الفصل الرابع

التجربة الاستعمارية

(١) تمهيد

كان منو عند وفاة كليبر أكبر قوَّاد الحملة سنًّا، ويخوِّله قِدم رتبته العسكرية أن يتولى القيادة العامة، ولكنه تردد في قبول هذا المنصب، وكان من رأيه أن يتولى القيادة العامة بدلًا منه الجنرال رينييه، من أصدقاء كليبر الأوفياء١ ومن المحببين إلى الجيش،٢ ولكن رينييه لم يقبل؛ حرصًا منه على عدم مخالفة القوانين العسكرية، أو لأنه كان يخشى من تحمل عبء مسئوليات المنصب، ومن أهمها محاكمة قاتل كليبر، أضف إلى ذلك أن الخوف كان لا يزال مستوليًا على النفوس من أن يكون الاعتداء على قائد الحملة السابق بمثابة إنذار لتحريك الثورة من جديد في القاهرة.٣ وأمام عزوف رينييه لم يجد منو مناصًا من قبول القيادة بصورة «مؤقتة» حتى يأتي تثبيته في هذا المنصب نهائيًّا من جانب الحكومة الفرنسية.
وما إن تسلَّم القائد الجديد أعماله حتى أصدر إلى الجيش منشورًا في ١٥ يونيو٤ يعلن خبر الاعتداء على كليبر، الرجل الذي استطاع أن «يفتح» مصر مرةً ثانيةً في مدى عشرة أيام فحسب، بفضل ما أحرزه الجيش من انتصارات باهرة تحت قيادته، والرجل الذي استطاع أن ينظِّم الشئون المالية، ويدفع للجند رواتبهم المتأخرة. وقد اختتم منو هذا المنشور بقوله «إنه ليستمد القوة من روح كليبر، كما يستمدها من عبقرية بونابرت، حتى يتمكن بفضل ذلك من دفعهم — أي دفع رجال الحملة وجيشها — وهو من بينهم إلى العمل باتحاد لتأييد مصلحة الجمهورية.» وفي اليوم نفسه أصدر منو أمرًا بتشكيل لجنة من تسعة أعضاء، تضم إليها الجنرال رينييه وآخرين؛ وذلك لمحاكمة المتهمين بقتل كليبر.٥ وجرت هذه المحاكمة فورًا، فصدر الحكم في يوم ١٦ يونيو بإدانة سليمان الحلبي قاتل كليبر والمهندس بروتان، وبإدانة أربعة مشايخ كشركاء لسليمان الحلبي لأنهم علموا بنواياه ولم يبلغوا عنها، وقد حُكم على أحد هؤلاء غيابيًّا لفراره، ثم بُرِّئ منهم آخر ثبت عند التحقيق أنه كان يجهل نية القاتل وعزمه على اغتيال قائد الحملة.٦ وفي ١٧ يونيو احتفل جيش الشرق احتفالًا رهيبًا بتشييع رفات كليبر، وألقى فورييه القومسيير الفرنسي لدى الديوان وسكرتير المجمع العلمي خطاب تأبين طويلًا، وكان بعد أن وُوريت الجثة التراب أن أُعدِم سليمان الحلبي ورفاقه الثلاثة.٧

(٢) برنامج منو وسياسته

حزن الجيش لوفاة كليبر حزنًا شديدًا، ولم يكن منشأ هذا الحزن العظيم حب الجيش لقائده السابق فحسب، بل لأن كليبر أيضًا إلى جانب تعلق الجيش به كان صاحب سياسة الجلاء عن مصر والعودة إلى فرنسا. وكان من أثر حب الجند لقائدهم الراحل أن خشيَ بعض كبار الضباط في المراكز البعيدة عن القاهرة من إذاعة نبأ الوفاة رسميًّا على الحاميات المختلفة إلَّا بعد مضيِّ يوم كامل على الأقل من وقوع الحادث.٨ ومنذ أن أصدر منو منشور ١٥ يونيو الذي أعلن فيه خبر الاعتداء على كليبر، صار يتنازع الجيش عاملان ظاهران، هما عامل الحزن على وفاة كليبر، وعامل الدهشة المقرونة بالجزع بسبب انتقال قيادة جيش الشرق إلى الجنرال منو،٩ ذلك أن الجيش — أو إن شئت فعلى الأقل قوَّاده وضباطه١٠ — كانوا لا يثقون في قيادة منو، الذي وصفه جماعة منهم بأنه «رجل البلاط القديم» الذي يجهل فنون الحرب والقتال جهلًا تامًّا، بينما قال عنه آخرون:١١ إنه كضابط تنقصه الكفاءة، ويهزأ به الجميع ويسخرون منه.١٢ وجزع الجيش جزعًا شديدًا لأن أحدًا ما كان ينتظر العودة إلى الوطن في عهد القائد الجديد؛ لاعتناق منو الإسلام دينًا واتخاذه سيدة مسلمة زوجة له من جهة، ولأنه كان معروفًا بمعارضته الصريحة لتلك السياسة التي أفضت إلى عقد اتفاق العريش، فبات متوقعًا أن يظل الجيش في «المنفى» مدة طويلة بعيدًا عن أرض الوطن، آية ذلك ما ذكره أحد الضباط في رسالة إلى الجنرال رامبون في ٢٥ يونيو١٣ من أن «تسلم الجنرال منو لقيادة الجيش العامة قد أثار التذمر الشديد في القاهرة»، حتى إن هذا الضابط سرعان ما شعر بالراحة والطمأنينة عندما تمكَّن من مغادرة القاهرة؛ وذلك حتى لا يرى جنده الذين يقودهم وقد انضموا إلى حركة من المتوقع حدوثها قريبًا، كما كتب: «ونحن جميعًا إنما نشعر بالحزن العميق لوفاة قائدنا الشجاع، ولم يكن مبعث احترامنا وتقديرنا له ما أسداه من خدمات جليلة لحكومة الجمهورية من بداية الحرب فحسب، بل لما كنَّا نعقده من آمال في العودة إلى الوطن على يده كذلك.»
وظهرت رغبة الجيش الملحة في العودة إلى فرنسا خلال الأيام القليلة التالية، فسأل ضباط الحملة منو أن يحدد لهم موعد عودة الجيش إلى أوروبا. وفي ١٦ يونيو بعث أحد المواطنين الفرنسيين في الإسكندرية بمذكرة إلى منو يشير فيها إلى أن مصلحة فرنسا واستمرار الحرب في أوروبا، ثم رغبة الحكومة الفرنسية الجديدة ذاتها، كل ذلك من شأنه أن يحتِّم على منو مغادرة الأراضي المصرية والرحيل إلى فرنسا. وفي ٢١ يونيو ذكر لانوس، بمناسبة تأييده للجنرال منو، أنه «سوف يبذل قصارى جهده حتى تنتهي الحملة الفرنسية على ما يتفق مع رغبات الفرنسيين جميعًا.»١٤ وحدث في هذه الآونة أن ارتطمت السفينة الإنجليزية كورموران Cormoran بالشاطئ عند أبو قير في أثناء تجول الأسطول في البحر الأبيض، فأُسر رجالها وأُحضروا إلى القلعة، وطفق هؤلاء يبذرون بذور الشقاق والتفرقة بفضل ما صاروا يذيعونه من إشاعات يبغون بها إشاعة التذمر الشديد في صفوف جيش الشرق، فراحوا يؤكِّدون أن مسألة الخروج من مصر إنما يتوقف حلها على موافقة قائد الحملة العام فحسب على العودة إلى فرنسا وفق نصوص معاهدة العريش،١٥ فكان ذلك من الأسباب التي جعلت القواد والضباط الفرنسيين يتوقون لمغادرة البلاد والرحيل إلى فرنسا. أضف إلى ذلك ما حدث نتيجة لحضور العمارة التركية إلى الإسكندرية، وما صار يبديه قائدها حسين باشا من رغبة ملحة في المفاوضة من أجل تقرير السلام، فقد تأثرت بذلك حامية الإسكندرية، وعظم الأمل لدى جنود الحملة في العودة قريبًا إلى أوطانهم. وهكذا كان واضحًا أن اغتيال الجنرال كليبر لم يغيِّر شيئًا من رغبة الجنود وقوَّادهم وضبَّاطهم بل وسائر رجال الحملة في مغادرة هذه البلاد بكل سرعة.
وعلى ذلك فقد بات من واجب منو أن يختار بين أمرين: إمَّا التخلي عن سياسته الاستعمارية، وهي سياسة البقاء في مصر على الأقل حتى يحين الوقت لعقد الصلح العام في أوروبا، وإمَّا التمسك بهذه السياسة، ومن واجبه عندئذٍ أن يبادر بتوضيح سياسته لجيش الشرق، وأن يعمل لإقناع هذا الجيش بضرورة البقاء في مصر «تحقيقًا للمصلحة العامة». ولمَّا كان منو قد اختار المضي في تجربته الاستعمارية١٦ فقد أصدر نداءً إلى جيش الشرق في ٣ مسيدور من السنة الثامنة للجمهورية و٢٢ يونيو سنة ١٨٠٠م، كان بمثابة البرنامج الذي ضمَّنه منو أهدافه السياسية.١٧

بدأ منو هذا النداء مخاطبًا قوَّاد الحملة وضباطها وجنودها بقوله إنه قد بات لزامًا عليه أن يطلعهم جميعًا على «الحقيقة» التي في وسعه أن يوضحها لبيان الأسباب التي دعت الحكومة الفرنسية إلى إرسال الحملة إلى هذه البلاد، «ذلك أنه عندما علمت هذه الحكومة في سنة الجمهورية السادسة (١٧٩٨م) أن أعداءها قد أعدُّوا مشروعاتهم للاستيلاء على مالطا ومصر، قررت أن تمنع هؤلاء الأعداء من تنفيذ مشروعاتهم، مسترشدة في ذلك بضرورة صون مصالحها التجارية في حوض البحر الأبيض الشرقي (الليفانت)، وهي مصالح كانت تدر على فرنسا ربحًا سنويًّا يقدَّر بنحو خمسين مليونًا من الفرنكات، فصدر قرارها بإرسال الحملة على مالطا ومصر، وسلَّمت قيادة هذه الحملة إلى بونابرت، وكان بونابرت قد اتفق مع الحكومة على أن تبادر هذه بإرسال سفير إلى القسطنطينية في نفس الوقت الذي يغادر فيه الجيش أرض فرنسا؛ وذلك حتى يطلع السلطان العثماني على الأسباب التي دعت إلى غزو مصر، غير أنه حدث لأمر لا يسع المرء إلَّا أن يشك في سببه أن هذا السفير لم يُرسل إلى القسطنطينية، وظل السلطان العثماني يجهل لذلك أغراض الحكومة، الأمر الذي أفاد أعداءنا الروس والإنجليز فائدة كبيرة، وأتاح لهم الفرصة ليرغموا السلطان العثماني على الانضمام إلى تلك المحالفة الدولية التي تحمَّل أعضاؤها من جملة سنوات عبء النضال ضد الثورة وضد حرياتنا. وقد تلا ذلك أن نزلت أخيرًا في أبو قير ودمياط جيوش عثمانية بقيادة الإنجليز وإرشادهم، وقد استطعتم أنتم أن تردوا هذه الجيوش إلى البحر، بينما تقدم جيش آخر بقيادة الصدر الأعظم نفسه عن طريق سوريا، وقد جرت مفاوضات ووقع «تسليم» لا أسمح لنفسي بالتعليق عليه، وحدث اتفاق على هذا التسليم. أمَّا كيف نقض هذا الاتفاق غدرًا وخيانةً فهذا أمرٌ أنتم تعلمونه، كما تذكرون ولا شك كيف كان غضبكم عظيمًا عندما علمتم أنهم يريدون منكم أن تسلِّموا أنفسكم إليهم كأسرى حرب، كأنما قد حلَّت بكم الهزيمة في معركة حربية خسرتموها، وأنتم الذين دان لكم النصر في جميع المعارك التي خضتم غمارها.

ولقد زحف الجيش العثماني وتقدم، ولكنكم هاجمتم هذا الجيش هجومًا صادقًا في المطرية وهليوبوليس، وتلاشى الجيش في لحظة، وألقى بعض العثمانيين المنهزمين بأنفسهم في القاهرة، فأُرغمتم على تضييق الحصار على هذه المدينة حتى سلَّمت بعد شهرٍ واحدٍ من حصارها، وإنكم لتعلمون كيف نجم من الاعتداء الفظيع على قائد الحملة العام الذي نجلُّ ذكراه جميعًا أن فقدناه من بيننا؛ ذلك أن أعداءكم عندما عجزوا عن إلحاق الهزيمة بكم في المعارك لجئوا إلى وسائل الغدر، فاستخدموا المُدى لتحقيق مآربهم، يدفعهم إلى ذلك اعتقادهم أن الاعتداء على كليبر سوف يؤدي لا محالة إلى اختلال النظام في جيش الجمهورية، وفاتهم أن هذا الاغتيال من شأنه أن يزيدكم شجاعة على شجاعتكم وجرأة على جرأتكم، حتى إنكم لتواجهون الشرق كله إذا اجتمع ضدكم حتى تثأروا لدم قائدكم المهدور. ولكنه من الواجب علينا أن نتساءل: ومن الذي يرسم لنا الطريق الآن ويوجه خطانا ويأمرنا بما يجب علينا أن نفعله؟ والجواب على ذلك أن الذي يوجِّهنا ويأمرنا بما نفعله هو صاحب الحق في هذا الشأن دائمًا، ونعني به حكومة الجمهورية الفرنسية؛ لأن لهذه الحكومة وحدها الحق في أن تصدق على كل ما سبق إبرامه أو رفضه في الماضي، ثم التصديق كذلك على ما يمكن إبرامه في المستقبل بين الجيش الفرنسي وبين دول العدو، ولا جدالَ في أن جميع أولئك لا يريدون أن يستمعوا إلَّا لصوت الشرف، ولا أن يلبوا إلَّا نداء المصلحة الوطنية فحسب. وإني لمتيقن من أنكم جميعًا من أولئك الشرفاء الغيورين على مصلحة الوطن الذين يدركون استحالة وجود طريق غير هذا الطريق القانوني الشريف، الذي يمكن بفضله الوصول إلى عقد أية معاهدة مهما كان نوعها مع أعدائنا. أمَّا ما يتعلق بشخصي فإني أقول إنني لو جاز لي أن أوثر مصلحتي الخاصة على ما عداها أو غاب عن ذهني لحظة أني فرنسي لحمًا ودمًا، لرغبت كما يرغب أي فرد منكم ودون تردد في العودة إلى أرض الوطن، ولكني أعود فأقول: كلا يا أبناء الجمهورية الشجعان! فما نسترشد جميعًا إلا بما تمليه علينا مصلحة الجمهورية فحسب، فنحن إذا طُلب منَّا القتال واقتضانا الواجب خوض غمار المعارك قاتلنا وانتصرنا، وإذا امتنع العدو عن القتال ورغب في المفاوضة بدلًا من ذلك أصغينا إلى كل ما يقدِّم إلينا من مقترحات، ولن يكون في وسعنا تنفيذ أية معاهدة ما لم تصدِّق عليها حكومتنا. وأنتم لا تزالون تذكرون ولا ريب كيف قادكم بونابرت إلى النصر مرات عدة، وإن لهذا القائد وحده فحسب بوصفه قنصل البلاد الأول الحق في إرشادنا إلى الطريق الذي يجب علينا أن نسلكه، وسوف يعلم بونابرت بكل شيء، وله من وقوفه على مجريات الأمور وإلمامه بما يحدث من وقائع بفضل وجوده بينها، ما يمكِّنه من إخبارنا بكل ما قد تجمع عليه إرادة الوطن.

لقد تحدثت إليكم فأوضحت لكم الحقيقة كما أومن بها، ولسوف أسلك ذلك الطريق الذي شقَّه من قبل بونابرت ثم كليبر، فأبذل قصارى جهدي حتى أنال تقديركم كما أفوز بثقتكم، ولن تمضي لحظة دون أن أعمل لفائدتكم والعناية بأمركم. لقد بدأ كليبر بتنظيم الإدارة المالية ودعم أركانها، وكل ما أريد أن أذكِّركم به الآن ألَّا يغيب عن أذهانكم أن ما يكفي لحدوثه من أضرار لحظة من اللحظات القصيرة يقتضي وقتًا طويلًا من الزمن لإزالته.

أمَّا ما أطلبه من الجيش فهو أن يطيع الجند رؤساءهم من كل الرتب العسكرية، وأن يسود الجيش النظام الدقيق الصارم، وأن يتحلى الجميع بالخلق القويم، ومن حقي أن أطلب ذلك منكم، بل سوف أطلب ذلك منكم دائمًا، ولكنني أعلم أنكم من الجمهوريين، وأنكم متحلون بفضائل الجمهوريين، وعندما يأتي اليوم الذي نعود فيه إلى أوطاننا يحق لنا أن نفخر جميعًا بذلك القدر الذي ساهمنا فيه، بفضل اشتراكنا في حملة لها اليوم ولا شكَّ أعمق الأثر وأبلغه في شئون العالم السياسية.»

وهكذا بسط منو في «ندائه» لجيش الشرق تلك الأسس التي انتوى بناء سياسته عليها، وأهمُّها عدم الفصل في مسألة الجلاء عن مصر حتى تأتيه أوامر صريحة في هذا الشأن من حكومة باريس ذاتها. كما كان واضحًا أن قائد الحملة الجديد لا يقر المعاهدة التي عقدها كليبر مع العثمانيين، بل يصفها بأنها كانت «تسليمًا» ينأى بنفسه عن التعليق بشيءٍ عليها، فكان هذا النداء كافيًا لأن يبيِّن لجنود الحملة وضباطها وقوادها حقيقة نوايا منو. ومن ذلك الحين دب الانقسام في صفوف جيش الشرق، فكان هناك «الكليبريون» الذين أبوا إلَّا تأييد سياسة كليبر كما كانت مفهومة وقتئذٍ وقوامها الجلاء عن مصر، وكان هناك «الاستعماريون» الذين انحازوا إلى جانب قائد الحملة وطفقوا يؤيدون سياسة منو وقوامها التمسك بهذه البلاد وعدم الفصل في مسألة الجلاء عنها حتى تصل حكومة القنصل الأول في باريس إلى قرار حاسم بشأن إخلائها، وكان من بين هؤلاء الاستعماريين جماعة من القواد والضباط الموثوق بتأييدهم لمنو، كفريان Friant   وبواييه Boyer   وبيبان Pepin وغيرهم، فقال فريان: إن الجند استجابوا لنداء قائدهم فقرروا «البقاء في مصر»، وقال بواييه، وكان وقتئذٍ حاكمًا على إقليم البحيرة: إن الجند ما لبثوا أن رحَّبوا بنداء منو، لاعترافهم بأن بونابرت كان وحده صاحب الحق في إصدار الأوامر اللازمة لإخلاء مصر.١٨
ومع ذلك فقد كان واضحًا أن نداء منو لم يغيِّر شيئًا من موقف أنصار سياسة كليبر، ذلك أن منو الذي حرص على تبجيل ذكرى كليبر في ندائه لم يسعه وهو الذي يدعو إلى البقاء في مصر إلا أن ينقد نقدًا لاذعًا اتفاق العريش، فكان ذلك بمثابة إعلان الاستنكار الشديد لأهم عمل سياسي قام به كليبر في مصر، مما ترتب عليه أن أصبح أكثرية الجند ينفرون من هذا النداء ومن صاحبه،١٩ كما نفر أولئك الضباط الذين عرفوا كليبر وخدموا معه في جيش الراين قبل المجيء إلى مصر، وكان من بين هؤلاء دونزيلو Donzelot حاكم أسيوط الذي ساءه أن يقسو منو في نقده، بينما هو «يستمد القوة من روح كليبر نفسه» بترسم خطواته. وفضلًا عن ذلك فقد كان من المتوقع أن يلقى هذا «النداء» كل مقاومة من جانب أولئك القوَّاد والضباط الذين تمتعوا بصداقة كليبر ووثق بهم القائد الراحل، فساهموا في تدبير تلك السياسة التي أسفرت عن عقد اتفاق العريش، وكان داماس Damas رئيس أركان حرب كليبر أحد هؤلاء الأصدقاء الذين قربهم كليبر فأخلصوا في معاونته، كما كان داماس من كبار مؤيدي سياسة الجلاء عن مصر، وعلى ذلك فقد أغضبه نداء منو، واعتبر هذا النداء بمثابة طعنة نجلاء سددها منو إلى ظهر كليبر لاغتياله غدرًا وخيانةً، مثل منو في ذلك مثل أولئك القتلة الذين اغتالوا كليبر، بل إن كراهية داماس لسليمان الحلبي قاتل كليبر سرعان ما اشتدت حدتها حتى شملت منو نفسه، وعلى ذلك فقد ظل داماس يطلب الاقتصاص من قتلة كليبر يريد بذلك أن يشمل هذا الاقتصاص الجنرال منو أيضًا.٢٠
وكان لهذا الانقسام الذي حدث في صفوف الجيش أخطر الآثار على مصير الحملة ذاتها في النهاية كما سيأتي ذكره. على أن منو وقد رسم الآن معالم السياسة التي قرر اتباعها، قد بات لزامًا عليه بعد إصداره نداء ٢٢ يونيو أن يتفرغَ لشئون الحكم والإدارة في تلك «المستعمرة» التي أوجدته الظروف على رأسها، كما بات ضروريًّا بعد أن أعلن إلى الجيش برنامجه أن يعلن هذا البرنامج كذلك إلى الإنجليز والعثمانيين، ويبسط لهم موقفه من المفاوضة ثم من مسألة جلاء الحملة أو بقائها في مصر، حتى تصله أوامر قاطعة في هذا الشأن من حكومته؛ ولذلك فقد بدأ منو نشاطه السياسي بإرسال تلك المذكرة التي كان كليبر قد أعدَّها ردًّا على خطاب مورييه Morier سكرتير اللورد إلجين الذي كتب إليه من يافا في ٢ يونيو، وذلك بعد عثور كليبر على «جورنال مورييه» على نحو ما سبق ذكره، وحال اغتيال كليبر في ١٤ يونيو دون إرسالها، فبادر منو الآن بإرسال هذه المذكرة إلى مورييه بعد أن أضاف إليها بضعة سطور جاء فيها:٢١ «لا جدالَ في أن جورنال مورييه لينهض دليلًا على أن شيمة صاحبه الغدر والخيانة، وأنه قد عُهد إليه بأن يتخذ من المعاهدة المبرمة ستارًا يخفي وراءه تلك الخدعة الحربية التي اعتزم القيام بها.» وعلى ذلك فقد حذر منو سكرتير اللورد من سوء المصير إذا هو جرؤ على المجيء أو إرسال رسول من قبله إلى مصر، وهدده بإلقاء القبض عليه وعلى رسوله ومعاملة الجميع كجواسيس نصيبهم الشنق على «جذع شجرة». ولمَّا كان قد وقع في الأسر بعض الضباط الإنجليز عندما ارتطمت فرقاطتهم كورموران بالصخور عند أبو قير، وخشيَ منو أن يلحق بياور الجنرال كليبر الضابط بوضوط Beaudot أي سوء، وكان كليبر قد أرسله للمفاوضة مع العثمانيين فاحتجزه الصدر الأعظم عنده؛ فقد حذر منو مورييه وسائر الإنجليز مغبة إلحاق أي أذى بهذا الضابط الفرنسي، وعد الأسرى الإنجليز وكانوا حوالي مائة واثنين وخمسين من مختلف الرتب العسكرية مسئولين عن ذلك.
ولمَّا كان السير سدني سمث قد بعث بكتاب في ٩ يونيو من بارجته تيجر إلى الجنرال كليبر يحاول إقناعه بضرورة تنفيذ اتفاق العريش،٢٢ فوصلت هذه الرسالة بعد مقتل كليبر؛ بادر منو في ٢٠ يونيو بإرسال الرد على هذا الكتاب،٢٣ فبلغ سدني سمث خبر الاعتداء على كليبر على أيدي الأتراك حلفاء السير سدني، الذين لجئوا إلى استخدام «الخنجر سلاح الجبناء الأنذال» عندما عجزوا عن هزيمة الفرنسيين في المطرية. ثم تناول الكلام عن اتفاق العريش فقال إن ما فعله السير سدني عندما طلب من حكومته التصديق على الاتفاق ليوضِّح للقائد الفرنسي الطريق الذي يجب عليه هو الآخر أن يسلكه، ولهذا فالواجب يقتضي منو أن يطلب التصديق من القناصل أصحاب الحكم في الجمهورية الفرنسية اليوم على أية معاهدة يمكن عقدها بين الجيش الذي يتولى قيادته وبين الإنجليز وحلفائهم؛ لأن ذلك وحده هو الطريق القانوني والملائم الذي يجب سلوكه في كل ما قد يحدث من مفاوضات بينه وبينهم. وانتهز منو هذه الفرصة فألقى درسًا قاسيًا على السير سدني سمث في ضرورة احترام الأمم لكلمتها عند دخولها في اتفاقات معينة أو إبرام معاهدات على أيدي رجالها، فلا تلجأ إلى وسائل الغدر والخيانة التي كشفت عنها أوراق مورييه عندما تبوء جهودها العسكرية بالفشل. ثم تحدث منو عمَّا يلقاه الأسرى الإنجليز من معاملة طيبة على خلاف ما يلقاه بوضوط في معسكر الصدر الأعظم، وعرض على السير سدني أن يطلق سراح هؤلاء الأسرى في نظير عودة بوضوط إلى دمياط سالمًا.
وأصر منو على موقفه من اتفاق العريش، فرفض الاستماع إلى «مفاوض إنجليزي» بعث به إليه الضابط بيبان من الصالحية،٢٤ ولكنه لمَّا كان يريد تخليص بوضوط فقد استمرت المكاتبات بينه وبين السير سدني سمث في الأيام التالية، ووجد السير سدني في استمرار هذه المفاوضة وسيلة لمحاولة إقناع منو بضرورة تنفيذ اتفاق العريش والجلاء عن مصر، وكتب له في ذلك في ٢٢ يونيو فقال:٢٥ «في وسع منو أن يزيل عقبة من العقبات التي تحول دون عقد السلام، بإخلائه مصر حسبما تم عليه الاتفاق مع كليبر، أمَّا إذا رفض منو فإن الإنجليز مصممون على استخدام كل ما لديهم ولدى حلفائهم من وسائل لإرغام منو على قبول شروط لا ينتظر أن يجدها منو ملائمة كل الملائمة»، ونصح منو بعدم إغلاق باب المفاوضة. وكان السير سدني سمث يعقد آمالًا عظيمة على نجاح مساعيه تأييدًا لتلك السياسة التي جرى عليها من مبدأ الأمر وأسفرت عن عقد اتفاق العريش.٢٦ وفضلًا عن ذلك فقد كان السير سدني يبغي من كتابه هذا توجيه الخطاب إلى جيش الشرق عامةً في واقع الأمر وليس إلى منو وحده، وذلك كما ذكر السير سدني في رسالة له بعد ذلك إلى اللورد إلجين،٢٧ لأنه كان يدرك تمامًا رغبة قواد الحملة وضباطها في العودة إلى أرض الوطن، ولما كان يتوقعه كذلك من انفضاض هؤلاء من حول رجل لا يحترمونه؛ أي إن السير سدني كان يبغي من وراء كتابه هذا بذر بذور الانقسام والتفرقة في صفوف جيش الشرق، بعد أن أخفقت مساعي الإنجليز في إقناع منو بحكمة الجلاء عن مصر سلميًّا دون قتال؛ وذلك حتى يحين الوقت الذي يستطيع فيه هؤلاء إرسال قواتهم لهزيمة منو وإرغامه على التسليم قهرًا.
ولم يأبه منو لهذه الأساليب، ومع أنه أغفل الرد على رسالة السير سدني٢٨ فقد تكللت بالنجاح المفاوضات الدائرة بشأن الأسرى. وفي ٢٠ أكتوبر أطلق منو سراح الأسرى الإنجليز، وقد لقي هؤلاء كل معاملة طيبة مدة أسرهم،٢٩ وعاد بوضوط سالمًا إلى دمياط. وأطلق منو كذلك سراح مصطفى باشا.٣٠
وكما تعذر الاتفاق على الجلاء بين منو وبين الإنجليز، فقد كان من المتعذر كذلك أن يتم أي اتفاق بينه وبين العثمانيين في هذه المسألة، لا سيما وأن منو لم يحجم في المنشور الذي أذاعه على الجند في ١٥ يونيو عن توجيه الاتهام إلى الصدر الأعظم نفسه الذي حمَّله مسئولية اغتيال كليبر، واستند منو في هذا الاتهام إلى ما ذكره سليمان الحلبي في أثناء التحقيق من أن الجنود العثمانيين في حلب كانوا يسألون عن شخص في استطاعته الذهاب إلى مصر واغتيال القائد الفرنسي، ولو أن سليمان الحلبي قد أنكر قطعًا أن الصدر الأعظم نفسه قد كلَّفه بذلك.٣١ ومع ذلك فقد كتب منو إلى الصدر الأعظم عندما أبلغه نبأ الاغتيال أنه «لن يسعى لمعرفة شركاء سليمان الحلبي في هذه الجريمة الشنعاء أو يبحث عنهم»، واهتم منو بتوضيح برنامجه السياسي، ومداره عجز منو عن تنفيذ أي أمر قد تسفر عنه المفاوضة أو تنفيذ أية معاهدة أُبرِمت في الماضي أو يمكن إبرامها في المستقبل دون أن يسبق ذلك تصديق حكومة الجمهورية. وعلى ذلك فقد أحال منو المفاوضين على سفير الباب العالي في باريس ورؤساء الحكومة الفرنسية، ولم يشأ منو إغلاق باب المفاوضة في مصر إغلاقًا تامًّا، فأبدى استعداده للإصغاء إلى أية أحاديث قد تصدر من جانب يوسف ضيا الصدر الأعظم، وإنما على شريطة أن يتأجل تنفيذ أي اتفاق قد تسفر عنه هذه الأحاديث إلى ما بعد تصديق حكومة الجمهورية الفرنسية عليه. كتب منو هذه الرسالة في ٢٩ يونيو،٣٢ وفي الأيام التالية لم تنقطع علاقاته بالعثمانيين، فشكر القبطان حسين باشا الذي أطلق سراح بوضوط من الأسر (في ٢١ يوليو)، وانتهز منو فرصة غرق سفينة من سفن الأسطول العثماني عند السويس وارتطام سفينة أخرى بالصخور عند أبو قير ووقوع قائدها في أسر الفرنسيين،٣٣ فأوفد منو هذا القائد بصحبة بوضوط نفسه للمفاوضة مع حسين باشا القبطان بشأن تبادل الأسرى، ولكن القبطان حسين كان قد ابتعد وقتئذٍ بعمارته عن الشواطئ المصرية فانتظره بوضوط مدة طويلة دون جدوى.
وتوقع منو أن يفاجئه العثمانيون بشن هجومهم على الشاطئ الشمالي أو الحدود الشرقية، فسهر لانوس بالإسكندرية على مراقبة حركة السفن العثمانية والإنجليزية في البحر، وأرسل منو عددًا من الجواسيس في دمياط والصالحية لاستطلاع حركات جيش الصدر الأعظم على الحدود الشرقية، ثم لم يلبث أن عاود الاطمئنان منو رويدًا رويدًا من هذه الجهة عندما حمل إليه جواسيسه أنباء انتشار الوباء في الجيش العثماني، وفتك المجاعة بجنود الصدر الأعظم ورجاله، وفرار عدد كبير من الجنود من الجيش هروبًا من الخدمة العسكرية، ثم قيام النضال بين جيش الصدر الأعظم وقوات أحمد باشا الجزار صاحب عكا، ثم بين هذا الجيش وأهل نابلس.٣٤ وهكذا بدا كأنما قد انتهت مهمة منو الأولى بتوضيح سياسته للعدو من جهة، وباطمئنانه إلى سلامة حدوده الشمالية والشرقية من جهة أخرى، ولو بصورة مؤقتة. وفي ٢٤ سبتمبر سنة ١٨٠٠م استطاع منو إذن أن يعرض في شيء من الهدوء ما جد من وقائع، وما طرأ على علاقاته مع العثمانيين والإنجليز من حوادث، ويبسط ذلك كله في تقرير شامل بعث به إلى وزير الخارجية الفرنسية في باريس،٣٥ ويرسم منو في هذا التقرير صورًا واضحة لكل من الصدر الأعظم يوسف ضيا والقبطان حسين باشا، فوصف الصدر الأعظم بالخسة والوقاحة، وقال إنه بينما تزداد علاقته سواء مع الجزار باشا ومع أهل نابلس ثم مع العربان الذين درجوا على نهب القوافل، فقد حرص على استبقاء المودة والتفاهم مع الإنجليز، كما يبدو أنه يخشى العودة إلى القسطنطينية خوفًا من قطع رأسه وإعدامه.
ويذكر منو أن مندوبًا روسيًّا يدعى فرانكيني Frankini يقيم في معسكر الصدر الأعظم في يافا، ويبذل قصارى جهده لإقناع منو بأن البلاط الروسي يريد التقرب من الجمهورية الفرنسية، حتى إنه لفرط حماسته قد أثار شكوك الصدر ضده، ويتكلم منو عن القبطان باشا الذي استحكم العداء بينه وبين الصدر فيصفه بأنه كان أكثر علمًا ودرايةً من يوسف ضيا، ويمتاز عنه بإنسانيته، فضلًا عن أنه موضع ثقة السلطان ومن أقرب المقربين إليه. وقد تبادل معه منو عبارات الاحترام والتقدير، واستطاع حسين باشا بفضل تجوله الكثير في البحر بين دمياط والإسكندرية أن يرسل رسله إلى منو كما فعل الأخير ذلك؛ لأن القبطان باشا كان يرغب رغبة شديدة في المفاوضة مع منو وعقد معاهدة معه حتى تزداد حظوته عند السلطان. وفضلًا عن ذلك فقد ظل القبطان باشا يخشى من أن يعمد منو إلى إبرام اتفاق مع الصدر الأعظم. أمَّا منو فقد اتخذ من رغبة هذين الرجلين في المفاوضة والاتفاق وسيلة للاستماع إلى ما قد يتقدمان به من مقترحات، يبغي من ذلك إطالة المحادثات على أمل أن يستطيع إثارة شكوكهما في أثناء ذلك حول حلفائهما الإنجليز، وتكدير صفو العلاقات بينهما وبين هؤلاء. كما انتهز منو الفرصة فصار يتفاوض مع القبطان باشا بصدد إطلاق سراح الأسرى الفرنسيين الذين قال إنه يوجد منهم عدد كبير في القسطنطينية وجزر الأرخبيل وفي مختلف نواحي الليفانت، يقابل ذلك نحو أربعة آلاف أسير عثماني في مصر. أمَّا «لب المسألة وجوهرها»؛ أي مسألة الجلاء عن مصر، فقد أخطر منو الصدر الأعظم والقبطان باشا أن لا مفاوضة في ذلك إلَّا في باريس وفي القسطنطينية، ولم ينسَ منو أن يذكر وهو يكتب ذلك أنه لا يزال يرجو أن تسفر هذه المفاوضة عن احتفاظ الفرنسيين بهذه البلاد التي سوف تصبح دون أي شك أعظم المستعمرات وأفخمها إطلاقًا، وفي وقتٍ قريبٍ. وتناول منو موقف الإنجليز فقال إنهم على ما يبدو له في شدة الاستياء من فعلهم عندما نقضوا تسليم العريش المملوء بالكوارث، فأضاعوا فرصة إخلاء مصر، ومع ذلك فقد دأب السير سدني على إرسال مفاوضين إلى منو وقابلهم منو بكبرياء وأنفة، وساءه على حد قوله أن يدَّعي السير سدني زورًا وبهتانًا أنه عامل كورتيني بويل Courtenay Boyle قبطان الفرقاطة «كورموران» معاملة سيئة. ولما كان الإنجليز قد قبضوا على عدة سفن يونانية في المياه المصرية، وكان اليونان من رعايا الدولة العثمانية، فإنه لم يفته أن يوجه أنظار القبطان باشا إلى هذه الإهانة التي يلحقها الإنجليز بالباب العالي حليفهم.

وهكذا كان واضحًا أن المفاوضة في «لبِّ المسألة وجوهرها» على نحو ما قال منو نفسه، أي الفصل في مسألة الجلاء عن مصر أو البقاء فيها بقبول اتفاق العريش أو رفضه، إنما هي من اختصاص حكومة القنصل الأول في باريس، وأنه من واجب الإنجليز والعثمانيين كذلك أن يواصلوا سعيهم لدى هذه الحكومة. وبالفعل سرعان ما انتقل النشاط الدبلوماسي من مصر إلى ميادين أخرى؛ ولذلك فإنه إلى أن يسفر هذا النشاط عن نتائج حاسمة كان في مقدور منو أن يجد متسعًا من الوقت لمعالجة شئون الحملة وشئون تلك المستعمرة التي أشرف على إدارتها.

(٣) التجربة الاستعمارية

(٣-١) الإدارة والمال

استرشد منو في سياسته الداخلية بفكرة ظاهرة، هي أن مصر «مستعمرة فرنسية» بكل ما يحمله ذلك من معنى، ويترتب عليه من نتائج لا شكَّ في أن أهمها كان اعتباره نفسه نائبًا عن حكومة القنصلية في باريس في حكم هذه البلاد وممثلًا لها، وصاحب الحق في الوقت ذاته في أن ينفرد بصفة «المشرع» واختصاصاته في هذه المستعمرة، على زعم أن الاتصال كان متعذرًا بينه وبين القناصل؛ لعدم انتظام المواصلات المستمرة بين المستعمرة وبين مقر حكومة القنصلية في باريس. وعلى ذلك فقد اعتقد منو أنه إنما يشغل في مصر مركز «رئيس الدولة» الذي تخوِّله الظروف القائمة معالجة أمهات المسائل الاقتصادية والاجتماعية في البلاد بوجه عام إلى جانب عنايته بأمر جيش الشرق، من حيث العمل على توفير الموارد اللازمة لتموينه وتزويده بالسلاح ودفع مرتبات جنوده وضباطه وقواده وجميع رجال الحملة بدقة وانتظام. وبناء على ذلك فقد حرص منو على أن يصبح لكل ما يصدر من مقر قيادته العامة من أوامر صفة القوانين التي تستند إليها أداة الحكومة في تصريف مختلف الشئون، فتعالج هذه الأوامر مسائل الإصلاح اللازمة في فروع الإدارة، إلى جانب إنشاء ما يتراءى له من إدارات جديدة، أو كل ما كان يقتضي إجراؤه من إصلاحات تكفل رفع مستوى الأهلين وتحسين أحوال الفلاحين حتى يسعد المصريون من جهة، ويطمئن الفرنسيون إلى عيشتهم في هذه البلاد، ويأمن جيش الشرق على حياة أفراده من جهة أخرى. وكان على ضوء هذه الاعتبارات جميعها إذن أن بنى منو برنامج سياسته الداخلية، فكانت تلك «التجربة الاستعمارية» التي تعد بحق أكبر محاولة قام بها فرنسي منذ أيام بونابرت الأولى في مصر، لتحقيق أهم أغراض الحملة؛ أي الاستعاضة عن الخسائر التي تكبدتها فرنسا في الهند الغربية بإنشاء مستعمرة جديدة وجميلة في مصر.

ووجَّه منو في أول الأمر عنايته إلى الإصلاح الإداري، ويدخل في ذلك الإشراف على «حسابات» الحملة بصورة مجدية، ومراقبة كل ما يتصل بتموين الجيش وتغذيته وإعداد المستشفيات العسكرية وتزويدها بما يلزمها من معدَّات وأجهزة، وترميم ثكنات الجنود في الإسكندرية وغيرها، والضرب على أيدي «الموردين» الذين تعهدوا بتقديم الملابس والأغذية وما إلى ذلك إلى جيش الشرق، ومنع تلاعب «قوميسييري الحرب»، فقد ظل توريد هذه المهمات إلى الجيش من أيام بونابرت عملية رابحة أثرى منها كثيرون، فكان لهؤلاء الغنم بينما وقع على الجنود الغرم كله. وكان مما ساعد على انتشار هذه المفاسد أن القائمين على حسابات الحملة ظلُّوا موضع الظنون والشبهات منذ أن ثبت وقوع اختلاسات في إدارة الإسكندرية، كما ثبت أن المشرفين على إرسال الدقيق إلى الجنود في المديريات كانوا لا يتورعون عن السرقة. ومن الذين حامت حولهم الشبهات وشك في أمانتهم سوسي Sucy، أحد مديري المهمات أيام بونابرت نفسه، ومن المقطوع به كذلك أن بوسيلج مدير المالية لم يترك وراءه ذكرى عاطرة، بل وجد من الفطنة والكياسة عند رحيله من مصر أن يجمع «دفاتر الحسابات» وينقلها معه إلى فرنسا صونًا لسمعته، حتى إن «أستيف» مدير المالية الجديد الذي حل مكانه في هذه الإدارة ما لبث أن وجد لزامًا عليه أن يوضِّح لقائد الحملة الجنرال منو ما يعترضه من صعوبات حالت دون معرفة حقيقة «الحسابات» التي كانت في عهد بوسيلج قبل مغادرته.
وكان من أثر هذا الإهمال وسوء التدبير من المديرين الفرنسيين أن كثيرين من «القبط» الذين كُلِّفوا بتحصيل الأموال والضرائب سرعان ما استطاعوا الاستيلاء على مبالغ كبيرة من الأموال التي جمعوها، وساعدهم على استقطاع هذه المبالغ لأنفسهم أنهم كانوا يحتفظون بسجلات الإيراد ولا يطلعون أحدًا عليها، كما أنهم ظلوا يخفون ما كانوا يتبعونه من أساليب في تدوين الحسابات وقيدها يصعب على غيرهم فهمها. وفضلًا عن ذلك فإن هؤلاء المحصلين دأبوا على إرغام الأهالي والفلاحين على دفع مبالغ تزيد كثيرًا على مطلوب الميري والضرائب الأخرى المفروضة عليهم، حتى يحتفظوا بالفرق لأنفسهم،٣٦ ويبدو أن المعلم يعقوب — أو يعقوب القبطي كما سمَّاه الفرنسيون الذين وثقوا به ثقةً عظيمةً — كان الرجل الوحيد الذي خالف في ذلك سائر زملائه.
وكان من أسباب ارتباك الإدارة المالية وشئون الحكم عمومًا أن القوَّاد الفرنسيين الذي عُيِّنوا حكَّامًا للمديريات المختلفة عمدوا إلى الاستئثار بكل سيطرة إدارية في الأقاليم التي يحكمونها، فتصرفوا في الأموال والضرائب التي جمعوها من الأقاليم حسب أهوائهم ووفق رغباتهم، فكانوا ينفقونها في أغلب الأحيان على جنودهم، وفي مطالب الإدارة العامة في مديرياتهم، حتى إن الجنرال كليبر لم يسعه إلَّا أن يلفت أنظارهم إلى أن ما كانوا يحصِّلونه من أموال إنما هو «ملك» الجيش بأجمعه، فلا يحق لهم أن ينفقوا هذه الأموال على جماعة من الجند دون أخرى،٣٧ وحاول كليبر تنظيم المالية فأصدر أمرًا في ٢٣ نوفمبر سنة ١٧٩٩م بتأليف لجنة من سبعة أعضاء عهد إليها بوضع «ميزانية» لبيان إيرادات ومصروفات الحملة، وكان كليبر ولا شك يبغي من ذلك إصلاح شئون الحملة، ولو أنه كان يهدف كذلك إلى إقامة الحجة على أن جيش الشرق لا يستطيع البقاء طويلًا في مصر، وأن من الخير له أن يبادر بالجلاء عن هذه البلاد،٣٨ على أن وفاة كليبر سرعان ما قضت على محاولة هذا الإصلاح. ووجد الجنرال منو عندما تسلم زمام الأمور أن يبدأ العمل من جديد لإدخال ضروب الإصلاح اللازمة في جميع شئون الإدارة، وكان أول ما عُني به تنظيم مالية الحملة وضبط وسائل الإشراف عليها، فأصدر في ذلك على وجه الخصوص أوامرَ عدةً.
من ذلك أنه طلب في أول يوليو سنة ١٨٠٠م٣٩ أن يقدِّم إليه قوميسييرو المصالح ومديروها في الجيش والبحرية وإدارة الأعمال الميكانيكية والمطبعة الأهلية ثم سكرتير المجمع العلمي، وغير هؤلاء من المديرين والقوميسييرين حسابات مصالحهم. كما أصدر أمرًا يقضي على جميع الضباط والقواد الذين يقومون بالحكم في المديريات أو يشرفون على الحصون والقلاع بتقديم معلومات وافية عن كل تلك الأمور التي تهم الإدارات العسكرية والمدنية معرفتها، إلى رئيس هيئة أركان الحرب، وأن يفعل ذلك أيضًا وكلاء المالية. وفي ٣٠ أغسطس ثم في ١٢ نوفمبر سنة ١٨٠٠م وضَّح منو في أوامره الطريقة التي يمكن بها التحقق من إنفاق الأموال في الوجوه المعينة لإنفاقها، كما شُكِّلت لجنة من خمسة أعضاء مهمتها مراجعة الحسابات والتصديق عليها. وفي ٩ يوليو أصدر منو أمرًا بمنع حكَّام المديريات من جمع أموال أو «أتاوى» جديدة دون استصدار إذن صريح بذلك مقدمًا، ثم تشدد منو في معاقبة القبط الذين تثبت عليهم تهمة التلاعب، فقبض على أنطون أبو طاقية وأرغمه في ٩ أكتوبر على دفع سبعمائة وخمسين ألفًا من الفرنكات، «على أن يخصم هذا المبلغ من الأموال المطلوبة من الفلاح في السنة المقبلة»، وفي ٣٠ أغسطس أمر منو بتغيير اختصاصات «اللجنة الإدارية» التي أنشأها كليبر في ٢٩ أبريل الماضي. وفي ٢ سبتمبر شكل منو مجلسًا خاصًّا يضم الرؤساء العسكريين والمدنيين، مهمته النظر في شئون الحملة ما عدا ما كان متعلِّقًا منها بمسائل الحرب والسياسة، فيؤلف أعضاء هذا المجلس لجانًا لدراسة مختلف الموضوعات.٤٠ ولما كان هذا المجلس محرومًا من أية سلطات إدارية فقد اتخذه المعارضون لسياسة منو موضوعًا لنقدهم اللاذع، فاعتبره الجنرال رينييه «ناديًا» لا يمكن أن يترتب على إبقائه سوى إضعاف النظام في الجيش، وإشاعة الاضطراب بين جنود الحملة،٤١ وخشيَ أنصار منو أنفسهم أن يجد أعداؤهم الكليبريون في وجود هذا المجلس وسيلة لإذاعة آرائهم، وتحريض أعضاء المجلس العديدين على مقاومة منو، يشجعهم على ذلك أنه لم يصل أي إشعار من فرنسا بتثبيت منو في منصب قيادة الحملة العامة، بل كان من المتوقع عند انعقاد هذا المجلس أن يطلب الكليبريون استقالة منو من منصبه، ويبدو أن أصدقاء القائد الجديد كانوا على حق في مخاوفهم؛ لأن منو امتنع عن دعوة المجلس الخاص للانعقاد بتاتًا، وظلت اللجنة الإدارية تقوم بأعمالها.٤٢
وكان منو أكثر توفيقًا في ميدان آخر عندما أشرك معه «أستيف» في تنظيم الإدارة المالية على أساس العمل الذي قام به الجنرال كليبر في هذه الناحية منذ أن صدر أمره في ٢٨ أبريل سنة ١٨٠٠م بإلغاء الإدارة المالية القديمة، فأصدر منو الآن أوامره في ٣٠ أغسطس و٧ سبتمبر، كما أصدر منشورًا لهذه الغاية في ١٧ سبتمبر سنة ١٨٠٠م؛ وذلك لتأليف هيئة إدارية برياسة أستيف للإشراف على الشئون المالية، فتناولت هذه الأوامر جميعها تنظيم الهيئة التي كان عليها أن تتسلم الأموال المتحصلة من الضرائب وغيرها وضبطها، ثم مراجعة حساب الإيرادات من جهة والنفقات المدنية والعسكرية من جهة أخرى، على أن يستمر القبط في تحصيل الأموال والضرائب. وبمقتضى هذا التنظيم الجديد أصبح مدير هذه الهيئة مسئولًا عن إدارته أمام الوزير المختص في الحكومة المركزية بفرنسا، ثم أمام القائد العام بوصفه ممثلًا لحكومة الجمهورية في مصر. ومع أن هذا التنظيم كان دقيقًا في جملته فإنه لم يمنع محصلي الضرائب من السرقة.٤٣
وكان الغرض من هذه التنظيمات أن تتوافر لدى القيادة العامة الأموال اللازمة للإنفاق على جيش الشرق حتى تتحسن حال الجند وسائر رجال الحملة عمومًا. وفضلًا عن ذلك فقد أراد منو أن يسد ديون الحملة وأن يدفع مرتبات الجند بصورة منظمة، إلى جانب الإنفاق على شئون الإدارة العامة. ولكي يتسنى لقائد الحملة فعل ذلك كله أقبل منو على تدبير المال بكل وسيلة، فقد بلغ ما كان يحصِّله الفرنسيون من هذه البلاد حسب تقدير دالماس Dalmas، أحد رجال ماليتهم، في يوليو سنة ١٨٠٠م ثمانية عشر مليونًا من الفرنكات سنويًّا، بينما ظل البكوات المماليك يجمعون من أهلها حوالي ستين مليونًا في السنوات السابقة. والعلة في هذا النقص أن الفرنسيين عمدوا إلى إعطاء القبط محصلي الضرائب أوراقًا ممهورة بإمضاءاتهم يقيد بها هؤلاء قيمة ما يحصلونه. وكان القبط على نحو ما سبقت الإشارة إليه يحصلون من القرى مبالغ أكبر من المتفق على تحصيلها من أهلها، زد على ذلك أنه كان لحالة الحرب القائمة أثرٌ ملموس في تعطيل التجارة، كما نقص الإيراد بسبب التنازل إلى مراد بك عن جزء كبير من أقاليم الوجه القبلي التي تُرك له التمتع بإيرادها، وكان مما زاد الطين بلة أن فيضان النيل جاء منخفضًا في سنة ١٢١٤ﻫ/١٧٩٩م، كما ظلت مساحات واسعة من الأراضي دون زراعة. وعمد الفلاحون بسبب ذلك كله إلى الفرار من القرى تخلصًا من دفع الضريبة، وزادت الحال سوءًا نتيجة لذلك الحصار الشديد الذي فرضه الإنجليز على الشواطئ المصرية. وقد حدث هذا كله في وقت بلغت فيه نفقات الجيش من خمسة عشر إلى ستة عشر ألفًا من الفرنكات في الشهر الواحد. وعلى ذلك فقد بات من الواضح أن منو سوف يلجأ إلى وسائل غير عادية لجمع الأموال، وأنه سوف يثير بذلك تذمر المصريين وشكواهم من إدارته.

وكان من الميسور ابتكار مختلف الوسائل لابتزاز الأموال من الأهلين، ونشطت اللجنة الإدارية خلال شهور يونيو ويوليو وأغسطس تجمع ما فرض على القاهرة وبولاق ودمياط من غرامات فادحة، كما تولت أمر التصرف في كل تلك البضائع والسلع التي وقعت في قبضة السلطات الفرنسية عند مصادرة السفن العثمانية والسفن التجارية التي جاءت إلى الإسكندرية عقب اتفاق العريش، فأجبرت القاهرة على دفع حوالي خمسة ملايين من الفرنكات، وهي الغرامة التي فرضت على أهلها نظير قيام ثورتهم الثانية، وانتهوا من دفعها «عينًا» في ١١ أغسطس، ثم جمعت السلطات الفرنسية حوالي مليون من الفرنكات من الأقاليم. وصدر في ١٤ أغسطس أمر إلى أستيف أن يجمع مليون فرنك من الوجاقلية الذين تتألف منهم الفرق العسكرية التي أنشأها السلطان سليم، وكان هؤلاء يملكون مساحات واسعة من الأراضي، ثم طلب من يعقوب القبطي أن يسدد ما بقي من حساب الغرامة المفروضة على حي بولاق من جيبه. وفكر منو في إعداد مشروع يمكِّنه من الحصول على قدرٍ معينٍ من المال من المشايخ حتى يتسنَّى له بذلك وبفضل ما يجمعه من أموال أخرى أن ينفق على جيش بلغ خمسة وعشرين ألفًا «من غير حاجةٍ — كما قال — لإزعاج أهل البلاد وتعطيل نشاطهم التجاري!»

ونفذ منو رغبته فجمع أموالًا طائلة من مشايخ البلاد والشوام والقبط واليهود وسائر سكان القاهرة من غير المسلمين، واستثنى من ذلك يونانيي جزر الأرخبيل فحسب، نظرًا لما يقدِّمه هؤلاء من «خدمات» للحملة في محيط التجارة الخارجية. ثم تناول منو الضرائب الجمركية فأعاد تنظيمها بصورة جعلت فئاتها تتراوح بين ٤٪ و٧٪ من قيمة التجارة المستوردة، بينما فرض ضريبة قدرها ١٨٪ على البضائع المجلوبة بطريق القصير إلى أسيوط. وكان غرضه من فرض هذه الضريبة العالية أو «المانعة» أن يضطر التجار إلى إرسال بضائعهم المجلوبة من بلاد العرب إلى السويس بدلًا من إرسالها إلى ميناء القصير. أمَّا الضرائب التي أمر منو بتحصيلها على الصادرات فقد أصبحت عدا استثناءات قليلة لا تزيد عن ٤٪، وعمل منو بجانب ذلك كله على تنشيط التجارة بين مصر وفرنسا، فأجاز للتجار الذين يستوردون بضائعهم من فرنسا أو يصدِّرونها من مصر أن يدفعوا نصف الضريبة الجمركية المقررة على مثل هذه البضائع فقط، وألغى منو في ٥ و٧ سبتمبر عددًا من الضرائب القديمة كضريبة الملح والصيد في النيل والبحيرات والأنبذة ومشروب العرقي، واستعاض عنها بضريبة بسيطة على الملح حوالي فرنك وربع على كل إردب من الملح تُجبى في أماكن إنتاجه، كما جرى تحصيل ضريبة من الراغبين في صنع المشروبات الروحية بنسبة ما ينتجه هؤلاء منها.

ولما كان البكوات المماليك قد درجوا على فرض ضريبة على الأملاك المنقولة باسم «بيت المال» عند وفاة صاحبها وانتقال تركته إلى وارثيه، ولم تكن قيم هذه الضريبة معروفة أو محددة؛ فقد استبدل منو بهذه الضريبة غيرها وجعلها حوالي ٥٪ من قيمة الأملاك، سواء أكانت منقولة أم ثابتة. وفي ١٥ سبتمبر عمم هذه الضريبة حتى شملت جميع التركات التي يتركها أصحابها، مهما اختلفت جنسية هؤلاء أو ديانتهم. ومع أن الكليبريين ثاروا في وجه منو بسبب هذا الترتيب الجديد، بدعوى أن مصر ليست «مستعمرة فرنسية» — على نحو ما يأتي ذكره — فقد أصدر منو أوامر أخرى في أيام ١١، ٢٢، ٢٥ أكتوبر سنة ١٨٠٠م بإلزام جميع الأفراد بما في ذلك الفرنسيون أيضًا بدفع الضرائب المطلوبة إلى الخزانة العامة.٤٤ ومضى منو في ابتكار وسائل جمع المال، فقرر في ١١ سبتمبر أن تُجبى «الدخولية» من عشرين مدينة من المدن المصرية الهامة مع إعفاء البضائع التي دفع عنها أصحابها ضرائب جمركية من هذه الرسوم الداخلية. وفي ١٢ أكتوبر فرض منو قدرًا كبيرًا من المال على أصحاب الحرف والصناعات يدفعونه في كل سنة، ثم ما لبث أن طلب من القبط مليونًا من الفرنكات، ومن الشوام مائة وخمسين ألفًا، ومن اليونانيين خمسين ألفًا، ومن اليهود ثلاثين ألفًا، ومن الإفرنج أربعين ألفًا، على أن يدفع هؤلاء جميعهم هذه الأموال في الفترة الواقعة بين ديسمبر سنة ١٨٠٠م وسبتمبر من العام التالي.٤٥
وغني عن البيان أن هذه الغرامات الفادحة سرعان ما أثارت السخط الشديد ضد الفرنسيين، وكانت من عوامل تعطيل التجارة. وقد وصف الشيخ الجبرتي شيئًا من الأساليب التي لجأ إليها منو في تنفيذ سياسته المالية كما وصف آثارها فقال في حوادث شهر صفر سنة ١٢١٥ﻫ (يونيو-يوليو سنة ١٨٠٠م)، بعد ذكر الوقائع التي ارتبطت بمقتل كليبر: «وفيه — أي في شهر صفر — قرروا فردة أخرى وقدرها أربعة ملايين، وقدر المليون مائة وستة وثمانون ألف فرانسة. وكان الناس ما صدقوا قرب تمام الفردة الأولى بعدما قاسوا من الشدائد ما لا يوصف، ومات أكثرهم في الحبوس، وتحت العقوبة، وهرب الكثير منهم، وخرجوا على وجوههم إلى البلاد، ثم دهوا بهذه الداهية أيضًا.» ثم تكلم الشيخ عن الطريقة التي جرى بها توزيع هذه «الفردة» على الأهالي، سواء على الملتزمين أم التجار أم الملاك أم أصحاب الحرف،٤٦ فقال: وفي شهر ربيع الأول من العام نفسه (يوليو-أغسطس سنة ١٨٠٠م) نادوا — أي الفرنسيين — على الناس الخارجين من مصر من خوف الفردة وغيرها بأن من لم يحضر من بعد اثنين وثلاثين يومًا من وقت المناداة نُهِبت داره وأُحيط بموجوده.»٤٧
وذكر الشيخ في حوادث شهر ربيع الثاني (أغسطس-سبتمبر سنة ١٨٠٠م): «وفيه اشتد أمر المطالبة بالمال، وعُيِّن لذلك رجل نصراني قبطي يسمى شكر الله، فنزل بالناس منه ما لا يُوصف، فكان يدخل إلى دار أي شخص كان لطلب المال وبصحبته العسكر من الفرنساوية والفعلة وبأيديهم القزم، فيأمرهم بهدم الدار إن لم يدفعوا له المقرر وقت تاريخه من غير تأخير، وخصوصًا ما فعله ببولاق، فإنه كان يحبس الرجال مع النساء ويدخن عليهم بالقطن والمشاق وينوع عليهم العذاب، ثم رجع إلى مصر يفعل كذلك.»٤٨ وكان مما حدث في هذا الشهر كذلك أن أغلق الفرنسيون جميع الوكائل والحانات «على حين غفلة في يوم واحد، وختموا على جميعها»، ثم صاروا يفتحونها وينهبون ما فيها، «فإذا فتحوا حاصلًا من الحواصل قوموا ما فيه بأبخس الأثمان وحسبوا غرامته، فإن بقي لهم شيء أخذوه من حاصل جاره وإن زاد له شيء أحالوه على جاره الآخر كذلك وهكذا …»
وعند ذكر حوادث شهر جمادى الأولى سنة ١٢١٥ﻫ (أغسطس-سبتمبر سنة ١٨٠٠م) وصف الشيخ الجبرتي ما لجأ الفرنسيون إليه من أساليب لابتزاز الأموال من أهل القاهرة بدعوى حملهم على دفع الغرامة المفروضة عليهم فقال:٤٩ «وذلك أنهم لما قسموا الأخطاط … وتولى ذلك أمير الخطة وشيخ الحارة والكتبة والأعوان، وزَّعوا ذلك برأيهم ومقتضى أغراضهم، فأول ما يجتمعون بديوانهم يشرع الكتبة في كتابة التنابيه، وهي أوراق صغار باسم الشخص والقدر المقرر عليه وعلى عقاره بحسب اجتهادهم ورأيهم، وعلى هامشها كراء طريق المعينين، ويعطون لكل واحد من أولئك القواسة عدة من تلك الأوراق، فقبل أن يفتح الإنسان عينه ما يشعر إلَّا والمعين واقف على بابه وبيده ذلك التنبيه، فيوعدوه حتى ينظر في حاله فلا يجد بدًّا من دفع حق الطريق، فما هو إلَّا أن يفارقه حتى يأتيه المعين بتنبيه آخر فيفعل معه كالأول وهكذا على عدد الساعات، فإن لم يوجد المطلوب وقف ذلك القوَّاس على داره ورفع صوته وشتم حريمه أو خادمه، فيسعى الشخص جهده حتى يغلق ما تقرر عليه بشفاعة ذي وجاهة أو نصراني وما يظن أنه خلص إلَّا والطلب لاحقه أيضًا بمعين وتنبيه، فيقول: ما هذا؟ فيُقال له: إن الفردة لم تكمل وبقي منها كذا وكذا، وجعلنا على العشرة خمسة أو ثلاثة، أو ما سولت لهم أنفسهم، فيرى الشخص أنه لا بدَّ من ذلك، فما هو إلَّا أن خلص إلَّا وكرة أخرى، وهكذا أمرًا مستمرًّا، ومثل ذلك ما قُرِّرَ على الملتزمين، فكانت هذه الكسورات من أعظم الدواهي المغلقة ونكسات الحمَّى المُطبِقة.» وقد استمر الحال على هذا المنوال في الشهور التالية كذلك. حتى إذا بدأ ينتشر وباء الطاعون في شهر شوال (يناير-فبراير سنة ١٨٠١م)، ثم نشب النضال مع العثمانيين والإنجليز؛ وجد الفرنسيون ما يشغلهم، ولو أن ذلك لم يصرفهم عن جمع الغرامات والأتاوى من المصريين.
ويبدو لأول وهلة وبسبب ما تقدم جميعه أن منو ما كان يقصد من تدابيره المالية سوى ابتزاز المال فحسب للإنفاق منه على الجيش والإدارة، ومع ذلك فقد ظل منو يفكر في خير الطرق التي يمكن بها إصلاح شئون البلاد وتنمية مواردها المالية بصورة تمكِّنه من تدبير المال اللازم لسد نفقاته دون الالتجاء إلى تلك الأساليب الجائرة التي أرهقت المصريين وسببت سخطهم، وآية ذلك أنه أعد مشروعًا في يناير سنة ١٨٠١م لتنظيم الضرائب على أساس الاكتفاء بضريبة واحدة بدلًا من كل تلك الضرائب المتعددة السابقة من مباشرة وغير مباشرة التي أُرغم الفلاح على دفعها وناء بحملها. أمَّا هذه الضريبة الواحدة التي اختارها منو فكانت «ضريبة الأرض»، وقد استرشد منو في ذلك بآراء الفيزيوكرات Les Physiocrats أولئك القائلين بحكم الطبيعة، والذين ظهروا في فرنسا أيام ثورتها الكبرى، وأوجزوا مبادئهم في العبارة المشهورة «دعه يعمل، دعه يمر» وكانوا أصحاب الضريبة الواحدة أو ضريبة الأرض، على اعتبار أن الأرض وحدها هي مصدر الإنتاج والثروة الاقتصادية، فلا تُفرض ضرائب على غيرها. وقد عُرف مشروع منو باسم المشروع العظيم Le Grand Projet أو مشروع ٣٠ نيفوس من السنة التاسعة للجمهورية.

المشروع العظيم

أمَّا هذا المشروع العظيم فقد تناول مسألة الضرائب، كما تضمن الإصلاحات التي اعتزم منو إجراءها بضبط وتحصيل الأموال خصوصًا. وقضى منو وقتًا طويلًا في إعداد مشروعه العظيم، فذكر في ٢٨ أكتوبر سنة ١٨٠٠م في منشور أصدره «لأهل مصر»٥٠ بعض وجوه الإصلاح التي ارتآها ضرورية لرفع كل تلك الضرائب العديدة التي أرهقت الأهلين وأثقلت كواهلهم، والاستعاضة عن ذلك بضريبة واحدة. وفي ٢٠ يناير سنة ١٨٠١م (٣٠ نيفوس من السنة التاسعة للجمهورية) صدر أمر منو بهذا المشروع العظيم،٥١ وكان مشروعًا عظيمًا حقًّا، لا جدال في أنه لو أمكن تنفيذه لاستطاع أهل تلك البلاد أن يخلصوا من كثيرٍ من المساوئ التي اقترنت بنظم فرض الضرائب وتحصيلها؛ ذلك أن هذا المشروع العظيم كان يقر مبدأ المساواة بين المصريين فيما يؤدونه من ضرائب، كما أن تنفيذه كان يقتضي حرمان الملتزمين من ممارسة شئون القضاء والإدارة التي درجوا من قديم الزمن على ممارستها في أرضهم، أو بمعنى أدق في تلك الأراضي التي «التزموا» بها، فأصبحوا يتوارثونها لقاء دفع المال المربوط عليها إلى الحكومة. وفضلًا عن ذلك فقد منع القبط بفضل هذا المشروع من تحصيل الأموال، وذلك منعًا للتلاعب الذي أدى إلى وقوع كثير من الاختلاسات إلى جانب إنزال صنوف العسف والإرهاق بالأهلين والفلاحين عند تحصيل الضرائب.

وعلى ذلك فقد تألف المشروع العظيم من ثمانٍ وعشرين مادة، تناولت موضوع الضرائب فنصَّت على إلغاء كل الضرائب التي اعتاد الفلاحون والأهلون دفعها كالميري والبراني والفايض إلى غير ذلك من الغرامات والضرائب الإضافية التي ابتكرها الملتزمون (والبكوات المماليك في الزمن السابق)، وأُرهِق بسببها الفلاحون، على أن يبدأ هذا الإلغاء من سنة ١٢١٥ هجرية، والاستعاضة عن ذلك جميعه بضريبة واحدة ابتداءً من العام نفسه. أمَّا هذه الضريبة الواحدة فيكون تحديدها حسب عدد الأفدنة التي في حوزة أصحابها وجودة الأرض، كما صار من حق القائد العام وحده أن يحدد قيمة الضريبة في كل سنة على حدة عقب فيضان النيل، وقُسمت الأرض إلى ثلاثة أنواع تُجبى عنها حسب جودتها فئات معينة بين عشرين وسبعة عشر وأربعة عشر فرنكًا؛ وذلك حتى يعرف الفلاح الذي يملك ستة أفدنة مثلًا من الأراضي الجيدة أنه قد قام بدفع ما عليه إذا حصَّل منه الجباة قيمة الضريبة المفروضة عليه وقدرها مئتان وأربعة فرنكات، فلا يستطيع أن يزعجه أحد بعد ذلك من الملتزمين أو مشايخ البلد أو الكتَّاب والصيارفة، ولا يطلب منه إنسان أن يساهم بشيءٍ في نفقات إصلاح الجسور والقنوات وما إليها. وتعهد منو في مشروعه العظيم بعدم زيادة هذه الضريبة الواحدة، بل إنه وعد بتخفيضها في السنوات التي يأتي فيها فيضان النيل رديئًا، على شريطة أن يقوم الفلاح في كلا الحالين بدفع القيمة المطلوبة منه تمامًا. أمَّا إذا قصَّر الفلاح في أداء ما عليه فقد هدد منو بإرسال الجند إلى القرى لتحصيل الضريبة قسرًا، ويتحمل عندئذٍ أهل القرى نفقات إرسالهم.

أمَّا الأموال المتحصَّلة من هذه الضريبة الواحدة، فقد قُسمت بمقتضى هذا المشروع العظيم إلى أربعة وعشرين جزءًا، منها اثنا عشر جزءًا نصيب الجمهورية الفرنسية وسبعة أجزاء يأخذها الملتزمون في نظير ما فقدوه من الأموال التي اعتادوا تحصيلها من القرى والتي «التزموا» بها، ثم ثلاثة أجزاء تُعطى إلى مشايخ البلد تعويضًا لهم عن الإتاوة التي كانوا يحصِّلونها من القرى، ولتشجيعهم على تأدية أعمالهم. ولما كان منو قد فرض في ٢٣ أغسطس سنة ١٨٠٠م على هؤلاء المشايخ مبلغًا كبيرًا من المال، فقد استُنزلت هذه الأجزاء الثلاثة من الإتاوة المفروضة عليهم، وأمَّا ما تبقَّى بعد هذا التوزيع وقدره جزءان، فقد خُصِّص للإنفاق على أعمال القنوات والجسور ولدفع أجور العمال حتى يُعفى الفلاحون من السخرة.

ومما تجدر ملاحظته أن هذا المشروع العظيم قد حرم الملتزمين كذلك من الإيراد الذي كانوا يحصِّلونه من أرض الأثر؛ ولذلك فإن السبعة أجزاء التي أُعطيت لهم كانت في واقع الأمر بمثابة معاش سنوي يُصرف لهم، وقد مُنِع هؤلاء الملتزمون من تحصيل هذه الأموال بأنفسهم منعًا قاطعًا، بل إنهم ما لبثوا حتى حُرِموا كذلك من ممارسة «سلطانهم» القديم في القرى أو الأرض التي ظلت في حوزتهم أزمانًا طويلة، عندما نصَّت المادة الحادية والعشرون على أنه «من الممنوع بتاتًا أن يتدخل الملتزمون في شئون القرى أو يتمتعوا بأي سلطان بها؛ لأن جميع ما كانوا يتمتعون به من سلطان في الماضي قد حرمتهم منه الجمهورية الفرنسية … فالحكومة وحدها هي صاحبة الحق في إصدار أحكام الحياة والموت، ولو أنها لا تستطيع فعل ذلك إلَّا عن طريق القضاء ووفق القانون»، والنتيجة الظاهرة لذلك كله أن الملتزمين باتوا بفضل هذا المشروع العظيم مجرد ملَّاك لأراضي «الوسية» التي يملكونها فحسب، كما نجم عن تحرر الفلاح من جميع القيود المالية والقضائية القديمة أن غدت أملاكه محررة كذلك، فأصبح في مقدوره أن يتصرف في الأرض التي في حوزته، وقد عزَّز هذا المبدأ اعتراف المشروع العظيم في مادتيه الرابعة عشرة والخامسة والعشرين بأن الفلاحين ملَّاك للأراضي. وجاء في المادة السادسة والعشرين أن «لجميع ملاك الأراضي مطلق الحرية في أن يزرعوا أراضيهم حسبما يشاءون.»

على أنه لما كان من المتعذر تنفيذ هذا المشروع العظيم قبل أن تتم مساحة جميع الأراضي الزراعية، فقد أنشأ منو في ٢ مارس سنة ١٨٠١م لجنة للمساحة، من أعضائها المهندس لوبير Le Père والمهندس الجغرافي جاكوتان Jacotin، وذلك من أجل «الوصول إلى تحديد قيمة ضريبة الأرض السنوية أو الميري وتحصيلها بالعدل والقسطاس في مصر.» وكان من أهم أعمال هذه اللجنة ضبط مساحة الفدان المصري وتوضيح هذه المساحة بالمقاييس الفرنسية المعروفة. وفي ٥ مارس عرضت اللجنة على منو جميع القرارات التي وصلت إليها في كل ما من شأنه أن يمهِّد الطريق أمامها لقيامها بالمهمة الملقاة على عاتقها.٥٢ ولكن في مارس سنة ١٨٠١م كان قد استؤنف النضال بصورة جدية من أجل تقرير مصير الحملة ذاتها، فتعذرت مساحة الأراضي الزراعية، وتعذر كذلك تنفيذ المشروع العظيم مشروع الضريبة الواحدة.

(٣-٢) الزراعة والصناعة والتجارة

ومع أنه كان من شأن الأساليب التي لجأ إليها منو للحصول على المال بكل وسيلة تعطيل الإنتاج ووقف النشاط الاقتصادي في داخل البلاد عمومًا؛ فقد عوَّل قائد الحملة الجديد على معالجة هذه الحالة بالتوفر على العناية بشئون الزراعة والصناعة والتجارة، على أمل أن يصل من ذلك كله إلى دعم أركان تلك المستعمرة الناجحة التي أراد تأسيسها في مصر، يهدف من مشروعاته الإصلاحية إلى تحقيق غرض واحد هو أن تغدو هذه البلاد مركزًا زراعيًّا وتجاريًّا هامًّا تجني فرنسا منه كل ربح وفائدة. ولما كان الاهتمام بتنمية الزراعة يقتضي العناية بوسائل الري، بما في ذلك إصلاح القنوات وإقامة الجسور، لما يجلبه تشجيع الزراعة على حد قوله من منفعة لفرنسا عند بقاء هذه البلاد في حوزة الجمهورية الفرنسية بعد عقد الصلح العام، ولما يترتب عليها كذلك من آثار طيبة يستطيع بفضلها الفرنسيون إذا خرجت مصر من قبضتهم أن يفخروا بما أسدوه للإنسانية من خدمات جليلة؛ فقد أصدر منو أمرًا في ٢٢ أغسطس سنة ١٨٠٠م٥٣ إلى مهندسي الحملة أن ينتشروا في أرجاء القطر لدراسة مجرى النهر وفحص القنوات والجسور، ومنع منو تدخل حكام المديريات المختلفة في أعمال هؤلاء المهندسين. وفضلًا عن ذلك فقد اهتم منو بمعرفة مقدار الأراضي الزراعية في مصر، فطلب من القبط أن يقدِّموا له بياناتٍ مفصَّلة عن ذلك، وكان غرض منو أن يخصص جزءًا من الأراضي الزراعية التي تملكها الدولة لإنتاج الغلات التي تحتاج إليها فرنسا «لأن مصر — على حد قوله — قد أصبحت بصورة لا تحتمل أي جدل أو مناقشة مستعمرة فرنسية. وعلى ذلك فإنه ليبدو أن إنشاء حديقة للتجارب من أعظم المشروعات فائدة وأجداها نفعًا؛ وذلك لأنه من الممكن تجربة زرع نباتات جديدة بهذه الحديقة، حتى إذا نجحت التجربة عُممت هذه الزراعات في أرجاء البلاد.»
وكان لتحقيق هذا الغرض أن أعطى منو لأحد المواطنين الفرنسيين في أوائل يوليو سنة ١٨٠٠م حق الانتفاع بقطعة من الأرض الزراعية في قرية «ميت عقبة» لإجراء تجارب زراعة البن وقصب السكر.٥٤ وفي ٢٢ أغسطس سنة ١٨٠٠م أصدر منو أمرًا بتشكيل لجنة للزراعة٥٥ تضم إليها شامبي Champy   ودليل Delisle   ونكتو Nictoux، كلَّفها بإنشاء حديقة لزراعة النباتات المجلوبة من فرنسا والاستكثار منها، إلى جانب التوفر على العناية بأمر النباتات التي تنمو بالبلاد نفسها؛ وذلك حتى يمكن — على حد قوله — الاستفادة من البذور التي وصلت حديثًا من فرنسا استفادةً تامةً من جهة، وحتى يمكن تشجيع الزراعة في هذه البلاد، والعناية كما يجب بالأشجار التي تنمو في مصر ذاتها. وفي ٢٤ سبتمبر كتب منو إلى القنصل الأول٥٦ ينبئه بإنشاء «حديقة للنبات» في القاهرة، ثم يطلب إليه إرسال مجموعة كبيرة من بذور الخوخ والمشمش والكمثرى والتفاح، وإرسال عدد من البستانيين المدربين إلى القاهرة. ولما كان من أغراض «اللجنة الزراعية» عند تأسيسها العناية بالغلات الوطنية، فقد أشرف هؤلاء على زراعة الأرز والقمح والذرة وغير ذلك من الغلات التي يزرعها الفلاح، كما درس أعضاء اللجنة كل المسائل المتعلقة بإنتاج الأراضي الزراعية في مصر، وبحثوا وسائل تقوية الأرض.
ولما كان فيضان النيل رديئًا في سنة ١٨٠٠م فقد قامت حكومة منو بتوزيع البذور والتقاوي على الفلاحين، وعُني مهندسو اللجنة الزراعية بملاحظة الأراضي حتى يوفِّروا الأسباب التي تكفل زرعها بسهولة. وفي ١٤ يوليو٥٧ أصدر منو أمرًا بمنع قطع الأشجار للحيول دون إبادة الأشجار المصرية، وذلك لأنه «لما كانت الأخشاب الضخمة الصالحة للوقود ولبناء السفن فحسب هي التي تأتي إلى البلاد عن طريق تجارتها الخارجية، فقد بات من الواجب على مصر أن تعتمد على أرضها في إنتاج الأشجار التي تصلح لأعمال النجارة الدقيقة.» وفضلًا عن ذلك فقد أراد منو أن يشجِّع أهل القرى على الاستكثار من زرع أشجار الجميز والتوت واللبخ وما إليها. وفي العام الزراعي ١٨٠٠-١٨٠١م كانت جهود منو قد أثمرت فانتعشت الزراعة المصرية.٥٨ كما أن هذه الجهود ما لبثت أن لقيت كل ترحيب في فرنسا، فنشر جورنال المونيتور الفرنسي Moniteur في ١٦ ديسمبر سنة ١٨٠٠م بأمرٍ من بونابرت خطاب منو المتعلق بحديقة النبات، كما نشر القنصل الأول في الأسبوع التالي في الصحيفة نفسها خطابًا كان منو قد أرسله في ١٤ نوفمبر يتحدث فيه عن إرسال عيِّنات من السكر إلى فرنسا حتى يرى الفرنسيون ما تستطيع مصر أن تنتجه.٥٩ وعلاوة على ذلك فقد أجاب القنصل الأول رغبة منو فأعد بعثة من ثمانية من البستانيين الحاذقين يحملون معهم اثنين وسبعين صندوقًا من بذور الفاكهة وعددًا كبيرًا من شجيرات الفاكهة عدا الآلات والأدوات الزراعية اللازمة لإجراء التجارب المزمعة في حديقة النبات في القاهرة. وقد غادرت هذه البعثة طولون في ٢١ أبريل سنة ١٨٠٠م على ظهر السفينة لافييرج دي نييج La Vierge des Nièges في طريقها إلى مصر، ولكنها سرعان ما وقعت في قبضة الأسطول الإنجليزي أمام برج العرب على مسافة قريبة من الإسكندرية في مساء ٨ يونيو.٦٠
ومع أن اللجنة الإدارية كانت قد قطعت في ٢١ يونيو سنة ١٨٠٠م بأنه «من المستحيل فعل شيء للنهوض بالصناعة» في مصر،٦١ فقد كان للجيش مطالب عدة لا غنى عن تدبير كل ما يمكن من وسائل لإجابتها، وبات لزامًا على منو كذلك أن يهتم بأمر الصناعة المحلية والقيام بعدة تجارب في سبيل إحيائها قبل الانصراف نهائيًّا عن محاولة النهوض بالصناعة في هذه البلاد. وكان مما شجع منو على المُضيِّ في محاولاته أن المهندس كونتي Conti استطاع أن يعرض منوالًا لنسج الأقمشة، كما تبين أنه كان في وسع التجار الفرنسيين المقيمين في القاهرة إدارة مثل هذه الأعمال، وعلى ذلك فقد اقترحت اللجنة الإدارية على منو في ٦ يوليو أن ينشئ مصنعًا للنسيج، فأقبل منو على هذا المشروع بكل همة. وفضلًا عن ذلك فقد أراد أن يضم هذا المصنع عددًا من العمال المصريين لاعتقاده أن «التوفر على تعليم سكان البلاد بكل الطرق الممكنة إنما يُعتبر من أجدى الوسائل التي تكفل النهوض بالمستعمرة الناشئة نهوضًا سريعًا محققًا.» غير أن اللجنة الإدارية ما لبثت أن عارضت هذه الرغبة بكل قوة لخوفها من تسرب أسرار الصناعة الفرنسية نتيجة لإشراك العمال المصريين في المصنع من جهة، ولأنه كان من رأي هذه اللجنة عدم التوسع في الصناعة في مصر حتى تظل المستعمرة الجديدة معتمدة اعتمادًا تامًّا في سد حاجاتها على ما تنتجه المصانع الفرنسية، عملًا بمبدأ حماية التجارة وتحقيقًا للقاعدة الاستعمارية التي تقضي بإلزام المصريين وأهل المستعمرات عمومًا أن يستوردوا كل ما يريدونه من فرنسا دائمًا، كما تمنعهم من إنشاء الصناعات المشابهة للصناعات الفرنسية. ودارت مناقشة كبيرة بين منو وأعضاء اللجنة الإدارية في هذا الموضوع، فكان من رأي منو — على خلاف ما أخذت به اللجنة الإدارية — أن «المصلحة تقتضي الأمم الغنية بما تنتجه أرضها ومصانعها أن تعمل على إنعاش الصناعة في الأمم المجاورة لها، والتي تتعامل معها تجاريًّا؛ وذلك لسبب بسيط هو أنه من المتعذر على أية أمة أن تجني ربحًا أو فائدةً إذا هي باعت منتجاتها إلى أمة فقيرة لا يمكنها أن تدفع ثمن ما تستورده نقدًا أو بطريق تبادل المتاجر مع الأمة المصدرة.»
ومع ذلك فقد استمسك أعضاء اللجنة الإدارية بآرائهم الاستعمارية والاقتصادية، وكانت هذه نظريات مالية عتيقة، وانحاز كونتي إلى جانبهم فأعلن امتناعه عن إطلاع المصريين وأهل هذه البلاد على أسرار الصناعة الفرنسية، وهكذا بدأ كونتي في إنشاء مصنع نسج الأقمشة بعد أن أُخذ برأيه فاشترط خروج غير الفرنسيين جميعهم من المصنع، كما اشترط في حالة موافقة حكومة الجمهورية على إرجاع مصر إلى السلطان العثماني أن يتم تحطيم أدوات الصناعة والمنتجات الصناعية جميعها أو تُنقل هذه إلى فرنسا. وفي ٢٤ سبتمبر٦٢ استطاع منو أن يكتب إلى وزير الحربية الفرنسية أن كونتي أنشأ طاحونة لإدارة الآلات اللازمة لصنع الأقمشة؛ ولذلك فقد بات ممكنًا الحصول في زمن قصير على الأقمشة اللازمة للجيش، ومع ذلك فإن العمل لم يبدأ في هذا المصنع إلَّا في شهرَي يناير وفبراير في العام التالي.٦٣ وإلى جانب نسيج الأقمشة قامت بعض الصناعات الأخرى، فصنع رجال الحملة الصابون من الزيوت المصرية، ونجح المواطن فاندر فلدت Vanderveldt في صنع البيرة. وفي ٢٤ سبتمبر طلب منو من وزير الداخلية في فرنسا أن يرسل إلى مصر عددًا من النسَّاجين وصانعي الأقمشة والحدادين وصانعي الساعات وحروف الطباعة وغير هؤلاء من الصناع. وفي ١٨ ديسمبر وعد منو كلًّا من بيجو Bégot   وريجاز Regas بحماية ما يبذلانه من جهود لإتقان الدباغة، ولو أنه رفض في الوقت نفسه أن يمنع غيرهما من الاشتغال بالدباغة.

•••

وكان إحياء التجارة من كبريات المسائل التي شغلت منو؛ وذلك لما ترتب على الاحتلال الفرنسي لهذه البلاد من آثار سببت ركود النشاط التجاري في البلاد، بل كادت تقضي عليه قضاءً مبرمًا، فقد شدد الإنجليز نطاق الحصار على الشواطئ المصرية، فمنعوا تجارة الوارد والصادر، كما أن وجود جيش الصدر الأعظم في سوريا اضطر قوَّاد جيش الشرق إلى منع تصدير الحبوب إليها، فحُرمت مصر من سوق هام لتجارتها الخارجية. وكان مما زاد الحالة سوءًا تلك السياسة المالية التي سار عليها كل من بونابرت وكليبر، والتي كانت لحمتها وسداها جمع المال من الأهلين بكل الطرق، حتى أقفرت من المال خزائن التجار على وجه الخصوص، وجاء تفنن منو في جمع المال منهم ضغثًا على إبَّالة، فزاد ضنك التجار ووقف نشاطهم، وبات من الواضح أن إحياء تجارة مصر في الميدانين الداخلي والخارجي على السواء يقتضي بذل جهود عظيمة، كما قد بات من الواضح كذلك أنه لا غنى عن إحياء تجارة هذه البلاد لإنعاش حال التجار وسائر الأهلين، وزيادة الثروة العامة بصورة تمكِّن منو من الحصول على الموارد اللازمة للإنفاق منها على جيش الشرق في مصر؛ ولذلك أقبل منو على معالجة مسألة التجارة وتوزع نشاطه بين تدبير وسائل إنعاشها في داخل البلاد ذاتها وبين محاولة إنشاء العلاقات التجارية الواسعة مع البلدان المجاورة، فعمل على توحيد فئات النقل المائي في داخل البلاد،٦٤ وأصلح قناة الإسكندرية، كما أمر بإصلاح الطرق البرية وحفر قناة جديدة بين دمياط وقلعة النصارى (أول ديسمبر)، وانكبَّ مهندسو الحملة على دراسة كل ما يساعد على تسهيل سبل المواصلات بين أقاليم الوجه البحري المختلفة وزيادة الطرق الصالحة للنقل، كما اقترح جيرار Girard أحد هؤلاء المهندسين (في ٢٧ ديسمبر) إنشاء مركز إداري في طنطا للإشراف منه على كل أقاليم الدلتا.
وفي ميدان التجارة الخارجية بذل منو قصارى جهده لتنظيم حركة السفن في الموانئ، وتسهيل التبادل التجاري في مصر والبلدان الأخرى، وتشجيع التجارة الخارجية عمومًا، من ذلك أن اللجنة الإدارية ما لبثت أن أشارت بإقامة لجنة سمَّتها «لجنة المحايدين» في الموانئ، مهمتها جمع المعلومات عن السفن التي صادرها الفرنسيون في الموانئ البحرية منذ أن استؤنف النضال مع الإنجليز والعثمانيين عقب نقض اتفاق العريش، فأصدر منو في ١٩ يونيو سنة ١٨٠٠م أمرًا جعل من حق إدارة الجمارك السماح للسفن بمغادرة الموانئ، كما خوَّل القائد العام وحده حق السماح بتصدير الأدوات المستخدمة في الزراعة والصناعة، وقد أذن هذا الأمر كذلك بتصدير القمح والحبوب من السويس، ثم بتصدير الأرز عمومًا.٦٥ وفضلًا عن ذلك فقد عمد منو إلى التخفيف من صرامة قوانين الحرب من أجل تسهيل التبادل التجاري بين مصر والأقطار الأخرى، فأمكن بفضل ذلك تصدير المنتجات المصرية إلى تركيا، كما سمح للتجار الإنجليز بالانتقال والتجارة على سفن يونانية، بدعوى أن اليونانيين من الشعوب المحايدة على الرغم من أنهم كانوا من رعايا السلطان العثماني. وأفاد اليونانيون من ذلك فائدة كبيرة، فأحضروا متاجرهم إلى مصر، وعقد الفرنسيون آمالًا كبيرة على إمكان استئناف العلاقات التجارية مع تركيا بواسطتهم.
وكان من الوسائل التي لجأ إليها منو لتشجيع التجارة الخارجية عمومًا أنه طفق يبذل الوعود السخية بإعطاء جوائز كبيرة للمصدِّرين والمستوردين، وإعفاء السلع المجلوبة من الخارج من الضرائب الجمركية، ما دامت هذه السلع مما يطلبه الجيش ويسد حاجته. وفي ١٥ أغسطس منع منو عمال الجمارك والحكام العسكريين في مختلف الأقاليم من تحصيل ضريبة غير الضرائب الجمركية المقررة.٦٦ وطبَّق منو هذا الأمر بصورة عملية عندما وجَّه تأنيبًا عنيفًا إلى الجنرال جوليان Jullien؛ لأن هذا الأخير كان قد حصَّل أربعمائة قرش عن كل سفينة يونانية عند خروجها من الإسكندرية، ولم يفد شيئًا اعتذار جوليان بأن كليبر كان قد أجاز له أن يفعل ذلك، وأن الجنرال لانوس قد أقر هذا العمل عند استشارته.٦٧ وفي ٣٠ أغسطس أمر منو بأن يُعطى كل قبطان سفينة عند دخوله الميناء «وثيقة» ترحيب تكفل له الاطمئنان على المتاجر التي تحملها سفينته، وتضمن له قبض الثمن عند بيعها، وغرضه من ذلك تشجيع التجارة التي تحملها السفن الأجنبية إلى الموانئ المصرية.٦٨ وفي ٨ ديسمبر بعث منو إلى فريان Friant بمجموعة من المنشورات لإذاعتها حتى يستطيع أهل جزر الأرخبيل أن يقفوا منها على ما يناله تجارهم من معاملة طيبة عند حضورهم إلى مصر.٦٩ وفضلًا عن ذلك عمل منو بنصيحة كل من رامبون ولانوس فرفع الحظر المفروض على السفن التي صادرها الفرنسيون، فكان من أثر ذلك كله أن أخذت السفن الصغيرة تفد بكثرة عظيمة في الشهور التالية إلى الإسكندرية.
وحاول منو أن يحطِّم ذلك الحصار البحري الذي فرضه الإنجليز على الشواطئ المصرية، وبذل قصارى جهده حتى يتمكن الفرنسيون من إرسال بعض سفائنهم محملة بالبضائع من هذه البلاد إلى فرنسا، فعهد في ١٧ نوفمبر إلى اثنين من التجار الفرنسيين هما ريال Réal وباتالون Batthalon بإرسال مركبين إلى فرنسا، فاستطاعت واحدة من هاتين السفينتين الخروج من الإسكندرية محملة بالأرز والبن، فوصلت إلى تونس بعد جهد ومشقة وأفرغت حمولتها هناك، وقامت في الشهر نفسه حركة كبيرة لتجهيز عدد من السفن المحملة بالأرز والسكر والبن والقطن والصمغ بغية إرسالها إلى مرسيليا. وفي ٢٧ نوفمبر و١٩ ديسمبر سنة ١٨٠٠م استطاعت ست من هذه السفن الخروج من الإسكندرية. وحدث في فبراير من العام التالي أن تنازلت حكومة منو عن أربع سفن للتجار الفرنسيين وسفينتين للتجار الوطنيين وذلك لكي يرسلها هؤلاء محملة بالمتاجر إلى مرسيليا.
غير أن وجود الأسطول الإنجليزي في البحر الأبيض جعل من المتعذر إحياء النشاط التجاري في ذلك البحر أو إبقاء المواصلات مفتوحة بين مصر وفرنسا؛ ولذلك فقد ظلَّت موانئ البحر الأحمر طوال أيام الحملة الفرنسية في هذه البلاد مراكز التجارة الرئيسية للصادر والوارد على السواء. ولم تغب هذه الحقيقة عن أذهان أعضاء اللجنة الإدارية، وكان بونابرت أول من اعترف بضرورة أن يصبح ميناء السويس مقر تجارة البن والتوابل الآتية من بلاد العرب وتجارة المنتجات الأوروبية والمصرية؛ ذلك أن السويس كانت أقرب إلى الوجه البحري من القصير الميناء المصري الثاني على البحر الأحمر. ومنذ أن تنازل الفرنسيون عن القصير إلى مراد بك في عهد الجنرال كليبر، لفتت اللجنة الإدارية الأنظار إلى ضرورة الاهتمام جديًّا بميناء السويس، لا سيما وقد بات ضروريًّا إيجاد ميناء صالح جديد للوجه البحري بعد أن شدد الإنجليز الحصار على شواطئ الدلتا الشمالية. وعلى ذلك فقد قدَّم أحد الفرنسيين «المواطن رينييه» تقريرًا ضافيًا إلى منو في ٧ يوليو سنة ١٨٠٠م عن أهمية السويس التجارية. وفي شهرَي نوفمبر وديسمبر من العام نفسه عظم الأمل لدى مهندسي الحملة في إمكان شق قناة تمتد من السويس وتصل البحر الأحمر بشاطئ البحر الأبيض، فكتب المهندس لوبير Le Père إلى القنصل الأول أن إعادة فتح قناة المصريين القدماء قد بات عملًا لا تحول صعوبات كبيرة دون تحقيقه.٧٠
على أن العناية بميناء السويس كانت لا تكفي وحدها لإحراز السيطرة التجارية في البحر الأحمر، بل إن ذلك كان يقتضي أولًا وقبل كل شيء أن يعمل الفرنسيون على إنشاء العلاقات الودية مع حكام البلدان الواقعة على هذا البحر، واستمالتهم إلى إرسال بضائعهم إلى الموانئ المصرية، وكان بونابرت أول من اتبع سياسة التفاهم مع شريف مكة، ووجد منو الآن أن يحذو حذوه على أمل أن يؤدي هذا التفاهم مع الشريف على الأقل إلى إبعاد السفن الإنجليزية عن البحر الأحمر، وإلى منع الإنجليز من تأسيس مراكز جديدة لهم في جدة. واعتقد الفرنسيون أن في وسعهم التأثير على الشريف حتى يعلن استقلاله وينفصل عن الباب العالي إذا هم أفلحوا في إثارة مخاوفه وشكوكه من ناحية الإنجليز والعثمانيين معًا، فضلًا عن أن الشريف في هذه الحالة لن يحجم عن إغلاق «مخا» في وجه الإنجليز كذلك. واعتقد منو أن مساعيه سوف تكلل بالنجاح في هذه الناحية؛ لأن الشريف أظهر في السنتين الماضيتين ميولًا ظاهرةً نحو الفرنسيين، فقد رفض أن يمد الإنجليز بالرجال أو السفن، كما أنه قبل في أكتوبر سنة ١٨٠٠م أن يدع بريد منو يمر إلى جزيرتَي إيل دي فرانس وروينيون الفرنسيتين، فكتب إليه منو في ٣٠ نوفمبر٧١ أن بونابرت قد كلَّفه بأن يعمل على تجديد معاهدات الود والصداقة مع الشريف، وأن ينتهز لذلك هذه الفرصة حتى ينبئه بأن جميع رعايا الشريف في وسعهم أن يحضروا إلى السويس دون خوف أو وجل، ويؤكد له أن التجار لن يدفعوا أية إتاوات أو مغارم، كما أنه لن يقع لهم ما يزعجهم؛ لأن منو على حد قوله قد ألغى جميع ما كان يُفرَض على متاجرهم في الزمن الماضي، مكتفيًا بتحصيل ضريبة واحدة فحسب، «فلا يستطيع فرنسي أن يحصِّل بارة واحدة زيادة على الضريبة المقررة، فإذا فعل كان نصيبه الموت فورًا ودون إمهال.» وعزا منو هذا القرار إلى ما يكنُّه من احترام وتقدير للشريف، ثم استمر منو يقول إنه كان يعتزم إرسال قافلة الحج إلى مكة المكرمة في هذا العام، وإرسال الكسوة إلى الكعبة الشريفة، لولا أن ظروف الحرب القائمة قد جعلت إرسال ذلك متعذرًا، ووعد بالعمل على تحقيق هذه الرغبة في العام القادم.

وقد أفلحت ولا شكَّ هذه الخطة الحكيمة، فجاءت السفن من جدة وينبع إلى السويس في شهرَي نوفمبر وديسمبر محملة بالأنسجة القطنية والشيلان الصوفية والحرائر والبن، ولو أنه مما تجدر ملاحظته أن الشريف غالب مع موافقته على إنشاء العلاقات التجارية مع الفرنسيين ظل مهتمًّا في الوقت نفسه بإجراء الاستعدادات العسكرية في جدة وينبع، ترقبًا لما يخشاه أن يطرأ من حوادث في المستقبل.

ودخل ضمن برنامج منو إنشاء العلاقات التجارية مع سنار ودارفور؛ أي شطر الوادي الجنوبي، ومع الحبشة من جهة، ثم مع البلدان الإسلامية في أفريقيا الشمالية الغربية من جهة أخرى، فقفا منو في ذلك أثر بونابرت، واتبع الطريق الذي سلكه قائد الحملة الأول. وكان بونابرت قد أوصى بإرسال مندوبين فرنسيين إلى السودان والحبشة لإنشاء العلاقات التجارية ولتنظيم شراء الرقيق، إلى جانب التمهيد من أجل التوغل في آخر الأمر في قلب القارة المجهولة، فقام منو الآن بتنفيذ هذه الخطة واستطاع أن يكتب في ٢٤ سبتمبر سنة ١٨٠٠م إلى وزير الحربية الفرنسية٧٢ أنه بعث بكتبه إلى إمبراطور الحبشة، كما أدلى بمقترحات معينة إلى كل من سلطان سنار وسلطان دارفور وسلطان دنقلة لعقد محالفة مع الفرنسيين في مصر، بل تكللت جهوده بالنجاح «لأن قافلتين كبيرتين تسيران الآن في طريقهما من الحبشة وسنار إلى القاهرة.» وكان منو صادقًا في دعواه لأنه لم ينقضِ زمن طويل حتى كانت القوافل قد وصلت من دارفور وسنار إلى إسنا وأسيوط في طريقها إلى القاهرة، كما أن دونزيلو في الوجه القبلي ما لبث أن بعث إلى منو بكتاب من سلطان دارفور، يطلب فيه هذا الأخير صداقة الفرنسيين ويخطب ودهم ويخبرهم باستعداده لتجهيز قافلة كبيرة وإرسالها إلى مصر إذا خفَّض الفرنسيون الضرائب الجمركية التي كان البكوات المماليك يحصِّلونها من القوافل. وفضلًا عن ذلك فقد أحضر «سفراء» السلطان إلى منو ثلاثة من العبيد وسنورين هدية له.
وكان بونابرت قد حرص على معاملة الحجاج من أهل أفريقيا الشمالية الغربية معاملة طيبة، وذلك بعد تأدية فريضة الحج ووصولهم من مكة المكرمة إلى القاهرة في طريقهم إلى طرابلس وتونس والجزائر ومراكش، وكان غرض بونابرت من ذلك أن يكسب صداقة أهل هذه البلاد فلا يصرفهم احتلال الفرنسيين مصر عن التجارة معها،٧٣ ولم يفسد على بونابرت سياسته سوى إعلان الباب العالي الحرب على فرنسا واشتراك وجاقات الغرب في هذه الحرب، فقد طلب الباب العالي من مصطفى باشا داي الجزائر وحمودة باشا باي تونس إعلان الحرب على فرنسا، فامتثل كلاهما للأمر وانقطعت العلاقات مدة من الزمن بين فرنسا وبين الوجاقات، ولكن الجزائر وتونس ما لبثتا أن عقدتا صلحًا منفردًا مع فرنسا، فعادت الأمور إلى مجاريها، وحسنت علاقة حكام هذه البلاد مع الحكومة الفرنسية.٧٤ وعلى ذلك بادر منو بانتهاز الفرصة فكتب في ٢٨ أكتوبر سنة ١٨٠٠م إلى كل من مولاي سليمان في مراكش ومصطفى داي الجزائر وحمودة باشا باي تونس ويوسف باشا باي طرابلس يؤكد لهم جميعًا أن رعاياهم الذين يريدون الحج إلى بيت الله الحرام سوف يلقون كل معاملة طيبة في مصر في أثناء ذهابهم إلى مكة المكرمة، كما بادر بالكتابة إلى ديبوا-ثانفيل Dubois-Thanville القومسيير الفرنسي لدى حكومة الجزائر لكي يضع ترتيبًا لضمان انتظام المواصلات بين هذه البلاد وبين مصر من جهة، ولتنمية العلاقات التجارية بين موانئ الوجاقات وبين ميناء الإسكندرية من جهة أخرى.٧٥ ويعلق الشيخ الجبرتي على هذه الحوادث بقوله في ٥ رمضان سنة ١٢١٥ﻫ/٢٠ يناير سنة ١٨٠١م: «في ذلك اليوم قُرِئ فرمان مضمونه أنه وردت مكاتبات من فرنسا بوقوع الصلح بينها وبين أهل الجزائر وتونس بشروط ممضاة مرضية، وقد أطلقوا الإذن للتجار من أهل الجهتين بالسفر للتجارة، فمن سافر له الحماية والصيانة في ذهابه وإيابه وإقامته باسم دولة الجمهورية الفرنساوية إلى آخره، ولم يظهر لذلك أثر.»٧٦ وكان سبب عدم ظهور أي أثر لذلك أن أيام الحملة في مصر قد باتت معدودة، وأصبح شغل منو الشاغل تدبير الوسائل للدفاع عن مستعمرته.

(٣-٣) الحكومة الوطنية

وكان من الواضح أنه لا يُرجى أي نجاح لجميع تلك المشروعات التي بدأها منو أو فكَّر فيها من أجل النهوض بالمستعمرة الجديدة وتوطيد أقدام الفرنسيين بها، طالما كان المصريون يرفضون التعاون مع السادة الجدد، ويتربصون نزول الكوارث بهم، وطالما كان الإنجليز والعثمانيون قد صحَّ عزمهم على إخراج الفرنسيين من مصر بكل وسيلة. ولا جدال في أن انصراف المصريين عن مؤازرة الحكم الجديد كان من العوامل التي ساعدت على إلحاق الهزيمة بجيش الشرق في النهاية عندما عجز منو وقوَّاده عن الصمود أمام قوات العدو الزاحفة عليهم. وسواء أدرك منو أهمية تعاون المصريين معه لدرء الخطر الخارجي أم فاته ذلك، فمن الثابت أن قائد الحملة الجديد قد بذل كل ما في وسعه من جهد وحيلة لاستمالة المصريين إلى الحكم الفرنسي كدعامة من تلك الدعامات التي كان لا غنى عنها في واقع الأمر إذا شاء منو أن يكفل النجاح لتجربته الاستعمارية. وعلى ذلك فقد كان تنظيم الحكومة الوطنية من أبرز النواحي التي ظهرت فيها جهود منو الاستعمارية، وكان قوام هذا التنظيم إعادة النظر في اختصاصات السلطات المحلية من جهة، ثم بحث العلاقات التي يجب قيامها بين الحكومة المركزية «الفرنسية» وبين أهل البلاد من جهة أخرى. وقد أقبل منو على معالجة هذه المسائل بكل نشاط وهمة وصادف عند محاولة تحقيق غرضه صعوبات عدة وبذل في سبيل التغلب عليها جهودًا شاقة مضنية.

فقد دلَّ اغتيال الجنرال كليبر على أن هوة سحيقة كانت تفصل بين الفرنسيين وبين أهل البلاد والعالم الإسلامي عمومًا؛ ذلك أنه ثبت أن علماء الأزهر كانوا قد استضافوا سليمان الحلبي قاتل الجنرال كليبر أسابيع عدة، كما أن أحدًا من هؤلاء لم يبلغ عن سليمان شيئًا، مع أنه أفضى إلى جماعة من هؤلاء الشيوخ بما كان يعتزمه، ونهاه فريقٌ منهم عن ارتكاب فعلته، وقد حُكِم على هؤلاء بالإعدام كشركاء له في الجريمة. وفضلًا عن ذلك فإن القاهريين لم يلزموا الهدوء والسكينة بعد ذلك إلَّا نتيجة لما حل بهم من كوارث على أثر تلك المغارم الفادحة التي فرضها الفرنسيون عليهم، وبسبب إهانتهم وما ذاقوه على أيديهم من سوء المعاملة بعد مقتل كبيرهم. ومع ذلك فقد ظلَّ منو على الرغم من هذا كله يعتقد أن في وسعه أن يضيِّق شقة الخلاف بين الفرنسيين والمصريين ويستل سخيمة الأخيرين إذا هو استطاع أن يبدأ عهدًا جديدًا من الحكم، فاستبدل الفرنسيون بسوء المعاملة التودد إلى المصريين واجتذاب قلوبهم، وحاولوا أن يحكموا بينهم بالعدل والقسطاس.

وكان مما زاد منو اقتناعًا بإمكان الوصول إلى غرضه ما أظهره الفرنسيون من رباطة جأش عند فقد كبيرهم، وإصرارهم على محاكمة سليمان الحلبي وشركائه محاكمة عادلة قبل الاقتصاص منهم، فكان لهذا المسلك الحكيم من جانبهم وقعٌ حسنٌ في نفوس المصريين ما لبث الشيخ الجبرتي أن أشار إليه عند ذكر هذه الواقعة فقال في حوادث ٢١ محرم سنة ١٢١٥ﻫ/١٤ يونيو سنة ١٨٠٠م: «وأعد الفرنسيون في شأن ذلك أوراقًا ذكروا فيها صورة الواقعة وكيفيتها، وطبعوا منها نسخًا كثيرة باللغات الثلاث الفرنساوية والتركية والعربية، وقد كنت أعرضت عن ذكرها لطولها وركاكة تركيبها لقصورهم في اللغة، ثم رأيت كثيرًا من الناس تتشوق نفسه إلى الاطِّلاع عليها لتضمنها خبر الواقعة وكيفية الحكومة، ولما فيها من الاعتبار وضبط الأحكام من هؤلاء الطائفة الذين يحكِّمون العقل ولا يتدينون بدين، وكيف وقد تجارى على كبيرهم ويعسوبهم رجل آفاقيٌّ أهوج وغدره، وقبضوا عليه وقرروه ولم يعجلوا بقتله وقتل من أخبر عنهم بمجرد الإقرار بعد أن عثروا عليه ووجدوا معه آلة القتل مضمخة بدم ساري عسكرهم وأميرهم، بل رتبوا حكومة ومحاكمة وأحضروا القاتل وكرروا عليه السؤال والاستفهام مرة بالقول ومرة بالعقوبة، ثم أحضروا من أخبر عنهم وسألوهم على انفرادهم ومجتمعين، ثم نفَّذوا الحكومة فيهم بما اقتضاه التحكيم وأطلقوا مصطفى أفندي البرصلي الخطاط حيث لم يلزمه حكم ولم يتوجه عليه قصاص كما يُفهم ذلك من فحوى السطور، بخلاف ما رأيناه بعد ذلك من أفعال أوباش العساكر الذين يدَّعون الإسلام ويزعمون أنهم مجاهدون، وقتلهم الأنفس وتجاريهم على هدم البنية الإسلامية بمجرد شهواتهم الحيوانية.»٧٧
وكان اعتمادًا على هذا الأثر الطيب إذن أن أقبل منو على مشروعات إصلاحاته لتحسين أحوال أهل البلاد في الإسكندرية والبحيرة ورشيد وغيرها. وكان من بين الذين اعتمد عليهم منو في دعم أركان الحكومة في البلاد حسن طوبار، وكان من أصحاب الأملاك الواسعة في إقليم المنزلة، أسدى خدمات كثيرة للفرنسيين ولكن الأجل لم يمتد به فتوفي في يونيو سنة ١٨٠٠م،٧٨ ثم الشيخ المصري. واعتقد منو أن الاستمرار على تلك السياسة الوطنية الإسلامية التي اتَّبعها بونابرت من قبل كفيلٌ باجتذاب المشايخ والعلماء وسائر الأهلين إليه، فشدد على جنده بأن يحترموا تقاليد وعادات المصريين ما وسعهم ذلك، واحتفل منو بالمولد النبوي الشريف، واستعد لإرسال الكسوة إلى الكعبة. وفي ١٧ أغسطس سنة ١٨٠٠م احتفل احتفالًا كبيرًا بقطع الخليج.٧٩ وفطن منو إلى ضرورة تأمين الأهالي على أملاكهم ومعتقداتهم، فشدد على جنده بأن يحترموا حقوق الملكية، كما أصدر أوامر عدة يطلب منهم الابتعاد عن كل ما يؤذي الفضيلة ويخدش الأخلاق الكريمة. ولم يقصر منو اهتمامه على ملاحظة سلوك جنده فحسب، بل صار يُعنى كذلك بمكافحة العادات الذميمة التي انتشرت وقتئذٍ بين سكان القاهرة أنفسهم كاستهتار المغنيات والراقصات وارتكاب طائفة من الدراويش الفعال القبيحة في شوارع القاهرة وطرقاتها، ومما هو جدير بالذكر أن العلماء والشيوخ كانوا قد حاولوا منع هذه الفعال القبيحة والعادات الذميمة ولكن دون جدوى؛ ولذلك قوبلت أوامر منو الآن بالاستحسان والتأييد من جانب العلماء ومن جانب القاهريين من أهل الطبقة الوسطى خصوصًا.٨٠

الديوان

ونظَّم منو الحكومة المركزية في القاهرة والحكومة الإقليمية في المديريات، فاتَّخذ القاهرة مركزًا للقيادة العامة العسكرية، على أن تُضم إليها المدينة ذاتها والقلعة والحصون المجاورة لها ومصر القديمة وجزيرة الروضة، ثم ألحق بها السويس ووضع بليار على رأس حكومة القاهرة، وفي الأقاليم عهد بالحكم إلى القواد الفرنسيين في مديريات القطر الثماني. وصار هؤلاء متمتعين بسلطات واسعة على اعتبار أنهم يمارسون في واقع الأمر تلك السلطات التي مارسها البكوات المماليك والكشاف من قبل، فأقر منو في ديسمبر سنة ١٨٠٠م٨١ أن يظل لهؤلاء الحكام التمتع بهذه السلطة الكبيرة فيما يتصل «بالأمور العسكرية وشئون الأمن والدفاع عن البلاد وأهلها»، كما خوَّلهم الحق في إلقاء القبض على كل الذين يجرءون على تعكير صفو الأمن. ولم يقتصر عمل هؤلاء الحكَّام على ملاحظة شئون الدفاع والأمن، بل طلب إليهم كذلك أن يزودوا الحكومة المركزية بالمعلومات المتعلقة «بطبيعة البلاد ومسائل التجارة وحال القنوات وشئون السكان»، فيدوِّن الحكام هذه المعلومات في سجلات خاصة، بينما يفردون غيرها لكل ما يتصل بأعمال البوليس ووسائل الدفاع العسكرية. وحفظ منو لنفسه بوصفه قائد الحملة العام أن يعيِّن مشايخ البلد في القرى، وقد تحتم على هؤلاء ابتداء من ٢٣ سبتمبر سنة ١٨٠٠م أن يحصلوا على «فرمان» جديد من منو يخوِّلهم الحق في مزاولة أعمالهم.٨٢
ووصف الشيخ الجبرتي هذا الترتيب، فقال في حوادث شهر جمادى الثانية سنة ١٢١٥ﻫ (أكتوبر-نوفمبر سنة ١٨٠٠م): «وفيه قرروا على مشايخ البلدان مقررات يقومون بدفعها كل سنة؛ أعلى وأوسط وأدنى، فالأعلى وهو ما كانت بلده ألف فدان فأكثر خمسمائة ريال، وجعلوا الشيخ سليمان الفيومي وكيلًا في ذلك فيكون عبارة عن شيخ المشايخ، وعليه حساب ذلك، وهو من تحت الوكيل الفرنساوي الذي يُقال له بريزون Brizon. غير أنه لما كان هذا الترتيب الجديد قد جاء مصحوبًا بجمع المال من مشايخ البلاد، فإنه سرعان ما أثار السخط ضد منو، فقال الشيخ الجبرتي: «فلما شاع ذلك ضجَّت مشايخ البلاد لأن منهم من لا يملك عشاءه، فاتفقوا على أن وزعوا ذلك على الأطيان وزادت في الخراج، واستلموا البلاد والكفور من القبطة فأملوها عليهم حتى الكفور التي خربت من مدة سنين، بل سمُّوا أسماء من غير مسميات.»٨٣
وتناول منو موضوع الدواوين في القاهرة والأقاليم، فأعاد البحث والفحص، ومن المعروف على نحو ما تقدم أن ديوان القاهرة كان قد أُنشئ في أول الأمر في ٢٥ يوليو سنة ١٧٩٨م، ثم تبعه إنشاء دواوين الأقاليم في ٢٧ يوليو من العام نفسه، ثم عُطِّل ديوان القاهرة عقب ثورة القاهريين الأولى، وأُعيد تأليفه في ٢١ ديسمبر سنة ١٧٩٨م من ديوانين: كبير أو عمومي ثم خصوصي أو ديمومي، كما أن بونابرت كان قد أعاد تنظيم دواوين الأقاليم في ٢٠ أكتوبر.٨٤ ومما تجدر ملاحظته أنه لا يوجد ما يثبت قطعًا أن ديوان القاهرة قد دُعي إلى الانعقاد أيام الجنرال كليبر بعد انتصار هذا القائد في موقعة هليوبوليس. كما أن دواوين الأقاليم كانت قد انحلت منذ أن عُقِد اتفاق العريش، ولم يعد كليبر إنشاءها لزعمه أن هذه الدواوين الإقليمية عديمة الجدوى. بل إنه من المحتمل كذلك أن محاكم القضايا التي شكلها بونابرت في القاهرة والإسكندرية ورشيد ودمياط لم تستمر في عملها وانحلت تمامًا في عهد الجنرال كليبر. وعلى ذلك فقد بات من نصيب منو أن ينظر في كل هذه الأمور لإعادة تنظيم الدواوين والمحاكم، وكان من رأيه بعد الفحص والدرس أن يكتفي الفرنسيون بإعادة تشكيل ديوان القاهرة فحسب والاستغناء عن دواوين الأقاليم، ثم العمل على دعم أركان الديوان، وذلك بأن يصبح لأعضاء هذا الديوان حق تفسير القوانين الإسلامية من جهة، ثم الإشراف بصورة جدية على المحاكم الوطنية من جهة أخرى؛ لأن هذه المحاكم إنما كانت تستند في أعمالها إلى أحكام الشريعة المحمدية.
وقد ترتب على الرغبة في تنظيم المحاكم الوطنية البحث من جديد في تنظيم شئون القضاء عمومًا في هذه المستعمرة الناشئة. وعلى ذلك أصدر منو أمرًا في ٢٢ أغسطس سنة ١٨٠٠م٨٥ بتأليف لجنة من فورييه وبوضوط ورجنييه Régnier كي تبحث «موضوع إنشاء المحاكم والطريقة التي تُملأ بها وظائف القضاء، ثم ما يمكن إدخاله من تغييرات مفيدة لتحديد الرسوم القضائية»، وذلك كله إلى جانب ما قد يحيله القائد العام على هذه اللجنة من مسائل الإدارة الداخلية وما يجب أن يقوم من علائق بين الحكومة الفرنسية وأهل البلاد. وفضلًا عن ذلك فقد طلب منو إليهم أن يستشيروا أعضاء لجنة أخرى أزمع تأليفها من المشايخ والعلماء الذين في وسعهم أن يعاونوا فورييه وزملاءه على فهم هذه المسائل.٨٦
وفي ٢ أكتوبر سنة ١٨٠٠م صدر أمر منو بتنظيم القضاء وإعادة تشكيل ديوان القاهرة في وقت واحد،٨٧ فاشتمل هذا الأمر على مقدمة وعدة مواد، جاء في المقدمة: «إنه لما كان نشر العدالة بين أهل البلاد الخاضعة للإدارة الحكومية من أهم واجبات الحكومة القائمة، كما أن من واجب هذه الحكومة إنشاء المحاكم التي تفصل في قضايا الأهالي المدنية وتوقيع العقوبة على المذنبين والمجرمين الذين يأثمون ضد النظام العام والمجتمع، فقد تقرر أن تكون الأحكام الصادرة من المحاكم القائمة في مصر — أو التي تقوم في المستقبل — باسم حكومة الجمهورية الفرنسية، كما تُعتبر جميع وظائف القضاء في مصر شاغرة ولا يشغلها أحد ابتداء من ٢٣ سبتمبر سنة ١٨٠٠م، فيستمر القائمون فعلًا بشئون القضاء في تأدية أعمالهم بصورة «مؤقتة»؛ وذلك حتى يصدر الأمر بالتعيينات الجديدة اللازمة لملء هذه الوظائف.» وتناولت مواد هذا الأمر الترتيب المزمع إنشاؤه، فتحدثت بعض هذه المواد عن تأليف ديوان القاهرة واختيار الأشخاص اللائقين لملء مناصب القضاء بمعرفة أعضاء الديوان، ثم تنظيم شئون القضاء عمومًا. ولذلك كان لأمر أو «قانون» ٢ أكتوبر سنة ١٨٠٠م أهمية كبرى في تاريخ تلك الحكومة الوطنية التي شاء منو أن يتخذ منها دعامة قوية لضمان نجاح تجربته الاستعمارية.

أمَّا فيما يتعلق بتشكيل ديوان القاهرة الجديد والغرض من دعوته، فقد نصت المادة الثالثة على أن يتألف هذا الديوان من المشايخ وغيرهم من المسلمين الذين اشتُهروا بالتقوى والورع والعلم والنزاهة؛ وذلك بأن ينتخب علماء القاهرة والإسكندرية ورشيد ودمياط وسائر مدن القطر الكثيرة هؤلاء الأعضاء، وبيَّن منو الغرض من دعوة الديوان بقوله: «إن هذه الجماعة من أكابر علماء مصر إنما تتخذ مركزها بين الحكومة الفرنسية وبين المسلمين من المصريين بصورة تمكِّنها من السهر على تطبيق القانون والإشراف على إدارة الجوامع والتكايا والأوقاف ومراقبة شئون التعليم الشعبي، إلى جانب إعداد قافلة الحج الذاهبة إلى مكة، ثم ملاحظة عادات البلاد الدينية والوطنية وصونها والعمل على تأييدها ودعمها.» وفضلًا عن ذلك فمن بين مهام الديوان أن ينقل إلى أهل مصر ما توجهه إليهم الحكومة من منشورات، كما أن من الواجب عليه أن يعرض على الحكومة مطالب الأهالي، على أن يكون اتصال هذا الديوان بالقائد العام مباشرة. وفي المادة الثالثة جعل عدد أعضاء الديوان تسعة «أصليين» يحضرون جلسات الديوان ثلاث مرات في كل فترة عشرية، وتُصرف لهم مرتبات يأتي تحديدها في أمر منفصل يصدر فيما بعد. وكان إلى جانب هؤلاء الأعضاء الأصليين أربعة عشر عضوًا من «أعضاء الشرف»، يختارهم القائد العام متى وكيف شاء، حتى من بين عظماء القبط والشوام والأروام، لحضور الجلسات، على أن يكون لهؤلاء صوتٌ استشاري فحسب. وينتخب أعضاء الديوان بعد كل ثلاثة شهور رئيسًا وسكرتيرًا يمكن إعادة انتخابهما في الدورات التالية. ويدعو القائد العام لجنة من الفرنسيين يسمِّي أعضاءها بنفسه لحضور جلسات الديوان؛ وذلك لضمان تنفيذ أوامر الحكومة ولملاحظة أعمال الديوان، وتصحيح ما قد يقع من أخطاء في أثناء جلساته، ومنع أعضاء الديوان من تعدي اختصاصاتهم. وكان من وظائف هذه اللجنة الفرنسية إلى جانب ذلك الإشراف على الإدارة القضائية في البلاد. ثم عُيِّن للديوان مكان لاجتماعه، فلا يجوز له أن يعقد جلساته في غيره، ومُنع الديوان من عقد جلسات غير عادية إلَّا بإذنٍ من القائد العام، فإذا خالف ذلك كان جزاؤه الانحلال، كما مُنع من استصدار أو إذاعة أية منشورات من غير تصريح بذلك من القائد العام نفسه.

وفي المادة السابعة نُظِّمت شئون القضاء، فنصَّت هذه المادة على أن يعقد الديوان جلسته الأولى في بداية شهر فندميير (سبتمبر)، فيعمد أعضاؤه إلى إعداد قائمة بأسماء الأشخاص الذين ينعقد على اختيارهم لملء الوظائف القضائية رأي أكثرية الأعضاء، وعلى شريطة أن تشتمل هذه القائمة المقدمة إلى الحكومة على ثلاثة أسماء يُرشَّح أصحابها لمنصب قاضي القضاة في القاهرة؛ وذلك حتى يختار القائد العام واحدًا من بينهم لملء هذا المنصب، ثم أسماء الأفراد الذين يختارهم الديوان لملء المناصب القضائية في المديريات، على أن يكون كل هؤلاء من الذين وُلدوا في مصر أو أقاموا في هذه البلاد عشر سنوات. وقد تُرك لقاضي القضاة الحق في أن يعيِّن من ينوبون عنه في محاكم القاهرة ومصر القديمة وبولاق، بينما ترك للقضاة الآخرين الحق في تعيين من ينوبون عنهم في محاكم المديريات كذلك. ومن ضروب الإصلاح التي أدخلها منو أنه أبطل في مواد هذا الأمر التالية تقديم العطايا والهدايا للقضاة أو من ينوبون عنهم وإلى الكتبة وسائر موظفي المحاكم، كما وعد بإعداد فئات معينة للرسوم القضائية.

وعهد منو بتنفيذ القوانين والأحكام الإسلامية إلى السلطة العسكرية، فرجالها هم الذين يقبضون على المذنبين الذين تصدر الأحكام ضدهم أو يصيبون سمعة سيئة بسبب ما يرتكبونه من آثام ضد المجتمع. كما أنه بات من اختصاص السلطة العسكرية كذلك جمع الأدلة التي يستند إليها القضاة في إصدار أحكامهم، ثم القيام بتنفيذ ما يوقعه هؤلاء من أحكام على المذنبين أو المجرمين بكل سرعة. وحرَّم منو على ممثلي السلطة العسكرية التدخل في أعمال القضاء حرصًا على العدالة، عندما كان ضمان العدالة منوطًا على حد قوله بنزاهة القضاة أنفسهم وحكمتهم. وأشرك منو مع السلطة العسكرية في القبض على القتلة والأشرار والسارقين ومن إليهم «السلطة العمومية» التي كان من حقها كذلك أن تقدم كل هؤلاء للمحاكمة وفق قوانين البلاد الجنائية.

وتناول منو في المادة الرابعة عشرة وفي المواد التالية بعض هذه «القوانين» بالمحو أو التعديل، فكان أظهر ما أدخله على هذه القوانين رفض مبدأ «الدية» أو ثمن الدم، وكان قد جرى العرف على أن القاتل في استطاعته الإفلات من العقوبة إذا هو دفع مبلغًا من المال إلى أسرة المقتول «ثمنًا لدمه». وزيادة على ذلك فقد رفض منو أن يترك لأسرة المقتول مطاردة القاتل والاقتصاص منه أخذًا بالثأر وإشباعًا لشهوة الانتقام، وذلك بدلًا من رفع الخصومة إلى القضاء والرضوخ لأحكامه. وعلى ذلك فقد منعت المادة الرابعة عشرة القضاة من إبدال عقوبة الإعدام بغيرها، كما منعتهم من قبول الوساطة في ذلك. وتعهدت الحكومة بالقيام على حمايتهم ومنع الأذى عنهم عند تأديتهم هذا الواجب، واعتبرت من يجرءون على تهديد القضاة شركاء في الجريمة.

وجاء في المادة السابعة عشرة أن علماء «الديوان في القاهرة يؤلفون هيئة قضائية عليا»، ومن حقهم أن يقترحوا عزل القضاة الذين لا يؤدون واجباتهم على الوجه الأكمل، وكذلك جميع الموظفين في المحاكم، فضلًا عن إلغاء الأحكام أو تعديلها إذا فشلت هذه في تحقيق العدالة، ثم خفض الرسوم القضائية إذا زادت عن القدر المقرر. وبذلك أضحى ديوان القاهرة شبيهًا بمحكمة عليا استئنافية. فوضح منو في المادة التالية (الثامنة عشرة) الطريقة التي يمارس بها الديوان سلطته القضائية عندما يطلب أحد طرفَي الخصومة استئناف حكم من الأحكام التي أصدرها أحد القضاة في المسائل المدنية والجنائية، فكان على طالب الاستئناف أن يقدم طلبه في ذلك خلال ستة أيام في القضايا المدنية وأربعة أيام فحسب في القضايا الجنائية، على شريطة أن يصحب هذا الطلب فتوى صادرة من مفتي المذاهب الأربعة تنص على عدم موافقة هؤلاء على طريقة المحاكمة التي حدثت، أو اعتبار الحكم الصادر في نظرهم مخالفًا للقانون؛ حتى إذا جاءت هذه الفتوى قبل الاستئناف وبحث أعضاء الديوان الدعوى المستأنفة من جديد، فإذا وافق عندئذٍ ثلثا الأعضاء الحاضرين على حكم القاضي نفذ هذا الحكم، أمَّا إذا عارض ثلثا الأعضاء على الأقل فيبطل الحكم، وأرسل الديوان قراره الجديد إلى القاضي، حتى يقوم هذا بتسجيله وعندئذٍ يجري تنفيذ القرار أو الحكم الجديد مباشرة.

وتناول منو تنظيم القضاء بين أهل الطوائف غير الإسلامية المقيمة في مصر عدا الفرنسيين. فنص الأمر الصادر في ٢ أكتوبر على إنشاء محكمة لكل طائفة من طوائف القبط والشوام والأروام واليهود وغير ذلك من الطوائف الأخرى ما دام أهلها من غير المسلمين ومن غير الفرنسيين، وعلى شريطة أن يكونوا كذلك قد وُلدوا في مصر أو يقيمون بها. فيتولى كبير كل طائفة رياسة المحكمة التي يحضرها عضوان يعيِّنهما القائد العام. وشمل اختصاص هذه المحاكم الطائفية جميع القضايا المدنية بين أفراد الطائفة، ولو أن ذلك لم يمنع من عرض هذه القضايا على القاضي الإسلامي طالما رغب في ذلك أحد طرفَي الخصومة، وكانت المحكمة الطائفية قد بحثت الدعوى من قبل. وفضلًا عن ذلك فقد كان في وسع المتخاصمَين أن يلجآ إلى المحكمة الإسلامية مباشرة إذا اتفقت كلمتهما على ذلك، كما كان للمتقاضيَين الحق دائمًا في استئناف دعواهما أمام القاضي الإسلامي إذا طلب أحدهما ذلك، وللقاضي الإسلامي أن يصدر ما يراه من أحكام على شريطة عدم تنفيذ هذه الأحكام حتى تُعرَض أولًّا على الحكومة التي تصدر ما يلزم من أوامر لتنفيذها. وكان من حق قاضي المحكمة الإسلامية أن ينظر الدعاوى التي يكون أصحابها من غير الفرنسيين ويختلفون في الدين والجنس ويتعذر عليهم الاتفاق على محكمة أخرى. أمَّا إذا اتفق طرفا الخصومة على تقديم دعواهما أمام محكمة معينة غير المحكمة الإسلامية، فقد امتنع عليهما حينئذٍ استئناف هذه الدعوى أمام القاضي الإسلامي. وقد تحدد شهر فندميير (أي ابتداءً من ٢٣ سبتمبر سنة ١٨٠٠م) لتنفيذ هذا النظام «على أن يجري تطبيقه في جميع الأقاليم بما في ذلك تلك الأقاليم التي يتولى إدارتها مراد بك أمير وحاكم الصعيد باسم الجمهورية الفرنسية.»

وهكذا تضمَّن «قانون» ٢ أكتوبر سنة ١٨٠٠م إنشاء ديوان القاهرة، وإنشاء المحاكم القضائية إلى جانب تنظيم القضاء عمومًا. وقد اختلف تنظيم الديوان الجديد عن ديوان بونابرت السابق، فجعل منو ديوانه من مجلس واحد، ورسم اختصاصاته بصورة واضحة، فقصر نشاط الديوان على الشئون القضائية، تلك الناحية التي اعتقد منو أن في استطاعة العلماء والشيوخ إذا هم تفرغوا لأعمالهم فيها أن يسْدوا خدمات جليلة للقضاء في هذه البلاد، وأن يصبحوا أداة فعالة لضمان العدالة فضلًا عن ضمان استقامة الأمور في المساجد وأماكن «التعليم الشعبي» بفضل إشرافهم على إدارتها جميعًا، وقد كانت هذه مسائل تتصل اتصالًا وثيقًا بعقائد المصريين وتقاليدهم وعاداتهم. وصف الشيخ الجبرتي هذا الديوان فقال في حوادث شهر جمادى الثانية سنة ١٢١٥ﻫ:٨٨ «وفيه شرعوا في ترتيب الديوان على نسق غير الأول من تسعة أنفار متعممين لا غير، وليس فيهم قبطي ولا وجاقلي ولا شامي ولا غير ذلك، وليس فيه خصوصي وعمومي على ما سبق شرحه، بل هو ديوان واحد مركب من تسعة رؤساء هم: الشيخ الشرقاوي رئيس الديوان، والمهدي كاتب السر، والشيخ الأمير، والشيخ الصاوي وكاتبه (أي الشيخ عبد الرحمن الجبرتي نفسه)، والشيخ موسى السرسي، والشيخ خليل البكري، والسيد علي الرشيدي نسيب ساري عسكر، والشيخ الفيومي، والقاضي الشيخ إسماعيل الزرقاني، وكاتب سلسلة التاريخ السيد إسماعيل الخشاب، والشيخ علي كاتب عربي، وقاسم أفندي كاتب رومي، وترجمان كبير القس روفائيل، وترجمان صغير إلياس فخر الشامي، والوكيل الكمثاري فورييه، ويقال له مدبِّر سياسة الأحكام الشرعية، ومقدم وخمسة قواسة، واختاروا لذلك بيت رشوان بيك الذي بحارة عابدين وكان يسكنه برطلمان … وأعدُّوا للمترجمين والكتبة من الفرنساوية مكانًا خاصًّا يجلسون به في غير وقت الديوان على الدوام لترجمة أوراق الوقائع وغيرها، وجعلوا لها خزائن للسجلات، وفتحوا أيضًا بجانبها دارًا نفذوها إليها وشرعوا في تعميرها وتأنيقها وسمَّوها بمحكمة المتجر، وأخذوا يرتبون أنفارًا من تجَّار المسلمين والنصارى يجلسون بها للنظر في القضايا المتعلقة بقوانين التجار، والكبير على ذلك كله فورييه، ولم يتم ذلك المكان الثاني.»
ولما كان منو قد اقتنع بأنه قام بإصلاحات كثيرة، فقد بات ينتظر أن تأتي هذه بثمرتها المنشودة، كما انتظر أن يشاطره المصريون التفاؤل بهذه التنظيمات الجديدة والرضا عنها. وفي نشوة من نشواته أصدر منشورًا أو نداءً موجَّهًا إلى أهل مصر في ٢٨ أكتوبر سنة ١٨٠٠م،٨٩ تحدث فيه عن إصلاحاته التي اتخذها، ثم عن تلك الإصلاحات التي يعتزم إجراءها، وطالب المصريين بأن يعترفوا بصنيع فرنسا وأياديها البيضاء عليهم، بعدما كان المصريون يعيشون في بؤس وتعاسة، فجاءت الجيوش الفرنسية إلى هذه البلاد تحرر أهلها من الشقاء وتشيع بين ظهرانَيْهم السعادة، واعتبر الفرنسيون المصريين إخوة لهم فعُنوا بأمرهم وأحسنوا معاملتهم، وأصدر منو أوامر عدة لإصلاح شئونهم ورفع الظلم عنهم، فوضع للضرائب نظامًا ثابتًا لا يتغير بعد أن ألغى عددًا عظيمًا منها، ومنع الملتزمين ومشايخ البلد من إرهاق الأهلين وإثقال كواهلهم بالمغارم والإتاوات وما إليها، ونظَّم القضاء فبات سير العدالة مضمونًا دون حاجة لتقديم الهدايا والرشاوى للقضاة، وحفظ الأمن وكفل للمصريين حصولهم على أثمان كل ما يقدِّمونه من مؤن وأغذية للجنود الفرنسيين في مختلف المديريات، ذلك أنه قد صدرت إليه على حد قوله «أوامر الجمهورية الفرنسية وأوامر القنصل بونابرت ليعمل جادًّا ودون أن يغفل لحظة حتى ينعم المصريون بالسعادة ويشعروا بالغبطة والسرور.» وقد اختتم منو هذا المنشور الطويل بتقديم النصح للمصريين أن يلزموا الهدوء والسكينة، وتوعد بإنزال العقوبة الصارمة بكل من يجرؤ على الإخلال بالنظام، فأعاد إلى أذهانهم ما حلَّ بأهل بولاق من عقاب صارم تأديبًا لهم على ثورتهم.
وكان ديوان القاهرة أداة طيبة في يد منو، فلم يُعرف عن أعضائه أنهم اعترضوا على شيءٍ مما طلبه منهم أن يفعلوه، ولم يُبدِ عضو استقلالًا في الرأي، ولم يجرؤ أحد على الوقوف موقف المعارضة ومحاولة مناقشة مسألة من المسائل التي كان يفرضها الفرنسيون على أعضاء الديوان فرضًا، حتى إن كثيرين من المؤرخين توهموا بسبب ذلك كله أن الديوان كان يتعاون مع الجنرال معاونة كاملة وثيقة، دليل الرضا عن حكومته والخضوع لسلطان الفرنسيين عن رغبة وارتياح. ومع ذلك فقد كان لهذا «الخضوع» الظاهري أسباب عدة، لعل أهمها تمسك أعضاء الديوان بخطة «المداراة والتريث» بعد كل تلك العقوبات الصارمة التي أنزلها الفرنسيون بالقاهريين عقب ثوراتهم السابقة، وانشغال العلماء والمشايخ إلى جانب سائر القاهريين بتدبير الأموال لدفع الغرامات الفادحة التي طُولبوا بها، وانتظار الفرج في وقت كان من المتوقع فيه أن يبدأ العثمانيون وحلفاؤهم الإنجليز الزحف على الحدود المصرية والهجوم على جيش الشرق وطرد «الحملة» من الأراضي المصرية. وعلى ذلك فقد ظل الديوان يجيب رغبات منو مسايرة ومداراة له، فقد حدث في ١٦ أكتوبر سنة ١٨٠٠م أن أشار منو على أعضاء ديوانه بأن يرسلوا تهنئة إلى بونابرت بمناسبة وصوله إلى أرفع مناصب حكومة الجمهورية الفرنسية، وأن ينتهز الأعضاء هذه الفرصة فيُبدوا رغبتهم في انضمام مصر إلى فرنسا نهائيًّا،٩٠ فبادر المشايخ: البكري والشرقاوي ومحمد الأمير والمهدي والصاوي والفيومي والسيد علي الرشيدي وعبد الرحمن الجبرتي بإعداد خطاب في هذا المعنى، قُرئ بالديوان٩١ في ٢٤ جمادى الثاني ١٢١٥ﻫ/١٣ نوفمبر سنة ١٨٠٠م، ثم تقرر حفظه في سجل الديوان، فأُثبِت هذا الخطاب في سجل الديوان بإشراف كل من: الشيخ إسماعيل الزرقاني القاضي، والسيد إسماعيل الخشَّاب «وثائقي» الديوان وكاتب سلسلة التاريخ.
وفي هذا الخطاب٩٢ هنأ العلماء بونابرت على منصبه الجديد، وأثنوا عليه ثناءً عاطرًا، وأبدوا أسفهم لاضطراره إلى مغادرة هذه البلاد حتى يخلِّص فرنسا من أعدائها، ووصفوه بسيف الله المسلول، ثم قالوا: «ونحن إذا قلنا إن المصريين يؤلفون مع الفرنسيين أمة واحدة لأصبنا في هذا القول كبد الحقيقة. ويرجع الفضل في توثيق عُرى هذا الاتحاد يومًا بعد يومٍ إلى ما أبداه من عناية فائقة بأمر هذا التآلف صديقنا عبد الله منو صاحب الصيت الذائع والمقام الرفيع الذي حباه المولى بالحكمة وسداد الرأي، رعاه الله بعين عنايته وأثابه خيرًا على ما يفيض به من رأفة وحنان»، وشكر العلماء المولى سبحانه وتعالى الذي ألهم بونابرت اختيار عبد الله منو حاكمًا على مصر، ثم قالوا في ختام رسالتهم: «ونحن إنما نطلب إليكم ألَّا تغفلوا أمر مصر فيسدل النسيان عليها حجابًا؛ ذلك أن مصر هي بلادكم، ولا شكَّ في أن شرف عاصمتها هو شرفكم، وأمَّا أهلها فهم يكنُّون لكم كل محبةٍ وتقدير، ويترقبون عودتكم إليهم بفارغ الصبر. إن الدين الإسلامي الذي ظفر بتقديركم ليدعوكم إلى المجيء إلى هذه البلاد مرة أخرى، ولقد وعدتم أنتم بذلك فلا تخلفوا وعدكم، ولن يطول الأمد على تمام الاتحاد بين الأمتين، فلا معدى عن حدوث ذلك في يوم قريب، وإن هذا اليوم آتٍ لا ريب فيه؛ لأن المولى عز وجل قد أراد ذلك ولا مناص من تنفيذ إرادته.»
وإذا كان أعضاء الديوان قد درجوا على «مداراة» منو فأجابوه إلى ما طلبه منهم خوفًا من الاصطدام معه في مسائل كثيرة، فقد وجد الأعضاء في بعض المسائل التي عرضها منو عليهم مزايا صادفت هوى في نفوسهم فأقبلوا على معالجتها بكل همة. ولما كان منو قد اصطنع الحكمة والتأني فلم يشأ أن يفرض إرادته فرضًا في المسائل التي اعتبرها ذات صلة وثيقة بأحكام الشريعة الإسلامية أو بعادات وتقاليد البلاد القديمة؛ فقد ظهر من آن لآخر أن هناك تعاونًا كاملًا بين الديوان وبين حكومة منو من شأنه أن يعزو في ظاهر الأمور على الأقل النجاح إلى منو في تجربة حكومته الوطنية، من ذلك «مسألة ضبط الأنساب ومعرفة الأعمار» التي عرضها منو على أعضاء الديوان، فانبرى هؤلاء يبحثونها ويقرون وجهة نظر منو، ويكملون ما بدا لهم من نقص في مشروعه الجديد. وقد شرح الشيخ الجبرتي هذه المسألة وما دار بشأنها من مناقشات في الديوان، فقال في حوادث ١٦ شعبان سنة ١٢١٥ﻫ و٢ يناير سنة ١٨٠١م:٩٣ «إن ساري عسكر أمر وكيل الديوان أن يذكر لمشايخ الديوان قصده ضبط وإحصاء من يموت ويولد من المسلمين، وأخبرهم أن ساري عسكر بونابرته كان في عزمه ذلك وأن يُقيَّد له من يتصدى لذلك ويرتبه ويدبره ويعمل له جامكية وافرة فلم يتم مرامه، والآن يريد تتميم ذلك ويطلب منهم التدبر في ذلك وكيف يكون، وذكر لهم أن في ذلك حِكَمًا وفوائد، منها ضبط الأنساب ومعرفة الأعمار، فقال بعض الحاضرين: وفيه معرفة انقضاء عدة الأزواج أيضًا. ثم اتفق الرأي على أن يُعلموا بذلك قلقات الحارات والأخطاط، وهم يقيدون على مشايخ الحارات والأخطاط بالتفحص عن ذلك من خدمة الموتى والمغسلين والنساء القوابل وما في معنى ذلك. ثم ذكر الوكيل أن ساري عسكر وُلد له مولود فينبغي أن تكتبوا له تهنئة بذلك المولود الذي وُلِد له من المرأة المسلمة الرشيدية، وجوابًا عن هذا الرأي، فكتبوا ذلك في ورقة كبيرة وأوصلها إليه الوكيل فورييه.»
ومع أن الشيخ الجبرتي لم يُثبت في تاريخه صورة هذه الورقة، فقد ترجمها جالان في كتابه، وهي مؤرخة في ١٦ شعبان سنة ١٢١٥ﻫ و٢ يناير سنة ١٨٠١م،٩٤ أمضاها عبد الله الشرقاوي رئيس الديوان ومحمد المهدي سكرتير الديوان. بدأ العلماء رسالتهم الطويلة بالثناء على بونابرت ثم على منو، فمدحوا بونابرت «الذي اتخذ قرارًا مفيدًا من أجل إعداد سجلات لقيد أسماء الموتى في مدينة القاهرة»؛ إذ بفضل هذا القرار الحكيم يتسنى تنظيم أعمال الحكومة. على أنه كان من الضروري كذلك لإتمام هذا التنظيم أن تعد سجلات أخرى تقيد أسماء المواليد، حتى يمكن بفضل ذلك جميعه معرفة عدد الوفيات والمواليد في القاهرة وسائر المدن، ثم قالوا: «وإليك وحدك أيها القائد — ويقصدون الجنرال منو — الذي أراد القدر على ما يبدو أن يجري على يديك إتمام وإنجاز مشروعات بونابرت العظيم بأسرها، يرجع الفضل في إظهار الرغبة في بلوغ نظام سجلات الوفيات والمواليد غايته. وقد أكَّدنا للمواطن فورييه قومسيير الحكومة أن هذا النظام سوف يلقى تأييدًا كاملًا من جانب العقلاء والمعروفين بالحكمة وسداد الرأي من أهل هذه البلاد جميعهم، ورجوناه أن يرفع إليك ما انعقد عليه رأي الديوان في ذلك.» واحتضن أعضاء الديوان أنفسهم هذا المشروع وتحدثوا عنه كأنهم أصحابه ومبتدعوه، فتحدثوا عن فوائد هذا النظام «الذي يطلبونه»، وأهمها إحكام توزيع التركات، والوقوف على هوية الأفراد ومعرفة حقيقة أعمارهم، والوقوف على حال كل أسرة، فيتسنى حينئذٍ ضبط عقود زواج السيدات من مطلقات وأرامل، فلا تستطيع إحداهن الزواج قبل انقضاء عدتها، فضلًا عن أن من مزايا إعداد سجلات المواليد ضبط مسائل البنوة الشرعية والتحقق منها؛ ولذلك «يقترح» الديوان على منو أن يصدر أوامره إلى الحكام في كل مديرية أن يهيئوا سجلات كاملة للمواليد والوفيات، يدوَّن بها جنس كل فرد ذكرًا كان أو أنثى، إلى جانب ديانته ومسقط رأسه. وكان بعد أن فرغ أعضاء الديوان من ذكر ذلك كله أن انتقلوا إلى تهنئة منو بالمولود الجديد الذي وُلِد له.
وأجاب منو على هذه الرسالة بكتاب طويل قُرِئ بالديوان في ١٢ يناير سنة ١٨٠١م، وأثبته الشيخ الجبرتي في تاريخه عند ذكر حوادث اليوم نفسه (٢٦ شعبان سنة ١٢١٥ﻫ)، فقال منو ضمن ما قال:٩٥ «فجناب حضرة بونابرته الشهير النبيل الصنديد الشجاع الجليل قد تقدم فأمر بأن يُحرَّر دفتر يُكتب فيه أسماء كامل الميتين، والآن حضرتكم قد طلبتم مني دفترًا آخر خلافه فيه يتحرر أسماء المولودين أيضًا، ومن حيث ذلك فلا بد أن أعتني منذ الآن مع جزيل الاهتمام بهذين الأمرين، وهكذا أيضًا بتحرير دفتر الزواج إذا كان ذلك أشد المهمات والحوادث الواجبات، ثم يُتبع ذلك بتجديد نظام غير قابل التغيير في ضبط الأملاك والتمييز الكامل عمن وُلد ومات من السكان، وهذا يُعرف من أهالي كل بيت، فعلى هذا الحال يتيسر للحاكم الشرعي الحكم بالعدل والإنصاف وينقطع الخُلف والانقسام بين الورثة، وتُقرَّر الولادة ومعرفة السلالة التي هي الشيء الأجلُّ والأوفر استحقاقًا في الإرث.»

واغتبط منو بالنتيجة التي وصل إليها ومجاملة الديوان له بتهنئته بالمولود الجديد، فاستمر يقول: «وهكذا إن شاء الله لا بدَّ من الفحص والتفتيش بالحرص والتدقيق وبذل الهمة للحصول لأقرب نوال إلى ما يلزم لإكمال ما قصدناه، ثم إن أراد الله لا بدَّ أن أعتني بالمطالبة على وجه تام كل وقت يقتضي لنا أن ندبِّر أشياء تستفيد بها هذه المملكة التي قد تسلمنا سياستها. وبهذا نوقر ونتحقق كوننا امتثلنا لأوامر دولة جمهور الفرنساوية وحضرة قنصلها الأول بونابرته. فيا حضرة المشايخ والعلماء الكرام، إننا نشكر فضلكم على ما أظهرتم لنا تهنئة بولادة ولدي السيد سليمان مراد جاك منو، فنطلب من الله سبحانه وتعالى واسألوه كذلك بجاه رسوله سيد المرسلين أن يجود به عليَّ زمانًا مديدًا، وأن يكون للعدل محبًّا والاستقامة والحق مكرمًا، وموفي وعده صادقًا، وألَّا يكون من أهل الطمع، فهذا أوفر الغنى الذي أرغبه لولدي؛ لأن الرجل الذي لا يهتدي إلَّا بالخير فلا يصرف اعتناءه إلَّا في خير الأدب لا في قنية الفضة والذهب، فنسأله تعالى أن يطيل بقاءكم! والسلام.»

ولا جدال في أن ما ظهر من «تعاون» في هذه المسألة من جانب الديوان مع الحكومة كان من أقوى الدوافع التي حفَّزت منو على المضي في سياسته الوطنية، بل جعلته شديد الإيمان في إمكان التغلب على ما قد يعترضه من صعوبات، وارتاح منو إلى ما وصل إليه، فأصدر منذ ٩ أكتوبر سنة ١٨٠٠م٩٦ أمرًا أعلن فيه عفوه الشامل عن كل أولئك المصريين الذين غادروا القاهرة عقب تسليمها بعد ثورتها الثانية خوفًا من بطش الفرنسيين بهم، أو تخلُّصًا من دفع الغرامة التي طولب القاهريون بأدائها، فسُمح لهم الآن بأن يعودوا إلى مدينتهم آمنين مطمئنين، واستثنى منو من هذا العفو المصريين الذين غادروا القاهرة قبل ذلك، فأمر الآن بمصادرة أملاكهم. وفي يومَي ٢ و٣ يناير سنة ١٨٠١م ذكر منو في أوامره حادث إقبال شيخين على نجدة بعض الفرنسيين الذين طاردهم بعض المماليك فأنقذهم الشيخان، ومكافأته لهما بأن خلع عليهما كسوة من الفرو والشيلان، كما أنقص ربع المال المطلوب منهما ومن قريتيهما.٩٧ وتفصيل ذلك أن ثلاثة من الفرنسيين كانت قد غرقت بهم مركبهم في النيل قريبًا من مكان أقام به مماليك الألفي بك وانبرى هؤلاء لمطاردتهم، فساعدهم شيخان من القرى المجاورة على النجاة، ورفضا تسليمهم ونجحا في إثارة أهل القرى ضد المماليك، فاضطر هؤلاء للنكوص على أعقابهم، ودبر الشيخان طريقة لفرار الفرنسيين حتى وصلوا بسلامٍ إلى المعسكر الفرنسي في بني سويف.٩٨
وكان مما اهتم به منو كجزءٍ هام من أجزاء سياسته الوطنية ضرورة إخضاع عربان البدو لسلطة الحكومة من جهة، والقضاء على مقاومة المماليك من جهة أخرى، فقد بلغ عدد العربان وقتئذٍ أربعين ألفًا، وانتشروا في أرجاء البلاد يعيثون فسادًا، يغيرون على القرى وينهبون أهلها ويسببون متاعب شديدة لجيش الشرق، حتى إن بونابرت كان قد أعد لمكافحتهم ومطاردتهم فرقة خاصة من الهجَّانة،٩٩ وأحرز نجاحًا كبيرًا عليهم عندما قهر الهجانة هؤلاء العربان، واستولوا على مواشيهم ومتاجرهم. واضطر جماعة منهم في بعض الأقاليم إلى الاتفاق مع الفرنسيين والعيش في هدوء وسلام معهم.
من هؤلاء عربان أسيوط الذين عقدوا في ٢٩ يونيو ١٨٠٠م اتفاقًا مع حاكمها دونزيلو تعهدوا فيه بدفع الضريبة. أمَّا منو فقد تكللت مساعيه بالنجاح عندما استطاع هو الآخر أن يبرم اتفاقًا مع بعض هؤلاء العربان في أول يناير سنة ١٨٠١م، فأمن هؤلاء على جمالهم ومواشيهم ولزموا الهدوء والسكينة. وفضلًا عن ذلك فقد سمح منو لجماعة من عربان الشام بالإقامة على الحدود المصرية،١٠٠ على أمل أن يفيد ذلك في منع إرسال الحبوب إلى العدو، إلى جانب رفع قيمة الأراضي الواقعة في هذه الجهات وإمكان جمع المال منها. وأمَّا أولئك العربان الذين رفضوا الاتفاق أو الانضواء تحت لواء الحكومة، فقد نشط قواد منو وحكام المديريات المختلفة في مطاردتهم. وكان أولاد علي من أخطر هؤلاء العربان شأنًا، انقضُّوا بغتة على إقليم البحيرة فنهبوا أهل الإقليم، واضطر فريان أن يخرج لمطاردتهم واستطاع كبح جماحهم بعد مطاردة عنيفة.١٠١

منو ومراد

وحاول منو التغلب على مقاومة المماليك، ولكنه لم يكن موفقًا في مسعاه؛ ذلك أنه أصر على تعقب أحد بكواتهم محمد بك الألفي، فنشط في مطاردته، كما أنه لم يشأ أن يحترم تلك المعاهدة التي عقدها كليبر مع مراد بك، فنفر بهذا المسلك صديق الفرنسيين القديم. وتفصيل ذلك أن الألفي بك كان قد عاد وقتئذٍ من الشام إلى مصر وقصد الشرقية، وأعلن رغبته في الذهاب إلى الصعيد للانضمام إلى مراد بك، ولكن الألفي بدلًا من أن يذهب إلى مراد في التوِّ والساعة، فضَّل الإقامة ردحًا من الزمن مع قبيلة «محارب» شرقي العطف، وكانت من القبائل الثائرة على الفرنسيين، فبادر منو بإرسال قوة من الهجانة لمطاردة الألفي، بينما ذهبت قوة أخرى صوب برزخ السويس لقطع الطريق عليه عند تقهقره، فكانت مطاردة عنيفة صارمة، فاستولى الهجانة على كل متاعه، ونجا الألفي بنفسه في حراسة قليلين من رجاله بعد مشقة وصعوبة ثم لجأ إلى مراد،١٠٢ وحاول مراد أن يتوسط بين الألفي وبين الفرنسيين، وطلب أن يعطيه هؤلاء أرضًا يعيش من إيرادها ولكن من غير جدوى، فكان امتناع منو عن إجابة ملتمس مراد أحد أسباب النفور الذي كدَّر صفو العلاقات بينهما.
وكان منو قد حرص في أول الأمر على استبقاء مودة مراد في سبيل المحافظة على المحالفة القائمة بين مراد والفرنسيين، تسامحًا معه عندما عجز عن دفع الجزية كاملة بسبب انخفاض النيل وقتئذٍ. ولما كان يتكلفه مراد من نفقات باهظة عندما جمع حوله المماليك الذين لجئوا إليه في جرجا، بل إن منو ما لبث حتى أرسل داماس وأستيف للاتفاق مع مراد وإعطائه بضع قرى جديدة إلى جانب إنقاص قيمة الجزية المطلوبة عن عام ١٨٠٠م، وكتب منو إلى الحكومة الفرنسية في ٢٤ سبتمبر من العام نفسه١٠٣ بمناسبة إرساله صورة من اتفاقه الأخير مع مراد إلى باريس، ثم صورة أخرى من اتفاق كليبر معه: «إن من واجب الفرنسيين تنفيذ معاهدة كليبر-مراد محافظةً على شرف الوطن؛ لأن مراد الذي كان في وسعه أن يلحق الأذى بالجيش الفرنسي المحارب في معركة هليوبوليس قد امتنع عن فعل ذلك. بل ومن الواجب «شراء» صداقة مراد بأي ثمن». ومع أن منو كان يجد في تسليم ميناء القصير إلى مراد — نزولًا على أحكام معاهدته مع كليبر — عملًا يتعارض مع مصلحة الفرنسيين، لوقوع هذا الميناء على شاطئ البحر الأحمر مما يهدد بسقوطه في أيدي الإنجليز الذين قد يختارونه لإنزال قواتهم به إذا قرروا غزو مصر من هذه الناحية، وقلب مراد ظهر المِجَنِّ لحلفائه الفرنسيين؛ فقد أبعد منو عنه هذه الشكوك بكل سرعة بسبب كراهية مراد الشديدة للإنجليز والعثمانيين، ولأنه ظل أمينًا على عهوده وفيًّا لحلفائه حتى هذه اللحظة، ولأن دونزيلو حاكم أسيوط دأب على ملاحظة حركاته ومراقبة نشاطه بكل دقة. وقد عاد منو فأثنى على مراد في رسالة أخرى كتبها في اليوم نفسه إلى وزير الحربية الفرنسية،١٠٤ فامتدح مسلكه وقال إن زوجه وهي أرملة علي بك الكبير كانت تتمتع في القاهرة بكل احترام وتبجيل من أيام بونابرت نفسه.
ومع ذلك فإنه كان من المتعذر أن تظل العلائق طيبة بين مراد ومنو بالدرجة التي بلغتها أيام كليبر؛ ذلك أن مرادًا كان قد عظُم أمله أيام كليبر في قرب خروج الفرنسيين من هذه البلاد، وعقد آمالًا عظيمة على استطاعته أن ينفرد بحكم مصر لما عرف عن رغبة كليبر في الجلاء، وإبرامه اتفاق العريش لتحقيق هذه الغاية. ولكن ما إن تسلم منو زمام الحكم حتى انهارت كل هذه الآمال، فقد ثبت لدى مراد أن منو إنما يبغي البقاء في مصر، وأنه إنما يعتبر مراد بك حاكمًا في مديريات جرجا وأسوان بوصفه أميرًا فحسب، يحكم الصعيد باسم الجمهورية الفرنسية.١٠٥ وفضلًا عن ذلك فقد صدر أمر ٢ أكتوبر سنة ١٨٠٠م يقضي باتباع النظام القضائي الذي أوجده منو في جميع الأقاليم التي يديرها مراد باسم الجمهورية الفرنسية، فانتزع هذا الأمر من مراد كل حق في الإشراف على تعيين القضاة في المديريات الخاضعة له، ثم سرعان ما جدَّ من الحوادث بعد ذلك ما قضى نهائيًّا على كل أمل لدى مراد في جلاء الفرنسيين عن مصر أو في أي تفاهم على صورة الحكم بينه وبين منو، فقد تطايرت الإشاعات بأن العثمانيين يستعدون لاستئناف النضال ضد الفرنسيين. وكان العثمانيون قد اتخذوا في يافا والعريش مواقع لهم منذ هزيمتهم في هليوبوليس، وساعدهم الإنجليز في تحصين هذين الموقعين، وتمكنت جماعة من الإنكشارية والمماليك من التقدم عن طريق قطية وبرزخ السويس إلى الحدود المصرية ذاتها كطلائع لجيش الصدر الأعظم. ولما كان يوسف ضيا باشا قد ظل يتبادل الأخبار مع رجال الأسطول الإنجليزي في البحر الأبيض ومع رجال الدولة العثمانية في الآستانة؛ فقد بات من المتوقع أن يزحف العثمانيون على هذه البلاد قريبًا بطريق البر، بينما يعمد حلفاؤهم الإنجليز إلى إنزال حملة على شواطئها، ولم يكن أمر هذا الهجوم المتوقع سرًّا مكتومًا، بل حرص الجواسيس اليونانيون الذين جاءوا من الشام على إذاعته كما أكد هذا النبأ بعض التجار الذين أفلتت سفنهم من رقابة الأسطول الإنجليزي في البحر الأبيض. أضف إلى هذا كله أن مراد بك استطاع أن يقف من بعض مماليك إبراهيم بك الذين جاءوا إليه على حقيقة أغراض العثمانيين والإنجليز وما يدبرونه من خطط عسكرية، وكان مما عرفه مراد أن الصدر الأعظم يرغب في الاتفاق مع الفرنسيين.
وكان السبب في ذلك أن العثمانيين باتوا يخشون من حلفائهم الإنجليز الذين عظم نفوذهم وقتئذٍ في الآستانة، فصاروا يفضلون لذلك الاتفاق مع الفرنسيين بالطرق السلمية على مؤازرة الإنجليز لهم واشتراكهم معهم في النضال المنتظر،١٠٦ وعلى ذلك فما إن بلغ الصدر الأعظم نبأ «ذلك الاتفاق الذي وقع بين مراد بيك والأمير كليبر، وأنه وعده إذا رحلت الفرنساوية أن يسلمه الديار المصرية، ثم بلغه ما حل بالأمير كليبر من المنية»، حتى بادر بانتهاز الفرصة يطلب من مراد بك التوسط بينه وبين الفرنسيين، وكلَّف إبراهيم بك أن يكتب إلى مراد بك حتى «يطالب عبد الله منو أمير الجيوش بوعد سلفه كليبر»، وأن يبيِّن له أنه لا معدى عن خروج الفرنسيين من مصر في النهاية لعجزهم المتوقع عن مقاومة جيوش العثمانيين وحلفائهم الإنجليز، وأن «خروجهم (لذلك) بالصلح والسلام أوفق لهم من خروجهم بالقهر والإرغام.» ووعد الصدر الأعظم إبراهيم بك أنه «متى عوَّل الفرنسيون على الامتثال وخرجوا على هذا المنوال يسلم المملكة إلى الغز المصريين كما وعدهم كليبر ويرتحل هو للقسطنطينية بالعساكر الهمايونية، ويرسل وزيرًا يكون بالقلعة السلطانية، وذلك حكم الأيام السالفة بدون مناقضة ولا مخالفة»،١٠٧ فكتب إبراهيم بذلك إلى مراد، كما أرسل الصدر رسالة في هذا المعنى إلى مراد بك.
وقبل مراد الوساطة، وانتهز فرصة إرسال أحد رجاله عثمان بك البرديسي بالجزية السنوية إلى القاهرة، فكلفه بأن ينقل إلى منو أنباء الحملة التي يعدها العثمانيون مع الإنجليز لغزو مصر، ووصل البرديسي القاهرة في ٧ فبراير سنة ١٨٠١م، وفي اليوم نفسه قابل منو،١٠٨ فأطلعه على ما لديه من أنباء فحواها أن جيشًا يبلغ ثمانية عشر ألفًا يعتزم العمل بالاشتراك مع القبطان باشا والنزول في الشواطئ المصرية، بينما يجتاز الصدر الأعظم بجيشه الصحراء ويغزو الأقاليم الشرقية، فضلًا عن أن أسطولًا إنجليزيًّا قد غادر الهند في طريقه إلى السويس، ومن المنتظر وصوله إليها قريبًا. ولما كان مراد قد طلب من البرديسي أن يطلع منو على رسالة الصدر الأعظم، فقد فعل البرديسي ذلك، ثم طلب البرديسي باسم مراد أن يذكر منو مصلحة مراد دائمًا إذا هو قرر الاتفاق مع العثمانيين، كما أن مراد كان مستعدًّا لإرسال النجدات إلى منو عملًا بنصوص الاتفاق المبرم بينه وبين كليبر إذا قرر منو المقاومة بدلًا من الاتفاق.١٠٩
غير أن منو بدلًا من الترحيب برسول مراد ما لبث أن ركب رأسه فأساء مقابلة البرديسي، واعتقد أنه من المتعذر حدوث أي اتفاق بين العثمانيين والإنجليز لتدبير محالفة هجومية من أجل استئناف القتال ضد الفرنسيين، ونفى أن هناك ما يدعو لقبول النجدة من مراد أو ما يسوغ تدخل مراد ووساطته، واستبد بمنو الغضب فقال إنه كان من الأفضل لمراد أن يظل في إقليمه هادئًا ساكنًا بدلًا من تبادل الرسائل مع العدو في سوريا، ثم كشف القناع عما كان يساوره من شكوك من ناحية مراد الذي جمع حوله أولئك المماليك الذين حضروا من الشام، فسمح لهم بالإقامة في إقليمه وأخذ يمدهم بالأسلحة. ودافع البرديسي عن سلوك مراد ما وسعه ذلك، فعزا إلى كليبر نفسه الرغبة في أن ينشئ مراد علاقات مفيدة مع جيش الصدر الأعظم، حتى يمكن الوقوف على حركات هذا الجيش، كما أن كليبر نفسه هو الذي أجاز لمراد أن يدعو مماليكه ومماليك البكوات الذين قضوا نحبهم للإقامة معه. ولكن كل هذه الحجج ذهبت هباءً؛ لأن منو الذي أصر على رأيه ما لبث أن قال إنه «لا يرى نفسه مقيَّدًا بما فعله كليبر أو ملزمًا بسلوك الطريق الذي سلكه سلفه، وإنه لا يعتزم التفريط في مصر وبيعها.»١١٠ فكان جافي القول خشن المعاملة، ثم بادر فأعلن إلى البرديسي أن الفرنسيين لا يعتزمون قطعًا «الخروج (الآن) من هذه المملكة، فمتى عزمنا وأردنا أن نتركها نبقى في ذلك الوقت نقيم بوعدنا مع مراد بيك، ومع ذلك فمراد بيك قاطن بمملكة مصر براحة كلية وقد صار عضوًا من أعضاء المشيخة الفرنساوية ولا يكن مهتمًّا إلَّا بذاته.»١١١
وأخفق البرديسي في مفاوضته الأخرى بشأن توسط مراد في مسألة الألفي، فرفض منو إعطاء بعض القرى إلى محمد بك الألفي حتى يتعيش من إيرادها، ثم لم يكتفِ بذلك بل طفق ينحي باللائمة على مراد ويؤنبه تأنيبًا عنيفًا؛ لأنه لم يرسل إليه الألفي، «وقد صفده تصفيدًا»، وطلب البرديسي أن يأذن له منو بزيارة بعض كبار القواد حتى يسلمهم كتبًا من مراد، وحتى يظهر لهم ما يكنُّه من احترام وتقدير لأشخاصهم، فرفض منو تسليم الرسائل إلى القواد بدعوى أن مراد ما كان يحق له أن يكتب لغير قائد الحملة العام وممثل الحكومة الفرنسية، ثم أذن للبرديسي بزيارة القواد على شريطة ألا يسلم أحدًا منهم أية رسالة من مراد.١١٢
وساء البرديسي أن يقابله منو بكل هذا الجفاء وتحدث في ذلك مع داماس ودور، ومع أنهما حاولا إزالة هذا الأثر السيئ من نفسه، فإن البرديسي لم يسعه إلَّا إبداء دهشته من اختيار رجل مثل منو ليملأ ذلك المنصب الخطير الذي خلا بوفاة كليبر، وأظهر ما يساوره من مخاوف على مصير جيش الشرق الذي قد يلحق به أذى كبير على يد هذا الرجل. ومكث البرديسي مدة من الزمن في انتظار جواب من منو ولكن بلا طائل، حتى إذا جاءت الأنباء عن وصول الأسطول الإنجليزي إلى الشواطئ المصرية جدد البرديسي المسعى وعرض مقترحات مراد بك مرة أخرى، ولكن منو ما لبث أن أمره بمغادرة القاهرة بكل سرعة، وهدد بإنزال العقوبة الصارمة بمراد إذا ظهر أنه يبغي الانحياز إلى جانب العدو.١١٣

جريدة التنبيه

على أن الكلام عن حكومة منو الوطنية لا يتم دون تناول ناحية من النواحي التي تدل على مبلغ اهتمامه باستمالة أهل البلاد إلى تأييد سياسته من أجل نجاح تجربته الاستعمارية، فقد كان من المشروعات التي درسها منو لاستمالة المصريين إلى جانبه وبث دعايته بينهم إصدار جريدة عربية، تساعد على توطيد أركان الحكم في المستعمرة الجديدة، وذلك بفضل ما قد يتسنى له من إذاعة أعمال حكومته في هذه الجريدة، ونشر أوامره الإدارية وقراراته بصورة تكفل تفسير أغراضه من الحكومة الرحيمة التي أخذت على عاتقها إسعاد أهل البلاد؛ وذلك حتى يستطيع هؤلاء أن يدركوا حقيقة ما ينطوي عليه النشاط الحكومي من رغبة في نشر الحرية والعدل، والعمل على استتباب الأمن والنظام، فيتذوقوا نوعًا من القوانين (الفرنسية) غير تلك التي خبروها في الماضي، ويقبلوا على مؤازرة حكومته.١١٤
وعلى ذلك فقد أصدر منو أمرًا في ٢٦ نوفمبر سنة ١٨٠٠م «بإنشاء وطبع جريدة عربية تقوم بنشر أوامر الحكومة الفرنسية وإذاعة أعمالها في أرجاء البلاد، وتحذير المصريين من الانسياق وراء أصحاب الميول المغرضة ومثيري القلاقل والاضطرابات الذين قد يعمدون إلى استثارتهم، كما تعمل على دعم الثقة وتأييد ذلك الاتحاد الذي تزداد أواصره إحكامًا يومًا بعد يوم بين أهل البلاد وبين الفرنسيين.»١١٥

واختار منو لهذه الجريدة اسم «التنبيه»، وعهد بالإشراف عليها إلى السيد إسماعيل الخشاب، على أن تُطبع بالمطبعة الأهلية، ويجري توزيعها في القاهرة والمديريات، ويُعطى رؤساء القوافل الذين يحضرون إلى القاهرة أعدادًا كثيرةً منها؛ وذلك حتى يعملوا على إذاعتها ونشرها في اليمن والشام وداخل القارة الأفريقية. وجعل منو من حق الديوان معرفة ما يُطبع من هذه الجريدة والموافقة عليه مقدمًا؛ وذلك للتأكد من خلو ما يُنشر بها من أخبار ومقالات من أشياء أو عبارات قد تمس بالعادات والتقاليد المرعية في البلاد الشرقية أو يحطُّ من شأنها. أمَّا الجريدة نفسها فقد قُسِّمت إلى أربعة أقسام: اختص الأول منها بنشر أوامر الحكومة وذكر أعمالها، بينما نُشرت أوامر الديوان في القسم الثاني، وأنباء أوروبا وآسيا التي يهم المصريين الاطِّلاع عليها في قسم الجريدة الثالث، ونُشرت بعض مسائل الفنون والعلوم في القسم الرابع. وفضلًا عن ذلك فقد اتسعت الجريدة — حسبما جاء في أمر ٢٦ نوفمبر — لنشر بعض المقالات الأخلاقية والموضوعات التي تتناول توضيح طائفة من المبادئ التي يجب أن تسترشد بها كل حكومة صالحة في أعمالها. وعهد قائد الحملة إلى المواطن فورييه بالإشراف على «التنبيه»، ولكن جريدة التنبيه ظلت في عداد المشروعات التي أوجدتها عبقرية منو ولم تُتَح لها فرصة التنفيذ.

•••

تلك إذن كانت معالم السياسة التي اتبعها منو في إدارة شئون البلاد الداخلية، وهي سياسة كان قوامها العمل على إنشاء مستعمرة فرنسية قبل أي اعتبار آخر، ما دام جيش الشرق باقيًا في مصر ولم يغادرها، غير أن هذه الجهود التي بذلها منو كان نصيبها الفشل في النهاية لأسباب ثلاثة رئيسية:
  • أولها: أنه كان من المتعذر استمالة المصريين إلى قبول الحكم الفرنسي، طالما كان من دأب الفرنسيين — ومنو على رأسهم — فرض المغارم عليهم وابتزاز المال منهم، ولم يفد شيئًا إنشاء الديوان في تفريج كرب الناس الذين «أتوا إليه — على حدِّ قول الشيخ الجبرتي — من كل فجٍّ يشكون»، ويطلبون رفع هذه المظالم عنهم ولكن دون جدوى.١١٦ كما ضجَّ مشايخ البلد والملتزمون وغيرهم من كل تلك الأنظمة التي ابتكرها منو لضبط أعمالهم، وسير دولاب العمل الحكومي بكل دقة، فأسفرت عن إرهاقهم أو ترتب على تطبيقها إغفال تقاليد أهل البلاد وعاداتهم. وفضلًا عن ذلك فقد حزَّ في نفوس القاهريين خصوصًا أن يرقبوا الفرنسيين وهم يهدمون بيوتهم ووكائلهم وحوانيتهم، كي يستخدموا أحجارها في أعمال التحصينات التي أقاموها حول القاهرة، أو لإفساح الطريق نتيجة لإزالة هذه المباني حتى يسهل على جيوشهم الانتقال في قلب المدينة.
  • وثانيها: أن منو ظل يواجه في أثناء ذلك كله معارضة قوية «إيجابية» من ناحية عددٍ كبيرٍ من قواد الحملة وضباطها، ومعارضة صامتة «سلبية» لا تقل في أثرها عن المعارضة الأولى من ناحية طائفة كبيرة من علماء الحملة الذين شاركوا جيش الشرق رغبته في العودة سريعًا إلى فرنسا.
  • وثالثها: أن منو لم يجد متَّسعًا من الوقت لتنفيذ مشروعاته وإصلاحاته عندما بات مصير الحملة أمرًا مقررًا بسبب استئناف النضال من جانب العثمانيين وحلفائهم الإنجليز لإخراج الفرنسيين من هذه البلاد بطريق الحرب والقتال، بعد أن أخفقت جهودهم في محاولة إقناع منو بضرورة تنفيذ اتفاق العريش والجلاء عن مصر بالطرق الدبلوماسية، ومن غير حاجة إلى الاشتباك في معارك جديدة.

أمَّا مبلغ إخفاق منو في استمالة المصريين إلى الحكم الفرنسي فسوف يأتي الكلام عنه عند ذكر «أثر الحملة» عمومًا. كما أن تجدد القتال كان مرتبطًا في واقع الأمر بالموقف السياسي في أوروبا، وساعد ضعف حكومة منو بسبب تفرق الكلمة وانغماس قائد الحملة العام في «مؤامرات» ضعضعت روح الجيش المعنوية وصرفت منو وقواده «المتآمرين» عن تدبير شئون الدفاع عن هذه البلاد بصورة جدية؛ على سرعة انهزام جيش الشرق عندما تدفقت جيوش العدو على «مستعمرة» منو من كل جهة. وكان مبعث هذا التفكك والانحلال ولا شكَّ معارضة فريق قوي من كبار قواد الحملة وضباطها وعلمائها للجنرال منو.

المعارضة ضد منو

وبدأ الانقسام يدب في صفوف جيش الشرق من وقتِ تسلُّم منو لقيادة الحملة العامة، فقد قوبل حادث وصوله إلى هذا المنصب بالدهشة الممزوجة بالجزع، وبعد أن أصدر منو نداءه المعروف إلى الجيش في ٢٢ يونيو سنة ١٨٠٠م، ظهرت المعارضة ضده بصورة واضحة، لسبب بسيط هو يقين رجال الحملة أن منو لن يغادر هذه البلاد إلَّا إذا أُرغم على ذلك إرغامًا، وأن العودة إلى الوطن قد أُرجئ أمرها زمنًا قد يطول كثيرًا في عهد قائد عام يصف اتفاق العريش بأنه كان «تسليمًا»، وتزدحم في رأسه مشروعات واسعة لإنشاء مستعمرة جميلة في مصر، تحقيقًا لأغراض الحملة عند إرسالها، وقد تقدم كيف عوَّل منو على بذل قصارى جهده لتهدئة روع الجيش وإعادة النظام إلى صفوفه، واستمالة الجند إلى الرضا بالبقاء في مصر حتى تفصل حكومة القنصل الأول في باريس في أمر هذه المستعمرة الجديدة، ولو أنه ظل عظيم الرجاء في أن يأتي قرار الحكومة متفقًا مع رغبته في البقاء إذا استطاع توطيد أقدامه في مصر ودرء كل خطر عنها.

وأدرك منو أنه لا غنى عن توطيد أسباب الراحة لجنوده وجعل حياتهم في هذه البلاد هنيئة سعيدة إذا شاء أن يقضي على ذلك التذمر المنتشر بينهم، وأن يصل إلى استمالتهم إلى البقاء في هذه البلاد دون أن يشعروا بغضاضة أو يستبد بهم الحنين إلى الوطن؛ ولذلك فإن منو ما إن تسلم زمام الحكم حتى شرع يعمل بجد ونشاط من أجل تحسين أحوال الجند والحرص على راحتهم ورفاهيتهم، وبذل منو قصارى جهده في سبيل ذلك حتى إن كل ما أدخله من تنظيمات وإصلاحات مالية وإدارية كان يدور في واقع الأمر حول غرض واحد هو تدبير المال للإنفاق منه بسخاء على جيش الحملة.١١٧
وقد تقدم كيف اهتم منو بضبط حسابات الحملة ومنع تلاعب «الموردين» قومسييري الحرب ومن إليهم. وكان الضرب على أيدي هؤلاء الموردين والقومسييرين ضروريًّا لضمان استقامة الأمور في جيش الحملة وتوفير أسباب الراحة للجنود. وعلى ذلك فقد شدد منو في مراقبة شئون التموين التي وجد فيها الموردون مَعينًا لا ينضب من الربح على حساب الجنود، فأصدر منو الأوامر الصارمة لمنع تلاعب هؤلاء الموردين، وشكل لجنة لفحص الخبز المقدم لجيش الحملة.١١٨ ولما كان قومسييرو الحرب هم الذين يشرفون على سد مطالب الجيش وحاجاته، فقد فحص منو حال كل واحد منهم، وعندما وجد أنهم يكلِّفون خزانة الحملة أموالًا طائلة لكثرة عددهم من جهة، ولعدم دقة إشرافهم على شئون الجيش من جهة أخرى؛ عمد إلى إنقاص عددهم «مراعاةً للاقتصاد — على حد قوله — في نفقات جيش الشرق دون الإخلال بمصلحة العمل.»١١٩ وفي ٢٤ سبتمبر سنة ١٨٠٠م كتب إلى وزير الحربية الفرنسية ينبئه بهذه الخطوة، فقال إنه أنقص عدد قومسييري الحرب إلى عشرين بعد أن كانوا أربعة وثلاثين قومسييرًا.١٢٠ وعقد منو آمالًا عظيمةً بعد إجراء هذا «الاقتصاد» على استطاعته المضي في دفع مرتبات الجنود بصورة منتظمة.١٢١
وكان مما اهتم به منو كذلك توفير أسباب العلاج في مستشفيات الحملة محافظة على صحة الجنود وسلامة أبدانهم، وحمل منو على ذلك ما وجده عند تسلمه قيادة الحملة من أن المستشفيات في حال يُرثى لها، بسبب ما كان يتصف به رجال الإدارة — على حدِّ قوله — «من عدم الأمانة وقلة الذمة في أعمالهم»،١٢٢ فأدخل منو بضعة تغييرات هامة مستعيضًا عن «عديمي الذمة والأمانة»، بعددٍ من الرجال الذين وثق في أمانتهم وطهارة ذمتهم، فتغير الحال في المستشفيات سريعًا، ووجد المرضى فيما يُقدَّم لهم من أطعمة غذاءً كافيًا، كما كثرت الأربطة والضمادات وسائر الأدوات الطبية، وأُحكمت الرقابة على «ضباط الصحة» تحت إشراف ديجنت كبير الأطباء، ولاري كبير الجراحين، وبوديه Boudet كبير الصيادلة، فحسن سلوكهم، بل إن ضباط الصحة سرعان ما أظهروا شجاعة مشكورة في مكافحة الأوبئة أو في أثناء الخدمة في الميدان، وقد أعد لاري نوعًا من «الأسرة المتنقلة» لاستخدامها في نقل المرضى أو الجرحى في أثناء سير الجيش، ففحص منو نموذجًا منها وأمر بصنع مائة منها يحملها خمسون جملًا أُلحِقت بقسم الإسعاف في الجيش، كما عهد بالإشراف على هذه الخدمة إلى ديجنت ولاري وبوديه.١٢٣
وإلى جانب توفير أسباب الراحة المادية لجيشه من حيث الاهتمام بمأكل الجنود وملبسهم، والعناية بمرضاهم وجرحاهم؛ حرص منو على إنعاش روح الجند المعنوية لا سيما وقد وجد هؤلاء متسعًا من الوقت لتقليب وجوه الرأي فيما وصل إليه حالهم والتفكير في مآلهم ومصير الحملة عمومًا، وذلك منذ أن وضعت الحرب أوزارها فعلًا بعد هزيمة العثمانيين في معركة هليوبوليس في مارس سنة ١٨٠٠م وانسحابهم من الأراضي المصرية. ووقع الجنود نتيجة لهذه «البطالة» فريسة لما صار يتنازعهم من بغض شديد للإقامة في مصر وحنين عظيم إلى الوطن ورغبة ملحة في العودة إليه. ولما كان أكثر القوَّاد والضباط في عداد المعارضين لسياسة الاستعماريين، فقد فطن منو إلى جسامة هذا الخطر وأخذ يعمل بكل همة لدرئه، فكان من الوسائل التي لجأ إليها لإنعاش الروح المعنوية في الجيش أنه أجرى عدة ترقيات بين الضباط،١٢٤ وذلك كما قال حتى يعوض شيئًا على رجال تحملوا مشقات عظيمة في مصر وبات الآن يشغلهم التفكير في العودة إلى فرنسا،١٢٥ فعمد منو إلى ترقية طائفة من الضباط إلى مراتب القيادة كان أكثرهم قد استحقوا فعلًا الوصول إلى رتبة جنرال، بسبب ما كان لهم من «أقدمية» في المناصب التي يشغلونها، أو مكافأة لهم على ما قاموا به من خدمات معروفة،١٢٦ وبذل منو كل ما وسعه من جهد وحيلة لبث روح النشاط في الجيش وإحياء الأمل في صدور جنوده، فأصدر منشورات عديدة تمتدح مسلكهم وتثني على شجاعتهم وبسالتهم تارة، وتنقل إليهم أخبار الوطن تارة أخرى.
وهدف منو من إذاعة هذه المنشورات إلى تحقيق غرض معين، هو إقناع جيش الشرق بأن بقاءه بعيدًا عن فرنسا لم يكن معناه في يوم من الأيام أن بونابرت القنصل الأول قد صار لا يعبأ بهذا الجيش، أو أن الصلة قد انقطعت تمامًا بين فرنسا وبين جيش الشرق؛ وذلك حتى لا يشعر الجنود أنهم يعيشون في منفى بعيدًا عن أرض الوطن. وحرص منو في سبيل تحقيق غايته على تكذيبه كل ما صار الإنجليز يشيعونه عن بونابرت، كما وجد من الحكمة وأصالة الرأي أن يبادر بإذاعة ما كان يبلغه من أخبار عن سير الأمور في أوروبا، من ذلك أنه وجَّه نداء إلى «جنود جيش الشرق الشجعان»١٢٧ في ٢٣ أغسطس سنة ١٨٠٠م، تحدث فيه عن كل ما بلغه من أنباء عن الموقف في القارة عمومًا، وعن حركات الجيش العثماني على وجه الخصوص في آسيا وعند الشواطئ المصرية، وفحواها أن «سفن الروس الرابضة أمام مالطا وشيوز وكورفو وفي بحر الأرخبيل قد غادرت أماكنها وعادت إلى البحر الأسود، وأنه ما إن وصل إلى سمع القيصر نبأ ذلك الأمر الذي أبلغه اللورد كيث بشأن عدم إخلاء الفرنسيين لمصر حتى طلب مقابلة السفير الإنجليزي في بطرسبرج كي يستوضحه السبب، فاعتذر السفير بعدم وجود أية معلومات لديه عن هذه المسألة. وفضلًا عن ذلك فمن المقطوع به أن قيصر روسيا قد استدعى سفيره من لندن، وأبدى رغبته في مغادرة السفير الإنجليزي روسيا. ومن المعروف كذلك أن السير سدني سمث قد استُدعي إلى لندن، ولو أنه من الواجب أن يعترف المرء بأن سدني سمث قد رفض التورط في مسألة تلك «الخدعة الحربية» التي اقترحها مورييه … أمَّا مورييه فقد استُدعي إلى القسطنطينية …» وحرص منو على إذاعة أخبار معركة مارنجو التي انتصر فيها بونابرت على جيوش النمسا في ١٤ يونيو سنة ١٨٠٠م، وكانت هذه ولا شكَّ أخبارًا طيبة تشد من عزم جنود الحملة، وتبعث الثقة في نفوسهم، وتدخل الطمأنينة إلى قلوبهم. ثم نشر منو كل ما كان يردده الإنجليز من إشاعات عن الانتصارات التي أحرزها بونابرت ضد ميلاس Mélas القائد النمساوي، فصدر العدد التاسع والسبعون من جريدة «لوكورييه دوليجبت» يحمل أنباءها، ولمس منو ما أحدثه نشر هذه الأخبار المشجعة من أثر طيب في نفوس جند الحملة، فانتهز فرصة حضور لودي Lodi السفينة الفرنسية تحمل أخبار انتصارات الجمهورية ودعم أركان الحكومة في فرنسا، فبادر بإذاعة ذلك كله على جيش الشرق، كما أنه أذاع من جديد أخبار معركة مارنجو، وكانت لودي قد أحضرت نشرة رسمية عن هذه المعركة، وتحدث منو عن انقلاب ١٨ برومير المشهور (٩ نوفمبر سنة ١٧٩٩م) الذي رفع بونابرت إلى القنصلية «فحقق نجاة الجمهورية من الدمار».
وكان غرض منو الظاهر من إذاعة هذه الأنباء أن يطمئن جيش الشرق إلى أن الحكومة في باريس إنما تقوم على دعائم ثابتة قوية فلا يستبد التشاؤم بالجيش، وتلهب هذه الأخبار حماسته فينسى الجنود ترددهم، ويوطدوا العزم على الاحتفاظ بمواقعهم في هذه البلاد، ويزدادوا صلابة في موقفهم من أعدائهم الإنجليز خصوصًا. وواتت الفرص منو عندما أفلتت ثلاث سفن أخرى من رقابة الإنجليز فوصلت إلى الإسكندرية: روزالي Rosali   وديجاجيه Degagé   وسانت فيليب Saint Philippe، تحمل أنباء جديدة من الوطن، منها تثبيت منو في منصب القيادة العامة — وسوف يأتي ذكر ذلك مفصلًا — فأذاع منو هذا الخبر على جيشه في أمر يومي في ٤ نوفمبر سنة ١٨٠٠م،١٢٨ كما أنه أذاع بعد يومين خطابًا وصله من كارنو وزير الحربية الفرنسية يطلب إليه فيه أن «يعمل بكل حزم على دعم كل تلك الأسس التي وُضعت للاحتفاظ بمصر حتى يجيء موعد عقد السلام العام في أوروبا، فيتقرر بفضل ذلك مصير هذه الفتوحات العظيمة التي لا تقدر بثمن بصورة حاسمة.» وقد علق منو على رسالة كارنو بقوله: «وهكذا ترون أيها الجند مقدار اهتمام الحكومة بكم، كما ترون مقدار ما يثيره نجاحكم بفضل بسالتكم من إعجاب أوروبا بكم واعتراف الوطن بصنيعكم عليه!»
ولما كان قد ازداد الاتصال بين فرنسا ومصر في ذلك الوقت عن ذي قبل،١٢٩ فقد استطاع منو أن يكثر من إصدار الأوامر اليومية التي حملت إلى جيش الشرق أنباء انتصار الفرنسيين في «هوهنلندن» في ٢ ديسمبر سنة ١٨٠٠م، والهدنة التي أعقبت هذا الانتصار مع النمسا، والصلح الذي عقدته فرنسا مع روسيا. وفعلت هذه الأخبار فعل السحر في النفوس، فخف التذمر وامتنع القلق، وكادت تنجح جهود منو في بث روح الطمأنينة في نفوس الجنود وترويضهم على الرضوخ لمطالب السياسة التي فرضت عليهم فرضًا البقاء في مصر، حتى ظهر كأنما جيش الشرق قد بدأ يألف العيش في هذه البلاد عندما اهتم منو إلى جانب ذلك كله بتوفير أسباب التسلية لهم كمشاهدة التمثيل وحضور الحفلات الموسيقية وغير ذلك مما سوف يأتي ذكره في موضعه. وطابت نفوس الجند للعيش في مصر حتى إن كثيرين منهم ما لبثوا أن أنشئوا صلات وثيقة مع أهل البلاد، فتزوجوا من مصريات أو عاشوا مع زنجيات، ووجدوا في الحياة المستقرة متعة كادت تنسيهم الحنين إلى الوطن.١٣٠
ولكن هذا الحال لم يدم طويلًا؛ إذ سرعان ما حدث رد فعل كبير بعد أن تيقن الجنود أن هذه الانتصارات الباهرة التي أحرزها القنصل الأول في أوروبا لا تعني أن جهودًا فعَّالة سوف تُبذل لنجدتهم أو لإنقاذهم من هذه البلاد وإرجاعهم إلى أوطانهم، وفشل كل ما كانوا ينعمون به من المباهج الظاهرية في إزالة تلك الكآبة التي استمرت تعلو وجوههم، وفتر حماسهم فصاروا لا يعبئون بمنشورات منو وأوامره اليومية، بل صاروا يتعمدون إظهار عدم المبالاة بقائد الحملة العام نفسه، وظلت أبصارهم شاخصة إلى فرنسا.١٣١ وكان السبب في إخفاق منو وإضاعة كل تلك الجهود التي بذلها من أجل استمالة الجند إلى تأييد سياسته وتحبيب البقاء في مصر إلى نفوسهم؛ ما صمم عليه فريق من كبار قواد الحملة وضباطها من مناصبة منو العداء، وحمل لواء المعارضة القوية ضده وضد تجربته الاستعمارية.

وتنوعت أسباب هذه المعارضة وتعددت، فكان مرد بعضها إلى ما حدث من تكدر العلاقات بين منو وبين فريق من كبار قواد الحملة الذين كانوا من أصدقاء كليبر، ثم ساءهم أن يصل إلى منصب القيادة رجل يخلو في نظرهم من كل صفات العسكري الناجح، وقد ازداد تكدر العلاقات بين هؤلاء وبين منو منذ أن وجَّه القائد العام الجديد نداءه المعروف إلى الجيش في ٢٢ يونيو، ووقف في هذا النداء موقف المعارضة الصريحة لسياسة كليبر، كما حاول أن يظهر تمسكه بالولاء الصادق لبونابرت حتى يدخل في زمرة «البونابرتيين»، فجاءت هذه المحاولة ضغثًا على إبَّالة؛ ذلك أن هذه «البونابرتية» الجديدة سرعان ما أدت إلى زيادة شكوك قوَّاد الحملة في أغراض منو وغاياته؛ لأن منو لم يشق لنفسه طريقًا في ميدان من ميادين الحرب والسياسة يقربه من البونابرتيين الذين استرشدوا في حياتهم العسكرية والسياسية بمبادئ البطل الذي خلص فرنسا من أعدائها، والذي عقد عليه أهلها آمالهم في الوصول بالوطن إلى ذروة المجد والرفعة، فاعتبر قواد الحملة «بونابرتية منو بونابرتية زائفة»، لحمتها وسداها التملق للقائد الكبير فحسب.

وما إن دعا منو إلى ضرورة البقاء في مصر واستثمارها حتى وجد أعداؤه ومناوئوه في سياسته الاستعمارية سبيلًا لحشد صفوف المعارضة السافرة ضده، فدبَّ الخلاف في جيش الشرق، وانقسم هذا الجيش فريقين: فريق الأقلية الاستعمارية التي التفت حول منو وأيدت سياسته، وفريق الأكثرية من أنصار الجلاء عن مصر والذين عُرِفوا باسم «الكليبريين»؛ لأن كليبر كان يمثل في نظرهم سياسة الجلاء أو الاعتراض على الأقل على إمكان تأسيس مستعمرة فرنسية في مصر. وفضلًا عن ذلك فقد وجد هؤلاء في إصلاحات منو ومشروعاته مآخذَ عدة جعلتهم ينقدون هذه الإصلاحات والمشروعات نقدًا مرًّا لاذعًا، بل إن منهم من ذهب في نهاية المطاف إلى اعتبار منو بسبب هذه الإصلاحات نفسها قبل أي شيء آخر غير كفء لتولي منصب القيادة العامة، أمَّا أولئك القواد الذين أثار منو حفيظتهم فكانوا رينييه ولانوس وداماس، ثم مدير المهمات هكتور دور Hector Daure وقومسيير الجيش أو الحكومة تاليان Tallien.
وقد نشأ الخلاف بين رينييه ومنو منذ أن تسلم منو قيادة الحملة العامة، فمع أن رينييه لم يشأ تولي هذا المنصب وأخذ يلح على منو في قبوله، فإنه سرعان ما ندم على فعلته، وصار يعزو بهتانًا وزورًا ضياع قيادة الحملة منه إلى خديعة منو له، فكانت حجته في ذلك أن منو وقت اغتيال كليبر كان يملأ منصب حاكم القاهرة، ومن واجبه لذلك أن يشرف بصورة مؤقتة فحسب على إدارة أعمال الحكومة؛ ولذلك فقد أبدى منو ترددًا كبيرًا في قبوله قيادة الحملة العامة، وقبل الاضطلاع بأعباء الحكم بوصفه حاكمًا للقاهرة فقط.١٣٢ ولذلك فإنه ما كان يحق لمنو أن يستمر في ممارسة تلك السلطة التي انتزعها لنفسه انتزاعًا بعدئذٍ إلا إذا عُقد مجلس حربي يضم قواد جيش الشرق لبحث موضوع القيادة العامة، واتفقت كلمة هؤلاء المجتمعين على إعطاء منو هذه القيادة. وكان مما زاد من غضب رينييه أنه علم بعد رفضه منصب القيادة أن الجيش كان ينتظر انتقالها إليه، وأن قبوله لها كان يلقى ولا شكَّ ترحيبًا عظيمًا من جانب جيش الشرق بأسره. واتسعت هوة الخلاف بين رينييه ومنو في الشهور التالية حتى بات رينييه يرى في كل أعمال منو وإصلاحاته مسوِّغًا للإمعان في نقده والتهكم عليه والازدراء بشخصه.١٣٣
ودب الخلاف بين لانوس حاكم الإسكندرية وتاليان قومسيير الحكومة بها من جانب وبين منو من جانب آخر، عندما أراد منو بعد استلامه قيادة الحملة العامة أن يجري تحقيقًا في بعض الإجراءات المالية التي اتُّخذت في عهدهما، فقد حدث بعد نقض اتفاق العريش أن أمر الجنرال كليبر بمصادرة سفن العدو الراسية في الإسكندرية، وانتهز جماعة من التجار ورجال الإدارة هذه الفرصة للاستيلاء على التجارة التي حملتها هذه السفن بأساليب غير نزيهة، وتهاون لانوس وتاليان في منع هذه العمليات غير الشريفة والضرب على أيدي المتلاعبين، فأراد منو عند استلامه قيادة الحملة العامة أن يفحص هذه العمليات (في أغسطس ١٨٠٠م) حتى يقصي من إدارة المدينة كل من تثبت عليهم تهمة التلاعب،١٣٤ فساء هذا العمل لانوس الذي اعتبر أن منو إنما كان يقصد من وراء ذلك إلى خدشِ سمعته والطعن في أمانته، فطلب أن يعهد بفحص إدارته في الإسكندرية عمومًا إلى مجلس عسكري،١٣٥ ولكن منو رفض ذلك، وعندئذٍ طلب لانوس تأليف لجنة للتحقيق في ذلك التلاعب الذي وقع وأدى إلى «نهب» تجارة السفن المصادرة، فوافق منو على تأليف هذه اللجنة١٣٦ التي بدأت عملها دون إمهال. فكان هذا الحادث كافيًا لأن يسبب الحيرة والقلق للجنرال لانوس الذي ظل من ذلك الحين تساوره الشكوك في نوايا منو نحوه، وخيَّل إليه الوهم أن قائد الحملة العام قد أحاطه بعدد من الجواسيس لمراقبة حركاته وسكناته.
وزاد من حدة شكوك لانوس أنه كان في قرارة نفسه لا يطمئن إلى منو بتاتًا بسبب اختلاف سياستهما عندما كان لانوس أحد أولئك الكليبريين الذين عارضوا سياسة منو الاستعمارية وأرادوا العودة إلى الوطن، ومع ذلك فقد بذل منو قصارى جهده حتى يهدئ من روعه ويقضي على وساوسه. وما إن انتهت اللجنة من أعمالها حتى نشر منو نتائج فحصها الذي أثبت أن السرقات التي حدثت كان لا يمكن في واقع الأمر ملاحظتها لتفاهتها، وامتدحت اللجنة مسلك لانوس وأثنت على إدارته، وكان نشر ذلك كافيًا ولا شكَّ لتبرئة ساحة لانوس والمحافظة على سمعته، غير أن منو الذي أراد أن يعهد بالحكم في الإسكندرية إلى أحد رجاله المقربين إليه والذين يثق في ولائهم له، ما لبث أن بادر بإقالة لانوس من منصبه نهائيًّا في ٣ أكتوبر، وعيَّن فريان بدلًا منه، وذلك قبل انتهاء اللجنة من أعمالها ونشر نتائج فحصها، فأول أعداء منو ومعارضوه هذا العمل تأويلات شتى، فادعوا أن منو إنما أراد بذلك أن يرغم لانوس إرغامًا على التقدم إليه بطلب العودة إلى فرنسا حتى يتخلص منه نهائيًّا، كما زعموا أن منو أراد من إقصاء لانوس من حكومة الإسكندرية أن يتشفَّى من غيظه لحرمانه من هذه الحكومة أيام كليبر الذي أخرجه منها ووضع لانوس مكانه فأكل الحقد قلبه.١٣٧
وسواء رغب منو في إبعاد لانوس من مصر أم لم يرغب، فقد قرر هذا الأخير البقاء، وما إن وصل إلى القاهرة حتى انضم إلى سائر الكليبريين، وعلى رأسهم رينييه وداماس رئيس هيئة أركان الحرب أيام كليبر. وكان داماس من أشد المعارضين نقمة على منو ويضمر له عداءً عظيمًا. بدأت العلاقات بين الرجلين طيبة أيام كليبر، فهنأ منو قائد الحملة السابق على اختياره الموفق عندما عهد بمنصب رئاسة أركان الحرب إلى «رجل يتمتع برضا الجميع»،١٣٨ وحرص داماس على اجتذاب ودِّ منو. ولكن الحال ما لبث أن تغير عندما وجد داماس نفسه مضطرًّا بسبب منصبه إلى الاتصال بالقائد العام الجديد دون انقطاع، وخدمة تلك السياسة الاستعمارية التي جرى عليها منو، والتي كان داماس لا يوافق عليها بتاتًا، لا سيما وقد كان لداماس — وهو صديق كليبر الحميم — نصيب في تلك السياسة التي أفضت إلى عقد اتفاق العريش، كما اشتُهر بكراهيته للإقامة في مصر، وقد زادت هذه الكراهية منذ اغتيال صديقه كليبر. وكان داماس من بين أولئك الذين عارضوا بقوة سياسة منو الاستعمارية عمومًا. وعلى ذلك فقد كان من السهل أن تتعدد أسباب الخلاف بين الرجلين، حتى إن داماس بات يعتقد أن منو يبذل كل جهده لإرغامه على الاستقالة.
وعندما تحرجت الأمور وبات من المتعذر على منو أن يتعاون معه، اضطر منو إلى إقالته من منصبه في سبتمبر ١٨٠٠م، فكاد هذا الإجراء يفضي إلى حدوث أزمة كبيرة، ذلك أن كثيرين من أعداء منو ومناوئيه سرعان ما اتخذوا من إقالة داماس ذريعة لتوجيه حملة من النقد اللاذع ضد منو الذي أقال داماس — كما قالوا — دون سبب.١٣٩ وركب داماس رأسه فرفض في أول الأمر هذه الإقالة، وأصرَّ على تمسكه بمنصبه، ثم أخذ يطلب تقديمه للمحاكمة أمام مجلس عسكري، ولكن منو الذي أصر هو الآخر على إقالته ورفض «محاكمته» استند في إقصاء داماس إلى أن المسألة لا تعدو تعذر الاتفاق فحسب بين رجلين يختلفان في آرائهما ومبادئهما كل الاختلاف. فضلًا عن أنه كان «من حق القائد الأعلى في أي جيش من الجيوش أن يختار من يعمل من قوَّاد تحت قيادته.» وأظهر منو تسامحًا ولينًا عندما قبل وساطة رينييه وفريان، وعمل لتخفيف وطأة هذه الإقالة فأعلن إلى الجيش في ٨ سبتمبر أن داماس «انقطع» عن مزاولة وظائفه فحسب، ثم وجَّه شكرًا لداماس باسم حكومة الجمهورية على ما أسداه لها من خدمات كرئيس لهيئة أركان الحرب.١٤٠ وفي ١٦ سبتمبر عيَّن داماس حاكمًا لبني سويف والفيوم، ومع ذلك فقد ظل الألم يحز في نفس داماس. كما ساء رينييه وسائر القوَّاد إقالة داماس من منصبه، فكتب الجنرال فردييه إلى داماس من منوف أن «(داماس) لم يفقد في واقع الأمر شيئًا كثيرًا إذا هو خسر ثقة هذا الرجل» أي الجنرال منو، وظل داماس بعد هذا الحادث موضع احترام وتقدير من قوَّاد الحملة وضبَّاطها.١٤١
ويرجع منشأ الخلاف بين هكتور دور وبين منو إلى أيام الحملة الأولى عندما كان منو على رأس الحكومة في رشيد، فقد نقد دور إدارة منو نقدًا لاذعًا، ومع أن دور كان على خلاف كذلك مع الجنرال كليبر، فقد كان من السهل زوال هذه الخلافات بعد ذلك، ثم توطدت الصلة بين دور وكليبر حتى بات هكتور دور من أقرب المقربين إلى كليبر في عهد قيادته العامة للحملة. واتسعت شقة الخلاف بين دور ومنو بسبب إصلاحات هذا الأخير الإدارية، وعلى وجه الخصوص تلك الإجراءات التي أراد منها منو إحكام الرقابة على حسابات الحملة وضبط ماليتها بكل دقة، حتى إن دور ما لبث أن قدم استقالته في أغسطس ١٨٠٠م، وإن عاد فاستردَّها عندما طلب إليه منو التريث وإمعان النظر في أمر ما كان يبغي منه منو — كما أعلن ذلك مرارًا — سوى إصلاح حال الجيش عن طريق تنظيم الإدارة، وإزالة كل تلك المفاسد والمساوئ الظاهرة.١٤٢ ويبدو أن منو ما لبث أن صار يرغب في التخلص منه بعد ذلك كليةً، فعرض عليه منصب «مفتش عام» لقاء تنازله عن منصب مدير مهمات الحملة الذي يشغله، فقبل هكتور دور ذلك وتعين سارتلون Sartelon بدلًا منه.
ولكن منو سرعان ما عين دور مفتشًا عاديًّا فحسب كسائر مفتشي الجيش،١٤٣ فأثار هذا العمل حفيظة دور الذي انبرى يناقش ذلك الحق الذي اتخذه منو لنفسه في عزل موظفي الحملة كما يشاء ويهوى، فنشأ من ثم ذلك النقاش الذي استمر يدور بعدئذٍ بصورة جدية حول مبدأ كان على جانب عظيم من الأهمية: هل يمثل منو حكومة الجمهورية فيما يتصل بشئون هذا البلد المفتوح (أي مصر) فحسب، أو أنه يمثل الجمهورية فيما يتصل بشئون مصر وشئون جيش الشرق كذلك؟ فإذا كان الأمر الأول هو الصحيح فمن حق منو الهيمنة على شئون هذه البلاد الداخلية فقط، وإذا كان الأمر الثاني فمن حقه الهيمنة كذلك على شئون جيش الشرق، وفي هذه الحالة الأخيرة له أن يعزل أو يعين من يشاء من قواده ورجاله، ويتصرف كما يريد في كل ما يمت للجيش بصلة. فكان من رأي منو أنه بوصفه القائد الأعلى للحملة إنما يهيمن على شئون مصر الداخلية وشئون جيش الشرق على السواء، وكان من رأي دور وصفوف المعارضة أن منو إنما يمثل الجمهورية فيما يتصل بشئون البلاد الداخلية فحسب، وعلى ذلك فإن منو بوصفه قائدًا للحملة إنما يخضع لقوة القوانين الفرنسية، ومن مقتضيات ذلك أنه لا يحق له أن يعزل موظفًا من موظفي الحملة دون محاكمة، وإلا عُدَّ متجنيًا على الغير وظالمًا، وهذا ما لا يمكن أن ترضى عنه حكومة القنصلية بعد ذلك الجهاد الشاق الطويل الذي استمر عشر سنوات تقريبًا من وقت اندلاع الثورة الفرنسية الكبرى، التي قامت من أجل القضاء على الظلم والاستبداد وضمان العدالة ونشر ألوية الحرية.
على أن وضع المسألة بهذه الصورة إنما كان ينطوي في واقع الأمر على جوهر ذلك الموضوع الذي ظلَّ سببًا في احتدام النقاش دائمًا بين الاستعماريين وهم أنصار منو، وبين الكليبريين من أنصار الجلاء عن مصر، والذين رفضوا أن يعتبروا من الناحية القانونية أن هذه البلاد كانت مستعمرة فرنسية. وقد وجد الكليبريون في شخص تاليان Tallien خير من يفسر «نظريتهم» ويوضحها ويؤيدها، لما عُرف عنه من دراية واسعة بالقانون من جهة، ومهارة في عرض حججه ودعاويه ولباقة في توجيه هذه «المعارضة القانونية» من جهة أخرى. وقد اتخذ تاليان من إصلاحات منو ومشروعاته ذريعة لإثارة زوبعة من الجدل القانوني حول تلك السلطات التي أراد منو أن «ينتزعها» لنفسه بوصفه قائد الحملة الأعلى في مصر ومؤسس المستعمرة الفرنسية الجديدة في الشرق.١٤٤
وعندما قرر تاليان أن يتخذ من إصلاحات منو موضوعًا لإثارة هذا الجدل القانوني، كان قد بات الطريق معبَّدًا وممهَّدًا أمامه لهذه الغاية، بسبب تلك الانتقادات الكثيرة التي وجهها المعارضون ضد هذه الإصلاحات، وكان أخف هذه الانتقادات وطأة قولهم إن منو قد اشتط في إصلاحاته شططًا عظيمًا، حتى إنه لا يمكن أن ينجم منها إلا حدوث تغييرات عميقة في عادات أهل البلاد وتقاليدهم، فلا مندوحة عن أن تثير هذه الإصلاحات استياء المصريين الذين عاشوا على حالهم القديم أزمانًا طويلة. وفضلًا عن ذلك فإن القول بأن صاحب هذه الإصلاحات قائد اعتنق الدين الإسلامي وتزوج من سيدة مسلمة لن يجدي نفعًا في جعل هؤلاء يستسيغون ما أجراه منو من إصلاحات أو أدخله من تغييرات على عاداتهم وتقاليدهم، «لأن منو المسلم — كما قالوا — لم يكن في واقع الأمر موضع احترام أو تقدير من قبل ذلك الشعب، الذي بلغ تمسكه بكل ما هو متصل بعقيدته ودينه درجة التعصب الشديد.»١٤٥ وقال رينييه إن ما أحدثه منو من تنظيمات مالية وإدارية وقضائية لم يكن لها من أثرٍ سوى زيادة تذمر المصريين، بسبب إبطاله ما جرى به العرف قديمًا، عندما اعتاد مشايخ البلد في بداية كل عهد من العهود على تقديم الهدايا من خيول أو ماشية أو جمال إلى الملتزمين الجدد في نظير بقاء هؤلاء المشايخ في أعمالهم، فيخلع عليهم الملتزمون وأصحاب الأرض الكساوي من الفرو والشيلان دلالة على رضائهم ببقاء مشايخ البلد في مناصبهم.١٤٦ أمَّا إعادة تشكيل الديوان وقصر عضويته على المشايخ المسلمين، فكان في نظر هؤلاء المعارضين عملًا لا جدوى منه ولا طائل تحته؛ لأن هذا الديوان لم يفد شيئًا في إزالة كل تلك المظالم والمغارم التي أثقلت الأهلين الذين غضبوا كذلك من إصلاحات منو القضائية والمالية المزعومة، وعزمه خصوصًا على إلغاء الدية أو «ثمن الدم»، مخالفًا في ذلك عادات البلاد وتقاليدها.
بل إن هؤلاء المعارضين ما لبثوا أن اتهموا منو بالرغبة في تحريك الثورة في القاهرة، باستثارة أهل الطبقات العامة والمتوسطة ضد الطبقة الأرستقراطية على غرار ما حدث في فرنسا ذاتها، واستندوا في ذلك الاتهام إلى ما جاء في صحيفة «لوكورييه دوليجبت» التي نشرت في عددها السادس والسبعين في ٦ أغسطس ١٨٠٠م مقالًا جاء فيه:١٤٧ «تفرض الطبقة الأرستقراطية الغنية في القاهرة سيطرتها بصورة من المحتمل أنها تفوق كثيرًا ما يفعله أضرابها في أي مكان آخر، وإن هذه السطوة لتمكِّن أصحابها من أن يسحقوا دائمًا، وبفضل نفوذهم، ذلك الشعب الذي يكاد ينوء وحده تحت عبء المطالب المالية. وعلى ذلك فقد وضع القائد العام نصب عينيه الحد من هذا النفوذ وإنقاصه بقدر الاستطاعة وانتشال تلك الطبقة الجادة العاملة، وهي طبقة الفلاحين، مما تعانيه من مشقة.» وقال مارتان Martin تعليقًا على هذا الكلام في سخرية لاذعة: «وهكذا حتى يتمكن منو من تنفيذ هذا المشروع الجميل أصدر أمرًا في نوفمبر ١٨٠٠م بإنشاء جريدة عربية سمَّاها «التنبيه» لم تصدر لما كان هناك من حاجة قصوى إلى محرر نابه!»

شاهد الكليبريون إذن كل هذه الإصلاحات تصدر بها أوامر منو بعضها تلو بعض دون انقطاع، فأمضَّهم ذلك وامتعضوا منه، ثم باتوا يتربصون الفرص بمنو، حتى إذا أمر في سبتمبر بتعميم ضريبة «بيت المال» — التي سبق الحديث عنها — لتشمل التركات التي يموت عنها أصحابها مهما اختلفت جنسياتهم ودياناتهم؛ انبرى الكليبريون يناقشون منو الحساب، واتخذوا من هذه الضريبة ذريعة لإثارة تلك «المعارضة القانونية» التي حمل تاليان لواءها. ومن ذلك الحين احتدم النقاش بين الكليبريين وأنصار منو من أجل الفصل نهائيًّا في مسألة المسائل وقتئذٍ؛ أي فيما إذا كانت مصر مستعمرة فرنسية أو بلدًا «مفتوحًا» فحسب. وكان تاليان من أيام الجنرال كليبر من كبار مؤيدي سياسة الجلاء، ولم يتردد لحظة في إطلاع منو على حقيقة رأيه في هذا الموضوع منذ أبريل ١٨٠٠م، ولم يغيِّر شيئًا من موقفه بعد أن تسلم منو قيادة الحملة العامة، ووجد الآن في ضريبة «بيت المال» — التي كان يقتضي تطبيقها فرض ضريبة على تركات الفرنسيين المتوفين في مصر — فرصة مواتية لتحطيم كافة إصلاحات ومشروعات منو التي هدف منها إلى إعادة تنظيم هذه البلاد كمستعمرة فرنسية سوف يبقى بها الفرنسيون زمنًا طويلًا، وذلك إذا تسنى له أن يقيم الحجة الدامغة على أنه لا يمكن بحال من الأحوال اعتبار مصر قانونًا «مستعمرة فرنسية».

فكان من رأي تاليان أن جيش الشرق إنما يقيم في بلد مفتوحٍ فحسب، وحجته في ذلك أن حكومة الجمهورية هي التي أصدرت أوامرها إلى هذا الجيش باحتلال مصر، فالجيش إنما يحتل مصر بناء على هذه الأوامر، ولا يمكن أن يعتبر هذا الجيش نفسه مقيمًا في مستعمرة كما يذهب البعض دون تفكير كبير، إلا عند توافر شروط معينة، أهمها إبرام اتفاق مع الدولة التي كانت أصلًا تمتلك هذا البلد، ثم التصديق على معاهدة الصلح، ومن حق السلطات التشريعية والتنفيذية وحدها عندئذٍ أن تعلن أن هذا البلد المفتوح مستعمرة، وتسن القوانين التي يجب بمقتضاها تحديد ما يُفرض على هذا البلد من مطالب مالية ويجري تحصيلها منه. ولما كان شيء من ذلك لم يحدث فيما يتعلق بمصر، فإن الجنرال منو لا يمكن اعتباره «حاكمًا» لها، وإنما هو فقط قائد عام لجيش الشرق، فلا تتعدى سلطته وضع أنظمة البوليس الخاصة بالمحافظة على النظام واستتباب الهدوء والسكينة، فضلًا عن اتخاذ ما يلزم من وسائل تكفل دفع مرتبات الجند وإمداد هؤلاء بالمؤن والأغذية وما إلى ذلك. وعلى ضوء هذه الاعتبارات إذن كان تحصيل ضريبة بيت المال عن تركات الفرنسيين الذين يموتون في مصر خرقًا للدستور وافتئاتًا على العدالة؛ لأن منو لا يتمتع في مصر بسلطة المشرع الذي من حقه سن القوانين، ولأن الحكومة الفرنسية سوف يظل من حقها دائمًا أن تحصِّل هذه الضريبة من الورثة الذين لن يجدوا سبيلًا للامتناع عن دفعها، على الرغم من تلك الضريبة التي تؤخذ منهم في مصر. ثم خلص تاليان من ذلك كله إلى تقرير مبدأ عام يقضي بإعفاء الفرنسيين من دفع أية ضريبة من تلك الضرائب المباشرة التي يجري تحصيلها في البلدان المفتوحة.١٤٨ ووجد تاليان في موضوع هكتور دور وسيلة للمُضيِّ بحججه القانونية إلى غايتها، واعتبار أن منصب القائد العام للجيش لا يمكن أن يضفي على منو صفة ممثل الحكومة الفرنسية أو النائب عنها، وأن الواجب يقتضي الفرنسيين والمصريين على السواء أن يخضعوا لما تصدره العاصمة الفرنسية من أوامر فحسب.١٤٩
وذهب الكليبريون عمومًا في دعواهم أن مصر لم تكن سوى بلد مفتوح، إلى أن القول بأن مصر مستعمرة فرنسية يتنافى تمامًا مع كل تلك الأغراض التي دفعت فرنسا إلى احتلالها، فمن الثابت أن فرنسا رغبت دائمًا في أن تحفظ للسلطان العثماني حقوق سيادته على هذه البلاد، آية ذلك جميع ما صدر من منشورات ونداءات تضمنت هذه الحقيقة، أو ما جرى من مفاوضات أيام بونابرت وكليبر استندت في واقع الأمر على هذا المبدأ كقاعدة أساسية. وفضلًا عن ذلك فقد قالوا إنه لن يترتب على التصريح بأن مصر مستعمرة فرنسية سوى زيادة المحالفة القائمة بين تركيا وإنجلترا قوة على قوتها، ثم إمعان هاتين الدولتين في النضال ضد الجمهورية بغية طرد الفرنسيين من مصر، حتى إذا تكللت جهودهما بالنجاح فقدت فرنسا كل ما تمتعت به من نفوذ في هذه البلاد من أزمنة قديمة.١٥٠
وهناك سبب آخر لازدياد معارضة القواد للجنرال منو، هو «بونابرتيته» التي سبق الحديث عنها، فقد كان طبيعيًّا وقد شاهد منو سُحب هذه المعارضة تتكاثف حوله أن يُحكم صلاته برجال الحكم في باريس، توقُّعًا لما قد يبذله أعداؤه من جهود في العاصمة الفرنسية لإلحاق الأذى به، فحرص على انتهاز كل فرصة لإظهار ما يكنُّه من محبة وولاء لبونابرت، معتمدًا على علاقته القديمة به وعطف بونابرت عليه في إبقاء حبل «المودة» متصلًا؛ ولذلك فإنه ما وصله نبأ تأسيس القنصلية حتى بادر بتهنئة بونابرت «القنصل الأول» على هذا المنصب الرفيع الذي بلغه، كما حرص في الوقت نفسه على تهنئة القنصلين الآخرين لوبران Lebrun   وكامبسيريس Cambacéris،١٥١ واختط لنفسه خطة الإشادة بذكر بونابرت وتمجيد اسمه في أوامره اليومية وبلاغاته إلى الجيش، حتى أضحت هذه «البونابرتية» علَمًا عليه وصفةً له، كما أنها أفضت في الوقت نفسه في إثارة شكوك معارضيه في نواياه وأغراضه، فقد اعتقد هؤلاء أن منو إنما كان يهدف من هذه «البونابرتية» ليس إلى التودد والتقرب من القنصل الأول فحسب، بل أيضًا إلى إعلان موقفه بصورة قاطعة من سياسة الجلاء التي اعتبر الكليبريون سلفه في القيادة رمزًا لها، وزادهم يقينًا على يقينهم أن منو اختار لابنه من السيدة المسلمة التي اتخذها زوجًا له اسم سليمان قاتل كليبر، فاعتبروا ذلك دليلًا على كراهية منو لكليبر، ثم سرعان ما تأكد هذا الاعتقاد لديهم عندما رفض منو المساهمة في أية تبرعات تُجمع لإقامة نصب تذكاري للجنرال كليبر في فرنسا على نفقة جيش الشرق،١٥٢ مع أنه أصدر أمرًا يوميًّا في ٢٧ سبتمبر سنة ١٨٠٠م تحدث فيه عن تلك اللجنة التي أُنشئت في فرنسا لجمع التبرعات من أجل إقامة نصب تذكاري للجنرال ديزيه الذي قُتل في معركة مارنجو، ثم طلب من الجيش المساهمة في ذلك.١٥٣
ولم يخْف القواد معارضتهم لقائد الحملة فذاعت أخبارها، وعلم بأمر هذا الانقسام ضباط جيش الشرق وجنوده،١٥٤ وعمد القواد إلى إظهار تحزبهم ضد منو بصورة واضحة، فانتهزوا فرصة الاحتفال بعيد الجمهورية الفرنسية في أول فندميير من سنة الجمهورية التاسعة (٢٣ سبتمبر سنة ١٨٠٠م)، فجمع داماس أصدقاءه وأصدقاء الجنرال كليبر في مركب للنزهة في النيل، بينما ظل منو في مركبه وهو يكاد يكون منفردًا، وامتلأت أبهاء منازل القواد داماس ولانوس ورينييه بالسيدات في أثناء الاحتفالات التي أقاموها في المساء، بينما كاد يقفر منهن حفل الجنرال منو.١٥٥ وقد ترتب على ذيوع أخبار هذه الخلافات أن انقسم الضباط من الرتب الصغيرة فريقين: أحدهما يناصر القائد العام وهو فريق الأقلية، والآخر يعارضه وهو فريق الأكثرية. ثم انتشرت أعمال الجاسوسية، فصار كل جماعة يتجسسون على الجماعة الأخرى، وساء عقلاء الفرنسيين أن يروا جيش الشرق فريسة لهذه الخلافات،١٥٦ وعجز منو عن حسم أسباب النزاع لأنه كان وقتئذٍ لا يملأ منصب القائد العام إلا بصورة «مؤقتة»، ويعتبره سائر القواد لذلك زميلًا لهم فحسب، ولا يمارس «سلطات» القائد العام إلا بصورة «مؤقتة» كذلك، ومن حقهم أن ينقدوا أعماله بحرية وصراحة، وألا يعتبروا أنفسهم ملزمين بالطاعة له إطلاقًا «ودون قيد أو شرط». ثم إنهم ما كانوا يعتقدون أن منو سوف يظل قائدًا عامًّا للحملة، بل توقعوا قرب انتهاء هذه «القيادة» التي أزعجتهم سريعًا عند وصول أول بريد فرنسي إلى مصر.١٥٧ وكان رينييه على وجه الخصوص من أشد هؤلاء اقتناعًا بأن منو لن يظفر ﺑ «تثبيته» في منصب القيادة العامة، فاعتبر لذلك أن من واجبه وواجب سائر قواد الحملة أن يقوموا جميعًا بملاحظة ما فيه الصالح العام من جهة، وأن يعملوا لتصحيح ذلك الخطأ الذي وقع فيه رينييه نفسه عندما تنحى عن منصب القيادة للجنرال منو.١٥٨
وغالى القواد فيما أرادوا أن يضطلعوا به من تلقاء أنفسهم، فنشطوا يدبرون الخطط ﻟ «تصحيح» ذلك الخطأ الذي نجم من إسناد القيادة العامة إلى منو، ويقلبون وجوه الرأي في مشروعات عدة، كان الغرض منها إما العمل على إقالة منو أو تقديمه للمحاكمة أمام مجلس عسكري،١٥٩ وإما القبض عليه وحبسه في القلعة بدعوى أن العَتَه قد أصابه. وقد ذكر فريان تفاصيل هذه «الخطة» الأخيرة فقال: إن القواد اعتزموا أن يخطب كبارهم في الجيش، حتى إذا تهيأت الأفكار لقبول خطوتهم التالية ألقوا القبض على منو وأعلنوا اختيار الجنرال رينييه قائدًا عامًّا للحملة.١٦٠

أمَّا الكليبريون عمومًا فقد استندوا فيما ذهبوا إليه من ضرورة عزل الجنرال منو وإقالته إلى أن إصلاحات منو ومشروعاته كانت تدل على الحماقة وفساد الرأي، كما تضمنت أوامره المتعلقة بهذه الإصلاحات تعريضًا بسمعة الرؤساء العسكريين والإداريين الذين قاموا بأعباء الحكومة من أيام كليبر، بل ومن أيام بونابرت نفسه. وفضلًا عن ذلك فقد أدى تمسك منو بأن مصر مستعمرة فرنسية وإصراره على وجهة نظره، إلى قيام كل تلك المناقشات التي أوقعت الانقسام في صفوف الجيش وأسفرت عن عواقب وخيمة.

غير أنه كان من الواضح أن هؤلاء «المتآمرين» لا يستطيعون المضي في خطتهم إلا إذا وافق الجنرال رينييه نفسه على تولي قيادة الحملة العامة خلفًا للجنرال منو، ولكن رينييه سرعان ما وجد من المتعذر عليه أن يقر هؤلاء «المتآمرين» على عملهم لأسباب عدة ذكرها رينييه نفسه،١٦١ أهمها أن موقفه — كما قال — قد بات دقيقًا بعد أن وعد منو بأن يبذل قصارى جهده في مؤازرته ونصحه، وذلك عندما «طلب» إليه أن يقبل قيادة الجيش، حقيقةً أثار منو بعد ذلك بفعاله ومؤامراته ودسائسه حفيظة رينييه ولكن هذا الأخير كان لا يمكنه الموافقة على إقالة منو وعزله خوفًا من وقوع الانقسام واتقاءً لما قد يحدثه ذلك من آثار سيئة خطيرة. على أن امتناع رينييه عن قبول القيادة العامة لم يصرف أولئك الذين أظهروا السخط على أعمال منو وأرادوا عزله عن عقد آمالهم العريضة على إقناع رينييه بقبول منصب القيادة العامة في النهاية، ولكن رينييه كان قد وطد العزم عندئذٍ على عدم الاستماع إليهم، معلِّلًا ذلك بقوله: «إنه من المتعذر عليه أن يقبل هذا المنصب بالرغم من شعوره بأن هناك حاجة ملحة لوجود رئيس آخر للحملة بدلًا من الجنرال منو؛ ذلك أن البلاد كان قد ساء حالها كثيرًا بعد التغييرات التي حدثت في الإدارة والانقسام والشقاق الذي نجم عن ذلك، كما ساعد على ازدياد سوء الحالة تبديد ما كان مدَّخرًا من أموال في أيام الجنرال كليبر، ثم تلك الوعود التي تضمنتها أوامر منو اليومية بشأن المضي في دفع مرتبات الجند بصورة منتظمة، وقد أسرف منو في بذل هذه الوعود إسرافًا عظيمًا مع صعوبة تحقيقها. أضف إلى ذلك كله تلك المشكلات التي كان من المتوقع حتمًا أن يواجهها خلف منو في قيادة الحملة العامة. وفضلًا عن ذلك فإنه لم يكن من المستبعد بتاتًا بالرغم من كل ما تقدم أن يظفر منه بتثبيته في قيادة الحملة، فتسود الفوضى واختلال النظام في الجيش.» لذلك وجد رينييه أنه من الحكمة والصواب أن يرفض الاشتراك في كل تدبير يفضي إلى عزل منو أو إلقاء القبض عليه وحبسه،١٦٢ وأمام إصرار رينييه على موقفه استقر رأي القواد المعارضين على الاكتفاء باتخاذ خطوة من شأنها الحد من نشاط منو، «ومنعه من بث روح الانقسام في الجيش وإرباك إدارة البلاد، وذلك بإسداء النصح له فحسب.»

خطوة ٦ بريمير

اتفق القواد فيما بينهم إذن على تحديد موعد لمقابلة منو «مجتمعين» لتنفيذ عزمهم، فاختاروا في أول الأمر يوم ٤ بريمير من سنة الجمهورية التاسعة (٢٦ أكتوبر ١٨٠٠م)، كما اتفقوا فيما بينهم على «الأسباب» التي عوَّلوا على ذكرها للقائد العام كذريعة لاتخاذ هذه الخطوة، ولخَّص الجنرال رينييه نفسه هذه «الأسباب» التي قال إنها أقنعت القواد بضرورة السعي لمقابلة منو والتحدث إليه في شأنها،١٦٣ وكانت هذه أسبابًا منوعة، منها ما تعلق بتلك البدع التي استحدثها منو في الإدارة، ومنها ما تعلق بمسلك منو نفسه، فقد شكا القواد من «شذوذه» الظاهر في معاملة عديدين من رجال الحملة كان من بينهم هؤلاء القواد أنفسهم الذين درج منو على توجيه أقسى عبارات التوبيخ والتأنيب لهم على أتفه الأمور وأقلها قيمة. وفضلًا عن ذلك فقد اختار منو في «عظاته» التي تضمنتها أوامره اليومية إلى الجيش أسلوبًا جافًّا اعتقد أنه كفيل بإقناع الجنود أن من الخير لهم أن يتحلوا بالخلق الحسن الكريم كأنما كان هؤلاء شراذم من أناس جُبِلوا على الشر لا يعرفون للشرف معنى ولا خلاق لهم، حتى تذمر الجنود من ذلك تذمُّرًا شديدًا. هذا بينما لا يقل استياء الأهالي أنفسهم وتذمُّرهم عن استياء وغضب الجيش؛ لأن منو سرعان ما قذف الرعب في قلوب المصريين بسبب ما استحدثته «عبقريته» من بدع ونسجه خياله الفياض من إصلاحات جعلت هؤلاء يجأرون بالشكوى من قائد مسلم كانوا قد انتظروا بفضل إسلامه أن ينالهم الخير كل الخير على يديه، فانقلب هذا الأمل يأسًا حتى ملأ الحزن نفوسهم لعدم اضطلاع قائد مسيحي بأعباء الحكم بدلًا منه، آية ذلك ما صار يشعر به الشيخ المهدي على وجه الخصوص من استياء عظيم، وهو من الذين أقبلوا على التعاون مع الحكومة.١٦٤ وغنيٌّ عن البيان أن المصريين كان في وسعهم اصطناع الصبر والأناة والرضا بحكومة منو على إرهاقها لهم، وهم الذين تعودوا على احتمال الظلم والجور أيام الأتراك والمماليك، ولكن تلك الفترة البسيطة التي جعلتهم يتذوقون خلالها مزايا الحكم الذي أقامه كل من بونابرت وكليبر على أساس من القوانين والأنظمة الأوروبية، حملتهم على المقارنة بين أيام هذين القائدين وبين أيام منو، وجعلتهم يشعرون بشدة ما حل بهم من بؤس وشقاء على يده.
ولكن القواد ما لبثوا أن أجَّلوا زيارتهم لمنو إلى موعدٍ آخر؛ لأنه حدث في نفس اليوم الذي اختاروه لمقابلته أن وصل ضابط من طولون يحمل البريد الفرنسي،١٦٥ فتريث القواد حتى يقفوا على ما جاء به هذا الضابط من أخبار قد تتعلق بما قرَّ عليه رأي الحكومة في باريس بشأن تعيين قائد عام جديد للحملة بعد مقتل الجنرال كليبر. ولكنهم سرعان ما تبيَّنوا أن الرسائل الواردة كانت لا تزال معنونة باسم الجنرال كليبر،١٦٦ فقرروا عدم إرجاء المقابلة، ثم زادهم اقتناعًا بضرورة ذلك أن منو ما لبث أن أذاع على الجيش في أمر يومي في ٦ بريمير (٢٨ أكتوبر سنة ١٨٠٠م) الأخبار الواصلة من فرنسا مع «إعلان» عام للجيش ناشد فيه قواد الحملة وضبَّاطها وجنودها أن ينسوا خلافاتهم، وأن ينبذوا المنازعات الحزبية، وأن يتضافروا جميعًا على مقاومة «المؤامرات الدنيئة»؛ لأنه وإن كان من شيمته العفو مقدِّمًا — على حد قوله — عن جميع أعدائه الشخصيين، فإنه لا يسعه إلا أن يعامل أعداء الجمهورية بمنتهى الشدة والصرامة.١٦٧ وكان السبب في صدور هذا الإعلان الذي تضمنه الأمر اليومي أن الجنرال داستان Destaing أبلغ منو عزم القواد على مقابلته، وكان داستان كثير التودد إلى منو، كما أن منو قد اصطفاه دون سائر زملائه،١٦٨ فتوهَّم منو أنه إذا نشر هذا الإعلان فإن القواد سوف يجدون فيه رادعًا يمنعهم من محاولة مقابلته،١٦٩ ولكن سرعان ما جاءت النتيجة على خلاف ذلك.
فقد تضمنت الأخبار التي أذاعها منو في أمره اليومي أنه قد بات من المنتظر عقد السلام قريبًا، وأن الوطن لا يزال يذكر أبناءه البعيدين، وكانت هذه أخبارًا طيبة لا شك في أنها سوف تبعث الطمأنينة إلى نفوس الجنود، فينصرف هؤلاء إلى القيام بواجباتهم العسكرية في هدوء وسلام، لولا أن منو أفسد ذلك كله بنشر إعلانه في ذيل هذا الأمر اليومي، فتحدث عن وجود خلافات وانقسامات في الجيش، وقضى بعمله هذا على ذلك الهدوء الذي كان ينشده، فقلق الجنود على مصيرهم، كما أن القواد لم يروا في نشر هذا الإعلان إلا مناورة قصد بها منو تأليب الجنود عليهم.١٧٠ وعلى ذلك فقد صحَّ عزمهم على طلب مقابلته دون إمهال، فاجتمع القواد الذين كانوا بالقاهرة وقتئذٍ في منزل الجنرال بليار، وحضر هذا الاجتماع كل من رينييه وداماس ولانوس وفردييه وبليار، وقرَّ رأيهم على الذهاب إلى منو في التو والساعة، ثم وافق سونجي على الذهاب معهم، ولكنه غيَّر عزمه فتخلف في الطريق. وبعد ساعات معدودة فقط من صدور الأمر اليومي كان هؤلاء القواد في حضرة الجنرال منو في مقر القيادة العامة.
وقابل منو القواد والهمُّ والكدرُ باديان على وجهه؛ ذلك أنه كان يخشى من أن يكون غرض هؤلاء المتظاهرين التآمر على شخصه، واعتقد أنهم ما حضروا إليه إلَّا ليحملوه على الاستقالة من القيادة بمختلف وسائل الضغط والتهديد،١٧١ أو أنهم حضروا للقبض عليه حتى يقدِّموه للمحاكمة أمام مجلس عسكري.١٧٢ وعلى ذلك فإنه ما تبين له أنهم إنما جاءوا لإظهار تذمرهم فحسب من إدارته، وإقناعه بإلغاء كثير من الإصلاحات التي استحدثها، والتي نشأت في واقع الأمر من اعتباره مصر مستعمرة فرنسية، ثم عرض شكاياتهم الخاصة عليه؛ حتى انفرجت أسارير وجهه.
وكان حديث القواد حديثًا طويلًا تخلله توجيه كثير من التهم إلى قائد الحملة العام «المؤقت»، فتولى الكلام الجنرال رينييه١٧٣ مبيِّنًا مقدار الألم الذي حزَّ في نفوسهم بسبب ما شهدوه من آثار الانقسام المتفشي في جيش الشرق، وذلك بعد أن ظل هذا الجيش يعيش في هدوء وسلام مدة العامين السابقين أيام بونابرت وكليبر. ولما كان القواد قد لازموا الجيش منذ أن بدأت تلك المعارك التي خاضوا غمارها مع جنودهم، فاستطاعوا أن يرقبوا عن كثب مبلغ ذلك الاتحاد الذي ألَّف بين قلوب الجند، فقد وجدوا لزامًا عليهم أن يبحثوا أسباب هذا الانقسام، ويعملوا على إزالته. وقال رينييه: إن البحث سرعان ما أفضى إلى معرفة منشأ هذا الانقسام الذي لم يكن سوى إحدى نتائج تلك البدع التي استحدثها منو من ناحية، ثم الطريق الذي سلكه مع أفراد جيش الشرق منذ أن انتقلت إليه «بصورة مؤقتة» قيادة الحملة العامة من ناحية أخرى، وقد هداهم التفكير إلى أن خير ما يمكن فعله لرجوع الاتحاد والتآلف وتأييد حسن التفاهم هو أن يعمد منو إلى إلغاء بعض تلك الأوامر التي أصدرها، وإبطال طائفة من القرارات التي اتخذها وجاءت جميعها مناقضة للصالح العام. وفضلًا عن ذلك فإن الواجب يقتضي منو أن يسترشد في مسلكه في المستقبل بقوانين الجمهورية الفرنسية، وبكل تلك المبادئ التي تعمل بها القيادات العسكرية، كما أن عليه قبل أي شيء آخر أن يضع حدًّا للمؤامرات التي انغمس فيها.١٧٤
وكال القواد التهم ضد منو من غير حساب أو وازع، وبنوا هذه التهم جميعها على ما عرفوه من رغبة منو الصريحة في تأسيس مستعمرة في مصر، فقرءوا عليه «مذكرة» أعدُّوها في هذا الشأن من قبل١٧٥ جاء فيها: «إن اعتبار مصر مستعمرة فرنسية عملٌ غير مناسب في الوقت الذي أكد فيه دائمًا كلٌّ من بونابرت وكليبر للعثمانيين أن هذه البلاد ليست سوى رهينة أو وديعة في أيديهما، فضلًا عن أنه كان من المتعذر على الحكومة الفرنسية في هذه اللحظة ذاتها بسبب ما يجري في أوروبا من حوادث إلَّا أن تعدَّ مصر بلدًا مفتوحًا فحسب؛ وذلك حتى يمكنها أن تفيد من امتلاكها لهذا البلد عندما يحين موعد عقد السلام العام في أوروبا»، بل إنه لم يكن من المصلحة بتاتًا الإصرار على الادعاء بأن مصر مستعمرة فرنسية؛ لأن من شأن هذا الادعاء استثارة الأتراك لمضاعفة جهودهم وتأليب جميع الدول ضد فرنسا.١٧٦ فإذا اتفق الرأي على اعتبار فتح مصر «فتحًا مؤقتًا»، بات من المتعذر على منو أن يغيِّر شيئًا من قوانين البلاد أو ما قضى به العرف وأقرته عادات أهلها؛ لأن حدوث هذا التغيير مهما استتر وراء تلك الإصلاحات التي استحدثها منو سوف ينجم عنه ازدياد قلق تلك الدول التي ناصبت فرنسا العداء، ثم نفور سكان البلاد من كل ما هو فرنسي، لا سيما وقد أثقل منو كاهل هؤلاء بالضرائب الفادحة التي فرضها عليهم، وأشد هذه سوءًا ولا شكَّ ضريبة مشايخ البلد أو العمد، أضف إلى هذا كله أنه ما كان ينبغي قط أن يطلب منو من الفرنسيين أن يدفعوا أية ضريبة.١٧٧ وكانت هذه الملاحظة الأخيرة بمثابة رد صريح على ما كان منو قد فعله قبل هذه المقابلة بأيام ثلاثة فحسب، عندما أصدر أمرًا في ٣ بريمير يقضي: «على جميع الأفراد المقيمين بالبلاد مهما كانت تبعيتهم — ويدخل في عداد ذلك الفرنسيون أنفسهم — بدفع كل الضرائب التي ينصُّ القانون عليها.»١٧٨
وعندما أتم القواد كلامهم في هذه المسألة الجوهرية لبيان أنه من المتعذر اعتبار مصر مستعمرة فرنسية، انتقلوا إلى ذكر تلك المسائل التي شكوا منها، فاتهمه رينييه وداماس ولانوس بأنه «أظهر الجيش فيما أصدره من أوامر يومية وكأنه عصابة من قطَّاع الطريق فحسب، كما أدار قيادته العامة وكأنها منتدى من المنتديات العامة، ولم يحترم القواعد المتبعة فصار يتراسل مع صغار المرءوسين مباشرة»، ثم اتهمه القواد بتدبير المؤامرات وراحوا يعنِّفونه على ذلك تعنيفًا شديدًا، وساءهم أن يعزل منو موظفي الحملة ويفصل من الخدمة من يشاء، مع أن الحكومة الفرنسية هي التي قلَّدت هؤلاء وظائفهم، ولا يملك منو وحده حق عزلهم أو فصلهم، لأنه لا يستطيع أن يضع نفسه فوق القانون. ثم تناولوا علاقة منو بالجيش وبالبلاد التي يحتلها جيش الشرق، فقالوا: إن الواجب يقتضيه أن يقلع عن الادعاء بأنه يمثل الجمهورية «في كل شيء»؛ لأنهم وإن أجازوا له حق تمثيل الجمهورية فيما يتعلق بإدارة هذه البلاد، فإنه من ناحية أخرى لا يعدو كونه «قائدًا» فحسب لجيش الشرق، ولا يحق له لذلك أن يعزل أحدًا قلدته حكومة الجمهورية وظيفته دون محاكمته أولًا أمام مجلس عسكري، والأحرى به على كل حال أن يمارس ما يتمتع به من حقوق محدودة بوصفه قائد الجيش العام فحسب، ولا تتعدى تلك الحقوق إجراء الترقية في مختلف الرتب العسكرية في الميدان، على أن يستحق دائمًا صاحب الترقية رفع درجته عن جدارة صحيحة، كما لا يجوز أن تحدث هذه الترقيات إلَّا في نطاق ضيق، وبقدر ما تدعو إليه الظروف القائمة فعلًا. وفضلًا عن ذلك فلو أنه حدث أن أعلنت الجمهورية هذه البلاد مستعمرة فرنسية، لكان تكييف إدارة هذه المستعمرة من شأن رجال الحكم في باريس وحدهم، وواجب منو أن يمتنع عن سبق الحوادث، فلا يتخذ من الرغبة في إشباع نزواته فرصة لاستحداث هذه البدع الكثيرة بدعوى الإصلاح. ولما كانت الحكومة الفرنسية نفسها حتى هذا الوقت قد امتنعت من اعتبار هذه البلاد مستعمرة من مستعمراتها، فمن واجب منو كذلك أن يحترم استقلال كبار موظفي الإدارة، فلا يُلزِم صراف الحملة العام أو مدير مهماتها بتقديم أية حسابات إليه، ومن واجب منو أن يعتبر هذين الموظفين على وجه الخصوص من ذوي الحصانة التي تجعل عزلهما أو استبعادهما أمرًا مستعصيًا.١٧٩
ثم شكا القواد من مسائل أخرى كانت أقل خطورة من سابقاتها، فتحدثوا عن «الدخولية»، وهي الضريبة التي فُرِضت على الغلال والأغذية، ونجم منها ارتفاع أثمانها ارتفاعًا فاحشًا، كما طرقوا موضوع التبرعات التي جُمعِت لإحياء ذكرى الجنرال ديزيه، وإقبال منو على تأييد هذا العمل، والاشتراك في إحياء هذه الذكرى، بينما امتنع عن التبرع بشيء لإقامة نصب تذكاري للجنرال كليبر. وكان الكليبريون قد كلَّفوا داماس بجمع التبرعات اللازمة لذلك، فلم يصدر منو أمرًا يوميًّا يحمل إلى الجيش نبأ هذا المشروع العزيز عليهم، كما فعل من أجل إحياء ذكرى الجنرال ديزيه، فضلًا عن امتناعه عن التبرع.١٨٠
وأصغى منو في أول الأمر لكل هذا الكلام الطويل، وقد عقدت الدهشة لسانه، فكان يكتفي في رده بإيماءة بسيطة، أو الإجابة بكلمتي نعم أو لا، حتى إذا تبين من خلال الحديث أن القواد لم يجيئوا إليه ليهددوه أو يرغموه على اعتزال منصبه، هدأت أعصابه تدريجًا واستعاد ثقته بنفسه رويدًا رويدًا، فاستطاع أن يجيب على دعوى القواد بأن مصر بلد مفتوح فحسب بعبارات ظاهرة قاطعة، فقال إنه إنما يعد مصر مستعمرة فرنسية، وإن لديه ما يحمله على الاعتقاد بأن وجهة نظره هي الصحيحة، آية ذلك ما وصله من رسائل من وزير البحرية الفرنسية تخوِّله الحق في إطلاق اسم المستعمرة على هذه البلاد، وإنه لذلك ما عمد إلى مطالبة مواطنيه الفرنسيين بدفع الضرائب إلَّا تنفيذًا لما يجري به العمل في سائر المستعمرات الفرنسية من قديم الزمن.١٨١ واحتدم النقاش بينه وبينهم، ولكن منو — الذي عُرِف باللباقة وإتقان أساليب المحاورة — ما لبث أن انحرف بمخاطبيه عن هذا الموضوع الجوهري الذي كان وصولهم فيه إلى قرار حاسم مناقضًا لمصلحة منو، ومن شأنه أن يهدم ذلك الصرح الذي بذل منو قصارى جهده لتشييد دعائمه. وعلى ذلك فقد انتقل القواد إلى الحديث باستفاضة في مسائل كانت مثار شكايات شخصية وفردية، دون أن ينتزعوا من منو جوابًا حاسمًا عن كل تلك «البدع» والإصلاحات التي جاءوا لاستئصالها، وما إن انتقل القواد إلى بسط شكاياتهم الخاصة وعرض مطالبهم حتى استطاع منو أن يجد مخرجًا سهلًا من مأزقه باصطناع الهدوء والحرص على تطييب خواطرهم، ولم يجد غضاضةً في بذل الوعود الجميلة، وعوَّل منو على مسالمتهم حتى إذا انتهت هذه الزوبعة عرف كيف يتخلص من مناوئيه ويقضي على تدابيرهم.
وعلى ذلك فقد تظاهر منو بأنه لم يصله أي خبر عن الاكتتاب من أجل إحياء ذكرى كليبر، ولم يبدُ عليه أي انزعاج عندما كذَّب القواد دعواه، بل وعد بإعلان نبأ هذا الاكتتاب في أمر يومي يصدره إلى الجيش ينص على جمع التبرعات اللازمة لإحياء ذكرى القائدين ديزيه وكليبر معًا وفي وقت واحد. ووافق القواد على قولهم إن «الدخولية» كانت سبب ارتفاع أثمان المواد الغذائية، ووعد باتخاذ ما يكفل من إجراءات لحصول الجند على كفايتهم من الأغذية، وطلب منو في آخر الأمر إعطاءه مهلة من الوقت للتفكير جديًّا فيما عرضه القواد من مسائل، ووعد بالإجابة على مطالبهم كتابة بعد فترة وجيزة من الزمن،١٨٢ ثم ما لبث أن استدعى القواد لمقابلته في اليوم التالي (٨ بريمير)، وأعلن إليهم عزمه على إلغاء أو تعديل بعض القرارات السابقة، ولو أنه تذرع بوجوب التريث حتى يتم هذا الإلغاء والتعديل شيئًا فشيئًا، تجنُّبًا لما قد يترتب على اتخاذ أي إجراء سريع من قلقلة واضطراب لا مسوغ لهما. ثم انتهز منو فرصة اجتماع القواد به يوم الاحتفال بتأبين الجنرال ديزيه عسكريًّا (١٠ بريمير وأول نوفمبر ١٨٠٠م) فطمأن خواطرهم، ووعد بإبطال تحصيل ضريبة بيت المال من الفرنسيين، والنظر في إلغاء بعض الإجراءات السابقة، ثم طلب إلى صرَّاف الجيش أن يصدر أمرًا يوميًّا بإبطال هذه الضريبة، كما أكَّد استعداده لتنفيذ كل ما طلبه القواد في مقابلتهم الأولى له. وكان منو قبل الاحتفال بيومين قد كتب إلى لاجرانج رئيس أركان حربه الجديد — بعد إقصاء داماس — يطلب إليه أن يعهد بمنصب المفتش العام إلى هكتور دور وأن يرفع مرتباته ترضيةً له، وقبل دور هذا المنصب،١٨٣ وأقام الجيش في أول نوفمبر احتفالًا مهيبًا في سهل القبة لتأبين الجنرال ديزيه،١٨٤ وبدا لأول وهلة أن أسباب الخلاف بين منو وقواده المعارضين سوف يُقضى عليها.
وفي ٣ نوفمبر علم رينييه أن منو قد ألغى الأمر الذي نص على تحصيل ضريبة بيت المال من الفرنسيين، وفي اليوم نفسه تناول الغداء في منزل بليار مع سائر القواد، فوعد في أثناء ذلك بأنه لن يدعو للانعقاد ذلك المجلس الخاص الذي كان قد صدر أمر بتأليفه في ٢ سبتمبر، ولم ينفذ أصلًا على نحو ما سبق ذكره. وفي ٨ نوفمبر برَّ منو بوعده في صدور أمر يومي افتُتحت بمقتضاه الاكتتابات اللازمة لإقامة نصب تذكاري لكل من ديزيه وكليبر.١٨٥
غير أن ذلك كله لم يقنع الكليبريين بأن منو كان يبغي حقيقةً إزالة أسباب النفور أو أنه يودُّ استمالة القواد إليه، وساد الاعتقاد بينهم أن منو إنما كان يعمل لكسب الوقت فحسب، ويريد فسحة من الوقت لإمعان النظر فيما يجب عليه فعله قبل التورط في إجابة مطالب القواد جميعها. وتلمَّس أولئك الذين ساورتهم الشكوك في نوايا منو الأسباب لإقامة الدليل على صدق ظنونهم فيما حدث بمناسبة الاحتفال العسكري الذي أُقيم لتأبين الجنرال ديزيه، فلاحظوا أن المكان الذي وقع عليه الاختيار لذلك الاحتفال في سهول القبة كان قريبًا من ميدان معركة هليوبوليس التي انتصر فيها كليبر «فافتتح مصر مرة ثانية». ولما كان وجود المحتفلين قريبًا من ميدان المعركة من شأنه أن يذكِّر الجنود بوفاة قائدهم، الذي اغتيل في نفس اليوم الذي سقط فيه ديزيه في معركة مارنجو، فيشعر الجنود بالحزن والأسى، فقد انتظر الكليبريون أن يجد المتكلمون في تأبين ديزيه ما يقولونه كذلك عن الجنرال كليبر، ومع ذلك فإن أحدًا لم يذكر كليبر بكلمة، كما أن أحدًا لم يفكر في تكريم ذكراه في هذه المناسبة بنثر بعض الزهور على قبره،١٨٦ بل إن هذا الحفل ما لبث أن انتهى في صمت عميق؛ لأن منو قرر أن يتكلم رجل واحد فحسب في تأبين ديزيه، فألقى فورييه Fourier خطابًا طويلًا١٨٧ أشاد فيه بذكر ديزيه، فأسهب في وصف مناقبه، كما عدد كل تلك الخدمات الجليلة التي أسداها لوطنه،١٨٨ وأغفل فورييه ذكر الجنرال كليبر، فلزم القواد الصمت وقد أمضَّهم هذا الإغفال، وانفضَّ الحفل وقد زاد نفورهم من منو وعظمت كراهيتهم له.
وفضلًا عن ذلك فإنه سرعان ما تبين لهؤلاء القواد المعارضين وأنصارهم أن منو إنما كان يضمر لهم العداء ويريد التخلص منهم، آية ذلك رغبته في إبعاد تاليان على وجه الخصوص، حتى إنه أعدَّ له جواز سفر إلى فرنسا منذ ٢٨ أكتوبر، ونجح في حمله على مغادرة البلاد، فاستطاع بذلك أن يبعد عنه أشد المعارضين خطرًا عليه وأقواهم مراسًا في تأليب المعارضة ضده،١٨٩ ثم ما لبث أن كشف عن حقيقة نواياه عندما طفق يسعى في الأيام التالية لإقناع زعماء المعارضة الآخرين داماس ولانوس وفردييه بالسفر إلى فرنسا، ويقترح عليهم العودة إلى الوطن، وقد رفض هؤلاء جميعًا مغادرة البلاد وقتئذٍ لأنهم كما قال رينييه: «كانوا لا يريدون أن تفقد فرنسا مصر فتضيع هذه البلاد بسبب ضعف اليد المسيطرة على الجيش.»١٩٠ وعلى ذلك فإنه بدلًا من أن تستقيم الأمور في «مستعمرة» منو، سرعان ما وجد قائد الحملة العام أن الجو قد أخذ يزداد اكفهرارًا بسبب كل تلك السحب المتلبدة. وكان منشأ هذه الصعوبات التي صادفها أنه إنما يشغل منصب القيادة العامة بصورة «مؤقتة».

تثبيت منو في القيادة العامة

وقد فطن منو إلى أنه لا سبيل لإخماد المعارضة ضده طالما كانت قيادته «مؤقتة»، ومن المحتمل أن تصدر أوامر القنصل الأول من باريس بإخراجه من منصبه، وإسناد قيادة الحملة العامة إلى رجل آخر؛ ولذلك فقد اعتمد منو في اجتياز العقبات التي صادفته على كياسته فحسب، فأتقن أسلوب «المداراة» وبذل كل ما وسعه من جهدٍ وحيلةٍ حتى يتجنب مغبة الاصطدام السافر مع القواد الناقمين عليه، وراضَ نفسه على احتمال «مشاكساتهم» حتى تفصل حكومة القنصل الأول في أمر قيادته، ووجد من الحكمة وأصالة الرأي أن يمضي قدمًا في إصلاحاته وتنظيماته، ضاربًا عرض الحائط بهذه المعارضة القوية ضده، كما هداه التفكير إلى أنه من الخير له أن يغفل الحديث عن هذه الإصلاحات والتنظيمات فيما يرسله من أنباء إلى حكومته،١٩١ فلم يكتب عنها شيئًا منذ أن أقلعت «أوزيريس» في ١٠ يوليو ١٨٠٠م تحمل أنباء الاعتداء على كليبر، مع بيان موجز عن وضع البلاد العسكري.١٩٢ وعلى ذلك فقد امتنع منو في كل ما بعث به من رسائل حتى أواخر شهر أكتوبر إلى القنصل الأول وإلى وزيري الحربية والخارجية في باريس عن ذكر شيء من أخبار ذلك الانقسام الذي ظهرت بوادره في الجيش منذ أن تسلم القيادة العامة أو نشاط المعارضة ضده، فقال عندما كتب إلى بونابرت في ٢٤ سبتمبر:١٩٣ «إن الظروف اقتضت إخراج داماس من رياسة هيئة أركان الحرب، وتعيين الجنرال لاجرانج بدلًا منه»، وطلب إلى القنصل الأول أن يصدق على التعيينات التي أجراها، وقد كانت هذه كما اعترف منو تعيينات كثيرة «وإن كان ذلك بسبب الظروف التي حتمت إجراءها»، واكتفى منو في رسائله العديدة إلى كارنو Carnot وزير الحربية بأن نقل إليه خبر تعيين الجنرال لاجرانج رئيسًا لهيئة أركان حربه،١٩٤ كما انتهز فرصة الإفاضة فيما فعله من إصلاحات يبغي منها توفير الغذاء والكساء للجيش، وتجهيز المستشفيات بكل ما يلزم لمداواة المرضى والجرحى والعناية بأمرهم، فذكر كيف أنه اضطر إلى معاملة المتعهدين والموردين وفريق من رجال الإدارة الذين ثبت غشهم وتلاعبهم معاملة صارمة شديدة، حتى إن هؤلاء سرعان ما نقموا عليه وصاروا أعداءه، وإن كان منو كما قال لا يعبأ بعداوتهم طالما كان هدفه صون المصلحة العامة وخدمتها.١٩٥ وهكذا كانت هذه العبارات الموجزة البسيطة كل ما شاء منو أن يذكره للحكومة في باريس حتى أول بريمير من سنة الجمهورية التاسعة (٢٣ أكتوبر ١٨٠٠م) عن ذلك الخلاف الذي استحكمت حلقاته بينه وبين قوَّاد الحملة وأكثر رجالها.
ولكن الخصومة ما لبثت أن اشتدت بين منو وبين قواده، ثم اتسعت شقة الخلاف بين الفريقين حتى بات من المتعذر نكران وجود الانقسام أو إخفاؤه، وبخاصة عندما عقد القواد اجتماعاتهم لتدبير عزل منو من القيادة أو حبسه في القلعة. واستطاع منو الذي حضر عهد مؤامرات الثورة والإرهاب في باريس أن يعرف حركات أعدائه، ولا يفوته تدبير من تدبيراتهم، كما أنه استطاع أن يجذب إليه بعض رجال الجيش، كالجنرال داستان والضابط شانيه Chanié، فصار هؤلاء ينقلون إليه الأخبار تباعًا. ووجد منو أن الصمت أو المداراة قد بات لا يجدي نفعًا، وأن من واجبه التسلح بالحيطة والحذر، واتخاذ الأهبة للدفاع عن نفسه وعن إدارته أمام مواطنيه في مصر وفي فرنسا على السواء، ثم أمام القنصل الأول قبل أي إنسان آخر. وعلى ذلك فقد نبذ منو خطته الأولى، وشرع منذ ٢٣ أكتوبر يتهيأ لإرسال الجنرال فيال Vial والضابط لازوسكي Lazowski إلى باريس، حتى يشرحا لحكومتهما حقيقة الموقف في مصر،١٩٦ وحمَّلهما رسائل إلى القنصل الأول وإلى غيره١٩٧ من رجال الحكم والأصدقاء في باريس، فغادر فيال القاهرة في ١٢ بريمير (٣ نوفمبر)، ثم أقلع من الإسكندرية على ظهر «لودي» بعد يومين فبلغ طولون في ١٤ فريمير (٥ ديسمبر) ومعه لازوسكي.١٩٨ ونشرت الجريدة الرسمية المونيتور Moniteur رسائل منو في جملة أعداد من أعدادها ابتداءً من ٢٥ فريمير من سنة الجمهورية التاسعة (١٦ ديسمبر).١٩٩ وفي هذه الرسائل أشار منو إلى وجود جماعة مناهضة للاستعمار في مصر، اضطر إلى مناضلتهم نضالًا شديدًا حرصًا منه على المصلحة العامة؛ ذلك أن ما بذله من محاولات للتغلب على العقبات الكثيرة التي اعترضت إصلاحاته المالية والإدارية سرعان ما جعل النفعيين وأصحاب المصالح الشخصية يناصبونه العداء،٢٠٠ وتلك حقيقة في وسع فيال ولازوسكي أن يبسطاها للقنصل الأول. ثم طلب منو من بونابرت أن يسطر له كتابًا به من عبارات التأييد «ما يحمل كل أولئك الذين يجب أن يكونوا قدوة حسنة لغيرهم على احترام النظام وعدم الخروج على طاعته.»٢٠١
وفي الوقت الذي كان فيه مركز منو بوصفه قائدًا «مؤقتًا» لجيش الشرق قد بلغ منتهى الحرج حتى اضطر إلى إرسال فيال ولازوسكي إلى باريس؛ حدث أن وصل إلى الإسكندرية ضابط من طولون يحمل بريد فرنسا، وكان وصوله في نفس اليوم الذي غادر فيه فيال القاهرة. وكان هذا البريد يحمل أنباءً شتى، منها استئناف القتال في القارة بعد انتهاء تلك الهدنة البسيطة التي أُبرِمت عقب انتصار الفرنسيين في معركة مارنجو، ثم سقوط مالطا في أيدي الإنجليز في ٢٥ سبتمبر،٢٠٢ وعقد السلام بين فرنسا وأهل تونس والجزائر.٢٠٣ على أن أهم ما حمله هذا الرسول كان ولا شكَّ ذلك الأمر الذي أصدرته حكومة باريس «لتثبيت» منو نهائيًّا في قيادة الحملة العامة، وبادر منو بإبلاغ ذلك النبأ إلى الجيش، فأصدر أمرًا يوميًّا في ١٣ بريمير (٤ نوفمبر ١٨٠٠م) يعلن فيه انتقال قيادة جيش الشرق إليه بصورة رسمية،٢٠٤ وما إن وصل الرسول إلى القاهرة بعد ذلك بيومين حتى سلَّم هذا الأمر الحكومي إلى منو فورًا.٢٠٥
وأحدث «تثبيت» منو في القيادة أثرًا عميقًا ما لبث أن ظهرت آثاره ليس في موقف رينييه وزملائه من القائد العام فحسب، بل كذلك في موقف منو نفسه من القواد الناقمين عليه، والذين حملوا ضده لواء المعارضة الشديدة منذ أن تولى قيادة الحملة «مؤقتًا» من حوالي خمسة شهور مضت. فاستولت على هؤلاء المعارضين الدهشة والحيرة العظيمة، وطفقوا يتلمسون «الأعذار» لحكومة القنصل الأول التي أقدمت على هذه الفعلة، وعللوا ما حدث بقولهم إن كل ما كانت باريس تعرفه عن الجنرال منو أنه من القواد المحظوظين في الجيش، بدليل اختياره لقيادة الحملة العامة، فلم يصل إلى علم الحكومة أن الجيش بأسره متذمر منه، وأن منو لم يشغل منصب القيادة العامة إلَّا بوصفه أقدم القواد الموجودين في الرتبة العسكرية عند وفاة كليبر، ولا جدال في أن الحكومة اعتقدت أنه قد أدرك نصيبًا من المران يكفي لاضطلاعه بأعباء الحكم والإدارة بمهارة وكفاءة، فضلًا عن أنها انتظرت من منو أن يطلب النصح من زملائه القواد فيما يتصل بالشئون العسكرية لقلة خبرته بفنون الحرب والقتال، كما انتظرت منه أن يبذل قصارى جهده لشد أواصر الألفة والاتحاد بينه وبين زملائه. واستمر القواد يفسرون هذه الخطوة على نحو ما طاب لهم أن يفسروها به، فقالوا إن الحكومة انساقت إلى ذلك بسبب ما ذاع عن اعتناق منو الدين الإسلامي، وتوقعها أن يجذب إسلامه قلوب أهل البلاد إليه، فيلقى من تأييد هؤلاء له ما يكفل النجاح لإصلاحاته الإدارية وتنظيماته المالية، وكان للحكومة في باريس العذر كل العذر في توقع ذلك كله بسبب تقارير منو المزيفة التي خدع بها الحكومة، ثم ما أذاعه زورًا وبهتانًا — على زعمهم — من وجود جماعة مناوئة للاستعمار في مصر، فهو قد اغتصب لنفسه كل فضل فيما تم من إصلاحات في هذه البلاد من وقت مغادرة بونابرت لها، كأنما كانت هذه كلها من صنعه هو وحده، فغمط كليبر حقه ونسي فضله، كما ادعى دون مبرر أنه نجح «في إدارة حكومة هذه البلاد لفائدة أهلها فحسب»، وكذب على الحكومة عندما وصف الجيش بأنه في خير حال يُرجى له، ثم ركب متن الشطط فألصق بأصدقاء كليبر وحدهم تهمة مناوأة الاستعمار في مصر، وساعد على رواج مفترياته وصول رسائله وتقاريره إلى فرنسا. وفضلًا عن ذلك فإنه ما بلغ القنصل الأول خبر تلك الخلافات القائمة بين منو وبين سائر القواد حتى خشي من ازدياد الانقسام في صفوف الجيش إذا هو أقدم على اختيار قائد آخر لقيادة الحملة العامة بدلًا منه. أضف إلى هذا كله أنه كان من سوء التدبير العمل على عزله من القيادة في وقت ظهر فيه منو بمظهر ذلك المستعمر الذي شيد صرح المستعمرة الجديدة في مصر، وتعهد إلى جانب ذلك بالمحافظة على هذه المستعمرة «الناجحة» وإبقائها في حوزة فرنسا، فأذعنت حكومة باريس إذن للأمر الواقع وراحت ترجو من بقاء منو في منصبه التمكن من إقناع الرأي العام في فرنسا بمزايا بقاء هذه المستعمرة في قبضتها، وبث روح الحماس في الشعب الفرنسي حتى يتسنى لها إرسال النجدات إلى مصر المستعمرة الفرنسية الجديدة.٢٠٦
تلك كانت الأسباب التي دعت في نظر القواد والجنرال رينييه على وجه الخصوص إلى تثبيت منو في القيادة العامة. وسواء كان رينييه وزملاؤه على صواب فيما ذهبوا إليه في تعليل تثبيت منو في القيادة أم كان القنصل الأول متأثرًا فيما فعل بعوامل أخرى ذات صلة وثيقة بسياسته الخارجية على نحو ما سيجيء ذكره في الفصول التالية؛ فقد كان من الواضح أن قرار بونابرت جاء معارضًا لرغبات القواد الذين سرعان ما وجدوا أنفسهم بسبب ذلك في شرِّ مأزق، فقد استند هؤلاء في معارضتهم السابقة إلى أن منو إنما يتمتع بقيادة الحملة بصورة «مؤقتة»، وفي وسعهم لذلك أن يعارضوه ما شاء لهم الهوى أو تقدير المصلحة! دون لوم عليهم أو تثريب. أما وقد صدر قرار حكومي «بتثبيت» منو في القيادة، فقد بات لزامًا عليهم احترام هذا القرار الحكومي، وإلَّا عُدَّت معارضتهم له ثورة صريحة ضد حكومة الجمهورية ذاتها. وعلى ذلك فقد صار متعذرًا عليهم القيام بمظاهرة من طراز تلك المظاهرة التي قاموا بها في يوم ٦ بريمير، وقضى على كل أمل لهم في الاستحواذ على السلطة أو تقرير مصير جيش الشرق وفق رغائبهم مهما كانت أغراضهم نافعة ومفيدة. ومع ذلك فقد استعصى على القواد دفن أحقاد الماضي، كما استعصى عليهم أن يقلعوا عن معارضتهم؛ ولذلك فقد شُغِل هؤلاء في الفترة التالية بأمرين؛ أولهما: تبرير خطوتهم التي اتخذوها في ٦ بريمير من سنة الجمهورية التاسعة، مع إقامة البرهان على أنهم على حق في معارضتهم حكومة منو وفيما يتخذونه من وسائل لإظهار وجوه هذه المعارضة في مصر وفرنسا معًا، وثانيهما: الإصرار على رجاء بونابرت أن يعزل منو من القيادة، أو أن يبعث في استدعائهم من هذه البلاد نهائيًّا.٢٠٧
وقال القواد في تبرير مسلكهم يوم ٦ بريمير إن هذه الخطوة قد حققت شطرًا مما هدف أصحابها إليه، فاصطنع منو الحكمة والروية في إصلاحاته المستحدثة، وأجرى تعديلًا ملحوظًا في بعض ما أصدره من قراراته السابقة، كما أنه وعد بإبطال البعض الآخر شيئًا فشيئًا.٢٠٨ ومع ذلك فإن استمرار المعارضة في زعمهم كان أمرًا لا مناص منه لما ظهر من عدم خلوص نيته والتواء أغراضه؛ ذلك أن منو لم يسمح بجمع التبرعات اللازمة لإحياء ذكرى الجنرال كليبر إلَّا بعد وثوقه — على نحو ما نقله إليه الرسول الواصل من فرنسا حديثًا — من أن باريس قد اشتركت في تأبين كليبر. وفضلًا عن ذلك فإن منو لم يشأ أن يرسل إلى باريس النص الكامل لذلك التقرير الذي وضعه كليبر عن معركة هليوبوليس قبل وفاته، ثم سهر على إتمامه بعد ذلك الجنرال داماس،٢٠٩ فاستبعد منه منو عند إرساله كل ما تعلق بحالة الجيش منذ وفاة كليبر، وأغفل ذكر تشكيل تلك الفرق الإضافية التي ضُمَّت إلى الجيش كقوات مساعدة.٢١٠ وأعدَّ القواد «مذكرة تفسيرية» اعتزموا إرسالها إلى القنصل الأول والحكومة الفرنسية لبيان الأسباب التي حملت رينييه وداماس وفردييه ولانوس وبليار «على الاجتماع بالجنرال منو يوم ٦ بريمير من سنة الجمهورية التاسعة»، للبحث فيما فيه ضمان مصلحة جيش الشرق، كما اشتملت هذه المذكرة على «تفاصيل ما حدث في أثناء هذه المقابلة بكل دقة»، ولم يشأ القواد أن يوقعوا جماعة على هذه المذكرة حتى لا تبدو في صورة عريضة اتهام «إجماعي» ضد منو.٢١١
وسعى القواد ليستميلوا إلى جانبهم زملاءهم البعيدين عن القاهرة. ولما كان الجنرال رامبون حاكم دمياط من كبار مؤيدي منو من وقت تسلمه القيادة العامة في يونيو ١٨٠٠م،٢١٢ فقد بذل رينييه وداماس جهدًا كبيرًا لاستمالته إلى صفوف المعارضة، كما أنهما حاولا إقناع قائد آخر هو الجنرال فريان بصواب ما حدث يوم ٦ بريمير، فأرسلا إليه تفصيلات هذه الخطوة، وأسفرت جهودهما عن النجاح عندما كتب فريان إلى داماس في ٧ نوفمبر يهنئه مع زميله رينييه على دفاعهما عن مصلحة الجيش، ويؤكد لهما انضمامه إلى إخوانه يوم ٦ بريمير لو أنه كان بالقاهرة وقتئذٍ، ثم تساءل في ختام رسالته: «ومتى تنتهي هذه البدع المستحدثة ويستطيع العودة إلى فرنسا، ثم يرفرف السلام بجناحيه على الجميع حتى يصلوا إلى ما تصبو إليه أنفسهم؟»٢١٣
وكتب القواد إلى أصدقائهم في فرنسا يتحدثون عن إدارة منو وإصلاحاته، فكتب لانوس إلى الجنرال لان Lannes في ٦ نوفمبر تعليقًا على «فعال» منو متسائلًا: «وماذا يمكن أن يرجو إنسان من رجل يتعذر عليه الرجوع إلى فرنسا بسبب ذلك الاسم الجديد الذي اتخذه لنفسه في مصر، وخوفه لذلك من مطاردة دائنيه له عند عودته إلى أرض الوطن؟» وفي ٢٤ نوفمبر كتب داماس إلى صديقه الجنرال مورو Moreau: «وإني لعلى يقين أنه لا يزال في وسعنا أن نحرز بعض الانتصارات، ولكن من واجبنا كذلك أن ننظر إلى المستقبل وعندئذٍ يبدو أن تعرضنا لخطر قد يكون جسيمًا أو لا تبلغ شدته حدًّا عظيمًا؛ أمر محقق، فلا جدال في أنه لو استمر النضال على ما نعهده من شدة وصلابة، فإنَّا لن نلبث طويلًا حتى نرى أنفسنا وقد حلت بنا الهزيمة بالرغم من انتصاراتنا.» ثم أرسل إليه تقريرًا اشتمل على كل تلك الحوادث التي أرغمت الجيش — في نظر داماس — على البقاء في هذه البلاد «المنكودة»، ورجاه أن يسعى لاستدعائه إلى فرنسا. وفي نفس اليوم الذي كتب فيه داماس رسالته إلى مورو، بعث رينييه بكتاب إلى هذا القائد نفسه يظهر فيه الأسف على حرمانه من خوض غمار المعارك إلى جانب مورو بسبب إقامته في مصر، ويرجوه أن يسعى لاستدعائه «إذا كان لا يزال هناك ما يجب عليه فعله من أجل إنهاء الحرب» في أوروبا، وقد كتب رينييه كذلك في ٢٤ نوفمبر إلى الجنرال فرينو Ferino يشكو من «البطالة» التي تحرمه وهو في مصر من كسب أكاليل المجد والفخار بالاشتراك في المعارك الدائرة في أوروبا، ويرجوه أن يبذل قصارى جهده لاستدعائه إلى فرنسا. وفي رسالة إلى الجنرال سان سير Saint-Cyr أكَّد رينييه ضرورة إرسال قائد جديد بدلًا من منو إلى مصر، كما أكَّد ضرورة أن يتم اختيار هذا القائد من غير أولئك الموجودين في مصر. وفي نفس اليوم أيضًا (٢٤ نوفمبر) كتب رينييه إلى بونابرت يشكو له من منو الذي بذر بذور الشقاق والتفرقة في جيش لم يعرف حتى هذا الوقت غير الاتحاد وجمع الكلمة، فقد استنَّ منو كثيرًا من القوانين غير الصالحة أو الملائمة لعادات أهل البلاد وتقاليدهم، وأبعد قوَّادًا تمتعوا باحترام الجميع وتقديرهم، ولم تفد شيئًا محاولات رينييه لإطلاع منو على ما يشيع من تذمر وسخط بين جنود الحملة وبين الأهلين على السواء. ثم نفى رينييه أن له يدًا في كل ما حدث، أو أنه ينتظر تحقيق مصلحة ذاتية من ذلك، بل يرى من الملائم أن تتاح له الفرصة لمغادرة هذه البلاد على الأقل بعد إلحاق الهزيمة بالعثمانيين؛ وذلك حتى لا يتخذ أولئك المستاءون من منو اسم رينييه ستارًا لتأليف حزب يتصدى لمعارضة منو دون أن يكون له يد في ذلك.٢١٤
وما إن فرغ القوَّاد من تحرير رسائلهم حتى وقع اختيارهم على أوجست داماس Auguste Damas من الضباط الموالين لهم، ليحمل هذه الرسائل على أن يذهب بها إلى فرنسا يوم ٢٤ نوفمبر نفسه، ولكن أوجست داماس لم يستطع مغادرة مصر حتى يوم ٩ يناير ١٨٠١م، وعندئذٍ وقع في قبضة الإنجليز.٢١٥ ومع ذلك فإن هذا الحادث لم يكن معناه أن القواد قد أخفقوا فيما أرادوه من إثارة الرأي العام الفرنسي ضد منو، واستمالة بونابرت إلى تأييدهم، ذلك أن تاليان — كما سبق ذكره — كان قد حصل على جواز للسفر منذ ٢٨ أكتوبر، فغادر البلاد واستطاع الوصول بسلام إلى فرنسا، وقد حمل تاليان في حقيبته «أوراق الاتهام» التي أعدَّها المعارضون ضد قائد الحملة.

وغنيُّ عن البيان أن منو كان ملمَّا بكل ما يفعله أعداؤه ويسعون إلى تحقيقه، وساءه أن يعمل هؤلاء لتشويه سمعته وهدمه، ولم يكن من المنتظر لذلك أن يقف مكتوف اليدين أمام نشاط أعدائه، وإذا كان منو قد فضَّل اصطناع التريث وسلك طريق المداراة معهم في الماضي؛ لأن قيادته كانت «مؤقتة» فما الذي يمنعه الآن وقد جاءه قرار التثبيت من المضي في إصلاحاته العزيزة عليه أو تلك «البدع المستحدثة» على حدِّ قول معارضيه وأخْذ هؤلاء المعارضين أنفسهم بالشدة والصرامة وقد اطمأن الآن إلى خضوع جند جيش الشرق لأوامره؟ وعلى ذلك فإنه ما إن وصله أمر الحكومة بتثبيته في منصبه حتى نبذ ظِهريًّا سياسة اللين التي اتبعها مع قواده ومحاولة التفاهم معهم، وطفق هو الآخر يعمل كما عمل قواده لاستمالة الرأي العام إلى جانبه في مصر وفرنسا معًا، ببيان خطل ذلك الرأي الذي جعل القواد يقومون بخطوة ٦ بريمير، وإظهار هؤلاء القواد بمظهر الناقمين الحاقدين عليه، والذين ما كان يحركهم سوى أهوائهم الشخصية، واستعان منو في تدبير هذه الحملة ضدهم بطائفة ممن وثق بهم من الضباط والقواد مثل داستان وشانيه وغيرهما. وفضلًا عن ذلك فقد وجد منو أن من الخير له أن يقصي من هذه البلاد أكبر عدد ممكن من هؤلاء المعارضين له، وكانت الحملة التي شنَّها منو على أعدائه — سواء في مصر أو في فرنسا — حملة عنيفة، غرضها تشويه سمعة هؤلاء وإسقاطهم في نظر مواطنيهم في هذه البلاد وفي أوطانهم.

وعلى ذلك فقد راح منو يعرض على القواد جوازات سفر تمكِّنهم من العودة إلى فرنسا، ومع أن هؤلاء رفضوا أن يتركوا وظائفهم من غير أن يصلهم أمر صريح بذلك من القنصل الأول نفسه،٢١٦ فقد نجح منو في استمالة الجنرال فردييه إلى مغادرة هذه البلاد، والسبب في ذلك أن فردييه كان متزوجًا من سيدة إيطالية كرهت الإقامة في مصر، وألحت على منو نفسه في طلب العودة إلى فرنسا، فرحب منو بهذه الفرصة وكتب إلى فريان قومندان الإسكندرية٢١٧ أن يعدَّ لنقل فردييه وزوجه مركب البريد لوديجاجيه Le Dégagé، فأقلعا إلى فرنسا في ديسمبر، وكان فردييه يحمل معه رسائل عدة من منو، وكتم منو الخبر في أول الأمر، ولكن ما إن عُرِف رحيل فردييه — وكان من كبار المعارضين لمنو — حتى اشتد حقد سائر القواد على منو، كما وصف لانوس فردييه بالخيانة وتهكم عليه تهكمًا مرًّا فقال: «إن السيدة لويزا بيانكي قد سافرت ومعها فارسها!» ولم يكن فردييه موفقًا في رحلته فوقع هو وزوجه في قبضة الإنجليز.٢١٨ أمَّا سائر القواد فقد جددوا القسم أن يبقوا على عهدهم، فإما أن يغادروا البلاد جماعةً مع جيش الشرق نفسه، وإما أن يبقوا في مصر حتى يستدعيهم بونابرت من هذه البلاد رسميًّا،٢١٩ وزاد النضال من ذلك الحين بين منو وبين زعماء المعارضة شدة على شدته.
واتخذ منو من استناد المعارضة هذه في جوهرها إلى أن القائد العام لا يجب عليه أن يعتبر مصر مستعمرة فرنسية ذريعة لتشويه سمعة القواد والحطِّ من كرامتهم بين جنود الحملة ورجالها، فانطلق أنصاره ومؤيدوه يهمسون في آذان الجند في بادئ الأمر ثم يجهرون صراحةً بعد التمهيد لقبول دعاواهم أن جميع من حملوا لواء المعارضة ضد منو هم من مناوئي الاستعمار الفرنسي في هذه البلاد، وأن الغرض من تلك المظاهرة التي دبَّرها المعارضون يوم ٦ بريمير (٢٨ أكتوبر) كان التخلص من غريمهم والقبض عليه وحبسه، بل إن هؤلاء المعارضين من أنصار الجلاء عن مصر وإخلائها كانوا على صلة بالعدوِّ نفسه.٢٢٠ ولما كان المعارضون قد اتخذوا من كليبر «معبود» الجيش على زعمهم رمزًا لسياسة الجلاء التي بنوا عليها معارضتهم، فقد صمم منو على تحطيم هذا «المعبود» وتقويض عروش مجده كخطوة لا غنى عنها إذا هو شاء تحطيم «الكليبريين» أنفسهم، وهدم تلك الجماعة التي اعتقدت خطأً أو صوابًا أنها إنما تترسم خطوات قائد الحملة السابق فيما تفعله؛ فأذاع أنصار منو — كداستان وشانيه — في رسائلهم التي نشروها في مصر أو بعثوا بها إلى فرنسا كل ما من شأنه تحطيم مجد كليبر وتلطيخ ذكراه وتشويه سمعته.
وفضلًا عن ذلك فقد وجد منو أن يبطل مساعي أعدائه في فرنسا، حتى يضمن استبقاء مودة بونابرت وتأييده له، فشرع يفكر في أجدى الطرق لإقناع القنصل الأول بأن صرح الاستعمار الذي أرسى بونابرت بيده قواعده في مصر إنما يقوم على دعائم ثابتة متينة تنبئ بنجاح سياسته الاستعمارية، وهداه التفكير إلى أن خير ما يحقق ذلك حمل الديوان على إرسال تهنئة إلى بونابرت على تسلمه أزمَّة الحكم في فرنسا، وإعلان رغبتهم القاطعة في الانضمام إلى فرنسا، فكانت رسالة الديوان التي سبقت الإشارة إليها، وقد أرسلها منو بعد نقلها إلى الفرنسية يوم ١٤ نوفمبر إلى باريس مع خطاب منه إلى القنصل الأول،٢٢١ وأكد منو في هذا الخطاب مقدار ما يبذله من جهود حتى يكون أهلًا لذلك المركز الذي صار يشغله بفضل «تثبيت» بونابرت له في قيادة الحملة العامة، كما أكَّد إخلاصه وولاءه لحكومة الجمهورية «حتى آخر يوم من أيام حياته»، ولما كان يعرف حنين بونابرت إلى جيشه دائمًا، فقد حرص على أن يبعث إليه بتحيات جيش الشرق «الذي يمتثل دائمًا لأوامر القنصل الأول.» وفضلًا عن ذلك فقد تحدث منو عن إصلاحاته الكثيرة، ولم يفته أن يذكر أن أعضاء الديوان أنفسهم هم الذين سطروا كتابهم إلى بونابرت «فالكتاب كله من إنشائهم ومن ثمار قرائحهم»، ولم يتلقوا نصحًا أو إرشادًا من أحد حين إعداده، ولم يتدخل منو أو فورييه في شيء. وكان بعد هذه العبارات التي حملت في ثناياها إطراءً ظاهرًا للقنصل الأول أن انتقل منو بلباقة إلى الإشارة إلى كل أولئك الذين قال عنهم «إنهم يكيدون في الخفاء لإثارة خواطر الجيش والذين أُرغموا على التزام جادة الصواب بفضل امتناع الجيش عن التأثر بمكائدهم.»
على أنه مما تجدر ملاحظته أن الديوان لم «يتطوع» بالكتابة إلى بونابرت من تلقاء نفسه على نحو ما أراد منو أن يقول، بل كان الواقع على خلاف ذلك لأن منو هو الذي طلب من الديوان هذه الكتابة، ولم يشر الشيخ عبد الرحمن الجبرتي بشيءٍ إلى هذه الرسالة في تاريخه.٢٢٢ وفضلًا عن ذلك فقد رفض الجيش على الرغم من إلحاح منو أن يكتب رسالة أخرى في هذا المعنى نفسه إلى بونابرت كما فعل الديوان.٢٢٣
وانتهز منو فرصة تعيين ثيبودو Thibaudeau — وهو من أصدقائه — في أحد مناصب الدولة العالية فكتب إليه في ٢٨ نوفمبر٢٢٤ متحدِّثًا عن جهوده من أجل إقامة الحكومة المنظمة في مصر، ومُطريًا لصفات ثيبودو القانوني والمشرع البارع، كوسيلة تمهد له الكلام عن تاليان — وهو من رجال القانون المعروفين — وتناول شخصه بالنقد والتجريح، فقال: «وكم كنت أتمنى لو أني سعيد حقًّا أن أجد بجانبي مشرِّعًا للشرق يتصف بمثل الكفاءة والمقدرة التي يتمتع بها ثيبودو، ثيبودو الذي اشتُهر بصلابته «كالقضيب من الحديد». لقد صادفتني هنا عقباتٌ شديدةٌ كثيرةٌ، ولكني وقد تعلمت كيف أكون صليبًا من حديد كثيبودو نفسه قد تسنَّت لي مصارعتها والصمود أمامها. وإني لأذكر بمناسبة «القضيب الحديدي» أني تمكنت من أن ألفظ إلى أوروبا ثانية تاليان المعروف، وذلك بعد أن كانت أوروبا قد لفظته إلى أفريقيا، وكان هذا الرجل إلى جانب انشغاله بأسباب اللهو والتسلية في مصر يعمل لتحريك الجيش وحثه على الثورة والعصيان، ولقيت مساعيه ترحيبًا من جانب أولئك الذين كان الواجب يقتضيهم بفضل ما شغلوه من مناصب كبيرة ووصلوا إليه من رتب عالية؛ أن يكونوا قدوة حسنة ومثلًا طيِّبًا للآخرين، ولكنهم بدلًا من ذلك لم يجدوا غضاضة في إصغاء السمع إليه وقبول نظرياته الثورية، تلك النظريات التي أفسدتهم. أمَّا الجنود فقد أبوا الانسياق وراء هذا التحريض؛ وذلك لصفاء معدنهم، ولما تحلوا به من صفات الشرف والبسالة. ولما كان هؤلاء ينالون مرتبات حسنة ويجدون غذاءً كافيًا وأردية طيبة فقد باتوا على استعداد للسير إلى أطراف المعمورة، طالما يدعوهم الصالح العام إلى ذلك، فباءت مساعي الأشقياء بالفشل واضطروا إلى استئناف أعمالهم صاغرين، ورحل تاليان ينشر مفاسده في مكان آخر.»
وحمل منو على تاليان حملة شعواء، فكتب بعد يومين إلى فورفيه Forfait وزير البحرية في ٣٠ نوفمبر٢٢٥ ينفي نفيًا باتًّا أنه أعطى جوازًا للسفر إلى تاليان، بل صار «يشكو مُرَّ الشكوى من أولئك الربابنة الذين يجيزون لأنفسهم نقل أفراد لا يحملون جواز سفر على سفنهم!» ومن هؤلاء الأخيرين إنسار Insard صديق تاليان وأحد المشتغلين بالتجارة، كما أن تاليان وإنسار سمحا لنفسيهما بأن يأخذا معهما ثالثًا لا يحمل جوازًا للسفر هو المواطن جيلو Gilot، أحد الصيادلة المهرة، مع حاجة الحملة وجيش الشرق إلى الصيادلة عمومًا. ولم يشأ منو أن يدع الفرصة تمر دون أن يتهم تاليان بمحاولة إشاعة الاضطراب في صفوف الجند، وحمل جيش الشرق على التمرد والعصيان، غير أن منو لم يكن صادقًا حين ادعى أن تاليان غادر هذه البلاد دون «جواز للسفر»؛ لأن منو الذي لم يدَّخر وسعًا في حمل تاليان على السفر لإبعاده كان قد أعطاه جوازًا منذ ٢٨ أكتوبر ١٨٠٠م،٢٢٦ ومع ذلك فقد صدَّق القنصل الأول دعواه كما صدَّق كل ما قاله منو، فأصدر أمرًا بالقبض على تاليان في ٤ يناير ١٨٠١م «لأنه أقدم على مغادرة البلاد دون جواز للسفر بعد أن كان قد أثار فيها القلاقل والاضطرابات.»٢٢٧
ونشط أنصار منو يهاجمون الكليبريين ويعملون لتحطيم مجد كليبر نفسه دون هوادة، فمن ذلك أن شانيه كان قد أعد منذ أول بريمير (٢٣ أكتوبر) خطابًا مفصَّلًا إلى القنصل الأول، لم يشأ إرساله قبل أن يأخذ رأي قائد الحملة في ذلك، فبعث به إليه في ١٥ ديسمبر تاركًا له الخيار في إرساله إلى فرنسا أو إتلافه.٢٢٨ ولما كان هذا الخطاب بمثابة «صحيفة اتهام» ضد الجنرال كليبر وضد الكليبريين في مصر، كما كان بمثابة «شهادة» في صالح منو «ووثيقة تأييد له»؛ فقد اختار منو إرسال هذا الخطاب إلى بونابرت٢٢٩ وهو خطاب طويل، استهله صاحبه بذكر ما كانت تعانيه البلاد من أشد صنوف الحرمان عند مغادرة بونابرت لها، وهي حقيقة لا يخال شانيه — كما قال — أن بونابرت نفسه يجهلها، «ومع ذلك فقد لا يعرف القنصل الأول مقدار الحماس الذي قوبل به اختيار الجنرال كليبر لقيادة الحملة؛ وذلك لأن كليبر كان معدودًا من القديسين والملائكة، وفي وسعه أن يقوم بجلائل الأمور وأعظمها، وانتظر منه الجميع أن يفعل ذلك. أمَّا إذا خيب كليبر كل هذه الآمال المعقودة عليه، فإن إثمه لا شكَّ يكون عندئذٍ كبيرًا ونحن لا نبغي وزن أعماله وإصدار حكمنا عليه، لأن كليبر قد قضى نحبه، وللأجيال القادمة وحدها أن تفصل في أمره، وهذا حقها دون ريب. ومع ذلك فقد يعن لأحد الأفراد أن يقف على شيءٍ مما كان يفعله هذا القائد وحقيقة مسلكه في أفريقيا، فإذا تسنى للمرء أن يعرف ذلك وجد أن هناك تناقضًا ظاهرًا صريحًا بين ذلك التمجيد الذي دعا القوم لإقامة نصب تذكاري له تخليدًا لاسمه، وبين المنزلة الحقة التي كان يجب أن يوضع فيها هذا القائد في تقدير الناس؛ لأن كليبر لم يفعل شيئًا لإزالة المساوئ التي كان يعلو ضجيج الناس منها وقت اختياره للقيادة، بل إن هذه المساوئ ما لبثت أن ازدادت حتى تفاقم شرها في عهده، وامتنع كليبر عن توقيع العقوبة الرادعة على أولئك الذين تصرفوا في الأموال العامة وبددوها، ثم شمل بحمايته فعلًا هؤلاء السادرين في غوايتهم حتى استفحل الخطب، فصار الجنود لا يأكلون إلَّا خبزًا مخلوطًا بالقش وغيره من المواد الغريبة حتى عافته النفوس، ووصفه الجنرال منو وهو الرجل المحسن الأمين بأنه كان خبزًا يتردد المقترون والبخلاء في إطعام كلابهم منه!»
وحمل شانيه على الإدارة الإقليمية في عهد الجنرال كليبر فقال: إن حكام المديريات الفرنسيين كالجنرال رينييه وزملائه رامبون وفردييه وداستان وبواييه Boyer ساموا أهل الأقاليم صنوفًا من العذاب، فأثقلوا كاهلهم بالضرائب الفادحة، وجاروا عليهم في الحكم جورًا عظيمًا حتى برح بهم الألم، وأفضى هذا الإرهاق الشديد إلى تخريب أقاليم برمتها في دمياط والشرقية وسائر جهات الدلتا. وإن مثلًا واحدًا لما كان يفعله هؤلاء ليعد كافيًا لبيان نوع هذه الحكومة الإقليمية الغاشمة، فقد وجد بواييه ذات مرة أن من الخير له أن يفني قافلة من العرب بأكملها بعد أن استولى على تجارة أصحابها حتى لا يطالبه أحد بشيء، مع أن هؤلاء العرب كانوا من أصدقاء الفرنسيين. وفضلًا عن ذلك فإنه بدلًا من أن يُعنَى الحكَّام المعينون في السويس بدعم العلاقات التجارية بين هذا الميناء وسائر موانئ البحر الأحمر، اهتم هؤلاء بفرض الغرامات الفادحة على السفن التي قد يدفعها سوء الطالع إلى السويس، علاوة على الاستئثار لأنفسهم بالجزء الأكبر من التجارات التي تأتي بها هذه السفن، ثم تحصيل ضريبة ثقيلة على تلك التجارات التي شاءوا أن يتركوها لأصحابها.

ولا شكَّ في أن الجنرال كليبر كان لا يجهل هذه الحقائق التي عرفها جيش الشرق بأسره، ولم يكن هذا حال الحكَّام وحدهم، فقد اشترك معهم في ارتكاب هذه الآثام قومسييرو الحرب، وهم الذين كانوا «عصبة من الأشرار — على حدِّ قول شانيه — الذين رفعوا نقاب الحياء عن وجوههم، وتجردوا من كل عفة»، وجاراهم في ذلك سائر الموظفين في فروع الإدارة المختلفة. وقد وصف شانيه هؤلاء أيضًا بأنهم كانوا طائفة من «حثالة القوم» لا يُرجى أي خير من حضورهم مع الجيش إلى مصر. أمَّا سائر ضباط الحملة فإنهم سرعان ما صاروا ينسجون على منوال قوادهم ورؤسائهم، وهكذا ضجت البلاد من شرورهم وآثامهم، وصار أهلها يئنون من شراهة وقسوة المرءوسين، إلى جانب جور الرؤساء وعسفهم بهم، ثم لم تنجُ المستشفيات من شرور هؤلاء الآثمين، فامتدت إليها أيدي اللصوص والنهابين، واكتظت حجراتها بالمرضى والجرحى الذين أعوزهم من يقوم على خدمتهم أو يسهر على علاجهم، «فقضوا نحبهم وهم يستمطرون اللعنات على تلك الدولة التي دافعوا عنها، وعلى حكومتها التي خدموها فنبذتهم الآن نبذ النواة، وتركتهم يموتون دون شفقة أو رحمة.»

وكانت هذه ولا شكَّ صورة قاسية لحكومة الجنرال كليبر تكفي إذا ثبت أنها صحيحة لتقويض عروش مجده، ومع ذلك فقد وجد شانيه أن يطعن هذا القائد وجماعة الكليبريين طعنة نجلاء لا سبيل بعدها لإحياء ذكرى كليبر أو لبقاء معارضة الكليبريين إذا هو استطاع أن يندد بسياسة الجلاء عن مصر وما جرَّت إليه، كمرض عضال يطلب كل إنسان الفرار منه للنجاة بنفسه؛ ولذلك فقد سمَّى شانيه هذه السياسة «تسليمًا دنيئًا» اضطر صاحبه تبريرًا له أن يلطِّخ بالعار سمعة جيش الشرق، عندما عزا «كليبر» تلك الضرورة الملحة للمفاوضة مع العدو إلى وجود حركات جزئية من العصيان والتمرد يرى شانيه من المحتمل «أن حدوثها كان بإيعاز من الجنرال كليبر نفسه». ولعل السبب في ذلك، كما قال، أن كليبر كان يعتقد خطأً أن الجبن وخور العزيمة قد تطرَّقا إلى الجنود فخشي من هزيمة الجيش إذا هو اشتبك مع العدو في معارك فاصلة، ومع ذلك فإنه سرعان ما بدد هذا الجيش أوهام كل أولئك الذين طعنوا في بسالة الجنود وكفاءتهم فأحرز جيش الشرق انتصار هليوبوليس الباهر بالرغم من رداءة المواقع التي اتخذتها قواته وقت القتال.

وينقد شانيه سوء توزيع القوات الفرنسية في أثناء هذه المعركة فيقول: لو أن الجيش كان موفَّقًا في اختيار مواقعه وتوزيع قوَّاته لامتنع على ستة آلاف من العثمانيين والمماليك دخول القاهرة، ولظل على قيد الحياة ثمانية آلاف فرنسي من البواسل الشجعان الذين ذهبوا ضحية هذا الحادث، بل إن اعتقاد كليبر الخاطئ بانتشار التمرد والعصيان في جيشه دعاه لأن يترك العريش تسقط في يد العدو، وهكذا ضحَّى كليبر بسبب وقوعه تحت هذا الوهم الباطل بحوالي ستمائة جندي، وما كان يحمله على فعل ذلك في واقع الأمر سوى كراهيته الشديدة لمشروع الحملة الفرنسية على مصر، ثم كان بعد أن تمت هذه التضحية أن راح كليبر يتلمس بسببها أعذارًا جديدةً لإخلاء البلاد والجلاء عنها، ومع ذلك فقد أنشئوا له نصبًا تذكاريًّا، وكان الأحرى بهم أن يقيموا لذكراه نصبًا يبقى دليلًا إلى الأبد على ذلك الغضب الذي تشعل جذوته في النفوس دائمًا ذكرى هذا «القاتل». ولم يشأ شانيه أن يقصر حملته الشعواء على كليبر فحسب، بل صب جام غضبه كذلك على داماس رئيس هيئة أركان حربه فقال: إن جرم داماس ومسئوليته كانا يزيدان في خطورتهما على جرم ومسئولية كليبر نفسه؛ لأن داماس كان صاحب تأثير كبير على كليبر، وقد استخدم سلطانه عليه في جر النكبات على الجيش وإلحاق الأذى والدمار بفرنسا، حتى فقدت الجمهورية كل ما عقدته من آمال على إمكان الوصول في وقت قريب إلى إبرام الصلح العام في أوروبا.

تلك كانت حال الجيش الباعثة على اليأس إذن عندما تسلم الجنرال منو زمام القيادة العامة، وكان عليه أن يقوم بعمل حاسم لاستئصال كل هذه المفاسد، وقد صحَّ عزم منو على فعل ذلك. ووصف شانيه ضخامة الجهود التي يتطلبها مثل هذا العمل الحازم فقال: «وإذ فسد أمر كبار رجال الدولة فاضمحل ذلك الروح المعنوي العالي الذي يحول دون انتشار المساوئ وعم البلاء، بات العمل من أجل القضاء على المفاسد وإرجاع النظام عملًا شاقًّا قاسيًا يقتضي جهدًا جبارًا وهمةً فذةً عاليةً. ولذلك فإن ما فعله منو في مصر لتحقيق هذه الغاية لَيشبه تمامًا ما فعله بونابرت نفسه في فرنسا. آية ذلك أن ما أدخله منو من ضروب الإصلاح الأولى على الإدارة لينهض دليلًا على أن هذا القائد رجل شريف نبيل قد صح عزمه حقًّا على إصلاح الجيش.» ولما كان شانيه يريد التنديد بمعارضة القواد فقد عزا ظهور هذه المعارضة غير النزيهة إلى رغبة هؤلاء في إبطال كل أثر لإصلاحات منو خوفًا على مصالحهم ومنافعهم الشخصية فقال إن الوجل سرعان ما حملهم على تأليف حزب لتعطيل هذه الإصلاحات، ثم أكثروا من عقد الاجتماعات السرية في بيوت رينييه وهكتور دور وداماس لتدبير المؤامرات ضد منو، واشتطوا في نقدهم له ولأعماله، ولكن منو لم يأبه لهم ومضى قدمًا في إصلاحاته، وخسر هؤلاء ثقة القائد العام في أشخاصهم، وتوهم القواد أن منو قد أهمل أمرهم عن ضعف واستخذاء، وأن طيبة منو دليل على جبنه وخور عزيمته، فأرادوا أن يعزلوه من القيادة، وأوفدوا رسلهم إلى ضباط الحاميات في القاهرة يجسون النبض تمهيدًا لهذا الانقلاب.

ثم قص شانيه كيف أن واحدًا من هؤلاء الرسل جاء لاستثارته ضد منو حتى إذا احتدم النقاش بينهما لم يتردد هذا الرسول عن الجهر صراحةً بأنه لن يعترف بالجنرال منو ممثلًا للحكومة الفرنسية في هذه البلاد، وأنه لن يدين بالطاعة لغير الجنرال رينييه وحده إذا حدث انقسام في الجيش. وقد استمرت هذه الدسائس كما قال شانيه حتى جاء أمر بونابرت بتثبيت منو في القيادة فقطع هذا «الأمر» دابرها، وإن كان لا يزال هناك طائفة من أولئك الذين أضمروا العداء لمنو وجيش الشرق بأسره، وصمموا في إصرار وعناد على عدم نسيان الماضي، وحقدوا على منو أنه كشف عن نواياهم السيئة للقنصل الأول؛ ولذلك فقد توسل شانيه إلى بونابرت أن يستدعي إلى فرنسا كل أولئك الذين يعرقلون بأعمالهم نشاط قائد الحملة العام، لما يترتب على استدعائهم من صون المصلحة العامة وتأمين جيش الشرق على سلامته في مصر.

واستمرت الحملة ضد «ذكرى» كليبر وضد الكليبريين عمومًا، فكتب لاجرانج،٢٣٠ رئيس هيئة أركان حرب الجنرال منو ومن أخلص أصدقائه، إلى بونابرت في ١٩ يناير ١٨٠١م يهدم سمعة كليبر ويندد بسياسة الجلاء عن مصر، فقال عن كليبر إنه «رجل عرفت أوروبا عنه كما عرف العالم أجمع أنه أراد إخلاء مصر والخروج من هذه البلاد، وأنه ظل يعمل لتحقيق هذه الغاية حتى مماته.» ولما كان انتصار هليوبوليس قد أكسب كليبر صيتًا بعيدًا، فقد حاول لاجرانج هدم هذا الصيت العسكري، فنفى أن كليبر نفسه كان صاحب الفضل في هذا الانتصار الذي تم بالرغم من الأوامر التي أصدرها يطلب فيها من الجيش عدم الاشتباك مع العدو في قتال أو الالتحام معه في أية معركة. وفضلًا عن ذلك فإن سبب الانتصار الحقيقي كان وقوع «حادث مفاجئ» في أثناء القتال أفضى إلى النصر الذي أكسب جيش الشرق مجدًا وفخارًا، في الوقت الذي ظل فيه ذلك القائد المتردد الذي أحب السلام دائمًا يطلب المفاوضة مع العدو. وعزا لاجرانج رغبة كليبر في الجلاء عن مصر، وكل ما ترتب على ذلك من أخطاء وقع فيها هذا القائد، إلى حقيقة واحدة هي أن استيلاء الفرنسيين على هذه البلاد كان من فعل بونابرت نفسه «وأحد فتوحاته»، أمَّا إذا حُرم جيش الشرق من قيادة منو فإن مصر لا محالة واقعة في قبضة العدو بعد شهر واحد فقط من هذا الحرمان.
تلك صورة لنوع الحملات التي كان يشنُّها كل فريق على الآخر، ومنذ أن اعتزم الجنرال منو المضي في حملاته ضد القواد المعارضين جهرًا وعلانية صار إخفاء أمر هذا الانقسام والشقاق على الجيش متعذرًا، فشاعت أخبار الخلاف بين الجنود، واشترك صغار الضباط في النزاع القائم، ونشطت أعمال الجاسوسية فصار كل فريق يتجسس على الفريق الآخر، وبدأ عهد من الذعر والخوف والكراهية والجبن، حتى ملك الفزع قلوب كثيرين، وبات العقلاء يخشون أن يفضي ذلك كله إلى نتائج وخيمة.٢٣١ وزادت الكراهية بين منو والكليبريين عندما أنجب قائد الحملة من زوجه المسلمة الرشيدية ولدًا في ٧ فريمير من سنة الجمهورية التاسعة (٢٧ نوفمبر ١٨٠٠م)، فسمَّاه سليمان مراد منو، وكان اختيار اسم سليمان اختيارًا غير موفَّق لمطابقته لاسم سليمان الحلبي قاتل الجنرال كليبر، فقد اتخذ الكليبريون من هذه التسمية دليلًا آخر على كراهية منو لسلفه في القيادة، وعلى أن منو قد قرر البقاء في مصر بصورة لا تحتمل شكًّا أو جدلًا، فاتهمه القواد بأنه إنما يريد البقاء في مصر والابتعاد بها عن محيط السياسة الأوروبية حتى يجعلها بمنأى عن تقلبات الحوادث في أوروبا، مستخدمًا جيش الشرق في هذه البلاد لتحقيق مآربه.٢٣٢ وعندما أصدر منو أمرًا يوميًّا في ٣١ ديسمبر ١٨٠٠م بتخصيص الجزء الأكبر من الأموال التي جمعت لإقامة نصب تذكارية لكل من ديزيه وكليبر معًا للإسراع في تشييد النصب الخاص بالجنرال ديزيه؛٢٣٣ ثبت لدى الكليبريين أن منو ما عاد يهتم بإخفاء عدائه لهم.

وفي فبراير ١٨٠١م حدث عند إذاعة خبر القبض على تاليان أن اتهم أحد أنصار منو في اجتماع كان يضم بعض أصدقاء الكليبريين كلًّا من رينييه وهكتور دور إلى جانب تاليان نفسه بتحريض الجيش على الثورة، ونُقل الخبر إلى الجنرال رينييه. وكان مما زاد الطين بلة أن راجت الإشاعات وقتئذٍ كذلك بأن الجنرال فيال عند رحيله من الإسكندرية كان قد هدد الكليبريين بأنه سوف يطلع القنصل الأول على «الشيء الكثير» من أخبار الفرنسيين الذين نصبوا أنفسهم لمناوأة الاستعمار في مصر. وفضلًا عن ذلك فقد عمد منو من مدة قريبة إلى توجيه التهم إلى رينييه — وكان يحكم إقليم الشرقية ومكلَّفًا برقابة الحدود السورية — فنسب إليه التهاون والتفريط في أداء واجبه، حتى إنه ترك العربان يذهبون بالمؤن إلى الجيش العثماني بقيادة الصدر الأعظم. ثم اتسعت شقة الخلاف بين منو وقواده عندما ذاع في مصر خبر تلك الخطابات والتقارير التي أرسلها منو إلى فرنسا ثم نشرتها الصحف الفرنسية، وكانت تزخر بعبارات المديح والثناء على إدارة منو النشيطة المُصلحة في مصر، فانبرى رينييه وزملاؤه يدحضون هذه «المفتريات» على زعمهم، وصاروا ينقدون بقسوة ومرارة أوامر منو اليومية إلى الجيش وقراراته ومنشوراته، كما جرءوا على تصوير قائد الحملة العام في صور هزلية مضحكة، وهزءوا به وسخروا من كتاباته، وتهكموا عليه بسبب أسلوبه الخطابي وطريقة حديثه، ثم أمعنوا في النكاية به فاتخذوا من حياته الخاصة وزواجه من سيدة مسلمة موضوعًا للفكاهة والتسلية، وانطلقوا يسمونه ما شاء لهم الخيال وأملته عليهم الزراية بشخصه أن يسموه به، فهو تارة «الجنرال المخادع»، وتارةً أخرى «الجنرال الثوري» إشارة إلى نشاطه أيام الثورة في فرنسا، أو «الجنرال المضحك». وهكذا حتى توترت العلاقات بين الفريقين واهتاجت النفوس، وبات من المتوقع أن ينفجر بركان الغضب سريعًا وعند أول بادرة. وقد حدث هذا الانفجار عندما أصدر منو في ٢٣ بليفوز من سنة الجمهورية التاسعة (١٢ فبراير سنة ١٨٠١م) أمرًا يوميًّا أحدث ضجة كبيرة، وكان من أخطر أسباب تفرق الكلمة في وقت كان لا مناص فيه من الاتحاد لدفع خطر الغزو عن هذه البلاد، حينما أطبقت جيوش العدو عليها من كل جانب.

جازيت دي فرانس «جريدة فرنسا»

وكان سبب صدور هذا الأمر اليومي أن البريد حمل عددًا من أعداد جريدة فرنسا Gazette de France إلى مصر في غضون شهر يناير ١٨٠١م، استرعى انتباه منو لمقال توهَّم أن أعداءه هم المسئولون عن كل ما جاء به من أخبار وتعليقات كان الغرض منها هدمه وإقصاءه من قيادة الحملة. وكانت جريدة فرنسا قد درجت على نشر ما يصلها من هامبورج والقسطنطينية عن مصر ونشاط رجال الحملة بها، فنشرت في العدد ١٠١٧، الصادر في ٥ فندميير من سنة الجمهورية التاسعة (٢٧ سبتمبر ١٨٠٠م)، رسالة واردة من هامبورج بألمانيا مؤرَّخة في ١٥ سبتمبر تحمل أنباء البريد الإنجليزي الصادر من لندن في ٥ سبتمبر وقد اشتملت رسالة لندن هذه على طائفة من المعلومات والأخبار المستقاة من الرسائل الواردة إلى لندن من شواطئ الشام ومن الوجه البحري في مصر بين ١٠ و١٥ يوليو ١٨٠٠م؛ أي إن مقال جريدة فرنسا كان يستند في جوهره على أخبار واردة من مصر نفسها.
فتحدث المقال عن عقد مؤتمر في يافا في ٢٢ يونيو ١٨٠٠م حضره الصدر الأعظم والقبطان باشا والريس أفندي والكخيا بك والسير سدني سمث لبحث الطريقة التي يمكن بها تنفيذ اتفاق العريش، وقد حمل قراراتهم أحد الضباط في ليل ٢٣-٢٤ يونيو في طريقه إلى مصر، ولكنه سرعان ما وصل نبأ اغتيال كليبر إلى المعسكر العثماني في مساء يوم ٢٨ يونيو وانتقال قيادة الحملة إلى منو الذي أبلغ الحلفاء هذا الخبر. ولما كان الجنرال منو قد اعتنق الدين الإسلامي وتزوج من مسلمة، ويعتقد الأتراك أنه يطمع في الدخول في زمرة البكوات المماليك؛ فقد ثبت لدى العثمانيين والإنجليز أن القائد العام الجديد سوف تشتد معارضته لاتفاق العريش، آية ذلك أن الجنرال منو كان على رأس حزب الاستعمار في مصر، وزعيم المعارضة التي احتجت على عقد اتفاق العريش أيام كليبر، ثم إنه استقال من منصبه في حكم الإسكندرية ورشيد، واضطر كليبر إلى تعيين الجنرال لانوس بدلًا منه. ثم مضى صاحب المقال يقول: وفضلًا عن ذلك فقد لقيت رغبة منو في البقاء تعضيدًا من جانب بونابرت الذي أرسل لهذه الغاية الضابط «لاتور موبورج» من نحو ثلاثة شهور مضت، ثم تعززت الرغبة في البقاء بفضل الانتصارات التي أحرزها الفرنسيون في إيطاليا؛ ولذلك فقد بات مقضيًّا على كل أمل في إمكان استمرار المفاوضات للتعارض الواضح بين ما يهدف إليه العثمانيون وحلفاؤهم منها، وبين رغبة منو الشخصية في البقاء في مصر، ثم ما تهدف إليه كذلك سياسة القنصل الأول. وقد استند منو في تمسكه بالبقاء في مصر إلى أسباب عدة، منها تعذر الوثوق بوعود الأتراك، واغتيال الجنرال كليبر، بل إن منو ما لبث حتى قطع كل صلة له مع الأتراك، ولم يكتب إلَّا للسير سدني سمث وحده، وقد فهم السير سدني من كتاب منو أنه وإن كان لا يرفض فكرة استئناف المفاوضة من أجل إخلاء مصر فهو من ناحية أخرى لا يجيز لنفسه اتخاذ أي إجراء في هذا الشأن دون موافقة القناصل؛ أي إن منو يقول إنه كان يعتزم القتال والمقاومة، «ولذلك فمن الواضح أن تجديد اتفاق العريش قد بات اليوم متعذرًا، إلَّا إذا حدث أمر واحد هو قيام الجنود الفرنسيين بالتمرد والعصيان، حتى يتسنى بذلك عزل الجنرال منو وإعطاء القيادة العامة إلى قائد آخر من أنصار سياسة الجلاء عن مصر وإخلائها.» ولكنه لما كان من المخاطرة أن يعتمد المرء كثيرًا على وقوع مثل هذا الحادث فحسب لتنفيذ الجلاء، فقد بات من واجب الباب العالي أن يفكر جديًّا فيما يجب عليه اتخاذه من وسائل فعالة لإخراج الفرنسيين من هذه البلاد بطريق الحرب وامتلاك مصر ثانية. وعلى ذلك فقد صار شغل الباب العالي الشاغل هو إنجاز الاستعدادات اللازمة لإرسال الإمدادات الكبيرة إلى الصدر الأعظم. وقد استطاع أن يبعث إليه فعلًا بحوالي ثلاثة آلاف مقاتل ثلثهم من الفرسان، هذا بينما استأنف القبطان باشا والسير سدني سمث التجول في المياه المصرية، بل إن هناك ما يدل على أن الاتفاق قد تم على تضييق الحصار على الموانئ المصرية وتأييد هجوم الصدر الأعظم البري على مصر من جهة البحر كذلك.٢٣٤

ذلك كان مقال جريدة فرنسا، وقد وضح من خلال سطوره أن الفكرة الظاهرة التي أملت هذا الكلام كانت تدور حول أمور ثلاثة؛ أولها: أن كل أمل قد انقطع في استئناف المفاوضة من أجل جلاء الفرنسيين عن مصر «سلمًا» بسبب وفاة كليبر؛ لأن خلفه في القيادة كان من كبار مؤيدي مشروع استعمار مصر. وثانيها: أنه من المتعذر تنفيذ اتفاق العريش طالما كان منو على رأس الحملة، وأن مصلحة العثمانيين والإنجليز تقتضيهم لذلك أن يُقصوا منو من القيادة العامة، وهو أمر يصعب تحقيقه من غير قيام جيش الشرق بحركة عصيان خطيرة تنتقل بفضلها مقاليد الأمور إلى قائد آخر من مؤيدي مبدأ الجلاء؛ أي من أولئك الكليبريين الذين تزعموا المعارضة ضد منو كالجنرالات رينييه وداماس ورامبون. وثالثها: أن غزو مصر بات متوقعًا في القريب العاجل بسبب استعداد الصدر الأعظم لبدء هجومه على مصر.

وقد اهتم منو بهذا المقال اهتمامًا شديدًا، وكان مما استأثر بكل انتباهه وسبَّب له الانزعاج العظيم ذلك الجزء من المقال الذي تحدث فيه صاحبه عن تعذُّر تنفيذ اتفاق العريش ما دام منو يشغل منصب قائد الحملة العام، ولا حيلة للخروج من هذا المأزق إلَّا بحدوث ثورة في جيش الشرق تسفر عن إقصاء منو عن القيادة وإفساح الطريق لقائد آخر من أنصار سياسة الجلاء. وكان من الطبيعي أن تتجه شكوك منو إلى أعدائه ومعارضيه الذين بذلوا كل ما وسعهم من جهد وحيلة لعزله. وكان وجه الخطر في ذلك كله أن أخبار هذا الانقسام قد بلغت العدو الذي بات يعتمد على استغلال هذا الضعف الداخلي ورغبة المعارضين في العودة إلى الوطن في تنفيذ مآربه. واعتقد منو أن المسئول عن ذلك هم رينييه وسائر الكليبريين الذين خدموا بفعالهم العدو ضد مصلحة الوطن وإن حدث ذلك بطريق غير مباشرة.

وفكر منو فيما يجب اتخاذه من وسائل لإحباط مؤامرات أعدائه، فقرأ مقال جريدة فرنسا على أصدقائه وأنصاره في ٢١ يناير ١٨٠١م،٢٣٥ ثم كتب إلى الجنرال برتييه Berthier وزير الحربية الفرنسية في ٦ فبراير٢٣٦ يجدد الشكر للقنصل الأول ويؤكد ولاءه وإخلاصه له وولاء «أكثرية الجيش الكبرى» لبونابرت وعزمهم على تنفيذ رغبته في الاحتفاظ بمصر بكل قوة، ثم تحدث عن مثيري الفتن والاضطراب في الجيش وإخفاقهم بسبب انصراف الجنود عنهم، وانتقل من ذلك إلى الكلام عن العدد الذي وصله أخيرًا من جريدة فرنسا والذي لو قرأ برتييه ما جاء فيه لعرف حقيقة ما يدبره «أعداء المصلحة العامة» من مشروعات هدامة، إلى أن قال: «ومع أن هذه الجريدة قد أُرسِلت إليَّ من فرنسا فإني أجهل مرسلها، وعلى كل حال فالواضح الجلي أن أولئك الذين أرادوا تحريك الفتنة والاضطراب في مصر قد وجدوا وسيلة لإذاعة أخبار مشروعاتهم في أوروبا، ولا جدال في أنهم يبغون من ذلك التأكد مما إذا كان هناك من يؤيدهم فيما يريدونه.» وقد حمل هذه الرسالة رسول زوده منو بتفصيلات كثيرة يُطلع عليها الجنرال برتييه عند وصوله.٢٣٧
ومع أنه كان يعوز منو الدليل المادي والبرهان القاطع على أن رينييه والكليبريين هم المسئولون حقيقة عن «إذاعة أخبار مشروعاتهم في أوروبا»؛ فقد كان واضحًا من ناحية أخرى أن أخبار جيش الشرق كان ينقلها الجواسيس تباعًا إلى أوروبا، وبات لزامًا على قائد الحملة عندئذٍ أن يحذر الجند من أعدائهم الذين يتجسسون عليهم، كما أدرك أن القضاء على «مشروعات» المعارضة المؤذية ضروري إذا هو أراد إلحاق الفشل بمشروعات العدو الذي يعتمد في تنفيذها على وجود الانقسامات الداخلية. ولم يكن هناك مناص إذن من أن يعمل على جمع الكلمة على أساس طاعة الجند لرئيس الحملة وقائد جيش الشرق طاعةً تامةً، ووضع كل ثقتهم في شخصه والاطمئنان إلى قيادته. وعلى ذلك فقد ظل منو يترقب الفرص المؤاتية للقيام بعمل حاسم ضد أعدائه ومعارضيه خصوصًا، وواتته الفرصة عندما وصلت إلى مصر في الأسبوع الأول من شهر فبراير أنباء الاعتداء على بونابرت في باريس ومحاولة اغتياله.٢٣٨ وتفصيل ذلك أن فوضويًّا كان قد دبَّر مكيدة في ٢٤ ديسمبر لاغتيال القنصل الأول وهو في طريقه إلى دار الأوبرا، فوضع في شارع سان نيكاز Saint-Nicase برميلًا من البارود فوق عربة، ولكن البرميل ما لبث أن انفجر بعد مرور بونابرت بلحظات معدودة، فنجا القنصل الأول وقتل كثيرون غيره، فعظم سخط الرأي العام في فرنسا واتهم الفرنسيون الإنجليز بتدبير هذه المكيدة حتى يتخلصوا من بونابرت عدوهم الأكبر. فوجد منو في هذا الحادث ضالته المنشودة لتحذير جيش الشرق من العدو الغادر من جهة، وللقضاء على المعارضة من جهة أخرى حتى يضمن جمع الكلمة والقضاء على الانقسام.

وعلى ذلك فقد رأى منو أنه إذا عمد إلى إذاعة أخبار هذا الحادث المروع ثم أضاف إليه مقال جريدة فرنسا استطاع إذكاء نار الكراهية الشديدة ضد الإنجليز في صدور جنوده وإلهاب حماستهم، فلا يعودون يصغون إلى أقوال معارضيه أو يأبهون «لتحريضهم»، فأصدر في ٢٣ بليفوز (١٢ فبراير ١٨٠١م) أمرًا يوميًّا إلى الجيش سرعان ما اكتسب شهرة ذائعة في تاريخ الحملة في مصر على أيام منو، حتى صار يعد بسبب ما ترتب عليه من نتائج وخيمة من أهم العوامل التي قضت على كل اتفاق بدلًا من توحيد الصفوف، والتي مهدت بذلك لانتصار العدو بدلًا من إنقاذ مصر وبقاء هذه المستعمرة الجميلة في حوزة فرنسا.

الأمر اليومي في ٢٣ بليفوز

وصف منو في هذا الأمر اليومي حادث الاعتداء على حياة القنصل الأول، ثم علَّق على هذا الحادث بقوله، موجهًا الخطاب إلى جنود جيش الشرق: «إن الأشرار الذين أرادوا اغتيال القنصل الأول قد اعتمدوا في تنفيذ مأربهم على جماعة أو حزب من الأجانب، سواء كان ذلك في فرنسا أم في أفريقيا أو في سائر أجزاء أوروبا؛ يعملون دون هوادة لقلب الجمهورية، ولا يتورعون في سبيل ذلك عن استخدام كل الطرق كالقتل العمد وبذر بذور الفساد والتحريض على العصيان والثورة. وقد شخصت أبصار هذه الجماعة إلى مصر فجرءوا على الظن أن في وسعهم أن يحيدوا بكم عن طريق الشرف والصواب … ولقد رأيت أن أذكر لكم شيئًا وأضع تحت بصركم وناظريكم ذلك المقال الذي نشرته «جريدة فرنسا»، وإليكم نص هذا المقال بأكمله …» ثم أثبت منو المقال برمته، واختتم أمره اليومي بقوله: «وإنه ليحق لي دون ريب أن أحنق حنقًا عظيمًا على أولئك الأجانب الذين تتألف منهم هذه الجماعة، ولقد صارحتكم القول من اللحظة الأولى التي تشرفت فيها بتسلم قيادتكم أن حكومة الجمهورية فحسب هي التي يسعها أن تصدر الأوامر إليكم بإخلاء هذه البلاد، كما صارحتكم القول بأن إخلاصكم للوطن يتطلب منكم أن تبذلوا في سبيله كل تضحية، فإذا كان الواجب يقضي علينا بالهلاك والفناء في مصر هلكنا وفنينا جميعًا، ونحن ما نزال في عداد أولئك الجمهوريين الذين قاموا بكل واجب عليهم، ولا ريب في أننا سوف نفقد أمام العالم أجمع كل شرف إذا تركنا هذه البلاد دون أن يصلنا في ذلك أمر حكومي صريح. ومع ذلك فلا حاجة بي للتحدث إليكم باستفاضة عن هذه المبادئ، وأنتم الذين تعرفون معانيها السامية بقدر معرفتي أنا لها، ولكنني ما قصدت من حديثي معكم إلَّا توضيح مبلغ خيانة أعدائكم وغدرهم ثم إرشادكم إلى ما يلجأ إليه أعداؤنا من وسائل دنيئة لقلب الجمهورية وهدمها.»٢٣٩
وكان منو على حق في تحذيره جيش الشرق من الانسياق وراء «المحرضين» وتذكير الجنود بواجب الطاعة المفروضة عليهم لقائد الحملة، فقد كان معروفًا وقتئذٍ أن ثمة مراسلات تجري بين الشاطئ المصري وبين السفن الإنجليزية في عرض البحر لإبلاغ السير سدني ما يقع من حوادث في داخل البلاد كما ذكر بليار في خطاب له إلى منو أنه عثر على منشورات مهيجة في القاهرة.٢٤٠ وفضلًا عن ذلك فقد ذكر الشيخ الجبرتي في حوادث ٩ رمضان ١٢١٥ﻫ/٢٤ يناير ١٨٠١م، أن العثمانيين كانوا يراسلون «سيدي محمود وأخاه سيد محمد المعروف بأبي دفية»، كما كانت ترد الرسائل إلى سيدي محمود عن طريق السيد أحمد المحروقي «فكان يقصد إلى قليوب ويتلقى ورود القاصد ويرد له الجواب»، بل إن سيدي محمود (أو محمود أفندي) كان يتلقى إلى جانب ذلك بعض المنشورات المكتوبة بالفرنسية «لتوزيعها ووضعها في أماكن معينة، حيث سكن الفرنساوية»، ووقف منو على حقيقة ذلك كله.٢٤١ ومن ناحية أخرى كان هذا الأمر اليومي يتضمن نفس المبدأ الذي جاء به «نداء» منو القديم إلى جيشه في ٢٢ يونيو ١٨٠٠م من حيث مطالبة الجنود بالطاعة التامة لقائد الحملة، وترك تقرير الجلاء عن مصر أو البقاء بها في يد حكومة الجمهورية، فلم يأتِ أمرًا جديدًا.
ومع ذلك فقد أثار هذا الأمر اليومي ثائرة القواد عندما أخذوا يقرءونه بإمعان وتدبر خلال الثلاثة الأيام التالية (٢٣–٢٥ بليفوز)، ويقلِّبون وجوه الرأي في محتوياته، ثم ذهبوا إلى أن منو إنما كان يشير إليهم وحدهم عندما تحدث عن أولئك الذين اعتمد عليهم الحزب الأجنبي في قلب الجمهورية وهدمها وتحريض جيش الشرق على العصيان والثورة. بل ذهب بهم الوهم كل مذهب فتخيلوا أن منو وحده هو صاحب هذا المقال الذي نشرته جريدة فرنسا والذي تضمنه أمر منو اليومي، فكتب رينييه تعليقًا على ذلك كله: «إن إشاعات ذاعت في فرنسا عن وجود حزب مناهض للاستعمار في مصر قوامه كل أولئك الذين تمتعوا بثقة كليبر، ثم ما لبثت هذه الإشاعات أن ازدادت رواجًا عند وصول الرسائل والتقارير إلى فرنسا من مصر، كما نشرت الصحف الفرنسية بعض المقالات في صور رسائل واردة إليها من بلدان أجنبية؛ وذلك لتأييد هذه الترهات بدعوى أن العدو نفسه كان واقفًا عليها ويعلم بأمرها. ومن الواضح أن الجنرال منو كان يجد في ذلك وسيلة لاتخاذ الحيطة لنفسه، «حتى يضيع أثر ما يكتبه معارضوه ضده»، وحتى يثير عاصفة من الشبهات حول نفر كان في استطاعتهم وحدهم أن يفضحوا أمره.»٢٤٢ وفسر رينييه مقال جريدة فرنسا تفسيرًا يختلف تمامًا عما ذهب إليه منو نفسه فقال: «إن هذا المقال قد أُفرِغ في قالب يوحي بأن كاتبه ضابط إنجليزي، لأن الغرض من كتابته لم يكن سوى إظهار الجنرال منو في صورة أكثر القواد صلاحية لتولي مهمة الدفاع عن مصر، وأنه لن يتسنى للعدو استرجاع هذه البلاد إلَّا إذا قام جيش الشرق بالثورة وأُقصي منو من القيادة واستُبدل به قائد آخر للحملة من بين الجماعة التي ناوأت الاستعمار على زعمهم والتي ادعوا وجودها زورًا وبهتانًا.»٢٤٣

وكان مما حمل القواد على الاعتقاد بأن منو هو صاحب هذا المقال الذي أراد من نشره في فرنسا تلطيخ سمعتهم بين مواطنيهم؛ أنه حدث أن عُرِفت في مصر وقتئذٍ الصحف الفرنسية التي نشرت كل تلك الرسائل الرسمية التي بعث بها منو إلى فرنسا في غضون شهر يوليو ١٨٠٠م. وكان المركب الفرنسي «أوزيريس» الذي غادر هذه البلاد في ١٠ يوليو قد حمل هذه الرسائل إلى فرنسا، فاعتقد رينييه وزملاؤه أن منو قد عمد إلى إرسال هذا المركب سرًّا من الإسكندرية حتى يذيع في أرض الوطن أنباء تأليف حزب مناوئ للاستعمار من أولئك الذين عُرِفوا بتأييدهم لاتفاق العريش.

ولما أن تضافرت كل هذه العوامل لإقناع القواد المعارضين أن منو إنما كان يعمل لإلحاق الأذى بهم وإهانتهم وتحطيم سمعتهم في مصر وفرنسا معًا وإثارة كراهية القنصل الأول ضدهم؛ صحَّ عزمهم على أن الوقت قد حان للعمل ونبذ الصمت ظِهريًّا، «لأن الضرر — كما قال رينييه — قد أصبح الآن ظاهرًا واضحًا»، ولا سبيل إلى المراءاة والمداهنة إذا شاءوا تجنبه. وعلى ذلك فقد بادر هؤلاء بتحرير خطابات شديدة اللهجة إلى منو يطلبون فيها أن ينفي القائد العام عنهم رسميًّا كل تلك الاتهامات التي ألصقها بهم دون حساب بطريق غير مباشر، كما هددوه بإذاعة هذه الخطابات ونشرها على الملأ إذا هو أحجم عن تكذيب الاتهامات الموجهة ضدهم.٢٤٤ فنشأت من ذلك حال غريبة حقًّا عندما شُغل القواد ورئيسهم بتبادل الرسائل في الفترة التالية وإرسال الخطابات إلى أصدقائهم وإلى القنصل الأول في فرنسا في وقت كان العدو قد اتخذ أهبته للانقضاض على البلاد وغزو مستعمرتهم برًّا وبحرًا.
فقد بعث رينييه بكتاب إلى منو في ١٤ فبراير ١٨٠١م٢٤٥ يتساءل فيه عن الغرض الذي حدا بقائد الحملة العام إلى إصدار أمره اليومي (في ٢٣ بليفوز)، ويطلب إيضاحًا كاملًا لمعنى نشر تلك الرسائل التي يُقال إنها صادرة من إنجلترا بعد وصف حادث الاعتداء على حياة القنصل الأول، كأنما يقصد منو من ذلك إلى أن هناك عددًا من الأفراد في جيش الشرق لا وطنية ولا شرف لهم يحولان دون انضمامهم إلى أعداء الجمهورية، مما ألحق أكبر الأذى بسمعة هذا الجيش. وفضلًا عن ذلك فقد طلب رينييه من منو أن يقولها كلمة صريحة إذا كان يرغب في رواج هذه الإشاعات الكاذبة عن رينييه وزملائه، على أنه لما كان ما حدث قد سبب لهم الإهانة فقد بات لزامًا على منو أن ينفي نفيًا قاطعًا كل تلك الأقوال التي جاءت في أمره اليومي، أمَّا إذا امتنع منو عن فعل ذلك فإن رينييه سوف يرى لزامًا عليه هو الآخر حينئذٍ أن يبعث بصورة من كتابه هذا إلى جميع ضباط وجنود الحملة مع مذكرة صغيرة تبسط في صدق ودون مواربة حقيقة تلك الخطوة التي قام بها القواد في ٦ بريمير الماضي. وقال رينييه في ختام رسالته: وإذا كان لدى منو بوصفه القائد العام السلطة اللازمة والوسائل الكفيلة بنشر ما يريد وإذاعته، فإن لدى رينييه وإخوانه كذلك أقلامهم يشرعونها في وجه منو، وفي وسعهم أن يجدوا من الوسائل ما يكفل إطلاع الجيش وإطلاع الوطن على حقيقة الأمر والواقع.
وفي اليوم التالي (١٥ فبراير) بادر كل من داماس ولانوس وبليار بعرض شكاواهم، فأكد داماس٢٤٦ أنه لا وجود لجماعة مناوئة للاستعمار في مصر إلَّا في مخيلة منو فحسب، أمَّا إذا كان منو يريد من نشر مقال جريدة فرنسا إلحاق الأذى بمعارضيه، فإن داماس لن يحجم من جانبه عن إعلان خديعة منو وغدره على الملأ وإظهار أعداء الجمهورية الحقيقيين. ونسج لانوس على منوال داماس، بل كان أقسى لهجة منه عندما اتهم منو صراحةً بأنه كان صاحب المقال، وقال إن الأسلوب الذي أُفرغ فيه مقال جريدة فرنسا ليدل دلالة واضحة على مقدار ما بلغه خبث صاحبه وخداعه، «ذلك أنه إذا أمعن القارئ النظر في تلك العناية المصطنعة التي أراد صاحبها أن يصوِّر منو في صورة من استقال من حكومة الإسكندرية ورشيد وقت اتفاق العريش، بينما يعرف جميع الناس الظروف التي تسلم فيها لانوس حكم تلك الجهات من منو قبل هذا الاتفاق بثلاثة شهور على الأقل، وكيف أن منو قضى هذا الوقت بل كل الوقت الذي حاصر فيه العدو القاهرة قابعًا في رشيد برغم كل ما وصله من أوامر لاستدعائه إلى مكان آخر؛ لأدرك القارئ حقيقة صاحب المقال وعرف كاتبه.» وعرض لانوس لأسباب كراهية منو له، فعزاها إلى ذلك الاستياء الذي أظهره لانوس من تسلم منو لقيادة الحملة، فكانت هذه الكراهية مصدر جميع المؤامرات التي دبرها منو ضده وجميع ما ألقى من شبهات لتشويه إدارته، حتى استُدعي هو الآخر من حكومته إلى القاهرة، ثم قال متوعِّدًا: «ولكن فلينتظر منو ما يفعله لانوس به عندما ينشر على الناس قاطبةً كل ما يعرفه عن خبث منو ومكره وخداعه!» وشذ بليار عن زميليه فكان أقرب إلى الاعتدال في لهجته، فطلب من منو «إيضاحًا صادقًا» عما إذا كان هناك حزب مناوئ حقًّا للحكومة في مصر، وتساءل عما إذا كان منو يعتبره من أعضاء هذا الحزب إذا وجد، واستند بليار في طلب هذا «الإيضاح» إلى ضرورة هذا العمل من أجل جمع الكلمة وتوحيد الصفوف وإعادة الثقة إلى النفوس، وهي أمور لا غنى عنها جميعها لضمان نجاح العمليات العسكرية المقبلة واستتباب الهدوء والسكينة.٢٤٧
وكان اتهام منو بأنه صاحب مقال جريدة فرنسا اتهامًا خطيرًا، وإن كان لا يستند إلى شيء من الحقيقة والواقع. وفضلًا عن ذلك فقد أثار أمره اليومي الصادر في ٢٣ بليفوز عاصفةً من الاضطراب وهياج الخواطر لم يكن منو يتوقعها، وكان لا مناص إذن من العمل لتسكين هذه العاصفة وتهدئة الأعصاب المتوترة. وعلى ذلك فقد بادر منو بالإجابة على هؤلاء القواد في نفس اليوم الذي وصلته فيه رسائلهم.٢٤٨ وكانت ردوده جميعها مفرغة في قالب واحد، بدأها منو بإنكار ونفي وجود أية صلة بين ما نشره في أمره اليومي وبين ما يشكو منه قواده، بل أعلن أنه ما كان يقصد بتاتًا أن يشير في شيءٍ إلى أحدٍ منهم، وإنما كان كل ما قصد إليه الإشارة إلى «جماعة من الأجانب» دأبت على العمل من أجل قلب الجمهورية منذ أن بدأت الثورة الفرنسية، ولم تكن هذه الجماعة سوى الإنجليز الذين يريدون تحريض الجيش على الثورة والعصيان، والذين أذاعوا المنشورات المهيجة في القاهرة، وأنشئوا من مدة صلات وثيقة مع بعض العناصر في الإسكندرية للوقوف على حقيقة ما يحدث في داخل البلاد، ومن الواضح كذلك أن الإنجليز أنفسهم هم الذين كتبوا المقال الذي نشرته جريدة فرنسا.
ومع وضوح هذا الرد وبالرغم من تلك الصراحة التي توخاها منو في الإجابة على رسائل قواده، فإن هؤلاء لم يقنعوا بها، فكتب إليه رينييه في اليوم نفسه (١٥ فبراير)٢٤٩ أن إجابته لا تشفي غليلًا ولا تروي ظمأً؛ لأن منو لم يشأ أن ينفي بصورة رسمية كل تلك المفتريات التي أُذيعت في الجيش والتي صدر أمر ٢٣ بليفوز اليومي على ما يبدو لتأييدها. أمَّا إذا كان الإنجليز يبغون من نشر هذا المقال إثارة الاضطراب في جيش الشرق، فقد نفذ منو مأربهم عندما أذاع المقال في أمره اليومي، ولا مراء في أن الإنجليز لا يحجمون عن اللجوء إلى كل ما يحقق أغراضهم لانتزاع مصر من قبضة الجمهورية، فلا يتورعون في سبيل ذلك عن حبك خيوط المؤامرات وتدبير المكائد، ولا مراء في أن الواجب يقتضي منو أن يبذل قصارى جهده لإحباط مساعيهم ومطاردة وكلائهم، ولكن إذاعة الأوامر اليومية على نمط ما جاء في أمر ٢٣ بليفوز لن يحقق شيئًا من ذلك. ثم أشار رينييه إلى كتابه الذي بعث به إلى منو يوم ١٤ فبراير وما تضمنه من «حقائق يعرفها منو معرفة جيدة، وله وحده إذا شاء أن يعترف بها وأن يجيب عليها بصراحة تبعث الرضا التام» في نفس رينييه وزملائه.
ولكن منو لم يشأ «الاعتراف بهذه الحقائق» على النحو الذي أراده رينييه، واكتفى عندما كتب له في اليوم الثاني٢٥٠ بأن صار يسترعي انتباهه إلى أن الصالح العام يقتضي وضع حد حاسم لهذا النقاش الدائر بينهما. كما قال إن ما يريد أن يفسر به رينييه ما جاء في أمره اليومي يتعارض تمامًا مع نص هذا الأمر اليومي وروحه، فضلًا عن أن منو نفسه لم يكن يفكر وقتئذٍ في شيء مما ذهب إليه رينييه بتاتًا. ثم ختم كتابه قائلًا: «ومن الواجب علينا ألا نشغل أنفسنا في هذه البلاد إلَّا بأمر واحد فحسب هو صون المصلحة العامة.»
ولما لم يقتنع رينييه وزملاؤه بهذه الإجابة، فقد عمدوا إلى إذاعة رسائلهم إلى منو حتى انتشر خبرها في أوساط الجيش، وقضى القواد علاوةً على ذلك الأيام الأربعة التالية حتى يوم ١٩ فبراير في كتابة الخطابات إلى أصدقائهم في فرنسا، فبعث رينييه بعدة رسائل إلى برتييه وسان سير ومورو ثم إلى بونابرت، وكتب داماس إلى دوجا وإلى القنصل الأول، وأرسل رينييه صورًا من خطاباته إلى منو مع المذكرة التي سبق أن أرسلها القواد مع أوجست داماس لتبرير خطوة ٦ بريمير المعروفة، ثم صورة من رسالته التي طلب فيها تعيين قائد آخر للحملة بدلًا من منو (في ٢٤ نوفمبر ١٨٠٠م)، ومن خطابه إلى منو في ١٥ فبراير، وحمل هذه الرسائل إلى فرنسا الجنرال فوجيير Fugière والضابط باريه Barré. وطلب القواد في رسائلهم استدعاءهم من مصر، كما حذَّروا أصدقاءهم من عواقب بقاء منو في قيادة الحملة، كما طلبوا من أصدقائهم أن يبذلوا قصارى جهدهم لاستمالة بونابرت إلى جانبهم. وقضى منو وقته كذلك في الكتابة، فبعث إلى القنصل الأول برسالة في ٢٧ فبراير ١٨٠١م٢٥١ تحدث فيها «عن أخطاء من المحتمل أن تكون قد وقعت، وعن خلافٍ في الرأي من المحتمل كذلك أن يكون قد حدث فيما دار من نقاش حول فتح مصر والاحتفاظ بها، ولكن مرد ذلك كله إلى تلك الظروف السيئة التي قضى عليها انقلاب ١٨ بريمير (الذي أوصل بونابرت إلى القنصلية)، فلم يكن منشأ هذه الأخطاء والاختلافات إذن نسيان الواجب أو إغفال صالح الوطن»، ثم طلب منو الرأفة والرحمة من بونابرت بأولئك الرجال من جيش الشرق الذين ربما أثاروا شكوك القنصل الأول من ناحيتهم بسبب أخطائهم.

وهكذا أضاع منو وقواده وقتهم الثمين في كتابة الرسائل والتراشق بالتهم والدخول في مهاترات لا جدوى منها ولا طائل تحتها في وقتٍ كان الواجب يقتضيهم جميعًا أن ينبذوا خلافاتهم ظِهريًّا، وأن يبذلوا كل ما وسعهم من جهد وحيلة لجمع الكلمة والوقوف صفًّا واحدًا أمام عدو يتفوق عليهم في العدد والعدة، ويتخذ تدابير واسعة للانقضاض عليهم وطردهم من هذه البلاد التي لم يعرفوا كيف يحتفظون بها؛ ذلك أن الإنجليز كانوا قد أرسلوا حملتهم إلى الشواطئ المصرية بعد رسالة منو الأخيرة إلى بونابرت بأيام قليلة معدودة، كما تحرك جيش العثمانيين على حدود البلاد الشرقية لغزوها.

١  Reynier, 97.
٢  Martin II, 141.
٣  Rigault, 93.
٤  Galland I, 279–83; Bricard, 424-5; Pièces Diver. 429-30; Pièc. Offic. 286–8; Richardot No. 21 pp. 448-9.
٥  Pièc. Diver. 430-1; Pièc. Offic. 288-9; Galland I, 282-3.
٦  Pièc. Offic. 317–22; Pièc. Diver. 450–4; Galland I, 284–90.
٧  Pièc. Diver. 456–61; Pièc. Offic. 326–32; Bricard, 422–6; Martin II, 125.
٨  Rigault, 94.
٩  Bricard, 423.
١٠  Douguereau, 393.
١١  Vertray, 165.
١٢  Martin II, 136.
١٣  Rigault, 95.
١٤  Ibid. 100.
١٥  Bricard, 422.
١٦  Rigault, 97.
١٧  Pièc. Offic. 342–6; Pièc. Diver. 467–70; Bricard, 433–5; Rigault, 97–9 (5 Messidor An VIII—24 Juin 1800); Galland I, 294–8 (6 Mess. An 8).
١٨  Rigault, 100.
١٩  Bricard, 436.
٢٠  Rigault, 102.
٢١  Galland I, 299; Pièc. Offic. 273-4.
٢٢  Charles-Roux, II, 76.
٢٣  Testa II, 22-3; Rousseau, 327–9; Pièc. Diver. 462–4; Pièc. Offic. 334–7; Richardot, 455-6.
٢٤  Rigault, 107.
٢٥  Testa II, 23-4; Pièc. Off. 337–42; Pièc. Diver. 464–7.
٢٦  Charles-Roux II, 77.
٢٧  Barrow II, 63-4.
٢٨  Charles-Roux II, 77.
٢٩  Galland I, 309; Desgenettes (Mem. I), 154.
٣٠  Pièc. Diver. 50–2.
٣١  Pièc. Off. 308–16.
٣٢  Rigault, 107-8.
٣٣  Martin II, 133.
٣٤  Reynier (Memoires), 146-7.
٣٥  Rousseau, 357–63; Reynier, 192–7.
٣٦  Rigault, 113–5.
٣٧  Rousseau, 100-1.
٣٨  Rigault, 116.
٣٩  Pièc. Off. 354–6.
٤٠  Galland I, 314–9.
٤١  Reynier, 118.
٤٢  Rigault, 122.
٤٣  Ibid. 123.
٤٤  Ibid. 132.
٤٥  Ibid. 134.
٤٦  الجبرتي ٣: ١٤١-١٤٢.
٤٧  الجبرتي ٣: ١٤٢.
٤٨  الجبرتي ٣: ١٤٢-١٤٣.
٤٩  الجبرتي ٣: ١٤٣-١٤٤.
٥٠  Rousseau, 367–73; Reynier (Mém. 166–72); Pièc. Div. 567–70.
٥١  Reybaud VIII, 72–4; Rousseau, 382–93.
٥٢  Rigault, 258-9.
٥٣  Pièc. Off. 394-5; Pièc. Diver. 305, 500.
٥٤  Rigault, 107.
٥٥  Pièc. Off. 385-6; Pièc. Div. 497–9.
٥٦  Rousseau, 348.
٥٧  Pièc. Div. 484-5; Pièc. Off. 367–9.
٥٨  Rigault, 168.
٥٩  Lokke et Debien, 349.
٦٠  Ibid. 355.
٦١  Rigault, 169.
٦٢  Pièc. Div. 524; Pièc. Off. 426.
٦٣  Rigault, 172 et Sqq.
٦٤  Pièc. Offic. 402.
٦٥  Rigault, 174.
٦٦  Pièc. Div. 496; Pièc. Off. 384.
٦٧  Rousseau, 355-6.
٦٨  Pièc. Off. 402; Pièc. Div. 508.
٦٩  Rigault, 175.
٧٠  Rigault, 176-7; Bertrand II, 155.
٧١  Rousseau, 378–80.
٧٢  Ibid. 359.
٧٣  Jonquière II, 344-5.
٧٤  سرهنك ١: ٣٦٩، ٤٩٢.
٧٥  Rigault, 180.
٧٦  الجبرتي ٣: ١٥١.
٧٧  الجبرتي ٣: ١٢٢.
٧٨  (Extrait du No. 75 du Courrier de L’Egypte, 9 Thermidor an 8) Pièc. Div. 490.
٧٩  (Extrait du No. 78—6 Fructidor an 8) Pièc. Off. 341–399.
٨٠  Galland II, 23–8.
٨١  Rigault, 146-7.
٨٢  Ibid. 148-9.
٨٣  الجبرتي ٣: ١٤٤.
٨٤  Jonquière II, 276; Corresp. No. 3516.
٨٥  Pièc. Dive. 500; Pièc. Off. 390.
٨٦  Rigault, 153.
٨٧  Pièc. Div. 537–46; Pièc. Off. 444–57.
٨٨  الجبرتي ٣: ١٤٤-١٤٥.
٨٩  Pièc. Off. 489–93; Reynier (Mém) 166–62; Rousseau, 367–75.
٩٠  Rigault, 160.
٩١  Galland II, 10-11.
٩٢  Galland II, 6–11; Testa II, 26–8.
٩٣  الجبرتي ٣: ١٤٩.
٩٤  Galland II, 31–6.
٩٥  الجبرتي ٣: ١٤٩–١٥١.
٩٦  Pièc. Div. 549-50; Pièc. Off. 462-3.
٩٧  Rigault, 160-1.
٩٨  Galland II, 30.
٩٩  Bertrand II, 59–61.
١٠٠  Reybaud VIII, 61-2.
١٠١  Rigault, 162.
١٠٢  Reybaud, VIII, 58-9.
١٠٣  Reynier (Mém.), 192-3; Rousseau, 358-9.
١٠٤  Pièc. Div. 522; Pièc. Off. 423-4; Rousseau, 353-4.
١٠٥  Rousseau, 353; Pièc. Div. 523; Pièc. Off. 433.
١٠٦  Reybaud VIII, 106-7.
١٠٧  نقولا التركي، ٢٠٠-٢٠١.
١٠٨  Martin II, 168.
١٠٩  Reybaud VIII, 108.
١١٠  Martin II, 170.
١١١  نقولا التركي، ٢٠١.
١١٢  Martin II, 171.
١١٣  Reybaud VIII, 110; Martin II, 172-3.
١١٤  Galland II, 117.
١١٥  Rousseau, 375-6.
١١٦  الجبرتي ٣: ١٤٥.
١١٧  Pièc. Off. 354.
١١٨  Pièc. Div. 488; Ibid. 372–5.
١١٩  Pièc. Off. 476–9.
١٢٠  Ibid. 420.
١٢١  Ibid. 419.
١٢٢  Ibid. 428–30.
١٢٣  Ibid. 458.
١٢٤  Ibid. 385.
١٢٥  Rigault, 261.
١٢٦  Reynier, 105.
١٢٧  Pièc. Div. 504; Pièc. Off. 396.
١٢٨  Rigault, 264.
١٢٩  Villiers, 269.
١٣٠  Galland II, 12–14; Ibid. 288.
١٣١  Bricard, 447; Doguereau, 395; Villiers 288; Martin II, 145.
١٣٢  Reynier, 89–91.
١٣٣  Ibid. Chapitres VI-VII.
١٣٤  Rousseau, 336-7.
١٣٥  Richardot (Pièce No. 31), 465-6.
١٣٦  Rigault, 189.
١٣٧  Martin II, 147.
١٣٨  Rousseau, 17.
١٣٩  Martin II, 148.
١٤٠  Pièc. Off. 405-6.
١٤١  Galland I, 329.
١٤٢  Rousseau, 334.
١٤٣  Pièc. Off. 476.
١٤٤  Rigault, 195-6.
١٤٥  Martin II, 149.
١٤٦  Reynier, 106-7.
١٤٧  Martin II, 151.
١٤٨  Rigault, 185-6.
١٤٩  Ibid. 197.
١٥٠  Martin II, 156.
١٥١  Pièc. Off. 64–6.
١٥٢  Martin II, 160.
١٥٣  Pièc. Div. 531; Pièc. Off. 436-7.
١٥٤  Rigault, 194.
١٥٥  Galland I, 323-4.
١٥٦  Dogureau, 124; Bricard, 448; Malus, 200.
١٥٧  Rigault, 199.
١٥٨  Reynier, 129.
١٥٩  Reybaud VIII, 94.
١٦٠  Rigault, 199.
١٦١  Reynier, 128-9.
١٦٢  Ibid. 129.
١٦٣  Ibid. 125.
١٦٤  Ibid. 126.
١٦٥  Reybaud VIII, 95.
١٦٦  Reynier, 129.
١٦٧  Rigault, 201; Ibid. 129.
١٦٨  Reybaud VIII, 95.
١٦٩  Martin II, 158.
١٧٠  Ibid. 158.
١٧١  Reybaud VIII, 95-6.
١٧٢  Martin II, 161.
١٧٣  Reynier, 202.
١٧٤  Ibid. 131.
١٧٥  Rigault, 202.
١٧٦  Pièc. Div. 564.
١٧٧  Reynier, 127.
١٧٨  Ibid. 130-1.
١٧٩  Rigault, 203-4; Martin II, 159; Ibid. 130.
١٨٠  Villiers, 261.
١٨١  Rigault, 202.
١٨٢  Reynier, 131-2.
١٨٣  Rigault, 204; Ibid. 125.
١٨٤  Pièc. Div. 572-3.
١٨٥  Rousseau, 431.
١٨٦  Reynier, 133.
١٨٧  Reybaud VIII, 101.
١٨٨  Bricard, 442–6.
١٨٩  Rigault, 201; Rousseau, 337-8.
١٩٠  Reynier, 133.
١٩١  Ibid. 133.
١٩٢  Pièc. Div. 477–83.
١٩٣  Rousseau, 344; Ibid. 515.
١٩٤  Pièc. Div. 519.
١٩٥  Rousseau, 351.
١٩٦  Reybaud VIII, 101.
١٩٧  Rousseau, 366.
١٩٨  Pièc. Div. 504–6.
١٩٩  Rigault, 228; Martin II, 162.
٢٠٠  Reynier, 134.
٢٠١  Rigault, 205.
٢٠٢  Malus, 199.
٢٠٣  الجبرتي ٣: ١٥١.
٢٠٤  Rigault, 210.
٢٠٥  Reynier, 137.
٢٠٦  Martin II, 163; Ibid. 139-140.
٢٠٧  Rigault, 205.
٢٠٨  Reynier, 137.
٢٠٩  Pièc. Off. 110–70; Pièc. Div. 303–44.
٢١٠  Reynier, 135; Pièc. Div. 574–7; Pièc. Off. 494–504.
٢١١  Reynier, 139.
٢١٢  Rigault, 205.
٢١٣  Ibid. 206.
٢١٤  Rigault, 206–9.
٢١٥  Reynier, 139.
٢١٦  Rigault, 207.
٢١٧  Rousseau, 380-1.
٢١٨  Villier, 289.
٢١٩  Rigault, 209.
٢٢٠  Ibid. 266.
٢٢١  Rousseau, 373–5; Testa, 26–8; Galland II, 6–11.
٢٢٢  الجبرتي ٣: ١٤٤–١٤٦.
٢٢٣  Reynier, 142.
٢٢٤  Rousseau, 377-8.
٢٢٥  Ibid. 380.
٢٢٦  Rigault, 201; Ibid. 377-8.
٢٢٧  Corresp. No. 5253.
٢٢٨  Reynier, 183 (Chanié… Au Général en Chef Menou…).
٢٢٩  Reynier, 183 (Note. 1), 184–90 (Chanié… Au Premier Consul 23/10/1800).
٢٣٠  Richardot, 458–62 (Pièce No. 28); Rigault, 268-9.
٢٣١  Malus, 199-200.
٢٣٢  Rigault, 267.
٢٣٣  Ibid. 269 (Note. 1).
٢٣٤  Rigault, 272–4.
٢٣٥  Reynier, 143.
٢٣٦  Rousseau, 396-7; Ibid. 391-2.
٢٣٧  Reynier, 391; Rousseau, 397 (Note. 1).
٢٣٨  Bricard, 449.
٢٣٩  Rigault, 275-6.
٢٤٠  Ibid. 276.
٢٤١  الجبرتي ٣: ١٥٢.
٢٤٢  Reynier, 141.
٢٤٣  Ibid. 143.
٢٤٤  Ibid. 144.
٢٤٥  Ibid. 176–8.
٢٤٦  Richardot, 462–4 (Pièce No. 29).
٢٤٧  Rigault, 279–81.
٢٤٨  Rousseau, 397-8.
٢٤٩  Reynier, 178-9; Richardot, 464-5 (Pièce No. 30).
٢٥٠  Rigault, 282.
٢٥١  Rigault, 285.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥