وكان من الواضح أنه لا يُرجى أي نجاح لجميع تلك المشروعات التي بدأها منو أو
فكَّر فيها من أجل النهوض بالمستعمرة الجديدة وتوطيد أقدام الفرنسيين بها، طالما
كان المصريون يرفضون التعاون مع السادة الجدد، ويتربصون نزول الكوارث بهم، وطالما
كان الإنجليز والعثمانيون قد صحَّ عزمهم على إخراج الفرنسيين من مصر بكل وسيلة. ولا
جدال في أن انصراف المصريين عن مؤازرة الحكم الجديد كان من العوامل التي ساعدت على
إلحاق الهزيمة بجيش الشرق في النهاية عندما عجز منو وقوَّاده عن الصمود أمام قوات
العدو الزاحفة عليهم. وسواء أدرك منو أهمية تعاون المصريين معه لدرء الخطر الخارجي
أم فاته ذلك، فمن الثابت أن قائد الحملة الجديد قد بذل كل ما في وسعه من جهد وحيلة
لاستمالة المصريين إلى الحكم الفرنسي كدعامة من تلك الدعامات التي كان لا غنى عنها
في واقع الأمر إذا شاء منو أن يكفل النجاح لتجربته الاستعمارية. وعلى ذلك فقد كان
تنظيم الحكومة الوطنية من أبرز النواحي التي ظهرت فيها جهود منو الاستعمارية، وكان
قوام هذا التنظيم إعادة النظر في اختصاصات السلطات المحلية من جهة، ثم بحث العلاقات
التي يجب قيامها بين الحكومة المركزية «الفرنسية» وبين أهل البلاد من جهة أخرى. وقد
أقبل منو على معالجة هذه المسائل بكل نشاط وهمة وصادف عند محاولة تحقيق غرضه صعوبات
عدة وبذل في سبيل التغلب عليها جهودًا شاقة مضنية.
فقد دلَّ اغتيال الجنرال كليبر على أن هوة سحيقة كانت تفصل بين الفرنسيين وبين
أهل البلاد والعالم الإسلامي عمومًا؛ ذلك أنه ثبت أن علماء الأزهر كانوا قد
استضافوا سليمان الحلبي قاتل الجنرال كليبر أسابيع عدة، كما أن أحدًا من هؤلاء لم
يبلغ عن سليمان شيئًا، مع أنه أفضى إلى جماعة من هؤلاء الشيوخ بما كان يعتزمه،
ونهاه فريقٌ منهم عن ارتكاب فعلته، وقد حُكِم على هؤلاء بالإعدام كشركاء له في
الجريمة. وفضلًا عن ذلك فإن القاهريين لم يلزموا الهدوء والسكينة بعد ذلك إلَّا
نتيجة لما حل بهم من كوارث على أثر تلك المغارم الفادحة التي فرضها الفرنسيون
عليهم، وبسبب إهانتهم وما ذاقوه على أيديهم من سوء المعاملة بعد مقتل كبيرهم. ومع
ذلك فقد ظلَّ منو على الرغم من هذا كله يعتقد أن في وسعه أن يضيِّق شقة الخلاف بين
الفرنسيين والمصريين ويستل سخيمة الأخيرين إذا هو استطاع أن يبدأ عهدًا جديدًا من
الحكم، فاستبدل الفرنسيون بسوء المعاملة التودد إلى المصريين واجتذاب قلوبهم،
وحاولوا أن يحكموا بينهم بالعدل والقسطاس.
الديوان
ونظَّم منو الحكومة المركزية في القاهرة والحكومة الإقليمية في المديريات،
فاتَّخذ القاهرة مركزًا للقيادة العامة العسكرية، على أن تُضم إليها المدينة
ذاتها والقلعة والحصون المجاورة لها ومصر القديمة وجزيرة الروضة، ثم ألحق بها
السويس ووضع بليار على رأس حكومة القاهرة، وفي الأقاليم عهد بالحكم إلى القواد
الفرنسيين في مديريات القطر الثماني. وصار هؤلاء متمتعين بسلطات واسعة على
اعتبار أنهم يمارسون في واقع الأمر تلك السلطات التي مارسها البكوات المماليك
والكشاف من قبل، فأقر منو في ديسمبر سنة ١٨٠٠م
٨١ أن يظل لهؤلاء الحكام التمتع بهذه السلطة الكبيرة فيما يتصل
«بالأمور العسكرية وشئون الأمن والدفاع عن البلاد وأهلها»، كما خوَّلهم الحق في
إلقاء القبض على كل الذين يجرءون على تعكير صفو الأمن. ولم يقتصر عمل هؤلاء
الحكَّام على ملاحظة شئون الدفاع والأمن، بل طلب إليهم كذلك أن يزودوا الحكومة
المركزية بالمعلومات المتعلقة «بطبيعة البلاد ومسائل التجارة وحال القنوات
وشئون السكان»، فيدوِّن الحكام هذه المعلومات في سجلات خاصة، بينما يفردون
غيرها لكل ما يتصل بأعمال البوليس ووسائل الدفاع العسكرية. وحفظ منو لنفسه
بوصفه قائد الحملة العام أن يعيِّن مشايخ البلد في القرى، وقد تحتم على هؤلاء
ابتداء من ٢٣ سبتمبر سنة ١٨٠٠م أن يحصلوا على «فرمان» جديد من منو يخوِّلهم الحق
في مزاولة أعمالهم.
٨٢
ووصف الشيخ الجبرتي هذا الترتيب، فقال في حوادث شهر جمادى الثانية سنة ١٢١٥ﻫ
(أكتوبر-نوفمبر سنة ١٨٠٠م): «وفيه قرروا على مشايخ البلدان مقررات يقومون بدفعها
كل سنة؛ أعلى وأوسط وأدنى، فالأعلى وهو ما كانت بلده ألف فدان فأكثر خمسمائة
ريال، وجعلوا الشيخ سليمان الفيومي وكيلًا في ذلك فيكون عبارة عن شيخ المشايخ،
وعليه حساب ذلك، وهو من تحت الوكيل الفرنساوي الذي يُقال له بريزون
Brizon. غير أنه لما كان هذا الترتيب الجديد قد
جاء مصحوبًا بجمع المال من مشايخ البلاد، فإنه سرعان ما أثار السخط ضد منو،
فقال الشيخ الجبرتي: «فلما شاع ذلك ضجَّت مشايخ البلاد لأن منهم من لا يملك
عشاءه، فاتفقوا على أن وزعوا ذلك على الأطيان وزادت في الخراج، واستلموا
البلاد والكفور من القبطة فأملوها عليهم حتى الكفور التي خربت من مدة سنين، بل
سمُّوا أسماء من غير مسميات.»
٨٣
وتناول منو موضوع الدواوين في القاهرة والأقاليم، فأعاد البحث والفحص، ومن
المعروف على نحو ما تقدم أن ديوان القاهرة كان قد أُنشئ في أول الأمر في ٢٥
يوليو سنة ١٧٩٨م، ثم تبعه إنشاء دواوين الأقاليم في ٢٧ يوليو من العام نفسه، ثم
عُطِّل ديوان القاهرة عقب ثورة القاهريين الأولى، وأُعيد تأليفه في ٢١ ديسمبر
سنة ١٧٩٨م من ديوانين: كبير أو عمومي ثم خصوصي أو ديمومي، كما أن بونابرت كان قد
أعاد تنظيم دواوين الأقاليم في ٢٠ أكتوبر.
٨٤ ومما تجدر ملاحظته أنه لا يوجد ما يثبت قطعًا أن ديوان القاهرة قد
دُعي إلى الانعقاد أيام الجنرال كليبر بعد انتصار هذا القائد في موقعة
هليوبوليس. كما أن دواوين الأقاليم كانت قد انحلت منذ أن عُقِد اتفاق العريش،
ولم يعد كليبر إنشاءها لزعمه أن هذه الدواوين الإقليمية عديمة الجدوى. بل إنه
من المحتمل كذلك أن محاكم القضايا التي شكلها بونابرت في القاهرة والإسكندرية
ورشيد ودمياط لم تستمر في عملها وانحلت تمامًا في عهد الجنرال كليبر. وعلى ذلك
فقد بات من نصيب منو أن ينظر في كل هذه الأمور لإعادة تنظيم الدواوين والمحاكم،
وكان من رأيه بعد الفحص والدرس أن يكتفي الفرنسيون بإعادة تشكيل ديوان القاهرة
فحسب والاستغناء عن دواوين الأقاليم، ثم العمل على دعم أركان الديوان، وذلك
بأن يصبح لأعضاء هذا الديوان حق تفسير القوانين الإسلامية من جهة، ثم الإشراف
بصورة جدية على المحاكم الوطنية من جهة أخرى؛ لأن هذه المحاكم إنما كانت تستند
في أعمالها إلى أحكام الشريعة المحمدية.
وقد ترتب على الرغبة في تنظيم المحاكم الوطنية البحث من جديد في تنظيم
شئون القضاء عمومًا في هذه المستعمرة الناشئة. وعلى ذلك أصدر منو أمرًا في ٢٢
أغسطس سنة ١٨٠٠م
٨٥ بتأليف لجنة من فورييه وبوضوط ورجنييه
Régnier كي تبحث «موضوع إنشاء المحاكم والطريقة التي تُملأ
بها وظائف القضاء، ثم ما يمكن إدخاله من تغييرات مفيدة لتحديد الرسوم
القضائية»، وذلك كله إلى جانب ما قد يحيله القائد العام على هذه اللجنة من
مسائل الإدارة الداخلية وما يجب أن يقوم من علائق بين الحكومة الفرنسية وأهل
البلاد. وفضلًا عن ذلك فقد طلب منو إليهم أن يستشيروا أعضاء لجنة أخرى أزمع
تأليفها من المشايخ والعلماء الذين في وسعهم أن يعاونوا فورييه وزملاءه على فهم
هذه المسائل.
٨٦
وفي ٢ أكتوبر سنة ١٨٠٠م صدر أمر منو بتنظيم القضاء وإعادة تشكيل ديوان القاهرة
في وقت واحد،
٨٧ فاشتمل هذا الأمر على مقدمة وعدة مواد، جاء في المقدمة: «إنه لما
كان نشر العدالة بين أهل البلاد الخاضعة للإدارة الحكومية من أهم واجبات
الحكومة القائمة، كما أن من واجب هذه الحكومة إنشاء المحاكم التي تفصل في قضايا
الأهالي المدنية وتوقيع العقوبة على المذنبين والمجرمين الذين يأثمون ضد
النظام العام والمجتمع، فقد تقرر أن تكون الأحكام الصادرة من المحاكم القائمة
في مصر — أو التي تقوم في المستقبل — باسم حكومة الجمهورية الفرنسية، كما تُعتبر
جميع وظائف القضاء في مصر شاغرة ولا يشغلها أحد ابتداء من ٢٣ سبتمبر سنة ١٨٠٠م،
فيستمر القائمون فعلًا بشئون القضاء في تأدية أعمالهم بصورة «مؤقتة»؛ وذلك حتى
يصدر الأمر بالتعيينات الجديدة اللازمة لملء هذه الوظائف.» وتناولت مواد هذا
الأمر الترتيب المزمع إنشاؤه، فتحدثت بعض هذه المواد عن تأليف ديوان القاهرة
واختيار الأشخاص اللائقين لملء مناصب القضاء بمعرفة أعضاء الديوان، ثم تنظيم
شئون القضاء عمومًا. ولذلك كان لأمر أو «قانون» ٢ أكتوبر سنة ١٨٠٠م أهمية كبرى
في تاريخ تلك الحكومة الوطنية التي شاء منو أن يتخذ منها دعامة قوية لضمان نجاح
تجربته الاستعمارية.
أمَّا فيما يتعلق بتشكيل ديوان القاهرة الجديد والغرض من دعوته، فقد نصت
المادة الثالثة على أن يتألف هذا الديوان من المشايخ وغيرهم من المسلمين الذين
اشتُهروا بالتقوى والورع والعلم والنزاهة؛ وذلك بأن ينتخب علماء القاهرة
والإسكندرية ورشيد ودمياط وسائر مدن القطر الكثيرة هؤلاء الأعضاء، وبيَّن منو
الغرض من دعوة الديوان بقوله: «إن هذه الجماعة من أكابر علماء مصر إنما تتخذ
مركزها بين الحكومة الفرنسية وبين المسلمين من المصريين بصورة تمكِّنها من
السهر على تطبيق القانون والإشراف على إدارة الجوامع والتكايا والأوقاف ومراقبة
شئون التعليم الشعبي، إلى جانب إعداد قافلة الحج الذاهبة إلى مكة، ثم ملاحظة
عادات البلاد الدينية والوطنية وصونها والعمل على تأييدها ودعمها.» وفضلًا عن
ذلك فمن بين مهام الديوان أن ينقل إلى أهل مصر ما توجهه إليهم الحكومة من
منشورات، كما أن من الواجب عليه أن يعرض على الحكومة مطالب الأهالي، على أن
يكون اتصال هذا الديوان بالقائد العام مباشرة. وفي المادة الثالثة جعل عدد
أعضاء الديوان تسعة «أصليين» يحضرون جلسات الديوان ثلاث مرات في كل فترة عشرية،
وتُصرف لهم مرتبات يأتي تحديدها في أمر منفصل يصدر فيما بعد. وكان إلى جانب
هؤلاء الأعضاء الأصليين أربعة عشر عضوًا من «أعضاء الشرف»، يختارهم القائد
العام متى وكيف شاء، حتى من بين عظماء القبط والشوام والأروام، لحضور الجلسات،
على أن يكون لهؤلاء صوتٌ استشاري فحسب. وينتخب أعضاء الديوان بعد كل ثلاثة شهور
رئيسًا وسكرتيرًا يمكن إعادة انتخابهما في الدورات التالية. ويدعو القائد العام
لجنة من الفرنسيين يسمِّي أعضاءها بنفسه لحضور جلسات الديوان؛ وذلك لضمان
تنفيذ أوامر الحكومة ولملاحظة أعمال الديوان، وتصحيح ما قد يقع من أخطاء في
أثناء جلساته، ومنع أعضاء الديوان من تعدي اختصاصاتهم. وكان من وظائف هذه
اللجنة الفرنسية إلى جانب ذلك الإشراف على الإدارة القضائية في البلاد. ثم
عُيِّن للديوان مكان لاجتماعه، فلا يجوز له أن يعقد جلساته في غيره، ومُنع
الديوان من عقد جلسات غير عادية إلَّا بإذنٍ من القائد العام، فإذا خالف ذلك
كان جزاؤه الانحلال، كما مُنع من استصدار أو إذاعة أية منشورات من غير تصريح
بذلك من القائد العام نفسه.
وفي المادة السابعة نُظِّمت شئون القضاء، فنصَّت هذه المادة على أن يعقد
الديوان جلسته الأولى في بداية شهر فندميير (سبتمبر)، فيعمد أعضاؤه إلى إعداد
قائمة بأسماء الأشخاص الذين ينعقد على اختيارهم لملء الوظائف القضائية رأي
أكثرية الأعضاء، وعلى شريطة أن تشتمل هذه القائمة المقدمة إلى الحكومة على
ثلاثة أسماء يُرشَّح أصحابها لمنصب قاضي القضاة في القاهرة؛ وذلك حتى يختار
القائد العام واحدًا من بينهم لملء هذا المنصب، ثم أسماء الأفراد الذين يختارهم
الديوان لملء المناصب القضائية في المديريات، على أن يكون كل هؤلاء من الذين
وُلدوا في مصر أو أقاموا في هذه البلاد عشر سنوات. وقد تُرك لقاضي القضاة الحق
في أن يعيِّن من ينوبون عنه في محاكم القاهرة ومصر القديمة وبولاق، بينما ترك
للقضاة الآخرين الحق في تعيين من ينوبون عنهم في محاكم المديريات كذلك. ومن
ضروب الإصلاح التي أدخلها منو أنه أبطل في مواد هذا الأمر التالية تقديم
العطايا والهدايا للقضاة أو من ينوبون عنهم وإلى الكتبة وسائر موظفي المحاكم،
كما وعد بإعداد فئات معينة للرسوم القضائية.
وعهد منو بتنفيذ القوانين والأحكام الإسلامية إلى السلطة العسكرية، فرجالها
هم الذين يقبضون على المذنبين الذين تصدر الأحكام ضدهم أو يصيبون سمعة سيئة
بسبب ما يرتكبونه من آثام ضد المجتمع. كما أنه بات من اختصاص السلطة العسكرية
كذلك جمع الأدلة التي يستند إليها القضاة في إصدار أحكامهم، ثم القيام بتنفيذ
ما يوقعه هؤلاء من أحكام على المذنبين أو المجرمين بكل سرعة. وحرَّم منو على
ممثلي السلطة العسكرية التدخل في أعمال القضاء حرصًا على العدالة، عندما كان
ضمان العدالة منوطًا على حد قوله بنزاهة القضاة أنفسهم وحكمتهم. وأشرك منو مع
السلطة العسكرية في القبض على القتلة والأشرار والسارقين ومن إليهم «السلطة
العمومية» التي كان من حقها كذلك أن تقدم كل هؤلاء للمحاكمة وفق قوانين البلاد
الجنائية.
وتناول منو في المادة الرابعة عشرة وفي المواد التالية بعض هذه «القوانين»
بالمحو أو التعديل، فكان أظهر ما أدخله على هذه القوانين رفض مبدأ «الدية» أو
ثمن الدم، وكان قد جرى العرف على أن القاتل في استطاعته الإفلات من العقوبة إذا
هو دفع مبلغًا من المال إلى أسرة المقتول «ثمنًا لدمه». وزيادة على ذلك فقد رفض
منو أن يترك لأسرة المقتول مطاردة القاتل والاقتصاص منه أخذًا بالثأر وإشباعًا
لشهوة الانتقام، وذلك بدلًا من رفع الخصومة إلى القضاء والرضوخ لأحكامه. وعلى
ذلك فقد منعت المادة الرابعة عشرة القضاة من إبدال عقوبة الإعدام بغيرها، كما
منعتهم من قبول الوساطة في ذلك. وتعهدت الحكومة بالقيام على حمايتهم ومنع الأذى
عنهم عند تأديتهم هذا الواجب، واعتبرت من يجرءون على تهديد القضاة شركاء في
الجريمة.
وجاء في المادة السابعة عشرة أن علماء «الديوان في القاهرة يؤلفون هيئة
قضائية عليا»، ومن حقهم أن يقترحوا عزل القضاة الذين لا يؤدون واجباتهم على
الوجه الأكمل، وكذلك جميع الموظفين في المحاكم، فضلًا عن إلغاء الأحكام أو
تعديلها إذا فشلت هذه في تحقيق العدالة، ثم خفض الرسوم القضائية إذا زادت عن
القدر المقرر. وبذلك أضحى ديوان القاهرة شبيهًا بمحكمة عليا استئنافية. فوضح
منو في المادة التالية (الثامنة عشرة) الطريقة التي يمارس بها الديوان سلطته
القضائية عندما يطلب أحد طرفَي الخصومة استئناف حكم من الأحكام التي أصدرها أحد
القضاة في المسائل المدنية والجنائية، فكان على طالب الاستئناف أن يقدم طلبه في
ذلك خلال ستة أيام في القضايا المدنية وأربعة أيام فحسب في القضايا الجنائية،
على شريطة أن يصحب هذا الطلب فتوى صادرة من مفتي المذاهب الأربعة تنص على عدم
موافقة هؤلاء على طريقة المحاكمة التي حدثت، أو اعتبار الحكم الصادر في نظرهم
مخالفًا للقانون؛ حتى إذا جاءت هذه الفتوى قبل الاستئناف وبحث أعضاء الديوان
الدعوى المستأنفة من جديد، فإذا وافق عندئذٍ ثلثا الأعضاء الحاضرين على حكم
القاضي نفذ هذا الحكم، أمَّا إذا عارض ثلثا الأعضاء على الأقل فيبطل الحكم،
وأرسل الديوان قراره الجديد إلى القاضي، حتى يقوم هذا بتسجيله وعندئذٍ يجري
تنفيذ القرار أو الحكم الجديد مباشرة.
وتناول منو تنظيم القضاء بين أهل الطوائف غير الإسلامية المقيمة في مصر عدا
الفرنسيين. فنص الأمر الصادر في ٢ أكتوبر على إنشاء محكمة لكل طائفة من طوائف
القبط والشوام والأروام واليهود وغير ذلك من الطوائف الأخرى ما دام أهلها من
غير المسلمين ومن غير الفرنسيين، وعلى شريطة أن يكونوا كذلك قد وُلدوا في مصر أو
يقيمون بها. فيتولى كبير كل طائفة رياسة المحكمة التي يحضرها عضوان يعيِّنهما
القائد العام. وشمل اختصاص هذه المحاكم الطائفية جميع القضايا المدنية بين
أفراد الطائفة، ولو أن ذلك لم يمنع من عرض هذه القضايا على القاضي الإسلامي
طالما رغب في ذلك أحد طرفَي الخصومة، وكانت المحكمة الطائفية قد بحثت الدعوى من
قبل. وفضلًا عن ذلك فقد كان في وسع المتخاصمَين أن يلجآ إلى المحكمة الإسلامية
مباشرة إذا اتفقت كلمتهما على ذلك، كما كان للمتقاضيَين الحق دائمًا في استئناف
دعواهما أمام القاضي الإسلامي إذا طلب أحدهما ذلك، وللقاضي الإسلامي أن يصدر ما
يراه من أحكام على شريطة عدم تنفيذ هذه الأحكام حتى تُعرَض أولًّا على الحكومة
التي تصدر ما يلزم من أوامر لتنفيذها. وكان من حق قاضي المحكمة الإسلامية أن
ينظر الدعاوى التي يكون أصحابها من غير الفرنسيين ويختلفون في الدين والجنس
ويتعذر عليهم الاتفاق على محكمة أخرى. أمَّا إذا اتفق طرفا الخصومة على تقديم
دعواهما أمام محكمة معينة غير المحكمة الإسلامية، فقد امتنع عليهما حينئذٍ
استئناف هذه الدعوى أمام القاضي الإسلامي. وقد تحدد شهر فندميير (أي ابتداءً
من ٢٣ سبتمبر سنة ١٨٠٠م) لتنفيذ هذا النظام «على أن يجري تطبيقه في جميع
الأقاليم بما في ذلك تلك الأقاليم التي يتولى إدارتها مراد بك أمير وحاكم
الصعيد باسم الجمهورية الفرنسية.»
وهكذا تضمَّن «قانون» ٢ أكتوبر سنة ١٨٠٠م إنشاء ديوان القاهرة، وإنشاء المحاكم
القضائية إلى جانب تنظيم القضاء عمومًا. وقد اختلف تنظيم الديوان الجديد عن
ديوان بونابرت السابق، فجعل منو ديوانه من مجلس واحد، ورسم اختصاصاته بصورة
واضحة، فقصر نشاط الديوان على الشئون القضائية، تلك الناحية التي اعتقد منو أن
في استطاعة العلماء والشيوخ إذا هم تفرغوا لأعمالهم فيها أن يسْدوا خدمات جليلة
للقضاء في هذه البلاد، وأن يصبحوا أداة فعالة لضمان العدالة فضلًا عن ضمان
استقامة الأمور في المساجد وأماكن «التعليم الشعبي» بفضل إشرافهم على إدارتها
جميعًا، وقد كانت هذه مسائل تتصل اتصالًا وثيقًا بعقائد المصريين وتقاليدهم
وعاداتهم. وصف الشيخ الجبرتي هذا الديوان فقال في حوادث شهر جمادى الثانية سنة ١٢١٥ﻫ:
٨٨ «وفيه شرعوا في ترتيب الديوان على نسق غير الأول من تسعة أنفار
متعممين لا غير، وليس فيهم قبطي ولا وجاقلي ولا شامي ولا غير ذلك، وليس فيه
خصوصي وعمومي على ما سبق شرحه، بل هو ديوان واحد مركب من تسعة رؤساء هم: الشيخ
الشرقاوي رئيس الديوان، والمهدي كاتب السر، والشيخ الأمير، والشيخ الصاوي
وكاتبه (أي الشيخ عبد الرحمن الجبرتي نفسه)، والشيخ موسى السرسي، والشيخ خليل
البكري، والسيد علي الرشيدي نسيب ساري عسكر، والشيخ الفيومي، والقاضي الشيخ
إسماعيل الزرقاني، وكاتب سلسلة التاريخ السيد إسماعيل الخشاب، والشيخ علي كاتب
عربي، وقاسم أفندي كاتب رومي، وترجمان كبير القس روفائيل، وترجمان صغير إلياس
فخر الشامي، والوكيل الكمثاري فورييه، ويقال له مدبِّر سياسة الأحكام الشرعية،
ومقدم وخمسة قواسة، واختاروا لذلك بيت رشوان بيك الذي بحارة عابدين وكان
يسكنه برطلمان … وأعدُّوا للمترجمين والكتبة من الفرنساوية مكانًا خاصًّا
يجلسون به في غير وقت الديوان على الدوام لترجمة أوراق الوقائع وغيرها، وجعلوا
لها خزائن للسجلات، وفتحوا أيضًا بجانبها دارًا نفذوها إليها وشرعوا في تعميرها
وتأنيقها وسمَّوها بمحكمة المتجر، وأخذوا يرتبون أنفارًا من تجَّار المسلمين
والنصارى يجلسون بها للنظر في القضايا المتعلقة بقوانين التجار، والكبير على
ذلك كله فورييه، ولم يتم ذلك المكان الثاني.»
ولما كان منو قد اقتنع بأنه قام بإصلاحات كثيرة، فقد بات ينتظر أن تأتي هذه
بثمرتها المنشودة، كما انتظر أن يشاطره المصريون التفاؤل بهذه التنظيمات
الجديدة والرضا عنها. وفي نشوة من نشواته أصدر منشورًا أو نداءً موجَّهًا إلى
أهل مصر في ٢٨ أكتوبر سنة ١٨٠٠م،
٨٩ تحدث فيه عن إصلاحاته التي اتخذها، ثم عن تلك الإصلاحات التي يعتزم
إجراءها، وطالب المصريين بأن يعترفوا بصنيع فرنسا وأياديها البيضاء عليهم،
بعدما كان المصريون يعيشون في بؤس وتعاسة، فجاءت الجيوش الفرنسية إلى هذه
البلاد تحرر أهلها من الشقاء وتشيع بين ظهرانَيْهم السعادة، واعتبر الفرنسيون
المصريين إخوة لهم فعُنوا بأمرهم وأحسنوا معاملتهم، وأصدر منو أوامر عدة لإصلاح
شئونهم ورفع الظلم عنهم، فوضع للضرائب نظامًا ثابتًا لا يتغير بعد أن ألغى
عددًا عظيمًا منها، ومنع الملتزمين ومشايخ البلد من إرهاق الأهلين وإثقال
كواهلهم بالمغارم والإتاوات وما إليها، ونظَّم القضاء فبات سير العدالة مضمونًا
دون حاجة لتقديم الهدايا والرشاوى للقضاة، وحفظ الأمن وكفل للمصريين حصولهم على
أثمان كل ما يقدِّمونه من مؤن وأغذية للجنود الفرنسيين في مختلف المديريات، ذلك
أنه قد صدرت إليه على حد قوله «أوامر الجمهورية الفرنسية وأوامر القنصل بونابرت
ليعمل جادًّا ودون أن يغفل لحظة حتى ينعم المصريون بالسعادة ويشعروا بالغبطة
والسرور.» وقد اختتم منو هذا المنشور الطويل بتقديم النصح للمصريين أن يلزموا
الهدوء والسكينة، وتوعد بإنزال العقوبة الصارمة بكل من يجرؤ على الإخلال
بالنظام، فأعاد إلى أذهانهم ما حلَّ بأهل بولاق من عقاب صارم تأديبًا لهم على
ثورتهم.
وكان ديوان القاهرة أداة طيبة في يد منو، فلم يُعرف عن أعضائه أنهم اعترضوا
على شيءٍ مما طلبه منهم أن يفعلوه، ولم يُبدِ عضو استقلالًا في الرأي، ولم يجرؤ
أحد على الوقوف موقف المعارضة ومحاولة مناقشة مسألة من المسائل التي كان يفرضها
الفرنسيون على أعضاء الديوان فرضًا، حتى إن كثيرين من المؤرخين توهموا بسبب ذلك
كله أن الديوان كان يتعاون مع الجنرال معاونة كاملة وثيقة، دليل الرضا عن
حكومته والخضوع لسلطان الفرنسيين عن رغبة وارتياح. ومع ذلك فقد كان لهذا
«الخضوع» الظاهري أسباب عدة، لعل أهمها تمسك أعضاء الديوان بخطة «المداراة
والتريث» بعد كل تلك العقوبات الصارمة التي أنزلها الفرنسيون بالقاهريين عقب
ثوراتهم السابقة، وانشغال العلماء والمشايخ إلى جانب سائر القاهريين بتدبير
الأموال لدفع الغرامات الفادحة التي طُولبوا بها، وانتظار الفرج في وقت كان من
المتوقع فيه أن يبدأ العثمانيون وحلفاؤهم الإنجليز الزحف على الحدود المصرية
والهجوم على جيش الشرق وطرد «الحملة» من الأراضي المصرية. وعلى ذلك فقد ظل
الديوان يجيب رغبات منو مسايرة ومداراة له، فقد حدث في ١٦ أكتوبر سنة ١٨٠٠م أن
أشار منو على أعضاء ديوانه بأن يرسلوا تهنئة إلى بونابرت بمناسبة وصوله إلى
أرفع مناصب حكومة الجمهورية الفرنسية، وأن ينتهز الأعضاء هذه الفرصة فيُبدوا
رغبتهم في انضمام مصر إلى فرنسا نهائيًّا،
٩٠ فبادر المشايخ: البكري والشرقاوي ومحمد الأمير والمهدي والصاوي
والفيومي والسيد علي الرشيدي وعبد الرحمن الجبرتي بإعداد خطاب في هذا المعنى،
قُرئ بالديوان
٩١ في ٢٤ جمادى الثاني ١٢١٥ﻫ/١٣ نوفمبر سنة ١٨٠٠م، ثم تقرر حفظه في سجل
الديوان، فأُثبِت هذا الخطاب في سجل الديوان بإشراف كل من: الشيخ إسماعيل
الزرقاني القاضي، والسيد إسماعيل الخشَّاب «وثائقي» الديوان وكاتب سلسلة
التاريخ.
وفي هذا الخطاب
٩٢ هنأ العلماء بونابرت على منصبه الجديد، وأثنوا عليه ثناءً عاطرًا،
وأبدوا أسفهم لاضطراره إلى مغادرة هذه البلاد حتى يخلِّص فرنسا من أعدائها،
ووصفوه بسيف الله المسلول، ثم قالوا: «ونحن إذا قلنا إن المصريين يؤلفون مع
الفرنسيين أمة واحدة لأصبنا في هذا القول كبد الحقيقة. ويرجع الفضل في توثيق
عُرى هذا الاتحاد يومًا بعد يومٍ إلى ما أبداه من عناية فائقة بأمر هذا التآلف
صديقنا عبد الله منو صاحب الصيت الذائع والمقام الرفيع الذي حباه المولى
بالحكمة وسداد الرأي، رعاه الله بعين عنايته وأثابه خيرًا على ما يفيض به من
رأفة وحنان»، وشكر العلماء المولى سبحانه وتعالى الذي ألهم بونابرت اختيار عبد
الله منو حاكمًا على مصر، ثم قالوا في ختام رسالتهم: «ونحن إنما نطلب إليكم
ألَّا تغفلوا أمر مصر فيسدل النسيان عليها حجابًا؛ ذلك أن مصر هي بلادكم، ولا
شكَّ في أن شرف عاصمتها هو شرفكم، وأمَّا أهلها فهم يكنُّون لكم كل محبةٍ
وتقدير، ويترقبون عودتكم إليهم بفارغ الصبر. إن الدين الإسلامي الذي ظفر
بتقديركم ليدعوكم إلى المجيء إلى هذه البلاد مرة أخرى، ولقد وعدتم أنتم بذلك
فلا تخلفوا وعدكم، ولن يطول الأمد على تمام الاتحاد بين الأمتين، فلا معدى عن
حدوث ذلك في يوم قريب، وإن هذا اليوم آتٍ لا ريب فيه؛ لأن المولى عز وجل قد
أراد ذلك ولا مناص من تنفيذ إرادته.»
وإذا كان أعضاء الديوان قد درجوا على «مداراة» منو فأجابوه إلى ما طلبه منهم
خوفًا من الاصطدام معه في مسائل كثيرة، فقد وجد الأعضاء في بعض المسائل التي
عرضها منو عليهم مزايا صادفت هوى في نفوسهم فأقبلوا على معالجتها بكل همة.
ولما كان منو قد اصطنع الحكمة والتأني فلم يشأ أن يفرض إرادته فرضًا في
المسائل التي اعتبرها ذات صلة وثيقة بأحكام الشريعة الإسلامية أو بعادات
وتقاليد البلاد القديمة؛ فقد ظهر من آن لآخر أن هناك تعاونًا كاملًا بين
الديوان وبين حكومة منو من شأنه أن يعزو في ظاهر الأمور على الأقل النجاح إلى
منو في تجربة حكومته الوطنية، من ذلك «مسألة ضبط الأنساب ومعرفة الأعمار» التي
عرضها منو على أعضاء الديوان، فانبرى هؤلاء يبحثونها ويقرون وجهة نظر منو،
ويكملون ما بدا لهم من نقص في مشروعه الجديد. وقد شرح الشيخ الجبرتي هذه
المسألة وما دار بشأنها من مناقشات في الديوان، فقال في حوادث ١٦ شعبان سنة
١٢١٥ﻫ و٢ يناير سنة ١٨٠١م:
٩٣ «إن ساري عسكر أمر وكيل الديوان أن يذكر لمشايخ الديوان قصده ضبط
وإحصاء من يموت ويولد من المسلمين، وأخبرهم أن ساري عسكر بونابرته كان في عزمه
ذلك وأن يُقيَّد له من يتصدى لذلك ويرتبه ويدبره ويعمل له جامكية وافرة فلم يتم
مرامه، والآن يريد تتميم ذلك ويطلب منهم التدبر في ذلك وكيف يكون، وذكر لهم أن
في ذلك حِكَمًا وفوائد، منها ضبط الأنساب ومعرفة الأعمار، فقال بعض الحاضرين:
وفيه معرفة انقضاء عدة الأزواج أيضًا. ثم اتفق الرأي على أن يُعلموا بذلك قلقات
الحارات والأخطاط، وهم يقيدون على مشايخ الحارات والأخطاط بالتفحص عن ذلك من
خدمة الموتى والمغسلين والنساء القوابل وما في معنى ذلك. ثم ذكر الوكيل أن ساري
عسكر وُلد له مولود فينبغي أن تكتبوا له تهنئة بذلك المولود الذي وُلِد له من
المرأة المسلمة الرشيدية، وجوابًا عن هذا الرأي، فكتبوا ذلك في ورقة كبيرة
وأوصلها إليه الوكيل فورييه.»
ومع أن الشيخ الجبرتي لم يُثبت في تاريخه صورة هذه الورقة، فقد ترجمها
جالان في كتابه، وهي مؤرخة في ١٦ شعبان سنة ١٢١٥ﻫ و٢ يناير سنة ١٨٠١م،
٩٤ أمضاها عبد الله الشرقاوي رئيس الديوان ومحمد المهدي سكرتير
الديوان. بدأ العلماء رسالتهم الطويلة بالثناء على بونابرت ثم على منو، فمدحوا
بونابرت «الذي اتخذ قرارًا مفيدًا من أجل إعداد سجلات لقيد أسماء الموتى في
مدينة القاهرة»؛ إذ بفضل هذا القرار الحكيم يتسنى تنظيم أعمال الحكومة. على أنه
كان من الضروري كذلك لإتمام هذا التنظيم أن تعد سجلات أخرى تقيد أسماء
المواليد، حتى يمكن بفضل ذلك جميعه معرفة عدد الوفيات والمواليد في القاهرة
وسائر المدن، ثم قالوا: «وإليك وحدك أيها القائد — ويقصدون الجنرال منو — الذي
أراد القدر على ما يبدو أن يجري على يديك إتمام وإنجاز مشروعات بونابرت العظيم
بأسرها، يرجع الفضل في إظهار الرغبة في بلوغ نظام سجلات الوفيات والمواليد
غايته. وقد أكَّدنا للمواطن فورييه قومسيير الحكومة أن هذا النظام سوف يلقى
تأييدًا كاملًا من جانب العقلاء والمعروفين بالحكمة وسداد الرأي من أهل هذه
البلاد جميعهم، ورجوناه أن يرفع إليك ما انعقد عليه رأي الديوان في ذلك.»
واحتضن أعضاء الديوان أنفسهم هذا المشروع وتحدثوا عنه كأنهم أصحابه ومبتدعوه،
فتحدثوا عن فوائد هذا النظام «الذي يطلبونه»، وأهمها إحكام توزيع التركات،
والوقوف على هوية الأفراد ومعرفة حقيقة أعمارهم، والوقوف على حال كل أسرة،
فيتسنى حينئذٍ ضبط عقود زواج السيدات من مطلقات وأرامل، فلا تستطيع إحداهن
الزواج قبل انقضاء عدتها، فضلًا عن أن من مزايا إعداد سجلات المواليد ضبط
مسائل البنوة الشرعية والتحقق منها؛ ولذلك «يقترح» الديوان على منو أن يصدر
أوامره إلى الحكام في كل مديرية أن يهيئوا سجلات كاملة للمواليد والوفيات، يدوَّن
بها جنس كل فرد ذكرًا كان أو أنثى، إلى جانب ديانته ومسقط رأسه. وكان بعد أن
فرغ أعضاء الديوان من ذكر ذلك كله أن انتقلوا إلى تهنئة منو بالمولود الجديد
الذي وُلِد له.
وأجاب منو على هذه الرسالة بكتاب طويل قُرِئ بالديوان في ١٢ يناير سنة ١٨٠١م،
وأثبته الشيخ الجبرتي في تاريخه عند ذكر حوادث اليوم نفسه (٢٦ شعبان سنة ١٢١٥ﻫ)،
فقال منو ضمن ما قال:
٩٥ «فجناب حضرة بونابرته الشهير النبيل الصنديد الشجاع الجليل قد تقدم
فأمر بأن يُحرَّر دفتر يُكتب فيه أسماء كامل الميتين، والآن حضرتكم قد طلبتم مني
دفترًا آخر خلافه فيه يتحرر أسماء المولودين أيضًا، ومن حيث ذلك فلا بد أن
أعتني منذ الآن مع جزيل الاهتمام بهذين الأمرين، وهكذا أيضًا بتحرير دفتر
الزواج إذا كان ذلك أشد المهمات والحوادث الواجبات، ثم يُتبع ذلك بتجديد نظام
غير قابل التغيير في ضبط الأملاك والتمييز الكامل عمن وُلد ومات من السكان، وهذا
يُعرف من أهالي كل بيت، فعلى هذا الحال يتيسر للحاكم الشرعي الحكم بالعدل
والإنصاف وينقطع الخُلف والانقسام بين الورثة، وتُقرَّر الولادة ومعرفة السلالة
التي هي الشيء الأجلُّ والأوفر استحقاقًا في الإرث.»
واغتبط منو بالنتيجة التي وصل إليها ومجاملة الديوان له بتهنئته بالمولود
الجديد، فاستمر يقول: «وهكذا إن شاء الله لا بدَّ من الفحص والتفتيش بالحرص
والتدقيق وبذل الهمة للحصول لأقرب نوال إلى ما يلزم لإكمال ما قصدناه، ثم إن
أراد الله لا بدَّ أن أعتني بالمطالبة على وجه تام كل وقت يقتضي لنا أن ندبِّر
أشياء تستفيد بها هذه المملكة التي قد تسلمنا سياستها. وبهذا نوقر ونتحقق كوننا
امتثلنا لأوامر دولة جمهور الفرنساوية وحضرة قنصلها الأول بونابرته. فيا حضرة
المشايخ والعلماء الكرام، إننا نشكر فضلكم على ما أظهرتم لنا تهنئة بولادة ولدي
السيد سليمان مراد جاك منو، فنطلب من الله سبحانه وتعالى واسألوه كذلك بجاه
رسوله سيد المرسلين أن يجود به عليَّ زمانًا مديدًا، وأن يكون للعدل محبًّا
والاستقامة والحق مكرمًا، وموفي وعده صادقًا، وألَّا يكون من أهل الطمع، فهذا
أوفر الغنى الذي أرغبه لولدي؛ لأن الرجل الذي لا يهتدي إلَّا بالخير فلا يصرف
اعتناءه إلَّا في خير الأدب لا في قنية الفضة والذهب، فنسأله تعالى أن يطيل
بقاءكم! والسلام.»
ولا جدال في أن ما ظهر من «تعاون» في هذه المسألة من جانب الديوان مع الحكومة
كان من أقوى الدوافع التي حفَّزت منو على المضي في سياسته الوطنية، بل جعلته
شديد الإيمان في إمكان التغلب على ما قد يعترضه من صعوبات، وارتاح منو إلى ما
وصل إليه، فأصدر منذ ٩ أكتوبر سنة ١٨٠٠م
٩٦ أمرًا أعلن فيه عفوه الشامل عن كل أولئك المصريين الذين غادروا
القاهرة عقب تسليمها بعد ثورتها الثانية خوفًا من بطش الفرنسيين بهم، أو
تخلُّصًا من دفع الغرامة التي طولب القاهريون بأدائها، فسُمح لهم الآن بأن
يعودوا إلى مدينتهم آمنين مطمئنين، واستثنى منو من هذا العفو المصريين الذين
غادروا القاهرة قبل ذلك، فأمر الآن بمصادرة أملاكهم. وفي يومَي ٢ و٣ يناير سنة
١٨٠١م ذكر منو في أوامره حادث إقبال شيخين على نجدة بعض الفرنسيين الذين طاردهم
بعض المماليك فأنقذهم الشيخان، ومكافأته لهما بأن خلع عليهما كسوة من الفرو
والشيلان، كما أنقص ربع المال المطلوب منهما ومن قريتيهما.
٩٧ وتفصيل ذلك أن ثلاثة من الفرنسيين كانت قد غرقت بهم مركبهم في
النيل قريبًا من مكان أقام به مماليك الألفي بك وانبرى هؤلاء لمطاردتهم،
فساعدهم شيخان من القرى المجاورة على النجاة، ورفضا تسليمهم ونجحا في إثارة أهل
القرى ضد المماليك، فاضطر هؤلاء للنكوص على أعقابهم، ودبر الشيخان طريقة لفرار
الفرنسيين حتى وصلوا بسلامٍ إلى المعسكر الفرنسي في بني سويف.
٩٨
وكان مما اهتم به منو كجزءٍ هام من أجزاء سياسته الوطنية ضرورة إخضاع عربان
البدو لسلطة الحكومة من جهة، والقضاء على مقاومة المماليك من جهة أخرى، فقد بلغ
عدد العربان وقتئذٍ أربعين ألفًا، وانتشروا في أرجاء البلاد يعيثون فسادًا،
يغيرون على القرى وينهبون أهلها ويسببون متاعب شديدة لجيش الشرق، حتى إن
بونابرت كان قد أعد لمكافحتهم ومطاردتهم فرقة خاصة من الهجَّانة،
٩٩ وأحرز نجاحًا كبيرًا عليهم عندما قهر الهجانة هؤلاء العربان،
واستولوا على مواشيهم ومتاجرهم. واضطر جماعة منهم في بعض الأقاليم إلى الاتفاق
مع الفرنسيين والعيش في هدوء وسلام معهم.
من هؤلاء عربان أسيوط الذين عقدوا في ٢٩ يونيو ١٨٠٠م اتفاقًا مع حاكمها
دونزيلو تعهدوا فيه بدفع الضريبة. أمَّا منو فقد تكللت مساعيه بالنجاح عندما
استطاع هو الآخر أن يبرم اتفاقًا مع بعض هؤلاء العربان في أول يناير سنة ١٨٠١م،
فأمن هؤلاء على جمالهم ومواشيهم ولزموا الهدوء والسكينة. وفضلًا عن ذلك فقد سمح
منو لجماعة من عربان الشام بالإقامة على الحدود المصرية،
١٠٠ على أمل أن يفيد ذلك في منع إرسال الحبوب إلى العدو، إلى جانب رفع
قيمة الأراضي الواقعة في هذه الجهات وإمكان جمع المال منها. وأمَّا أولئك
العربان الذين رفضوا الاتفاق أو الانضواء تحت لواء الحكومة، فقد نشط قواد منو
وحكام المديريات المختلفة في مطاردتهم. وكان أولاد علي من أخطر هؤلاء العربان
شأنًا، انقضُّوا بغتة على إقليم البحيرة فنهبوا أهل الإقليم، واضطر فريان أن يخرج
لمطاردتهم واستطاع كبح جماحهم بعد مطاردة عنيفة.
١٠١
منو ومراد
وحاول منو التغلب على مقاومة المماليك، ولكنه لم يكن موفقًا في مسعاه؛ ذلك
أنه أصر على تعقب أحد بكواتهم محمد بك الألفي، فنشط في مطاردته، كما أنه لم يشأ
أن يحترم تلك المعاهدة التي عقدها كليبر مع مراد بك، فنفر بهذا المسلك صديق
الفرنسيين القديم. وتفصيل ذلك أن الألفي بك كان قد عاد وقتئذٍ من الشام إلى
مصر وقصد الشرقية، وأعلن رغبته في الذهاب إلى الصعيد للانضمام إلى مراد بك،
ولكن الألفي بدلًا من أن يذهب إلى مراد في التوِّ والساعة، فضَّل الإقامة ردحًا
من الزمن مع قبيلة «محارب» شرقي العطف، وكانت من القبائل الثائرة على
الفرنسيين، فبادر منو بإرسال قوة من الهجانة لمطاردة الألفي، بينما ذهبت قوة
أخرى صوب برزخ السويس لقطع الطريق عليه عند تقهقره، فكانت مطاردة عنيفة صارمة،
فاستولى الهجانة على كل متاعه، ونجا الألفي بنفسه في حراسة قليلين من رجاله بعد
مشقة وصعوبة ثم لجأ إلى مراد،
١٠٢ وحاول مراد أن يتوسط بين الألفي وبين الفرنسيين، وطلب أن يعطيه
هؤلاء أرضًا يعيش من إيرادها ولكن من غير جدوى، فكان امتناع منو عن إجابة
ملتمس مراد أحد أسباب النفور الذي كدَّر صفو العلاقات بينهما.
وكان منو قد حرص في أول الأمر على استبقاء مودة مراد في سبيل المحافظة على
المحالفة القائمة بين مراد والفرنسيين، تسامحًا معه عندما عجز عن دفع الجزية
كاملة بسبب انخفاض النيل وقتئذٍ. ولما كان يتكلفه مراد من نفقات باهظة عندما
جمع حوله المماليك الذين لجئوا إليه في جرجا، بل إن منو ما لبث حتى أرسل داماس
وأستيف للاتفاق مع مراد وإعطائه بضع قرى جديدة إلى جانب إنقاص قيمة الجزية
المطلوبة عن عام ١٨٠٠م، وكتب منو إلى الحكومة الفرنسية في ٢٤ سبتمبر من العام نفسه
١٠٣ بمناسبة إرساله صورة من اتفاقه الأخير مع مراد إلى باريس، ثم صورة
أخرى من اتفاق كليبر معه: «إن من واجب الفرنسيين تنفيذ معاهدة كليبر-مراد
محافظةً على شرف الوطن؛ لأن مراد الذي كان في وسعه أن يلحق الأذى بالجيش
الفرنسي المحارب في معركة هليوبوليس قد امتنع عن فعل ذلك. بل ومن الواجب «شراء»
صداقة مراد بأي ثمن». ومع أن منو كان يجد في تسليم ميناء القصير إلى مراد — نزولًا
على أحكام معاهدته مع كليبر — عملًا يتعارض مع مصلحة الفرنسيين، لوقوع هذا الميناء
على شاطئ البحر الأحمر مما يهدد بسقوطه في أيدي الإنجليز الذين قد يختارونه
لإنزال قواتهم به إذا قرروا غزو مصر من هذه الناحية، وقلب مراد ظهر المِجَنِّ
لحلفائه الفرنسيين؛ فقد أبعد منو عنه هذه الشكوك بكل سرعة بسبب كراهية مراد
الشديدة للإنجليز والعثمانيين، ولأنه ظل أمينًا على عهوده وفيًّا لحلفائه حتى
هذه اللحظة، ولأن دونزيلو حاكم أسيوط دأب على ملاحظة حركاته ومراقبة نشاطه بكل
دقة. وقد عاد منو فأثنى على مراد في رسالة أخرى كتبها في اليوم نفسه إلى وزير
الحربية الفرنسية،
١٠٤ فامتدح مسلكه وقال إن زوجه وهي أرملة علي بك الكبير كانت تتمتع في
القاهرة بكل احترام وتبجيل من أيام بونابرت نفسه.
ومع ذلك فإنه كان من المتعذر أن تظل العلائق طيبة بين مراد ومنو بالدرجة التي
بلغتها أيام كليبر؛ ذلك أن مرادًا كان قد عظُم أمله أيام كليبر في قرب خروج
الفرنسيين من هذه البلاد، وعقد آمالًا عظيمة على استطاعته أن ينفرد بحكم مصر
لما عرف عن رغبة كليبر في الجلاء، وإبرامه اتفاق العريش لتحقيق هذه الغاية.
ولكن ما إن تسلم منو زمام الحكم حتى انهارت كل هذه الآمال، فقد ثبت لدى مراد أن
منو إنما يبغي البقاء في مصر، وأنه إنما يعتبر مراد بك حاكمًا في مديريات جرجا
وأسوان بوصفه أميرًا فحسب، يحكم الصعيد باسم الجمهورية الفرنسية.
١٠٥ وفضلًا عن ذلك فقد صدر أمر ٢ أكتوبر سنة ١٨٠٠م يقضي باتباع النظام
القضائي الذي أوجده منو في جميع الأقاليم التي يديرها مراد باسم الجمهورية
الفرنسية، فانتزع هذا الأمر من مراد كل حق في الإشراف على تعيين القضاة في
المديريات الخاضعة له، ثم سرعان ما جدَّ من الحوادث بعد ذلك ما قضى نهائيًّا
على كل أمل لدى مراد في جلاء الفرنسيين عن مصر أو في أي تفاهم على صورة الحكم
بينه وبين منو، فقد تطايرت الإشاعات بأن العثمانيين يستعدون لاستئناف النضال ضد
الفرنسيين. وكان العثمانيون قد اتخذوا في يافا والعريش مواقع لهم منذ هزيمتهم
في هليوبوليس، وساعدهم الإنجليز في تحصين هذين الموقعين، وتمكنت جماعة من
الإنكشارية والمماليك من التقدم عن طريق قطية وبرزخ السويس إلى الحدود المصرية
ذاتها كطلائع لجيش الصدر الأعظم. ولما كان يوسف ضيا باشا قد ظل يتبادل الأخبار
مع رجال الأسطول الإنجليزي في البحر الأبيض ومع رجال الدولة العثمانية في
الآستانة؛ فقد بات من المتوقع أن يزحف العثمانيون على هذه البلاد قريبًا بطريق
البر، بينما يعمد حلفاؤهم الإنجليز إلى إنزال حملة على شواطئها، ولم يكن أمر
هذا الهجوم المتوقع سرًّا مكتومًا، بل حرص الجواسيس اليونانيون الذين جاءوا من
الشام على إذاعته كما أكد هذا النبأ بعض التجار الذين أفلتت سفنهم من رقابة
الأسطول الإنجليزي في البحر الأبيض. أضف إلى هذا كله أن مراد بك استطاع أن يقف
من بعض مماليك إبراهيم بك الذين جاءوا إليه على حقيقة أغراض العثمانيين
والإنجليز وما يدبرونه من خطط عسكرية، وكان مما عرفه مراد أن الصدر الأعظم يرغب
في الاتفاق مع الفرنسيين.
وكان السبب في ذلك أن العثمانيين باتوا يخشون من حلفائهم الإنجليز الذين عظم
نفوذهم وقتئذٍ في الآستانة، فصاروا يفضلون لذلك الاتفاق مع الفرنسيين بالطرق
السلمية على مؤازرة الإنجليز لهم واشتراكهم معهم في النضال المنتظر،
١٠٦ وعلى ذلك فما إن بلغ الصدر الأعظم نبأ «ذلك الاتفاق الذي وقع بين
مراد بيك والأمير كليبر، وأنه وعده إذا رحلت الفرنساوية أن يسلمه الديار
المصرية، ثم بلغه ما حل بالأمير كليبر من المنية»، حتى بادر بانتهاز الفرصة
يطلب من مراد بك التوسط بينه وبين الفرنسيين، وكلَّف إبراهيم بك أن يكتب إلى
مراد بك حتى «يطالب عبد الله منو أمير الجيوش بوعد سلفه كليبر»، وأن يبيِّن له
أنه لا معدى عن خروج الفرنسيين من مصر في النهاية لعجزهم المتوقع عن مقاومة
جيوش العثمانيين وحلفائهم الإنجليز، وأن «خروجهم (لذلك) بالصلح والسلام أوفق
لهم من خروجهم بالقهر والإرغام.» ووعد الصدر الأعظم إبراهيم بك أنه «متى عوَّل
الفرنسيون على الامتثال وخرجوا على هذا المنوال يسلم المملكة إلى الغز المصريين
كما وعدهم كليبر ويرتحل هو للقسطنطينية بالعساكر الهمايونية، ويرسل وزيرًا يكون
بالقلعة السلطانية، وذلك حكم الأيام السالفة بدون مناقضة ولا مخالفة»،
١٠٧ فكتب إبراهيم بذلك إلى مراد، كما أرسل الصدر رسالة في هذا المعنى
إلى مراد بك.
وقبل مراد الوساطة، وانتهز فرصة إرسال أحد رجاله عثمان بك البرديسي بالجزية
السنوية إلى القاهرة، فكلفه بأن ينقل إلى منو أنباء الحملة التي يعدها
العثمانيون مع الإنجليز لغزو مصر، ووصل البرديسي القاهرة في ٧ فبراير سنة ١٨٠١م،
وفي اليوم نفسه قابل منو،
١٠٨ فأطلعه على ما لديه من أنباء فحواها أن جيشًا يبلغ ثمانية عشر
ألفًا يعتزم العمل بالاشتراك مع القبطان باشا والنزول في الشواطئ المصرية،
بينما يجتاز الصدر الأعظم بجيشه الصحراء ويغزو الأقاليم الشرقية، فضلًا عن أن
أسطولًا إنجليزيًّا قد غادر الهند في طريقه إلى السويس، ومن المنتظر وصوله إليها
قريبًا. ولما كان مراد قد طلب من البرديسي أن يطلع منو على رسالة الصدر الأعظم،
فقد فعل البرديسي ذلك، ثم طلب البرديسي باسم مراد أن يذكر منو مصلحة مراد
دائمًا إذا هو قرر الاتفاق مع العثمانيين، كما أن مراد كان مستعدًّا لإرسال
النجدات إلى منو عملًا بنصوص الاتفاق المبرم بينه وبين كليبر إذا قرر منو
المقاومة بدلًا من الاتفاق.
١٠٩
غير أن منو بدلًا من الترحيب برسول مراد ما لبث أن ركب رأسه فأساء مقابلة
البرديسي، واعتقد أنه من المتعذر حدوث أي اتفاق بين العثمانيين والإنجليز
لتدبير محالفة هجومية من أجل استئناف القتال ضد الفرنسيين، ونفى أن هناك ما
يدعو لقبول النجدة من مراد أو ما يسوغ تدخل مراد ووساطته، واستبد بمنو الغضب
فقال إنه كان من الأفضل لمراد أن يظل في إقليمه هادئًا ساكنًا بدلًا من تبادل
الرسائل مع العدو في سوريا، ثم كشف القناع عما كان يساوره من شكوك من ناحية
مراد الذي جمع حوله أولئك المماليك الذين حضروا من الشام، فسمح لهم بالإقامة في
إقليمه وأخذ يمدهم بالأسلحة. ودافع البرديسي عن سلوك مراد ما وسعه ذلك، فعزا
إلى كليبر نفسه الرغبة في أن ينشئ مراد علاقات مفيدة مع جيش الصدر الأعظم، حتى
يمكن الوقوف على حركات هذا الجيش، كما أن كليبر نفسه هو الذي أجاز لمراد أن
يدعو مماليكه ومماليك البكوات الذين قضوا نحبهم للإقامة معه. ولكن كل هذه الحجج
ذهبت هباءً؛ لأن منو الذي أصر على رأيه ما لبث أن قال إنه «لا يرى نفسه
مقيَّدًا بما فعله كليبر أو ملزمًا بسلوك الطريق الذي سلكه سلفه، وإنه لا يعتزم
التفريط في مصر وبيعها.»
١١٠ فكان جافي القول خشن المعاملة، ثم بادر فأعلن إلى البرديسي أن
الفرنسيين لا يعتزمون قطعًا «الخروج (الآن) من هذه المملكة، فمتى عزمنا وأردنا
أن نتركها نبقى في ذلك الوقت نقيم بوعدنا مع مراد بيك، ومع ذلك فمراد بيك قاطن
بمملكة مصر براحة كلية وقد صار عضوًا من أعضاء المشيخة الفرنساوية ولا يكن
مهتمًّا إلَّا بذاته.»
١١١
وأخفق البرديسي في مفاوضته الأخرى بشأن توسط مراد في مسألة الألفي، فرفض منو
إعطاء بعض القرى إلى محمد بك الألفي حتى يتعيش من إيرادها، ثم لم يكتفِ بذلك بل
طفق ينحي باللائمة على مراد ويؤنبه تأنيبًا عنيفًا؛ لأنه لم يرسل إليه الألفي،
«وقد صفده تصفيدًا»، وطلب البرديسي أن يأذن له منو بزيارة بعض كبار القواد حتى
يسلمهم كتبًا من مراد، وحتى يظهر لهم ما يكنُّه من احترام وتقدير لأشخاصهم،
فرفض منو تسليم الرسائل إلى القواد بدعوى أن مراد ما كان يحق له أن يكتب لغير
قائد الحملة العام وممثل الحكومة الفرنسية، ثم أذن للبرديسي بزيارة القواد على
شريطة ألا يسلم أحدًا منهم أية رسالة من مراد.
١١٢
وساء البرديسي أن يقابله منو بكل هذا الجفاء وتحدث في ذلك مع داماس ودور،
ومع أنهما حاولا إزالة هذا الأثر السيئ من نفسه، فإن البرديسي لم يسعه إلَّا
إبداء دهشته من اختيار رجل مثل منو ليملأ ذلك المنصب الخطير الذي خلا بوفاة
كليبر، وأظهر ما يساوره من مخاوف على مصير جيش الشرق الذي قد يلحق به أذى كبير
على يد هذا الرجل. ومكث البرديسي مدة من الزمن في انتظار جواب من منو ولكن بلا
طائل، حتى إذا جاءت الأنباء عن وصول الأسطول الإنجليزي إلى الشواطئ المصرية جدد
البرديسي المسعى وعرض مقترحات مراد بك مرة أخرى، ولكن منو ما لبث أن أمره
بمغادرة القاهرة بكل سرعة، وهدد بإنزال العقوبة الصارمة بمراد إذا ظهر أنه يبغي
الانحياز إلى جانب العدو.
١١٣
المعارضة ضد منو
وبدأ الانقسام يدب في صفوف جيش الشرق من وقتِ تسلُّم منو لقيادة الحملة العامة،
فقد قوبل حادث وصوله إلى هذا المنصب بالدهشة الممزوجة بالجزع، وبعد أن أصدر منو
نداءه المعروف إلى الجيش في ٢٢ يونيو سنة ١٨٠٠م، ظهرت المعارضة ضده بصورة واضحة،
لسبب بسيط هو يقين رجال الحملة أن منو لن يغادر هذه البلاد إلَّا إذا أُرغم على
ذلك إرغامًا، وأن العودة إلى الوطن قد أُرجئ أمرها زمنًا قد يطول كثيرًا في عهد
قائد عام يصف اتفاق العريش بأنه كان «تسليمًا»، وتزدحم في رأسه مشروعات واسعة
لإنشاء مستعمرة جميلة في مصر، تحقيقًا لأغراض الحملة عند إرسالها، وقد تقدم كيف
عوَّل منو على بذل قصارى جهده لتهدئة روع الجيش وإعادة النظام إلى صفوفه،
واستمالة الجند إلى الرضا بالبقاء في مصر حتى تفصل حكومة القنصل الأول في باريس
في أمر هذه المستعمرة الجديدة، ولو أنه ظل عظيم الرجاء في أن يأتي قرار الحكومة
متفقًا مع رغبته في البقاء إذا استطاع توطيد أقدامه في مصر ودرء كل خطر
عنها.
وأدرك منو أنه لا غنى عن توطيد أسباب الراحة لجنوده وجعل حياتهم في هذه
البلاد هنيئة سعيدة إذا شاء أن يقضي على ذلك التذمر المنتشر بينهم، وأن يصل
إلى استمالتهم إلى البقاء في هذه البلاد دون أن يشعروا بغضاضة أو يستبد بهم
الحنين إلى الوطن؛ ولذلك فإن منو ما إن تسلم زمام الحكم حتى شرع يعمل بجد ونشاط
من أجل تحسين أحوال الجند والحرص على راحتهم ورفاهيتهم، وبذل منو قصارى جهده في
سبيل ذلك حتى إن كل ما أدخله من تنظيمات وإصلاحات مالية وإدارية كان يدور في
واقع الأمر حول غرض واحد هو تدبير المال للإنفاق منه بسخاء على جيش الحملة.
١١٧
وقد تقدم كيف اهتم منو بضبط حسابات الحملة ومنع تلاعب «الموردين» قومسييري
الحرب ومن إليهم. وكان الضرب على أيدي هؤلاء الموردين والقومسييرين ضروريًّا
لضمان استقامة الأمور في جيش الحملة وتوفير أسباب الراحة للجنود. وعلى ذلك فقد
شدد منو في مراقبة شئون التموين التي وجد فيها الموردون مَعينًا لا ينضب من
الربح على حساب الجنود، فأصدر منو الأوامر الصارمة لمنع تلاعب هؤلاء الموردين،
وشكل لجنة لفحص الخبز المقدم لجيش الحملة.
١١٨ ولما كان قومسييرو الحرب هم الذين يشرفون على سد مطالب الجيش
وحاجاته، فقد فحص منو حال كل واحد منهم، وعندما وجد أنهم يكلِّفون خزانة الحملة
أموالًا طائلة لكثرة عددهم من جهة، ولعدم دقة إشرافهم على شئون الجيش من جهة
أخرى؛ عمد إلى إنقاص عددهم «مراعاةً للاقتصاد — على حد قوله — في نفقات جيش
الشرق دون الإخلال بمصلحة العمل.»
١١٩ وفي ٢٤ سبتمبر سنة ١٨٠٠م كتب إلى وزير الحربية الفرنسية ينبئه بهذه
الخطوة، فقال إنه أنقص عدد قومسييري الحرب إلى عشرين بعد أن كانوا أربعة
وثلاثين قومسييرًا.
١٢٠ وعقد منو آمالًا عظيمةً بعد إجراء هذا «الاقتصاد» على استطاعته
المضي في دفع مرتبات الجنود بصورة منتظمة.
١٢١
وكان مما اهتم به منو كذلك توفير أسباب العلاج في مستشفيات الحملة محافظة على
صحة الجنود وسلامة أبدانهم، وحمل منو على ذلك ما وجده عند تسلمه قيادة الحملة من
أن المستشفيات في حال يُرثى لها، بسبب ما كان يتصف به رجال الإدارة — على حدِّ
قوله — «من عدم الأمانة وقلة الذمة في أعمالهم»،
١٢٢ فأدخل منو بضعة تغييرات هامة مستعيضًا عن «عديمي الذمة والأمانة»،
بعددٍ من الرجال الذين وثق في أمانتهم وطهارة ذمتهم، فتغير الحال في المستشفيات
سريعًا، ووجد المرضى فيما يُقدَّم لهم من أطعمة غذاءً كافيًا، كما كثرت الأربطة
والضمادات وسائر الأدوات الطبية، وأُحكمت الرقابة على «ضباط الصحة» تحت إشراف
ديجنت كبير الأطباء، ولاري كبير الجراحين، وبوديه
Boudet كبير الصيادلة، فحسن سلوكهم، بل إن ضباط الصحة سرعان
ما أظهروا شجاعة مشكورة في مكافحة الأوبئة أو في أثناء الخدمة في الميدان، وقد
أعد لاري نوعًا من «الأسرة المتنقلة» لاستخدامها في نقل المرضى أو الجرحى في
أثناء سير الجيش، ففحص منو نموذجًا منها وأمر بصنع مائة منها يحملها خمسون جملًا
أُلحِقت بقسم الإسعاف في الجيش، كما عهد بالإشراف على هذه الخدمة إلى ديجنت
ولاري وبوديه.
١٢٣
وإلى جانب توفير أسباب الراحة المادية لجيشه من حيث الاهتمام بمأكل الجنود
وملبسهم، والعناية بمرضاهم وجرحاهم؛ حرص منو على إنعاش روح الجند المعنوية لا
سيما وقد وجد هؤلاء متسعًا من الوقت لتقليب وجوه الرأي فيما وصل إليه حالهم
والتفكير في مآلهم ومصير الحملة عمومًا، وذلك منذ أن وضعت الحرب أوزارها فعلًا
بعد هزيمة العثمانيين في معركة هليوبوليس في مارس سنة ١٨٠٠م وانسحابهم من
الأراضي المصرية. ووقع الجنود نتيجة لهذه «البطالة» فريسة لما صار يتنازعهم من
بغض شديد للإقامة في مصر وحنين عظيم إلى الوطن ورغبة ملحة في العودة إليه.
ولما كان أكثر القوَّاد والضباط في عداد المعارضين لسياسة الاستعماريين، فقد
فطن منو إلى جسامة هذا الخطر وأخذ يعمل بكل همة لدرئه، فكان من الوسائل التي
لجأ إليها لإنعاش الروح المعنوية في الجيش أنه أجرى عدة ترقيات بين الضباط،
١٢٤ وذلك كما قال حتى يعوض شيئًا على رجال تحملوا مشقات عظيمة في مصر
وبات الآن يشغلهم التفكير في العودة إلى فرنسا،
١٢٥ فعمد منو إلى ترقية طائفة من الضباط إلى مراتب القيادة كان أكثرهم
قد استحقوا فعلًا الوصول إلى رتبة جنرال، بسبب ما كان لهم من «أقدمية» في
المناصب التي يشغلونها، أو مكافأة لهم على ما قاموا به من خدمات معروفة،
١٢٦ وبذل منو كل ما وسعه من جهد وحيلة لبث روح النشاط في الجيش وإحياء
الأمل في صدور جنوده، فأصدر منشورات عديدة تمتدح مسلكهم وتثني على شجاعتهم
وبسالتهم تارة، وتنقل إليهم أخبار الوطن تارة أخرى.
وهدف منو من إذاعة هذه المنشورات إلى تحقيق غرض معين، هو إقناع جيش الشرق بأن
بقاءه بعيدًا عن فرنسا لم يكن معناه في يوم من الأيام أن بونابرت القنصل الأول
قد صار لا يعبأ بهذا الجيش، أو أن الصلة قد انقطعت تمامًا بين فرنسا وبين جيش
الشرق؛ وذلك حتى لا يشعر الجنود أنهم يعيشون في منفى بعيدًا عن أرض الوطن. وحرص
منو في سبيل تحقيق غايته على تكذيبه كل ما صار الإنجليز يشيعونه عن بونابرت،
كما وجد من الحكمة وأصالة الرأي أن يبادر بإذاعة ما كان يبلغه من أخبار عن سير
الأمور في أوروبا، من ذلك أنه وجَّه نداء إلى «جنود جيش الشرق الشجعان»
١٢٧ في ٢٣ أغسطس سنة ١٨٠٠م، تحدث فيه عن كل ما بلغه من أنباء عن الموقف
في القارة عمومًا، وعن حركات الجيش العثماني على وجه الخصوص في آسيا وعند
الشواطئ المصرية، وفحواها أن «سفن الروس الرابضة أمام مالطا وشيوز وكورفو وفي
بحر الأرخبيل قد غادرت أماكنها وعادت إلى البحر الأسود، وأنه ما إن وصل إلى سمع
القيصر نبأ ذلك الأمر الذي أبلغه اللورد كيث بشأن عدم إخلاء الفرنسيين لمصر حتى
طلب مقابلة السفير الإنجليزي في بطرسبرج كي يستوضحه السبب، فاعتذر السفير بعدم
وجود أية معلومات لديه عن هذه المسألة. وفضلًا عن ذلك فمن المقطوع به أن قيصر
روسيا قد استدعى سفيره من لندن، وأبدى رغبته في مغادرة السفير الإنجليزي روسيا.
ومن المعروف كذلك أن السير سدني سمث قد استُدعي إلى لندن، ولو أنه من
الواجب أن يعترف المرء بأن سدني سمث قد رفض التورط في مسألة تلك «الخدعة
الحربية» التي اقترحها مورييه … أمَّا مورييه فقد استُدعي إلى القسطنطينية …»
وحرص منو على إذاعة أخبار معركة مارنجو التي انتصر فيها بونابرت على جيوش
النمسا في ١٤ يونيو سنة ١٨٠٠م، وكانت هذه ولا شكَّ أخبارًا طيبة تشد من عزم جنود
الحملة، وتبعث الثقة في نفوسهم، وتدخل الطمأنينة إلى قلوبهم. ثم نشر منو كل ما
كان يردده الإنجليز من إشاعات عن الانتصارات التي أحرزها بونابرت ضد
ميلاس
Mélas القائد النمساوي، فصدر العدد
التاسع والسبعون من جريدة «لوكورييه دوليجبت» يحمل أنباءها، ولمس منو ما أحدثه
نشر هذه الأخبار المشجعة من أثر طيب في نفوس جند الحملة، فانتهز فرصة حضور
لودي
Lodi السفينة الفرنسية تحمل أخبار
انتصارات الجمهورية ودعم أركان الحكومة في فرنسا، فبادر بإذاعة ذلك كله على
جيش الشرق، كما أنه أذاع من جديد أخبار معركة مارنجو، وكانت لودي قد أحضرت
نشرة رسمية عن هذه المعركة، وتحدث منو عن انقلاب ١٨ برومير المشهور (٩ نوفمبر
سنة ١٧٩٩م) الذي رفع بونابرت إلى القنصلية «فحقق نجاة الجمهورية من
الدمار».
وكان غرض منو الظاهر من إذاعة هذه الأنباء أن يطمئن جيش الشرق إلى أن الحكومة
في باريس إنما تقوم على دعائم ثابتة قوية فلا يستبد التشاؤم بالجيش، وتلهب
هذه الأخبار حماسته فينسى الجنود ترددهم، ويوطدوا العزم على الاحتفاظ بمواقعهم
في هذه البلاد، ويزدادوا صلابة في موقفهم من أعدائهم الإنجليز خصوصًا. وواتت
الفرص منو عندما أفلتت ثلاث سفن أخرى من رقابة الإنجليز فوصلت إلى الإسكندرية:
روزالي
Rosali وديجاجيه
Degagé وسانت
فيليب
Saint Philippe، تحمل أنباء جديدة من الوطن، منها تثبيت منو في منصب
القيادة العامة — وسوف يأتي ذكر ذلك مفصلًا — فأذاع منو هذا الخبر على جيشه في
أمر يومي في ٤ نوفمبر سنة ١٨٠٠م،
١٢٨ كما أنه أذاع بعد يومين خطابًا وصله من كارنو وزير الحربية
الفرنسية يطلب إليه فيه أن «يعمل بكل حزم على دعم كل تلك الأسس التي وُضعت
للاحتفاظ بمصر حتى يجيء موعد عقد السلام العام في أوروبا، فيتقرر بفضل ذلك مصير
هذه الفتوحات العظيمة التي لا تقدر بثمن بصورة حاسمة.» وقد علق منو على رسالة
كارنو بقوله: «وهكذا ترون أيها الجند مقدار اهتمام الحكومة بكم، كما ترون مقدار
ما يثيره نجاحكم بفضل بسالتكم من إعجاب أوروبا بكم واعتراف الوطن بصنيعكم
عليه!»
ولما كان قد ازداد الاتصال بين فرنسا ومصر في ذلك الوقت عن ذي قبل،
١٢٩ فقد استطاع منو أن يكثر من إصدار الأوامر اليومية التي حملت إلى
جيش الشرق أنباء انتصار الفرنسيين في «هوهنلندن» في ٢ ديسمبر سنة ١٨٠٠م، والهدنة
التي أعقبت هذا الانتصار مع النمسا، والصلح الذي عقدته فرنسا مع روسيا. وفعلت
هذه الأخبار فعل السحر في النفوس، فخف التذمر وامتنع القلق، وكادت تنجح جهود
منو في بث روح الطمأنينة في نفوس الجنود وترويضهم على الرضوخ لمطالب السياسة
التي فرضت عليهم فرضًا البقاء في مصر، حتى ظهر كأنما جيش الشرق قد بدأ يألف
العيش في هذه البلاد عندما اهتم منو إلى جانب ذلك كله بتوفير أسباب التسلية
لهم كمشاهدة التمثيل وحضور الحفلات الموسيقية وغير ذلك مما سوف يأتي ذكره في
موضعه. وطابت نفوس الجند للعيش في مصر حتى إن كثيرين منهم ما لبثوا أن أنشئوا
صلات وثيقة مع أهل البلاد، فتزوجوا من مصريات أو عاشوا مع زنجيات، ووجدوا في
الحياة المستقرة متعة كادت تنسيهم الحنين إلى الوطن.
١٣٠
ولكن هذا الحال لم يدم طويلًا؛ إذ سرعان ما حدث رد فعل كبير بعد أن تيقن
الجنود أن هذه الانتصارات الباهرة التي أحرزها القنصل الأول في أوروبا لا تعني
أن جهودًا فعَّالة سوف تُبذل لنجدتهم أو لإنقاذهم من هذه البلاد وإرجاعهم إلى
أوطانهم، وفشل كل ما كانوا ينعمون به من المباهج الظاهرية في إزالة تلك الكآبة
التي استمرت تعلو وجوههم، وفتر حماسهم فصاروا لا يعبئون بمنشورات منو وأوامره
اليومية، بل صاروا يتعمدون إظهار عدم المبالاة بقائد الحملة العام نفسه، وظلت
أبصارهم شاخصة إلى فرنسا.
١٣١ وكان السبب في إخفاق منو وإضاعة كل تلك الجهود التي بذلها من أجل
استمالة الجند إلى تأييد سياسته وتحبيب البقاء في مصر إلى نفوسهم؛ ما صمم عليه
فريق من كبار قواد الحملة وضباطها من مناصبة منو العداء، وحمل لواء المعارضة
القوية ضده وضد تجربته الاستعمارية.
وتنوعت أسباب هذه المعارضة وتعددت، فكان مرد بعضها إلى ما حدث من تكدر
العلاقات بين منو وبين فريق من كبار قواد الحملة الذين كانوا من أصدقاء كليبر،
ثم ساءهم أن يصل إلى منصب القيادة رجل يخلو في نظرهم من كل صفات العسكري
الناجح، وقد ازداد تكدر العلاقات بين هؤلاء وبين منو منذ أن وجَّه القائد العام
الجديد نداءه المعروف إلى الجيش في ٢٢ يونيو، ووقف في هذا النداء موقف المعارضة
الصريحة لسياسة كليبر، كما حاول أن يظهر تمسكه بالولاء الصادق لبونابرت حتى
يدخل في زمرة «البونابرتيين»، فجاءت هذه المحاولة ضغثًا على إبَّالة؛ ذلك أن هذه
«البونابرتية» الجديدة سرعان ما أدت إلى زيادة شكوك قوَّاد الحملة في أغراض منو
وغاياته؛ لأن منو لم يشق لنفسه طريقًا في ميدان من ميادين الحرب والسياسة
يقربه من البونابرتيين الذين استرشدوا في حياتهم العسكرية والسياسية بمبادئ
البطل الذي خلص فرنسا من أعدائها، والذي عقد عليه أهلها آمالهم في الوصول
بالوطن إلى ذروة المجد والرفعة، فاعتبر قواد الحملة «بونابرتية منو بونابرتية
زائفة»، لحمتها وسداها التملق للقائد الكبير فحسب.
وما إن دعا منو إلى ضرورة البقاء في مصر واستثمارها حتى وجد أعداؤه ومناوئوه
في سياسته الاستعمارية سبيلًا لحشد صفوف المعارضة السافرة ضده، فدبَّ الخلاف في
جيش الشرق، وانقسم هذا الجيش فريقين: فريق الأقلية الاستعمارية التي التفت حول
منو وأيدت سياسته، وفريق الأكثرية من أنصار الجلاء عن مصر والذين عُرِفوا باسم
«الكليبريين»؛ لأن كليبر كان يمثل في نظرهم سياسة الجلاء أو الاعتراض على الأقل
على إمكان تأسيس مستعمرة فرنسية في مصر. وفضلًا عن ذلك فقد وجد هؤلاء في
إصلاحات منو ومشروعاته مآخذَ عدة جعلتهم ينقدون هذه الإصلاحات والمشروعات نقدًا
مرًّا لاذعًا، بل إن منهم من ذهب في نهاية المطاف إلى اعتبار منو بسبب هذه
الإصلاحات نفسها قبل أي شيء آخر غير كفء لتولي منصب القيادة العامة، أمَّا
أولئك القواد الذين أثار منو حفيظتهم فكانوا رينييه ولانوس وداماس، ثم مدير
المهمات هكتور دور Hector Daure وقومسيير
الجيش أو الحكومة تاليان Tallien.
وقد نشأ الخلاف بين رينييه ومنو منذ أن تسلم منو قيادة الحملة العامة، فمع
أن رينييه لم يشأ تولي هذا المنصب وأخذ يلح على منو في قبوله، فإنه سرعان ما
ندم على فعلته، وصار يعزو بهتانًا وزورًا ضياع قيادة الحملة منه إلى خديعة منو
له، فكانت حجته في ذلك أن منو وقت اغتيال كليبر كان يملأ منصب حاكم القاهرة،
ومن واجبه لذلك أن يشرف بصورة مؤقتة فحسب على إدارة أعمال الحكومة؛ ولذلك فقد
أبدى منو ترددًا كبيرًا في قبوله قيادة الحملة العامة، وقبل الاضطلاع بأعباء
الحكم بوصفه حاكمًا للقاهرة فقط.
١٣٢ ولذلك فإنه ما كان يحق لمنو أن يستمر في ممارسة تلك السلطة التي
انتزعها لنفسه انتزاعًا بعدئذٍ إلا إذا عُقد مجلس حربي يضم قواد جيش الشرق لبحث
موضوع القيادة العامة، واتفقت كلمة هؤلاء المجتمعين على إعطاء منو هذه القيادة.
وكان مما زاد من غضب رينييه أنه علم بعد رفضه منصب القيادة أن الجيش كان ينتظر
انتقالها إليه، وأن قبوله لها كان يلقى ولا شكَّ ترحيبًا عظيمًا من جانب جيش
الشرق بأسره. واتسعت هوة الخلاف بين رينييه ومنو في الشهور التالية حتى بات
رينييه يرى في كل أعمال منو وإصلاحاته مسوِّغًا للإمعان في نقده والتهكم عليه
والازدراء بشخصه.
١٣٣
ودب الخلاف بين لانوس حاكم الإسكندرية وتاليان قومسيير الحكومة بها من جانب
وبين منو من جانب آخر، عندما أراد منو بعد استلامه قيادة الحملة العامة أن يجري
تحقيقًا في بعض الإجراءات المالية التي اتُّخذت في عهدهما، فقد حدث بعد نقض اتفاق
العريش أن أمر الجنرال كليبر بمصادرة سفن العدو الراسية في الإسكندرية، وانتهز
جماعة من التجار ورجال الإدارة هذه الفرصة للاستيلاء على التجارة التي حملتها
هذه السفن بأساليب غير نزيهة، وتهاون لانوس وتاليان في منع هذه العمليات غير
الشريفة والضرب على أيدي المتلاعبين، فأراد منو عند استلامه قيادة الحملة
العامة أن يفحص هذه العمليات (في أغسطس ١٨٠٠م) حتى يقصي من إدارة المدينة كل من
تثبت عليهم تهمة التلاعب،
١٣٤ فساء هذا العمل لانوس الذي اعتبر أن منو إنما كان يقصد من وراء ذلك
إلى خدشِ سمعته والطعن في أمانته، فطلب أن يعهد بفحص إدارته في الإسكندرية
عمومًا إلى مجلس عسكري،
١٣٥ ولكن منو رفض ذلك، وعندئذٍ طلب لانوس تأليف لجنة للتحقيق في ذلك
التلاعب الذي وقع وأدى إلى «نهب» تجارة السفن المصادرة، فوافق منو على تأليف
هذه اللجنة
١٣٦ التي بدأت عملها دون إمهال. فكان هذا الحادث كافيًا لأن يسبب
الحيرة والقلق للجنرال لانوس الذي ظل من ذلك الحين تساوره الشكوك في نوايا منو
نحوه، وخيَّل إليه الوهم أن قائد الحملة العام قد أحاطه بعدد من الجواسيس
لمراقبة حركاته وسكناته.
وزاد من حدة شكوك لانوس أنه كان في قرارة نفسه لا يطمئن إلى منو بتاتًا بسبب
اختلاف سياستهما عندما كان لانوس أحد أولئك الكليبريين الذين عارضوا سياسة منو
الاستعمارية وأرادوا العودة إلى الوطن، ومع ذلك فقد بذل منو قصارى جهده حتى
يهدئ من روعه ويقضي على وساوسه. وما إن انتهت اللجنة من أعمالها حتى نشر منو
نتائج فحصها الذي أثبت أن السرقات التي حدثت كان لا يمكن في واقع الأمر
ملاحظتها لتفاهتها، وامتدحت اللجنة مسلك لانوس وأثنت على إدارته، وكان نشر ذلك
كافيًا ولا شكَّ لتبرئة ساحة لانوس والمحافظة على سمعته، غير أن منو الذي أراد
أن يعهد بالحكم في الإسكندرية إلى أحد رجاله المقربين إليه والذين يثق في
ولائهم له، ما لبث أن بادر بإقالة لانوس من منصبه نهائيًّا في ٣ أكتوبر، وعيَّن
فريان بدلًا منه، وذلك قبل انتهاء اللجنة من أعمالها ونشر نتائج فحصها، فأول
أعداء منو ومعارضوه هذا العمل تأويلات شتى، فادعوا أن منو إنما أراد بذلك أن
يرغم لانوس إرغامًا على التقدم إليه بطلب العودة إلى فرنسا حتى يتخلص منه
نهائيًّا، كما زعموا أن منو أراد من إقصاء لانوس من حكومة الإسكندرية أن
يتشفَّى من غيظه لحرمانه من هذه الحكومة أيام كليبر الذي أخرجه منها ووضع
لانوس مكانه فأكل الحقد قلبه.
١٣٧
وسواء رغب منو في إبعاد لانوس من مصر أم لم يرغب، فقد قرر هذا الأخير البقاء،
وما إن وصل إلى القاهرة حتى انضم إلى سائر الكليبريين، وعلى رأسهم رينييه
وداماس رئيس هيئة أركان الحرب أيام كليبر. وكان داماس من أشد المعارضين نقمة
على منو ويضمر له عداءً عظيمًا. بدأت العلاقات بين الرجلين طيبة أيام كليبر،
فهنأ منو قائد الحملة السابق على اختياره الموفق عندما عهد بمنصب رئاسة أركان
الحرب إلى «رجل يتمتع برضا الجميع»،
١٣٨ وحرص داماس على اجتذاب ودِّ منو. ولكن الحال ما لبث أن تغير عندما
وجد داماس نفسه مضطرًّا بسبب منصبه إلى الاتصال بالقائد العام الجديد دون
انقطاع، وخدمة تلك السياسة الاستعمارية التي جرى عليها منو، والتي كان داماس لا
يوافق عليها بتاتًا، لا سيما وقد كان لداماس — وهو صديق كليبر الحميم — نصيب في
تلك السياسة التي أفضت إلى عقد اتفاق العريش، كما اشتُهر بكراهيته للإقامة في
مصر، وقد زادت هذه الكراهية منذ اغتيال صديقه كليبر. وكان داماس من بين أولئك
الذين عارضوا بقوة سياسة منو الاستعمارية عمومًا. وعلى ذلك فقد كان من السهل أن
تتعدد أسباب الخلاف بين الرجلين، حتى إن داماس بات يعتقد أن منو يبذل كل جهده
لإرغامه على الاستقالة.
وعندما تحرجت الأمور وبات من المتعذر على منو أن يتعاون معه، اضطر منو إلى
إقالته من منصبه في سبتمبر ١٨٠٠م، فكاد هذا الإجراء يفضي إلى حدوث أزمة كبيرة،
ذلك أن كثيرين من أعداء منو ومناوئيه سرعان ما اتخذوا من إقالة داماس ذريعة
لتوجيه حملة من النقد اللاذع ضد منو الذي أقال داماس — كما قالوا — دون سبب.
١٣٩ وركب داماس رأسه فرفض في أول الأمر هذه الإقالة، وأصرَّ على تمسكه
بمنصبه، ثم أخذ يطلب تقديمه للمحاكمة أمام مجلس عسكري، ولكن منو الذي أصر هو
الآخر على إقالته ورفض «محاكمته» استند في إقصاء داماس إلى أن المسألة لا تعدو
تعذر الاتفاق فحسب بين رجلين يختلفان في آرائهما ومبادئهما كل الاختلاف. فضلًا
عن أنه كان «من حق القائد الأعلى في أي جيش من الجيوش أن يختار من يعمل من
قوَّاد تحت قيادته.» وأظهر منو تسامحًا ولينًا عندما قبل وساطة رينييه وفريان،
وعمل لتخفيف وطأة هذه الإقالة فأعلن إلى الجيش في ٨ سبتمبر أن داماس «انقطع»
عن مزاولة وظائفه فحسب، ثم وجَّه شكرًا لداماس باسم حكومة الجمهورية على ما
أسداه لها من خدمات كرئيس لهيئة أركان الحرب.
١٤٠ وفي ١٦ سبتمبر عيَّن داماس حاكمًا لبني سويف والفيوم، ومع ذلك فقد
ظل الألم يحز في نفس داماس. كما ساء رينييه وسائر القوَّاد إقالة داماس من
منصبه، فكتب الجنرال فردييه إلى داماس من منوف أن «(داماس) لم يفقد في واقع
الأمر شيئًا كثيرًا إذا هو خسر ثقة هذا الرجل» أي الجنرال منو، وظل داماس
بعد هذا الحادث موضع احترام وتقدير من قوَّاد الحملة وضبَّاطها.
١٤١
ويرجع منشأ الخلاف بين هكتور دور وبين منو إلى أيام الحملة الأولى عندما كان
منو على رأس الحكومة في رشيد، فقد نقد دور إدارة منو نقدًا لاذعًا، ومع أن
دور كان على خلاف كذلك مع الجنرال كليبر، فقد كان من السهل زوال هذه الخلافات
بعد ذلك، ثم توطدت الصلة بين دور وكليبر حتى بات هكتور دور من أقرب المقربين
إلى كليبر في عهد قيادته العامة للحملة. واتسعت شقة الخلاف بين دور ومنو بسبب
إصلاحات هذا الأخير الإدارية، وعلى وجه الخصوص تلك الإجراءات التي أراد منها
منو إحكام الرقابة على حسابات الحملة وضبط ماليتها بكل دقة، حتى إن دور ما لبث
أن قدم استقالته في أغسطس ١٨٠٠م، وإن عاد فاستردَّها عندما طلب إليه منو التريث
وإمعان النظر في أمر ما كان يبغي منه منو — كما أعلن ذلك مرارًا — سوى إصلاح
حال الجيش عن طريق تنظيم الإدارة، وإزالة كل تلك المفاسد والمساوئ الظاهرة.
١٤٢ ويبدو أن منو ما لبث أن صار يرغب في التخلص منه بعد ذلك كليةً،
فعرض عليه منصب «مفتش عام» لقاء تنازله عن منصب مدير مهمات الحملة الذي يشغله،
فقبل هكتور دور ذلك وتعين سارتلون
Sartelon
بدلًا منه.
ولكن منو سرعان ما عين دور مفتشًا عاديًّا فحسب كسائر مفتشي الجيش،
١٤٣ فأثار هذا العمل حفيظة دور الذي انبرى يناقش ذلك الحق الذي اتخذه
منو لنفسه في عزل موظفي الحملة كما يشاء ويهوى، فنشأ من ثم ذلك النقاش الذي
استمر يدور بعدئذٍ بصورة جدية حول مبدأ كان على جانب عظيم من الأهمية: هل يمثل
منو حكومة الجمهورية فيما يتصل بشئون هذا البلد المفتوح (أي مصر) فحسب، أو أنه
يمثل الجمهورية فيما يتصل بشئون مصر وشئون جيش الشرق كذلك؟ فإذا كان الأمر
الأول هو الصحيح فمن حق منو الهيمنة على شئون هذه البلاد الداخلية فقط، وإذا
كان الأمر الثاني فمن حقه الهيمنة كذلك على شئون جيش الشرق، وفي هذه الحالة
الأخيرة له أن يعزل أو يعين من يشاء من قواده ورجاله، ويتصرف كما يريد في كل ما
يمت للجيش بصلة. فكان من رأي منو أنه بوصفه القائد الأعلى للحملة إنما يهيمن
على شئون مصر الداخلية وشئون جيش الشرق على السواء، وكان من رأي دور وصفوف
المعارضة أن منو إنما يمثل الجمهورية فيما يتصل بشئون البلاد الداخلية فحسب،
وعلى ذلك فإن منو بوصفه قائدًا للحملة إنما يخضع لقوة القوانين الفرنسية، ومن
مقتضيات ذلك أنه لا يحق له أن يعزل موظفًا من موظفي الحملة دون محاكمة، وإلا عُدَّ
متجنيًا على الغير وظالمًا، وهذا ما لا يمكن أن ترضى عنه حكومة القنصلية بعد
ذلك الجهاد الشاق الطويل الذي استمر عشر سنوات تقريبًا من وقت اندلاع الثورة
الفرنسية الكبرى، التي قامت من أجل القضاء على الظلم والاستبداد وضمان العدالة
ونشر ألوية الحرية.
على أن وضع المسألة بهذه الصورة إنما كان ينطوي في واقع الأمر على جوهر ذلك
الموضوع الذي ظلَّ سببًا في احتدام النقاش دائمًا بين الاستعماريين وهم أنصار
منو، وبين الكليبريين من أنصار الجلاء عن مصر، والذين رفضوا أن يعتبروا من
الناحية القانونية أن هذه البلاد كانت مستعمرة فرنسية. وقد وجد الكليبريون في
شخص تاليان
Tallien خير من يفسر «نظريتهم»
ويوضحها ويؤيدها، لما عُرف عنه من دراية واسعة بالقانون من جهة، ومهارة في عرض
حججه ودعاويه ولباقة في توجيه هذه «المعارضة القانونية» من جهة أخرى. وقد اتخذ
تاليان من إصلاحات منو ومشروعاته ذريعة لإثارة زوبعة من الجدل القانوني حول تلك
السلطات التي أراد منو أن «ينتزعها» لنفسه بوصفه قائد الحملة الأعلى في مصر
ومؤسس المستعمرة الفرنسية الجديدة في الشرق.
١٤٤
وعندما قرر تاليان أن يتخذ من إصلاحات منو موضوعًا لإثارة هذا الجدل
القانوني، كان قد بات الطريق معبَّدًا وممهَّدًا أمامه لهذه الغاية، بسبب تلك
الانتقادات الكثيرة التي وجهها المعارضون ضد هذه الإصلاحات، وكان أخف هذه
الانتقادات وطأة قولهم إن منو قد اشتط في إصلاحاته شططًا عظيمًا، حتى إنه لا
يمكن أن ينجم منها إلا حدوث تغييرات عميقة في عادات أهل البلاد وتقاليدهم، فلا
مندوحة عن أن تثير هذه الإصلاحات استياء المصريين الذين عاشوا على حالهم القديم
أزمانًا طويلة. وفضلًا عن ذلك فإن القول بأن صاحب هذه الإصلاحات قائد اعتنق
الدين الإسلامي وتزوج من سيدة مسلمة لن يجدي نفعًا في جعل هؤلاء يستسيغون ما
أجراه منو من إصلاحات أو أدخله من تغييرات على عاداتهم وتقاليدهم، «لأن منو
المسلم — كما قالوا — لم يكن في واقع الأمر موضع احترام أو تقدير من قبل ذلك
الشعب، الذي بلغ تمسكه بكل ما هو متصل بعقيدته ودينه درجة التعصب الشديد.»
١٤٥ وقال رينييه إن ما أحدثه منو من تنظيمات مالية وإدارية وقضائية لم
يكن لها من أثرٍ سوى زيادة تذمر المصريين، بسبب إبطاله ما جرى به العرف قديمًا،
عندما اعتاد مشايخ البلد في بداية كل عهد من العهود على تقديم الهدايا من خيول
أو ماشية أو جمال إلى الملتزمين الجدد في نظير بقاء هؤلاء المشايخ في أعمالهم،
فيخلع عليهم الملتزمون وأصحاب الأرض الكساوي من الفرو والشيلان دلالة على
رضائهم ببقاء مشايخ البلد في مناصبهم.
١٤٦ أمَّا إعادة تشكيل الديوان وقصر عضويته على المشايخ المسلمين، فكان
في نظر هؤلاء المعارضين عملًا لا جدوى منه ولا طائل تحته؛ لأن هذا الديوان لم
يفد شيئًا في إزالة كل تلك المظالم والمغارم التي أثقلت الأهلين الذين غضبوا
كذلك من إصلاحات منو القضائية والمالية المزعومة، وعزمه خصوصًا على إلغاء الدية
أو «ثمن الدم»، مخالفًا في ذلك عادات البلاد وتقاليدها.
بل إن هؤلاء المعارضين ما لبثوا أن اتهموا منو بالرغبة في تحريك الثورة في
القاهرة، باستثارة أهل الطبقات العامة والمتوسطة ضد الطبقة الأرستقراطية على
غرار ما حدث في فرنسا ذاتها، واستندوا في ذلك الاتهام إلى ما جاء في صحيفة
«لوكورييه دوليجبت» التي نشرت في عددها السادس والسبعين في ٦ أغسطس ١٨٠٠م مقالًا
جاء فيه:
١٤٧ «تفرض الطبقة الأرستقراطية الغنية في القاهرة سيطرتها بصورة من
المحتمل أنها تفوق كثيرًا ما يفعله أضرابها في أي مكان آخر، وإن هذه السطوة
لتمكِّن أصحابها من أن يسحقوا دائمًا، وبفضل نفوذهم، ذلك الشعب الذي يكاد ينوء
وحده تحت عبء المطالب المالية. وعلى ذلك فقد وضع القائد العام نصب عينيه الحد
من هذا النفوذ وإنقاصه بقدر الاستطاعة وانتشال تلك الطبقة الجادة العاملة،
وهي طبقة الفلاحين، مما تعانيه من مشقة.» وقال مارتان
Martin تعليقًا على هذا الكلام في سخرية لاذعة: «وهكذا حتى
يتمكن منو من تنفيذ هذا المشروع الجميل أصدر أمرًا في نوفمبر ١٨٠٠م بإنشاء جريدة
عربية سمَّاها «التنبيه» لم تصدر لما كان هناك من حاجة قصوى إلى محرر
نابه!»
شاهد الكليبريون إذن كل هذه الإصلاحات تصدر بها أوامر منو بعضها تلو بعض دون
انقطاع، فأمضَّهم ذلك وامتعضوا منه، ثم باتوا يتربصون الفرص بمنو، حتى إذا أمر في
سبتمبر بتعميم ضريبة «بيت المال» — التي سبق الحديث عنها — لتشمل التركات التي
يموت عنها أصحابها مهما اختلفت جنسياتهم ودياناتهم؛ انبرى الكليبريون يناقشون
منو الحساب، واتخذوا من هذه الضريبة ذريعة لإثارة تلك «المعارضة القانونية»
التي حمل تاليان لواءها. ومن ذلك الحين احتدم النقاش بين الكليبريين وأنصار منو
من أجل الفصل نهائيًّا في مسألة المسائل وقتئذٍ؛ أي فيما إذا كانت مصر مستعمرة
فرنسية أو بلدًا «مفتوحًا» فحسب. وكان تاليان من أيام الجنرال كليبر من كبار
مؤيدي سياسة الجلاء، ولم يتردد لحظة في إطلاع منو على حقيقة رأيه في هذا
الموضوع منذ أبريل ١٨٠٠م، ولم يغيِّر شيئًا من موقفه بعد أن تسلم منو قيادة
الحملة العامة، ووجد الآن في ضريبة «بيت المال» — التي كان يقتضي تطبيقها فرض
ضريبة على تركات الفرنسيين المتوفين في مصر — فرصة مواتية لتحطيم كافة إصلاحات
ومشروعات منو التي هدف منها إلى إعادة تنظيم هذه البلاد كمستعمرة فرنسية سوف
يبقى بها الفرنسيون زمنًا طويلًا، وذلك إذا تسنى له أن يقيم الحجة الدامغة على
أنه لا يمكن بحال من الأحوال اعتبار مصر قانونًا «مستعمرة فرنسية».
فكان من رأي تاليان أن جيش الشرق إنما يقيم في بلد مفتوحٍ فحسب، وحجته في ذلك
أن حكومة الجمهورية هي التي أصدرت أوامرها إلى هذا الجيش باحتلال مصر، فالجيش
إنما يحتل مصر بناء على هذه الأوامر، ولا يمكن أن يعتبر هذا الجيش نفسه مقيمًا
في مستعمرة كما يذهب البعض دون تفكير كبير، إلا عند توافر شروط معينة، أهمها
إبرام اتفاق مع الدولة التي كانت أصلًا تمتلك هذا البلد، ثم التصديق على معاهدة
الصلح، ومن حق السلطات التشريعية والتنفيذية وحدها عندئذٍ أن تعلن أن هذا البلد
المفتوح مستعمرة، وتسن القوانين التي يجب بمقتضاها تحديد ما يُفرض على هذا البلد
من مطالب مالية ويجري تحصيلها منه. ولما كان شيء من ذلك لم يحدث فيما يتعلق
بمصر، فإن الجنرال منو لا يمكن اعتباره «حاكمًا» لها، وإنما هو فقط قائد عام
لجيش الشرق، فلا تتعدى سلطته وضع أنظمة البوليس الخاصة بالمحافظة على النظام
واستتباب الهدوء والسكينة، فضلًا عن اتخاذ ما يلزم من وسائل تكفل دفع مرتبات
الجند وإمداد هؤلاء بالمؤن والأغذية وما إلى ذلك. وعلى ضوء هذه الاعتبارات إذن
كان تحصيل ضريبة بيت المال عن تركات الفرنسيين الذين يموتون في مصر خرقًا
للدستور وافتئاتًا على العدالة؛ لأن منو لا يتمتع في مصر بسلطة المشرع الذي من
حقه سن القوانين، ولأن الحكومة الفرنسية سوف يظل من حقها دائمًا أن تحصِّل هذه
الضريبة من الورثة الذين لن يجدوا سبيلًا للامتناع عن دفعها، على الرغم من تلك
الضريبة التي تؤخذ منهم في مصر. ثم خلص تاليان من ذلك كله إلى تقرير مبدأ عام
يقضي بإعفاء الفرنسيين من دفع أية ضريبة من تلك الضرائب المباشرة التي يجري
تحصيلها في البلدان المفتوحة.
١٤٨ ووجد تاليان في موضوع هكتور دور وسيلة للمُضيِّ بحججه القانونية
إلى غايتها، واعتبار أن منصب القائد العام للجيش لا يمكن أن يضفي على منو صفة
ممثل الحكومة الفرنسية أو النائب عنها، وأن الواجب يقتضي الفرنسيين والمصريين
على السواء أن يخضعوا لما تصدره العاصمة الفرنسية من أوامر فحسب.
١٤٩
وذهب الكليبريون عمومًا في دعواهم أن مصر لم تكن سوى بلد مفتوح، إلى أن القول
بأن مصر مستعمرة فرنسية يتنافى تمامًا مع كل تلك الأغراض التي دفعت فرنسا إلى
احتلالها، فمن الثابت أن فرنسا رغبت دائمًا في أن تحفظ للسلطان العثماني حقوق
سيادته على هذه البلاد، آية ذلك جميع ما صدر من منشورات ونداءات تضمنت هذه
الحقيقة، أو ما جرى من مفاوضات أيام بونابرت وكليبر استندت في واقع الأمر على
هذا المبدأ كقاعدة أساسية. وفضلًا عن ذلك فقد قالوا إنه لن يترتب على التصريح
بأن مصر مستعمرة فرنسية سوى زيادة المحالفة القائمة بين تركيا وإنجلترا قوة على
قوتها، ثم إمعان هاتين الدولتين في النضال ضد الجمهورية بغية طرد الفرنسيين من
مصر، حتى إذا تكللت جهودهما بالنجاح فقدت فرنسا كل ما تمتعت به من نفوذ في هذه
البلاد من أزمنة قديمة.
١٥٠
وهناك سبب آخر لازدياد معارضة القواد للجنرال منو، هو «بونابرتيته» التي سبق
الحديث عنها، فقد كان طبيعيًّا وقد شاهد منو سُحب هذه المعارضة تتكاثف حوله أن
يُحكم صلاته برجال الحكم في باريس، توقُّعًا لما قد يبذله أعداؤه من جهود في
العاصمة الفرنسية لإلحاق الأذى به، فحرص على انتهاز كل فرصة لإظهار ما يكنُّه من
محبة وولاء لبونابرت، معتمدًا على علاقته القديمة به وعطف بونابرت عليه في
إبقاء حبل «المودة» متصلًا؛ ولذلك فإنه ما وصله نبأ تأسيس القنصلية حتى بادر
بتهنئة بونابرت «القنصل الأول» على هذا المنصب الرفيع الذي بلغه، كما حرص في
الوقت نفسه على تهنئة القنصلين الآخرين لوبران
Lebrun وكامبسيريس
Cambacéris،
١٥١ واختط لنفسه خطة الإشادة بذكر بونابرت وتمجيد اسمه في أوامره
اليومية وبلاغاته إلى الجيش، حتى أضحت هذه «البونابرتية» علَمًا عليه وصفةً له،
كما أنها أفضت في الوقت نفسه في إثارة شكوك معارضيه في نواياه وأغراضه، فقد
اعتقد هؤلاء أن منو إنما كان يهدف من هذه «البونابرتية» ليس إلى التودد والتقرب
من القنصل الأول فحسب، بل أيضًا إلى إعلان موقفه بصورة قاطعة من سياسة الجلاء
التي اعتبر الكليبريون سلفه في القيادة رمزًا لها، وزادهم يقينًا على يقينهم أن
منو اختار لابنه من السيدة المسلمة التي اتخذها زوجًا له اسم سليمان قاتل
كليبر، فاعتبروا ذلك دليلًا على كراهية منو لكليبر، ثم سرعان ما تأكد هذا
الاعتقاد لديهم عندما رفض منو المساهمة في أية تبرعات تُجمع لإقامة نصب تذكاري
للجنرال كليبر في فرنسا على نفقة جيش الشرق،
١٥٢ مع أنه أصدر أمرًا يوميًّا في ٢٧ سبتمبر سنة ١٨٠٠م تحدث فيه عن تلك
اللجنة التي أُنشئت في فرنسا لجمع التبرعات من أجل إقامة نصب تذكاري للجنرال
ديزيه الذي قُتل في معركة مارنجو، ثم طلب من الجيش المساهمة في ذلك.
١٥٣
ولم يخْف القواد معارضتهم لقائد الحملة فذاعت أخبارها، وعلم بأمر هذا
الانقسام ضباط جيش الشرق وجنوده،
١٥٤ وعمد القواد إلى إظهار تحزبهم ضد منو بصورة واضحة، فانتهزوا فرصة
الاحتفال بعيد الجمهورية الفرنسية في أول فندميير من سنة الجمهورية التاسعة (٢٣
سبتمبر سنة ١٨٠٠م)، فجمع داماس أصدقاءه وأصدقاء الجنرال كليبر في مركب للنزهة في
النيل، بينما ظل منو في مركبه وهو يكاد يكون منفردًا، وامتلأت أبهاء منازل
القواد داماس ولانوس ورينييه بالسيدات في أثناء الاحتفالات التي أقاموها في
المساء، بينما كاد يقفر منهن حفل الجنرال منو.
١٥٥ وقد ترتب على ذيوع أخبار هذه الخلافات أن انقسم الضباط من الرتب
الصغيرة فريقين: أحدهما يناصر القائد العام وهو فريق الأقلية، والآخر يعارضه
وهو فريق الأكثرية. ثم انتشرت أعمال الجاسوسية، فصار كل جماعة يتجسسون على
الجماعة الأخرى، وساء عقلاء الفرنسيين أن يروا جيش الشرق فريسة لهذه الخلافات،
١٥٦ وعجز منو عن حسم أسباب النزاع لأنه كان وقتئذٍ لا يملأ منصب القائد
العام إلا بصورة «مؤقتة»، ويعتبره سائر القواد لذلك زميلًا لهم فحسب، ولا يمارس
«سلطات» القائد العام إلا بصورة «مؤقتة» كذلك، ومن حقهم أن ينقدوا أعماله بحرية
وصراحة، وألا يعتبروا أنفسهم ملزمين بالطاعة له إطلاقًا «ودون قيد أو شرط». ثم
إنهم ما كانوا يعتقدون أن منو سوف يظل قائدًا عامًّا للحملة، بل توقعوا قرب
انتهاء هذه «القيادة» التي أزعجتهم سريعًا عند وصول أول بريد فرنسي إلى مصر.
١٥٧ وكان رينييه على وجه الخصوص من أشد هؤلاء اقتناعًا بأن منو لن يظفر
ﺑ «تثبيته» في منصب القيادة العامة، فاعتبر لذلك أن من واجبه وواجب سائر قواد
الحملة أن يقوموا جميعًا بملاحظة ما فيه الصالح العام من جهة، وأن يعملوا
لتصحيح ذلك الخطأ الذي وقع فيه رينييه نفسه عندما تنحى عن منصب القيادة للجنرال منو.
١٥٨
وغالى القواد فيما أرادوا أن يضطلعوا به من تلقاء أنفسهم، فنشطوا يدبرون الخطط
ﻟ «تصحيح» ذلك الخطأ الذي نجم من إسناد القيادة العامة إلى منو، ويقلبون وجوه
الرأي في مشروعات عدة، كان الغرض منها إما العمل على إقالة منو أو تقديمه
للمحاكمة أمام مجلس عسكري،
١٥٩ وإما القبض عليه وحبسه في القلعة بدعوى أن العَتَه قد أصابه. وقد ذكر
فريان تفاصيل هذه «الخطة» الأخيرة فقال: إن القواد اعتزموا أن يخطب كبارهم في
الجيش، حتى إذا تهيأت الأفكار لقبول خطوتهم التالية ألقوا القبض على منو وأعلنوا
اختيار الجنرال رينييه قائدًا عامًّا للحملة.
١٦٠
أمَّا الكليبريون عمومًا فقد استندوا فيما ذهبوا إليه من ضرورة عزل الجنرال
منو وإقالته إلى أن إصلاحات منو ومشروعاته كانت تدل على الحماقة وفساد الرأي،
كما تضمنت أوامره المتعلقة بهذه الإصلاحات تعريضًا بسمعة الرؤساء العسكريين
والإداريين الذين قاموا بأعباء الحكومة من أيام كليبر، بل ومن أيام بونابرت
نفسه. وفضلًا عن ذلك فقد أدى تمسك منو بأن مصر مستعمرة فرنسية وإصراره على
وجهة نظره، إلى قيام كل تلك المناقشات التي أوقعت الانقسام في صفوف الجيش
وأسفرت عن عواقب وخيمة.
غير أنه كان من الواضح أن هؤلاء «المتآمرين» لا يستطيعون المضي في خطتهم إلا
إذا وافق الجنرال رينييه نفسه على تولي قيادة الحملة العامة خلفًا للجنرال منو،
ولكن رينييه سرعان ما وجد من المتعذر عليه أن يقر هؤلاء «المتآمرين» على عملهم
لأسباب عدة ذكرها رينييه نفسه،
١٦١ أهمها أن موقفه — كما قال — قد بات دقيقًا بعد أن وعد منو بأن يبذل
قصارى جهده في مؤازرته ونصحه، وذلك عندما «طلب» إليه أن يقبل قيادة الجيش،
حقيقةً أثار منو بعد ذلك بفعاله ومؤامراته ودسائسه حفيظة رينييه ولكن هذا
الأخير كان لا يمكنه الموافقة على إقالة منو وعزله خوفًا من وقوع الانقسام
واتقاءً لما قد يحدثه ذلك من آثار سيئة خطيرة. على أن امتناع رينييه عن قبول
القيادة العامة لم يصرف أولئك الذين أظهروا السخط على أعمال منو وأرادوا عزله
عن عقد آمالهم العريضة على إقناع رينييه بقبول منصب القيادة العامة في النهاية،
ولكن رينييه كان قد وطد العزم عندئذٍ على عدم الاستماع إليهم، معلِّلًا ذلك
بقوله: «إنه من المتعذر عليه أن يقبل هذا المنصب بالرغم من شعوره بأن هناك حاجة
ملحة لوجود رئيس آخر للحملة بدلًا من الجنرال منو؛ ذلك أن البلاد كان قد ساء
حالها كثيرًا بعد التغييرات التي حدثت في الإدارة والانقسام والشقاق الذي نجم
عن ذلك، كما ساعد على ازدياد سوء الحالة تبديد ما كان مدَّخرًا من أموال في
أيام الجنرال كليبر، ثم تلك الوعود التي تضمنتها أوامر منو اليومية بشأن المضي
في دفع مرتبات الجند بصورة منتظمة، وقد أسرف منو في بذل هذه الوعود إسرافًا
عظيمًا مع صعوبة تحقيقها. أضف إلى ذلك كله تلك المشكلات التي كان من المتوقع
حتمًا أن يواجهها خلف منو في قيادة الحملة العامة. وفضلًا عن ذلك فإنه لم يكن
من المستبعد بتاتًا بالرغم من كل ما تقدم أن يظفر منه بتثبيته في قيادة الحملة،
فتسود الفوضى واختلال النظام في الجيش.» لذلك وجد رينييه أنه من الحكمة والصواب
أن يرفض الاشتراك في كل تدبير يفضي إلى عزل منو أو إلقاء القبض عليه وحبسه،
١٦٢ وأمام إصرار رينييه على موقفه استقر رأي القواد المعارضين على
الاكتفاء باتخاذ خطوة من شأنها الحد من نشاط منو، «ومنعه من بث روح الانقسام في
الجيش وإرباك إدارة البلاد، وذلك بإسداء النصح له فحسب.»
خطوة ٦ بريمير
اتفق القواد فيما بينهم إذن على تحديد موعد لمقابلة منو «مجتمعين» لتنفيذ
عزمهم، فاختاروا في أول الأمر يوم ٤ بريمير من سنة الجمهورية التاسعة (٢٦ أكتوبر
١٨٠٠م)، كما اتفقوا فيما بينهم على «الأسباب» التي عوَّلوا على ذكرها للقائد
العام كذريعة لاتخاذ هذه الخطوة، ولخَّص الجنرال رينييه نفسه هذه «الأسباب»
التي قال إنها أقنعت القواد بضرورة السعي لمقابلة منو والتحدث إليه في شأنها،
١٦٣ وكانت هذه أسبابًا منوعة، منها ما تعلق بتلك البدع التي استحدثها
منو في الإدارة، ومنها ما تعلق بمسلك منو نفسه، فقد شكا القواد من «شذوذه»
الظاهر في معاملة عديدين من رجال الحملة كان من بينهم هؤلاء القواد أنفسهم
الذين درج منو على توجيه أقسى عبارات التوبيخ والتأنيب لهم على أتفه الأمور
وأقلها قيمة. وفضلًا عن ذلك فقد اختار منو في «عظاته» التي تضمنتها أوامره
اليومية إلى الجيش أسلوبًا جافًّا اعتقد أنه كفيل بإقناع الجنود أن من الخير لهم
أن يتحلوا بالخلق الحسن الكريم كأنما كان هؤلاء شراذم من أناس جُبِلوا على
الشر لا يعرفون للشرف معنى ولا خلاق لهم، حتى تذمر الجنود من ذلك تذمُّرًا
شديدًا. هذا بينما لا يقل استياء الأهالي أنفسهم وتذمُّرهم عن استياء وغضب
الجيش؛ لأن منو سرعان ما قذف الرعب في قلوب المصريين بسبب ما استحدثته
«عبقريته» من بدع ونسجه خياله الفياض من إصلاحات جعلت هؤلاء يجأرون بالشكوى
من قائد مسلم كانوا قد انتظروا بفضل إسلامه أن ينالهم الخير كل الخير على يديه،
فانقلب هذا الأمل يأسًا حتى ملأ الحزن نفوسهم لعدم اضطلاع قائد مسيحي بأعباء
الحكم بدلًا منه، آية ذلك ما صار يشعر به الشيخ المهدي على وجه الخصوص من
استياء عظيم، وهو من الذين أقبلوا على التعاون مع الحكومة.
١٦٤ وغنيٌّ عن البيان أن المصريين كان في وسعهم اصطناع الصبر والأناة
والرضا بحكومة منو على إرهاقها لهم، وهم الذين تعودوا على احتمال الظلم والجور
أيام الأتراك والمماليك، ولكن تلك الفترة البسيطة التي جعلتهم يتذوقون خلالها
مزايا الحكم الذي أقامه كل من بونابرت وكليبر على أساس من القوانين والأنظمة
الأوروبية، حملتهم على المقارنة بين أيام هذين القائدين وبين أيام منو، وجعلتهم
يشعرون بشدة ما حل بهم من بؤس وشقاء على يده.
ولكن القواد ما لبثوا أن أجَّلوا زيارتهم لمنو إلى موعدٍ آخر؛ لأنه حدث في
نفس اليوم الذي اختاروه لمقابلته أن وصل ضابط من طولون يحمل البريد الفرنسي،
١٦٥ فتريث القواد حتى يقفوا على ما جاء به هذا الضابط من أخبار قد تتعلق
بما قرَّ عليه رأي الحكومة في باريس بشأن تعيين قائد عام جديد للحملة بعد مقتل
الجنرال كليبر. ولكنهم سرعان ما تبيَّنوا أن الرسائل الواردة كانت لا تزال
معنونة باسم الجنرال كليبر،
١٦٦ فقرروا عدم إرجاء المقابلة، ثم زادهم اقتناعًا بضرورة ذلك أن منو
ما لبث أن أذاع على الجيش في أمر يومي في ٦ بريمير (٢٨ أكتوبر سنة ١٨٠٠م)
الأخبار الواصلة من فرنسا مع «إعلان» عام للجيش ناشد فيه قواد الحملة وضبَّاطها
وجنودها أن ينسوا خلافاتهم، وأن ينبذوا المنازعات الحزبية، وأن يتضافروا جميعًا
على مقاومة «المؤامرات الدنيئة»؛ لأنه وإن كان من شيمته العفو مقدِّمًا — على
حد قوله — عن جميع أعدائه الشخصيين، فإنه لا يسعه إلا أن يعامل أعداء الجمهورية
بمنتهى الشدة والصرامة.
١٦٧ وكان السبب في صدور هذا الإعلان الذي تضمنه الأمر اليومي أن
الجنرال داستان
Destaing أبلغ منو عزم القواد
على مقابلته، وكان داستان كثير التودد إلى منو، كما أن منو قد اصطفاه دون سائر زملائه،
١٦٨ فتوهَّم منو أنه إذا نشر هذا الإعلان فإن القواد سوف يجدون فيه
رادعًا يمنعهم من محاولة مقابلته،
١٦٩ ولكن سرعان ما جاءت النتيجة على خلاف ذلك.
فقد تضمنت الأخبار التي أذاعها منو في أمره اليومي أنه قد بات من المنتظر عقد
السلام قريبًا، وأن الوطن لا يزال يذكر أبناءه البعيدين، وكانت هذه أخبارًا
طيبة لا شك في أنها سوف تبعث الطمأنينة إلى نفوس الجنود، فينصرف هؤلاء إلى
القيام بواجباتهم العسكرية في هدوء وسلام، لولا أن منو أفسد ذلك كله بنشر
إعلانه في ذيل هذا الأمر اليومي، فتحدث عن وجود خلافات وانقسامات في الجيش،
وقضى بعمله هذا على ذلك الهدوء الذي كان ينشده، فقلق الجنود على مصيرهم، كما أن
القواد لم يروا في نشر هذا الإعلان إلا مناورة قصد بها منو تأليب الجنود عليهم.
١٧٠ وعلى ذلك فقد صحَّ عزمهم على طلب مقابلته دون إمهال، فاجتمع القواد
الذين كانوا بالقاهرة وقتئذٍ في منزل الجنرال بليار، وحضر هذا الاجتماع كل من
رينييه وداماس ولانوس وفردييه وبليار، وقرَّ رأيهم على الذهاب إلى منو في التو
والساعة، ثم وافق سونجي على الذهاب معهم، ولكنه غيَّر عزمه فتخلف في الطريق.
وبعد ساعات معدودة فقط من صدور الأمر اليومي كان هؤلاء القواد في حضرة الجنرال
منو في مقر القيادة العامة.
وقابل منو القواد والهمُّ والكدرُ باديان على وجهه؛ ذلك أنه كان يخشى من أن
يكون غرض هؤلاء المتظاهرين التآمر على شخصه، واعتقد أنهم ما حضروا إليه إلَّا
ليحملوه على الاستقالة من القيادة بمختلف وسائل الضغط والتهديد،
١٧١ أو أنهم حضروا للقبض عليه حتى يقدِّموه للمحاكمة أمام مجلس عسكري.
١٧٢ وعلى ذلك فإنه ما تبين له أنهم إنما جاءوا لإظهار تذمرهم فحسب من
إدارته، وإقناعه بإلغاء كثير من الإصلاحات التي استحدثها، والتي نشأت في واقع
الأمر من اعتباره مصر مستعمرة فرنسية، ثم عرض شكاياتهم الخاصة عليه؛ حتى انفرجت
أسارير وجهه.
وكان حديث القواد حديثًا طويلًا تخلله توجيه كثير من التهم إلى قائد الحملة
العام «المؤقت»، فتولى الكلام الجنرال رينييه
١٧٣ مبيِّنًا مقدار الألم الذي حزَّ في نفوسهم بسبب ما شهدوه من آثار
الانقسام المتفشي في جيش الشرق، وذلك بعد أن ظل هذا الجيش يعيش في هدوء وسلام
مدة العامين السابقين أيام بونابرت وكليبر. ولما كان القواد قد لازموا الجيش
منذ أن بدأت تلك المعارك التي خاضوا غمارها مع جنودهم، فاستطاعوا أن يرقبوا عن
كثب مبلغ ذلك الاتحاد الذي ألَّف بين قلوب الجند، فقد وجدوا لزامًا عليهم أن
يبحثوا أسباب هذا الانقسام، ويعملوا على إزالته. وقال رينييه: إن البحث سرعان
ما أفضى إلى معرفة منشأ هذا الانقسام الذي لم يكن سوى إحدى نتائج تلك البدع
التي استحدثها منو من ناحية، ثم الطريق الذي سلكه مع أفراد جيش الشرق منذ أن
انتقلت إليه «بصورة مؤقتة» قيادة الحملة العامة من ناحية أخرى، وقد هداهم
التفكير إلى أن خير ما يمكن فعله لرجوع الاتحاد والتآلف وتأييد حسن التفاهم هو
أن يعمد منو إلى إلغاء بعض تلك الأوامر التي أصدرها، وإبطال طائفة من القرارات
التي اتخذها وجاءت جميعها مناقضة للصالح العام. وفضلًا عن ذلك فإن الواجب يقتضي
منو أن يسترشد في مسلكه في المستقبل بقوانين الجمهورية الفرنسية، وبكل تلك
المبادئ التي تعمل بها القيادات العسكرية، كما أن عليه قبل أي شيء آخر أن يضع
حدًّا للمؤامرات التي انغمس فيها.
١٧٤
وكال القواد التهم ضد منو من غير حساب أو وازع، وبنوا هذه التهم جميعها على
ما عرفوه من رغبة منو الصريحة في تأسيس مستعمرة في مصر، فقرءوا عليه «مذكرة»
أعدُّوها في هذا الشأن من قبل
١٧٥ جاء فيها: «إن اعتبار مصر مستعمرة فرنسية عملٌ غير مناسب في الوقت
الذي أكد فيه دائمًا كلٌّ من بونابرت وكليبر للعثمانيين أن هذه البلاد ليست سوى
رهينة أو وديعة في أيديهما، فضلًا عن أنه كان من المتعذر على الحكومة الفرنسية
في هذه اللحظة ذاتها بسبب ما يجري في أوروبا من حوادث إلَّا أن تعدَّ مصر
بلدًا مفتوحًا فحسب؛ وذلك حتى يمكنها أن تفيد من امتلاكها لهذا البلد عندما
يحين موعد عقد السلام العام في أوروبا»، بل إنه لم يكن من المصلحة بتاتًا
الإصرار على الادعاء بأن مصر مستعمرة فرنسية؛ لأن من شأن هذا الادعاء استثارة
الأتراك لمضاعفة جهودهم وتأليب جميع الدول ضد فرنسا.
١٧٦ فإذا اتفق الرأي على اعتبار فتح مصر «فتحًا مؤقتًا»، بات من
المتعذر على منو أن يغيِّر شيئًا من قوانين البلاد أو ما قضى به العرف وأقرته
عادات أهلها؛ لأن حدوث هذا التغيير مهما استتر وراء تلك الإصلاحات التي
استحدثها منو سوف ينجم عنه ازدياد قلق تلك الدول التي ناصبت فرنسا العداء، ثم
نفور سكان البلاد من كل ما هو فرنسي، لا سيما وقد أثقل منو كاهل هؤلاء بالضرائب
الفادحة التي فرضها عليهم، وأشد هذه سوءًا ولا شكَّ ضريبة مشايخ البلد أو
العمد، أضف إلى هذا كله أنه ما كان ينبغي قط أن يطلب منو من الفرنسيين أن
يدفعوا أية ضريبة.
١٧٧ وكانت هذه الملاحظة الأخيرة بمثابة رد صريح على ما كان منو قد فعله
قبل هذه المقابلة بأيام ثلاثة فحسب، عندما أصدر أمرًا في ٣ بريمير يقضي: «على
جميع الأفراد المقيمين بالبلاد مهما كانت تبعيتهم — ويدخل في عداد ذلك
الفرنسيون أنفسهم — بدفع كل الضرائب التي ينصُّ القانون عليها.»
١٧٨
وعندما أتم القواد كلامهم في هذه المسألة الجوهرية لبيان أنه من المتعذر
اعتبار مصر مستعمرة فرنسية، انتقلوا إلى ذكر تلك المسائل التي شكوا منها، فاتهمه
رينييه وداماس ولانوس بأنه «أظهر الجيش فيما أصدره من أوامر يومية وكأنه عصابة
من قطَّاع الطريق فحسب، كما أدار قيادته العامة وكأنها منتدى من المنتديات
العامة، ولم يحترم القواعد المتبعة فصار يتراسل مع صغار المرءوسين مباشرة»، ثم
اتهمه القواد بتدبير المؤامرات وراحوا يعنِّفونه على ذلك تعنيفًا شديدًا،
وساءهم أن يعزل منو موظفي الحملة ويفصل من الخدمة من يشاء، مع أن الحكومة
الفرنسية هي التي قلَّدت هؤلاء وظائفهم، ولا يملك منو وحده حق عزلهم أو فصلهم،
لأنه لا يستطيع أن يضع نفسه فوق القانون. ثم تناولوا علاقة منو بالجيش وبالبلاد
التي يحتلها جيش الشرق، فقالوا: إن الواجب يقتضيه أن يقلع عن الادعاء بأنه يمثل
الجمهورية «في كل شيء»؛ لأنهم وإن أجازوا له حق تمثيل الجمهورية فيما يتعلق
بإدارة هذه البلاد، فإنه من ناحية أخرى لا يعدو كونه «قائدًا» فحسب لجيش الشرق،
ولا يحق له لذلك أن يعزل أحدًا قلدته حكومة الجمهورية وظيفته دون محاكمته أولًا
أمام مجلس عسكري، والأحرى به على كل حال أن يمارس ما يتمتع به من حقوق محدودة
بوصفه قائد الجيش العام فحسب، ولا تتعدى تلك الحقوق إجراء الترقية في مختلف
الرتب العسكرية في الميدان، على أن يستحق دائمًا صاحب الترقية رفع درجته عن
جدارة صحيحة، كما لا يجوز أن تحدث هذه الترقيات إلَّا في نطاق ضيق، وبقدر ما
تدعو إليه الظروف القائمة فعلًا. وفضلًا عن ذلك فلو أنه حدث أن أعلنت الجمهورية
هذه البلاد مستعمرة فرنسية، لكان تكييف إدارة هذه المستعمرة من شأن رجال الحكم
في باريس وحدهم، وواجب منو أن يمتنع عن سبق الحوادث، فلا يتخذ من الرغبة في
إشباع نزواته فرصة لاستحداث هذه البدع الكثيرة بدعوى الإصلاح. ولما كانت
الحكومة الفرنسية نفسها حتى هذا الوقت قد امتنعت من اعتبار هذه البلاد مستعمرة
من مستعمراتها، فمن واجب منو كذلك أن يحترم استقلال كبار موظفي الإدارة، فلا
يُلزِم صراف الحملة العام أو مدير مهماتها بتقديم أية حسابات إليه، ومن واجب
منو أن يعتبر هذين الموظفين على وجه الخصوص من ذوي الحصانة التي تجعل عزلهما أو
استبعادهما أمرًا مستعصيًا.
١٧٩
ثم شكا القواد من مسائل أخرى كانت أقل خطورة من سابقاتها، فتحدثوا عن
«الدخولية»، وهي الضريبة التي فُرِضت على الغلال والأغذية، ونجم منها ارتفاع
أثمانها ارتفاعًا فاحشًا، كما طرقوا موضوع التبرعات التي جُمعِت لإحياء ذكرى
الجنرال ديزيه، وإقبال منو على تأييد هذا العمل، والاشتراك في إحياء هذه
الذكرى، بينما امتنع عن التبرع بشيء لإقامة نصب تذكاري للجنرال كليبر. وكان
الكليبريون قد كلَّفوا داماس بجمع التبرعات اللازمة لذلك، فلم يصدر منو أمرًا
يوميًّا يحمل إلى الجيش نبأ هذا المشروع العزيز عليهم، كما فعل من أجل إحياء
ذكرى الجنرال ديزيه، فضلًا عن امتناعه عن التبرع.
١٨٠
وأصغى منو في أول الأمر لكل هذا الكلام الطويل، وقد عقدت الدهشة لسانه، فكان
يكتفي في رده بإيماءة بسيطة، أو الإجابة بكلمتي نعم أو لا، حتى إذا تبين من
خلال الحديث أن القواد لم يجيئوا إليه ليهددوه أو يرغموه على اعتزال منصبه،
هدأت أعصابه تدريجًا واستعاد ثقته بنفسه رويدًا رويدًا، فاستطاع أن يجيب على
دعوى القواد بأن مصر بلد مفتوح فحسب بعبارات ظاهرة قاطعة، فقال إنه إنما يعد
مصر مستعمرة فرنسية، وإن لديه ما يحمله على الاعتقاد بأن وجهة نظره هي الصحيحة،
آية ذلك ما وصله من رسائل من وزير البحرية الفرنسية تخوِّله الحق في إطلاق اسم
المستعمرة على هذه البلاد، وإنه لذلك ما عمد إلى مطالبة مواطنيه الفرنسيين بدفع
الضرائب إلَّا تنفيذًا لما يجري به العمل في سائر المستعمرات الفرنسية من قديم الزمن.
١٨١ واحتدم النقاش بينه وبينهم، ولكن منو — الذي عُرِف باللباقة وإتقان
أساليب المحاورة — ما لبث أن انحرف بمخاطبيه عن هذا الموضوع الجوهري الذي كان
وصولهم فيه إلى قرار حاسم مناقضًا لمصلحة منو، ومن شأنه أن يهدم ذلك الصرح الذي
بذل منو قصارى جهده لتشييد دعائمه. وعلى ذلك فقد انتقل القواد إلى الحديث
باستفاضة في مسائل كانت مثار شكايات شخصية وفردية، دون أن ينتزعوا من منو
جوابًا حاسمًا عن كل تلك «البدع» والإصلاحات التي جاءوا لاستئصالها، وما إن
انتقل القواد إلى بسط شكاياتهم الخاصة وعرض مطالبهم حتى استطاع منو أن يجد
مخرجًا سهلًا من مأزقه باصطناع الهدوء والحرص على تطييب خواطرهم، ولم يجد
غضاضةً في بذل الوعود الجميلة، وعوَّل منو على مسالمتهم حتى إذا انتهت هذه
الزوبعة عرف كيف يتخلص من مناوئيه ويقضي على تدابيرهم.
وعلى ذلك فقد تظاهر منو بأنه لم يصله أي خبر عن الاكتتاب من أجل إحياء ذكرى
كليبر، ولم يبدُ عليه أي انزعاج عندما كذَّب القواد دعواه، بل وعد بإعلان نبأ
هذا الاكتتاب في أمر يومي يصدره إلى الجيش ينص على جمع التبرعات اللازمة لإحياء
ذكرى القائدين ديزيه وكليبر معًا وفي وقت واحد. ووافق القواد على قولهم إن
«الدخولية» كانت سبب ارتفاع أثمان المواد الغذائية، ووعد باتخاذ ما يكفل من
إجراءات لحصول الجند على كفايتهم من الأغذية، وطلب منو في آخر الأمر إعطاءه
مهلة من الوقت للتفكير جديًّا فيما عرضه القواد من مسائل، ووعد بالإجابة على
مطالبهم كتابة بعد فترة وجيزة من الزمن،
١٨٢ ثم ما لبث أن استدعى القواد لمقابلته في اليوم التالي (٨ بريمير)،
وأعلن إليهم عزمه على إلغاء أو تعديل بعض القرارات السابقة، ولو أنه تذرع بوجوب
التريث حتى يتم هذا الإلغاء والتعديل شيئًا فشيئًا، تجنُّبًا لما قد يترتب على
اتخاذ أي إجراء سريع من قلقلة واضطراب لا مسوغ لهما. ثم انتهز منو فرصة اجتماع
القواد به يوم الاحتفال بتأبين الجنرال ديزيه عسكريًّا (١٠ بريمير وأول نوفمبر
١٨٠٠م) فطمأن خواطرهم، ووعد بإبطال تحصيل ضريبة بيت المال من الفرنسيين، والنظر
في إلغاء بعض الإجراءات السابقة، ثم طلب إلى صرَّاف الجيش أن يصدر أمرًا
يوميًّا بإبطال هذه الضريبة، كما أكَّد استعداده لتنفيذ كل ما طلبه القواد في
مقابلتهم الأولى له. وكان منو قبل الاحتفال بيومين قد كتب إلى لاجرانج رئيس
أركان حربه الجديد — بعد إقصاء داماس — يطلب إليه أن يعهد بمنصب المفتش العام
إلى هكتور دور وأن يرفع مرتباته ترضيةً له، وقبل دور هذا المنصب،
١٨٣ وأقام الجيش في أول نوفمبر احتفالًا مهيبًا في سهل القبة لتأبين
الجنرال ديزيه،
١٨٤ وبدا لأول وهلة أن أسباب الخلاف بين منو وقواده المعارضين سوف
يُقضى عليها.
وفي ٣ نوفمبر علم رينييه أن منو قد ألغى الأمر الذي نص على تحصيل ضريبة بيت
المال من الفرنسيين، وفي اليوم نفسه تناول الغداء في منزل بليار مع سائر
القواد، فوعد في أثناء ذلك بأنه لن يدعو للانعقاد ذلك المجلس الخاص الذي كان
قد صدر أمر بتأليفه في ٢ سبتمبر، ولم ينفذ أصلًا على نحو ما سبق ذكره. وفي ٨
نوفمبر برَّ منو بوعده في صدور أمر يومي افتُتحت بمقتضاه الاكتتابات اللازمة
لإقامة نصب تذكاري لكل من ديزيه وكليبر.
١٨٥
غير أن ذلك كله لم يقنع الكليبريين بأن منو كان يبغي حقيقةً إزالة أسباب
النفور أو أنه يودُّ استمالة القواد إليه، وساد الاعتقاد بينهم أن منو إنما كان
يعمل لكسب الوقت فحسب، ويريد فسحة من الوقت لإمعان النظر فيما يجب عليه فعله
قبل التورط في إجابة مطالب القواد جميعها. وتلمَّس أولئك الذين ساورتهم الشكوك
في نوايا منو الأسباب لإقامة الدليل على صدق ظنونهم فيما حدث بمناسبة الاحتفال
العسكري الذي أُقيم لتأبين الجنرال ديزيه، فلاحظوا أن المكان الذي وقع عليه
الاختيار لذلك الاحتفال في سهول القبة كان قريبًا من ميدان معركة هليوبوليس
التي انتصر فيها كليبر «فافتتح مصر مرة ثانية». ولما كان وجود المحتفلين قريبًا
من ميدان المعركة من شأنه أن يذكِّر الجنود بوفاة قائدهم، الذي اغتيل في نفس
اليوم الذي سقط فيه ديزيه في معركة مارنجو، فيشعر الجنود بالحزن والأسى، فقد
انتظر الكليبريون أن يجد المتكلمون في تأبين ديزيه ما يقولونه كذلك عن الجنرال
كليبر، ومع ذلك فإن أحدًا لم يذكر كليبر بكلمة، كما أن أحدًا لم يفكر في تكريم
ذكراه في هذه المناسبة بنثر بعض الزهور على قبره،
١٨٦ بل إن هذا الحفل ما لبث أن انتهى في صمت عميق؛ لأن منو قرر أن
يتكلم رجل واحد فحسب في تأبين ديزيه، فألقى فورييه
Fourier خطابًا طويلًا
١٨٧ أشاد فيه بذكر ديزيه، فأسهب في وصف مناقبه، كما عدد كل تلك الخدمات
الجليلة التي أسداها لوطنه،
١٨٨ وأغفل فورييه ذكر الجنرال كليبر، فلزم القواد الصمت وقد أمضَّهم هذا
الإغفال، وانفضَّ الحفل وقد زاد نفورهم من منو وعظمت كراهيتهم له.
وفضلًا عن ذلك فإنه سرعان ما تبين لهؤلاء القواد المعارضين وأنصارهم أن منو
إنما كان يضمر لهم العداء ويريد التخلص منهم، آية ذلك رغبته في إبعاد تاليان
على وجه الخصوص، حتى إنه أعدَّ له جواز سفر إلى فرنسا منذ ٢٨ أكتوبر، ونجح في
حمله على مغادرة البلاد، فاستطاع بذلك أن يبعد عنه أشد المعارضين خطرًا عليه
وأقواهم مراسًا في تأليب المعارضة ضده،
١٨٩ ثم ما لبث أن كشف عن حقيقة نواياه عندما طفق يسعى في الأيام
التالية لإقناع زعماء المعارضة الآخرين داماس ولانوس وفردييه بالسفر إلى فرنسا،
ويقترح عليهم العودة إلى الوطن، وقد رفض هؤلاء جميعًا مغادرة البلاد وقتئذٍ
لأنهم كما قال رينييه: «كانوا لا يريدون أن تفقد فرنسا مصر فتضيع هذه البلاد
بسبب ضعف اليد المسيطرة على الجيش.»
١٩٠ وعلى ذلك فإنه بدلًا من أن تستقيم الأمور في «مستعمرة» منو، سرعان
ما وجد قائد الحملة العام أن الجو قد أخذ يزداد اكفهرارًا بسبب كل تلك السحب
المتلبدة. وكان منشأ هذه الصعوبات التي صادفها أنه إنما يشغل منصب القيادة
العامة بصورة «مؤقتة».
تثبيت منو في القيادة العامة
وقد فطن منو إلى أنه لا سبيل لإخماد المعارضة ضده طالما كانت قيادته
«مؤقتة»، ومن المحتمل أن تصدر أوامر القنصل الأول من باريس بإخراجه من منصبه،
وإسناد قيادة الحملة العامة إلى رجل آخر؛ ولذلك فقد اعتمد منو في اجتياز
العقبات التي صادفته على كياسته فحسب، فأتقن أسلوب «المداراة» وبذل كل ما
وسعه من جهدٍ وحيلةٍ حتى يتجنب مغبة الاصطدام السافر مع القواد الناقمين عليه،
وراضَ نفسه على احتمال «مشاكساتهم» حتى تفصل حكومة القنصل الأول في أمر قيادته،
ووجد من الحكمة وأصالة الرأي أن يمضي قدمًا في إصلاحاته وتنظيماته، ضاربًا عرض
الحائط بهذه المعارضة القوية ضده، كما هداه التفكير إلى أنه من الخير له أن
يغفل الحديث عن هذه الإصلاحات والتنظيمات فيما يرسله من أنباء إلى حكومته،
١٩١ فلم يكتب عنها شيئًا منذ أن أقلعت «أوزيريس» في ١٠ يوليو ١٨٠٠م تحمل
أنباء الاعتداء على كليبر، مع بيان موجز عن وضع البلاد العسكري.
١٩٢ وعلى ذلك فقد امتنع منو في كل ما بعث به من رسائل حتى أواخر شهر
أكتوبر إلى القنصل الأول وإلى وزيري الحربية والخارجية في باريس عن ذكر شيء من
أخبار ذلك الانقسام الذي ظهرت بوادره في الجيش منذ أن تسلم القيادة العامة أو
نشاط المعارضة ضده، فقال عندما كتب إلى بونابرت في ٢٤ سبتمبر:
١٩٣ «إن الظروف اقتضت إخراج داماس من رياسة هيئة أركان الحرب، وتعيين
الجنرال لاجرانج بدلًا منه»، وطلب إلى القنصل الأول أن يصدق على التعيينات التي
أجراها، وقد كانت هذه كما اعترف منو تعيينات كثيرة «وإن كان ذلك بسبب الظروف
التي حتمت إجراءها»، واكتفى منو في رسائله العديدة إلى كارنو
Carnot وزير الحربية بأن نقل إليه خبر تعيين
الجنرال لاجرانج رئيسًا لهيئة أركان حربه،
١٩٤ كما انتهز فرصة الإفاضة فيما فعله من إصلاحات يبغي منها توفير
الغذاء والكساء للجيش، وتجهيز المستشفيات بكل ما يلزم لمداواة المرضى والجرحى
والعناية بأمرهم، فذكر كيف أنه اضطر إلى معاملة المتعهدين والموردين وفريق من
رجال الإدارة الذين ثبت غشهم وتلاعبهم معاملة صارمة شديدة، حتى إن هؤلاء سرعان
ما نقموا عليه وصاروا أعداءه، وإن كان منو كما قال لا يعبأ بعداوتهم طالما كان
هدفه صون المصلحة العامة وخدمتها.
١٩٥ وهكذا كانت هذه العبارات الموجزة البسيطة كل ما شاء منو أن يذكره
للحكومة في باريس حتى أول بريمير من سنة الجمهورية التاسعة (٢٣ أكتوبر ١٨٠٠م) عن
ذلك الخلاف الذي استحكمت حلقاته بينه وبين قوَّاد الحملة وأكثر رجالها.
ولكن الخصومة ما لبثت أن اشتدت بين منو وبين قواده، ثم اتسعت شقة الخلاف بين
الفريقين حتى بات من المتعذر نكران وجود الانقسام أو إخفاؤه، وبخاصة عندما عقد
القواد اجتماعاتهم لتدبير عزل منو من القيادة أو حبسه في القلعة. واستطاع منو
الذي حضر عهد مؤامرات الثورة والإرهاب في باريس أن يعرف حركات أعدائه، ولا
يفوته تدبير من تدبيراتهم، كما أنه استطاع أن يجذب إليه بعض رجال الجيش،
كالجنرال داستان والضابط شانيه
Chanié، فصار
هؤلاء ينقلون إليه الأخبار تباعًا. ووجد منو أن الصمت أو المداراة قد بات لا
يجدي نفعًا، وأن من واجبه التسلح بالحيطة والحذر، واتخاذ الأهبة للدفاع عن نفسه
وعن إدارته أمام مواطنيه في مصر وفي فرنسا على السواء، ثم أمام القنصل الأول
قبل أي إنسان آخر. وعلى ذلك فقد نبذ منو خطته الأولى، وشرع منذ ٢٣ أكتوبر يتهيأ
لإرسال الجنرال فيال
Vial والضابط لازوسكي
Lazowski إلى باريس، حتى يشرحا لحكومتهما
حقيقة الموقف في مصر،
١٩٦ وحمَّلهما رسائل إلى القنصل الأول وإلى غيره
١٩٧ من رجال الحكم والأصدقاء في باريس، فغادر فيال القاهرة في ١٢
بريمير (٣ نوفمبر)، ثم أقلع من الإسكندرية على ظهر «لودي» بعد يومين فبلغ طولون
في ١٤ فريمير (٥ ديسمبر) ومعه لازوسكي.
١٩٨ ونشرت الجريدة الرسمية المونيتور
Moniteur رسائل منو في جملة أعداد من أعدادها ابتداءً من
٢٥ فريمير من سنة الجمهورية التاسعة (١٦ ديسمبر).
١٩٩ وفي هذه الرسائل أشار منو إلى وجود جماعة مناهضة للاستعمار في مصر،
اضطر إلى مناضلتهم نضالًا شديدًا حرصًا منه على المصلحة العامة؛ ذلك أن ما بذله
من محاولات للتغلب على العقبات الكثيرة التي اعترضت إصلاحاته المالية والإدارية
سرعان ما جعل النفعيين وأصحاب المصالح الشخصية يناصبونه العداء،
٢٠٠ وتلك حقيقة في وسع فيال ولازوسكي أن يبسطاها للقنصل الأول. ثم طلب
منو من بونابرت أن يسطر له كتابًا به من عبارات التأييد «ما يحمل كل أولئك
الذين يجب أن يكونوا قدوة حسنة لغيرهم على احترام النظام وعدم الخروج على طاعته.»
٢٠١
وفي الوقت الذي كان فيه مركز منو بوصفه قائدًا «مؤقتًا» لجيش الشرق قد بلغ
منتهى الحرج حتى اضطر إلى إرسال فيال ولازوسكي إلى باريس؛ حدث أن وصل إلى
الإسكندرية ضابط من طولون يحمل بريد فرنسا، وكان وصوله في نفس اليوم الذي غادر
فيه فيال القاهرة. وكان هذا البريد يحمل أنباءً شتى، منها استئناف القتال في
القارة بعد انتهاء تلك الهدنة البسيطة التي أُبرِمت عقب انتصار الفرنسيين في
معركة مارنجو، ثم سقوط مالطا في أيدي الإنجليز في ٢٥ سبتمبر،
٢٠٢ وعقد السلام بين فرنسا وأهل تونس والجزائر.
٢٠٣ على أن أهم ما حمله هذا الرسول كان ولا شكَّ ذلك الأمر الذي أصدرته
حكومة باريس «لتثبيت» منو نهائيًّا في قيادة الحملة العامة، وبادر منو بإبلاغ
ذلك النبأ إلى الجيش، فأصدر أمرًا يوميًّا في ١٣ بريمير (٤ نوفمبر ١٨٠٠م) يعلن
فيه انتقال قيادة جيش الشرق إليه بصورة رسمية،
٢٠٤ وما إن وصل الرسول إلى القاهرة بعد ذلك بيومين حتى سلَّم هذا الأمر
الحكومي إلى منو فورًا.
٢٠٥
وأحدث «تثبيت» منو في القيادة أثرًا عميقًا ما لبث أن ظهرت آثاره ليس في
موقف رينييه وزملائه من القائد العام فحسب، بل كذلك في موقف منو نفسه من القواد
الناقمين عليه، والذين حملوا ضده لواء المعارضة الشديدة منذ أن تولى قيادة
الحملة «مؤقتًا» من حوالي خمسة شهور مضت. فاستولت على هؤلاء المعارضين الدهشة
والحيرة العظيمة، وطفقوا يتلمسون «الأعذار» لحكومة القنصل الأول التي أقدمت على
هذه الفعلة، وعللوا ما حدث بقولهم إن كل ما كانت باريس تعرفه عن الجنرال منو
أنه من القواد المحظوظين في الجيش، بدليل اختياره لقيادة الحملة العامة، فلم
يصل إلى علم الحكومة أن الجيش بأسره متذمر منه، وأن منو لم يشغل منصب القيادة
العامة إلَّا بوصفه أقدم القواد الموجودين في الرتبة العسكرية عند وفاة كليبر،
ولا جدال في أن الحكومة اعتقدت أنه قد أدرك نصيبًا من المران يكفي لاضطلاعه
بأعباء الحكم والإدارة بمهارة وكفاءة، فضلًا عن أنها انتظرت من منو أن يطلب
النصح من زملائه القواد فيما يتصل بالشئون العسكرية لقلة خبرته بفنون الحرب
والقتال، كما انتظرت منه أن يبذل قصارى جهده لشد أواصر الألفة والاتحاد بينه
وبين زملائه. واستمر القواد يفسرون هذه الخطوة على نحو ما طاب لهم أن يفسروها
به، فقالوا إن الحكومة انساقت إلى ذلك بسبب ما ذاع عن اعتناق منو الدين
الإسلامي، وتوقعها أن يجذب إسلامه قلوب أهل البلاد إليه، فيلقى من تأييد هؤلاء
له ما يكفل النجاح لإصلاحاته الإدارية وتنظيماته المالية، وكان للحكومة في
باريس العذر كل العذر في توقع ذلك كله بسبب تقارير منو المزيفة التي خدع بها
الحكومة، ثم ما أذاعه زورًا وبهتانًا — على زعمهم — من وجود جماعة مناوئة
للاستعمار في مصر، فهو قد اغتصب لنفسه كل فضل فيما تم من إصلاحات في هذه البلاد
من وقت مغادرة بونابرت لها، كأنما كانت هذه كلها من صنعه هو وحده، فغمط كليبر
حقه ونسي فضله، كما ادعى دون مبرر أنه نجح «في إدارة حكومة هذه البلاد لفائدة
أهلها فحسب»، وكذب على الحكومة عندما وصف الجيش بأنه في خير حال يُرجى له، ثم
ركب متن الشطط فألصق بأصدقاء كليبر وحدهم تهمة مناوأة الاستعمار في مصر، وساعد
على رواج مفترياته وصول رسائله وتقاريره إلى فرنسا. وفضلًا عن ذلك فإنه ما بلغ
القنصل الأول خبر تلك الخلافات القائمة بين منو وبين سائر القواد حتى خشي من
ازدياد الانقسام في صفوف الجيش إذا هو أقدم على اختيار قائد آخر لقيادة الحملة
العامة بدلًا منه. أضف إلى هذا كله أنه كان من سوء التدبير العمل على عزله من
القيادة في وقت ظهر فيه منو بمظهر ذلك المستعمر الذي شيد صرح المستعمرة الجديدة
في مصر، وتعهد إلى جانب ذلك بالمحافظة على هذه المستعمرة «الناجحة» وإبقائها
في حوزة فرنسا، فأذعنت حكومة باريس إذن للأمر الواقع وراحت ترجو من بقاء منو في
منصبه التمكن من إقناع الرأي العام في فرنسا بمزايا بقاء هذه المستعمرة في
قبضتها، وبث روح الحماس في الشعب الفرنسي حتى يتسنى لها إرسال النجدات إلى مصر
المستعمرة الفرنسية الجديدة.
٢٠٦
تلك كانت الأسباب التي دعت في نظر القواد والجنرال رينييه على وجه الخصوص إلى
تثبيت منو في القيادة العامة. وسواء كان رينييه وزملاؤه على صواب فيما ذهبوا
إليه في تعليل تثبيت منو في القيادة أم كان القنصل الأول متأثرًا فيما فعل
بعوامل أخرى ذات صلة وثيقة بسياسته الخارجية على نحو ما سيجيء ذكره في الفصول
التالية؛ فقد كان من الواضح أن قرار بونابرت جاء معارضًا لرغبات القواد الذين
سرعان ما وجدوا أنفسهم بسبب ذلك في شرِّ مأزق، فقد استند هؤلاء في معارضتهم
السابقة إلى أن منو إنما يتمتع بقيادة الحملة بصورة «مؤقتة»، وفي وسعهم لذلك أن
يعارضوه ما شاء لهم الهوى أو تقدير المصلحة! دون لوم عليهم أو تثريب. أما
وقد صدر قرار حكومي «بتثبيت» منو في القيادة، فقد بات لزامًا عليهم احترام هذا
القرار الحكومي، وإلَّا عُدَّت معارضتهم له ثورة صريحة ضد حكومة الجمهورية
ذاتها. وعلى ذلك فقد صار متعذرًا عليهم القيام بمظاهرة من طراز تلك المظاهرة
التي قاموا بها في يوم ٦ بريمير، وقضى على كل أمل لهم في الاستحواذ على السلطة
أو تقرير مصير جيش الشرق وفق رغائبهم مهما كانت أغراضهم نافعة ومفيدة. ومع ذلك
فقد استعصى على القواد دفن أحقاد الماضي، كما استعصى عليهم أن يقلعوا عن
معارضتهم؛ ولذلك فقد شُغِل هؤلاء في الفترة التالية بأمرين؛ أولهما: تبرير
خطوتهم التي اتخذوها في ٦ بريمير من سنة الجمهورية التاسعة، مع إقامة البرهان
على أنهم على حق في معارضتهم حكومة منو وفيما يتخذونه من وسائل لإظهار وجوه هذه
المعارضة في مصر وفرنسا معًا، وثانيهما: الإصرار على رجاء بونابرت أن يعزل منو
من القيادة، أو أن يبعث في استدعائهم من هذه البلاد نهائيًّا.
٢٠٧
وقال القواد في تبرير مسلكهم يوم ٦ بريمير إن هذه الخطوة قد حققت شطرًا مما
هدف أصحابها إليه، فاصطنع منو الحكمة والروية في إصلاحاته المستحدثة، وأجرى
تعديلًا ملحوظًا في بعض ما أصدره من قراراته السابقة، كما أنه وعد بإبطال البعض
الآخر شيئًا فشيئًا.
٢٠٨ ومع ذلك فإن استمرار المعارضة في زعمهم كان أمرًا لا مناص منه لما
ظهر من عدم خلوص نيته والتواء أغراضه؛ ذلك أن منو لم يسمح بجمع التبرعات
اللازمة لإحياء ذكرى الجنرال كليبر إلَّا بعد وثوقه — على نحو ما نقله إليه
الرسول الواصل من فرنسا حديثًا — من أن باريس قد اشتركت في تأبين كليبر. وفضلًا
عن ذلك فإن منو لم يشأ أن يرسل إلى باريس النص الكامل لذلك التقرير الذي وضعه
كليبر عن معركة هليوبوليس قبل وفاته، ثم سهر على إتمامه بعد ذلك الجنرال داماس،
٢٠٩ فاستبعد منه منو عند إرساله كل ما تعلق بحالة الجيش منذ وفاة
كليبر، وأغفل ذكر تشكيل تلك الفرق الإضافية التي ضُمَّت إلى الجيش كقوات مساعدة.
٢١٠ وأعدَّ القواد «مذكرة تفسيرية» اعتزموا إرسالها إلى القنصل الأول
والحكومة الفرنسية لبيان الأسباب التي حملت رينييه وداماس وفردييه ولانوس
وبليار «على الاجتماع بالجنرال منو يوم ٦ بريمير من سنة الجمهورية التاسعة»،
للبحث فيما فيه ضمان مصلحة جيش الشرق، كما اشتملت هذه المذكرة على «تفاصيل ما
حدث في أثناء هذه المقابلة بكل دقة»، ولم يشأ القواد أن يوقعوا جماعة على هذه
المذكرة حتى لا تبدو في صورة عريضة اتهام «إجماعي» ضد منو.
٢١١
وسعى القواد ليستميلوا إلى جانبهم زملاءهم البعيدين عن القاهرة. ولما كان
الجنرال رامبون حاكم دمياط من كبار مؤيدي منو من وقت تسلمه القيادة العامة في
يونيو ١٨٠٠م،
٢١٢ فقد بذل رينييه وداماس جهدًا كبيرًا لاستمالته إلى صفوف المعارضة،
كما أنهما حاولا إقناع قائد آخر هو الجنرال فريان بصواب ما حدث يوم ٦ بريمير،
فأرسلا إليه تفصيلات هذه الخطوة، وأسفرت جهودهما عن النجاح عندما كتب فريان إلى
داماس في ٧ نوفمبر يهنئه مع زميله رينييه على دفاعهما عن مصلحة الجيش، ويؤكد
لهما انضمامه إلى إخوانه يوم ٦ بريمير لو أنه كان بالقاهرة وقتئذٍ، ثم تساءل في
ختام رسالته: «ومتى تنتهي هذه البدع المستحدثة ويستطيع العودة إلى فرنسا، ثم
يرفرف السلام بجناحيه على الجميع حتى يصلوا إلى ما تصبو إليه أنفسهم؟»
٢١٣
وكتب القواد إلى أصدقائهم في فرنسا يتحدثون عن إدارة منو وإصلاحاته، فكتب
لانوس إلى الجنرال لان
Lannes في ٦ نوفمبر
تعليقًا على «فعال» منو متسائلًا: «وماذا يمكن أن يرجو إنسان من رجل يتعذر عليه
الرجوع إلى فرنسا بسبب ذلك الاسم الجديد الذي اتخذه لنفسه في مصر، وخوفه لذلك
من مطاردة دائنيه له عند عودته إلى أرض الوطن؟» وفي ٢٤ نوفمبر كتب داماس إلى
صديقه الجنرال مورو
Moreau: «وإني لعلى يقين
أنه لا يزال في وسعنا أن نحرز بعض الانتصارات، ولكن من واجبنا كذلك أن ننظر إلى
المستقبل وعندئذٍ يبدو أن تعرضنا لخطر قد يكون جسيمًا أو لا تبلغ شدته حدًّا
عظيمًا؛ أمر محقق، فلا جدال في أنه لو استمر النضال على ما نعهده من شدة وصلابة،
فإنَّا لن نلبث طويلًا حتى نرى أنفسنا وقد حلت بنا الهزيمة بالرغم من
انتصاراتنا.» ثم أرسل إليه تقريرًا اشتمل على كل تلك الحوادث التي أرغمت الجيش
— في نظر داماس — على البقاء في هذه البلاد «المنكودة»، ورجاه أن يسعى
لاستدعائه إلى فرنسا. وفي نفس اليوم الذي كتب فيه داماس رسالته إلى مورو، بعث
رينييه بكتاب إلى هذا القائد نفسه يظهر فيه الأسف على حرمانه من خوض غمار
المعارك إلى جانب مورو بسبب إقامته في مصر، ويرجوه أن يسعى لاستدعائه «إذا كان
لا يزال هناك ما يجب عليه فعله من أجل إنهاء الحرب» في أوروبا، وقد كتب رينييه
كذلك في ٢٤ نوفمبر إلى الجنرال فرينو
Ferino
يشكو من «البطالة» التي تحرمه وهو في مصر من كسب أكاليل المجد والفخار
بالاشتراك في المعارك الدائرة في أوروبا، ويرجوه أن يبذل قصارى جهده لاستدعائه
إلى فرنسا. وفي رسالة إلى الجنرال سان
سير
Saint-Cyr أكَّد رينييه ضرورة إرسال قائد جديد بدلًا من منو إلى مصر،
كما أكَّد ضرورة أن يتم اختيار هذا القائد من غير أولئك الموجودين في مصر. وفي
نفس اليوم أيضًا (٢٤ نوفمبر) كتب رينييه إلى بونابرت يشكو له من منو الذي بذر
بذور الشقاق والتفرقة في جيش لم يعرف حتى هذا الوقت غير الاتحاد وجمع الكلمة،
فقد استنَّ منو كثيرًا من القوانين غير الصالحة أو الملائمة لعادات أهل البلاد
وتقاليدهم، وأبعد قوَّادًا تمتعوا باحترام الجميع وتقديرهم، ولم تفد شيئًا
محاولات رينييه لإطلاع منو على ما يشيع من تذمر وسخط بين جنود الحملة وبين
الأهلين على السواء. ثم نفى رينييه أن له يدًا في كل ما حدث، أو أنه ينتظر
تحقيق مصلحة ذاتية من ذلك، بل يرى من الملائم أن تتاح له الفرصة لمغادرة هذه
البلاد على الأقل بعد إلحاق الهزيمة بالعثمانيين؛ وذلك حتى لا يتخذ أولئك
المستاءون من منو اسم رينييه ستارًا لتأليف حزب يتصدى لمعارضة منو دون أن يكون
له يد في ذلك.
٢١٤
وما إن فرغ القوَّاد من تحرير رسائلهم حتى وقع اختيارهم على أوجست داماس
Auguste Damas من الضباط الموالين لهم،
ليحمل هذه الرسائل على أن يذهب بها إلى فرنسا يوم ٢٤ نوفمبر نفسه، ولكن أوجست
داماس لم يستطع مغادرة مصر حتى يوم ٩ يناير ١٨٠١م، وعندئذٍ وقع في قبضة الإنجليز.
٢١٥ ومع ذلك فإن هذا الحادث لم يكن معناه أن القواد قد أخفقوا فيما
أرادوه من إثارة الرأي العام الفرنسي ضد منو، واستمالة بونابرت إلى تأييدهم،
ذلك أن تاليان — كما سبق ذكره — كان قد حصل على جواز للسفر منذ ٢٨ أكتوبر،
فغادر البلاد واستطاع الوصول بسلام إلى فرنسا، وقد حمل تاليان في حقيبته «أوراق
الاتهام» التي أعدَّها المعارضون ضد قائد الحملة.
وغنيُّ عن البيان أن منو كان ملمَّا بكل ما يفعله أعداؤه ويسعون إلى تحقيقه،
وساءه أن يعمل هؤلاء لتشويه سمعته وهدمه، ولم يكن من المنتظر لذلك أن يقف مكتوف
اليدين أمام نشاط أعدائه، وإذا كان منو قد فضَّل اصطناع التريث وسلك طريق
المداراة معهم في الماضي؛ لأن قيادته كانت «مؤقتة» فما الذي يمنعه الآن وقد
جاءه قرار التثبيت من المضي في إصلاحاته العزيزة عليه أو تلك «البدع
المستحدثة» على حدِّ قول معارضيه وأخْذ هؤلاء المعارضين أنفسهم بالشدة والصرامة
وقد اطمأن الآن إلى خضوع جند جيش الشرق لأوامره؟ وعلى ذلك فإنه ما إن وصله أمر
الحكومة بتثبيته في منصبه حتى نبذ ظِهريًّا سياسة اللين التي اتبعها مع قواده
ومحاولة التفاهم معهم، وطفق هو الآخر يعمل كما عمل قواده لاستمالة الرأي العام
إلى جانبه في مصر وفرنسا معًا، ببيان خطل ذلك الرأي الذي جعل القواد يقومون
بخطوة ٦ بريمير، وإظهار هؤلاء القواد بمظهر الناقمين الحاقدين عليه، والذين ما
كان يحركهم سوى أهوائهم الشخصية، واستعان منو في تدبير هذه الحملة ضدهم بطائفة
ممن وثق بهم من الضباط والقواد مثل داستان وشانيه وغيرهما. وفضلًا عن ذلك فقد
وجد منو أن من الخير له أن يقصي من هذه البلاد أكبر عدد ممكن من هؤلاء
المعارضين له، وكانت الحملة التي شنَّها منو على أعدائه — سواء في مصر أو في
فرنسا — حملة عنيفة، غرضها تشويه سمعة هؤلاء وإسقاطهم في نظر مواطنيهم في هذه
البلاد وفي أوطانهم.
وعلى ذلك فقد راح منو يعرض على القواد جوازات سفر تمكِّنهم من العودة إلى
فرنسا، ومع أن هؤلاء رفضوا أن يتركوا وظائفهم من غير أن يصلهم أمر صريح بذلك من
القنصل الأول نفسه،
٢١٦ فقد نجح منو في استمالة الجنرال فردييه إلى مغادرة هذه البلاد،
والسبب في ذلك أن فردييه كان متزوجًا من سيدة إيطالية كرهت الإقامة في مصر،
وألحت على منو نفسه في طلب العودة إلى فرنسا، فرحب منو بهذه الفرصة وكتب إلى
فريان قومندان الإسكندرية
٢١٧ أن يعدَّ لنقل فردييه وزوجه مركب البريد لوديجاجيه
Le Dégagé، فأقلعا إلى فرنسا في ديسمبر،
وكان فردييه يحمل معه رسائل عدة من منو، وكتم منو الخبر في أول الأمر، ولكن ما
إن عُرِف رحيل فردييه — وكان من كبار المعارضين لمنو — حتى اشتد حقد سائر
القواد على منو، كما وصف لانوس فردييه بالخيانة وتهكم عليه تهكمًا مرًّا
فقال: «إن السيدة لويزا بيانكي قد سافرت ومعها فارسها!» ولم يكن فردييه موفقًا
في رحلته فوقع هو وزوجه في قبضة الإنجليز.
٢١٨ أمَّا سائر القواد فقد جددوا القسم أن يبقوا على عهدهم، فإما أن
يغادروا البلاد جماعةً مع جيش الشرق نفسه، وإما أن يبقوا في مصر حتى يستدعيهم
بونابرت من هذه البلاد رسميًّا،
٢١٩ وزاد النضال من ذلك الحين بين منو وبين زعماء المعارضة شدة على
شدته.
واتخذ منو من استناد المعارضة هذه في جوهرها إلى أن القائد العام لا يجب عليه
أن يعتبر مصر مستعمرة فرنسية ذريعة لتشويه سمعة القواد والحطِّ من كرامتهم بين
جنود الحملة ورجالها، فانطلق أنصاره ومؤيدوه يهمسون في آذان الجند في بادئ
الأمر ثم يجهرون صراحةً بعد التمهيد لقبول دعاواهم أن جميع من حملوا لواء
المعارضة ضد منو هم من مناوئي الاستعمار الفرنسي في هذه البلاد، وأن الغرض من
تلك المظاهرة التي دبَّرها المعارضون يوم ٦ بريمير (٢٨ أكتوبر) كان التخلص من
غريمهم والقبض عليه وحبسه، بل إن هؤلاء المعارضين من أنصار الجلاء عن مصر
وإخلائها كانوا على صلة بالعدوِّ نفسه.
٢٢٠ ولما كان المعارضون قد اتخذوا من كليبر «معبود» الجيش على زعمهم
رمزًا لسياسة الجلاء التي بنوا عليها معارضتهم، فقد صمم منو على تحطيم هذا
«المعبود» وتقويض عروش مجده كخطوة لا غنى عنها إذا هو شاء تحطيم «الكليبريين»
أنفسهم، وهدم تلك الجماعة التي اعتقدت خطأً أو صوابًا أنها إنما تترسم خطوات
قائد الحملة السابق فيما تفعله؛ فأذاع أنصار منو — كداستان وشانيه — في رسائلهم
التي نشروها في مصر أو بعثوا بها إلى فرنسا كل ما من شأنه تحطيم مجد كليبر
وتلطيخ ذكراه وتشويه سمعته.
وفضلًا عن ذلك فقد وجد منو أن يبطل مساعي أعدائه في فرنسا، حتى يضمن استبقاء
مودة بونابرت وتأييده له، فشرع يفكر في أجدى الطرق لإقناع القنصل الأول بأن صرح
الاستعمار الذي أرسى بونابرت بيده قواعده في مصر إنما يقوم على دعائم ثابتة
متينة تنبئ بنجاح سياسته الاستعمارية، وهداه التفكير إلى أن خير ما يحقق ذلك
حمل الديوان على إرسال تهنئة إلى بونابرت على تسلمه أزمَّة الحكم في فرنسا،
وإعلان رغبتهم القاطعة في الانضمام إلى فرنسا، فكانت رسالة الديوان التي سبقت
الإشارة إليها، وقد أرسلها منو بعد نقلها إلى الفرنسية يوم ١٤ نوفمبر إلى باريس
مع خطاب منه إلى القنصل الأول،
٢٢١ وأكد منو في هذا الخطاب مقدار ما يبذله من جهود حتى يكون أهلًا
لذلك المركز الذي صار يشغله بفضل «تثبيت» بونابرت له في قيادة الحملة العامة،
كما أكَّد إخلاصه وولاءه لحكومة الجمهورية «حتى آخر يوم من أيام حياته»، ولما
كان يعرف حنين بونابرت إلى جيشه دائمًا، فقد حرص على أن يبعث إليه بتحيات جيش
الشرق «الذي يمتثل دائمًا لأوامر القنصل الأول.» وفضلًا عن ذلك فقد تحدث منو عن
إصلاحاته الكثيرة، ولم يفته أن يذكر أن أعضاء الديوان أنفسهم هم الذين سطروا
كتابهم إلى بونابرت «فالكتاب كله من إنشائهم ومن ثمار قرائحهم»، ولم يتلقوا
نصحًا أو إرشادًا من أحد حين إعداده، ولم يتدخل منو أو فورييه في شيء. وكان بعد
هذه العبارات التي حملت في ثناياها إطراءً ظاهرًا للقنصل الأول أن انتقل منو
بلباقة إلى الإشارة إلى كل أولئك الذين قال عنهم «إنهم يكيدون في الخفاء لإثارة
خواطر الجيش والذين أُرغموا على التزام جادة الصواب بفضل امتناع الجيش عن التأثر
بمكائدهم.»
على أنه مما تجدر ملاحظته أن الديوان لم «يتطوع» بالكتابة إلى بونابرت من
تلقاء نفسه على نحو ما أراد منو أن يقول، بل كان الواقع على خلاف ذلك لأن منو
هو الذي طلب من الديوان هذه الكتابة، ولم يشر الشيخ عبد الرحمن الجبرتي بشيءٍ
إلى هذه الرسالة في تاريخه.
٢٢٢ وفضلًا عن ذلك فقد رفض الجيش على الرغم من إلحاح منو أن يكتب رسالة
أخرى في هذا المعنى نفسه إلى بونابرت كما فعل الديوان.
٢٢٣
وانتهز منو فرصة تعيين ثيبودو
Thibaudeau —
وهو من أصدقائه — في أحد مناصب الدولة العالية فكتب إليه في ٢٨ نوفمبر
٢٢٤ متحدِّثًا عن جهوده من أجل إقامة الحكومة المنظمة في مصر، ومُطريًا
لصفات ثيبودو القانوني والمشرع البارع، كوسيلة تمهد له الكلام عن تاليان — وهو
من رجال القانون المعروفين — وتناول شخصه بالنقد والتجريح، فقال: «وكم كنت
أتمنى لو أني سعيد حقًّا أن أجد بجانبي مشرِّعًا للشرق يتصف بمثل الكفاءة
والمقدرة التي يتمتع بها ثيبودو، ثيبودو الذي اشتُهر بصلابته «كالقضيب من
الحديد». لقد صادفتني هنا عقباتٌ شديدةٌ كثيرةٌ، ولكني وقد تعلمت كيف أكون
صليبًا من حديد كثيبودو نفسه قد تسنَّت لي مصارعتها والصمود أمامها. وإني لأذكر
بمناسبة «القضيب الحديدي» أني تمكنت من أن ألفظ إلى أوروبا ثانية تاليان
المعروف، وذلك بعد أن كانت أوروبا قد لفظته إلى أفريقيا، وكان هذا الرجل إلى
جانب انشغاله بأسباب اللهو والتسلية في مصر يعمل لتحريك الجيش وحثه على الثورة
والعصيان، ولقيت مساعيه ترحيبًا من جانب أولئك الذين كان الواجب يقتضيهم بفضل
ما شغلوه من مناصب كبيرة ووصلوا إليه من رتب عالية؛ أن يكونوا قدوة حسنة
ومثلًا طيِّبًا للآخرين، ولكنهم بدلًا من ذلك لم يجدوا غضاضة في إصغاء السمع
إليه وقبول نظرياته الثورية، تلك النظريات التي أفسدتهم. أمَّا الجنود فقد أبوا
الانسياق وراء هذا التحريض؛ وذلك لصفاء معدنهم، ولما تحلوا به من صفات الشرف
والبسالة. ولما كان هؤلاء ينالون مرتبات حسنة ويجدون غذاءً كافيًا وأردية طيبة
فقد باتوا على استعداد للسير إلى أطراف المعمورة، طالما يدعوهم الصالح العام
إلى ذلك، فباءت مساعي الأشقياء بالفشل واضطروا إلى استئناف أعمالهم صاغرين،
ورحل تاليان ينشر مفاسده في مكان آخر.»
وحمل منو على تاليان حملة شعواء، فكتب بعد يومين إلى فورفيه
Forfait وزير البحرية في ٣٠ نوفمبر
٢٢٥ ينفي نفيًا باتًّا أنه أعطى جوازًا للسفر إلى تاليان، بل صار «يشكو
مُرَّ الشكوى من أولئك الربابنة الذين يجيزون لأنفسهم نقل أفراد لا يحملون جواز
سفر على سفنهم!» ومن هؤلاء الأخيرين إنسار
Insard صديق تاليان وأحد المشتغلين بالتجارة، كما أن تاليان
وإنسار سمحا لنفسيهما بأن يأخذا معهما ثالثًا لا يحمل جوازًا للسفر هو المواطن
جيلو
Gilot، أحد الصيادلة المهرة، مع
حاجة الحملة وجيش الشرق إلى الصيادلة عمومًا. ولم يشأ منو أن يدع الفرصة تمر
دون أن يتهم تاليان بمحاولة إشاعة الاضطراب في صفوف الجند، وحمل جيش الشرق على
التمرد والعصيان، غير أن منو لم يكن صادقًا حين ادعى أن تاليان غادر هذه البلاد
دون «جواز للسفر»؛ لأن منو الذي لم يدَّخر وسعًا في حمل تاليان على السفر
لإبعاده كان قد أعطاه جوازًا منذ ٢٨ أكتوبر ١٨٠٠م،
٢٢٦ ومع ذلك فقد صدَّق القنصل الأول دعواه كما صدَّق كل ما قاله منو،
فأصدر أمرًا بالقبض على تاليان في ٤ يناير ١٨٠١م «لأنه أقدم على مغادرة البلاد
دون جواز للسفر بعد أن كان قد أثار فيها القلاقل والاضطرابات.»
٢٢٧
ونشط أنصار منو يهاجمون الكليبريين ويعملون لتحطيم مجد كليبر نفسه دون هوادة،
فمن ذلك أن شانيه كان قد أعد منذ أول بريمير (٢٣ أكتوبر) خطابًا مفصَّلًا إلى
القنصل الأول، لم يشأ إرساله قبل أن يأخذ رأي قائد الحملة في ذلك، فبعث به إليه
في ١٥ ديسمبر تاركًا له الخيار في إرساله إلى فرنسا أو إتلافه.
٢٢٨ ولما كان هذا الخطاب بمثابة «صحيفة اتهام» ضد الجنرال كليبر وضد
الكليبريين في مصر، كما كان بمثابة «شهادة» في صالح منو «ووثيقة تأييد له»؛ فقد
اختار منو إرسال هذا الخطاب إلى بونابرت
٢٢٩ وهو خطاب طويل، استهله صاحبه بذكر ما كانت تعانيه البلاد من أشد
صنوف الحرمان عند مغادرة بونابرت لها، وهي حقيقة لا يخال شانيه — كما قال — أن
بونابرت نفسه يجهلها، «ومع ذلك فقد لا يعرف القنصل الأول مقدار الحماس الذي
قوبل به اختيار الجنرال كليبر لقيادة الحملة؛ وذلك لأن كليبر كان معدودًا من
القديسين والملائكة، وفي وسعه أن يقوم بجلائل الأمور وأعظمها، وانتظر منه
الجميع أن يفعل ذلك. أمَّا إذا خيب كليبر كل هذه الآمال المعقودة عليه، فإن
إثمه لا شكَّ يكون عندئذٍ كبيرًا ونحن لا نبغي وزن أعماله وإصدار حكمنا عليه،
لأن كليبر قد قضى نحبه، وللأجيال القادمة وحدها أن تفصل في أمره، وهذا حقها دون
ريب. ومع ذلك فقد يعن لأحد الأفراد أن يقف على شيءٍ مما كان يفعله هذا القائد
وحقيقة مسلكه في أفريقيا، فإذا تسنى للمرء أن يعرف ذلك وجد أن هناك تناقضًا
ظاهرًا صريحًا بين ذلك التمجيد الذي دعا القوم لإقامة نصب تذكاري له تخليدًا
لاسمه، وبين المنزلة الحقة التي كان يجب أن يوضع فيها هذا القائد في تقدير
الناس؛ لأن كليبر لم يفعل شيئًا لإزالة المساوئ التي كان يعلو ضجيج الناس منها
وقت اختياره للقيادة، بل إن هذه المساوئ ما لبثت أن ازدادت حتى تفاقم شرها في
عهده، وامتنع كليبر عن توقيع العقوبة الرادعة على أولئك الذين تصرفوا في
الأموال العامة وبددوها، ثم شمل بحمايته فعلًا هؤلاء السادرين في غوايتهم حتى
استفحل الخطب، فصار الجنود لا يأكلون إلَّا خبزًا مخلوطًا بالقش وغيره من
المواد الغريبة حتى عافته النفوس، ووصفه الجنرال منو وهو الرجل المحسن الأمين
بأنه كان خبزًا يتردد المقترون والبخلاء في إطعام كلابهم منه!»
وحمل شانيه على الإدارة الإقليمية في عهد الجنرال كليبر فقال: إن حكام
المديريات الفرنسيين كالجنرال رينييه وزملائه رامبون وفردييه وداستان
وبواييه Boyer ساموا أهل الأقاليم صنوفًا
من العذاب، فأثقلوا كاهلهم بالضرائب الفادحة، وجاروا عليهم في الحكم جورًا
عظيمًا حتى برح بهم الألم، وأفضى هذا الإرهاق الشديد إلى تخريب أقاليم برمتها
في دمياط والشرقية وسائر جهات الدلتا. وإن مثلًا واحدًا لما كان يفعله هؤلاء
ليعد كافيًا لبيان نوع هذه الحكومة الإقليمية الغاشمة، فقد وجد بواييه ذات مرة
أن من الخير له أن يفني قافلة من العرب بأكملها بعد أن استولى على تجارة
أصحابها حتى لا يطالبه أحد بشيء، مع أن هؤلاء العرب كانوا من أصدقاء الفرنسيين.
وفضلًا عن ذلك فإنه بدلًا من أن يُعنَى الحكَّام المعينون في السويس بدعم العلاقات
التجارية بين هذا الميناء وسائر موانئ البحر الأحمر، اهتم هؤلاء بفرض الغرامات
الفادحة على السفن التي قد يدفعها سوء الطالع إلى السويس، علاوة على الاستئثار
لأنفسهم بالجزء الأكبر من التجارات التي تأتي بها هذه السفن، ثم تحصيل ضريبة
ثقيلة على تلك التجارات التي شاءوا أن يتركوها لأصحابها.
ولا شكَّ في أن الجنرال كليبر كان لا يجهل هذه الحقائق التي عرفها جيش الشرق
بأسره، ولم يكن هذا حال الحكَّام وحدهم، فقد اشترك معهم في ارتكاب هذه الآثام
قومسييرو الحرب، وهم الذين كانوا «عصبة من الأشرار — على حدِّ قول شانيه —
الذين رفعوا نقاب الحياء عن وجوههم، وتجردوا من كل عفة»، وجاراهم في ذلك سائر
الموظفين في فروع الإدارة المختلفة. وقد وصف شانيه هؤلاء أيضًا بأنهم كانوا
طائفة من «حثالة القوم» لا يُرجى أي خير من حضورهم مع الجيش إلى مصر. أمَّا
سائر ضباط الحملة فإنهم سرعان ما صاروا ينسجون على منوال قوادهم ورؤسائهم،
وهكذا ضجت البلاد من شرورهم وآثامهم، وصار أهلها يئنون من شراهة وقسوة
المرءوسين، إلى جانب جور الرؤساء وعسفهم بهم، ثم لم تنجُ المستشفيات من شرور
هؤلاء الآثمين، فامتدت إليها أيدي اللصوص والنهابين، واكتظت حجراتها بالمرضى
والجرحى الذين أعوزهم من يقوم على خدمتهم أو يسهر على علاجهم، «فقضوا نحبهم وهم
يستمطرون اللعنات على تلك الدولة التي دافعوا عنها، وعلى حكومتها التي خدموها
فنبذتهم الآن نبذ النواة، وتركتهم يموتون دون شفقة أو رحمة.»
وكانت هذه ولا شكَّ صورة قاسية لحكومة الجنرال كليبر تكفي إذا ثبت أنها صحيحة
لتقويض عروش مجده، ومع ذلك فقد وجد شانيه أن يطعن هذا القائد وجماعة الكليبريين
طعنة نجلاء لا سبيل بعدها لإحياء ذكرى كليبر أو لبقاء معارضة الكليبريين إذا هو
استطاع أن يندد بسياسة الجلاء عن مصر وما جرَّت إليه، كمرض عضال يطلب كل إنسان
الفرار منه للنجاة بنفسه؛ ولذلك فقد سمَّى شانيه هذه السياسة «تسليمًا دنيئًا»
اضطر صاحبه تبريرًا له أن يلطِّخ بالعار سمعة جيش الشرق، عندما عزا «كليبر» تلك
الضرورة الملحة للمفاوضة مع العدو إلى وجود حركات جزئية من العصيان والتمرد يرى
شانيه من المحتمل «أن حدوثها كان بإيعاز من الجنرال كليبر نفسه». ولعل السبب في
ذلك، كما قال، أن كليبر كان يعتقد خطأً أن الجبن وخور العزيمة قد تطرَّقا إلى
الجنود فخشي من هزيمة الجيش إذا هو اشتبك مع العدو في معارك فاصلة، ومع ذلك
فإنه سرعان ما بدد هذا الجيش أوهام كل أولئك الذين طعنوا في بسالة الجنود
وكفاءتهم فأحرز جيش الشرق انتصار هليوبوليس الباهر بالرغم من رداءة المواقع
التي اتخذتها قواته وقت القتال.
وينقد شانيه سوء توزيع القوات الفرنسية في أثناء هذه المعركة فيقول: لو أن
الجيش كان موفَّقًا في اختيار مواقعه وتوزيع قوَّاته لامتنع على ستة آلاف من
العثمانيين والمماليك دخول القاهرة، ولظل على قيد الحياة ثمانية آلاف فرنسي من
البواسل الشجعان الذين ذهبوا ضحية هذا الحادث، بل إن اعتقاد كليبر الخاطئ
بانتشار التمرد والعصيان في جيشه دعاه لأن يترك العريش تسقط في يد العدو، وهكذا
ضحَّى كليبر بسبب وقوعه تحت هذا الوهم الباطل بحوالي ستمائة جندي، وما كان يحمله
على فعل ذلك في واقع الأمر سوى كراهيته الشديدة لمشروع الحملة الفرنسية على
مصر، ثم كان بعد أن تمت هذه التضحية أن راح كليبر يتلمس بسببها أعذارًا جديدةً
لإخلاء البلاد والجلاء عنها، ومع ذلك فقد أنشئوا له نصبًا تذكاريًّا، وكان
الأحرى بهم أن يقيموا لذكراه نصبًا يبقى دليلًا إلى الأبد على ذلك الغضب الذي
تشعل جذوته في النفوس دائمًا ذكرى هذا «القاتل». ولم يشأ شانيه أن يقصر حملته
الشعواء على كليبر فحسب، بل صب جام غضبه كذلك على داماس رئيس هيئة أركان حربه
فقال: إن جرم داماس ومسئوليته كانا يزيدان في خطورتهما على جرم ومسئولية كليبر
نفسه؛ لأن داماس كان صاحب تأثير كبير على كليبر، وقد استخدم سلطانه عليه في جر
النكبات على الجيش وإلحاق الأذى والدمار بفرنسا، حتى فقدت الجمهورية كل ما
عقدته من آمال على إمكان الوصول في وقت قريب إلى إبرام الصلح العام في
أوروبا.
تلك كانت حال الجيش الباعثة على اليأس إذن عندما تسلم الجنرال منو زمام
القيادة العامة، وكان عليه أن يقوم بعمل حاسم لاستئصال كل هذه المفاسد، وقد
صحَّ عزم منو على فعل ذلك. ووصف شانيه ضخامة الجهود التي يتطلبها مثل هذا العمل
الحازم فقال: «وإذ فسد أمر كبار رجال الدولة فاضمحل ذلك الروح المعنوي العالي
الذي يحول دون انتشار المساوئ وعم البلاء، بات العمل من أجل القضاء على
المفاسد وإرجاع النظام عملًا شاقًّا قاسيًا يقتضي جهدًا جبارًا وهمةً فذةً
عاليةً. ولذلك فإن ما فعله منو في مصر لتحقيق هذه الغاية لَيشبه تمامًا ما فعله
بونابرت نفسه في فرنسا. آية ذلك أن ما أدخله منو من ضروب الإصلاح الأولى على
الإدارة لينهض دليلًا على أن هذا القائد رجل شريف نبيل قد صح عزمه حقًّا على
إصلاح الجيش.» ولما كان شانيه يريد التنديد بمعارضة القواد فقد عزا ظهور هذه
المعارضة غير النزيهة إلى رغبة هؤلاء في إبطال كل أثر لإصلاحات منو خوفًا على
مصالحهم ومنافعهم الشخصية فقال إن الوجل سرعان ما حملهم على تأليف حزب لتعطيل
هذه الإصلاحات، ثم أكثروا من عقد الاجتماعات السرية في بيوت رينييه وهكتور دور
وداماس لتدبير المؤامرات ضد منو، واشتطوا في نقدهم له ولأعماله، ولكن منو لم
يأبه لهم ومضى قدمًا في إصلاحاته، وخسر هؤلاء ثقة القائد العام في أشخاصهم،
وتوهم القواد أن منو قد أهمل أمرهم عن ضعف واستخذاء، وأن طيبة منو دليل على
جبنه وخور عزيمته، فأرادوا أن يعزلوه من القيادة، وأوفدوا رسلهم إلى ضباط
الحاميات في القاهرة يجسون النبض تمهيدًا لهذا الانقلاب.
ثم قص شانيه كيف أن واحدًا من هؤلاء الرسل جاء لاستثارته ضد منو حتى إذا
احتدم النقاش بينهما لم يتردد هذا الرسول عن الجهر صراحةً بأنه لن يعترف بالجنرال
منو ممثلًا للحكومة الفرنسية في هذه البلاد، وأنه لن يدين بالطاعة لغير
الجنرال رينييه وحده إذا حدث انقسام في الجيش. وقد استمرت هذه الدسائس كما قال
شانيه حتى جاء أمر بونابرت بتثبيت منو في القيادة فقطع هذا «الأمر» دابرها،
وإن كان لا يزال هناك طائفة من أولئك الذين أضمروا العداء لمنو وجيش الشرق
بأسره، وصمموا في إصرار وعناد على عدم نسيان الماضي، وحقدوا على منو أنه كشف عن
نواياهم السيئة للقنصل الأول؛ ولذلك فقد توسل شانيه إلى بونابرت أن يستدعي إلى
فرنسا كل أولئك الذين يعرقلون بأعمالهم نشاط قائد الحملة العام، لما يترتب على
استدعائهم من صون المصلحة العامة وتأمين جيش الشرق على سلامته في مصر.
واستمرت الحملة ضد «ذكرى» كليبر وضد الكليبريين عمومًا، فكتب لاجرانج،
٢٣٠ رئيس هيئة أركان حرب الجنرال منو ومن أخلص أصدقائه، إلى بونابرت في
١٩ يناير ١٨٠١م يهدم سمعة كليبر ويندد بسياسة الجلاء عن مصر، فقال عن كليبر إنه
«رجل عرفت أوروبا عنه كما عرف العالم أجمع أنه أراد إخلاء مصر والخروج من هذه
البلاد، وأنه ظل يعمل لتحقيق هذه الغاية حتى مماته.» ولما كان انتصار هليوبوليس
قد أكسب كليبر صيتًا بعيدًا، فقد حاول لاجرانج هدم هذا الصيت العسكري، فنفى أن
كليبر نفسه كان صاحب الفضل في هذا الانتصار الذي تم بالرغم من الأوامر التي
أصدرها يطلب فيها من الجيش عدم الاشتباك مع العدو في قتال أو الالتحام معه في
أية معركة. وفضلًا عن ذلك فإن سبب الانتصار الحقيقي كان وقوع «حادث مفاجئ» في
أثناء القتال أفضى إلى النصر الذي أكسب جيش الشرق مجدًا وفخارًا، في الوقت
الذي ظل فيه ذلك القائد المتردد الذي أحب السلام دائمًا يطلب المفاوضة مع
العدو. وعزا لاجرانج رغبة كليبر في الجلاء عن مصر، وكل ما ترتب على ذلك من أخطاء
وقع فيها هذا القائد، إلى حقيقة واحدة هي أن استيلاء الفرنسيين على هذه البلاد
كان من فعل بونابرت نفسه «وأحد فتوحاته»، أمَّا إذا حُرم جيش الشرق من قيادة منو
فإن مصر لا محالة واقعة في قبضة العدو بعد شهر واحد فقط من هذا الحرمان.
تلك صورة لنوع الحملات التي كان يشنُّها كل فريق على الآخر، ومنذ أن اعتزم
الجنرال منو المضي في حملاته ضد القواد المعارضين جهرًا وعلانية صار إخفاء أمر
هذا الانقسام والشقاق على الجيش متعذرًا، فشاعت أخبار الخلاف بين الجنود،
واشترك صغار الضباط في النزاع القائم، ونشطت أعمال الجاسوسية فصار كل فريق
يتجسس على الفريق الآخر، وبدأ عهد من الذعر والخوف والكراهية والجبن، حتى ملك
الفزع قلوب كثيرين، وبات العقلاء يخشون أن يفضي ذلك كله إلى نتائج وخيمة.
٢٣١ وزادت الكراهية بين منو والكليبريين عندما أنجب قائد الحملة من
زوجه المسلمة الرشيدية ولدًا في ٧ فريمير من سنة الجمهورية التاسعة (٢٧ نوفمبر
١٨٠٠م)، فسمَّاه سليمان مراد منو، وكان اختيار اسم سليمان اختيارًا غير موفَّق
لمطابقته لاسم سليمان الحلبي قاتل الجنرال كليبر، فقد اتخذ الكليبريون من هذه
التسمية دليلًا آخر على كراهية منو لسلفه في القيادة، وعلى أن منو قد قرر
البقاء في مصر بصورة لا تحتمل شكًّا أو جدلًا، فاتهمه القواد بأنه إنما يريد
البقاء في مصر والابتعاد بها عن محيط السياسة الأوروبية حتى يجعلها بمنأى عن تقلبات
الحوادث في أوروبا، مستخدمًا جيش الشرق في هذه البلاد لتحقيق مآربه.
٢٣٢ وعندما أصدر منو أمرًا يوميًّا في ٣١ ديسمبر ١٨٠٠م بتخصيص الجزء
الأكبر من الأموال التي جمعت لإقامة نصب تذكارية لكل من ديزيه وكليبر معًا
للإسراع في تشييد النصب الخاص بالجنرال ديزيه؛
٢٣٣ ثبت لدى الكليبريين أن منو ما عاد يهتم بإخفاء عدائه لهم.
وفي فبراير ١٨٠١م حدث عند إذاعة خبر القبض على تاليان أن اتهم أحد أنصار منو
في اجتماع كان يضم بعض أصدقاء الكليبريين كلًّا من رينييه وهكتور دور إلى جانب
تاليان نفسه بتحريض الجيش على الثورة، ونُقل الخبر إلى الجنرال رينييه. وكان مما
زاد الطين بلة أن راجت الإشاعات وقتئذٍ كذلك بأن الجنرال فيال عند رحيله من
الإسكندرية كان قد هدد الكليبريين بأنه سوف يطلع القنصل الأول على «الشيء
الكثير» من أخبار الفرنسيين الذين نصبوا أنفسهم لمناوأة الاستعمار في مصر.
وفضلًا عن ذلك فقد عمد منو من مدة قريبة إلى توجيه التهم إلى رينييه — وكان
يحكم إقليم الشرقية ومكلَّفًا برقابة الحدود السورية — فنسب إليه التهاون
والتفريط في أداء واجبه، حتى إنه ترك العربان يذهبون بالمؤن إلى الجيش العثماني
بقيادة الصدر الأعظم. ثم اتسعت شقة الخلاف بين منو وقواده عندما ذاع في مصر خبر
تلك الخطابات والتقارير التي أرسلها منو إلى فرنسا ثم نشرتها الصحف الفرنسية،
وكانت تزخر بعبارات المديح والثناء على إدارة منو النشيطة المُصلحة في مصر،
فانبرى رينييه وزملاؤه يدحضون هذه «المفتريات» على زعمهم، وصاروا ينقدون بقسوة
ومرارة أوامر منو اليومية إلى الجيش وقراراته ومنشوراته، كما جرءوا على تصوير
قائد الحملة العام في صور هزلية مضحكة، وهزءوا به وسخروا من كتاباته، وتهكموا
عليه بسبب أسلوبه الخطابي وطريقة حديثه، ثم أمعنوا في النكاية به فاتخذوا من
حياته الخاصة وزواجه من سيدة مسلمة موضوعًا للفكاهة والتسلية، وانطلقوا يسمونه
ما شاء لهم الخيال وأملته عليهم الزراية بشخصه أن يسموه به، فهو تارة «الجنرال
المخادع»، وتارةً أخرى «الجنرال الثوري» إشارة إلى نشاطه أيام الثورة في فرنسا،
أو «الجنرال المضحك». وهكذا حتى توترت العلاقات بين الفريقين واهتاجت
النفوس، وبات من المتوقع أن ينفجر بركان الغضب سريعًا وعند أول بادرة. وقد حدث
هذا الانفجار عندما أصدر منو في ٢٣ بليفوز من سنة الجمهورية التاسعة (١٢ فبراير
سنة ١٨٠١م) أمرًا يوميًّا أحدث ضجة كبيرة، وكان من أخطر أسباب تفرق الكلمة في
وقت كان لا مناص فيه من الاتحاد لدفع خطر الغزو عن هذه البلاد، حينما أطبقت
جيوش العدو عليها من كل جانب.
جازيت دي فرانس «جريدة فرنسا»
وكان سبب صدور هذا الأمر اليومي أن البريد حمل عددًا من أعداد جريدة فرنسا Gazette de France إلى مصر في غضون شهر
يناير ١٨٠١م، استرعى انتباه منو لمقال توهَّم أن أعداءه هم المسئولون عن كل ما جاء
به من أخبار وتعليقات كان الغرض منها هدمه وإقصاءه من قيادة الحملة. وكانت
جريدة فرنسا قد درجت على نشر ما يصلها من هامبورج والقسطنطينية عن مصر ونشاط
رجال الحملة بها، فنشرت في العدد ١٠١٧، الصادر في ٥ فندميير من سنة الجمهورية
التاسعة (٢٧ سبتمبر ١٨٠٠م)، رسالة واردة من هامبورج بألمانيا مؤرَّخة في ١٥ سبتمبر
تحمل أنباء البريد الإنجليزي الصادر من لندن في ٥ سبتمبر وقد اشتملت رسالة لندن
هذه على طائفة من المعلومات والأخبار المستقاة من الرسائل الواردة إلى لندن من
شواطئ الشام ومن الوجه البحري في مصر بين ١٠ و١٥ يوليو ١٨٠٠م؛ أي إن مقال جريدة
فرنسا كان يستند في جوهره على أخبار واردة من مصر نفسها.
فتحدث المقال عن عقد مؤتمر في يافا في ٢٢ يونيو ١٨٠٠م حضره الصدر الأعظم
والقبطان باشا والريس أفندي والكخيا بك والسير سدني سمث لبحث الطريقة التي
يمكن بها تنفيذ اتفاق العريش، وقد حمل قراراتهم أحد الضباط في ليل ٢٣-٢٤ يونيو
في طريقه إلى مصر، ولكنه سرعان ما وصل نبأ اغتيال كليبر إلى المعسكر العثماني
في مساء يوم ٢٨ يونيو وانتقال قيادة الحملة إلى منو الذي أبلغ الحلفاء هذا
الخبر. ولما كان الجنرال منو قد اعتنق الدين الإسلامي وتزوج من مسلمة، ويعتقد
الأتراك أنه يطمع في الدخول في زمرة البكوات المماليك؛ فقد ثبت لدى العثمانيين
والإنجليز أن القائد العام الجديد سوف تشتد معارضته لاتفاق العريش، آية ذلك أن
الجنرال منو كان على رأس حزب الاستعمار في مصر، وزعيم المعارضة التي احتجت على
عقد اتفاق العريش أيام كليبر، ثم إنه استقال من منصبه في حكم الإسكندرية ورشيد،
واضطر كليبر إلى تعيين الجنرال لانوس بدلًا منه. ثم مضى صاحب المقال يقول:
وفضلًا عن ذلك فقد لقيت رغبة منو في البقاء تعضيدًا من جانب بونابرت الذي أرسل
لهذه الغاية الضابط «لاتور موبورج» من نحو ثلاثة شهور مضت، ثم تعززت الرغبة في
البقاء بفضل الانتصارات التي أحرزها الفرنسيون في إيطاليا؛ ولذلك فقد بات
مقضيًّا على كل أمل في إمكان استمرار المفاوضات للتعارض الواضح بين ما يهدف
إليه العثمانيون وحلفاؤهم منها، وبين رغبة منو الشخصية في البقاء في مصر، ثم ما
تهدف إليه كذلك سياسة القنصل الأول. وقد استند منو في تمسكه بالبقاء في مصر إلى
أسباب عدة، منها تعذر الوثوق بوعود الأتراك، واغتيال الجنرال كليبر، بل إن منو
ما لبث حتى قطع كل صلة له مع الأتراك، ولم يكتب إلَّا للسير سدني سمث وحده،
وقد فهم السير سدني من كتاب منو أنه وإن كان لا يرفض فكرة استئناف المفاوضة من
أجل إخلاء مصر فهو من ناحية أخرى لا يجيز لنفسه اتخاذ أي إجراء في هذا الشأن
دون موافقة القناصل؛ أي إن منو يقول إنه كان يعتزم القتال والمقاومة، «ولذلك
فمن الواضح أن تجديد اتفاق العريش قد بات اليوم متعذرًا، إلَّا إذا حدث أمر
واحد هو قيام الجنود الفرنسيين بالتمرد والعصيان، حتى يتسنى بذلك عزل الجنرال
منو وإعطاء القيادة العامة إلى قائد آخر من أنصار سياسة الجلاء عن مصر
وإخلائها.» ولكنه لما كان من المخاطرة أن يعتمد المرء كثيرًا على وقوع مثل هذا
الحادث فحسب لتنفيذ الجلاء، فقد بات من واجب الباب العالي أن يفكر جديًّا فيما
يجب عليه اتخاذه من وسائل فعالة لإخراج الفرنسيين من هذه البلاد بطريق الحرب
وامتلاك مصر ثانية. وعلى ذلك فقد صار شغل الباب العالي الشاغل هو إنجاز
الاستعدادات اللازمة لإرسال الإمدادات الكبيرة إلى الصدر الأعظم. وقد استطاع أن
يبعث إليه فعلًا بحوالي ثلاثة آلاف مقاتل ثلثهم من الفرسان، هذا بينما استأنف
القبطان باشا والسير سدني سمث التجول في المياه المصرية، بل إن هناك ما يدل
على أن الاتفاق قد تم على تضييق الحصار على الموانئ المصرية وتأييد هجوم الصدر
الأعظم البري على مصر من جهة البحر كذلك.
٢٣٤
ذلك كان مقال جريدة فرنسا، وقد وضح من خلال سطوره أن الفكرة الظاهرة التي
أملت هذا الكلام كانت تدور حول أمور ثلاثة؛ أولها: أن كل أمل قد انقطع في
استئناف المفاوضة من أجل جلاء الفرنسيين عن مصر «سلمًا» بسبب وفاة كليبر؛ لأن
خلفه في القيادة كان من كبار مؤيدي مشروع استعمار مصر. وثانيها: أنه من
المتعذر تنفيذ اتفاق العريش طالما كان منو على رأس الحملة، وأن مصلحة
العثمانيين والإنجليز تقتضيهم لذلك أن يُقصوا منو من القيادة العامة، وهو أمر
يصعب تحقيقه من غير قيام جيش الشرق بحركة عصيان خطيرة تنتقل بفضلها مقاليد
الأمور إلى قائد آخر من مؤيدي مبدأ الجلاء؛ أي من أولئك الكليبريين الذين
تزعموا المعارضة ضد منو كالجنرالات رينييه وداماس ورامبون. وثالثها: أن غزو
مصر بات متوقعًا في القريب العاجل بسبب استعداد الصدر الأعظم لبدء هجومه على
مصر.
وقد اهتم منو بهذا المقال اهتمامًا شديدًا، وكان مما استأثر بكل انتباهه وسبَّب
له الانزعاج العظيم ذلك الجزء من المقال الذي تحدث فيه صاحبه عن تعذُّر تنفيذ
اتفاق العريش ما دام منو يشغل منصب قائد الحملة العام، ولا حيلة للخروج من هذا
المأزق إلَّا بحدوث ثورة في جيش الشرق تسفر عن إقصاء منو عن القيادة وإفساح
الطريق لقائد آخر من أنصار سياسة الجلاء. وكان من الطبيعي أن تتجه شكوك منو إلى
أعدائه ومعارضيه الذين بذلوا كل ما وسعهم من جهد وحيلة لعزله. وكان وجه الخطر
في ذلك كله أن أخبار هذا الانقسام قد بلغت العدو الذي بات يعتمد على استغلال
هذا الضعف الداخلي ورغبة المعارضين في العودة إلى الوطن في تنفيذ مآربه. واعتقد
منو أن المسئول عن ذلك هم رينييه وسائر الكليبريين الذين خدموا بفعالهم العدو
ضد مصلحة الوطن وإن حدث ذلك بطريق غير مباشرة.
وفكر منو فيما يجب اتخاذه من وسائل لإحباط مؤامرات أعدائه، فقرأ مقال جريدة
فرنسا على أصدقائه وأنصاره في ٢١ يناير ١٨٠١م،
٢٣٥ ثم كتب إلى الجنرال برتييه
Berthier وزير الحربية الفرنسية في ٦ فبراير
٢٣٦ يجدد الشكر للقنصل الأول ويؤكد ولاءه وإخلاصه له وولاء «أكثرية
الجيش الكبرى» لبونابرت وعزمهم على تنفيذ رغبته في الاحتفاظ بمصر بكل قوة، ثم
تحدث عن مثيري الفتن والاضطراب في الجيش وإخفاقهم بسبب انصراف الجنود عنهم،
وانتقل من ذلك إلى الكلام عن العدد الذي وصله أخيرًا من جريدة فرنسا والذي لو
قرأ برتييه ما جاء فيه لعرف حقيقة ما يدبره «أعداء المصلحة العامة» من مشروعات
هدامة، إلى أن قال: «ومع أن هذه الجريدة قد أُرسِلت إليَّ من فرنسا فإني أجهل
مرسلها، وعلى كل حال فالواضح الجلي أن أولئك الذين أرادوا تحريك الفتنة
والاضطراب في مصر قد وجدوا وسيلة لإذاعة أخبار مشروعاتهم في أوروبا، ولا جدال
في أنهم يبغون من ذلك التأكد مما إذا كان هناك من يؤيدهم فيما يريدونه.» وقد
حمل هذه الرسالة رسول زوده منو بتفصيلات كثيرة يُطلع عليها الجنرال برتييه عند وصوله.
٢٣٧
ومع أنه كان يعوز منو الدليل المادي والبرهان القاطع على أن رينييه
والكليبريين هم المسئولون حقيقة عن «إذاعة أخبار مشروعاتهم في أوروبا»؛ فقد كان
واضحًا من ناحية أخرى أن أخبار جيش الشرق كان ينقلها الجواسيس تباعًا إلى
أوروبا، وبات لزامًا على قائد الحملة عندئذٍ أن يحذر الجند من أعدائهم الذين
يتجسسون عليهم، كما أدرك أن القضاء على «مشروعات» المعارضة المؤذية ضروري إذا
هو أراد إلحاق الفشل بمشروعات العدو الذي يعتمد في تنفيذها على وجود الانقسامات
الداخلية. ولم يكن هناك مناص إذن من أن يعمل على جمع الكلمة على أساس طاعة
الجند لرئيس الحملة وقائد جيش الشرق طاعةً تامةً، ووضع كل ثقتهم في شخصه
والاطمئنان إلى قيادته. وعلى ذلك فقد ظل منو يترقب الفرص المؤاتية للقيام بعمل
حاسم ضد أعدائه ومعارضيه خصوصًا، وواتته الفرصة عندما وصلت إلى مصر في الأسبوع
الأول من شهر فبراير أنباء الاعتداء على بونابرت في باريس ومحاولة اغتياله.
٢٣٨ وتفصيل ذلك أن فوضويًّا كان قد دبَّر مكيدة في ٢٤ ديسمبر لاغتيال
القنصل الأول وهو في طريقه إلى دار الأوبرا، فوضع في شارع سان نيكاز
Saint-Nicase برميلًا من البارود فوق
عربة، ولكن البرميل ما لبث أن انفجر بعد مرور بونابرت بلحظات معدودة، فنجا
القنصل الأول وقتل كثيرون غيره، فعظم سخط الرأي العام في فرنسا واتهم الفرنسيون
الإنجليز بتدبير هذه المكيدة حتى يتخلصوا من بونابرت عدوهم الأكبر. فوجد منو في
هذا الحادث ضالته المنشودة لتحذير جيش الشرق من العدو الغادر من جهة، وللقضاء
على المعارضة من جهة أخرى حتى يضمن جمع الكلمة والقضاء على الانقسام.
وعلى ذلك فقد رأى منو أنه إذا عمد إلى إذاعة أخبار هذا الحادث المروع ثم أضاف
إليه مقال جريدة فرنسا استطاع إذكاء نار الكراهية الشديدة ضد الإنجليز في
صدور جنوده وإلهاب حماستهم، فلا يعودون يصغون إلى أقوال معارضيه أو يأبهون
«لتحريضهم»، فأصدر في ٢٣ بليفوز (١٢ فبراير ١٨٠١م) أمرًا يوميًّا إلى الجيش
سرعان ما اكتسب شهرة ذائعة في تاريخ الحملة في مصر على أيام منو، حتى صار يعد
بسبب ما ترتب عليه من نتائج وخيمة من أهم العوامل التي قضت على كل اتفاق بدلًا
من توحيد الصفوف، والتي مهدت بذلك لانتصار العدو بدلًا من إنقاذ مصر وبقاء هذه
المستعمرة الجميلة في حوزة فرنسا.
الأمر اليومي في ٢٣ بليفوز
وصف منو في هذا الأمر اليومي حادث الاعتداء على حياة القنصل الأول، ثم علَّق
على هذا الحادث بقوله، موجهًا الخطاب إلى جنود جيش الشرق: «إن الأشرار الذين
أرادوا اغتيال القنصل الأول قد اعتمدوا في تنفيذ مأربهم على جماعة أو حزب من
الأجانب، سواء كان ذلك في فرنسا أم في أفريقيا أو في سائر أجزاء أوروبا؛
يعملون دون هوادة لقلب الجمهورية، ولا يتورعون في سبيل ذلك عن استخدام كل الطرق
كالقتل العمد وبذر بذور الفساد والتحريض على العصيان والثورة. وقد شخصت أبصار
هذه الجماعة إلى مصر فجرءوا على الظن أن في وسعهم أن يحيدوا بكم عن طريق الشرف
والصواب … ولقد رأيت أن أذكر لكم شيئًا وأضع تحت بصركم وناظريكم ذلك المقال
الذي نشرته «جريدة فرنسا»، وإليكم نص هذا المقال بأكمله …» ثم أثبت منو المقال
برمته، واختتم أمره اليومي بقوله: «وإنه ليحق لي دون ريب أن أحنق حنقًا عظيمًا
على أولئك الأجانب الذين تتألف منهم هذه الجماعة، ولقد صارحتكم القول من
اللحظة الأولى التي تشرفت فيها بتسلم قيادتكم أن حكومة الجمهورية فحسب هي التي
يسعها أن تصدر الأوامر إليكم بإخلاء هذه البلاد، كما صارحتكم القول بأن إخلاصكم
للوطن يتطلب منكم أن تبذلوا في سبيله كل تضحية، فإذا كان الواجب يقضي علينا
بالهلاك والفناء في مصر هلكنا وفنينا جميعًا، ونحن ما نزال في عداد أولئك
الجمهوريين الذين قاموا بكل واجب عليهم، ولا ريب في أننا سوف نفقد أمام العالم
أجمع كل شرف إذا تركنا هذه البلاد دون أن يصلنا في ذلك أمر حكومي صريح. ومع ذلك
فلا حاجة بي للتحدث إليكم باستفاضة عن هذه المبادئ، وأنتم الذين تعرفون معانيها
السامية بقدر معرفتي أنا لها، ولكنني ما قصدت من حديثي معكم إلَّا توضيح مبلغ
خيانة أعدائكم وغدرهم ثم إرشادكم إلى ما يلجأ إليه أعداؤنا من وسائل دنيئة لقلب
الجمهورية وهدمها.»
٢٣٩
وكان منو على حق في تحذيره جيش الشرق من الانسياق وراء «المحرضين» وتذكير
الجنود بواجب الطاعة المفروضة عليهم لقائد الحملة، فقد كان معروفًا وقتئذٍ أن
ثمة مراسلات تجري بين الشاطئ المصري وبين السفن الإنجليزية في عرض البحر لإبلاغ
السير سدني ما يقع من حوادث في داخل البلاد كما ذكر بليار في خطاب له إلى منو
أنه عثر على منشورات مهيجة في القاهرة.
٢٤٠ وفضلًا عن ذلك فقد ذكر الشيخ الجبرتي في حوادث ٩ رمضان ١٢١٥ﻫ/٢٤
يناير ١٨٠١م، أن العثمانيين كانوا يراسلون «سيدي محمود وأخاه سيد محمد المعروف
بأبي دفية»، كما كانت ترد الرسائل إلى سيدي محمود عن طريق السيد أحمد المحروقي
«فكان يقصد إلى قليوب ويتلقى ورود القاصد ويرد له الجواب»، بل إن سيدي محمود
(أو محمود أفندي) كان يتلقى إلى جانب ذلك بعض المنشورات المكتوبة بالفرنسية
«لتوزيعها ووضعها في أماكن معينة، حيث سكن الفرنساوية»، ووقف منو على حقيقة ذلك كله.
٢٤١ ومن ناحية أخرى كان هذا الأمر اليومي يتضمن نفس المبدأ الذي جاء به
«نداء» منو القديم إلى جيشه في ٢٢ يونيو ١٨٠٠م من حيث مطالبة الجنود بالطاعة
التامة لقائد الحملة، وترك تقرير الجلاء عن مصر أو البقاء بها في يد حكومة
الجمهورية، فلم يأتِ أمرًا جديدًا.
ومع ذلك فقد أثار هذا الأمر اليومي ثائرة القواد عندما أخذوا يقرءونه بإمعان
وتدبر خلال الثلاثة الأيام التالية (٢٣–٢٥ بليفوز)، ويقلِّبون وجوه الرأي في
محتوياته، ثم ذهبوا إلى أن منو إنما كان يشير إليهم وحدهم عندما تحدث عن أولئك
الذين اعتمد عليهم الحزب الأجنبي في قلب الجمهورية وهدمها وتحريض جيش الشرق على
العصيان والثورة. بل ذهب بهم الوهم كل مذهب فتخيلوا أن منو وحده هو صاحب هذا
المقال الذي نشرته جريدة فرنسا والذي تضمنه أمر منو اليومي، فكتب رينييه
تعليقًا على ذلك كله: «إن إشاعات ذاعت في فرنسا عن وجود حزب مناهض للاستعمار في
مصر قوامه كل أولئك الذين تمتعوا بثقة كليبر، ثم ما لبثت هذه الإشاعات أن ازدادت
رواجًا عند وصول الرسائل والتقارير إلى فرنسا من مصر، كما نشرت الصحف الفرنسية
بعض المقالات في صور رسائل واردة إليها من بلدان أجنبية؛ وذلك لتأييد هذه
الترهات بدعوى أن العدو نفسه كان واقفًا عليها ويعلم بأمرها. ومن الواضح أن
الجنرال منو كان يجد في ذلك وسيلة لاتخاذ الحيطة لنفسه، «حتى يضيع أثر ما يكتبه
معارضوه ضده»، وحتى يثير عاصفة من الشبهات حول نفر كان في استطاعتهم وحدهم أن
يفضحوا أمره.»
٢٤٢ وفسر رينييه مقال جريدة فرنسا تفسيرًا يختلف تمامًا عما ذهب إليه
منو نفسه فقال: «إن هذا المقال قد أُفرِغ في قالب يوحي بأن كاتبه ضابط إنجليزي،
لأن الغرض من كتابته لم يكن سوى إظهار الجنرال منو في صورة أكثر القواد صلاحية
لتولي مهمة الدفاع عن مصر، وأنه لن يتسنى للعدو استرجاع هذه البلاد إلَّا إذا
قام جيش الشرق بالثورة وأُقصي منو من القيادة واستُبدل به قائد آخر للحملة من
بين الجماعة التي ناوأت الاستعمار على زعمهم والتي ادعوا وجودها زورًا وبهتانًا.»
٢٤٣
وكان مما حمل القواد على الاعتقاد بأن منو هو صاحب هذا المقال الذي أراد من
نشره في فرنسا تلطيخ سمعتهم بين مواطنيهم؛ أنه حدث أن عُرِفت في مصر وقتئذٍ الصحف
الفرنسية التي نشرت كل تلك الرسائل الرسمية التي بعث بها منو إلى فرنسا في غضون
شهر يوليو ١٨٠٠م. وكان المركب الفرنسي «أوزيريس» الذي غادر هذه البلاد في ١٠
يوليو قد حمل هذه الرسائل إلى فرنسا، فاعتقد رينييه وزملاؤه أن منو قد عمد إلى
إرسال هذا المركب سرًّا من الإسكندرية حتى يذيع في أرض الوطن أنباء تأليف حزب
مناوئ للاستعمار من أولئك الذين عُرِفوا بتأييدهم لاتفاق العريش.
ولما أن تضافرت كل هذه العوامل لإقناع القواد المعارضين أن منو إنما كان يعمل
لإلحاق الأذى بهم وإهانتهم وتحطيم سمعتهم في مصر وفرنسا معًا وإثارة كراهية
القنصل الأول ضدهم؛ صحَّ عزمهم على أن الوقت قد حان للعمل ونبذ الصمت ظِهريًّا،
«لأن الضرر — كما قال رينييه — قد أصبح الآن ظاهرًا واضحًا»، ولا سبيل إلى
المراءاة والمداهنة إذا شاءوا تجنبه. وعلى ذلك فقد بادر هؤلاء بتحرير خطابات
شديدة اللهجة إلى منو يطلبون فيها أن ينفي القائد العام عنهم رسميًّا كل تلك
الاتهامات التي ألصقها بهم دون حساب بطريق غير مباشر، كما هددوه بإذاعة هذه
الخطابات ونشرها على الملأ إذا هو أحجم عن تكذيب الاتهامات الموجهة ضدهم.
٢٤٤ فنشأت من ذلك حال غريبة حقًّا عندما شُغل القواد ورئيسهم بتبادل
الرسائل في الفترة التالية وإرسال الخطابات إلى أصدقائهم وإلى القنصل الأول في
فرنسا في وقت كان العدو قد اتخذ أهبته للانقضاض على البلاد وغزو مستعمرتهم
برًّا وبحرًا.
فقد بعث رينييه بكتاب إلى منو في ١٤ فبراير ١٨٠١م
٢٤٥ يتساءل فيه عن الغرض الذي حدا بقائد الحملة العام إلى إصدار أمره
اليومي (في ٢٣ بليفوز)، ويطلب إيضاحًا كاملًا لمعنى نشر تلك الرسائل التي يُقال
إنها صادرة من إنجلترا بعد وصف حادث الاعتداء على حياة القنصل الأول، كأنما
يقصد منو من ذلك إلى أن هناك عددًا من الأفراد في جيش الشرق لا وطنية ولا شرف
لهم يحولان دون انضمامهم إلى أعداء الجمهورية، مما ألحق أكبر الأذى بسمعة هذا
الجيش. وفضلًا عن ذلك فقد طلب رينييه من منو أن يقولها كلمة صريحة إذا كان يرغب
في رواج هذه الإشاعات الكاذبة عن رينييه وزملائه، على أنه لما كان ما حدث قد
سبب لهم الإهانة فقد بات لزامًا على منو أن ينفي نفيًا قاطعًا كل تلك الأقوال
التي جاءت في أمره اليومي، أمَّا إذا امتنع منو عن فعل ذلك فإن رينييه سوف يرى
لزامًا عليه هو الآخر حينئذٍ أن يبعث بصورة من كتابه هذا إلى جميع ضباط وجنود الحملة
مع مذكرة صغيرة تبسط في صدق ودون مواربة حقيقة تلك الخطوة التي قام بها القواد
في ٦ بريمير الماضي. وقال رينييه في ختام رسالته: وإذا كان لدى منو بوصفه
القائد العام السلطة اللازمة والوسائل الكفيلة بنشر ما يريد وإذاعته، فإن لدى
رينييه وإخوانه كذلك أقلامهم يشرعونها في وجه منو، وفي وسعهم أن يجدوا من
الوسائل ما يكفل إطلاع الجيش وإطلاع الوطن على حقيقة الأمر والواقع.
وفي اليوم التالي (١٥ فبراير) بادر كل من داماس ولانوس وبليار بعرض شكاواهم،
فأكد داماس
٢٤٦ أنه لا وجود لجماعة مناوئة للاستعمار في مصر إلَّا في مخيلة منو
فحسب، أمَّا إذا كان منو يريد من نشر مقال جريدة فرنسا إلحاق الأذى بمعارضيه،
فإن داماس لن يحجم من جانبه عن إعلان خديعة منو وغدره على الملأ وإظهار أعداء
الجمهورية الحقيقيين. ونسج لانوس على منوال داماس، بل كان أقسى لهجة منه عندما
اتهم منو صراحةً بأنه كان صاحب المقال، وقال إن الأسلوب الذي أُفرغ فيه مقال
جريدة فرنسا ليدل دلالة واضحة على مقدار ما بلغه خبث صاحبه وخداعه، «ذلك أنه
إذا أمعن القارئ النظر في تلك العناية المصطنعة التي أراد صاحبها أن يصوِّر
منو في صورة من استقال من حكومة الإسكندرية ورشيد وقت اتفاق العريش، بينما
يعرف جميع الناس الظروف التي تسلم فيها لانوس حكم تلك الجهات من منو قبل
هذا الاتفاق بثلاثة شهور على الأقل، وكيف أن منو قضى هذا الوقت بل كل الوقت
الذي حاصر فيه العدو القاهرة قابعًا في رشيد برغم كل ما وصله من أوامر
لاستدعائه إلى مكان آخر؛ لأدرك القارئ حقيقة صاحب المقال وعرف كاتبه.» وعرض
لانوس لأسباب كراهية منو له، فعزاها إلى ذلك الاستياء الذي أظهره لانوس من تسلم
منو لقيادة الحملة، فكانت هذه الكراهية مصدر جميع المؤامرات التي دبرها منو ضده
وجميع ما ألقى من شبهات لتشويه إدارته، حتى استُدعي هو الآخر من حكومته إلى
القاهرة، ثم قال متوعِّدًا: «ولكن فلينتظر منو ما يفعله لانوس به عندما ينشر
على الناس قاطبةً كل ما يعرفه عن خبث منو ومكره وخداعه!» وشذ بليار عن زميليه
فكان أقرب إلى الاعتدال في لهجته، فطلب من منو «إيضاحًا صادقًا» عما إذا كان
هناك حزب مناوئ حقًّا للحكومة في مصر، وتساءل عما إذا كان منو يعتبره من أعضاء
هذا الحزب إذا وجد، واستند بليار في طلب هذا «الإيضاح» إلى ضرورة هذا العمل من
أجل جمع الكلمة وتوحيد الصفوف وإعادة الثقة إلى النفوس، وهي أمور لا غنى عنها
جميعها لضمان نجاح العمليات العسكرية المقبلة واستتباب الهدوء والسكينة.
٢٤٧
وكان اتهام منو بأنه صاحب مقال جريدة فرنسا اتهامًا خطيرًا، وإن كان لا
يستند إلى شيء من الحقيقة والواقع. وفضلًا عن ذلك فقد أثار أمره اليومي الصادر
في ٢٣ بليفوز عاصفةً من الاضطراب وهياج الخواطر لم يكن منو يتوقعها، وكان لا
مناص إذن من العمل لتسكين هذه العاصفة وتهدئة الأعصاب المتوترة. وعلى ذلك فقد
بادر منو بالإجابة على هؤلاء القواد في نفس اليوم الذي وصلته فيه رسائلهم.
٢٤٨ وكانت ردوده جميعها مفرغة في قالب واحد، بدأها منو بإنكار ونفي
وجود أية صلة بين ما نشره في أمره اليومي وبين ما يشكو منه قواده، بل أعلن أنه
ما كان يقصد بتاتًا أن يشير في شيءٍ إلى أحدٍ منهم، وإنما كان كل ما قصد إليه
الإشارة إلى «جماعة من الأجانب» دأبت على العمل من أجل قلب الجمهورية منذ أن
بدأت الثورة الفرنسية، ولم تكن هذه الجماعة سوى الإنجليز الذين يريدون تحريض
الجيش على الثورة والعصيان، والذين أذاعوا المنشورات المهيجة في القاهرة،
وأنشئوا من مدة صلات وثيقة مع بعض العناصر في الإسكندرية للوقوف على حقيقة ما
يحدث في داخل البلاد، ومن الواضح كذلك أن الإنجليز أنفسهم هم الذين كتبوا
المقال الذي نشرته جريدة فرنسا.
ومع وضوح هذا الرد وبالرغم من تلك الصراحة التي توخاها منو في الإجابة على
رسائل قواده، فإن هؤلاء لم يقنعوا بها، فكتب إليه رينييه في اليوم نفسه (١٥ فبراير)
٢٤٩ أن إجابته لا تشفي غليلًا ولا تروي ظمأً؛ لأن منو لم يشأ أن ينفي
بصورة رسمية كل تلك المفتريات التي أُذيعت في الجيش والتي صدر أمر ٢٣ بليفوز
اليومي على ما يبدو لتأييدها. أمَّا إذا كان الإنجليز يبغون من نشر هذا المقال
إثارة الاضطراب في جيش الشرق، فقد نفذ منو مأربهم عندما أذاع المقال في أمره
اليومي، ولا مراء في أن الإنجليز لا يحجمون عن اللجوء إلى كل ما يحقق أغراضهم
لانتزاع مصر من قبضة الجمهورية، فلا يتورعون في سبيل ذلك عن حبك خيوط المؤامرات
وتدبير المكائد، ولا مراء في أن الواجب يقتضي منو أن يبذل قصارى جهده لإحباط
مساعيهم ومطاردة وكلائهم، ولكن إذاعة الأوامر اليومية على نمط ما جاء في أمر ٢٣
بليفوز لن يحقق شيئًا من ذلك. ثم أشار رينييه إلى كتابه الذي بعث به إلى منو
يوم ١٤ فبراير وما تضمنه من «حقائق يعرفها منو معرفة جيدة، وله وحده إذا شاء أن
يعترف بها وأن يجيب عليها بصراحة تبعث الرضا التام» في نفس رينييه
وزملائه.
ولكن منو لم يشأ «الاعتراف بهذه الحقائق» على النحو الذي أراده رينييه،
واكتفى عندما كتب له في اليوم الثاني
٢٥٠ بأن صار يسترعي انتباهه إلى أن الصالح العام يقتضي وضع حد حاسم
لهذا النقاش الدائر بينهما. كما قال إن ما يريد أن يفسر به رينييه ما جاء في
أمره اليومي يتعارض تمامًا مع نص هذا الأمر اليومي وروحه، فضلًا عن أن منو نفسه
لم يكن يفكر وقتئذٍ في شيء مما ذهب إليه رينييه بتاتًا. ثم ختم كتابه قائلًا:
«ومن الواجب علينا ألا نشغل أنفسنا في هذه البلاد إلَّا بأمر واحد فحسب هو
صون المصلحة العامة.»
ولما لم يقتنع رينييه وزملاؤه بهذه الإجابة، فقد عمدوا إلى إذاعة رسائلهم إلى
منو حتى انتشر خبرها في أوساط الجيش، وقضى القواد علاوةً على ذلك الأيام
الأربعة التالية حتى يوم ١٩ فبراير في كتابة الخطابات إلى أصدقائهم في فرنسا،
فبعث رينييه بعدة رسائل إلى برتييه وسان سير ومورو ثم إلى بونابرت، وكتب داماس
إلى دوجا وإلى القنصل الأول، وأرسل رينييه صورًا من خطاباته إلى منو مع المذكرة
التي سبق أن أرسلها القواد مع أوجست داماس لتبرير خطوة ٦ بريمير المعروفة، ثم
صورة من رسالته التي طلب فيها تعيين قائد آخر للحملة بدلًا من منو (في ٢٤
نوفمبر ١٨٠٠م)، ومن خطابه إلى منو في ١٥ فبراير، وحمل هذه الرسائل إلى فرنسا
الجنرال فوجيير
Fugière والضابط باريه
Barré. وطلب القواد في رسائلهم استدعاءهم من مصر،
كما حذَّروا أصدقاءهم من عواقب بقاء منو في قيادة الحملة، كما طلبوا من
أصدقائهم أن يبذلوا قصارى جهدهم لاستمالة بونابرت إلى جانبهم. وقضى منو وقته
كذلك في الكتابة، فبعث إلى القنصل الأول برسالة في ٢٧ فبراير ١٨٠١م
٢٥١ تحدث فيها «عن أخطاء من المحتمل أن تكون قد وقعت، وعن خلافٍ في
الرأي من المحتمل كذلك أن يكون قد حدث فيما دار من نقاش حول فتح مصر والاحتفاظ
بها، ولكن مرد ذلك كله إلى تلك الظروف السيئة التي قضى عليها انقلاب ١٨ بريمير
(الذي أوصل بونابرت إلى القنصلية)، فلم يكن منشأ هذه الأخطاء والاختلافات إذن
نسيان الواجب أو إغفال صالح الوطن»، ثم طلب منو الرأفة والرحمة من بونابرت
بأولئك الرجال من جيش الشرق الذين ربما أثاروا شكوك القنصل الأول من ناحيتهم
بسبب أخطائهم.
وهكذا أضاع منو وقواده وقتهم الثمين في كتابة الرسائل والتراشق بالتهم
والدخول في مهاترات لا جدوى منها ولا طائل تحتها في وقتٍ كان الواجب يقتضيهم
جميعًا أن ينبذوا خلافاتهم ظِهريًّا، وأن يبذلوا كل ما وسعهم من جهد وحيلة لجمع
الكلمة والوقوف صفًّا واحدًا أمام عدو يتفوق عليهم في العدد والعدة، ويتخذ
تدابير واسعة للانقضاض عليهم وطردهم من هذه البلاد التي لم يعرفوا كيف يحتفظون
بها؛ ذلك أن الإنجليز كانوا قد أرسلوا حملتهم إلى الشواطئ المصرية بعد رسالة
منو الأخيرة إلى بونابرت بأيام قليلة معدودة، كما تحرك جيش العثمانيين على حدود
البلاد الشرقية لغزوها.