشارية، فبدأت من ثم معركة هليوبوليس وامتد ميدانها من المطرية حتى جهات الصالحية، وأوقع الفرنسيون بالأتراك هزيمة منكرة.٣٨٢ ولما كان نصوح باشا أحد القوَّاد العثمانيين قد استطاع في أثناء المعركة الإفلات من الفرنسيين والدخول بفرسانه إلى القاهرة معلنًا هزيمة الفرنسيين، فقد أرسل كليبر في أثره بعض القوات بقيادة فريان ودونزيلو Donzelot، بينما أقبل هو على تشتيت البقية الباقية من فلول العثمانيين، فزحف على الصالحية رجاء أن يعثر بها على الصدر الأعظم، ولكن يوسف ضيا كان قد أخلى معسكره على عجل عندما شاهد انهزام جيشه، فلم يجد الفرنسيون عند وصولهم سوى خيام العثمانيين وعتادهم مبعثرًا في كل مكان، وعندئذٍ قصد كليبر القاهرة، وكانت القاهرة في أثناء ذلك كله مسرحًا لثورة عاتية.٣٨٣
ذلك أن القاهريين الذين ظلوا يتربصون بجيش الشرق الدوائر سرعان ما أيقظهم من نومهم دويُّ المدافع صبيحة يوم المعركة، فهبُّوا من رقادهم مذعورين، «ولم يدركوا حقيقة الحال» فكثر منهم «اللغط والقيل والقال»، حتى إذا تبين لهم أن الحرب دائرة بين الفرنسيين وبين العثمانيين و«الأمراء المصريين» الذين صحبوا جيش الصدر في زحفه إلى الخانكة والمطرية، «هاجوا ورمحوا إلى أطراف البلد، وقتلوا أشخاصًا من الفرنساوية صادفوهم خارجين من البلد ليذهبوا إلى أصحابهم، وذهبت شرذمة من عامة أهل مصر فانتهبت الخشب وبعض ما وجدوه من نحاس وغيره حيث كان عرضى الفرنساوية، وخرج السيد عمر أفندي نقيب الأشراف والسيد أحمد المحروقي وانضم إليهما أتراك خان الخليلي والمغاربة الذين بمصر … وتبعهم كثيرٌ من عامة أهل البلد وتجمعوا على التلول خارج باب النصر، وبأيدي الكثير منهم النبابيت والعصي والقليل معه السلاح، وكذلك تحزب كثير من طوائف العامة والأوباش والحشرات، وجعلوا يطوفون بالأزقَّة وأطارف البلد ولهم صياح وضجيج وتجاوب بكلمات يقفونها من اختراعاتهم وخرافاتهم، وقام الكثير منهم إلى خارج البلدة على تلك الصورة … ثم لم يزل الحال كذلك إلى أن دخل وقت العصر فوصل جمع عظيم من العامة ممن كان خارج البلدة ولهم صياح وجلبة … وخلفهم إبراهيم بك، ثم أخرى وخلفهم سليم أغا، ثم أخرى كذلك وخلفهم عثمان كتخدا الدولة، ثم نصوح باشا ومعه عدة وافرة من عساكرهم، وصحبتهم السيد عمر النقيب والسيد أحمد المحروقي وحسن بك الجداوي وعثمان بك المرادي وعثمان بك الأشقر وعثمان بك الشرقاوي وعثمان أغا الخازندار وإبراهيم كتخدا مراد بك المعروف بالسناري، وصحبتهم مماليكهم وأتباعهم، فدخلوا من باب النصر وباب الفتوح ومروا على الجمالية حتى وصلوا إلى وكالة ذي الفقار، فقال نصوح باشا عند ذلك للعامة اقتلوا النصارى وجاهدوا فيهم»، فكانت مقتلة كبيرة ذهب ضحيتها عديدون من «نصارى القبط والشوام وغيرهم». واشتد الهرج والمرج وكثر النهب والسلب، وجمع «النصارى» كل من استطاعوا «من العسكر الفرنساوي والأروام، وقد كانوا قبل ذلك محترسين وعندهم الأسلحة والبارود والمقاتلون لظنهم وقوع هذا الأمر»،٣٨٤ وصاروا يطلقون النار على الثوَّار من سطوح المنازل، والتحموا معهم في الأزقَّة، وتحصَّن الفرنسيون والنصارى الذين استطاعوا ذلك في قصر الألفي بك بالأزبكية، وكان مقر القيادة العامة الفرنسية، وتولى الدفاع عن القصر الجنرال ديرانتو Duranteau الذي تمكَّن من الصمود في وجه ناصف باشا وجموعه المحتشدة في ميدان الأزبكية، حتى حضر الجنرال لاجرنج Lagrange لنجدته، فأذاع لاجرانج نبأ انتصار الفرنسيين في موقعة هليوبوليس، ثم تبعه فريان ودونزيلو فقوي مركز الفرنسيين في الأيام التالية.٣٨٥
وعندما وصل كليبر إلى القاهرة في ٢٧ مارس كانت الثورة قد بلغت ذروتها واندلع لهيبها في الوجه البحري، وعلى الخصوص في دمياط وسمنود، وساعد على ذلك انسحاب الفرنسيين من مراكزهم الهامة في هذه الجهات، وإخلاؤها تنفيذًا لاتفاق العريش قبل نقضه. وبادر كليبر بإرسال قائده بليار Belliard ورامبون إلى الوجه البحري، كما أرسل الجنرال لانوس إلى سمنود لإخماد الثورة، وقرر كليبر الانتظار ريثما يعود بليار ورامبون قبل أن يشرع جديًّا في إخضاع القاهرة، وكان سبب هذا التمهل ضعف قوات كليبر العسكرية بعد المعارك الأخيرة، وعدم وجود الذخائر والمعدات الكافية لديه، ثم رغبته في كسب الوقت حتى يتسنى له إنجاز استعداداته وتحصيناته. وعمد كليبر إلى الحيلة والخديعة حتى يوقع الانقسام والتفرقة بين العثمانيين وأهل القاهرة، وكاد ينجح في فعلته ويرضي الأتراك بالانسحاب من القاهرة واللحاق بجيش الصدر الأعظم، لولا أن القاهريين وعلماءهم ما لبثوا بمجرد إذاعة الخبر أن هُرعوا إلى ناصف باشا وكبار العثمانيين يلحون عليهم في البقاء، بينما ارتمت النساء وكل عجوز ضعيف «على أقدام الجنود العثمانيين يبللونها بالدموع، ويرجون هؤلاء الجنود في عويل محزن ألا يتركوهم فريسة لغضب المسيحيين الشديد عليهم وانتقامهم منهم»،٣٨٦ فرفضوا الانسحاب.
على أن كليبر سرعان ما أدرك نجاحًا كبيرًا كان له أثر ظاهر في معاونة القائد الفرنسي على إخماد ثورة القاهرة، عندما استطاع أن يعقد مع مراد بك حامل لواء المقاومة العنيفة في الصعيد معاهدة صداقة في ٥ أبريل ١٨٠٠م،٣٨٧ وكان لقبول مراد الدخول في معاهدة مع الفرنسيين أسباب عدة؛ إذ تمكَّن الجنرال ديزيه من مطاردته في أرجاء الصعيد مدة عام بطوله وكبده خسائر جسيمة.٣٨٨ وفضلًا عن ذلك فقد اشتد نفور مراد من العثمانيين بسبب صلفهم وعجرفتهم، ثم أقضَّ مضجعه ما لحظه من استعداداتهم الكبيرة في سوريا للزحف على مصر، وصار يخشى أن يسترجع العثمانيون سلطانهم القديم وسؤددهم في البلاد بعد إقصاء الفرنسيين، وأن يعمد الأتراك المنتصرون إلى طرد المماليك أنفسهم بعد ذلك، وقويت شكوكه عندما نشر الفرنسيون في القاهرة شروط اتفاق العريش، وقد نصت هذه على أن يتسلم العثمانيون المراكز التي يجلو عنها الفرنسيون رويدًا رويدًا حسب شروط الاتفاق،٣٨٩ ثم علم مراد أن الأتراك يريدون إقصاء المماليك عن الحكم والقضاء عليهم،٣٩٠ يقابل ذلك أن بونابرت ثم كليبر من بعده قد أظهرا نحو «الست فاطمة» زوج مراد الشيء الكثير من ضروب العناية وأسباب التوقير والاحترام، وكانت هذه السيدة عندما تزوجها مراد أرملة مات عنها زوجها صالح بك الكبير في عام ١١٨٢ هجرية ١٧٦٨ ميلادية،٣٩١ واشتُهرت بفعل الخير، وقد فضَّلت الست فاطمة البقاء في القاهرة عند مجيء الفرنسيين، وحرص بونابرت وكليبر على العناية بأمرها، وقد ظل بيتها في عهدها مفتوحًا كما كان طوال ثلاثين عامًا تمامًا — على نحو ما ذكر كليبر نفسه — يلجأ إليه البؤساء وأصحاب الحاجات.٣٩٢
ورغب مراد، منذ أن انتشر خبر اتفاق العريش، أن يتقرب إلى الفرنسيين؛ لعله يظفر منهم بمعاهدة تحالف وصداقة تنهي القتال الدائر بينه وبينهم، فيعيش معهم في سلام وهدوء خلال المدة القصيرة الباقية لهم في مصر؛ ولذلك فإنه ما لبث أن طلب من الجنرال كليبر أن يأذن له بزيارة الصدر الأعظم عندما دعاه الصدر لزيارته في معسكره، وذلك قبل نقض اتفاق العريش وتجدد القتال بين الصدر الأعظم وكليبر، فكتب إليه كليبر «أنه ما كان يرى في خيام الصدر الأعظم وخيام مراد سوى أصدقاء ومحبين، وأن لمراد مطلق الحرية في الذهاب إلى يوسف ضياء».٣٩٣ وقد استطاع القائد موران Morand حامل هذه الرسالة إلى مراد أن يتحدث معه حديثًا طويلًا، أعلن في أثنائه مراد أنه لن يشهر سلاحًا قط في وجه الفرنسيين. وعندما تبين لكليبر أنه لا معدى عن الالتحام مع جيش الصدر الأعظم بادر بإرسال فورييه Fouriér سكرتير المجمع العلمي المصري إلى الست فاطمة يرجوها التوسط بينهم وبين مراد، وكان ذلك قبل معركة هليوبوليس بيومين فحسب، فأبلغت السيدة حديث فورييه إلى زوجها، وكان مدار الحديث أن ثقة الفرنسيين في الانتصار على الأتراك في النضال المنتظر عظيمة، وأنهم يرغبون في استمالة مراد إليهم، ولكن مراد رفض أن يعد بشيء أو يتورط في عمل من الأعمال قبل أن يقطع الفرنسيون كل علاقة بينهم وبين الصدر، و«يتعهدوا بشن الحرب عليه»، فينحاز عندئذٍ مراد وجماعته إليهم. ولما كان كل ما يرجوه كليبر وقتئذٍ أن يقف مراد موقف الحياد في أثناء المعركة القادمة، ولم تكن المفاوضات بين الرجلين قد انتقلت بعد إلى مرحلة البحث في أية شروط معينة من قبل القائد الفرنسي أو البك المصري؛ فقد عدَّ كليبر جواب مراد صراحة محمودة، واكتفى بأن طلب إليه عدم الاشتراك في أية معارك قد تنشب بينه وبين العثمانيين.٣٩٤
وعلى ذلك فقد امتنع مراد عن الاشتراك في معركة هليوبوليس، مع وجوده برجاله قريبًا من ميدان القتال، وعندما دخل ناصف باشا وإبراهيم بك القاهرة رفض مراد أن يستمع إلى أقوال إبراهيم بك زميله القديم الذي ألحَّ عليه بالانضمام إلى صفوف العثمانيين، وذهب بعسكره إلى طرة. وكان مراد في طرة عندما جاءه وكلاء كليبر يتفاوضون معه، فأرسل مراد إلى كليبر عثمان بك البرديسي مزوَّدًا بتعليماته، وفحواها أنه يطلب الاستقرار في جزء من البلاد المصرية، حتى إذا تركها الفرنسيون استطاع بمعاونة النجدات التي يمدونه بها الاستحواذ على بلاد هو صاحبها، وليس هناك غير الفرنسيين من يستطيع حرمانه منها، ثم قطع على نفسه عهدًا بأن يظل أمينًا على اتفاقاته معهم.٣٩٥ ولما كان كليبر قد رحب برسول مراد، وقطع هو الآخر عهدًا على نفسه بعدم تعرض الفرنسيين لمناوأة مراد ومماليكه وإزعاجهم في شيءٍ بعد ذلك، وأعلن أنه يضع الاهتمام بمصلحة مراد بك في المرتبة التالية لاهتمامه بجيشه مباشرة؛ فقد أصبح ميسورًا بدء المفاوضة بصورة جدية، وعُقدت الاجتماعات لبحث قواعد الصلح في القاهرة في أثناء اشتعال الثورة بها.٣٩٦
وفي ٥ أبريل ١٨٠٠م وقَّع على المعاهدة كل من الجنرال داماس والمواطن جلوتييه Gloutier عن كليبر، وعثمان بك البرديسي عن مراد. وكانت تتألف من عشر مواد تنص على إعطاء مراد بك الحكم والإمارة في الصعيد، والانتفاع بالبلاد الكائنة بالبر الشرقي والبر الغربي للنيل، ابتداءً من بلدة بلصفورة بمديرية جرجا إلى أسوان، على أن تكون جرجا الحاضرة؛ وذلك لقاء أن يؤدي مراد إلى الجمهورية الفرنسية «الميري» الواجب دفعه عن هذه الجهات إلى صاحب الولاية على مصر. وفضلًا عن ذلك فقد ضمن قائد الجيش الفرنسي لمراد بك الانتفاع بدخل حكومة هذه الأقاليم، كما تعهد بحمايته إذا تعرض لهجوم أعدائه عليه. وقد تعهد مراد من جانبه بتقديم النجدات اللازمة لمعاونة القوات الفرنسية إذا تعرضت الأماكن التي تحتلها هذه إلى أي هجوم من قبل العدو عليها. ومما تجدر ملاحظته أن الفرنسيين اشترطوا في هذه المعاهدة احترام ملكية الأفراد في الأقاليم التي خضعت لحكومة مراد، فحرمته من التصرف في ملكية شيء من الأراضي التي لا يملكها ومحاولة إعطائها إلى أفراد حاشيته، على اعتبار أن «أمير الوجه القبلي» له الحق في التمتع بالإيرادات المتحصلة من الضرائب فحسب.٣٩٧
وذكر المعلم نقولا التركي الغرض من إبرام هذه المعاهدة، وهو تسليم البلاد إلى مراد عند خروج الفرنسيين منها، فقال: «وانعقدت المشورة على أن مراد بيك يصنع وليمة للأمير كليبر في جزيرة الذهب القريبة من الجيزة ويدعوه إليها، وهناك يكون الاتفاق. فركب أمير الجيوش إلى الجيزة، ومعه عثمان بيك البرديسي وعثمان بيك الأشقر، وسار بنفرٍ قليل إلى مقابلة مراد بيك، فحين وصل وتقابلا تلقاه مراد بيك بكل بشاشة، وتصافحا مصافحة الإخوان، وجلسا في ذلك الديوان … وجلس معهما داماس الوزير ودميانوس الترجمان … وهناك عاهد أمير الجيوش مراد بيك العهد التام، وأنه يقيم في بلاد الصعيد بعيش رغيد مع سائر من يروم إقامته من الغز والمماليك هناك، وصرَّفه بجميع ماله من الأملاك، ويكون حاكمًا على مدينة جرجة، ويدفع للمشيخة مال ميريها المرتب عليها، وأنه يرسل إلى إبراهيم بيك وبقية الغز أن يكون لهم الأمان. ثم عاهده أيضًا إذا أخلت الفرنساوية الديار المصرية فلا يكون تسليم هذه المملكة إلا له دون غيره من الدول.»٣٩٨
ولم يجد مراد غضاضة في قبول السيادة الفرنسية وتفضيلها على سيادة العثمانيين ما دام الفرنسيون في البلاد، حتى إنه سمى نفسه «سلطانًا فرنسيًّا».٣٩٩ وامتدح كثيرون هذه الخطوة التي خطاها كليبر فقالوا إن عقد هذه المعاهدة مع مراد إنما كان يدل على بعد نظر سياسي من كليبر؛ ذلك أنه أصبح في استطاعة الفرنسيين عندما يغادرون الشرق أن يجدوا في مراد بك سلطانًا ينصِّبونه على هذه البلاد حتى لا تقع مصر في قبضة الإنجليز.٤٠٠ على أن مما يجدر ذكره أن فكرة الاتفاق هذه مع مراد بك لم تكن جديدة، فقد سبق أن كلف بونابرت القنصل النمساوي روشيتي Rosetti أن يعمل للاتفاق مع مراد، وخوَّله الحق منذ أول أغسطس ١٧٩٨م أن يعقد معه معاهدة على أساس احتفاظ مراد بمدينة جرجا في نظير دفع الميري المرتب عليها، لقاء أن تظل هذه المديرية تابعة للحكومة الفرنسية،٤٠١ أما وقد تغيرت الظروف الآن فقد أصبح تسليم البلاد إلى مراد بعد جلاء الفرنسيين عنها الفكرة الظاهرة في هذا الاتفاق الجديد.
ولا جدال في أن الفرنسيين قد أفادوا فائدة كبيرة من هذا الاتفاق، فقد أصبحوا الآن مطمئنين إلى التزام مراد الهدوء والسكينة، فلا ينحاز إلى جانب أعدائهم في النضال القائم، فضلًا عن أنه سوف يصبح في وسعهم أن يتفرغوا لمنازلة أعدائهم في الوجه البحري، فيحتل مراد بأجناده المواقع التي يخلونها في الصعيد، ولا يجد الفرنسيون ضرورة إلى بعثرة قواتهم في أنحاء القطر، لا سيَّما وأن هذه القوات قد أصبحت قليلة.٤٠٢ وكان من أثر عقد هذه المعاهدة أن أقبل مراد مباشرة على مساعدتهم في إخماد الثورة الفاشية في القاهرة، وقد ظلَّت هذه الثورة مستعرة الأوار منذ ٢٠ مارس، فقدم لهم المؤن والذخائر، كما سلم إليهم العثمانيين الذين لجئوا إليه يطلبون حمايته. وفضلًا عن ذلك فقد أرسل لهم عددًا من المراكب المحملة بالحطب والمواد الملتهبة لإحداث الحرائق في القاهرة، حتى إن هؤلاء سرعان ما تمكنوا من إخماد الثورة بفضل الحرائق التي أشعلوها في الأحياء الوطنية، وفي حي بولاق على وجه الخصوص الذي سلطوا عليه كذلك نيران مدافعهم حتى خرَّبوه تخريبًا (١٥ أبريل).٤٠٣ وعندما صح عزم القاهريين على التسليم توسط مراد في المفاوضة، وكانت مفاوضة شاقة مضنية٤٠٤ انتهت بإبرام الصلح في ٢١ أبريل ١٨٠٠م بين ناصف باشا وعثمان أفندي وإبراهيم بك من جانب، وبين كليبر من جانب آخر. وكان يتألف من تسع مواد حصل بفضله الجنود العثمانيون على مهلة ثلاثة أيام بين ٢٢ و٢٥ أبريل حتى يخرجوا من القاهرة في أثنائها ومعهم فلول المماليك إلى البلاد الشامية عن طريق بلبيس والصالحية والقطية والعريش، ووقع الاختيار على الجنرال رينييه لحراستهم في أثناء هذا الانسحاب منعًا من حدوث أية «إهانات» لهم. ومنح كليبر أهل مصر على وجه العموم، والقاهريين على وجه الخصوص، الذين اشتركوا في الثورات والاضطرابات الأخيرة عفوًا شاملًا، وفي ٢٤ أبريل كلف الجنرال رينييه بأن يرافق العثمانيين والمماليك الذين غادروا القاهرة.٤٠٥

كليبر بعد هليوبوليس

واعتبر كثيرون أن كليبر قد طوى صفحة قديمة وبدأ أخرى جديدة في تاريخ حكومته في مصر، بفضل انتصاره في معركة هليوبوليس وإخماده ثورة القاهريين الثانية. وحاول أصحاب هذا الرأي أن يفردوا بحوثًا مستفيضة ومستقلة لدراسة نشاط كليبر في تلك الأسابيع القليلة التي انقضت من يوم انتصاره على العثمانيين في معركة هليوبوليس في ٢٠ مارس ١٨٠٠م إلى اليوم الذي لقي فيه كليبر مصرعه في ١٤ يونيو من العام نفسه. واستندوا في ذلك إلى أن كليبر بعد هليوبوليس قد اختط لنفسه خطة جديدة، واسترشد في سياسته بأغراض تختلف عما كان يستهدفه قبل انتصاره في هذه المعركة، فقالوا إن القائد الفرنسي ما لبث بعد هذا الانتصار أن نبذ سياسة الجلاء ظِهريًّا، ووطد العزم على البقاء في مصر، وكان من أصحاب هذا الرأي بونابرت نفسه الذي اعتقد أن كليبر بعد ٢٠ مارس صار لا يفكر إلا في أمرٍ واحد فحسب هو الاهتمام بدعم أركان المستعمرة الفرنسية الناشئة في هذه البلاد.٤٠٦
وفضلًا عن ذلك فقد اعتقد آخرون أن كليبر ما كان يستطيع العودة إلى فرنسا، خوفًا من بطش بونابرت الذي وجَّه إليه كليبر «اتهامات» خطيرة في تقريره المشهور إلى حكومة الإدارة (في ٢٦ سبتمبر ١٧٩٩م)، فآثر البقاء في مصر بعد وصول بونابرت إلى القنصلية عقب انقلاب ١٨ برومير.٤٠٧ وذهب فريقٌ من المعتدلين، ومن أصدقاء كليبر، في إقامة الحجة على أن القائد الفرنسي قد تخلى عن سياسة الجلاء، إلى أن انتشار روح الرضا بين الجنود بسبب ما أبداه كليبر من اهتمام بشأنهم حتى صاروا يرتدون أردية جيدة ويحصلون على مرتباتهم ويجدون أغذية كافية، جعلهم ينسون متاعبهم السابقة، كما أخذت متاعبهم تقل رويدًا رويدًا بعد انتصاراتهم الأخيرة، وبدءوا يتذوقون طعم الحياة الطيبة قليلًا، ويعقدون على حدوث انقلاب برومير آمالًا عظيمة في وصول النجدات إليهم، فقويت رغبتهم في الاحتفاظ بفتوحهم في هذه البلاد، ثم زادهم انتصارهم في هليوبوليس ثقة في إحراز النصر على العثمانيين في كل المعارك المقبلة، كما جعلهم الحنق على الإنجليز لنقضهم اتفاق العريش لا يبالون بقوة هؤلاء وبأسهم بل ويتوقون للالتحام معهم.٤٠٨
على أنه كان هناك إلى جانب هؤلاء الذين قطعوا بأن كليبر إنما أصبح يريد البقاء في مصر بعد معركة هليوبوليس فريقٌ آخر استغلق عليهم فهم سياسة القائد «الجديدة»، حتى بات يعزو إلى كليبر التردد والتقلب وعدم الاستمرار على حال، ويصف آراءه بالإبهام وعدم الوضوح،٤٠٩ وكان مما حيرهم إقبال كليبر على الرغبة في استئناف المفاوضة مع العثمانيين تارة، ورفضه المفاوضة معهم تارة أخرى، واهتمامه بإدخال ضروب الإصلاحات ذات الأثر البعيد حينًا، ثم إزعاجه المصريين وإثارة سخطهم عليه بسبب ابتزازه الأموال منهم حينًا آخر، وتصميمه على قطع كل صلة مع الإنجليز، ثم إصراره في الوقت نفسه على أن عقد اتفاق العريش لم يكن خطأ سياسيًّا، إلى غير ذلك من الأمور والأعمال التي عجزوا عن تفسيرها أو معرفة أسبابها.
ومع ذلك فإن القول بأن كليبر إنما كان يبغي البقاء في مصر بعد موقعة هليوبوليس، ويعمل على دعم أركان المستعمرة الجديدة، قول لا يستند إلى أسباب صحيحة؛ ذلك بأن عوامل عدة قد تضافرت منذ وقائع ٢٠ مارس على إحداث أثرٍ واضحٍ في سياسة كليبر حتى إنه ليستطيع كل إنسان أن يلمس من خلال الوقائع المتعاقبة المتلاحقة أن القائد الفرنسي كان يستهدف غرضًا واحدًا معيَّنًا مهما تغيرت صورها، وبدت للعين المجردة كأنها متضادة متنافرة، فقد نفض كليبر يده من الإنجليز تمامًا، وفقد الثقة في قوم نكثوا في نظره عهودهم منذ أن نقضوا اتفاق العريش، فنبذ كل محاولة للتفاهم والاتفاق معهم. ولما كان يعتقد أن الإنجليز لا يستطيعون تهديد جيش الشرق في مصر إلَّا إذا عقدوا العزم على مهاجمته من البحر، وإنزال حملة بحرية على الشاطئ المصري لهذا الغرض، واعتقد كليبر أنه ما كان ليتسنى لهم فعل ذلك من غير معاونة الأتراك لهم؛ فقد أراد كليبر أن يوقع التفرقة بين الإنجليز والعثمانيين، متخذًا من الترتيبات التي بدأها الإنجليز وقتئذٍ من أجل احتلال الإسكندرية ودمياط والسويس ذريعة لإثارة أسباب النفور بين الفريقين، وهياج الأتراك ضد حلفائهم. وأراد كليبر من ذلك تحطيم المحالفة المبرمة بين الإنجليز والعثمانيين، واستمالة الأخيرين إلى عقد معاهدة مع الفرنسيين، تلزمهم الوقوف موقف الحياد التام في الحرب الدائرة، حتى يحين موعد عقد السلام العام في أوروبا. وقد أراد كليبر بفضل تفاهمه مع العثمانيين أن ينشئ مع رؤسائهم في القسطنطينية علاقات تمكِّنه من الاتصال بالحكومة الفرنسية عن طريق الباب العالي فتأتيه أخبارها. وفضلًا عن ذلك فإن نجاحه في تحقيق هذه الأغراض سوف يتيح له الفرصة في مصر حتى يتفرغ لشئون الإدارة والحكم بصورة تساعده على زيادة موارده الداخلية، فيسد مطالب الحملة ويرضي الجيش، فلا تذمر ولا ضجر حتى يخرج جيش الشرق من مصر مرفوع الرأس موفور الكرامة.٤١٠ ومع أن كليبر ما لبث أن نبذ بعد ذلك بقليلٍ فكرة استمالة الأتراك والاتفاق معهم في ظروف سوف يأتي ذكرها، فإنه ما كان يدور في خلد كليبر قط أن عقد اتفاق العريش كان خطأً سياسيًّا، أو أنه قد تخلى عن خطة الجلاء عن مصر حينما قرر المقاومة ورفض أن يتأثر بمحاولات الأتراك والإنجليز لإقناعه بقبول اتفاق العريش مرة أخرى وبتنفيذ نصوصه.

وعلى ضوء هذه الحقائق إذن يمكن تفسير ذلك «التردد والتقلب» الذي اتسمت به سياسة كليبر في ظاهرها، والذي جعل كثيرين حتى من بين رجال الحملة وقوَّادها وقتئذٍ يعتقدون أنه قد تخلى عن سياسة الجلاء وقرر البقاء في مصر.

فقد كتب كليبر إلى الجنرال لانوس في ٢٨ مارس ١٨٠٠م عندما أبلغه اللورد كيث أوامر حكومته المتأخرة في شأن قبول اتفاق العريش أن «الأخبار التي حملها إلينا اللورد دون خجل أو حياء قليلة القيمة بعد هذه الانتصارات التي أحرزناها في هليوبوليس، وأعتقد أن في استطاعتنا لزمن طويل أن نأمن من وقوع أي هجوم علينا، بل ربما كان في وسعنا كذلك أن ننتظر بهدوء واطمئنان حتى يعقد الصلح العام في أوروبا.»٤١١ ولما كان كليبر على نحو ما سبق ذكره لا يزال يرغب في استمالة الأتراك إليه، فقد سطر رسالة طويلة للباب العالي في ١٠ أبريل يبسط فيها الظروف التي أدت إلى نقض اتفاق العريش، ويتحدث عن هزيمة الجيش العثماني في هليوبوليس، ويقول إنه لا يزال يرغب في إعادة الصلات النافعة الودية التي ربطت بين الأمتين العثمانية والفرنسية من أجيال عديدة، وسوف يجده الباب العالي لذلك «مستعدًّا لأن يضع مصر بين يديه ثانية وفق الشروط التي نصَّ عليها اتفاق العريش مع بعض التعديلات التي تتطلبها الظروف الحالية ولا مناص من إدخالها على هذا الاتفاق»، فليس هناك ما يدعو إلى إراقة دماء جديدة عندما بات من الممكن إرجاع مصر إلى حظيرة الدولة العثمانية بطريق المفاوضة بعد أن عجزت القوة المسلحة عن انتزاعها من أيدي الفرنسيين.٤١٢ وقد أفصح كليبر عن هذه الرغبة لرجاله عندما كتب في اليوم نفسه إلى الجنرال لانوس أنه ما يزال على رغم ما وقع من حوادث سابقة يرغب صادقًا في عقد أواصر المحبة وإنشاء العلاقات التجارية مع تركيا، ويريد إرجاع مصر إلى العثمانيين وفق شروط معقولة.٤١٣
ولما كان كليبر ينتظر أن تؤتي هذه السياسة ثمرتها، فقد انكبَّ على شئون الإدارة والحكم بكل همة ونشاط، لإزالة ما بقي من آثار ثورة القاهريين الأخيرة، وتدبير المال حتى يحين وقت عقد الصلح العام في أوروبا. واعتمد كليبر في ملء خزانته بالأموال على وسائل شتى، كان يبغي من بعضها الاستيلاء على المال فحسب من أي طريق كان، بينما يريد من بعضها الآخر إدخال ضروب من الإصلاح على الإدارة المالية تمكِّنه من جباية الضرائب وتحصيلها بكل دقة، فلجأ إلى «الغرامات» الفادحة يفرضها على الأهلين اقتصاصًا منهم لقيامهم بثوراتهم الأخيرة، كما لجأ إلى «المصادرة» وغيرها من ضروب ابتزاز الأموال، واصطنع كليبر أساليب العنف والصرامة مع كبار المشايخ، فذكر الشيخ الجبرتي أنه جمع أهل الديوان وأنَّبهم تأنيبًا عنيفًا على اشتراكهم في الثورة وقال: كان جزاؤكم أن نفعل معكم كما فعلنا مع أهل بولاق؛ من قتلكم عن آخركم وحرق بلدكم وسبي حريمكم وأولادكم، ولكن حيث إننا أعطيناكم الأمان فلا ننقض أماننا ولا نقتلكم وإنما نأخذ منكم الأموال، فالمطلوب منكم عشرة آلاف ألف فرنك … على الشيخ السادات خاصة من ذلك خمسمائة وخمسة وثلاثون ألفًا، والشيخ محمد بن الجوهري خمسون ألفًا، وأخيه الشيخ فتوح خمسون ألفًا، والشيخ مصطفى الصاوي خمسون ألفًا، والشيخ العناني مئتان وخمسون ألفًا، نقتطعها من ذلك نظير نهب دور الفارين مع العثمانلي، مثل: المحروقي والسيد عمر مكرم وحسين أغا شنن، وما بقي تدبرون رأيكم فيه، وتوزعونه على أهل البلد، وتتركون عندنا منكم خمسة عشر شخصًا، انظروا من يكون فيكم رهينة عندنا حتى تغلقوا ذلك المبلغ. وقام من فوره ودخل مع أصحابه إلى داخل وأغلق بينه وبينهم الباب، ووقفت الحرسية على الباب الآخر يمنعون من يخرج من الجالسين، فبُهت الجماعة وامتُقعت وجوههم، ونظروا إلى بعضهم البعض، وتحيَّرت أفكارهم … ولم تزل الجماعة في حيرتهم وسكرتهم، وتمنى كل منهم أنه لم يكن شيئًا مذكورًا، ولم يزالوا على ذلك الحال إلى قريب العصر حتى بال أكثرهم على ثيابه، وبعضهم شرشر بوله في شباك المكان، وصاروا يدخلون على نصارى القبط، ويقعون في عرضهم، فالذي انحشر فيهم ولم يكن معدودًا من الرؤساء أخرجوه بحجة أو سبب، وبعضهم ترك مداسه وخرج حافيًا، وما صدق بخلاص نفسه.»٤١٤ وأُهين الشيخ محمد السادات إهانة بالغة، وعامله كليبر بقسوة وغلظة، حتى بدا كأنما القائد الفرنسي ما كان يعنيه من أمر المصريين ووجوههم سوى ابتزاز الأموال منهم حتى يملأ بها خزانته وينفق منها على جيشه.٤١٥ وفُرِضت غرامة كبيرة على طنطا اقتصاصًا من ثورة أهلها، ثم على المحلة الكبرى، وأثارت هذه الأعمال سخط المصريين الذين سرعان ما حلت الضائقة بهم لفداحة الغرامات التي وقعت عليهم، حتى إنهم «تمنَّوا الموت فلم يجدوه.»٤١٦
وحدث أن بدأت تقْدم إلى الإسكندرية حوالي ثمانين من السفن المعدة لنقل الفرنسيين إلى بلادهم، عدا أربع قراويت، وذلك في شهر فبراير بعد ذيوع خبر اتفاق العريش.٤١٧ كما قدمت سفن عثمانية محملة بالذخائر والعتاد لجيش الصدر الأعظم في العريش وفي المواقع الأخرى، «فطمَّنهم الفرنساوية، وأظهروا لهم المسالمة وأظهروا لهم بنديرة العثماني، فدخلوا إلى المينا ورموا مراسيهم، ووقعوا في فخ الفرنسيين فاستولوا على الجميع.»٤١٨ وفضلًا عن ذلك فقد دخل إلى الإسكندرية عدد من السفن العادية المحملة بالتجارة، فأصدر كليبر أمرًا في ١٦ أبريل ١٨٠٠م بمصادرة هذه السفن جميعًا والاستيلاء عليها.٤١٩ وانتهز الفرنسيون فرصة معارضة أهل السويس وانحيازهم إلى جانب المتسلم العثماني الذي كان قد تسلَّمها من الفرنسيين عقب الاتفاق ورفض الآن إعادتها «فغلبهم الفرنسيس وقتلوهم عن آخرهم، ونهبوا البندر وما فيه من البن والبهار بحواصل التجار وغير ذلك»، وأرسل مراد بك من الصعيد كل ما كان العثمانيون قد جمعوه «من أغنام وخيول وميرة، وكان شيئًا كثيرًا»، وذلك عندما اضطر هؤلاء إلى إخلاء الصعيد بعد أن كانوا قد شرعوا في احتلاله. واستولى الفرنسيون كذلك على المؤن والغلال والشعير والأتبان التي جمعها العثمانيون في الوجه البحري خصوصًا، بل إن كليبر ما لبث أن فرض على «النواحي غلالًا وشعيرًا وفولًا وتبنًا وزادوا خيولًا وجمالًا، فوقع على كل إقليم زيادة عن ألف فرس وألف جمل سوى ما يدفع مصالحةً على قبولها للوسايط وهو نحو ثمنها أو أزيد.»٤٢٠
وكان لغرض الحصول على المال أن أصدر كليبر أمرًا في ٢٨ أبريل ١٨٠٠م يقضي بإلغاء «الإدارة المالية» القديمة التي كان يديرها بوسيلج ثم أستيف من بعده، فكلَّف أستيف الآن بالإشراف على الإيرادات العامة، على أن يجمع الضرائب والإتاوات المختلفة التي يجري دفعها نقدًا، مثل الميري والفايض والبراني والكشوفية وما إليها، في قسم عام باسم «الضرائب العمومية النقدية»، ابتداءً من سنة ١٢١٤ هجرية، وللقائد العام وحده حق تحديد هذا النوع من الضرائب في كل عام حسب علو النيل وحالة الفيضان ومقدار محصول الأرض الزراعية، واقتصر عمل الأقباط على تحصيل الضرائب فحسب. ولما كان غرض كليبر ابتكار الوسائل التي يمكن بها ملء «الخزانة» بكل سرعة، فقد اشتمل هذا الأمر على تفصيلات وافية لإرشاد حكَّام الأقاليم والمحصلين وسائر العمال إلى أجدى الطرق لتنظيم توزيع الضريبة وتحصيلها بسهولة ودقة وضبط قيمتها في كل موسم.٤٢١ واعترف كليبر بأن غايته من هذا «الإصلاح لم تكن سوى ضمان وصول المال إلى خزانته» بكل سرعة، فقال: «إن الإصلاحات الإدارية العظيمة من الأمور التي تحتاج إلى تنظيم كبير، ولم يكن في وسعه لعدم تمتعه بالعبقرية والنبوغ أن يبتكر مثل هذه الإصلاحات الإدارية العظيمة في يوم وليلة، حتى ولو قدِّر له أن يستعين في ذلك بآراء أفراد عُرِفوا بالخبرة والدراية في هذه الأمور.»٤٢٢
ومن ضروب هذا الإصلاح أن شكَّل «لجنة إدارية» في ٢٩ أبريل ١٨٠٠م كانت تتألف من رؤساء فروع الإدارة الهامة، جعل أعضاءها خمسة؛ وذلك حتى يبحثوا مع القائد العام شئون التجارة والزراعة والمنشآت العامة، مما كان يعد خطوة واسعة في سبيل إقامة نوع من «الوزارات» المختصة بفروع الإدارة المختلفة، لولا أن كليبر عمد إلى تقييد نشاط هذه اللجنة فقصر عملها في أول الأمر على مراقبة جميع الضرائب وتحصيل الإيرادات قبل أي اعتبار آخر.٤٢٣ وعُني كليبر بمسألة «الموردين» الذين اتفقت معهم الحكومة لتوريد المؤن للجيش والأغذية والملابس وما إلى ذلك، وكان كثيرون من هؤلاء قد أثْروا نتيجة للتلاعب الذي أفضى إلى حرمان الجنود من الأغذية الصحية الكافية والأردية والملابس اللائقة،٤٢٤ فتشدد كليبر في أن ينال الجند الوجبات المُعَيَّنة لهم، وأن تُعطى لهم الملابس اللازمة، كما أمر بأن يصرف العلف المخصص لخيولهم بكل دقة،٤٢٥ فأشاعت هذه العناية روح الرضا بين الجنود الذين حسنت أحوالهم فاطمأنوا إلى كليبر وحكومته.
ولم يشأ كليبر أن يترك القاهرة دون إصلاح ما تهدم وخرب من مبانيها وأحيائها عقب ثورة القاهريين الأخيرة، فلم ينقضِ شهر واحد حتى كان حيُّ بولاق قد استعاد رونقه بعد الحريق الكبير الذي حدث فيه، كما أُصلِحت ثكنات الجنود وغيرها من مباني الجيش، وأعدَّ كليبر برنامجًا للأعمال والتحصينات البسيطة لمنع العدو من دخول القاهرة، واهتم بإنجاز التحصينات اللازمة لحماية الشاطئ، ونظم سبل المواصلات فأنشأ الجسور وشيَّد الكباري على النيل. ولما كان العربان يطلبون أجورًا فادحة كلما طلب الفرنسيون استئجار جمالهم أو يبتعدون بها في الداخل حتى لا يستطيع هؤلاء العثور عليها؛ فقد جمع كليبر عددًا من الجمال يستخدمها الجيش في انتقالاته،٤٢٦ وفضلًا عن ذلك أفاد كليبر من رغبة الأهالي عمومًا في التزام الهدوء والسكينة بعد ثورتهم الأخيرة، وشكل من القبط فرقة عسكرية من خمسمائة جندي، وأخذ يشجع الأهالي من مسيحيين ومسلمين خصوصًا في الوجه القبلي على الخدمة في الجيش، وشكَّل من الأروام فرقًا عسكرية بلغ عدد أفرادها ألفًا وخمسمائة نسمة، وهذا على حدِّ قول الجنرال رينييه حتى يستميل الأهالي إلى الخدمة في الجيش، ويبعث في نفوسهم الروح العسكرية.٤٢٧
ولا جدال في أن أكثر هذه الأعمال كانت تنطوي على رغبة حقيقية في الإصلاح وإن كان كل ما قصد إليه كليبر منها جمع المال، وضمان استقرار الأمور واستتباب الهدوء والسكينة، لأنه ما كان يتسنى دون ذلك مثلًا تنظيم الإدارة المالية، وما يستلزمه هذا التنظيم من دراسة موضوع الضرائب ومراجعة شتى سجلاتها التي احتفظ بها الأقباط لمعرفة كل نوع من أنواع الضريبة، وما كان مربوطًا منها على كل قرية، ونصيب كل فرد من المكلفين بأدائها، إلى غير ذلك من المسائل المتصلة بأنواع عدة من هذه الضرائب التي لم يستند الجباة في تحصيلها على شيء سوى العرف والعادة في أحايين كثيرة.٤٢٨
ووجد عدد من المعاصرين فيما بذله كليبر من محاولات صادقة لإنقاص المصروفات في جميع فروع الإدارة دليلًا على رغبة القائد الفرنسي في إدخال ضروب من الإصلاح ذات آثار باقية، بل يذهب بعض هؤلاء إلى أن كليبر إنما كان يريد الإصلاح حقًّا في كل ما فعله، بدليل أن شئون الحكم والإدارة لم تشغله عن التفكير جديًّا في مشروع كان يبغي منه الاستعاضة عن نظام ملكية الأرض في مصر بنظام آخر يقوم على أساس إعطاء الأرض للأفراد في صورة «حكر وقتي» ينال بمقتضاه كل فرد من أفراد الجيش جزءًا من الأرض متناسبًا مع رتبته العسكرية، وما أدَّاه من خدمات للحملة؛ وذلك حتى يستغلها هؤلاء دون أن يكون لهم الحق في امتلاكها.٤٢٩
وعلى ذلك فقد كان من أثر هذه الإصلاحات وما أظهره كليبر من ضروب النشاط الذي شمل جميع فروع الحكم والإدارة، أن أعتقد كثيرون أن القائد الفرنسي إنما كان يبغي البقاء في مصر، وأنه قد تخلَّى عن سياسته السابقة التي أفضت إلى اتفاق العريش. وزادهم اعتقادًا في ذلك ما طرأ من تغيير على موقف كليبر من العثمانيين على وجه الخصوص منذ أواخر شهر أبريل تقريبًا، ولو أن هذا التغيير كان تغييرًا «ظاهرًا» ولا يدل بحال من الأحوال على أن كليبر قد نبذ ظِهريًّا سياسة الجلاء عن مصر وإخلائها، فقد وصلت كليبر في القاهرة رسالة من الصدر الأعظم يوم ٢٠ أبريل يدَّعي صاحبها أن من حقه إزالة العراقيل التي وضعها الإنجليز لتعطيل اتفاق العريش، ويشكو من ذلك الهجوم الذي شنَّه الفرنسيون على جيشه دون مسوغ وضد كل قانون، وصار يهدد كليبر بأن في استطاعته أن يدفع إلى الميدان جميع القوات التي حشدها لمنازلة خصمه، ويطلب منه أن يطلق سراح مصطفى باشا وغيره من أسرى العثمانيين في القاهرة؛ فلم يشأ كليبر أن يجيب على هذه الرسالة بل ردَّها إلى صاحبها، وذكر في ذيلها أن كتاب الصدر الأعظم بسبب ما جاء به من أقوال «خاطئة وغير معقولة» لا يستحق غير السخرية،٤٣٠ وبذلك رفض كليبر أن يدخل في مفاوضة مع الصدر والعثمانيين.
وعلاوة على ذلك فقد أهمل كليبر٤٣١ الإجابة على رسالة من اللورد كيث بعث بها اللورد إلى بوسيلج في ٢٣ أبريل، ينفي فيها صدور أية تعليمات إليه أو أوامر من حكومته ضد الاتفاق الذي تم إبرامه بين الصدر الأعظم والجنرال كليبر، بل إن تعليمات صريحة قد وصلته لإعطاء الفرنسيين حق المرور بسلام حتى يعودوا إلى أوطانهم، وذلك رغبةً من حكومته في إظهار حسن نواياها نحو حلفائها العثمانيين.٤٣٢ وكان كل ما وافق عليه كليبر بعد ذلك أن قبل في ٦ مايو ردًّا على خطاب من السير سدني سمث في ٢٧ أبريل أن يطلق سراح مصطفى باشا وسائر «الأفندية» الذين كانوا قد حضروا إلى مصر عقب اتفاق العريش لاستلام إدارة الجمارك بالبلاد، وأن يرسلهم جميعًا إلى دمياط لقاء أن يطلق الصدر الأعظم سراح ضابط من الفرنسيين كان قد ذهب للمفاوضة مع الصدر واحتجزه يوسف ضيا في معسكره،٤٣٣ وبذلك رفض كليبر أن يدخل في مفاوضة مع الإنجليز من أجل الجلاء عن مصر.
ومع أنه لم يكن غريبًا أن يرفض كليبر المفاوضة مع الإنجليز وقتئذٍ؛ لأنه كان قد فقد كل ثقة بهم من أيام معركة هليوبوليس؛ فإن رفضه الدخول مع الأتراك في مفاوضة كان شيئًا جديدًا لا مناص من معرفة سببه؛ إذ اتضح أن كليبر قد استقر رأيه ليس فقط على عدم استئناف المفاوضة مع العثمانيين والإنجليز على السواء، بل اتخاذ الأهبة أيضًا لمقاومتهم جميعًا إذا بدا لهم أن يشنُّوا هجومًا جديدًا على مصر، فقد كان الباعث على ذلك عثور الفرنسيين على أوراق مورييه سكرتير اللورد إلجين، وكانت هذه الأوراق تشتمل على تفصيلات تلك «الخدعة الحربية» التي اشترك تمارا مع الأتراك في تدبيرها للغدر بجيش الشرق وإفنائه، فقد سبق كيف أن إلجين لم يقبل هذه «الخدعة» عند قدومه إلى القسطنطينية، ولكنه سرعان ما قبل العمل بها إرضاءً للعثمانيين حتى لا يخرجوا على المحالفة، وأصدر تعليماته في ديسمبر سنة ١٧٩٩م إلى مورييه أن يذهب إلى الصدر الأعظم في يافا ليفحص حالة المعسكر العثماني من جهة، وحتى يعمل على تنفيذ الخدعة الحربية ويبلغ السير سدني سمث آراء حكومته وتعليماتها من جهة أخرى.٤٣٤ وقد استمر مورييه مع جيش الصدر حتى بلغ الحدود المصرية، ثم لازمه عند زحفه على المطرية، حتى إذا انهزم العثمانيون في معركة هليوبوليس غادر مورييه المعسكر العثماني إلى دمياط للإقلاع منها على عجل، فوصلها في ٢٣ مارس ١٨٠٠م، ولكن مركبه الصغير لم يقو على مقاومة الأنواء، فاضطر إلى الارتداد إلى بحيرة البرلس، وهناك أحاط به الفرنسيون وعثروا على أوراقه ومن بينها جورناله وبه ذكر «الخدعة الحربية»، فأُخذ إلى رشيد، ولمَّا كان يحمل إذنًا بالمرور بسلام، فقد سُمِح له باللحاق بالسير سدني.
أمَّا الجورنال فقد أُرسِل إلى كليبر الذي وجد عند إطلاعه عليه ملاحظات دوَّنها مورييه نفسه تعليقًا على أحاديثه مع السير سدني سمث، خصوصًا بصدد تنفيذ الخدعة الحربية. ومع أن السير سدني كما اتضح من قراءة الجورنال لم يوافق على هذه الخدعة لأن صيانة الإمبراطورية العثمانية وسلامتها كانت متوقفة في رأيه على ملاحظة تنفيذ اتفاق العريش بكل دقة؛ فقد كان ذِكْر أمر هذه الخدعة في فبراير ١٨٠٠م؛ أي بعد إبرام اتفاق العريش، كافيًا لإثارة غضب كليبر وتحطيم ثقته في الإنجليز نهائيًّا، وبخاصة عندما كتب مورييه نفسه أنه يعتقد أن اقتراح «الخدعة الحربية» إنما جاء نتيجة لما كانت تروجه الإشاعات عن عدم صدق نوايا الفرنسيين، وأن لا مناص من الالتجاء إلى عمل حاسم من طراز هذه الخدعة حتى يمكن إجلاؤهم عن مصر.٤٣٥
وعلى ذلك فقد صحَّ عزم كليبر على رفض كل مفاوضة مع الإنجليز ومع العثمانيين، وذهب كليبر في رفض المفاوضة مع العثمانيين إلى أنه لما كان لا يثق بحلفائهم الإنجليز، ويتعذر عليه الدخول في مفاوضات معهم، فقد بات الاتفاق مع العثمانيين على أساس معاهدة العريش عبثًا لا طائل تحته؛ لأن هؤلاء لم يكونوا أصحاب السيطرة في البحر الأبيض، ولا جدوى كذلك من تسليم البلاد إليهم؛ لأنهم لا يستطيعون لهذا السبب نفسه الاحتفاظ بمصر طويلًا.٤٣٦ ثم سرعان ما ظهر أثر ذلك كله عندما جاءت الأخبار عن ظهور أسطول عثماني بقيادة القبطان حسين باشا أمام الإسكندرية في أواخر مايو؛ ذلك أن حسين باشا ما لبث أن أرسل إسحاق بك يطلب الاجتماع بالجنرال لانوس في الإسكندرية للمفاوضة، وكان إسحاق بك قد عاش ردحًا من الزمن في باريس، وأعلن أنه والقبطان باشا من أصدقاء الجمهورية. واعتقد كثيرون لذلك أن الفرص قد سنحت أخيرًا حتى ينشئ كليبر بفضل وجود هذا الوسيط الجديد تلك الصلات التي كان يريدها مع السلطان نفسه بالقسطنطينية، ولكن كليبر الذي كان قد اعتزم عدم الدخول في مفاوضات مع الأتراك، فضلًا عن أنه كان يجهل الغرض الذي ربض من أجله أسطولهم أمام الإسكندرية، ويخشى أن يكون العثمانيون قد حضروا لإنزال جيشهم إلى البرِّ واستئناف القتال؛ لم يلبث أن غادر القاهرة في ٣ يونيو مع جماعة من الجند وأمر باجتماع عسكر الدلتا عند الرحمانية، وأقام في الرحمانية عسكرًا متحركًا لمواجهة الخطر من أية جهة قد يأتي منها، سواء كان ذلك من ناحية الشاطئ الشمالي أم من ناحية الحدود الشامية، ورفض أن يسمح لأي «مفاوض» بالنزول إلى البرِّ خوفًا من أن يكون غرض هؤلاء أن يتجسسوا على مواقع الفرنسيين واستعداداتهم العسكرية، ولم يثنه عن عزمه وصول رسالة بعث بها مورييه من يافا في ٢ يونيو٤٣٧ يقول فيها: إن العقبات التي كانت تحول دون تنفيذ اتفاق العريش قد أُزيلت نهائيًّا، بل إنه ما لبث أن نشر «جورنال مورييه» في جريدة «الكورييه ديجبت» في ١٠ يونيو وقال: «إن ما سجله هذا الجورنال ليدل دلالة قاطعة على أن مورييه كان مكلَّفًا بتنفيذ خدعة حربية على الرغم من وجود المعاهدة.» ثم شرع يحذر مورييه من المجيء إلى هذه البلاد حتى لا يُقبض عليه ويُشنق كجاسوس إذا وطئت قدماه أرض مصر، وقال كليبر كذلك إن مصيرًا كهذا الذي هدد به مورييه سوف ينتظر ولا شكَّ كل رسول قد يوفده مورييه إلى مصر.٤٣٨ وفضلًا عن ذلك فإنه سرعان ما أعدَّ مذكرة بهذا المعنى لإرسالها إلى مورييه ولكن قُتِل قبل إرسالها.
وهكذا اضطرت الحوادث كليبر إلى القيام بدور «حاكم في مستعمرة»، وقائد للحملة لن يرضى عن الجلاء عن مصر وإخلائها بديلًا،٤٣٩ وإن كان ذلك لا يعني أن كليبر قد تخلى عن سياسته التي أفضت فيما مضى إلى عقد اتفاق العريش. واعتقد كثيرون من راغبي البقاء في مصر — ومن هؤلاء عبد الله جاك منو — أن في وسعهم أن يهنئوا قائد الحملة على «موقفه الجديد» وعزمه الظاهر على المقاومة وما توهموه عدولًا منه عن سياسته السابقة؛ ولذلك فقد خُيِّل إلى منو أن من الحكمة أن يحاول تبرير موقفه من المفاوضات الماضية، وأن ينفي وجود أية مؤامرات أو دسائس «بعيدة كل البعد عن تفكيره» كانت سببًا فيما ظهر من خلاف في الرأي بين الرجلين، فكتب في ٢٣ مايو سنة ١٨٠٠م٤٤٠ يقول بعد أن شرح ذلك كله: «وإذا كنت أعتقد أن التسليم الذي وقع في العريش خطأ سياسيُّ لا مرية فيه، فإن ما أحرزته أنت من انتصار باهر وفتحك هذه البلاد من جديد، لا شكَّ في أنه سوف يتوج هامتك بأكاليل من المجد والفخار.»
وأطنب منو في مدح كليبر وعدَّه من مؤسسي المستعمرات العظيمة، ولن يقلل من شأنه إذا أُرغم إرغامًا على أن يحتفظ بمصر فترة محدودة من الزمن فحسب، حتى يحين عقد السلام العام في أوروبا. ولكن كليبر الذي ما كان يعتقد في قرارة نفسه أنه قد تخلى بتاتًا عن سياسته السابقة ما لبث أن أجاب على رسالة منو بقوله إن كتاب منو قد سبب له ذهولًا عظيمًا، لأنه حتى هذا اليوم لا يعتقد بحالٍ من الأحوال أن اتفاق العريش كان خطأً سياسيًّا، كما أنه لا يظن أن انتصار الجيش في هليوبوليس كان عملًا يدعو إلى الفرح والغبطة، وإنه ما يزال حتى هذه اللحظة يعتقد اعتقادًا جازمًا أنه قد وصل إلى نتيجة معقولة عندما عقد اتفاق العريش؛ لأنها (أي الحملة) مغامرة طابعها الإسراف والغلو، كما أنه ما يزال مقتنعًا بأنه لا أملَ هناك نهائيًّا في وصول نجدات إلى الفرنسيين من فرنسا، ولن يستطيع هؤلاء بتاتًا، أو على الأقل مدة الحرب الدائرة، أن يؤسسوا مستعمرة في مصر، فالثابت أن شجيرات القطن وأشجار النخيل لا تنبت عسكرًا ولا تنتج أسلحة. وقال كليبر في ختام رسالته: «إنك تتجه بوجهك صوب الشرق، بينما أتجه بوجهي صوب الغرب، ولا يمكن أن نتفق في هذا الأمر أبدًا.»٤٤١

على أن مما يجدر ذكره أن رسالة منو لم تثر غضب كليبر، فقد بادر قائد الحملة عند انتقاله إلى الرحمانية باستدعاء منو إلى القاهرة في ٢ يونيو وقلَّده الحكم بها. ومع أنه كان من رأي منو بعد ذلك أن الواجب يقتضي كليبر أن يبسط لأولي الشأن في باريس كل ما وقع من حوادث فكتب إلى كليبر بذلك في ٨ يونيو؛ فقد رفض كليبر أن يعمل بما أشار عليه به، ولم يكدِّر هذا الاختلاف صفو العلاقات بين الرجلين في أيام كليبر الأخيرة. وظلَّ كليبر بعد عودته إلى القاهرة في ١٠ يونيو ممتنعًا في أوامره اليومية من نشر أية أنباء عن فرنسا، أو الحديث عن أغراضه ونواياه، فكان من أثر ذلك أن استمر جند الحملة وقوادها، ما عدا أولئك الذين قرَّبهم كليبر منه كالجنرال رينييه، يجهلون حقيقة ما بيَّت عليه عزمه من حيث البقاء في مصر أو الجلاء عنها. وعلى كل حال فإن الأجل لم يمتد بكليبر حتى يعرف جيش الشرق نوايا قائده الحقيقية؛ ذلك بأن كليبر بعد أربعة أيام فحسب من عودته إلى القاهرة ما لبث أن لقيَ حتفه غدرًا على يد سليمان الحلبي.

فقد قصد كليبر في صبيحة يوم السبت ١٤ يونيو ١٨٠٠م إلى جزيرة الروضة ليستعرض فرق الأروام، حتى إذا انتهى من ذلك ذهب مع المهندس بروتان Protain ليفحص أعمال الترميمات الجارية في مقر القيادة العامة بالأزبكية، وهي سراي الألفي بك، ثم تناول الغذاء في دار الجنرال داماس، وكان يربط بين السراي وبين هذه الدار ممشى طويل فوقه تكعيبة من العنب، وخرج كليبر بعد الغذاء ومعه بروتان ليتفقد بقية الأعمال بالسراي، وبينما هما يسيران في ذلك الممشى طلع عليهما سليمان الحلبي في صورة متسول يطلب صدقة، «فأشار إليه بالرجوع وقال له: مافيش، وكررها، فلم يرجع وأوهمه أن له حاجة وهو مضطر في قضائها، فلمَّا دنا منه مدَّ إليه يده اليسار كأنه يريد تقبيل يده فمدَّ إليه الآخر يده، فقبض عليه وضربه بخنجر كان أعده في يده اليمنى أربع ضربات متوالية، فشق بطنه وسقط كليبر إلى الأرض مضرجًا بدمه، وحاول بروتان مساعدته فضربه الحلبي وفرَّ هاربًا ولكنه لم يذهب بعيدًا فعثر عليه الفرنسيون منزويًا في البستان المجاور لبيت ساري عسكر المعروف بغيط مصباح بجانب حائط متهدم فقبضوا عليه.»٤٤٢ أمَّا كليبر فقد توفي من جراحه في الساعة الثالثة بعد ظهر اليوم نفسه، وبوفاته انتقلت القيادة إلى عبد الله جاك منو حاكم القاهرة.
١  Corresp. No. 2629.
٢  Reybaud III, 84–95.
٣  Grenfell 28-29 (Convention of 12 June); Corresp. Nos. 2636, 2637.
٤  Desvernois 100.
٥  Jonquière I, 621–50; Corresp. Nos. 2643-44–68–70–95-96-97-98.
٦  Corresp. Nos. 2651–67-68–2700; Corresp. Inédite I, 173.
٧  Desvernois 101; Reybaud III, 104.
٨  Reybaud III, 114-5; Dogureau 49.
٩  Reybaud III, 112–4.
١٠  Reybaud III, 122–8.
١١  الجبرتي ٣: ٣.
١٢  Ader; 25–30.
١٣  Reybaud III, 182–197.
١٤  Simon 152–181; Larchey 39–43.
١٥  Reybaud III, 165.
١٦  Corresp. No. 2834; Langlois 12–25; Reybaud III, 195–205.
ثم انظر تفاصيل هذه المعركة من الناحية العسكرية في كتابنا «الحملة الفرنسية وظهور محمد علي» صفحات ١٣٨–١٤٠.
١٧  الجبرتي ٣: ١٠؛ Reybaud III, 211–14.
١٨  الجبرتي ٣: ١١؛ Corresp. Nos. 2834, 2835; Reybaud III, 216-7.
١٩  شكري، ١٤٢–١٦٢، تفصيلات عن هذه المعركة.
٢٠  أحمد حافظ عوض، صفحات ٤١٩–٤٢٦، عن إسلام بونابرت.
٢١  Cherfils 52.
٢٢  Corresp. No. 2710.
٢٣  Corresp. No. 2723؛ الجبرتي ٣: ٤-٥.
٢٤  الجبرتي ٣: ٤، ٥؛ Reybaud III, 150–153.
٢٥  الجبرتي ٣: ١٥-١٦؛ نقولا التركي، ٤٣-٤٤.
٢٦  Corresp. No. 3147.
٢٧  Corresp. No. 3176.
٢٨  Corresp. No. 4362.
٢٩  Charles-Roux, Bonaparte, 79–83; Cherfils, 116-7; Reybaud III, 219–21.
٣٠  Corresp. No. 4364 (Au Grand Vizir).
٣١  Corresp. No. 4269 (Au Divan du Caire 21 Juillet 1799).
٣٢  Corresp. No. 3148.
٣٣  Corresp. No. 3077.
٣٤  Ibid. 3731; 3732.
٣٥  Ibid. 3900.
٣٦  Ibid. 3801.
٣٧  Ibid. 4234.
٣٨  Ibid. 4235.
٣٩  Cherfils-Doc. XL. 87–89.
٤٠  Corresp. No. 3952.
٤١  الجبرتي ٣: ٣٨-٣٩؛ Corresp. No. 3785.
٤٢  Corresp. No. 4238.
٤٣  Ibid. 2857.
٤٤  Corresp. Inédite I, 323; Corresp. No. 2837.
٤٥  Reybaud III, 217-8.
٤٦  الجبرتي ٣: ١١.
٤٧  Reybaud III, 229.
٤٨  Corresp. No. 2858.
٤٩  Ibid. 3423.
٥٠  Reybaud III, 218.
٥١  Corresp. No. 3415.
٥٢  نقولا التركي، ٦٤–٦٦.
٥٣  Corresp. No. 2766.
٥٤  Ibid. 2767.
٥٥  Ibid. 2788.
٥٦  Ibid. 2829.
٥٧  Ibid. 2857.
٥٨  Ibid. 2858.
٥٩  Ibid. 2859.
٦٠  Ibid. 2860.
٦١  Ibid. 2883.
٦٢  Ibid. 2885, 2925, 2926, 3247, 3248.
٦٣  Ibid. 2884, 2887, 2890.
٦٤  Ibid. 2896, 2897, 2920, 2949, 2950, 3208.
٦٥  Charles-Roux, Bonaparte, 110.
٦٦  Corresp. No. 2853.
٦٧  Charles-Roux, Bonaparte, 112-113.
٦٨  Corresp. No. 3268.
٦٩  Ibid. 3320.
٧٠  Ibid. 3323.
٧١  Ibid. 3262.
٧٢  Ibid. 3449, 3464, 3472, 3487.
٧٣  Ibid. 3486.
٧٤  Reybaud IV, 138.
٧٥  الجبرتي ٣: ٢٠، ٢١.
٧٦  Corresp. No. 3492.
٧٧  الجبرتي ٣: ٢٥، ٢٦.
٧٨  Reybaud IV, 142–8.
٧٩  Ibid. 139–142.
٨٠  انظر: نقولا التركي، ٦٦.
٨١  Corresp. No. 3524.
٨٢  الجبرتي ٣: ٢٧.
٨٣  نقولا التركي، ٦٨.
٨٤  الجبرتي ٣: ٢٦-٢٧؛ Reybaud IV, 179-180.
٨٥  Corresp. No. 3539 (Au Gén. Reynier).
٨٦  Ibid. 3571.
٨٧  Ibid. 3785.
٨٨  الجبرتي ٣: ٣٨، ٣٩.
٨٩  Corresp. No. 2921.
٩٠  Ibid. 2922.
٩١  Reybaud III, 388.
٩٢  Jonquière II, 590-1.
٩٣  الجبرتي ٣: ٤، ٥.
٩٤  Corresp. No. 2824.
٩٥  نقولا التركي، ٢٩.
٩٦  Corresp. No. 3206.
٩٧  Ibid. 3076.
٩٨  Ibid. 3596.
٩٩  Ibid. 3205.
١٠٠  Pièces Diverses, 97.
١٠١  Corresp. No. 3077.
١٠٢  Reybaud IV, 247.
١٠٣  Jonquière II, 536–39.
١٠٤  Corresp. No. 3644.
١٠٥  Jonquière II, 591-2.
١٠٦  Ibid. 595.
١٠٧  Ibid. 229 Et Sqq.
١٠٨  Corresp. No. 2608.
١٠٩  Ibid. 2703.
١١٠  Bertrand I, 243-4.
١١١  Nelson III, 158.
١١٢  Charles-Roux, L’Angleterre I, 90–97; 108–112 Et Sqq.
١١٣  Barrow I, 234.
١١٤  Nelson III, 216.
١١٥  Charles-Roux, L’Angleterre I, 133.
١١٦  Noradounghian II, 24–27.
١١٧  Ibid. II, 28–31.
١١٨  Charles-Roux, L’Angleterre I, 132.
١١٩  Barrow I, 251–3.
١٢٠  Charles-Roux op. cit. I, 140–2.
١٢١  Barrow I, 235–246; Nelson III, 216–8.
١٢٢  Charles-Roux, op. cit. 141.
١٢٣  Ibid. 114-5.
١٢٤  Corresp. No. 3767.
١٢٥  Reybaud IV, 240, 256.
١٢٦  Ibid. 310–15.
١٢٧  Corresp. No. 3952; Reybaud IV, 257-8.
١٢٨  Corresp. No. 4022.
١٢٩  Ibid. 4025.
١٣٠  الجبرتي ٣: ٥١–٥٣.
١٣١  Reybaud IV, 341–58.
١٣٢  Ibid. 358.
١٣٣  Barrow I, 265, 284.
١٣٤  Reybaud V, 258-9; Barrow I, 193 et. Sqq.
١٣٥  Corresp. Nos. 4044, 4047, 4097.
١٣٦  Reybaud V, 263-4.
١٣٧  Corresp. No. 4124.
١٣٨  Ibid. 4136.
١٣٩  Ibid. 4146.
١٤٠  نقولا التركي، ١٠٤.
١٤١  الجبرتي ٣: ٧٣–٧٥.
١٤٢  Corresp. No. 4188.
١٤٣  Jonquière V, 7 et. Sqq.
١٤٤  Ibid. 65 et. Sqq.
١٤٥  Sidney Smith, 58–102 (Trans of Berthier’s Report, 11 Thermidor); Jonquière V, 395–484.
١٤٦  Pièces Diverses, 118–122.
١٤٧  Corresp. Nos. 4323, 4334.
١٤٨  Berthier-Mémoires (1re Partie) , 165; Jonquière V, 460.
١٤٩  Le Courrier de L’Egypte. No. 35 Du 19 Thermidor VII.
١٥٠  Meurthe 89. أرسله بلفيل Belville القنصل الفرنسي في جنوه على ظهر السفينة أوزيريس Osiris في ٩ فبراير ١٧٩٩م فوصل أبو قير في ٢٦ فبراير.
١٥١  Reybaud VI, 259-60.
١٥٢  Jonquière V, 666–8.
١٥٣  Corresp. No. 4382.
١٥٤  Reybaud VI, 268-9; Ader 263.
١٥٥  Martin I, 394.
١٥٦  Pièces Diverses, 235.
١٥٧  Reybaud VI, 231–58.
١٥٨  Bourrienne-Mémoires II, 304.
١٥٩  Richardot-Neauveaux Mémoires, 188.
١٦٠  Desvernois, 219.
١٦١  Ernouf, 209–12.
١٦٢  Corresp. No. 4197.
١٦٣  Ibid. 4225.
١٦٤  Berthier-Mem. 1re Partie, 170-171.
١٦٥  Reybaud VI, 276–82.
١٦٦  Corresp. No. 4369.
١٦٧  Ibid. 4372.
١٦٨  Ibid. 4373.
١٦٩  Piéces Divérses, 225–8; Jonquière V Chap. III; Corresp. No. 4383.
١٧٠  Corresp. No. 4382.
١٧١  Berthier. op. cit. 181; Ibid. 4374.
١٧٢  Ernouf, 157.
١٧٣  Pajol, 256.
١٧٤  Pajol, 269; Ernouf, 160-1.
١٧٥  Ernouf, 175.
١٧٦  Ibid. 187-8.
١٧٧  Pajol, 229, 303, 307.
١٧٨  Corresp. Nos. 3189, 3210.
١٧٩  Pajol, 305-6.
١٨٠  Corresp. No. 3271.
١٨١  Ibid. 3418.
١٨٢  Ibid. 4088, 4124.
١٨٣  Ernouf, 206–8; Pajol, 328–31.
١٨٤  Galland I, 194.
١٨٥  Corresp. Inédite II, 442.
١٨٦  Corresp. No. 4368 (Ordre du Jour).
١٨٧  Jonquière I, 350–2.
١٨٨  Thibaudeau I, 201.
١٨٩  Pajol, 338-9.
١٩٠  Corresp. No. 4375.
١٩١  Corresp. Inédite II, 454–9; Berthier, op. cit, 188–6; Corresp. No. 4374 (Alex. 22 août 1799).
١٩٢  Corresp. No. 4364.
١٩٣  Jonquière V, 119 Et. Sqq.
١٩٤  Ibid. 597–9.
١٩٥  Ibid. 605-6.
١٩٦  Pajol, 338.
١٩٧  Ibid. 340.
١٩٨  Pajol, 340; Pièces Diverses, 229.
١٩٩  Pièces Officielles (Sec. Part.) Extrait du Courrier, 2–5.
٢٠٠  Rousseau, 31–4; 53-4.
٢٠١  Galli; 141-2.
٢٠٢  Berthier, op. cit. 200.
٢٠٣  Corresp. No. 4376.
٢٠٤  Jonquière V, 639-40.
٢٠٥  Galland I, 190.
٢٠٦  Berthier, op. cit. 200.
٢٠٧  Rousseau, 4-5 Note (1).
٢٠٨  Corresp. No. 4378.
٢٠٩  Berthier, op. cit. 201.
٢١٠  Ernouf, 223.
٢١١  Berthier, op. cit. 201-2.
٢١٢  Jonquière III, 389; Bricard, 331–4.
٢١٣  Desvernois, 219.
٢١٤  Jonquière III, 28-9.
٢١٥  Ernouf, 222.
٢١٦  Rigault, 4-5.
٢١٧  Rousseau, 70.
٢١٨  Pajol, 369.
٢١٩  Copies of Original Letters. Part The Third, 28–37; Rousseau, 76–84.
٢٢٠  Berthier, op. cit. 205; Pajol 358; Ernouf, 225.
٢٢١  Copies of Original Letters, op. cit. 57–66.
٢٢٢  Rigault, 19.
٢٢٣  Ernouf, 225.
٢٢٤  Jonquière I, 355–9.
٢٢٥  Desgenettes I, 177.
٢٢٦  Corresp. No. 3542.
٢٢٧  Rigault, 14.
٢٢٨  Ibid. 14.
٢٢٩  Guitry, 316.
٢٣٠  Rigault, 15.
٢٣١  Galli, 234.
٢٣٢  Berthier, op. cit. 202–4.
٢٣٣  Ibid. 205.
٢٣٤  Ibid. 206–211.
٢٣٥  Berthier, 212–4.
٢٣٦  Ibid. 219.
٢٣٧  Pièces Officielles, op. cit. III.
٢٣٨  Corresp. No. 4364; Corresp. Inédite II, 445–9.
٢٣٩  Charles-Roux, L’Angleterre II, 6; Rousseau, 45 (Note 1).
٢٤٠  Pajol, 352–4; Rousseau, 45–9.
٢٤١  Pajol, 370–2.
٢٤٢  Ibid. 372.
٢٤٣  Rigault, 48.
٢٤٤  Pajol, 374–6 (Le procés verbal de la conference…).
٢٤٥  Rigault, 48 et (Note 3).
٢٤٦  Testa II No. LXXIII, 1-2.
٢٤٧  Pajol, 377-8.
٢٤٨  Barrow I, 381.
٢٤٩  Pièces Officielles, 175.
٢٥٠  Pièces Diverses, 347–50; Ibid. 175–8.
٢٥١  Charles-Roux, L’Angleterre I, 260-1.
٢٥٢  Ibid. II, 25.
٢٥٣  Rousseau, 105-6; Pajol 382; Berthier, op. cit. 386-7.
٢٥٤  Pajol, 382–4.
٢٥٥  Barrow I, 377.
٢٥٦  Pièces Diverses, 243–5.
٢٥٧  Barrow I, 379.
٢٥٨  Pajol, 384–6; Rousseau, 109-10; Berthier, 294–6.
٢٥٩  Charles-Roux; op. cit. II, 26.
٢٦٠  Pièces Officielles, 205-6 (Lettre De… Sidney Smith Au Kléber, à Jaffa 8 Nov. 1799).
٢٦١  Rousseau, 124-5.
٢٦٢  Pajol, 394-5, 400, 406, 408-9, 415; Rigault 57, 59.
٢٦٣  Pajol, 401–5; Rousseau, 135–9.
٢٦٤  Pièces Officielles, 221, 224–6; Pièces Diverses, 382-3; Rigault, 57.
٢٦٥  Pièces Officielles, 231–3; 241-2.
٢٦٦  Ibid. 226–8.
٢٦٧  Pajol, 396-7.
٢٦٨  Berthier, 317-8.
٢٦٩  Pièces Officielles, 220–2; Pajol, 417.
٢٧٠  Rousseau, 175–7; Berthier, 324–6; Pajol, 416-7; Pièces Officielles, 230-1.
٢٧١  Pièc. Offic. 212–14.
٢٧٢  Pajol, 404; Ibid. 206-7.
٢٧٣  Pièces Diverses, 249–52; Bouchard 64 et sqq. (Rapport du Citoyen Feray…).
٢٧٤  Pajol, 418-9.
٢٧٥  Ibid. 424-5.
٢٧٦  Dogureau, 297.
٢٧٧  Rousseau, 162.
٢٧٨  Pièces Diverses, 393; Ibid. 182-3.
٢٧٩  Pièces Diverses, 393–5; Pajol, 426-7; Rousseau, 180-1, 185.
٢٨٠  Rousseau, 184-5.
٢٨١  Berthier, 333–7.
٢٨٢  Ibid. 341.
٢٨٣  Pajol, 430.
٢٨٤  Berthier, 327–9 (Note du Sidney Smith, 20/12/1799).
٢٨٥  Pajol, 432-3.
٢٨٦  Rigault, 61.
٢٨٧  Dogureau, 304.
٢٨٨  Reybaud III, 73.
٢٨٩  Rousseau, 200.
٢٩٠  Pajol, 439; Ibid. 199.
٢٩١  Rousseau, 201.
٢٩٢  Testa II, 7–11; Pièc. Offic. 41–50; Pièc. Diver. 255–62; Pajol, 444–8; etc.
٢٩٣  الجبرتي ٣: ٨٧–٩١؛ نقولا التركي، ١٤١–١٥١.
٢٩٤  الجبرتي ٣: ٩١ (ترجمة تصديق كليبر على الاتفاق).
٢٩٥  Charles-Roux, L’Angl. II, 38.
٢٩٦  Pièc. Offic. 57–9; Rousseau, 220-1.
٢٩٧  الجبرتي ٣: ٩٢؛ Rigault, 65; Bricard, 391, 398.
٢٩٨  Pajol, 443-4; Rousseau, 205-6.
٢٩٩  Pajol, 440–50.
٣٠٠  Rousseau, 213–9; Ibid. 452–6.
٣٠١  Berthier, 283.
٣٠٢  Pajol, 432.
٣٠٣  Morier, 21–4.
٣٠٤  Pajol, 441.
٣٠٥  Pièc. Diver. 268-9.
٣٠٦  Pièc. Offic. 90; Rousseau, 209-10.
٣٠٧  Pièc. Diver. 287-8; Pièc. Offic. 87–9.
٣٠٨  Pièc. Diver. 289–93.
٣٠٩  Jonquière II, 238.
٣١٠  Ibid. III, 108-9.
٣١١  Ibid. 109.
٣١٢  Corresp. No. 3115.
٣١٣  Ibid. 3506.
٣١٤  Marmottan, 81.
٣١٥  Rousseau, 426 (Lettre de Menou, 13/9/1801).
٣١٦  Rigault, 44 (Lettre de Menou, 1/9/1801).
٣١٧  Rousseau, 411.
٣١٨  Ali Bahgat, 224–9 (Acte de mariage de Général Abdallah Menou…).
٣١٩  Rigault, 45; Reybaud VIII, 43-4.
٣٢٠  Jonquière IV, 606; V, 351, 433.
٣٢١  Rigault, 24.
٣٢٢  Berthier, 285.
٣٢٣  Rigault, 25.
٣٢٤  Ibid. 25–8 (Mem. Militaire et Statistique sur L’Egypte. 16 Nivôse an VIII).
٣٢٥  Rigault, 30.
٣٢٦  Rousseau, 192.
٣٢٧  Pièc. Offic. 60–3.
٣٢٨  Rousseau, 223.
٣٢٩  Pièc. Offic. 87.
٣٣٠  Doguereau, 305.
٣٣١  Rigault, 66.
٣٣٢  Pajol, 456.
٣٣٣  Corresp. No. 4526.
٣٣٤  Rousseau, 234.
٣٣٥  Pièc. Diver. 247-8.
٣٣٦  Rousseau, 232.
٣٣٧  Pajol, 457.
٣٣٨  Rousseau, 227-8; Ibid. 457.
٣٣٩  Rousseau, 233.
٣٤٠  Pajol, 459; Rousseau, 236.
٣٤١  Ghorbal, 105-6.
٣٤٢  Pièc. Offic. 263.
٣٤٣  Ibid. 178.
٣٤٤  Charles-Roux, op. cit. II, 42.
٣٤٥  Ghorbal, 107.
٣٤٦  Barrow I, 381.
٣٤٧  Charles-Roux, II, 43.
٣٤٨  Ibid. 44.
٣٤٩  Ibid. 45–7.
٣٥٠  Nelson III, 99.
٣٥١  Barrow I, 9–11.
٣٥٢  Charles-Roux, II, 47.
٣٥٣  Nelson III, 451.
٣٥٤  Ibid. IV, 157-8.
٣٥٥  Ibid. III 296.
٣٥٦  Ibid. IV, 179.
٣٥٧  Ibid. 153.
٣٥٨  Berthier, 354; Barrow II, 9.
٣٥٩  Pièc. Diver. 305-6.
٣٦٠  Charles-Roux, II, 52.
٣٦١  Nelson III, 336.
٣٦٢  Ibid. 296.
٣٦٣  Pièc. Diver. 350 et sqq.; Pièc. Offic. 178 et sqq.; Charles-Roux, II, 15 et sqq.
٣٦٤  Pièc. Offic. 197.
٣٦٥  Ibid. 253.
٣٦٦  Barrow II, 5–8.
٣٦٧  Berthier, 354-5.
٣٦٨  Pièc. Offic. 255-6; Pièc. Diver. 405-6.
٣٦٩  Barrow II, 19.
٣٧٠  Pièc. Offic. 89–94.
٣٧١  Barrow I, 384–91; II, 19–36.
٣٧٢  Ibid. II, 23–5.
٣٧٣  Ibid. I, 384–9.
٣٧٤  Ghorbal, 117; Nelson IV, 213.
٣٧٥  Barrow II, 13-4.
٣٧٦  Nelson IV, 215–7 (Note 1).
٣٧٧  Pièc. Offic. 110–148.
٣٧٨  Bricard, 397.
٣٧٩  Pajol, 465–8.
٣٨٠  Pièc. Offic. 115-6.
٣٨١  Galland I, 247-8; Ibid. 68-9.
٣٨٢  Berthier, 397–410; Pajol, 469 Sqq.; Ader, 308–11.
٣٨٣  Reybaud VIII, 373–95.
٣٨٤  الجبرتي ٣: ٩٥-٩٦.
٣٨٥  Reybaud VII, 406–10.
٣٨٦  Ader, 318.
٣٨٧  Champollion-Figeac, 332-3.
٣٨٨  Pièc. Diver. 123–51; 241-2.
٣٨٩  الجبرتي ٣: ٨٧–٩١.
٣٩٠  Galland I, 240.
٣٩١  الجبرتي ٣: ١٧٥.
٣٩٢  Pièc. Diver. 327.
٣٩٣  Reybaud VII, 424-5.
٣٩٤  Berthier, 417; Ibid. 426-7.
٣٩٥  Pièc. Diver. 328; Galland I, 257-8.
٣٩٦  Berthier, 418.
٣٩٧  Reybaud VII, 428–32.
٣٩٨  نقولا التركي، ١٨٣-١٨٤.
٣٩٩  Ernouf, 258.
٤٠٠  Rigault, 75.
٤٠١  Corresp. Nos. 2921, 2922.
٤٠٢  Pajol, 486.
٤٠٣  Reybaud VII, 444–6; Berthier, 412–28; Galland I, 251–64.
٤٠٤  الجبرتي ٣: ١٠٢–١٠٨.
٤٠٥  الجبرتي ٣: ١٠٩؛ Reybaud VII, 457–62.
٤٠٦  Bertrand II, 349.
٤٠٧  Martin II, 99.
٤٠٨  Reynier, 90.
٤٠٩  Rigault, 73.
٤١٠  Reynier, 95-6.
٤١١  Rousseau, 254.
٤١٢  Pajol, 477-8; Ibid. 257-8.
٤١٣  Rousseau, 258–61.
٤١٤  الجبرتي ٣: ١١٢-١١٣.
٤١٥  Rigault, 77.
٤١٦  الجبرتي ٣: ١١٤؛ Rousseau, 292-3.
٤١٧  Pajol, 487.
٤١٨  الجبرتي ٣: ١١٨.
٤١٩  Rousseau, 297 (Note 1).
٤٢٠  الجبرتي ٣: ١١٨.
٤٢١  Rousseau, 273–7.
٤٢٢  Ibid. 296.
٤٢٣  Ibid. 277–9.
٤٢٤  Pajol, 487.
٤٢٥  Rousseau, 288.
٤٢٦  Pajol, 426; Reynier, 86.
٤٢٧  Reynier, 85.
٤٢٨  Rousseau, 296.
٤٢٩  Martin II, 100.
٤٣٠  Rousseau, 285 (Note 1).
٤٣١  Rigault, 83.
٤٣٢  Testa II, 19-20.
٤٣٣  Rousseau, 285-6.
٤٣٤  Ghorbal, 116, 295-6; Martin II, 109.
٤٣٥  Martin II, 111.
٤٣٦  Rigault, 83.
٤٣٧  Pièc. Diver. 418.
٤٣٨  Extrait du No. 70 du Courrier d’Egypte 21 Prairial an 8 Pièc. Diver. 408–19; Pièc. Offic. 259–74.
٤٣٩  Rigault, 83.
٤٤٠  Rousseau, 299.
٤٤١  Ibid. 301-2.
٤٤٢  الجبرتي ٣: ١٢١-١٢٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥