الفصل الخامس

خروج الفرنسيين

تمهيد

كان للخلاف الذي حدث بين الجنرال منو قائد الحملة الفرنسية العام في مصر وبين الجنرال رينييه أكبر القواد الفرنسيين خبرةً بفنون الحرب وأعظمهم تمتُّعًا بثقة الجنود بعد وفاة كليبر؛ آثارٌ خطيرةٌ قضت على تلك المستعمرة الفرنسية التي أراد منو قبل أي إنسان آخر إنشاءها في مصر، وأرغمت الفرنسيين على مغادرة البلاد وسط سلسلة من الهزائم كان الأمل كبيرًا في استطاعة «جيش الشرق» أن يجتنبها لو أن التفاهم بين الرجلين كان موجودًا. فقد نجم عن انعدام كل تفاهم بين القائدين أن ظل منو يرفض مرة بعد أخرى ما كان يتقدم به رينييه من آراء حصيفة بصدد الدفاع عن المستعمرة. فنظر إليها نظرة المستريب الحانق، لا يحيد عن خططه التي رسمها لنفسه، أو عاونه فيها عددٌ من الضباط والقواد الذين ما كانوا يرقَون بتاتًا إلى مراتب الصدارة في الجيش لو أن رجلًا غير عبد الله جاك منو كان قائد الحملة العام في مصر. وفضلًا عن ذلك فإن أحدًا من معاصريه لم يشهد له بالدراية في فنون الحرب والقتال. وقد سبب إغفال آراء رينييه ونصائح زملائه الذين انتموا إلى حزبه فشل عمليات الفرنسيين العسكرية في الدفاع عن القاهرة والإسكندرية ضد جيوش الإنجليز والعثمانيين الكبيرة، التي استطاعت هزيمة شراذم الفرنسيين المبعثرة في الدلتا وإرغام القاهرة والإسكندرية على التسليم في وقتٍ كان بونابرت القنصل الأول يبذل قصارى جهده لنجدة جيش الشرق في مصر ويتخذ العدة لخلاصه، ثم أفلح في مسعاه فعقد مع غرمائه الإنجليز (مقدمات الصلح) في لندن قبل وصول أخبار انهزام منو وعزمه على بدء المفاوضات من أجل التسليم بثماني ساعات فقط.١
وقد يسوغ كثيرون تسليم منو بأن جيش الشرق كان قد نال منه المرض والتعب، وأنهكت قواه الحروب حتى نقصت صفوفه نقصًا ملحوظًا،٢ وذلك دون أن تصله نجدات كافية تسد ثغرته وتقيل عثرته، فتركته الحكومة الفرنسية يناضل ضد جيوش تفوقه عددًا وعدةً، بينما هي قد طالبت قائد الحملة العام بالصمود فترة أخرى من الزمن تمكِّن حكومة القنصل الأول من عقد الصلح العام في أوروبا، واتخاذ وجود جيش الحملة في مصر وسيلة للمساومة من أجل الوصول إلى شروط أدعى لتأييد المصالح الفرنسية في الشرق.٣ وكان من المحتمل كذلك أن يبقى الفرنسيون في مصر٤ فتتوطد أقدامهم في تلك المستعمرة الجديدة التي قرَّ الرأي على إنشائها في الشرق على أسس جديدة تختلف كل الاختلاف عن تلك القواعد التي كان عمل الفرنسيين بها من أهم أسباب ضياع إمبراطوريتهم الاستعمارية القديمة.٥

وقد يكون هذا القول سليمًا في ظاهره، ويجد ولا شك ما يؤيده بصدد بقاء المستعمرة المصرية الجديدة في حوزة الفرنسيين لو أنه كان ميسورًا للاستعاضة عن حقائق التاريخ بضروب الافتراض وشتى أنواع الاحتمالات، على أنه لا جدال من ناحية أخرى في أن منو قائد الحملة العام كان في وسعه أن يطيل أمد المقاومة ردحًا من الزمن لو أنه استمع إلى النصح وأصغى لآراء سائر القواد المحنكين وأحسن تصريف الأمور. وفضلًا عن ذلك فإن القول بترك الحملة وشأنها وإقصاء النظر في مصيرها من تدابير الحكومة الفرنسية اتهام لا يستند إلى شيءٍ من الحقيقة، ولا يمكن أن يخلي القائد العام من مسئولية التعجيل بخروج الفرنسيين من مصر وفشل تجربتهم الاستعمارية «الجديدة» في أهم ميادين الشرق الجديدة.

بونابرت وإحياء البحرية الفرنسية

فقد حرص بونابرت وهو بمصر على أن يظل طريق الاتصال مفتوحًا بينه وبين حكومة الإدارة في باريس، وبذل قصارى جهده من أجل إطلاع أعضائها على أمهات الحوادث في مصر وتزويدهم بآرائه، بقصد اتخاذ الوسائل الكفيلة بإمداد الحملة بالجند والذخائر والمؤن، وذلك على الرغم من يقظة الإنجليز الذين سهر أسطولهم في البحر الأبيض خصوصًا لمنع كل اتصال بين جيش الشرق وأرض الوطن. وفي اليوم الذي غادر فيه بونابرت مع عمارة الحملة طولون في ١٩ مايو سنة ١٧٩٨م أمر بإعداد قافلة من السفن المحملة بالإمدادات اللازمة، على أن يخرج قسمٌ منها في آخر مايو يحمل ألفًا من الجند إلى جانب المؤن والذخائر، بينما تغادر الميناء سفينتان مسلَّحتان من السفن التي استولى عليها الفرنسيون من جمهورية البندقية حوالي ١٠ يونيو.٦
وقد قام بالإشراف على تجنيد هذه القافلة نارجاك Narjac مدير المهمات، الذي كلَّفه بونابرت علاوة على ذلك بموافاة الحملة بأخبار الإنجليز من وقت مغادرة الفرنسيين طولون إلى وقت وصولهم إلى الشواطئ المصرية. وانكب نارجاك على عمله بكل همة حتى أنجز إعداد ستة وعشرين مركبًا، واستطاع أن يرسل في عرض البحر اثني عشر مركب بريد وصلت أكثرها إلى مالطا سالمة، وبلغت الشاطئ المصري فأفلتت من رقابة الإنجليز.٧ ولما كان الأسطول الإنجليزي دائب الحركة في البحر الأبيض ينتقل من موضع إلى آخر باحثًا عن العمارة الفرنسية، فقد استطاع الفرنسيون الاستيلاء على مالطا،٨ ونقل أخبار سقوطها إلى فرنسا مركبٌ محايد تيسَّر له مصادفةً أن يشهد هجوم الفرنسيين على الجزيرة،٩ بيد أن الإنجليز سرعان ما شددوا الرقابة في البحر الأبيض، فاستولوا في أواخر شهر يوليو على رسائل بونابرت التي بعث بها الفرقاطة سنسيبل Sensible، وتحمل كذلك أعلام فرسان القديس يوحنا وأسلاب الحرب التي غنمها الفرنسيون في مالطا. أمَّا حكومة الإدارة فقد ظلت تجهل تفاصيل الحوادث الحقيقية حتى بلغتها أخبارها عن طريق رسول نزل في نابولي، وعندئذٍ بادرت بكتابة خطاب تهنئة إلى بونابرت في ٦ يوليو وصل به لوسمبل Lesimple إلى القاهرة في ٩ سبتمبر.١٠
وكان مما أزعج أعضاء حكومة الإدارة وأقضَّ مضاجعهم تجوال أسطول الإنجليز المستمر في البحر الأبيض، وخوفهم من عثوره على العمارة الفرنسية بعد إقلاعها من مالطا، وما إن بلغهم في غضون شهر أغسطس نبأ ظهور «نلسن» ثانيةً في صقلية (في ١٨ يوليو)، يتموَّن بها بمساعدة النابوليتان، حتى اطمأنوا بعض الشيء لإمكان إفلات العمارة الفرنسية ووصولها بسلام إلى الشاطئ المصري. ولو أن هذا ما كان يعني في الوقت نفسه انتفاء كل خطر على الحملة، أو أنه في استطاعة تلك القافلة المجهزة في طولون الإبحار إلى مصر، بينما كان نارجاك نفسه يفقد كل ثقة في قدرة هذه القافلة الصغيرة على المرور بسلام، واختراق نطاق الحراسة الإنجليزية في البحر الأبيض، بل إن حكومة الإدارة ما لبثت أن أصدرت أوامرها إلى نارجاك بتسريح أكثر سفن النقل بعد تفريغ المؤن والذخائر منها، وإعادتها إلى المخازن حتى تحين فرصة استخدام هذه المؤن والذخائر لتموين كورسيكا ومالطا، بصورة تمكِّن هاتين الجزيرتين من مقاومة الإنجليز إذا اعتدى هؤلاء عليهما.١١ وظلت حكومة الإدارة تترقب وصول أخبار حاسمة من جانب بونابرت ترشدها إلى ما يجب عليها فعله.
وأدرك بونابرت أهمية تزويد حكومة الإدارة بالأخبار الصحيحة عن سير عمارته الناجح ونزول الحملة بسلام على الشاطئ المصري، فبعث برسولين إلى فرنسا بعد نزول جيش الشرق في جهة العجمي (١، ٣ يوليو) بأيام قليلة، ولكنهما لم يستطيعا الوصول إلى فرنسا، فلم يتجاوز أحدهما في رحلته مالطا، بينما وقع الآخر في أسر الأتراك. ولما كان العربان قد أفلحوا في قطع الطريق بين القاهرة والشاطئ فترة من الزمن، فقد تعذَّر على بونابرت إرسال أية أخبار قبل تأمين المواصلات الداخلية، ومع ذلك فقد شاء سوء الطالع أن يقع رسول له بعد أيام في أيدي الإنجليز (في ٧ أغسطس)، فاستولى هؤلاء على عددٍ من خطابات كانت معه ما لبثوا أن نشروها مع غيرها من الرسائل التي وقعت في أيديهم بعد ذلك. وفي أواخر أغسطس غادر موثي Mothey مصر برسائل من بونابرت، فبلغ أنكونا في ٢٨ سبتمبر ثم باريس في ١٦ أكتوبر، فكانت هذه أول ما وصل من رسائل بونابرت إلى حكومة الإدارة رأسًا.١٢
واستطاع بونابرت أن يبعث بطائفة من الأوامر اليومية الصادرة لجيش الشرق ومطبوعات الحملة من وقت وصولها إلى مصر مع سفن الدول المحايدة التي سُمِح لها بالخروج من ميناء الإسكندرية كل مساء من أواخر شهر سبتمبر. ومع أن جزءًا كبيرًا من هذه الوثائق قد أتلفه العدو في أثناء محاولة السفن أن تخترق بها نطاق الحصار البحري الإنجليزي، فقد أفلحت السفن في الإفلات بحوالي خمسين رسالة منها نقلتها إلى عدة موانئ أوروبية، وسهل بعد ذلك إرسال هذه الأوراق الهامة منها إلى باريس. وفضلًا عن ذلك فقد غادر الإسكندرية جوليان Julien أحد قومسييري الحرب في ١٣ أكتوبر، يحمل مجموعة كاملة من هذه الأوامر اليومية ومطبوعات جيش الشرق المختلفة. وفي ٨ نوفمبر غادر الإسكندرية رسول آخر يُدعَى ثيبو Thibaut، وما إن نزل في أنكونا حتى بادر بإرسال طائفة من رسائل بونابرت إلى حكومة الإدارة فوصلت باريس في ١٣ ديسمبر سنة ١٧٩٨م.١٣
وقد صادف ورود هذه الرسائل الأخيرة انتشار الشائعات في باريس عن أن مكروهًا قد لحق بقائد الحملة العام في مصر؛ فمن قائل إنه لقي حتفه في نضال مع الأتراك تحت أسوار الإسكندرية، إلى آخر يؤكد وفاته في أثناء ثورة عنيفة نشبت بالقاهرة. وكانت «فينَّا» مصدر هذه الشائعات التي ذاعت كذلك في لندن، حتى إن حكومة الإدارة وجدت لزامًا عليها بعد وصول رسائل بونابرت الأخيرة بيوم واحد فقط أن تكتب في ١٤ ديسمبر إلى الأميرال بليفيل لو بيلاي Plêville Le Pelley ليستفسر في أنكونا من الرسول ثيبو عن حقيقة الحال في مصر، على أنه سرعان ما هدأ روع أعضاء حكومة الإدارة عندما نشرت غازيتة فينَّا Gazette de Vienne تكذيبًا قاطعًا لهذه الأقوال، وأكدت أن أنباء القاهرة لا تشمل سوى قيام الثورة في القاهرة وقتل أحد القواد فحسب.١٤ وما إن اطمأنت حكومة الإدارة على حياة قائد الحملة العام، حتى شرع أعضاؤها يفحصون ما جاء في رسائل بونابرت من آراء ومقترحات ذات صلة بموقف الحملة وجيش الشرق من الناحيتين السياسية والعسكرية خصوصًا.١٥
وقد تحدث بونابرت في رسائله عن هزيمة أبو قير البحرية، وتأكد لدى أعضاء حكومة الإدارة هول الكارثة من المعلومات التي أمدَّهم بها بلانكيه دي شايله Blanquet de Chayla، وكان أهم ما لفت نظر حكومة الإدارة إصرار بونابرت على إنشاء أسطول جديد في البحر الأبيض، يتألف من السفن الثلاث التي نجت من موقعة أبو قير البحرية، والست التي بقيت في طولون وأنكونا وإحدى سفن البندقية الموجودة في كورفو، عدا سفينتين من سفن البندقية كذلك كانتا قد بقيتا بميناء الإسكندرية قبل المعركة، وإحدى سفن فرسان القديس يوحنا التي أخذها الفرنسيون في مالطا. وكان غرض بونابرت من إنشاء هذا الأسطول إرغام الإنجليز على توزيع قواتهم في البحر الأبيض، فيخف ضغط حصارهم البحري على الشواطئ المصرية، ويفتح الطريق بين فرنسا والمستعمرة الجديدة، فتتوطد بفضل ذلك كله أقدام الفرنسيين في مصر. ولا معدى عن استتباب الأمر لجيش الشرق في مصر إذا شاءت الحكومة أن تفيد من بقاء هذه المستعمرة في حوزتها، سواء في أثناء مساعيها السياسية أو استمرار نضالها العسكري من أجل الوصول إلى صلح مشرِّف مع إنجلترا أو إلحاق الهزيمة بها.

ذلك أن بونابرت ظل يعتبر احتلال مصر على الرغم من هزيمة أبو قير مصدر متاعب عدة للإنجليز، ويزيد من خطورتها ولا شكَّ وجود قوات فرنسية في البحر الأبيض الشرقي؛ ولذلك ففي استطاعة حكومة الإدارة على حد قوله أن تفيد من إنشاء أسطول في هذه المياه، إلى جانب بقاء جيش الشرق في مصر في حالين ظاهرتين؛ فإنه عند الخوف من استئناف القتال بين فرنسا والنمسا وتأليف محالفة جديدة ضد الجمهورية، يصبح في قدرة حكومة الإدارة وقتئذٍ أن تتخذ من بقاء مصر في حوزتها وسيلة للمساومة من أجل الحصول على صلح «باهر» مع الإنجليز، وذلك لأن الأمور آخذة في الاستقرار بهذه المستعمرة يومًا بعد يوم، حتى إنه ليكفي جيش الشرق إمدادات قليلة تمكِّنه من الاحتفاظ بها إلى أن يحين الوقت الذي يرضى فيه الإنجليز بإجابة تلك المطالب التي يشترطها الفرنسيون لعقد السلام، والتي أصرَّ الإنجليز على رفضها. أمَّا إذا قر رأي حكومة الإدارة على استمرار النضال ضد إنجلترا «صونًا لأمن القارة» أو لأسباب أخرى فإن الواجب يقتضيها عندئذٍ أن تضم جهودها إلى جهود بونابرت، ولا معدى في هذه الحالة عن إعادة إنشاء أسطول فرنسي في البحر الأبيض.

وطفق بونابرت يتحدث عن مزايا وجود هذا الأسطول، والوسائل التي تمكِّن حكومة الإدارة من إعداد قوة بحرية ذات أثر في البحر الأبيض بفضل مساعدة حلفاء فرنسا لها، فقال إن جمع شتات السفن الفرنسية في البحر الأبيض لا يسدي خدمة جليلة لجيش الشرق فحسب، بل من شأنه أيضًا أن يرغم الإنجليز على إبقاء أسطول كبير أمام الشواطئ المصرية، بدلًا من تلك السفن القليلة التي تطوف بأمان في أنحاء البحر. وفضلًا عن ذلك فقد أزف الوقت الذي يجب فيه إقناع إسبانيا حليفة الجمهورية بإخراج أسطولها من الموانئ التي تظل رابضة فيها دون حراك فترة طويلة من الزمن. ولما كان بونابرت يعتقد بإمكان إرسال «الحملة الكبيرة» على إنجلترا ما دام بعيدًا عن فرنسا، فقد نصح بإخراج الأسطول الفرنسي الرابض في ميناء «برست» وإرساله إلى البحر الأبيض، أمَّا إذا اتضح كذلك أن حكومة الإدارة عاجزة عن «فعل شيء في إيرلندا»١٦ فقد يكون من الأفضل أن تنقل هذه الحكومة ميدان الحرب البحرية إلى البحر الأبيض المتوسط؛ لأن الحرب في هذا الميدان سوف تسبب للإنجليز صعوبات عدة، وتكبدهم نفقات جسيمة منشؤها اضطرار هؤلاء إلى تموين أسطولهم الكبير في جزر الأرخبيل، بينما يفيد الفرنسيون من مراكزهم في مصر وكورفو ومالطا وإيطاليا كقواعد يديرون منها رحى هذا القتال البحري، وعلاوةً على ذلك فإن الأسطول الفرنسي سوف يجد في الإسكندرية ملجأ يقيه شر مطاردة العدو عند الحاجة؛ إذ أظهر قياس أعماق المياه في هذا الميناء خطأ برويس السابق، وأثبت صلاحية الميناء لاستقبال السفن ذات الحمولة الكبيرة.
ثم انبرى بونابرت يقيم الحجة على ضرورة اتخاذ كورفو قاعدة هامة يرتكز عليها الأسطول الفرنسي لمراقبة سفن العدو وشل حركتها من جهة، ولأن جمع الأسطول في جزر الأيونيان يتيح الفرصة من جهة أخرى لمراقبة الباب العالي. ومع أن بونابرت ما كان يعترف وقتئذٍ بإقدام الباب العالي على قطع علاقاته مع الجمهورية، فقد ساورته الشكوك من ناحية العثمانيين، حتى إنه كان يتوقع نشوب الحرب معهم، مما جعله يكرر القول بضرورة ذهاب تاليران إلى القسطنطينية، ثم إرسال برنادوت Bernadotte في الوقت نفسه على رأس قوة إلى كورفو لغزو المورة وألبانيا في حماية الأسطول المزمع إنشاؤه، حتى يحتجز أكبر قوة مستطاعة من قوات العثمانيين في أرض المورة.
وقد كان بونابرت محقًّا ولا شكَّ في آرائه بصدد إرسال أسطول فرنسي إلى كورفو، فإن ديبوا Dubois مندوب حكومة الإدارة في كورفو لم يلبث أن بعث هو الآخر في ٧ ديسمبر بتقريرٍ إلى حكومته، يتحدث فيه عن أجدى الوسائل التي يرتئيها لبقاء «ترس» الأدرياتيك ومعبره في حوزة الفرنسيين، وذلك بإدخال أسطول من عشر بوارج أو اثنتي عشرة بارجة في هذا البحر لمطاردة العدو، وإرسال أسطول مثله إن أمكن ذلك إلى كورفو حتى يحمل النجدات إلى مصر. وقد وصل تقرير ديبوا إلى حكومة الإدارة في ١٠ مارس من العام التالي، فلم يكن له تأثير مباشر على قرارات الحكومة. ومع ذلك فقد كان من الواضح أن الفكرة الجوهرية في رسائل بونابرت والتي ما كان في وسع حكومة الإدارة أن تتجاهل أهميتها هي إحياء تلك البحرية التي تحطمت في موقعة أبو قير البحرية. وفضلًا عن ذلك فقد رسم بونابرت الطريق الذي وجب سلوكه من أجل إحياء هذه البحرية أولًا، وتأمين جيش الشرق في مصر ثانية،١٧ وأضحى لزامًا على حكومة الإدارة أن تتدبر الموقف بصورة جدية.

سياسة حكومة الإدارة

وكان واضحًا من مبدأ الأمر أن إنشاء الأسطول الذي اقترحه بونابرت من السفن التي ذكرها في رسائله تحول دون تحقيقه صعوباتٌ عدة، منها أنه لم يكن لدى الجمهورية من بقايا أسطول برويس سوى ثلاث سفن فحسب، منها سفينتان محاصرتان في مالطا، ولا معدى عن بقاء السفينة الثالثة في كورفو للاضطلاع بمهمة الدفاع عن هذه الجزيرة. وفضلًا عن ذلك فإن سفن البندقية التي ذكرها بونابرت كانت لا تصلح للخدمة العسكرية مع الحاجة إليها إلى جانب ذلك في نقل المؤن إلى الجزر التي ظلت في حوزة الفرنسيين في البحر الأبيض، أمَّا السفن الموجودة في طولون فكانت معدة لتموين مالطا، بينما أخواتها المجهزة في أنكونا تستعد للإبحار منها إلى كورفو بقيادة أمير البحر بليفيل لوبيلاي الذي صدرت إليه الأوامر في ٤ أكتوبر بضرورة إعدادها لهذه الغاية، ودأب لوبيلاي على تسليحها منذ وصوله إلى أنكونا في نوفمبر، أضف إلى ذلك أن سفن البندقية الثلاث لم تكن صالحة للملاحة فقد فشلت جميعها (في ديسمبر) في حمل النجدات التي أرسلت بها إلى مالطا وكورفو، واضطرت إلى النكوص على أعقابها بسبب دخول المياه في بطونها قبل بلوغ غايتها. وعلى ذلك فقد رفضت حكومة الإدارة هذا المشروع على اعتبار أنه غير عملي ولا سبيل إلى تنفيذه.١٨

عُلم أنه لم يكن هناك شكٌّ من جهة أخرى في أن الحرب لا محالة واقعة مع النمسا، عندما توالت انهزامات الفرنسيين في إيطاليا في يونيو ويوليو، وأعلنت نابولي الحرب في نوفمبر، واحتلت جيوشها روما بعد أن أُرغم الفرنسيون على الانسحاب منها، وتوقعت حكومة الإدارة ظهور قوات العدو على نهر الراين والأديج، وانكب أعضاؤها على إنجاز الاستعدادات العسكرية العظيمة بكل سرعة، ووضعت الخطط الكثيرة لسحق العدو، من ذلك ما اقترحه بعض القواد الفرنسيين من إرسال جيش إلى أبيروس للزحف عن طريق سالونيك إلى القسطنطينية في الوقت الذي يكون قد بدأ فيه بونابرت كذلك من جهته بالزحف على العاصمة العثمانية من جهة سوريا. ولما كانت هذه المشروعات وغيرها أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة، ويمنع حكومة الإدارة من هذه المغامرة الخطيرة تضييق نطاق الحصار وقتئذٍ على جزر الأيونيان التي في حوزتها؛ فقد وجب على الحكومة أن تفكر في وسائل أخرى أجدى نفعًا وأسلم عاقبةً. ووجدت الحكومة أن لا مناص لها في النهاية من العمل بإرشادات بونابرت الأخرى، من حيث إخراج أسطولها المحاصر في برست وإرساله إلى البحر الأبيض، ثم محاولة إقناع حلفائها الإسبان بضم جهودهم البحرية إلى جهودها، واستمالة العثمانيين إلى تسوية النزاع القائم بينهم وبين الفرنسيين واستلال سخيمتهم.

وكان مما حمل حكومة الإدارة على إخراج أسطول بروي Bruix من برست وإرساله إلى البحر الأبيض فشلها في محاولة النزول في إيرلندا، وانتفاء أي أمل لديها في إمكان النزول في إنجلترا، وتسيير «حملتها الكبيرة» على هذه الجزيرة ما دام بونابرت متغيِّبًا في القاهرة، واقتناعها بسبب ذلك أنه من العبث احتجاز الأسطول في برست دون أي عمل. وكان فشل حكومة الإدارة في إيرلندا فشلًا ذريعًا، ذلك أن حكومة الإدارة اضطرت إلى إغفال الخطة التي أعدَّها بونابرت بالاشتراك معها لغزو إيرلندا بسبب قيام المقاطعات الإيرلندية الجنوبية بالثورة في آخر مايو. فقد وجدت حكومة الإدارة بعد خروج أكثر سفنها الحربية مع حملة بونابرت إلى مصر وما تكبدته من نفقات في سبيل إعداد العمارة الفرنسية، أنه من الأفضل لها أن تقصر نشاطها على توزيع المال والسلاح على الثوار الإيرلنديين الذين نزلوا في باريس وهمبورج، وتجهيز عدد من السفن في موانئ تكسل Texel ودنكرك وبرست ولاروشيل، كانت أهمها الحملة التي تألفت في برست من بارجة وثماني فرقاطات، وُضعت جميعها تحت قيادة الجنرال همبرت Humbert الذي غادرت قواته الثغور الفرنسية في ٦ أغسطس، فبلغت الشواطئ الإيرلندية في ٢٢ أغسطس، ونزلت في خليج كيلالا Killala في وقت كان الإنجليز قد تمكَّنوا فيه من إخماد الثورة، فاضطر همبرت إلى التسليم في ٨ سبتمبر. وعندما خرج بعد ذلك الأميرال برومبور Bromport يقصد الشاطئ الإيرلندي كان نصيبه الفشل وسلمت سفنه للعدو في ١١ أكتوبر، ووصلت باريس أخبار هذا التسليم في وقت كانت قد غادرت فيه فرقاطات أخرى موانئ تكسل ودنكرك ولاروشيل، فقضى العدو على عدد منها وتمكنت الأخرى من الإفلات والعودة إلى قواعدها بعد أخطارٍ كثيرة.١٩
وقد تبع هذا الفشل أن اقتنعت حكومة الإدارة بعبث القيام بأية عمليات عسكرية في إيرلندا. ولما كان رأي أعضائها قد انعقد كذلك على عدم إمكان الصمود في حرب بحرية ضد إنجلترا في المحيط الأطلنطي، فقد قرَّ الرأي على إرسال الأسطول الفرنسي بقيادة الأميرال بروي إلى البحر الأبيض الميدان الوحيد الذي يمكن فيه التعاون بطريقة مجدية بين هذه القوات البحرية والأخرى البرية المقاتلة في إيطاليا. وكان مما قوَّى هذه الرغبة لدى حكومة الإدارة وصول رسائل بونابرت التي بعث بها ثيبو من أنكونا إلى باريس، وهي الرسائل التي وصلت باريس في ١٣ ديسمبر، ويتحدث فيها قائد الحملة على وجه الخصوص عن مزايا وجود بحرية فرنسية قوية في البحر الأبيض، فأصدرت الحكومة أمرًا بعد ستة أيام فحسب بضرورة تجهيز سفن أسطولها في برست وإعدادها للخروج إلى البحر «في أقرب وقت مستطاع»، وقد بدأ من ثم تسليح سفن الأسطول في برست وتموينها وجلب الرجال إليها على الرغم من الصعوبات التي أثارها شيرر Schérer والعسكريون بسبب حاجتهم إلى الجنود ولتعزيز القوات المحاربة في إيطاليا، وللقضاء على أية ثورة قد يقوم بها الملكيون الشوان Chouans في مقاطعة بريطاني أو زملاؤهم في مقاطعة فنديه Vendée. وعُنيت حكومة الإدارة ببحث الوسائل التي تمكِّنها من تعزيز أسطول بروي عند الفراغ من تجهيزه وخروجه إلى البحر الأبيض. وتناول هذا البحث مبلغ استعداد حلفاء الجمهورية لبذل هذه المعونة، وقيمة ما تبذله حكومة الإدارة من جهود في هذه الناحية لاستمالة هؤلاء الحلفاء إلى معاونتها.
ومن أول الأمر نبذت حكومة الإدارة فكرة الاستعانة بالأسطول الهولندي لعدم وثوقها بولاء هذا الأسطول، ولأن بروي نفسه ما لبث أن قدم تقريرًا إلى حكومة الإدارة في أول فبراير سنة ١٧٩٩م يشكو فيه من سوء نوايا الهولنديين، ويسوق الأدلة والبراهين على ميولهم العدائية، ويخشى من وجود الجواسيس الإنجليز في جزيرة فالشرين Walcheren. وعلى ذلك فقد اكتفت حكومة الإدارة بأن يبقى أسطول «حليفتها» في مياه «تكسل» يشغل الإنجليز بالمراقبة المستمرة في بحر الشمال من جهة، وحراسة شواطئ إيرلندا من جهة أخرى، خوفًا من أن يدبِّر الفرنسيون بمساعدة حلفائهم نزولًا مفاجئًا على الشواطئ الإنجليزية والهولندية معًا وفي وقتٍ واحد.٢٠
وكان من الطبيعي أن يحوِّل الفرنسيون أنظارهم إلى حليفتهم الأخرى إسبانيا، وكان لهذه أسطول تربض وحداته في موانئ فيرول Ferrol   وقادش Cadix   وقرطاجنة Cartagena، ويقوم الأسطول الإنجليزي في الأطلنطي والبحر الأبيض على محاصرتها من مدة طويلة. وكانت أكثر وحدات هذا الأسطول في قادش بقيادة أمير البحر الإسباني جوزيف دي مزيريدو Mazerredo. وفي ١١ يناير سنة ١٧٩٩م أوضح بروي لوزير الخارجية تاليران أهمية توجيه الدعوة لإسبانيا حتى تبدأ استعداداتها من أجل تهيئة أسطولها للقيام بعمل مشترك مع الأسطول الفرنسي «في وقتٍ قريبٍ جدًّا»، فتضع إسبانيا أسطولها في قادش والموانئ الإسبانية الأخرى تحت تصرف الفرنسيين، فتذهب السفن الموجودة في «فيرول» إلى أحد الموانئ الفرنسية في المحيط الأطلنطي، وتذهب أخواتها الرابضة في قرطاجنة إلى طولون، وتستبدل بأعلامها راية الجمهورية. ولم يكن من رأي بروي إطلاع الإسبانيين على الغرض الحقيقي من اتخاذ هذه الخطوة؛ أي العمل في البحر الأبيض المتوسط إلى جانب الأسطول الفرنسي، والسبب في ذلك أن الحكومة الإسبانية كانت ترفض من وقت كارثة أبو قير البحرية» إرسال أسطولها إلى البحر الأبيض للتجول في المياه الإيطالية كما رغبت حكومة الإدارة، بدعوى أن مزيريدو يعجز عن اختراق نطاق الحصار الذي ضربه جرفيس Jervis على قاعدة الأسطول الإسباني في قادش، وتلك دعوى ما كان يغيب عن فطنة حكومة الإدارة إدراك ما انطوت عليه من عوامل الإخفاق السياسي؛ ذلك أن إسبانيا بادرت في الوقت نفسه (سبتمبر سنة ١٧٩٨م) بإظهار رغبتها في إرسال أسطولها للعمل ضد الإنجليز في إيرلندا، خير ميدان يمكن الحليفتين (إسبانيا وفرنسا) من توجيه ضربة قاصمة إلى إنجلترا منه. وتقدم الإسبان بهذه العروض في وقت كانت قد باءت فيه محاولات حكومة الإدارة في هذه الناحية بالفشل والخسران، وكان من الواضح أن مشروع غزو إيرلندا سوف يكون نصيبه الإهمال السريع من جانب حكومة الإدارة.٢١
بيد أن إخفاء الغرض الصحيح من دعوة الإسبان إلى تسليم أساطيلهم في قادش وغيرها للفرنسيين، سرعان ما أثار اعتراضات عدة من جانب ممثل هذه الدولة في باريس ورئيس حكومتها في مدريد، ورفضت إسبانيا رفضًا قاطعًا فكرة تسليم الأسطول، ولم توافق بتاتًا على حرمانها من أسطولها في قرطاجنة، في وقت كانت تريد الاستعانة به في استرداد جزيرة مينورقة التي استولى عليها الإنجليز في نوفمبر ١٧٩٨م، على أن أهم ما أثار معارضة الإسبانيين كان إصرار حكومة الإدارة على إخفاء الغرض من عملياتها البحرية المزمعة في البحر الأبيض.٢٢
وقد زادت صعوبات حكومة الإدارة عندما وجدت الشاطئ الأفريقي في البحر الأبيض مغلقًا دون سفنها في وجاقات الغرب؛ الجزائر وتونس وطرابلس، وكان لبقاء العلاقات الودية بين فرنسا والوجاقات الثلاث نفع كبير كطريق للاتصال بين فرنسا وجيشها في مصر، وعقد بونابرت وأعضاء حكومة الإدارة آمالًا كبيرة على إمكان إرسال البريد عن طريق الوجاقات، ولكن الباب العالي ما لبث أن طلب من الوجاقات إعلان الحرب على فرنسا، وأوفد لهذه الغاية مندوبين إلى الجزائر وتونس وطرابلس، فقبض داي الجزائر على القنصل الفرنسي وصفَّده بالحديد في ديسمبر سنة ١٧٩٨م، ولم يخلِّصه من هذه الأغلال سوى تدخل بعض التجار اليهود من أسرة بكري البيت التجاري في مارسيليا والجزائر. وفي يناير من العام التالي قبض الباي على وكيل القنصل الفرنسي في تونس، وصودرت بعض السفن الفرنسية في الميناء، وفعل مثل ذلك أيضًا حاكم طرابلس. ولما كانت مراكش تستمتع بقدر كبير من الاستقلال، فقد رفض سلطانها أن يقطع علاقاته مع فرنسا، ومع ذلك فقد أغلقت مراكش والجزائر وتونس وطرابلس موانيها دون السفن الفرنسية، سواء لخوفها من الإنجليز أصحاب السيطرة في البحر الأبيض أم نزولًا على رغبة الأتراك، وطفق قراصنة الوجاقات يغيرون على سواحل بروفنس والجمهورية الرومانية في إيطاليا، واضطرت حكومة الإدارة إلى إلقاء القبض على طائفة من تجار هذه الوجاقات ومصادرة سفنهم، إلى جانب الإذن بالقرصنة في المياه الأفريقية،٢٣ وضاع كل أمل في إنشاء طريقٍ سهلٍ للمواصلات المنظمة بين فرنسا ومصر من هذه الناحية، ولم يبقَ من وسيلة لدى حكومة الإدارة لإيصال بريدها إلى مصر أو نجداتها إذا شاءت سوى محاولة استخدام الموانئ الإيطالية.
ومع ذلك فإن استخدام هذا الطريق الإيطالي لم يكن مأمون العواقب؛ لأن الفرنسيين لم يكونوا في هذه الآونة قد أخضعوا «كلابريا» تمامًا لسلطانهم، وهي أقرب الجهات في طرف شبه الجزيرة الإيطالية الجنوبي الشرقي إلى مصر، فضلًا عن أن أنكونا ميناء الفرنسيين الهام على الشاطئ الإيطالي الشرقي كانت متوغلة في بحر الأدرياتيك، ويفصلها الثوار الطليان ولصوصهم عن سائر مراكز الفرنسيين في إيطاليا، بينما تعتمد حكومة الإدارة على هذا الميناء في تموين كورفو. وكان الأسطولان الروسي والعثماني قد شرعا يطبقان على كورفو الحصار منذ أربعة شهور، وأظهر الروس علاوة على ذلك يقظةً كبيرةً في حراسة منافذ الأدرياتيك، فاستطاعت إحدى فرقاطاتهم أن تأسر مركبًا كان قد خرج من أنكونا يحمل لفرانك Lefranc رسولًا إلى جيش الشرق في مصر، مزوَّدًا برسالة من حكومة الإدارة إلى بونابرت بتاريخ ٤ نوفمبر سنة ١٧٩٨م، فوقع الرسول ورسالته في يد الروس. غير أن حكومة الإدارة كان لا يسعها إغفال الطريق الإيطالي بعد أن أغلقت الوجاقات موانيها في وجوه السفن الفرنسية، واضطرت بسبب تحرُّج الأحوال في ميادين الحرب والسياسة في أوروبا إلى إطلاع بونابرت على كل ما طرأ من حوادث جديدة، فأعدَّت تقريرًا في ٣ مارس ١٧٩٩م لخصت فيه حوادث الحرب والسياسة الهامة، وذكرت قيامها بتسليح أربعة وعشرين مركبًا في برست، دون بيان الجهة التي سوف يقصدها هذا الأسطول بعد استكمال عدته،٢٤ وقد حمل هذه الرسالة من أنكونا راجمي Ragmey أحد عملاء الحكومة، وليكوت Lucotte أحد ضباطها، ولكنهما ما لبثا أن أخفقا في مهمتهما عندما ارتطمت سفينتهما الصغيرة بالصخور بعد ذلك، وعادا أدراجهما إلى أنكونا، ولم يصل تقرير ٣ مارس إلى بونابرت.٢٥
وفي أثناء محاولة راجمي وليكوت الخروج من أنكونا، كانت حكومة الإدارة قد بذلت جهودًا أخرى لإيصال رسالة ٤ نوفمبر سنة ١٧٩٨م إلى بونابرت، فابتاع بلفيل Belville قنصلها في جنوه ثلاث سفن: إيزيريس Isiris، أوزيريس Osiris، سيرابيس Serapis، وحملت «أوزيريس» وينان مورو أومورفو (Wynand Mourveau) Winan Moreau مزوَّدًا برسالة ٤ نوفمبر، فغادر وينان جنوه في ٩ فبراير سنة ١٧٩٩م، وبلغ أبا قير في السادس والعشرين من الشهر نفسه، وذهب إلى القاهرة فأرسله منها دوجا إلى بونابرت تحت أسوار عكا، فكانت رسالة ٤ نوفمبر سنة ١٧٩٨م أول خطاب وصل إلى قائد الحملة العام من حكومة الإدارة منذ خطاب التهنئة الذي أوصله إليه لوسمبل.٢٦
وهكذا أسفرت كل جهود حكومة الإدارة في محاولة الاتصال بقائد الحملة في مصر منذ تحطيم أسطول برويس في أبو قير عن إرسال ثلاث سفن، نجحت واحدة منها فحسب في الوصول إلى الشواطئ المصرية، ووجَّه كثيرون اللوم والتأنيب لحكومة الإدارة على إخفاقها، واتهمها آخرون بعدم الاهتمام بمصير جيش الشرق وقائده. وكان لويس شقيق بونابرت — الذي بلغ باريس في هذا الوقت بعد رحلة شاقة (مارس سنة ١٧٩٩م) — من أشد الناقمين على حكومة الإدارة، واعتقد هو وإخوته الآخرون، وعلى وجه الخصوص لوسيان Lucien أن الإدارة قد تركت جيش الشرق وشأنه. وأصرَّ لويس على ضرورة إرسال سفن البريد بكثرة إلى مصر تنقل إلى القائد العام أخبار الوطن، وبذل قصارى جهده لتأييد آراء بونابرت بشأن تنظيم بحرية قوية في البحر الأبيض، وكان لموقف الأسرة الحاسم إلى جانب اقتناع حكومة الإدارة بفشل محاولاتها السياسية سواء في إسبانيا أو في وجاقات الغرب، ثم إعلانها الحرب على النمسا (في ١٣ مارس)، وتجدد النضال في إيطاليا وألمانيا؛ أكبر الأثر في حمل هذه الحكومة على إخراج أسطولها نهائيًّا من برست وإرساله للعمل في مياه البحر الأبيض.٢٧

خروج بروي من برست

عُيِّن الأميرال بروي قائدًا عامًّا للقوات البحرية الموجودة في برست في ١٤ مارس، ثم أبلغ في اليوم التالي تعليمات حكومة الإدارة، وفحواها٢٨ الخروج بأسطوله من برست والدخول به إلى البحر الأبيض لتحطيم العدو أو على الأقل لطرده منه، على أن يتحاشى بروي الاشتباك مع أسطول الإنجليز في المحيط أو عند قادش، حتى إذا بلغ جبل طارق ووجد أَنْ لا مندوحة عن الالتحام مع العدو حتى يستطيع العبور بسلام، فعليه حينئذٍ أن يطلب معاونة الأسطول الإسباني، أمَّا إذا سهل عليه المرور فالواجب يقتضيه أن يترك الإسبانيين في قادش حتى يحتجزوا بفضل عدم تحركهم منها شطرًا من أسطول جرفيس أمام الميناء، فتخف وطأة مطاردة هؤلاء للأميرال الفرنسي في البحر الأبيض. وطلبت حكومة الإدارة من أمير البحر أن يذهب بأسطوله إلى الشاطئ الإيطالي، كي يحمل من هناك حوالي الثلاثة أو الأربعة آلاف جندي بمؤنهم وذخائرهم، فينقل أكثرهم إلى كورفو التي كادت تسلِّم للعدو، ويترك كذلك بعض الجند في مالطا، ويحمل ما بقي من هذه القوة إلى الإسكندرية.
وقد تلاحقت الحوادث بعد ذلك بصورة جعلت من الحكمة وأصالة الرأي التعجيل بخروج الأسطول من برست للعمل في مياه البحر الأبيض؛ ذلك بأن السفينة سانت جان بابتيست Saint-Jean-Baptiste وصلت إلى طولون في ٥ أبريل تحمل رسالة من بونابرت (في ١٠ فبراير)٢٩ يتحدث في ضمنها عن استعداده لبدء حملته في سوريا ويبسط أسباب هذه الحملة، ووصلت رسالة بونابرت إلى حكومة الإدارة في ١٢ أبريل. ثم ما لبث أن تأكدت لدى حكومة الإدارة حاجة جيش الشرق إلى بعض النجدة، عندما نزل في طولون أحد ضباط البحرية الكونترأميرال برريه Pérrée مع مركبين استطاع أن يخرج بهما من الإسكندرية في شهر مارس محمَّلتين بالجرحى وعدد من الجنود الذين فقدوا قوة الإبصار في أثناء عملية الزحف المشهور على القاهرة، وانتشار أمراض العين بين جند الحملة. وفضلًا عن ذلك فقد تحدث هذا الضابط عن انتشار الوباء والبؤس في الإسكندرية، وفرار بحارة برويس القدماء من صفوف الجندية. وقد ظلت الأخبار المزعجة تترى بعد ذلك على حكومة الإدارة عندما بلغها نبأ فشل الأسطول الصغير الذي خرج من المياه المصرية يحمل مدافع الحصار الثقيلة إلى بونابرت أمام عكا، فوقعت سفنه في يد السير سدني سمث (في ١٨ مارس).٣٠ وتطايرت الشائعات من كل جانب، ولعل أثقل هذه وطأة على مسامع أعضاء حكومة الإدارة كان إشاعة سقوط كورفو ذاتها في يد العدو منذ ٣ مارس.٣١ وعندئذٍ قرَّ رأيها على ضرورة خروج أسطول بروي من برست دون إبطاء.
وفي ٢٦ أبريل سنة ١٧٩٩م خرج بروي إذن بأسطوله بعد لأيٍ وعناءٍ منتهزًا فرصة التراخي في المراقبة من جانب وحدات الأسطول الإنجليزي التي وُضعت على حصار برست، وكان أسطول بروي يتألف من خمس وعشرين بارجة، وثلاث عشرة خفيفة، وتلك قوة ما كان في وسع الإنجليز أن يستهينوا بها. وكان مما أقضَّ مضاجع هؤلاء على وجه الخصوص أنهم ظلُّوا يجهلون مقصد بروي، بفضل الكتمان الشديد الذي أحاطت به حكومة الإدارة أغراضها، فاعتقد الإنجليز أن بروي إنما يبغي الذهاب إلى إيرلندا، أو أنه يريد النزول إلى البورتغال حليفة الإنجليز لشنِّ الغارة عليها.٣٢ واستطاع بروي السير حتى بلغ مياه قادش حيث كان أسطول الإنجليز بقيادة كيث Keith لا يزال واقفًا على حصار الأسطول الإسباني في مينائها، وعرضت للأميرال الفرنسي فرصة مواتية للاشتباك مع الإنجليز في معركة كان الأمل كبيرًا في كسبها، وتخليص أسطول مزيريدو الإسباني من حصارهم وإحراز السيطرة الكاملة في البحر الأبيض بصورة تمكِّن الفرنسيين من الاستيلاء على سفن الروس والعثمانيين، وإشاعة الخوف بين وجاقات الغرب، وإعادة فتح المواصلات مع جيش الشرق، بل تهديد القسطنطينية ذاتها على حدِّ قول تاليران بالاقتراب من المضايق،٣٣ غير أن شيئًا من ذلك لم يتحقق بسبب هبوب عاصفة هوجاء ما لبثت أن أرغمت بروي في ٤ مايو على التوغل في البحر بعيدًا عن غرمائه، فتابع السير إلى جبل طارق دون أن يحدث أي التحام مع الإنجليز، أو يتم ذلك الاتصال المنشود بالأسطول الإسباني، وفي ٥ مايو دخل بروي إلى البحر الأبيض.
وكان نجاح بروي في دخول هذا البحر حادثًا ولا شكَّ له خطره؛ ذلك أن وحدات الأسطول الإنجليزي في البحر الأبيض كانت موزعة في مراكز عدة أمام عكا والإسكندرية وصقلية ومالطا ونابولي ومينورقة، ولا يزال جزءٌ منها رابضًا أمام قادش.٣٤ ولما كان من المتعذر اجتماع هذه القوات المبعثرة سريعًا وفي صعيد واحد لمنازلة بروي، فقد أصبحت السيطرة في البحر المتوسط من نصيب بروي ولا شك، وكان في وسع هذا القائد البحري أن يؤيد هذه السيطرة لو أنه أوتي قدرًا كافيًا من الجرأة والمهارة، وواصل السير رأسًا إلى مالطا أو الإسكندرية أو عكا. وآية ذلك أن الإنجليز ما بلغهم خبر وجود أسطوله في البحر الأبيض حتى انسحبوا بسفنهم من أمام مالطا فترة من الزمن كانت كافية لتموين حامية هذه الجزيرة، ولكن بروي على الرغم من تفوقه العددي على العدو لم يشأ المجازفة بأسطوله، وفضل الذهاب توًّا إلى طولون فبلغها في ١٣ مايو، وأخذ ينتحل الأعذار عن عدم ذهابه إلى مالطا أو غيرها من المراكز التي سبق ذكرها؛ ذلك بأن بروي كان لا يثق في صلاحية سفنه للملاحة الطويلة واحتمال وطأة النضال الجدي، ويخشى أن تعرضه مجازفته بالسير إلى مصر خصوصًا إلى نفس المخاطر التي أودت بأسطول برويس من قبل؛ لأنه كان يعلم حق العلم أن الإنجليز لن يتوانوا عن جمع شتات وحداتهم المبعثرة ويعنفون في مطاردته.٣٥
ومع ذلك فقد أتاح وجود بروي في طولون الفرصة لحكومته أن تعهد إليه بعملياتٍ عدةٍ هامة، لعل أهم ما تجدر ملاحظته بشأنها ذلك التغيير الجوهري الذي طرأ على موقفها من فتوحاتها الجديدة في مصر بسبب ما لحق بجيوشها من هزائم في إيطاليا عند استئناف الحرب ضد النمسا (وحليفتها الروسيا). وعلى ذلك فإنه بدلًا من التفكير في إرسال أية نجدات إلى مصر وطدت حكومة الإدارة العزم على استدعاء جيش الشرق وقائده إلى أوروبا. وعلى ضوء هذا التحول الجديد أعدت الحكومة تعليماتها إلى بروي وبونابرت في ٢٦ مايو،٣٦ وكان الأمر الظاهر من هذه التعليمات أن يوجه بروي عنايته قبل أي شيءٍ آخر إلى إخلاء الأراضي الإيطالية، ونقل الجيوش الفرنسية منها، ثم الذهاب بعد ذلك إلى الإسكندرية لنقل جيش الشرق بأجمعه أو أكثره إلى فرنسا، حسبما يتراءى لبونابرت الذي تركت له حكومة الإدارة حرية الاختيار بين الإخلاء التام أو إبقاء جزء من جيشه في مصر، إذا عهد في نفسه القدرة على ترك جزءٍ من جيشه لاحتلال هذه البلاد بأمان.٣٧
على أن مما تجدر ملاحظته أن حكومة الإدارة اشترطت لتحقيق ذلك كله على بروي قبل أن يبدأ أية محاولة من أجل تموين مالطا أو الذهاب إلى الإسكندرية لإحضار جيش بونابرت إلى فرنسا؛ أن يعمل أولًا للاتصال بالأسطول الإسباني؛ ذلك أن حكومة الإدارة كانت لا ترى مندوحة عن اتخاذ هذه الخطوة الهامة لضمان السيطرة البحرية للأسطول الفرنسي في البحر الأبيض.٣٨ وعلى ذلك فقد غادر بروي طولون في ٢٧ مايو، وطوَّف في البحر الأبيض فترة من الزمن على شاطئ ليجوريا «جنوه» لنجدة جيش مورو Moreau، واستطاع الإفلات من مطاردة اللورد كيث، وساعده التوفيق عندما تمكَّن من الدخول إلى قرطاجنة والاتصال بأسطول الإسبان الرابض بها، على أن بروي لم يستطع المجازفة بعد ذلك بالاشتباك مع أساطيل الإنجليز المتحدة بقيادة كيث وجرفيس. وفضلًا عن ذلك فقد رفض الإسبان الاشتراك معه في أية عمليات حربية في البحر الأبيض. وعندئذٍ قرر بروي في ٢٩ يونيو الخروج من قرطاجنة إلى قادش، وفي ٨ أغسطس ألقى الأسطولان الفرنسي والإسباني مراسيهما في برست.
وكان لإخفاق بروي في تحقيق الآمال التي بُنيت على خروجه من برست ووجوده في البحر الأبيض رنة حزنٍ وأسًى عظيمين، لا في فرنسا وحدها فحسب بل في مصر أيضًا، فقد ضاعت بسبب إخفاقه فرصة لا تعوض من أجل استعادة تلك السيطرة البحرية التي فقدتها فرنسا في البحر الأبيض المتوسط منذ تحطيم أسطول برويس في أبو قير، والاستفادة من هذه السيطرة المنشودة في افتتاح طريق المواصلات بين فرنسا ومصر، إن لم يكن من أجل إرسال النجدات إلى مصر فلا أقل من أن تستطيع حكومة الإدارة نقل جيش الشرق إلى فرنسا للذود عن أرض الوطن.٣٩ أمَّا بونابرت فقد نقد فيما بعد بروي نقدًا لاذعًا لعدم إسراعه بالسير إلى الشواطئ المصرية بمجرد نجاحه في المرور بسلام من جبل طارق، وقد قدَّر بونابرت أن بروي لو فعل ذلك لاستطاع الوصول إلى الليفانت في وقت اشتداد الحصار على عكا، ولكان لتدخله في هذا الظرف المناسب أجسم الآثار على غزوة الشام بل على مصير الحملة.٤٠ وأمَّا النتيجة المباشرة لإخفاق بروي فكانت أن بدأت حكومة الإدارة تبذل جهودًا أكبر ونشاطًا أوسع مدى من أجل تسوية نزاعها مع تركيا، والوصول إلى اتفاق معها بالطرق الدبلوماسية يمكِّنها من استقدام جيش بونابرت إلى فرنسا.

حكومة الإدارة وتركيا

وقد تقدم٤١ كيف أن حكومة الإدارة كانت تحرص على استبقاء علاقات الود والصداقة مع تركيا على الرغم من إرسال الحملة إلى مصر، وأرسلت التعليمات بهذا المعنى إلى روفان Ruffin سكرتير السفارة الفرنسية في القسطنطينية في ١١ مايو سنة ١٧٩٨م،٤٢ وبذل روفان في هذا السبيل ما وسعه الجهد والحيلة، ولكنه ما إن بلغ تركيا خبر نزول الحملة في مصر حتى أُرغم روفان على عدم مغادرة سراي السفارة، وصدرت الفرمانات تمنع الفرنسيين من إظهار شعار دولتهم الجمهورية، ثم أُجبِر الفرنسيون على عدم مبارحة دورهم والظهور أمام الناس علنًا في وضح النهار. وقد سرد روفان ذلك كله في تقرير له إلى تاليران في ١٠ أغسطس، وصف فيه كذلك موجة التعصب الديني العنيفة التي اجتاحت جميع الأساكل التي يقيم بها قناصل فرنسيون، وقد عزا روفان ذلك كله إلى مكائد الإنجليز والروس، وحذر حكومة الإدارة من احتمال قطع العلاقات بين تركيا وفرنسا قريبًا، وقد وصل تقرير روفان إلى باريس في ١٢ سبتمبر، وبادر تاليران بتلخيص هذه الأنباء الخطيرة لإرسالها إلى بونابرت، وضمَّن تاليران تقريره إلى قائد الحملة خبر تعيين ديكورش Descorches لسفارة القسطنطينية، وحمل ديبوا ثانفيل Dubois-Thainville هذه الرسالة من جنوه إلى أنكونا، ولكنه عجز عن إيصالها إلى مصر فلم تبلغ بونابرت.٤٣
ولما كان روفان قد أبلغ تاليران في رسالته نزول بونابرت بجيشه في مصر، فقد أذاعت حكومة الإدارة في باريس هذا النبأ رسميًّا في ١٤ سبتمبر وقوبل هذا النبأ بفرح شامل، ولكنه سرعان ما ذاع في باريس في اليوم نفسه خبر كان على جانب عظيم من الخطورة هو تحطيم الأسطول الفرنسي في أبو قير فتبدَّلت الأفراح أحزانًا، وأُرجئ قيام ديكورش إلى القسطنطينية حتى يتضح موقف تركيا من فرنسا بعد هذه الكارثة. أمَّا الأتراك فقد ألقوا القبض بعد ذلك على روفان والرعايا الفرنسيين وسجنوهم. وفي أول أكتوبر وصلت الأخبار من فينا إلى سفير إسبانيا في باريس الشفاليه دي أزارا de Azara بأن الأتراك قد أعلنوا الحرب على فرنسا، غير أن حكومة الإدارة على الرغم من هذه الأنباء المزعجة كانت لا تزال تمنِّي النفس بالقدرة على إبقاء الصلات الودية مع تركيا، فأعدَّ تاليران تعليمات جديدة إلى ديكورش في ٣٠ أكتوبر، حتى يحول دون قطع العلاقات ووقوع الحرب «إذا كان الوقت ما يزال يسمح بفعل ذلك.»
وطلب تاليران إلى ديكورش أن يسترشد في مفاوضاته ومحاولاته مع الأتراك بمبدأ واحد لا يتغير هو أن «حكومة الإدارة تبغي الاحتفاظ بمصر في حوزتها حتى تتمكن بفضل ذلك من المفاوضة والاتفاق مع إنجلترا»، ولتحقيق هذه الغاية عليه أن يوضح للعثمانيين أن مدة احتلال الفرنسيين لمصر لن تطول عن مدة الحرب مع إنجلترا. أمَّا إذا ألح الباب العالي في معرفة مقاصد الفرنسيين ونواياهم، فإنه في استطاعة ديكورش أن يعرض على العثمانيين الاقتراحين التاليين: أولهما — وهذا ما كانت ترغب فيه فرنسا أكثر من أي شيءٍ آخر — أن يظل احتلال القوات العسكرية الفرنسية للبلاد، وتستمتع فرنسا إلى جانب هذا بممارسة حقوق فرض الضرائب واحتكار التجارة تحت سيادة الباب العالي الوهمية أو الخيالية (الافتراضية)، وثانيهما أن تستبدل بمصر جزر الأيونيان التي يعتقد الأتراك أن خروجها من حوزة الفرنسيين ضروري لتأمين اليونان ضد انتشار الآراء الثورية بها، في وقتٍ يكثر فيه التذمر والاضطراب في هذه البلاد. وحدد لقيام ديكورش إلى تركيا عن طريق أنكونا يوم ١٢ أكتوبر، بيد أنه سرعان ما جاءت الأخبار تؤكد إعلان تركيا الحرب على فرنسا، فضلًا عن جميع الفظائع التي ارتكبها العثمانيون ضد الرعايا الفرنسيين. وعلى ذلك فقد قررت حكومة الإدارة في ١٥ أكتوبر وقف بعثة ديكورش ومنعه من الذهاب إلى تركيا.٤٤
وعظم القلق على بونابرت وجيشه في مصر عندما تلاحقت الكوارث بعضها في أثر بعض بسبب تأزم الأمور في مفاوضات مؤتمر رشتاد Rastadt الذي انعقد منذ نوفمبر سنة ١٧٩٧م للنظر في شأن الصلح بين فرنسا والإمبراطورية الرومانية المقدسة بعد صلح كامبو فورميو واستمر منعقدًا طيلة العام التالي دون الوصول إلى نتيجة حاسمة، بل إن العلاقات ما لبثت أن تحرجت بين فرنسا من جانب وبين النمسا وحلفائها من جانب آخر، حتى انتهى الأمر بإعلان الحرب على فرنسا في ٢٢ نوفمبر سنة ١٧٩٨م، وأحرز الفرنسيون بعض الانتصارات في بداية القتال، ولكن جيوشهم سرعان ما لحقت بها الهزيمة بين مارس ويونيو في ميادين القتال في ألمانيا وإيطاليا، ونزل الإنجليز بقيادة دوق يورك في هولندا، واستولوا على أسطولها في «تكسل»، وخشيت حكومة الإدارة عندما بلغها نبأ استعداد حملة دوق يورك أن يكون الغرض منها الذهاب إلى مصر وهزيمة جيش الشرق وقائده.

وكان لهذه الكوارث أثران ظاهران؛ أولهما: وضوح الحاجة إلى بونابرت حتى يتولى مهمة الدفاع عن أرض الوطن، وقد بسطت حكومة الإدارة هذه الرغبة في التعليمات التي أعطتها إلى بروى في ١٥ مارس سنة ١٧٩٩م على نحو ما سبق بيانه، وثانيهما: زيادة القلق على مصير الحملة وجيش الشرق في مصر في وقت كانت قد باءت بالخسران مساعي الحكومة السياسية، ومحاولة الاتصال بالحملة ونجدتها أولًا، ثم تدبير أمر قدومها إلى فرنسا أو على الأقل قدوم الجزء الأكبر من جيشها وعودة أسطول بروي إلى برست دون أن يحقق شيئًا من هذا الغرض الأخير في أغسطس.

وقد نجم عن ذلك أن صار التفكير في أجدى الوسائل لاستدعاء بونابرت من مصر كل ما يشغل حكومة الإدارة، فتقدم تاليران في ٣ سبتمبر سنة ١٧٩٩م٤٥ بتقرير إلى حكومة الإدارة، اعترف فيه صراحة بأنه لم يعد في الإمكان تحقيق تلك المثل العليا والمشروعات الضخمة التي سوَّغت إرسال الحملة إلى مصر، وبأن الواجب يقتضي الحكومة أن تبحث جديًّا الطرق التي تستطيع بها إخراج بونابرت قبل أن تحدق به الأخطار بصورة تجعل من المتعذر بعد ذلك إنقاذه. وأوصى تاليران في تقريره٤٦ بضرورة عقد اتفاق يقوم على إخلاء مصر في نظير تمكين بونابرت من العودة سالمًا إلى فرنسا، ونقل جيش الشرق إلى أرض الوطن على سفن العدو، حيث إنه لم يعد لدى فرنسا سفن كافية لنقل جيشها. فإذا أقرت حكومة الإدارة هذا المبدأ، فالواجب إذن أن تدخل في مفاوضات لهذه الغاية مع تركيا وإنجلترا؛ ذلك بأن تركيا هي صاحبة البلاد المصرية، ولأنه لا يمكن إغفال ما للإنجليز من مصالح ظاهرة في هذه المسألة من الناحيتين التجارية والسياسية، بسبب وقوع مصر على طريق مواصلاتهم مع الهند، فضلًا عن أنهم أصحاب السيطرة في البحر الأبيض، وفي وسعهم بفضل هذه السيطرة البحرية أن يمنعوا الإخلاء إذا شاءوا ذلك وحدث الاتفاق بشأنه على غير رغبةٍ منهم، وعلاوةً على ذلك فإن لدى الإنجليز من السفن ما يكفي لحمل جيش الشرق، وفي وجودهم ضمان لعدم تعريض الجيش العائد إلى عدوان العثمانيين عليهم، وهم المشهورون بالغدر والخيانة.
وكان من رأي تاليران أن تظل القسطنطينية ذاتها مكان المفاوضات المزمعة على أن يتولاها أحد الوكلاء الإسبان حلفاء فرنسا؛ إذ تحول صعوبات الحرب دون إرسال مفاوض فرنسي. ولما كان منتظرًا أن يطلب العدو عدم اشتراك القواد والجند الراجعين إلى فرنسا في أية عمليات عسكرية في أوروبا، فقد أوضح تاليران تعذر إعطاء مثل هذا التعهد دون موافقة بونابرت المبدئية، وكان من رأيه أن الاحتفاظ بهذا الحق لقائد الحملة العام من شأنه أن يحمل بونابرت في النهاية على الكشف عن مركزه الحقيقي في مصر بتحديد موقفه من المعاهدة المنتظرة، حتى إذا أصر بونابرت على رفض إعطاء هذا التعهد جاء رفضه دليلًا على استطاعته المقاومة، وأضحت حكومة الإدارة في مأمن من توجيه أي لومٍ أو تأنيبٍ إليها واتهامها بترك جيش الشرق وقائده تحدق بهما الأخطار من كل جانب. ولذلك يجب على الحكومة إبلاغ بونابرت بما يصح عزمها عليه في شأن هذه المفاوضة، وطلب تاليران أن ينص في شروط الاتفاق على تسليم أولئك المواطنين الذين ألقى بهم الأتراك في السجون، وبلغ عددهم حوالي ألفَي نسمة في رودس والقسطنطينية، وكان دي بوليني de Bouligny السفير الإسباني في القسطنطينية يقوم بإرسال المساعدات لهؤلاء الأسرى ويتوسط في شأنهم لدى السلطات العثمانية، ووقع عليه اختيار تاليران للقيام بالمفاوضة على أن يحمل إليه التعليمات اللازمة رسول إسباني كذلك.٤٧
وقد حدث قبل إعداد هذه التعليمات أن خرج تاليران من وزارة الخارجية وحل محله رينهارت Reinhardt في ٥ سبتمبر ١٧٩٩م، ولكن رينهارت كان من مؤيدي سياسة تاليران والذين يصغون لنصحه وإرشاده، فأتم وضع قواعد الاتفاق المزمع كما أعدها تاليران من قبل، ثم وافقت عليها حكومة الإدارة في ١٠ سبتمبر. على أنه سرعان ما ظهرت صعوبات عدة أرجأت إرسال تعليمات الإدارة للمفاوض الإسباني سريعًا، كان منشؤها اتخاذ روسيا موقف العداء ضد إسبانيا، والخوف من أن تستخدم نفوذها لدى الباب العالي للقبض على السفير الإسباني أو طرده ومنع دخول أي مفاوض إسباني إلى القسطنطينية، ونجم عن احتمال طرد بوليني من تركيا أن شرعت حكومة الإدارة تنظر من جديد في أمر اختيار مفاوضها في القسطنطينية. وفضلًا عن ذلك فقد سبب احتمال الطرد غضب الفرنسيين لما وصلوا إليه من ذل وهوانٍ جعلهم يعتمدون على إسبانيا وملكها في مساعدة الجمهورية، وزاد ظنُّهم سوءًا بالبلاط الإسباني منذ انهزاماتهم الأخيرة.
وقد وجدت حكومة الإدارة مخرجًا من هذا المأزق بأن أضافت إلى التعليمات التي قررت إرسالها إلى بونابرت في ٢٠ سبتمبر بصدد المفاوضة المزمعة مع تركيا؛ عبارة تدعوه فيها إلى عدم الاعتماد اعتمادًا كليًّا على مفاوضة دي بوليني في القسطنطينية، بل تخوله الحكومة الحق في اتخاذ كل ما يتراءى له من إجراءات عسكرية وسياسية تقتضيها الظروف القائمة في سبيل ضمان عودته السريعة إلى فرنسا. وقر الرأي على تكليف ثلاثة رسل مختلفين هم: عثمان أغا أحد التجار من أهل تونس، وفيتاليس Vitallis اليوناني من كورفو، واليهودي هورفيتز Hourvitz من مستخدمي المكتبة الأهلية في باريس، وغادر فيتاليس باريس فعلًا يحمل رسالة بتعليمات حكومة الإدارة إلى بونابرت قائد الحملة في مصر.٤٨
غير أنه حدث في الأيام القليلة التالية ما جعل حكومة الإدارة تعدل عن هذه التعليمات وتستبدل بها غيرها، فقد وصلها في ٤ أكتوبر بريد إسباني يحمل رسالة من بوليني بتاريخ ٢٤ أغسطس،٤٩ يذكر فيها حديثًا له مع الريس أفندي وزير خارجية تركيا يدور حول وساطة إسبانيا المحتملة من أجل الوصول إلى اتفاق بين تركيا وفرنسا على أساس إخلاء مصر وعودة جيش الشرق إلى فرنسا. وكان مما استرعى نظر حكومة الإدارة أن هذا الحديث جرى قبل إصدار أية تعليمات إلى السفير الإسباني في القسطنطينية. وفضلًا عن ذلك فإن اقتراح إخلاء مصر في نظير عودة بونابرت وجيشه إلى فرنسا إنما كان المتقدم به الريس أفندي نفسه. واعتقدت حكومة الإدارة — وقد تلاقت رغباتها مع رغبات الباب العالي — أن في وسعها أن تستغني الآن عن تلك الوساطة الإسبانية البغيضة، وقد عظم هذا الاعتقاد عندما وصلها في مساء اليوم نفسه تقرير من بونابرت بتاريخ ٢٨ يوليو أحضرته السفينة «أوزيريس»، يتحدث فيه عن نزول الأتراك في أبو قير وهزيمتهم، وقد تضمن هذا التقرير وصفًا من وضع الجنرال برتييه Berthier لحملة سوريا يخفي فشل بونابرت أمام عكا تحت ستار العمليات الباهرة التي مكَّنت جيش الشرق من العودة إلى مصر ودخولها دخول الظافر المنتصر،٥٠ فأحدث هذا التقرير تأثيرًا عميقًا في نفوس أعضاء الإدارة، وذاع الاعتقاد بأن بونابرت بعد هذا النصر الباهر لا يمكن أن يفكر في التسليم، وأن اقتراح الريس أفندي الذي وصل باريس عن طريق بوليني لم يكن إلَّا نتيجة لشعور الأتراك بالحرج بعد هزيمتهم، وأنه لم تعد هناك حاجة إلى وساطة إسبانيا التي ما كان يرغم حكومة الإدارة على التفكير فيها سوى توقعها الرفض من جانب بروسيا إذا طُلب إليها التدخل، ثم عدم اطمئنانها إلى السويد التي وجدت من الكياسة أن تظهر شيئًا من العداء نحو فرنسا منذ أن نزلت الهزائم بجيوش الجمهورية.
وعلى ذلك فقد قر الرأي على إلغاء التعليمات السابقة وإعداد أخرى جديدة تعطي بونابرت أوسع السلطات الممكنة للمفاوضة وإبرام الاتفاقات التي يراها، سواء قام بذلك بنفسه أم فضَّل أن يعهد بها إلى أي «فرنسي» يختاره لهذه المهمة،وذلك كله دون أن تقيد حكومة الإدارة نشاطه بتعليمات معينة في هذا الشأن، مكتفيةً بأن تطلب إليه العناية بأمر الأسرى الفرنسيين، وبذر البذور الصالحة لعقد السلام العام في أوروبا.٥١
وكانت الخطوة التالية أن شرعت حكومة الإدارة تبحث في الوسائل التي تمكِّنها من إبلاغ رغباتها إلى بونابرت، فقر رأيها على إرسال نسخة من رسالتها إلى بونابرت إلى فينَّا ومنها إلى بوليني، حتى يطلب من الأتراك السماح بإرسالها إلى بونابرت في مصر وتجهيز سفينتين في جنوه وطولون لحمل نفس التعليمات إلى قائد الحملة. وكان مما طمأن حكومة الإدارة على انفتاح الطريق إلى مصر أن استطاعت السفينة هيروندل Hirondelle الإفلات من رقابة الإنجليز والوصول برسالة من بونابرت يعلن فيها سقوط قلعة العريش. وطربت الإدارة لهذه الأخبار السارة التي أكَّدت في نظرها هزيمة الأتراك نهائيًّا. وفضلًا عن ذلك فقد قوي الأمل لديها في إمكان الوصول إلى صلحٍ مشرَّفٍ مع تركيا عندما أخذت الأخبار تترى عن انتصار جيوشها ضد الإنجليز في هولندا على يد الجنرال برون Brune، وضد الروس في سويسرا على يد الجنرال ماسينا Masséna، فانكب رينهارت وزير الخارجية على إنجاز صياغة تعليمات حكومته الأخيرة لبونابرت بكل همة. وبينما هو على وشك الفراغ منها ذاع في باريس فجأة في ١٣ أكتوبر خبر اهتزت له دوائر الحكومة، هو نزول بونابرت في فرجوز Fréjus في ٩ أكتوبر، وتجاوز قواعد الحجر الصحي في هذا الميناء الصغير حتى يصل بونابرت إلى باريس في أسرع وقت ممكن.٥٢

وصول بونابرت إلى باريس

وأزعج حكومة الإدارة ولا شك حضور بونابرت المفاجئ، في وقت كانت هذه الحكومة قد بنت كل مشروعاتها على عدم استطاعة بونابرت مغادرة مصر والوصول إلى فرنسا قبل ربيع العام التالي (١٨٠٠م) على الأقل بسبب انقطاع المواصلات بين البلدين مدة طويلة. ومع أن بونابرت كان يعتزم بعد مكثه فترة قصيرة في مصر العودة إلى فرنسا لتنفيذ مشروع الحملة الكبيرة ضد إنجلترا، فقد اضطر إلى إرجاء موعد عودته في شهرَي سبتمبر وأكتوبر ١٨٩٨م حتى يبين له موقف الأتراك من جهة، ويتم توطيد أقدام الفرنسيين في المستعمرة الجديدة من جهة أخرى، وإن كان على استعداد لمغادرة البلاد في التو والساعة إذا جاءته الأخبار من فرنسا بما يفيد تألب أعداء الجمهورية عليها وعدم استتباب السلام في أوروبا،٥٣ أما وقد تحقق لديه ذلك بفضل الرسائل التي حملها إليه كلٌّ من وينان مورو وبلفيل Belville، ثم ما بلغه عن طريق الصحف التي بعث بها إليه الإنجليز،٥٤ فقد قر رأيه على الرحيل إلى فرنسا في أول فرصة سانحة، وتم له ما أراد فاستطاع الإفلات من رقابة الإنجليز في البحر الأبيض ووصل سالمًا إلى الوطن.
وكان في أثناء سفره السريع من فرجوز إلى باريس أن قابل بونابرت في «إكس Aix» رسول حكومة الإدارة فيتاليس وفضَّ التعليمات والرسائل التي كان يحملها فيتاليس إليه، وسرعان ما أحاط بونابرت إحاطة تامة بالموقف ومشروعات حكومة الإدارة بصدد المفاوضة مع تركيا ومحاولة استقدام بونابرت من مصر، وذلك بفضل الأخبار التي نقلها إليه كل من تاليران والأميرال بروي، وكان بروي منذ ١٤ أكتوبر قد أرسل إلى يوسف بونابرت صورة من التعليمات الصادرة إليه من طولون بتاريخ ٢٦ مايو،٥٥ ولم يدهش بونابرت لهذه الأخبار، واعتبر الدخول في مفاوضة مع تركيا أمرًا طبيعيًّا تسوِّغه الظروف القائمة، وأشار إشارة عابرة إلى محاولته المفاوضة مع تركيا.٥٦
وبلغ بونابرت باريس في ١٦ أكتوبر، وترتب على ذلك إلغاء تعليمات حكومة الإدارة الأخيرة، وإعادة بحث الموقف من جديد. ولما كان ضروريًّا أن تتخذ الحكومة قرارًا بشأن مقترحات السلام مع تركيا التي وصلتها عن طريق بوليني، فقد أعد رينهارت تقريرًا في ٢ نوفمبر يرسم فيه خطوط السياسة التي يجب اتِّباعها، ويطلب من حكومة الإدارة إصدار أوامرها لتنفيذ ما تراه من الحلول التي تقدَّم بها،٥٧ وكانت هذه ثلاثة: إمَّا تقوية جيش الشرق بصورة تمكِّنه من البقاء في مصر والمحافظة على المستعمرة، ووجه الاعتراض على ذلك عدم وجود الرجال والمال والسفن اللازمة لفتح طريق المواصلات بين مصر وفرنسا. وإمَّا إخلاء وادي النيل، ولا يؤيد ذلك ما يذكره بونابرت نفسه من أن في استطاعة جيش الشرق — على الرغم من ضعفه — أن يدفع كل هجوم قد يقوم به العدو ضد المستعمرة مدة طويلة من الزمن. وإمَّا وعد الأتراك بإعادة مصر إليهم عند عقد السلام العام والاحتفاظ بهذه البلاد إلى أن يحين وقت الصلح؛ وذلك حتى يتسنى للجمهورية أن تحصل على تعويض في أثناء المفاوضة مع إنجلترا لقاء الجلاء عن مصر وإخلائها.

ولما كان رينهارت يفضل هذا الحل الأخير، فقد اقترح إرسال مندوب إلى مصر لفتح باب المفاوضة مع الأتراك، ورشَّح لهذه الغاية ديكورش، على أن يبلغ بوليني إذا كان لا يزال في القسطنطينية ولم يطرده الأتراك منها بعد هذا الاتجاه الجديد بصورة ودية، وكان الباب العالي قد أمر بإخراج بوليني منذ ٢٩ سبتمبر، وظلت الحكومة تجهل ذلك حتى يوم ١٤ نوفمبر.

ولم تشأ حكومة الإدارة أن تتخذ قرارًا فاصلًا في هذه الموضوعات دون استشارة بونابرت ومعرفة رأيه، فأعلن بونابرت صراحةً أن من الواجب أن تسترشد الحكومة في سياستها بتلك المبادئ التي انطوت عليها رسالته إلى الصدر الأعظم في ١٧ أغسطس سنة ١٧٩٩م ثم تعليماته إلى الجنرال كليبر.٥٨ وفضلًا عن ذلك فإنه يتعذر عليه أن يرفض الحل الأول الذي تضمنه تقرير رينهارت، بل يرى بونابرت على العكس من ذلك أنه من الضروري أن يبذل كل جهد لنجدة أولئك الشجعان الذين تركهم في مصر والعمل على دعم مراكزهم، ولا مندوحة لذلك عن إرسال القوات الكبيرة إليهم، وأن يطلب إلى إسبانيا المعاونة في هذا الأمر، واعتبر تعزيز جيش الشرق وإرسال القوة الكافية إلى مصر واجبًا تقتضيه مصلحة فرنسا والمحافظة على شرفها. وقد أيَّد بونابرت إرسال ديكورش للمفاوضة في حدود التعليمات التي تركها لكليبر. وعلى ذلك فقد وافقت حكومة الإدارة في ٥ نوفمبر على بعثة ديكورش،٥٩ غير أنه ما انقضت أيام قليلة على ذلك حتى حدث انقلاب بريمير المشهور، ذلك الانقلاب الذي طوَّح في يومَي ٩ و١٠ نوفمبر بحكومة الإدارة وأوصل بونابرت إلى منصب القنصلية.

سياسة القنصل الأول

وكان معنى استئثار بونابرت بكل سلطة نتيجة لهذا الانقلاب الجديد أن أصبح يقع على كاهله وحده وقبل أي رجل آخر عبء مسئولية البت في شأن مصر وتقرير مصيرها والسهر على سلامة جنده. ومن الثابت أن بونابرت على الرغم من اهتمامه العظيم وقتئذٍ بدفع خطر الأعداء عن فرنسا في القارة الأوروبية ظل يبذل قصارى جهده لنجدة جيش الشرق وخلاصه، وبادر بإصدار نداء يطمئن به هذا الجيش إلى أن حكومة القنصلية جد مهتمة بأمره ومشغولة به كل المشغولية.٦٠
وكان من الواضح من أول الأمر أن العامل الحاسم في فشل كل المحاولات السابقة، سواء لإنشاء المواصلات المنتظمة والمأمونة مع جيش الشرق أم إرسال النجدات إليه والمحافظة على المستعمرة الجديدة؛ كان حاجة فرنسا إلى البحرية القوية، وأنه ما دام متعذرًا على القنصل الأول أن يعيد بناء هذه البحرية في وقت قصير فإن المفاوضة من أجل عقد السلام مع تركيا أضمن الوسائل لخلاص مصر وبقائها في حوزة الفرنسيين، أو خلاص كليبر وجنوده على الأقل إذا أصرَّت تركيا على استردادها.٦١
وعلى ذلك فقد أُعدَّت تعليمات ديكورش على ضوء التعليمات التي تركها بونابرت لكليبر، ومدارها الموافقة على إخلاء مصر إذا ثبت أن الوباء منتشر في مصر ويربو عدد ضحاياه من الفرنسيين على خمسمائة وألف، وإذا حل شهر فلوريال (أبريل-مايو ١٨٠٠م) دون أن تصل نجدات إلى جيش الشرق، أو كانت النجدات التي وصلته ضئيلة ولا تسد حاجته. وغادر ديكورش باريس في ٧ ديسمبر، وتعطل بسبب مشقة الطريق مدة فبلغ مرسيليا في ٢٥ ديسمبر، وبعد انتظار طويل ركب البحر على ظهر الفرقاطة «المصرية L’Egyptienne» في ٢٠ مارس ١٨٠٠م، لكنه اضطر إلى التوقف عند جزر هيرس Hyères على مسافة قصيرة من طولون بسبب هبوب الرياح العنيفة، وهناك بلغ ديكورش خبر اتفاق العريش الذي عقده كليبر، فعاد إلى طولون في ٩ أبريل. وفضلًا عن ذلك فقد كتب إليه تاليران منذ ٣ أبريل ١٨٠٠م «بناءً على ما وصله من أخبار الليفانت» أنه يتعرض في مروره من البحر الأبيض لأخطار كثيرة دون طائل، ولا فائدة من ذهابه إلى مصر.٦٢
وكان لذيوع خبر عقد اتفاق العريش أثرٌ ظاهرٌ في نفوس الفرنسيين قاطبةً، فقد تنفَّس هؤلاء الصُّعَداء بعد أن كثرت الإشاعات منذ شهر مارس ١٨٠٠م على وجه الخصوص عن تحرج الأحوال في مصر وانتشار الأمراض التي خشي الباريسيون من فتكها الذريع بجند الحملة، واعتقدوا أن الجند الذين ظلوا على قيد الحياة قد أخذ الضعف منهم كل مأخذ، حتى إنهم صاروا يعجزون عن الصمود أمام العدو وينشدون الخلاص في التقهقر المستمر. وبادرت الصحف بكتابة كل ما من شأنه تهدئة النفوس ولكن من غير طائل، فظل القلق يسود باريس٦٣ حتى أذاعت الصحف الإنجليزية في أوائل أبريل خبر «تسليم» كليبر، ونشرت الصحف الفرنسية بدورها نص اتفاق العريش في ١٣ أبريل، وبات واجبًا على الحكومة أن تعلن موقفها من هذا الاتفاق.
ولما كان تاليران من كبار مؤيدي هذا الاتفاق، فقد أخذ منذ ذيوع خبر اتفاق العريش ينصح القنصل الأول بضرورة قبول هذا الاتفاق لأسبابٍ عدة، منها أنه يجب على الحكومة أن تنظر بعين الاعتبار لما يطلبه الرأي العام الفرنسي عندما ساد الاعتقاد بين الفرنسيين أن كليبر وقواده ما كان في استطاعتهم أن يحصلوا على شروط أفضل مما حصلوا عليها، وأن مصلحة الوطن تحتم استقدام جيش الشرق من مصر حتى يتسنى له الدفاع عن فرنسا ذاتها، وكان من رأي تاليران أن الاتفاق لم يفرغ في صيغة «التسليم»، بل كانت له كل خصائص «المعاهدة» وأنه يرحب به. ولم يسع القنصل الأول سوى الموافقة على اتفاق العريش على الرغم من تذمره من سياسة كليبر التي أفضت في نظره إلى فقد «المستعمرة»، فضلًا عن أنه كان شديد الغضب على كليبر بسبب التهم التي كالها له في تقرير ٢٦ سبتمبر ١٧٩٩م، ذلك التقرير الذي وصل القنصل الأول في باريس منذ ١٢ يناير ١٨٠٠م، ويحمِّل بونابرت وحده أكبر المسئولية عن سوء الحال التي وصلت إليها الحملة.٦٤
على أن محاولة الانتقام من كليبر وقتئذٍ واتهامه بالتخاذل والتفريط في المستعمرة كان عملًا يبعد كل البعد عن عين الصواب والحكمة؛ ذلك أن الرأي العام كان يرفض أن تُوجَّه اتهامات من هذا القبيل لصاحب اتفاق العريش. وفضلًا عن ذلك فقد خشي بونابرت أن يُثار الاهتمام ببحث مسلكه هو نفسه عندما شاء أن يترك مصر في ظروف لم تكن قد تحرجت فيها الأحوال على نحو ما حدث بعد ذلك، ولهذه الأسباب إذن وجد بونابرت من الخير أن يوجه الثناء لجند جيش الشرق٦٥ الشجعان الذين يعودون إلى الوطن بعد أن خلَّفوا في مصر آثارًا خالدةً، وأمر وزير البحرية أن يُعلَن عن لسانه إلى كليبر أنه قد أقام الحجة بأعماله الباهرة على أن بونابرت كان محقًّا في اختياره لقيادة الحملة من بعده وأنه رفع اسم فرنسا عاليًا.٦٦

وقصر بونابرت جهوده بعد ذلك على محاولة إقناع الشعب الفرنسي بأن مسئولية «التسليم» إنما تقع على كاهل كليبر وحده؛ ذلك أنه كان يخشى من أن يدبِّر كليبر عند عودته حملات النقد اللاذع ضده في وقتٍ كثر فيه الحديث عن تذمر جيش الشرق من رحيل بونابرت إلى فرنسا، وفي ذلك من الخطورة الكبيرة ما فيه على مركز القنصل الأول الذي لم يكن قد تأيد سلطانه بعد، قبل انتصاره العظيم في موقعة مارنجو، فبعث بونابرت من لوزان وهو في طريقه إلى ميدان حملته الإيطالية الثانية، برسالة إلى لوبران وكمبسيرس زميليه القنصلين في باريس في منتصف مايو ١٨٠٠م يحض فيها على ضرورة إطلاع الشعب الفرنسي على حقيقة الموقف في مصر عند رحيل بونابرت منها، وعندما كان الجيش ما يزال محتفظًا بقوته على الرغم من المعارك الكثيرة التي خاض غمارها، ولم يكن الطاعون قد انتشر في مصر فضلًا عن اعتقاد بونابرت أن ترك الجيش والتخلي عنه عملٌ يتسم بالجبن والنذالة.

ومما يؤيد القول بأن جمهرة قواد الحملة ما كانوا يرضون عن تسليم كليبر تلك الرسائل التي ذكر بونابرت أنها وصلته من ديزيه٦٧ ومنو٦٨   ودافو Davout وغيرهم ممن كانوا لا يوافقون في قرارة نفوسهم على إخلاء مصر وفقدها، وقد طلب بونابرت إلى لوبران وتاليران إعداد مقالات في ذلك كي تنشرها الصحف، مع بيان الجهود التي يبذلها بونابرت القنصل الأول لتأييد جيش الشرق في مصر، وحتى تعرف أوروبا ذاتها أن مصر ما كانت تخرج من حوزة فرنسا لو أن بونابرت بقي بها.٦٩
وفي خطاب آخر لديزيه حاول بونابرت أن يتنصل من كل مسئولية في عقد اتفاق العريش،٧٠ وكان من الطبيعي أن يهتم بونابرت في رسالته لزميليه القنصلين بدفع أي اتهام بإهمال شأن الحملة وعدم إرسال النجدات إليها عقب وصوله إلى باريس مباشرة، فذكر أنه وجد الأخطار عند مجيئه تحدق بالجمهورية من كل جانب، والأسطول ما يزال رابضًا في برست بدلًا من وجوده في طولون ولا رجاء فيه، فضلًا عن محاصرة الإنجليز له وتهديدهم إياه، وكان الواجب يقتضي بونابرت قبل أي شيء آخر أن يخمد الاضطرابات في فنديه، ويجمع المال اللازم لإنجاز الاستعدادات اللازمة، وقد تم تجهيز الأسطول وصدرت الأوامر بإبحاره فعلًا قبل أن يصل من القسطنطينية نبأ تسليم كليبر بأيام قليلة.٧١
وكان واضحًا أن القنصل الأول إنما يبغي من كتاباته هذه إبراز مسألتين هامتين: إلقاء مسئولية الإخلاء على كليبر، ومعارضة مبدأ الإخلاء على غير الشروط التي تضمنتها تعليماته إلى كليبر أو تلك التي أُعطيت إلى ديكورش، وتنطوي جميعها على رغبته الصادقة في نجدة الحملة وجيش الشرق إذا تعذر جلاؤها عن مصر في الظروف التي حددها بونابرت في هذه التعليمات. وعلى ذلك فإنه ما جاءت إلى باريس أخبار نقض اتفاق العريش وانتصار كليبر على العدو في معركة «هليوبوليس»، حتى بادر بونابرت يطلب إلى كارنو وزير البحرية في ٩ يوليو ١٨٠٠م أن يكتب إلى كليبر مؤكِّدًا له وصول النجدات إلى مصر في خلال الشتاء القادم، ويطمئنه إلى قرب عقد السلام العام (في أوروبا) في بحر ستة شهور، ويظهر له ما يعقده القنصل الأول من آمال على إمكانه المقاومة والبقاء في مصر. ويكفي كليبر دليلًا على أن من المصلحة الاحتفاظ بمصر وتأمين فتوحه بها ما أظهره الإنجليز من غدرٍ وسوء نية، بينما أن لدى بونابرت ما يحمله على الاعتقاد بأن الأتراك يفضلون أن يتركوا كليبر وجيشه في مصر — كقواتٍ «مساعدة» — على تسليم هذه الفتوح إلى الإنجليز. وفضلًا عن ذلك فالواجب يقتضي كليبر أن يأخذ بعين الاعتبار المحافظة على سمعة الجيش الفرنسي ومجده، ومصالح فرنسا التجارية في الشرق، والمزايا التي يمكن الحصول عليها في صورة تعويضات عظيمة من إنجلترا إذا بقيت مصر في حوزة فرنسا إلى وقت عقد السلام العام. وأكد القنصل الأول اعتماده على كليبر ذلك الاعتماد الذي طلب أن يكون نصيبه كذلك من كليبر نفسه.٧٢
وبدأت من ثم تلك المحاولات الدبلوماسية والعسكرية التي أراد بها بونابرت الوصول إلى عقد السلام في أوروبا نهائيًّا، أو إبرام اتفاقات من شأنها فتح طريق المواصلات البحرية مع مصر، وإتاحة الفرصة لإرسال النجدات التي تمكِّن جيش الشرق من الاحتفاظ بهذه المستعمرة الفرنسية. وكان بونابرت شديد الإيمان بأن في وسع الفرنسيين أن يوطِّدوا أقدامهم في مصر إذا طال الأمر على بقائهم فيها، وامتنع العدو عن مناضلتهم ردحًا من الزمن يصلحون في أثنائه شئونهم، وأن في وسعه هو الآخر أن يتخذ من بقاء مصر في حوزة فرنسا وسيلة تمكِّنه من عقد صلح مشرف مع إنجلترا.٧٣ وكان بونابرت يرجو نظير إخلاء مصر أن يعوض على فرنسا خسارتها في سان دومنجو بالاستيلاء على لويزيانا في حوض المسيسبي.٧٤

الاتصال بجيش الشرق

ولم يكن هناك مناص لنجاح هذه السياسة من أن يحتفظ جيش الشرق في مصر بروحه العالية، ويمحو من أذهان الجند أن حكومة القنصلية قد أهملت شأنهم، بل إشاعة الطمأنينة في نفوسهم وإقناعهم بأن القنصل الأول لا يني لحظة عن التفكير في أمرهم وتدبير نجدتهم.٧٥ والوسيلة الظاهرة لضمان ذلك إنما هي اختراق الحصار الإنجليزي، وإرسال السفن المحملة بالمؤن والذخائر والرجال وأخبار الوطن ومنشورات القنصل الأول «المهدئة» ورسائله «المسكنة». وقد أدرك بونابرت منذ أن استقامت الأمور له في فرنسا أهمية ذلك كله، وعلى ذلك فقد بادر عقب انقلاب القنصلية بإصدار أمره إلى وزير البحرية في ١٥ نوفمبر بإرسال الإبريق لودي Lodi إلى مصر، على أن يُجهَّز إبريقان آخران لإبحارهما في غضون نوفمبر وديسمبر، ثم مركب بريد والفرقاطة «المصرية L’Egyptienne».
وقد استطاعت «لودي» الوصول إلى دمياط في ٢٤ فبراير ١٨٠٠م٧٦ تحمل الجنرال «جالبو Galbaud»، بينما وصلت سفينة أخرى «أوزيريس» إلى أبو قير بعد أربعة أيام تحمل أحد كبار الضباط لاتور موربوج. ولم يشأ القنصل الأول وقد ظفر بالقنصلية أن يعترف وسط هذا النصر بعجزه عن نجدة جنده الشجعان في مصر، ووجد من العبث أن يعتمد على هذه الجهود «الجزئية» في إمداد الحملة عندما استطاعت سفينتان فحسب الوصول إلى الشواطئ المصرية، فقرر أن يستخدم في هذه الغاية البحرية الفرنسية،٧٧ فأصدر أوامره إلى بروي في برست في أوائل يناير سنة ١٨٠٠م أن يخرج بأسطوله من الميناء ويذهب بكل سرعة إلى مصر يحمل النجدات الكبيرة إليها.٧٨
ثم كرر هذه الأوامر ثانية في ٢٢ فبراير على أن يأخذ بروي معه الأسطول الإسباني الذي جاء به إلى برست في أغسطس الماضي، فيبدأ بمطاردة الأسطول الإنجليزي الواقف على حصار هذا الميناء، ويجتاز المضيق «جبل طارق»، ويرفع الحصار عن مالطا، ويرسل قبل دخوله إلى ميناء طولون جزءًا من أسطوله مزوَّدًا بالجند والأسلحة إلى الإسكندرية.٧٩ غير أن بروي لم يشأ المجازفة بالاشتباك مع أسطول الإنجليز الكبير في أية معارك، واضطر بونابرت في الأيام الأخيرة من شهر مارس أن يترك لأمير البحر البت في أمر الذهاب إلى مصر إطلاقًا إذا ظل الإنجليز يحشدون قوتهم ولم تنصرف سفنهم قبل مضيِّ وقت طويل.٨٠
وشُغِل بونابرت بحملته في إيطاليا، حتى إذا تم له النصر في معركة مارنجو الكبيرة بادر بعد أقل من أسبوع واحد يكتب من ميلان في ٢٠ يونيو لإعداد اثنتي عشرة سفينة تحمل الذخائر والبريد إلى مصر،٨١ وأصدر أوامره في الشهر التالي لأساطيل برست ورشفور حتى تأخذ أهبتها للخروج إلى البحر الأبيض، ثم بعث يرجو من مدريد إصدار الأوامر إلى أمير البحر الإسباني جرافينا Gravina الموجود بأسطوله في برست أن يتعاون مع الأسطول الفرنسي، فيتسنى للقنصل الأول أن يجمع من الأسطولين الموجودين بهذا الميناء أربعين مركبًا حربيًّا، لا يلبث أن ينضم إليها بقية قطع الأسطول الفرنسي الموزعة في موانئ لوريان Lorient   ورشفور Rochefort وطولون، على أن تنضم إليها كذلك سفن الإسبان الموجودة في موانئ فيرول Ferrol وقادش وقرطاجنة، فتصدر حكومة مدريد أوامرها إلى الأميرال مزيريدو لإتمام هذا التعاون.
وكان غرض بونابرت أن تجري هذه العمليات بصورة تزعج الإنجليز، وتلقي في صفوف أسطولهم الحيرة والارتباك، وتعطي القنصل الأول فرصة مواتية لإخراج أفضل قطع الأسطول الفرنسي الباقية بقيادة الأميرال غانتوم Ganteaume تحمل ستة آلاف رجل إلى جانب الإمدادات العظيمة من مؤن وأسلحة وذخائر إلى مصر.٨٢ ولمَّا كان الإسبان ما يزالون يرفضون خروج أسطولهم إلى البحر الأبيض، ويخشون مغبة هذه العمليات الواسعة التي يعجز في نظرهم الأسطولان الفرنسي والإسباني عن القيام بها بسبب حال سفنهما السيئة؛ فقد عوَّل القنصل الأول على التغلب على هذه المعارضة بالطرق الدبلوماسية، واعتمد في ذلك على مساعي الجنرال برتييه الذي أوفده إلى مدريد للمفاوضة من أجل تعزيز عرش بارما، ويمت صاحبه بصلة القرابة لملكة إسبانيا، كما أن زوجه ماري لويز كانت ابنة ملك إسبانيا شارل الرابع والملكة لويز من أسرة بارما، فتعهد بونابرت (في أواخر أغسطس) بإعلاء بارما إلى مرتبة الملكية، وتوسيع حدود المملكة الجديدة نظير إعادة لويزيانا إلى فرنسا وانضمام إسبانيا إليها في تهديد البرتغال، وحملها على عقد الصلح مع الجمهورية الفرنسية وفصم علاقاتها مع إنجلترا، ثم التنازل عن جزء من الأسطول الإسباني الموجود في برست هدية إلى فرنسا.٨٣
وفي انتظار نجاح هذه المفاوضات الدائرة مع إسبانيا أصرَّ القنصل الأول على أن تصله على الدوام أخبار جيش الشرق في مصر من جهة، وعلى أن تذهب السفن الفرنسية إلى الشواطئ المصرية محملة بالذخائر والأسلحة والعقاقير الطبية، وهذا عدا العمال البنائين والمدفعيين والفرسان، وتعاقد مع تجار من الجزائر لأجل إرسال الأنبذة اللازمة لجيش الشرق. وفضلًا عن ذلك فقد حرص القنصل الأول على توفير وسائل التسلية والترفيه عن جنده فجُمعت جوقة كوميدية لإرسالها إلى مصر، ورُتِّبت الاشتراكات في أمهات الصحف الباريسية باسم كبار ضباط الحملة حتى تصلهم الصحف على الدوام فيقرءوا فيها أنباء الوطن. وطلب إلى السيدات اللاتي كان لهن أقرباء في مصر أن يذهبن إليها،٨٤ وذلك كله من أجل تعزيز الروح المعنوية بين رجال الحملة وجيش الشرق.٨٥ وأصدر القنصل الأول أوامره حتى تقوم الأباريق وسفن البريد والسفن التجارية من جميع موانئ البحر الأبيض — بما في ذلك الموانئ الإسبانية والإيطالية — إلى مصر بصورة منتظمة.
وهكذا شهدت الشهور القليلة التالية من عام ١٨٠٠م وصول عدد من السفن إلى الشواطئ المصرية، وقد عادت كذلك بعضها مزودة بمختلف الأنباء من المستعمرة، فغادرت «لودي» طولون في منتصف أغسطس ١٨٠٠م فوصلت الإسكندرية في ١٤ سبتمبر بعد مطاردة عنيفة اضطرتها إلى إلقاء ما عليها من ذخائر وأسلحة إلى البحر حتى يخف حملها وتنجو من المطاردة. وفي آخر أغسطس أبحرت مركبة البريد لاكابريسيوز La Capricieuse من طولون، ولكن الإنجليز ما لبثوا أن أسروها، وكذلك كان مصير مركب آخر «لاندبندان L’Independant». وفي غضون شهر سبتمبر غادرت طولون النقالة لاروسالي La Rosali ومركب البريد لوديجاجيه Le Degagé، فوصلت الأولى الإسكندرية في ٢٣ أكتوبر والثانية في ٢٩ منه. وفي شهر أكتوبر غادرت طولون السفينتان جين ألكسندرين Jeune Alexandrine   وسانت فيليب Saint Philippe، فأسر الإنجليز الأولى ولكنها وقعت في قبضة الفرنسيين ثانيةً في أنكونا، أمَّا الثانية فقد وصلت الإسكندرية في آخر أكتوبر، وقد أحضرت هذه السفينة أمر تثبيت منو في قيادة الحملة كما جاءت بطائفة من الأخبار الهامة.
وفي ٣ نوفمبر غادرت «أوزيريس» طولون ولكنها غرقت قريبًا من شاطئ تونس، واستطاع الوكيل الفرنسي في الوجاقات «وجاقات الغرب» أن يبتاع سفينة جديدة أطلق عليها اسم السفينة الغارقة وبعث بها إلى الإسكندرية محملة بذخائر الحرب وغير ذلك من المهمات والأدوات التي أمكن إنقاذها من الغرق، فوصلت أوزيريس الجديدة إلى الإسكندرية في ٨ يناير من العام التالي، وفي غضون هذا الشهر الأخير حاولت السفينة لوجرييه Le Guerrier الوصول إلى مصر ولكنها أخفقت في مهمتها، بينما استطاع مركب البريد لوتيربيلان Turbulent الدخول إلى الإسكندرية في ٤ يناير ١٨٠١م. وفضلًا عن ذلك فقد استطاعت بعض السفن التي غادرت الإسكندرية في الشهور السابقة أن تصل إلى طولون بسلام، فجاءت «أوزيريس» (القديمة) في أول سبتمبر ١٨٠٠م تحمل أنباء مقتل الجنرال كليبر، وفي ٥ ديسمبر من العام نفسه وصلت كذلك سفينة «لودي» تحمل فيال ولازوسكي رسولي منو إلى القنصل الأول، وفي ٢٥ ديسمبر وصلت السفينة الحربية «ماريا تريزا Marie-Thrèse» والنقالة «سانت جان Saint Jean» تحملان أعلام العثمانيين التي غنمها الفرنسيون في دمياط وهليوبوليس.٨٦
وواتت الفرص القنصل الأول في أثناء ذلك كله ليمضي في إرسال ما يستطيعه من نجدات إلى مصر، بل ليفكر أيضًا في إعداد أسطول كبير لهذه الغاية عندما أسفرت مساعيه السياسية (نتيجة لانتصاراته العسكرية ولا شك) عن نجاح مهمة برتييه في مدريد. ثم تأيدت العلاقات بين فرنسا وإسبانيا عندما حقق القنصل الأول وعده في صلح لونفيل Lunéville في ٩ فبراير ١٨٠١م، فوسعت بارما ممتلكاتها وأُعطي دوقها لقب الملكية الذي يطمع فيه، ورضي الإسبان بأن يشتركوا مع الفرنسيين في الهجوم على البورتغال وغزوها. وفضلًا عن ذلك فقد عقد بونابرت مع نابولي في ١٨ مارس معاهدة فلورنسا التي وافقت نابولي بمقتضاها على إغلاق موانيها في وجه السفن الإنجليزية، عدا إعطاء فرنسا ثلاث فرقاطات مسلحة، واحتل الجنرال صولت Soult موانئ برنديزي وأترنتو وتارنتو في إيطاليا الجنوبية، وأعدَّ المراسي في خليج تارانت ونزل بشواطئ هذا الخليج جيش كبير لنقله فيما بعد إلى مصر.٨٧
وساعد قبل ذلك انحياز بول الأول قيصر الروسيا إلى جانب فرنسا على إحياء ذلك الحياد المسلح القديم الذي أفلحت القيصرة كاترين الثانية منذ نيف وعشرين عامًا في إبرامه، فعقدت روسيا والسويد والدانمرك معاهدة في ١٦ ديسمبر ١٨٠٠م لم تلبث أن انضمت إليها بروسيا كذلك، وقد أغلقت دول الشمال بمقتضى هذا الحياد المسلح موانيها في وجه السفن الإنجليزية، وقد اضطر الإنجليز بسبب ذلك كله إلى توزيع أسطولهم في أماكن عدة أمام الشواطئ المصرية وعند جبل طارق وعلى شاطئ البرتغال، ثم أمام رشفور وبرست، وهذا عدا مراقبة الدول المحايدة في بحر الشمال. واعتقد القنصل الأول أن الفرصة قد سنحت أخيرًا لكي يقيم الدليل أمام العالم قاطبةً على أنه عندما قاد الحملة إلى مصر من ستة وثلاثين ألف رجل لم يكن ذلك الشاب الذي غرر به الخيال الواسع، بل إن مشروع الحملة كان مشروعًا جديًّا ولا مناص من أن ينتهي أمره إلى خير النتائج وأبقاها أثرًا في المحافظة على مصالح الوطن.٨٨ ومع أن بونابرت لم يكن موفقًا في مفاوضاته في لندن — على نحو ما سيأتي ذكره — من أجل الحصول على هدنة مع الإنجليز تمكِّنه من إدخال عدد من السفن بأمان إلى الإسكندرية؛ فقد ضمن تبدل الأحوال في القارة ذاتها على الصورة التي شهدناها والفراغ من مشغولية الحرب البرية أن يجد القنصل الأول متسعًا من الوقت لقصر جهوده على مواصلة الحرب البحرية، لا سيما وقد باتت الشواطئ الأوروبية تخضع جميعها تقريبًا لنفوذه وسلطانه.
وعلى ذلك فقد غدا الاهتمام بإعداد المشروعات العظيمة التي تكفل المحافظة على مصر يستأثر بكل تفكيره، ومن ذلك صُنْع نوع خاص من السفن يستطيع الدخول في ميناء الإسكندرية دون حاجة إلى إنزال المدافع إلى البر قبل دخول الميناء، فوافق على نموذج منها في ديسمبر ١٨٠٠م، وأصدر أوامره بصنع عدد من هذه السفن سريعًا، وفي انتظار ذلك طلب في الشهر نفسه إلى موانئ ليفورنه وأنكونا وجنوه٨٩ أن تبعث إلى مصر بالسفن المحملة بالضباط والعمال والمغنين والراقصات والممثلين.٩٠ وكتب إلى لوسيان بونابرت السفير الفرنسي في مدريد في ديسمبر ١٨٠٠م وفي يناير من العام التالي أن يعمل من أجل إرسال سفن إسبانية تحمل إلى جيش الشرق الذخائر والأسلحة والأدوات الطبية، كما طلب إليه أن يبعث عددًا كبيرًا من السفن التجارية تنقل إلى مصر الأنبذة والمشروبات الروحية. وفضلًا عن ذلك كلف لوسيان بإرسال الأنباء إلى مصر، ثم الكتابة إلى جيش الشرق بما يشعره باهتمام «أوروبا وإسبانيا» بأمره، وما تحفظه له بلدان القارة من احترام وتقدير عظيمين.٩١ وفي الموانئ الإيطالية وفي طولون جرى العمل على قدمٍ وساقٍ في ديسمبر ١٨٠٠م وفي الشهور التالية، فغادرت السفينة تيرين Turenne ميناء ليفورنه في ٢٥ ديسمبر.
وما إن وصل الجنرال مورا Murat إلى أنكونا بعد ذلك حتى سارت الاستعدادات بكل همة لخروج أربع سفن من هذا الميناء، كما غادرت مركب البريد كارولين Caroline جنوه في أواخر فبراير ١٨٠١م، وفي المدة بين ٢٠ يناير و٢٥ أبريل غادرت طولون الفرقاطة لاسانباريل La Sans Parielle والإبريقان لودي وبرودان Prudent، والسفينتان جوديونيون Good Union   ولافيرج دينيج La Vièrge des Nièges، بينما غادرت في شهرَي مارس وأبريل السفينتان كورييه ديقاديش Courrier de Cadix وسانت أنتوان ديبادوا Saint-Antoine de Padoue ميناء قرطاجنة الإسباني، ثم جرى تسليح الإبريق ليسبيجل L’Espiègle في تارنتو في أبريل ومايو. وقد وقعت أكثر هذه السفن في قبضة الإنجليز، واستطاعت سفينتان فحسب هما جوديونيون ولودي الوصول إلى الإسكندرية؛ الأولى في ٢٢ فبراير والثانية في ٣ مارس.٩٢ وفضلًا عن ذلك جُهِّزت حملتان صغيرتان للخروج إلى مصر في شهرَي يناير وفبراير، تألفت أولاهما من الفرقاطتين لاجوستيس La Justice   وليجبسيين L’Egyptienne غادرتا طولون في ٢٤ يناير تحملان عدا الأسلحة والذخائر قوة كبيرة من الجند، فبلغت الإسكندرية في ٣ فبراير.٩٣ أمَّا الحملة الثانية فقد خرجت من رشفور في ٢٠ فبراير وكانت تتألف من الفرقاطتين لافريكان L’Africane   وريجنيريه Régénérée، وتحملان نيفًا وخمسمائة جندي بقيادة الجنرال ديفورنو Desfourneaux، ولكن ما لبث هبوب الرياح الشديدة أن فصل الفرقاطتين بعضهما عن بعض، فسقطت الأولى في قبضة الإنجليز عند جبل طارق وكان عليها قائد القوة، بينما استطاعت «ريجنيريه» الوصول إلى الإسكندرية في ٣ مارس.٩٤
وشجعت حكومة القنصل الأول التجار الفرنسيين على إرسال سفنهم إلى الإسكندرية محملة بالمأكولات وأنواع المنسوجات، فوصلت من هذه السفن إلى الشواطئ المصرية لافرتي La Vertu   ولانتوان L’Antoine، بينما أسر الإنجليز أخريين: سان روش Saint Roch   وهيدروبوليت Hydropolite، وكان يجري العمل في تحضير عدد من السفن الأخرى عند بدء القتال في مصر لإخراج الحملة، بل إن رجال الصناعة والمال في فرنسا صاروا يفكرون جديًّا في إنشاء المؤسسات الصناعية في المستعمرة الفرنسية الجديدة، حتى إن جماعة منهم اقترحوا على الحكومة إقامة «فابريقات» لصنع الأجواخ في الشرق، وأيدت الحكومة هذه الرغبة في سبيل تعزيز التجارة والصناعة الفرنسية في مصر. وبات واضحًا بفضل سياسة القنصل الأول وتشجيعه أن النشاط الاستعماري قد بدأ ينتعش من جديد، وظهر كأنما العزم قد انعقد على عدم ترك تلك المستعمرة التي شاء الفرنسيون أن ينشئوها في «ميادين جديدة وفق مبادئ جديدة»، وذلك على الرغم من أن الأتراك العثمانيين كانوا قد سيَّروا حملاتهم على مصر وأن أيام الحملة في مصر قد باتت معدودة كما سيأتي ذكره. ولعل أكبر الجهود التي بذلها القنصل الأول في إرسال النجدة إلى جيش الشرق وتأمين الحملة على مصيرها كان تصميمه على خروج الأسطول الفرنسي بقيادة غانتوم إلى الشواطئ المصرية.٩٥

أسطول غانتوم

واعتمد بونابرت على غانتوم في تحقيق هذه الغاية، لمعرفة الأميرال الفرنسي بحالة الشاطئ المصري معرفة جيدة، فغادر غانتوم برست في ٢٣ يناير ١٨٠١م بأسطول يتألف من سبع بوارج وفرقاطة واحدة وسفينتين من نوع القرويت، تحمل جميعها خمسة آلاف جندي، وساعده على الإفلات من مراقبة الإنجليز هبوب عاصفة شديدة فرَّقت أسطولهم. ولما كان يخشى من مطاردة هؤلاء له، فقد تظاهر غانتوم بالذهاب إلى سان دومنجو، وحمل على ظهر سفنه عددًا من الرجال والنساء والأطفال السود إتقانًا للخدعة، وجازت على الإنجليز الحيلة، فأرسلوا في أثره أحد أمراء البحر «كالدر Calder» فيمم شطر الأنتيل،٩٦ وبذلك أفسح الطريق لغانتوم الذي جمع أسطوله قبالة رأس سان فنسنت في طرف إيبريا الغربي، ثم استطاع دخول مضيق جبل طارق في ٥ فبراير دون أن يفلح «وارن Warren» الأميرال الإنجليزي في منعه.
ولكن غانتوم لم يلبث أن استولى بعد خمسة أيام فقط على إبريق إنجليزي كان قد بعث به اللورد كيث من شاطئ خليج ماكري Macri (بآسيا الصغرى قبالة رودس) يحمل أنباء إلى لندن، فعلم غانتوم من رجال هذا الإبريق أن كيث يحمي بأسطوله قافلة كبيرة من السفن، وكانت القافلة التي حملت جيش السير رالف أبركرمبي إلى المياه العثمانية للتعاون مع الأتراك على النزول فيما بعد على الشواطئ المصرية وطرد جيش الشرق من مصر، ثم سرعان ما تأكدت هذه الأخبار لدى غانتوم عندما وقعت في أسره فرقاطة إنجليزية «ساكسس Success»، وعندئذٍ قرر غانتوم الذهاب إلى طولون فدخلها في ١٩ فبراير. وسبَّب هذا الفشل غضب بونابرت واستياءه العظيم؛ ذلك أنه لم يكن هناك ما يدعو إلى خوفه من مطاردة الإنجليز لهم، وأسطولهم كان ما يزال رابضًا في «ماكري» على بعد مائتي فرسخ من الإسكندرية، زد على ذلك أنه لو أن غانتوم واصل سيره إلى الإسكندرية بعد اجتيازه جبل طارق مباشرةً لأمكنه الوصول إليها بين ١٥ و٢٠ فبراير، وقد دلَّ دخول السفينتين «لودي وريجنيريه» إلى هذا الميناء في ٣ مارس على إمكان ذلك.
وقد اعتبر بونابرت فيما بعد عودة غانتوم إلى طولون من أسباب إخفاق قومندان الإسكندرية فريان الذي عجز بسبب نقص قواته عن منع نزول جيش أبركرمبي في أبو قير في ٨ مارس.٩٧ ومع أن غانتوم كان يرى متابعة السير بعد أن تأكد لديه نبأ وجود الأسطول الإنجليزي في مياه ماكري ورودس مجازفة كبيرة، بسبب ما أصاب أسطوله من إعياء على أثر هبوب العواصف في أثناء رحلته من برست إلى جبل طارق، ثم حاجة سفنه إلى الإصلاح والترميم السريع؛ فقد عزا مؤرخو «الحملة العسكرية والعلمية» إخفاق غانتوم إلى ضيق أفق تفكيره، ذلك الضيق الذي جعله يعتقد أن المحافظة على عدد قليل من السفن يفوق في أهميته لفرنسا خلاص جيش الشرق في مصر وسلامة المستعمرة،٩٨ والواقع أن غانتوم مثله مثل بروي من قبل، لم يكن سوى نتاج تلك البحرية المنحلة التي حطَّم روح رجالها المعنوية انهزام أبو قير الحاسم في بداية الحملة.
أمَّا بونابرت فقد بادر بإرسال أوامره إليه للخروج ثانيةً من طولون، ثم لم يسعه أن يغفل تذكير غانتوم بأنه لو استمر في طريقه لاستطاع إنجاز مهمته ورفع سمعة البحرية الفرنسية ثانيًا. وعندما طلب غانتوم النزول في درنة على شاطئ برقة بدلًا من الإسكندرية بدعوى أن درنة لم تكن محصنة ومن الميسور استخدام أهلها العرب في نقل الجند بطريق البر على جمالهم إلى الإسكندرية؛ وجد بونابرت من الخير أن يأذن له بذلك إذا وجد غانتوم نفسه مرغمًا على إنزال الجند في درنة. وكان الإنجليز يحاصرون الإسكندرية بأسطول يفوق كثيرًا أسطوله.٩٩ وصدرت الأوامر من باريس في الوقت نفسه إلى موانئ رشفور وفيرول وقادش لتنظيم قطع الأسطول بها من أجل إرسال النجدات إلى مصر بكل الطرق.١٠٠
وفي ١٩ مارس غادر غانتوم طولون واتجه صوب سردينيا، على أن هذه المدة الطويلة التي قضاها غانتوم في طولون كانت كافية لأن يجمع وارن الأميرال الإنجليزي أسطولًا صغيرًا في جبل طارق، يدخل به البحر الأبيض ويتخذ العدة لمطاردة الفرنسيين، واستطاع اللحاق بأسطولهم قرب شاطئ سردينيا في ٢٦ مارس، ولكن غانتوم ما لبث أن قام بحركة باهرة أفلت بها من وارن واختفى عن أنظار الأسطول الإنجليزي، وظن وارن أنه وقد نجا من قبضته قد يمم وجهه شطر مصر، فصمم وارن على الانضمام بقواته إلى أسطول اللورد كيث، وكان في وسع غانتوم لو أنه أُوتي قليلًا من الجرأة أن يقصد الشاطئ السوري عند حيفا وجبل الكرمل، فيجمع شيئًا من أخبار العثمانيين ويتخذ طريقه من هذه الناحية صوب دمياط، فينزل بها ما كان معه من نجدات كبيرة (خمسة آلاف جندي)، ولكن غانتوم فضَّل بدلًا من ذلك أن يعود أدراجه إلى طولون في ٥ أبريل بعد أسبوعين فقط من موقعة كانوب أو الإسكندرية، وفي وقت كان لا يزال الفرنسيون يحتلون القاهرة والإسكندرية.١٠١
وغضب القنصل الأول مرة أخرى، وأصدر أوامره من جديد إلى أمير البحر الفرنسي ليبدأ محاولة جديدة، وأصرَّ على ضرورة إيصال النجدات إلى مصر بالنزول في دمياط أو برقة، وزوَّده بالمدافع لإقامة البطاريات على الساحل والمال لاستئجار الجِمال والخيول لنقل الجند والمهمات، وكان في تعليماته صريحًا بأنه لا يجوز لغانتوم الوقوف عند درنة أو بنغازي وإنزال الجنود بهما إلَّا إذا أُرغِم إرغامًا على ذلك. وخرج غانتوم من طولون للمرة الثانية في ٢٥ أبريل،١٠٢ وكان أسطوله يحمل عدا الجنود طائفة كبيرة من الصنَّاع والبستانيين الإخصائيين في علم النبات، ثم جوقة كوميدية لمسرح القاهرة.١٠٣ وفي ٨ يونيو كان على مسافة عشرين فرسخًا فقط من الإسكندرية، ولكن غانتوم قرر الذهاب إلى درنة، وأخفق في إنزال جنده بها بسبب ما لقيه من مظاهرات الأهلين العدائية ضده، فقد أسرع هؤلاء بسلاحهم إلى الشاطئ بصورة مفزعة، فأدار غانتوم وجهه صوب كريت وفصل من أسطوله السفينة هليوبوليس وبعث بها إلى الإسكندرية.
أمَّا هو فقد عاد أدراجه إلى طولون فدخلها في ٢٢ يونيو، واستطاع غانتوم في أثناء هذه الجولة الفاشلة أن يأسر مركبًا إنجليزيًّا «سويفتشور Swiftsure» بعد قتال دام ساعتين، بينما قبض الإنجليز بدورهم على خمس نقالات من سفنه قادوها إلى خليج أبو قير. وقد أكد وصول هذه النقالات إلى أبو قير اعتقاد الإنجليز بأن أسطول غانتوم قريب من الإسكندرية فشددوا حصارهم على هذا الميناء، وأُرسلت ثلاث بوارج إنجليزية وبارجة تركية إلى كونترأميرال بيكرتون Bikerton لمطاردة أسطول غانتوم،١٠٤ وهكذا أضاع غانتوم — بسبب إخفاقه — كل أملٍ في إنقاذ جيش الشرق. وما من شك في أن غانتوم لو حاول دخول الإسكندرية وقتئذٍ لاستطاع أن يفعل ذلك،١٠٥ بدليل نجاح «هليوبوليس» في الدخول إلى الميناء، ولأن أكثر قوات الإنجليز الزاحفة على القاهرة بقيادة الجنرال هتشنسون كانت قريبة من الجيزة، ولا يقوم على حصار الإسكندرية سوى الجنرال كوت Coote بقوات لا تزيد على الخمسة آلاف جندي تقريبًا فشا بينهم المرض.

وهكذا ظل القنصل الأول مثابرًا على محاولة إرسال النجدات إلى مصر حتى آخر أيام الحملة، ولم يمنعه من تحقيق غايته سوى انحلال البحرية الفرنسية، وعجز حكومة القنصلية عن النهوض بها في أثناء تلك المدة القصيرة التي انقضت من وقت انقلاب بريمير (نوفمبر ١٧٩٩م) إلى وقت نزول قوات أبركرمبي في أبو قير في مارس ١٨٠١م، زد على ذلك أن غانتوم لم يكن من أولئك الذين أُعطوا القدرة على الظفر بأكاليل المجد وكُتِب لهم الخلود. ولم يقصر القنصل الأول نشاطه على تجهيز سفن البريد والفرقاطات وما إليها لإرسالها إلى الشواطئ المصرية الفينة بعد الفينة، أو إعداد الأساطيل في برست وطولون وقادش وقرطاجنة خصوصًا لمنازلة الإنجليز، وفتح طرق المواصلات البحرية بين فرنسا ومصر، ونقل النجدات العسكرية والمؤن والذخائر إلى المستعمرة الجديدة، بل إنه ظل في أثناء ذلك كله يبذل نشاطًا دبلوماسيًّا كبيرًا مع حلفائه أو الدول المحايدة حتى يحملها بشتى وسائل الضغط والإقناع على إغلاق موانيها دون سفن العدو. ولعل أكبر دليل على أن القنصل الأول ما كان يرضى بأن يترك جيش الشرق في مصر وشأنه تلك المساعي التي ظل يبذلها في القسطنطينية ولندن من أجل إخراج الأتراك من محالفتهم مع الإنجليز، وعقد صلح منفرد معهم يحفظ لفرنسا مصالحها من ناحية، ومن أجل إقناع الإنجليز بعقد هدنة تمكِّن الفرنسيين من إرسال النجدات إلى مصر بأمان إذا تعذَّر إبرام صلح مشرف مع إنجلترا من ناحية أخرى.

القنصل الأول وتركيا

وكان يعترض الاتفاق مع تركيا ولا شك صعوبة التوفيق بين رغبة فرنسا الظاهرة في الاحتفاظ بمصر تحت سيادة العثمانيين «الاسمية أو الوهمية» على الأقل، وبين إصرار الأتراك على استعادة ممتلكاتهم القديمة. وفضلًا عن ذلك جابهت الفرنسيين مشكلة التوفيق بين رغبتهم في المحافظة على بقاء الدولة العثمانية ومنع انحلالها وتقسيم أملاكها بين النمسا وروسيا خصوصًا، وبين رغبتهم كذلك في استبقاء مصر بأيديهم، مع ما ينطوي عليه هذا العمل من معنى التقسيم الفعلي، وما يجر إليه من عواقب خطيرة، من أثرها ولا شك انزلاق تركيا في طريق الانحلال السريع في النهاية.

على أن القنصل الأول كان — على ما يبدو — كبير الثقة في التغلب على هذه الصعوبات، بل الوصول إلى حل موفق لها يحقق أغراض الفرنسيين السياسية جميعها. واعتقد بونابرت أن في وسعه إقناع السلطان العثماني بحسن نوايا الفرنسيين إذا أظهره على أغراض الدول المتحالفة نحو تركيا واقتسام ممتلكاتها من جهة، ثم عزمه على إبقاء جيش الحملة في مصر يعمل كقوات مساعدة من شأنها معاونة العثمانيين في المحافظة على هذه البلاد فحسب. واعتمد بونابرت في هذه المحاولة على جهوده وجهود ممثل الجمهورية في تركيا، فضلًا عن وساطة حلفائه أو وزراء الدول المحايدة، وأكَّد بونابرت فيما بعد١٠٦ أن المفاوضات كانت تدور بكل همة مع الباب العالي في الشهور الستة الأخيرة من عام ١٨٠٠م يقوم بها روفان ثم وزراء بروسيا وإسبانيا، ومع ذلك فقد ظل روفان في السجن مدة طويلة ويشكو لوزير الخارجية تاليران ما يلقاه من عنت وإرهاق على أيدي ساجنيه.
وفي يونيو كتب بوليني Bouligny إلى مدريد، وكان وقتئذٍ سفيرًا لإسبانيا في فينَّا، أن بونابرت بعث إلى السلطان برسالة يحذره فيها مما يبيته حلفاء تركيا لها من نوايا خبيثة، ويؤكد له صداقة الفرنسيين وحرصهم على أن يستبقي السلطان مصر بالصورة التي سبق ذكرها.١٠٧ ولا ينهض إرسال هذا الكتاب إلى السلطان دليلًا على بدء مفاوضات جدية في القسطنطينية. دع عنك القول بأنها كانت تسير بكل همة. وفي شهر سبتمبر ذاع في باريس أنه جاءت أنباء من تركيا تقول إن الباب العالي ما كان يبغي من وراء استعداداته العسكرية للزحف على مصر سوى تهدئة خواطر الإنجليز وذرِّ الرماد في عيونهم لإخفاء غرضه الحقيقي وهو انتظار بدء المفاوضات في أوروبا وانتهائها إلى إعادة مصر إلى الأتراك دون حاجة إلى تعاون هؤلاء مع الإنجليز في قتال يضعفهم. وذكر بونابرت فيما بعد أن الباب العالي قد قطع على نفسه عهدًا بعدم القيام بأي عمل عدائي ضد الحملة في مصر، وأن الصدر الأعظم سوف يظل بجيشه رابضًا بأرض الشام احترامًا للمحالفة العثمانية الإنجليزية وتهدئةً لخواطر الإنجليز، ووعد الباب العالي بالامتناع عن إرسال إمدادات لهذا الجيش؛ لأن الأتراك كانوا يدركون أن الفرنسيين بنزولهم في مصر إنما يريدون إصابة مصالح الإنجليز في الشرق بضربة قاتلة، ولا يريدون إلحاق الأذى والضرر بتركيا.١٠٨
وقد يكون الأتراك أقوى رغبةً في إخلاء مصر بالطرق السلمية بعد مفاوضة ناجحة، ولكن الثابت كذلك أنهم ما كانوا يحجمون عن الانتفاع بمحالفتهم العسكرية مع الإنجليز إذا تبين لهم أن استعادة سيطرتهم الكاملة وسيادتهم التامة على مصر تقتضيهم أن يبذلوا جهدًا عسكريًّا كبيرًا. وما من شك في أن الأتراك كانوا يريدون استعادة سيطرتهم وسيادتهم على هذه البلاد كاملة غير منقوصة، وآية ذلك أن الباب العالي الذي قبل وساطة ملك بروسيا في فض النزاع بينه وبين الحكومة الفرنسية لم يلبث أن طلب من الوزير البروسي في القسطنطينية في آخر يوليو ١٨٠٠م أن تقوم هذه الوساطة على أساس إخلاء مصر من الفرنسيين، فتبذل بروسيا ما لديها من وسائط لتحقيق ذلك في أقرب وقت وأسرعه، سواء تم الإخلاء بالوسائل السلمية والودية أم اقتضى الأمر اللجوء إلى قوة السلاح.١٠٩

وكان من الواضح لذلك أن استعدادات الأتراك العسكرية لم تكن ذرًّا للرماد في عيون الإنجليز، وبات واجبًا على القنصل الأول أن يجدد السعي من أجل إقناع الأتراك بدعواه أن الفرنسيين لا يستطيعون إخلاء مصر ما دام الخطر باقيًا من ضياع هذه البلاد من تركيا بعد خروجهم وعودة البكوات المماليك يستبدون بالسلطة والسلطان في مصر، أو خشية أن يعمد «حلفاء» الباب العالي «الغادرون» إلى انتزاعها من تركيا، فعوَّل القنصل الأول على إيضاح ذلك كله للسلطان العثماني من جهة، كما أخذ رجال حكومته يقلبون وجوه الرأي في إمكان الإفادة من وساطة روسيا في هذا الشأن، وقد ساعد على التفكير في طلب وساطة روسيا ما أظهره قيصرها بول الأول من ميول صادقة نحو القنصل الأول. وعلى ذلك فقد شرع ديكورش يفحص هذه المسألة منذ نوفمبر ١٨٠٠م، وكان كل ما يعنيه وزن المصالح الفرنسية والروسية، والوقوف على مدى اتفاق هذه المصالح أو اختلافها من حيث الإبقاء على تركيا ومنع انحلالها. وقد انتهى ديكورش من بحثه إلى انتفاء أي تعارض بين مصالح الدولتين في ذلك، لأن بقاء تركيا يخدم مصالح روسيا وفرنسا معًا، ولا يكلِّف المحافظة على كيانها كثيرًا؛ لأن ديكورش اعتقد بأن الانحلال لم يكن قد سرى في جثمان تركيا بدرجة تهدد بزوالها، بل إن تركيا في رأيه كانت بعيدة عن هذا الانحلال، وسوف تبقى قائمة مدة طويلة.

وكان مما أيد فائدة اللجوء إلى وساطة روسيا أن الأخبار سرعان ما جاءت من القسطنطينية في ديسمبر١١٠ تبيِّن مزايا اتخاذ هذه الخطوة، على اعتبار أن تحطيم نفوذ الإنجليز في تركيا والشرق هو ما يجب على فرنسا وروسيا أن تهدفا إلى تحقيقه بكل وسيلة، بل إن أنصار هذا الرأي لم يشكوا في نتيجة هذه الوساطة، لاعتقادهم أن الاحتلال الفرنسي في مصر لن يحول دون نجاح المفاوضات في وقتٍ كان فيه العثمانيون — على حدِّ زعمهم — ينظرون إلى بقاء الفرنسيين في مصر كقوة يستطيعون الاعتماد عليها في تعزيز سلطانهم في تلك الأقاليم التي نشبت فيها الثورات ضدهم في آسيا وأفريقيا، وصاروا لا يجنون منها أية فائدة. واطمأن الفرنسيون من ناحية روسيا منذ أن نجحت دبلوماسية القنصل الأول مع روسيا ودول الشمال، فتجدد حياد هذه الدول المسلح منذ ١٦ ديسمبر ١٨٠٠م، وعقدت الدول الأربع روسيا والسويد والدانمرك وبروسيا المحالفة الرباعية على نحو ما أسلفنا القول. وكان الخوف قبل ذلك يقضُّ مضاجع الفرنسيين من أن يقدم الروس على إرسال جيش بطريق البحر الأسود لمعاونة الأتراك في حملتهم ضد مصر، فكتب بونابرت إلى تاليران في ٢٠ يناير ١٨٠١م أن السلام مع النمسا لا توازي أهميته شيئًا في جانب التحالف مع روسيا؛ ذلك بأن من شأن المحالفة مع الروس إتاحة الفرصة لتوطيد أقدام الفرنسيين في مصر، وبقاء هذه البلاد في حوزتهم،١١١ بل اعتقد بونابرت أن هذه المحالفة سوف تمكِّنه في النهاية من تنفيذ مشروعه الشرقي العظيم، وإلقاء الرعب في قلوب الإنجليز.
وبدأت المفاوضة بصورة جدية في باريس مع كوليتشيف Kolytcheff السفير الروسي منذ فبراير بصدد الوسائل التي تمكِّنه من الاحتفاظ بمصر، واقترح السفير أن تتوسط روسيا بين فرنسا وأعدائها على أساس إخلاء مصر السريع. وحاول بونابرت في نظير الموافقة على إعادة مالطا إلى فرسان القديس يوحنا أن يقنع الروس بتأييد رغبته في الاحتفاظ بمصر، وكتب بونابرت إلى القيصر في ٢٧ فبراير ١٨٠١م١١٢ أن «من مصلحة جميع دول البحرين الأبيض والأسود بقاء مصر في حوزة فرنسا»، وأن العمل المشترك بين فرنسا وروسيا يجب أن يلقي الرعب في نفوس الأتراك بدرجة تضطرهم إلى نبذ محالفتهم مع إنجلترا. وكان في أثناء هذه المفاوضة على ما يظهر في شهرَي فبراير ومارس ١٨٠١م أن تقدم بونابرت بمشروعه الشرقي مقترحًا على الروس القيام بعمل عسكري مشترك ضد الإنجليز في الهند، فتنزل حملة فرنسية كبيرة في نهر الدانوب إلى البحر الأسود ثم إستراخانٍ حيث يحشد بها الروس جيشًا عظيمًا، فتسير الجيوش المجتمعة عن طريق هرات وقندهار إلى الهند وتطرد الإنجليز منها.١١٣
وكثر ترديد الإشاعات في باريس بأن الروس قد وافقوا على ذلك، وعهد القيصر بول الأول إلى الجنرال أورلوف Orloff في يناير ١٨٠١م بقيادة الحملة الروسية المزمعة. وأزعج هذا المشروع إنجلترا أيما إزعاج، وعبثًا صارت تحاول استلال سخيمة القيصر وإزالة أسباب سوء التفاهم معه، حتى اضطرت في آخر الأمر إلى إصدار أوامرها إلى نلسن بالذهاب إلى بحر الشمال لتحطيم محالفة الحياد المسلح الرباعية. ورجا بونابرت أن يتيح خروج الأسطول الإنجليزي إلى بحري الشمال والبلطيق الفرصة لخروج الأسطول الفرنسي من برست يحمل النجدات إلى جيش الشرق في مصر، غير أن هذه الآمال سرعان ما انهارت عندما قُتِل القيصر بول غيلة في ليل ٢٣-٢٤ مارس، ثم أُرغمِت الدانمرك على الخروج من المحالفة عندما ضرب نلسن كوبنهاجن بقذائفه في ٢ أبريل، ثم اضطرت روسيا بعد ذلك إلى عقد الصلح مع إنجلترا وانحلت المحالفة الرباعية نهائيًّا. فضاعت من ثم كل فرصة في إمكان التحالف بين فرنسا وروسيا، ولم يخرج إلى بحر البلطيق ذلك الأسطول الإنجليزي الكبير الذي انتظر خروجه القنصل الأول حتى يبعث بالنجدات من برست إلى الإسكندرية،١١٤ وفضلًا عن ذلك فقد صمم الأتراك على المضي في مؤازرة الإنجليز في مصر، والتعاون معهم منذ أن وصل الباب العالي خبر الانتصارات الأولى التي أحرزها هؤلاء في أبو قير والإسكندرية.١١٥

مفاوضات لندن ومهمة أوتو

وكان القنصل الأول في أثناء مساعيه من أجل المفاوضة مع تركيا من جانب، وإحياء محالفة الحياد المسلح ضد إنجلترا من جانب آخر، حتى يتسنى له إرسال النجدات إلى مصر واستبقاء هذه البلاد في حوزة فرنسا بصورة دائمة، إذا نجح في إقناع تركيا على التسليم بذلك، أو بصورة وقتية إلى أن يحين عقد السلام العام في أوروبا، إذا استطاع حمل إنجلترا على إبرام صلح مشرف مع فرنسا؛ كان القنصل الأول يبذل جهدًا ظاهرًا في لندن لتحقيق غرض مباشر أولًا، هو عقد هدنة تمكِّنه كما أسلفنا القول من إرسال النجدات إلى مصر، ثم الوصول إلى صلح في آخر الأمر يمكِّنه من اتخاذ مصر وسيلة للمساومة مع الإنجليز إذا أصر هؤلاء على إخلائها لقاء أن تنال فرنسا تعويضًا ملائمًا عن فقدها.

وكان فشل القنصل الأول في هذا الميدان ولا شك من الأسباب الحاسمة التي جعلت الإنجليز يتحولون عن التمسك ببقاء الفرنسيين في مصر؛ أي عن تلك السياسة التي جعلتهم ينقضون اتفاق العريش عقب إبرامه،١١٦ إلى ضرورة إخراج جيش الشرق، ويرسلون حملتهم إلى الشواطئ المصرية لهذا الغرض، منذ أن تبين لهم ضعف جيش الشرق في مصر من جهة، ووقفوا على نوايا بونابرت ورغبته الملحة في إرسال النجدات إلى جيشه، ومحاولة إخراج الأتراك من المحالفة مع الإنجليز، واستبقاء مصر في حوزته حتى يتخذ من ذلك وسيلة لمساومة مربحة مع إنجلترا. ولا جدال في أن الإنجليز كانوا أصحاب السيادة المطلقة في البحر الأبيض منذ انتصارهم البحري في أبو قير، ذلك الانتصار الذي مكَّنهم في الشهور القليلة التالية من الاستيلاء على جزيرة جوزو Gozzo القريبة من مالطا في أكتوبر ١٧٩٨م، ثم ميناء ماهون الإسباني في جزيرة مينورقة في نوفمبر،١١٧ وفُتحت لهم موانئ صقلية وسردينيا، وتأيَّدت سيطرتهم أخيرًا بفضل استيلائهم على جزيرة مالطا ذاتها في ٥ سبتمبر ١٨٠٠م. وكان من أثر هذه السيطرة على نحو ما رأينا إخفاق كل محاولة بذلها بونابرت من أجل إرسال أية نجدات كبيرة تحملها سفن غانتوم إلى الإسكندرية.

وعلى ذلك فقد عمد بونابرت منذ أن خلصت له الأمور في باريس عقب عودته من مصر، ومكَّنته انتصاراته الأولى في القارة إلى الدخول في مفاوضات جدية مع إنجلترا استمرت في واقع الأمر إلى ما بعد نزول الحملة الإنجليزية على الشواطئ المصرية. وقد مرَّت هذه المفاوضات في دورين ظاهرين، يتميز الأول منهما بمحاولة بونابرت إرسال الإمدادات إلى مالطا ومصر عن طريق عقد هدنة بحرية مع الإنجليز تمكِّنه من ذلك، وقد ظلت المفاوضة دائرة في هذا الشأن إلى وقت عقد الصلح مع النمسا في لونفيل في ٩ فبراير ١٨٠١م، بينما يتميز الدور الثاني برغبة بونابرت الملحة في اتخاذ مسألة بقاء جيش الشرق في مصر أو جلائه عنها وسيلة للمساومة مع الإنجليز، من أجل استبقاء هذه المستعمرة في أيدي الفرنسيين، أو الحصول على تعويضات هامة عن فقدها وخروج جيش الشرق من البلاد رافع الرأس موفور الكرامة إذا أصرَّ الإنجليز على إعادة مصر إلى تركيا.

وكانت الحكومة الفرنسية قد أرسلت إلى لندن المواطن أوتو Otto للبحث في مسألة تبادل الأسرى مع السلطات الإنجليزية منذ يناير ١٨٠٠م،١١٨ وحدث في أغسطس أن أعلن اللورد مينتو Minto سفير إنجلترا في النمسا في ظروف سوف يأتي ذكرها رغبة حكومته في أن تشترك في مفاوضات الصلح الدائرة وقتئذٍ بين فرنسا والنمسا، وكانت النمسا قد طلبت بعد هزيمة جيوشها في معركة مارنجو عقد الهدنة والدخول في مفاوضات من أجل عقد الصلح العام في أوروبا وأجابها القنصل الأول إلى ذلك.
فاتخذ بونابرت من رغبة الإنجليز في الاشتراك في هذه المفاوضات ذريعة لإعلان عزمه على عدم تجديد الهدنة مع النمسا ما لم يعقد الإنجليز معه هدنة بحرية، كان الغرض الواضح منها — كما أدركه الإنجليز — إرسال النجدة إلى جيش الشرق في مصر وإلى الحامية الفرنسية في مالطا.١١٩ وعلى ذلك فقد أصدر بونابرت أوامره في ٢٤ أغسطس سنة ١٨٠٠م إلى أوتو حتى يفاوض الإنجليز، فبدأت من ثم تلك المحادثات التي استمرت بين أوتو والوزراء الإنجليز طوال شهر سبتمبر،١٢٠ فاقترح أوتو إطلاق حرية الملاحة حتى تستطيع سفن فرنسا التجارية والحربية الجولة بأمان فتنقل الإمدادات إلى مالطا والإسكندرية تطبيقًا للقاعدة التي كان يجري وقتئذٍ العمل بها لتزويد المواقع التي كان يحاصرها الجيش الفرنسي في ألمانيا مثل فيليبسبورج Philipsbourg   وأولم Ulm   وأنجلوشتاد Inglostadt. حقيقةً تفيد فرنسا من تطبيق هذا المبدأ في المحافظة على مراكزها في مالطا والإسكندرية، ولكن ما كان ينبغي استكثار هذه الفائدة عليها وهي التي أجازت تقوية مراكز أعدائها في القارة وتركت فصل الصيف برمته يمر دون أن تحطم قواتها جيش النمسا.
وفي أول سبتمبر حصل أوتو على تعليمات جديدة من تاليران أن يوضح للإنجليز إصرار فرنسا على التمسك بمالطا ومصر، وأن «اتفاق كليبر» لم يكن سوى نتيجة اختلال نظام الحكومة الفرنسية، وأنه منذ أن حصلت الحكومة على تقارير توضح حقيقة شعور جيش الشرق سرعان ما تأكد لديها أن في وسعها تمامًا الاحتفاظ بفتوحها. وقد طلب تاليران من المفاوض الفرنسي في لندن أن يرفض عقد الهدنة ما دامت هذه لا تقوم على أساس تموين مالطا ومصر.١٢١ وفي ٤ سبتمبر عرض أوتو هذه المقترحات على الحكومة الإنجليزية، ولم يكن من الميسور أن يقبل الإنجليز هذه العروض لما انطوت عليه من «تضحيات» عظيمة إذا أجازوا تموين مالطا والإسكندرية؛ لأن معنى ذلك احتمال بقاء مصر ذاتها في حوزة فرنسا، وإعطاء الفرصة للأسطول الفرنسي والأسطول الإسباني الرابض في برست لاختراق نطاق الحصار الإنجليزي والدخول إلى البحر الأبيض، حيث يسهل عليه عندئذٍ أن يجد قواعد مهيأة لإمداده بحاجته من المؤن والذخائر بصورة تمكِّنه من استعادة السيطرة في البحر الأبيض عاجلًا أو آجلًا.

ولما كان الإنجليز في الوقت نفسه يخشون من تحطيم جيوش النمسا واضطرار هذه الدولة إلى عقد صلح منفرد مع فرنسا من شأنه أن يزيح عن كاهل بونابرت عبء القتال في القارة، ويتيح له القيام بعمل عدائي ضد الجزر البريطانية ذاتها؛ فقد تقدم الإنجليز بمشروع قبلوا فيه الدخول في مفاوضات عامة من أجل عقد الصلح الأوروبي، ووافقوا على اتخاذ «لونفيل» مكانًا للمؤتمر الذي ينعقد لتقرير السلام، بل عيَّنوا توماس جرنفيل شقيق وزير الخارجية لهذه المهمة. أمَّا فيما يتعلق بأمر الهدنة البحرية، فقد نص مشروعهم على وقف القتال في البحر والبر معًا، وألَّا تقتصر الهدنة على الدول المحاربة فقط إنجلترا والنمسا وفرنسا، بل يجب أن تشمل حلفاء الإنجليز الآخرين، وكان غرض هؤلاء أن يمنعوا عن حليفتهم البورتغال كل تهديد من جانب إسبانيا. ومع أن الإنجليز لم يكن في وسعهم أن يرفضوا صراحةً معاملة مالطا والإسكندرية بنفس المعاملة التي تمتعت بها المدن الألمانية الثلاث، فقد قيَّدوا موافقتهم بتحفظاتٍ هامة تلغي ولا شك كل فائدة منتظرة من إبرام الهدنة؛ ذلك أنهم اشترطوا منع إرسال النجدات إلى مالطا والإسكندرية بطريق البحر بدرجة تمكِّن حاميات هذين المكانين من الاستمرار في الدفاع والمقاومة، بل يجب الاكتفاء بإرسال المؤن فحسب وعلى دفعات متقطعة مرة كل أسبوعين، وذلك بعد أن يقرر مندوبون يعيَّنون لهذه الغاية مقدار ما تحتاجه الحاميات من مؤن وأطعمة. وأراد الإنجليز من مقترحاتهم ألا يفوِّتوا فرصة الصلح على النمسا حليفتهم، وأن يمنعوا عنها الهزيمة حتى يضمنوا عزوفها عن عقد صلح منفرد مع فرنسا.

ومع أن مالطا كانت في حاجة إلى المؤن والأطعمة بعد أن انتشرت بها المجاعة بسبب تضييق الحصار عليها، حتى اضطر أهلها ورجال الحامية إلى أكل الجرذان أخيرًا،١٢٢ فقد كان واضحًا أن مصر إنما تطلب الأسلحة والجنود لنجدة الحاميات بها وتعزيزها؛ ولذلك اقترح تاليران في ١١ سبتمبر أن يطلب أوتو من الإنجليز السماح لست فرقاطات فرنسية تذهب من طولون إلى مصر دون أن يتعرض الإنجليز لها بشيء أو «يفتشوها»، لقاء أن يمتد أجل الهدنة مع النمسا والبرتغال حليفتي إنجلترا. وأصرَّ تاليران في تعليماته على أن يكون فتح المواصلات الحرة بين فرنسا ومصر أساس كل اتفاق؛ ذلك أنه لما كان الغرض من إرسال هذه الفرقاطات الست نقل ألف ومائتي جندي وألف بندقية إلى الإسكندرية، فإن الحكومة الفرنسية لا يسعها أن تترك جيشها في مصر معرَّضًا لافتراس وحوش العثمانيين في أثناء المفاوضات لعقد السلام العام في أوروبا. ومع أن بونابرت وافق على بقاء الأسطول الإنجليزي في مراكزه؛ أي استمرار الحصار المضروب على برست وعلى الشواطئ المصرية، وإرسال المؤن والأطعمة إلى مالطا مرة كل خمسة عشر يومًا؛ فقد تمسك في تعليماته إلى أوتو في ٢١ سبتمبر بضرورة إرسال الفرقاطات الست إلى الإسكندرية، بل إن القنصل الأول ذهب في ضرورة إرسال النجدات إلى مصر إلى حدِّ اقتراح إغفال أمر الهدنة كليةً، والدخول رأسًا مع إنجلترا في مفاوضات منفصلة عن مفاوضاته مع النمسا.١٢٣
وأخفقت مساعي القنصل الأول لأن الإنجليز ما كانوا يوافقون بتاتًا على إبقاء مالطا ومصر في حوزة فرنسا، بل وجد هؤلاء مسوِّغًا لرفضهم مقترحات بونابرت ووزير خارجيته في اعتراف كليبر نفسه بعد استئناف القتال بأن اتفاق العريش لا يزال ساريًا، وأنه إذا بلغته موافقة إنجلترا عليه فيشرع حالًا في تنفيذه، وهو «اعتراف» يخوِّلهم الحق — وقد أقرت حكومتهم اتفاق العريش في مارس — أن يصرُّوا على إخلاء مصر. وفضلًا عن ذلك فقد ذاع في هذه الآونة خبر تسليم مالطا (منذ ٥ سبتمبر ١٨٠٠م)، وحرم سقوط الجزيرة الفرنسيين من أهم موقع يستطيعون الارتكاز عليه في إرسال النجدة من فرنسا إلى مصر عبر البحر الأبيض. وكان من الطبيعي أن يزداد الإنجليز تشبُّثًا بمطالبة الفرنسيين بالجلاء عن مصر. وعلى ذلك بعث تاليران إلى أوتو في آخر سبتمبر بالكف عن مفاوضات الهدنة ما دامت هذه لا تحقق الغرض الهام منها؛ أي فتح المواصلات مع مصر وإرسال النجدات إليها.١٢٤
وفي المعارك التالية أنزل مورو Moreau بجيش النمسا هزيمة ساحقة في هوهنلندن Hohenlinden في ٣ ديسمبر، وزحف الفرنسيون صوب فينا. وعندئذٍ لم تجد النمسا مناصًا من طلب الهدنة في ٢٥ ديسمبر، ثم عقد النمساويون مع القنصل الأول الصلح في لونفيل في ٩ فبراير ١٨٠١م، وخرجت النمسا من تحالفها مع إنجلترا. واعتقد بونابرت أن الفرصة قد باتت مواتية لحمل الإنجليز على قبول الصلح وفق الشروط التي ترتضيها فرنسا، وقوَّى هذا الاعتقاد سقوط وزارة بت Pitt ذلك الوزير الذي اشتُهر بعدائه لحكومة «الجمهورية الفرنسية»،١٢٥ وعلى ذلك أسرع تاليران في ٩ مارس يطلب من أوتو البقاء في لندن، واستئناف البحث في مقدمات الصلح مع إنجلترا.
ومع أن أوتو كان يدرك تمامًا أن الإنجليز لن يوافقوا على ترك الفرنسيين في مصر وتأييد سلطانهم بها، فقد كان كبير الرجاء في إمكان المفاوضة بنجاح بسبب ما لمسه من تبدُّل ظاهر لدى طائفة من رجال السياسة الإنجليز الذين كانوا يرون أنه من العبث انتزاع مصر عنوةً من قبضة الفرنسيين، سواء بطريق المفاوضة أو القتال عندما كان في استطاعة الفرنسيين دائمًا أن يحاولوا العودة إلى احتلال مصر بالاتفاق وديًّا مع تركيا، وليس في وسع بريطانيا في هذه الحالة أن تستأنف الحرب مع فرنسا لمجرد منعها من احتلال مصر مرة ثانية،١٢٦ بل إن أوتو لم يلبث أن اقتنع بأن فرنسا لن تُرغَم على إخلاء مصر في النهاية عندما فاتحه في ٢١ مارس اللورد هوكسبري Hawkesbury وزير الخارجية الجديد في وزارة أدنجتون Addington برغبة حكومته في الدخول في مفاوضات مع فرنسا، ملقيًا في رُوع المفاوض الفرنسي في الوقت نفسه أن إنجلترا لا تمانع في احتفاظ فرنسا بمصر في نظير أن يبقى في حوزة الإنجليز ما أخذوه من أملاك فرنسا وحلفائها الإسبان والهولنديين.١٢٧ وفهم تاليران من ذلك أن المفاوضة المزمعة قد باتت تنحصر في أمرٍ واحدٍ ما لبث أن لخَّصه في تعليماته إلى أوتو في آخر مارس بقوله: «إمَّا أن تبقى في حوزة إنجلترا سيلان وأملاك تبو صاحب سلطان ميسور Mysore في الهند، بينما تحتفظ فرنسا بمصر، وإمَّا أن تفضل إنجلترا إعادة مصر إلى السلطان العثماني صاحبها، بينما ترجع هي أملاك تبو صاحب إليه وسيلان إلى هولندا». وعلى ضوء هذه التعليمات إذن بدأ أوتو مفاوضاته الجديدة في لندن.
غير أن أوتو لم يلبث أن تحطمت آماله في إمكان الاتفاق بمجرد أن قابل هوكسبري إذ اتضح أن الإنجليز الذين يرضون أن تحتفظ فرنسا بفتوحها في نظير أن يحتفظوا هم كذلك بفتوحهم، كانوا مصممين على التمسك ببعض هذه الفتوح وامتلاكها، في الوقت الذي يُطلَب فيه من الفرنسيين أن يعيدوا مصر إلى صاحبها الشرعي.١٢٨ ووجد أوتو أن تلك كانت «صفقة غير متكافئة»، وعبثًا حاول أن يقنع الوزير الإنجليزي بأن فرنسا عند تمسكها بمصر إنما تريد قبل كل شيء الاحتفاظ بمستعمرة زراعية وحسب. ومع ذلك وعلى الرغم من خيبة أمل المفاوض الفرنسي الظاهرة، فقد كان واضحًا أن إخلاء مصر بات موضعًا للمساومة، حتى إذا أمكن الاتفاق بصورة من الصور على توزيع مناطق النفوذ الاستعماري الجديدة في آسيا وأفريقيا بين إنجلترا وفرنسا، ذُلِّلت جميع العقبات التي حالت دون إبرام الصلح بين هاتين الدولتين. ولم تفقد باريس الأمل في إجراء هذا التوزيع على أساس إدخال حوض البحر الأبيض في دائرة النفوذ الفرنسي، بينما يظل الإنجليز أصحاب السيطرة الكاملة في الهند.١٢٩
وعلى ذلك فقد بعث تاليران بتعليماته إلى أوتو في ٨ أبريل يعرض عدم إزعاج الإنجليز في الهند، أو الإلحاح في إرجاع سيلان إلى هولندا ما دام هؤلاء موافقين على بقاء الفرنسيين في مصر، ولكن هوكسبري سرعان ما أكَّد في مذكرته للمفاوض الفرنسي (في ١٤ أبريل) أن الإنجليز لا زالوا مصرِّين على ضرورة إخلاء مصر كشرط أساسي لأي اتفاق بينهم وبين الفرنسيين، وأنهم يرضون في نظير ذلك بالتنازل لفرنسا وحلفائها الإسبان والهولنديين عن المراكز الفرنسية في الهند، وعن نيجابتام Negapatam وملقا ورأس الرجاء الصالح ومينورقة وبعض المواقع الأخرى، عدا سيلان والمارتينيك وترنداد فهذه تبقى في حوزتهم، أمَّا الهند فقط ظلت خاضعة لسلطانهم، ثم لم يذكر هوكسبري شيئًا عن مالطا ومصيرها. وفضلًا عن ذلك فقد احتفظ هوكسبري لنفسه بحرية التصرف من جديد إذا جاءت الأخبار منبئة بأن الجيش الفرنسي قد أخلى مصر أو بأن معاهدة قد أُبرِمت لهذه الغاية، وذلك قبل توقيع مقدمات الصلح نهائيًّا بين إنجلترا وفرنسا.

وهكذا كان من الواضح أن إنجلترا ترفض أن يكون لفرنسا إمبراطورية استعمارية، كما كان من الواضح كذلك أن القوة وحدها هي التي ترغم الإنجليز على التسليم ببقاء مصر في حوزة فرنسا. وكان من أسباب إصرار الإنجليز اعتمادهم على أن «إخلاءً اختياريًّا» سوف يحدث قريبًا بفضل ازدياد أنصار الإخلاء السريع والعودة إلى الوطن، وبات مصير الحملة بسبب ذلك كله في يد جيش الشرق نفسه. واعتقد بونابرت — واعتقد كثيرون غيره — أن نجاح دبلوماسيته وإرغام الإنجليز على عقد صلح يحفظ لفرنسا مصالحها إنما يتوقف على حسن بلاء الفرنسيين في مصر، وقدرتهم على المقاومة، وتصميم جند الحملة ورجالها على البقاء في هذه البلاد وإحراز الانتصارات التي تدعم مراكزهم بها.

وما إن بلغت المفاوضات في لندن هذه المرحلة حتى دخلت في دورٍ من الركود المفتعل، ذلك أن المفاوضين الإنجليز والمفاوض الفرنسي فضَّلوا جميعًا انتظار نتيجة القتال الدائر في مصر، وطغى اهتمامهم بتتبع سير الحوادث في هذا الميدان على سواه، حتى إن المرء في الأيام القليلة التالية كاد ينسى تمامًا على حد قول أوتو ما عداها من حوادث في بطرسبرج وكوبنهاجن وهمبرج. وفي ٢٧ أبريل كتب أوتو أن انتصارًا حاسمًا يدركه جيش الشرق في هذا الميدان من شأنه أن يقنع الإنجليز بقبول المقترحات الفرنسية. وذاع الاعتقاد فترة بأن الهزيمة قد نزلت بجيش السير رالف أبركرمبي.١٣٠ ولم تطل فترة الانتظار؛ إذ سرعان ما جاءت الأخبار في آخر مايو بأن أبركرمبي قد أفلح في إنزال جنده في أبو قير وأحرز انتصارًا باهرًا على الفرنسيين في موقعة كانوب أو الإسكندرية في ٢١ مارس ١٨٠١م، وكان لهذه الأخبار رنة فرح عظيمة في لندن، وبادر هوكسبري باستئناف المفاوضة وضغط على أوتو ضغطًا شديدًا لقبول شروط الصلح التي يعرضها الإنجليز، وهدد هؤلاء بتأليب الدول ضد فرنسا وعقد تحالف دولي ثالث على نمط ذلك التحالف الذي أفضى انتصارهم الأول في معركة أبو قير البحرية إلى عقده.١٣١
واضطر بونابرت إلى التسليم بفقد مصر بسبب ما بلغه كذلك من رينييه وزملائه الذين «طردهم» منو من مصر عن سوء الأحوال في هذه البلاد، واشتداد الحرج على جيش الشرق، فوافق في ٢٣ يوليو على إرجاع مصر إلى تركيا.١٣٢ ومع ذلك فإن القنصل الأول لم يفقد الأمل في حمل الإنجليز على إجابة شيء من مطالب الفرنسيين السابقة؛ لأن باريس كانت تعلم من أوثق المصادر أن الإسكندرية ما زالت تقاوم، وأنه ما دامت الإسكندرية بأيدي الفرنسيين فإن مصر بأكملها سوف تظل في حوزتهم. وفضلًا عن ذلك فقد أكَّد تاليران أن الإسكندرية حسب ما بلغه من أخبار في وسعها المقاومة لمدة عام بطوله، ويكفي تضحية من جانب فرنسا إخلاؤها مصر، ويجب على إنجلترا أن تخلي بدورها تلك المستعمرات الهامة التي امتلكتها عنوةً من فرنسا وهولندا وإسبانيا. وإن جاز لحكومة القنصل الأول أن تقدم تضحية أخرى إلى جانب فقد مصر، تضحيتها الكبرى، فإنها سوف تكتفي في هذه الحالة بعدم المطالبة بإرجاع سيلان إلى هولندا.
ولكن سرعان ما كان الفشل نصيب هذه المساومة الأخيرة عندما هدد هوكسبري بقطع المفاوضات في ٢٧ يوليو، ثم عاد يوافق على إخلاء مالطا فحسب لقاء بعض الجزر في الهند الغربية. وقوي مركز الإنجليز عندما ذاعت في هذه الآونة أخبار سقوط القاهرة. ولمَّا كان القنصل الأول يخشى من عجز الإسكندرية عن المقاومة طويلًا بعد تسليم جيش بليار في القاهرة، فقد رأى من الضروري إنهاء المفاوضة قبل تسليم الإسكندرية، وطلب في ٨ سبتمبر من تاليران أن يعمل على عقد مقدمات الصلح بكل سرعة؛ لأن منو ما كان في وسعه على حد قول بونابرت أن يصمد بالإسكندرية بعد يوم ٢٣ سبتمبر ١٨٠١م.١٣٣

وعلى ذلك فقد وُقِّعت مقدمات الصلح في لندن في أول أكتوبر ١٨٠١م على أساس إرجاع مصر إلى الباب العالي، ثم ضمان أملاك تركيا وسلامة أراضيها كما كانت قبل الحرب الأخيرة، واستبقت إنجلترا أهم مستعمراتها الهند وسيلان وجزيرة ترنداد. وكان بعد الفراغ من توقيع مقدمات الصلح بثماني ساعات فحسب أن وصل رسول يحمل إلى لندن بريد مصر يعلن استيلاء الإنجليز على مرتفعات الإسكندرية، وطلب منو المفاوضة في شروط التسليم والجلاء عن البلاد المصرية.

وفي غضون شهر أكتوبر نفسه كان قد تم ارتحال جيش الشرق من مصر ووصوله إلى فرنسا.١٣٤ وفي ٢٧ مارس سنة ١٨٠٢م عُقد الصلح العام في إميان على نفس القواعد السابقة بين إنجلترا وفرنسا وإسبانيا وهولندا. وهكذا فقدت فرنسا مصر دون أن تنال في الشرق أو في غيره من الميادين الاستعمارية ما يعوِّضها عن خسارتها الفادحة.
وقد عزا بونابرت فيما بعد هذا الفشل إلى عجز منو عن الاستمرار في المفاوضة حتى يوم ١٥ نوفمبر ١٨٠١م، وهو اليوم الذي قدَّر فيه بونابرت وصول أخبار مقدمات صلح لندن إلى الإسكندرية.١٣٥ ويميل جماعة من المؤرخين١٣٦ إلى الاعتقاد بأنه لو فشل الإنجليز في حملتهم على مصر في عام ١٨٠١م؛ أي لو أن منو بقولٍ آخر استطاع المقاومة ورفض بونابرت المفاوضة على أساس إخلاء مصر؛ لكان في استطاعة فرنسا أن تحتفظ — على الأقل لفترة أطول من الزمن — بتلك المستعمرة التي قامت حملتها في عام ١٧٩٨م من أجل إنشائها. وقد تناسى بونابرت كما تناسى هؤلاء المؤرخون من بعده أن القنصل الأول كان قد بذل كل ما وسعه من جهد وحيلة من أجل إرسال النجدات إلى جيش الشرق دون جدوى، وأن اقتناع بونابرت بعبث كل محاولة يبذلها في هذا السبيل لضعف البحرية الفرنسية قبل كل شيء، ثم اقتناعه كذلك بعبث الاعتماد على أن جيش الشرق في إمكانه الاستمرار على المقاومة زمنًا طويلًا؛ قد جعله يسلِّم بمبدأ إخلاء مصر، ويتخذ من الإخلاء وسيلة للمساومة إمَّا لبقاء جيشه في هذه البلاد كقوات ثانوية «مساعدة» تحت إشراف العثمانيين وسيادة الباب العالي، سواء كانت هذه السيادة اسمية «وهمية» كما كان يرجو، أم واقعية فعلية كما كان لا معدى عن حدوثه بسبب إصرار الباب العالي على استرجاع أملاكه القديمة ومؤازرة الإنجليز له في ذلك، وإمَّا للاستعاضة عن فقد مصر ببعض المغانم الاستعمارية في الميادين الأخرى سواء كذلك كانت هذه المغانم «إيجابية» باسترجاع بعض المستعمرات التي فقدتها فرنسا في آسيا وأمريكا، وحمل الإنجليز على اقتسام الإمبراطورية الاستعمارية مع فرنسا، أم كانت هذه المغانم «سلبية» بإجلاء الإنجليز على الأقل عن المستعمرات التي أخذوها من إسبانيا وهولندا خصوصًا.

وفضلًا عن ذلك فإنه لم يكن من المحتمل بتاتًا — وقد تقرر مبدأ الإخلاء في مقدمات صلح لندن، وظهرت بوادر الانحلال في مصر بتسليم القاهرة على يد بليار — أن يقنع الباب العالي بغير استعادة سلطانه الكامل على هذه البلاد بديلًا، أو أن يرضى الإنجليز بالتنازل عن تلك الأسس التي بسطها هوكسبري في ١٤ أبريل في مذكرته إلى المفاوض الفرنسي قبل أن تصل إلى لندن أنباء الحرب الدائرة في مصر. ومع ذلك فإن المرء لا يسعه إلَّا أن يسلم بحقيقة ظاهرة على الرغم من ذلك كله، هي أن بونابرت منذ عودته إلى فرنسا ظل شديد الاهتمام بجيش الشرق في مصر، وكان لا يني يبذل كل جهد من أجل إرسال النجدات إلى هذا الجيش، والعمل على إشاعة الثقة بين صفوفه وتقوية روح الجند المعنوية ورجال الحملة قاطبةً في مصر.

أمَّا أن جيش الشرق قد أخفق في الاحتفاظ بمصر وعجز عن المقاومة، فمردُّ ذلك إلى أمرين جوهريين؛ أولهما: نجاح السياسة الإنجليزية التي ما فتئت تهدف إلى غرض واحد منذ أن تبين لها عجز الحملة وضعف جيش الشرق وعدم قدرته على المقاومة الجدية، وكان هذا الغرض طرد الفرنسيين من مصر بقضهم وقضيضهم، وثانيهما أن منو قائد الحملة العام في مصر لم يكن له من العبقرية أو القدرة العسكرية ما يمكِّنه من الصمود طويلًا في وجه الجيوش العثمانية الإنجليزية المتحدة التي شرعت تزحف على البلاد من ناحية البحر الأبيض شمالًا والشام شرقًا وعن طريق القُصير وقنا جنوبًا.

سياسة إنجلترا

وقد حدث هذا الزحف المشترك نتيجة لذلك التبدل الذي طرأ على سياسة الحكومة الإنجليزية، فعدلت عن التمسك ببقاء الفرنسيين في مصر أو تسليمهم كأسرى حرب إلى اتخاذ الوسائل العسكرية الكفيلة بإخراج جيش الشرق من مصر دون إبطاء، ومهما تكلفه إجلاؤهم عنها من جهدٍ وتضحياتٍ عظيمة. وكان من أسباب تلك السياسة التي أفضت إلى نقض اتفاق العريش على نحو ما سبق بيانه،١٣٧ذيوع الاعتقاد في دوائر الحكومة الإنجليزية بأن «المسألة المصرية» قد باتت منتهية منذ أن وهنت روح جيش الشرق المعنوية بعد «فرار» بونابرت إلى فرنسا، وأضنت المتاعب رجال الحملة وجندها بسبب سوء الأحوال في مصر. زد على ذلك أن بونابرت بخروجه من البلاد قد ترك مصير جيش الشرق في يد القدر وحده، ولن يهتم بأمره.١٣٨

وعلى ذلك فإن الإنجليز ظلُّوا لا يأبهون مدة طويلة بأية عروض تأتيهم من جانبه لعقد الصلح في أوروبا والوصول إلى اتفاق بصدد «المسألة المصرية»، وآية ذلك ما حدث في الشهور التالية، فقد بادر بونابرت، كجزءٍ من مساعيه السياسية في سبيل تهيئة الأسباب التي تمكِّنه من إرسال النجدات إلى مصر، واستبقاء هذه المستعمرة في أيدي الفرنسيين إذا أمكن، أو الحصول على مواقع هامة في ميادين الاستعمار الأخرى تعوِّض الفرنسيين عن فقدها؛ بادر بونابرت في رسالة بتاريخ ٢٥ ديسمبر ١٧٩٩م إلى جورج الثالث بعث بها تاليران إلى جرنفيل بعرض الصلح على الإنجليز، فكان نصيب رسالته الإهمال التام، وكتب جرنفيل إلى تاليران في ٤ يناير ١٨٠٠م يرفض المفاوضة مع حكومة القنصل الأول ما دامت فرنسا متمسكة بتلك المبادئ التي تمخضت عنها الثورة ولا تريد التنازل عن أطماعها. وأعاد تاليران الكرة مرة ثانية في ١٤ يناير واستمرت الحكومة الإنجليزية على رفضها (٢٠ يناير)، وكان لهذا الرفض أسباب عدة تتصل بالموقف العسكري في القارة الأوروبية، وبسياسة الحكومة الإنجليزية عمومًا إزاء الحملة، وشكوكها في صدق نوايا القنصل الأول السلمية.

وذلك أن مورننجتون Mornington (اللورد ولزلي Wellesley فيما بعد) كان منذ مايو ١٧٩٩م قد انتصر على تبو صاحب سلطان ميسور الذي لقي حتفه فانحلت إمبراطوريته ودانت ميسور لسلطان الإنجليز، ثم انتفى كل خطر على الهند من ناحية الفرنسيين عندما ضمن الإنجليز السيطرة في البحر الأبيض عقب موقعة أبو قير البحرية، وشددوا الحصار على جيش الشرق في مصر، وعظم الاعتقاد في وقوع هذا الجيش في قبضة الإنجليز قريبًا حتى إنهم رفضوا الموافقة على مغادرته البلاد ورحيله إلى أرض الوطن. وفضلًا عن ذلك فقد استولت قواتهم في الهند الغربية على جزر المارتينيك وتباجو وترنداد، وفي أفريقيا الجنوبية على الكاب الهولندية، وانتزعوا كذلك سيلان من قبضة الهولنديين، ثم ضيَّقوا الحصار في البحر الأبيض على جزيرة مالطا، حتى أوشكت أن تسقط في أيديهم.
وكان من شأن هذه الانتصارات زيادة الأمل لدى الحكومة الإنجليزية، وعلى رأسها وليم بت عدو الثورة الفرنسية اللدود في إرغام فرنسا على الانكماش داخل حدودها القديمة، وإنشاء تلك الحكومات «التقليدية» التي ضمنوا عدم انصياعها لمبادئ الثورة وتعاليمها، أو الوقوع تحت تأثير «أطماعها». وعلى ذلك لم يكن من مصلحة الإنجليز الظاهرة قبول الصلح مع فرنسا، بل إن بت Pitt وصحبه ما كانوا ينظرون إلى أية عروض تأتيهم من جانب الفرنسيين لعقد السلام إلَّا بعين الشك والريبة، فاعتبروا رغبة كليبر في المفاوضة من أجل الجلاء خدعة كبيرة ليس الغرض منها سوى كسب الوقت فحسب، ووجدوا في تلك النداءات التي أصدرها بونابرت عند مجيء الحملة إلى مصر تؤكد لأهل البلاد إسلامه وإسلام جنده، ويتحدث فيها عما أنزله من أضرار وألحقه من إهانات بشخص البابا في روما، ثم ادعاء بونابرت في كتابه إلى الصدر الأعظم أنه إنما جاء إلى مصر ليخلص البلاد من شرور البكوات المماليك ويعيدها إلى الباب العالي، فضلًا عن الأوامر والتعليمات التي أصدرها إلى كليبر عند مغادرته مصر لبدء المفاوضة مع الأتراك، على أن يبذل جهده في الوقت نفسه لعدم إخلاء البلاد والجلاء عنها حتى يحين عقد الصلح العام في أوروبا بصورة تمكِّن الفرنسيين من الاحتفاظ بها في النهاية؛ وجد الإنجليز أو بالأحرى بت وأنصاره في ذلك كله ما يسوغ عدم الاطمئنان إلى نوايا القنصل الأول، ورفض المفاوضة معه. زد على ذلك أن مجيء الحملة إلى مصر كان — على حدِّ قول بت — اعتداءً صريحًا على الباب العالي صديق الإنجليز وحليفهم، كما كان الغرض منه تهديد الإنجليز في الهند وطردهم منها، وآية ذلك محاولة بونابرت إنشاء الصلات الوثيقة مع تبو صاحب.١٣٩
ومع ذلك فقد وُجدت طائفة من رجال السياسة الإنجليز الذين خالفت آراؤهم بصدد الصلح مع فرنسا ما ذهب إليه بت Pitt وصحبه؛ إذ كانوا لا يرون من الحكمة أن ترفض حكومتهم المفاوضة للوصول إلى صلح من نتائجه المنتظرة إخلاء مصر وجلاء الفرنسيين عنها دون إطلاق رصاصة واحدة، بل ذهب المعارضون لحكومة بت إلى أبعد من ذلك عندما قوي الشعور رويدًا رويدًا بأن الفرنسيين قد قطعوا مرحلة كبيرة في سبيل توطيد أقدامهم في مصر، حتى إنه صار في استطاعة علمائهم أن يطوفوا في أنحاء البلاد، باحثين منقِّبين عن آثارها في أمنٍ وطمأنينةٍ يعدُّون بحوثهم العلمية في سلام وينشرونها، وتنقل الصحف الإنجليزية ذاتها بعض هذه البحوث والدراسات الممتعة.
وكانت المعارضة في مطالبتها بضرورة المفاوضة مع القنصل الأول إنما تعبر عن شطر كبير من الرأي العام الإنجليزي، ثم سرعان ما أخذ الموقف يتغير بصورة دعت الحكومة ذاتها إلى التفكير جديًّا في تغيير خطتها، وقبول الدخول في مفاوضات مع القنصل الأول، وتدبير أمر خروج الحملة وجلاء جيش الشرق عن مصر، فقد نجم عن انتصار بونابرت الحاسم في موقعة مارنجو (١٤ يونيو ١٨٠٠م) أن دخل تغيير كبير على الموقف السياسي في القارة سبق ذكر بعض آثاره، وأهمها عقد الهدنة بين النمسا وفرنسا تمهيدًا لخروج النمسا من المحالفة الدولية ضد حكومة القنصل الأول، ثم بداية التفاهم بين فرنسا وروسيا ذلك التفاهم الذي أسفر عن عقد محالفة الحياد المسلح الرباعية في ٢ ديسمبر ١٨٠٠م، ثم بداية الكلام عن ذلك «المشروع الشرقي العظيم» الذي ابتغى بونابرت من تحقيقه طرد الإنجليز من الهند بمعاونة الروسيا. فكان من أثر هذا التحول تسليم حكومة بت بضرورة المفاوضة، وتصريحها بذلك على لسان سفيرها في فينَّا اللورد منتو Minto منذ أغسطس ١٨٠٠م على نحو ما سبق بيانه. وكان انحياز روسيا إلى جانب فرنسا، وموافقة بول الأول قيصرها على مشروع بونابرت الشرقي، مصدر مخاوف عظيمة لإنجلترا على إمبراطوريتها في الهند خصوصًا، وحاول بت إفساد سياسة القنصل الأول مع روسيا بالعمل على إزالة أسباب سوء التفاهم بين حكومته وبين القيصر، فغادر السير هوم بوبهام Sir Home Popham لندن إلى روسيا لهذه الغاية في نوفمبر ١٧٩٩م، ولكنه لم يصل إلى بطرسبرج إلَّا بعد فوات الوقت، عندما كان سوء التفاهم بين الدولتين قد بلغ ذروته.
وقد أدرك الواقفون على حقيقة الأمور خطورة هذا التحول الذي طرأ على سياسة روسيا، فكتب أبوت Abbott عضو شركة الليفانت إلى جرنفيل في ٢٠ نوفمبر ١٨٠٠م يذكِّره بمشروعات القيصرة كاترين الثانية، التي كانت تهدف إلى افتتاح الشام وفلسطين ومصر وإرسال حملة إلى الهند عن طريق مصر بعد فتحها، وكان أبوت قد أقام ردحًا من الزمن قبل ذلك في بطرسبرج. ثم ما لبثت أن ظهرت آثار هذا التحول بعد ذلك عندما جاءت الأخبار إلى لندن في شهر ديسمبر تذكر أن الجنرال تمارا Tamara سفير روسيا في القسطنطينية قد طلب من الباب العالي عدم السماح للإنجليز بإنزال جنودهم في مصر؛ إذ يعتبر القيصر موافقة تركيا على ذلك عملًا عدائيًّا ضد روسيا.١٤٠ وانزعج اللورد إلجين Elgin السفير الإنجليزي في القسطنطينية أيما انزعاج بسبب هذه المحالفة «المنتظرة» بين فرنسا وروسيا وما كانت تحمل في طياتها من أخطار جسيمة، ليس فقط على مستقبل الإمبراطورية العثمانية بل على مصير ممتلكات الإنجليز في الهند ذاتها. وراجت الإشاعات المثيرة في القسطنطينية وفينَّا وبغداد وبومباي بالهند عن ذلك المشروع الشرقي الذي كثر الحديث عنه أخيرًا في بطرسبرج وباريس، حتى إن اللورد ولزلي ما لبث أن وجد من الحكمة وأصالة الرأي أن يتخذ للأمر عدته، فبعث إلى فارس الكابتن مالكولم Malcolm أحد ضباطه، منذ أواخر ديسمبر، ليعقد معاهدة دفاعية هجومية مع الشاه نجح مالكولم في عقدها في يناير من العام التالي.

إزاء ذلك كله لم يكن هناك معدى عن تحول الحكومة الإنجليزية عن موقفها، وقبول الدخول في المفاوضة مع فرنسا لإخراج جيش الشرق من مصر، ثم اتخاذ كل إجراء من شأنه طرد الفرنسيين من هذه البلاد بقوة السيف والمدفع في النهاية. على أن هناك أمرين لا مندوحة عن ذكرهما: أولهما أن طرفًا من هذه الإجراءات العسكرية كان قد بدأ التفكير فيه والعمل على تنفيذه، في وقتٍ كان بت لا يزال مصممًا على رفض أي اتفاق يسمح بانسحاب الحملة من مصر بالطرق السلمية، ويرى أن تتحمل تركيا وحدها عبء القتال ضد الفرنسيين، بينما يحصر الإنجليز جهودهم في تقديم «مساعدات» ثانوية لتخفيف شيء من الضغط الواقع على العثمانيين، وقد نجم عن هذه الخطة تجهيز حملة في الهند وإرسالها إلى مصر عن طريق البحر الأحمر. والأمر الثاني أنه بمجرد أن حدث ذلك التحول الذي أفضى إلى قبول المفاوضة مع أوتو في لندن منذ أغسطس ١٨٠٠م، ثم تبيَّن للإنجليز عجز الأتراك عن القيام بأي عمل عسكري ناجح ضد جيش الشرق في مصر؛ قررت حكومتهم الاشتراك جديًّا في القتال الدائر ضد الفرنسيين، وأسفر هذا القرار عن خروج حملة البحر الأبيض بقيادة السير رالف أبركرمبي إلى الشواطئ المصرية.

حملة البحر الأحمر

وكان تقرير إرسال حملة من الهند إلى مصر عن طريق البحر الأحمر يحمل في طياته معنى إخفاق تلك الخطة التي تمسكت بها الحكومة الإنجليزية منذ ذهاب الحملة الفرنسية إلى مصر في عام ١٧٩٨م، وهي أن يُترك للعثمانيين وحدهم واجب تحطيم جيش الشرق في هذه البلاد. فضلًا عن فشل تلك السياسة التي رسم خطوطها السير سدني سمث وأفضت إلى إبرام اتفاق العريش، وهي أن يجلو الفرنسيون عن البلاد طوعًا وبرضاء طرفَي النزاع الأصليين — أي الأتراك والفرنسيين — وقد تقدم كيف أن الحكومة الإنجليزية اضطرت إلى قبول اتفاق العريش بعد أن نقضته، وإن جاء هذا القبول متأخرًا،١٤١ وكان من أثر استئناف القتال وانتصار كليبر في معركة هليوبوليس (في ٢٠ مارس ١٨٠٠م) أن عادت إنجلترا إلى التمسك بخطتها الأولى.
ومع ذلك وُجِد من بين الإنجليز فريقٌ رأى من حسن السياسة عدم الاعتماد على الأتراك وحدهم في مناضلة جيش الشرق، وخالفوا بت رئيس الحكومة في اعتبار أمر الحملة الفرنسية على مصر منتهيًا ومصير الحملة إلى الفشل لا محالة بسبب «فرار» بونابرت، فقد أكد سدني سمث أن بونابرت لن يترك مصر وشأنها، وأنه سوف يرسل النجدات إليها بكل وسيلة، وكتب دنداس Dundas أحد أعضاء الحكومة البارزين إلى بت في نوفمبر ١٧٩٩م أنه يتعذر عليه اعتبار الحملة «منتهية» إذا كان الفرنسيون لا يزالون محتفظين بجيش كبير في مصر.١٤٢ وكان من أثر هذا الاختلاف في الرأي أن اضطر بت إلى اتخاذ قرار عاجل في مسألة مشاركة العثمانيين في عملياتهم العسكرية ضد الحملة وتحديد مدى هذه المشاركة عندما وقفت حكومته على وجه الخصوص موقف المعارضة من تلك المفاوضات التي بدأها كليبر في الشهر نفسه من أجل إخلاء مصر بالطرق «السلمية»، فارتأى بت (رسالته إلى دنداس في ١٢ ديسمبر ١٧٩٩م) أن الواجب يقتضيه، وقد أصدر تعليماته إلى أمراء الأسطول في البحر الأبيض لمنع الجيش الفرنسي من العودة إلى أرض الوطن، والإصرار على تسليم جنوده كأسرى حرب فحسب؛ أن يبذل المساعدة للأتراك حتى يخفف بعض الشيء من عبء النضال ضد جيش الشرق عن كواهلهم. أمَّا هذه المساعدة التي قرَّ رأي بت على التقدم بها، فكانت إرسال حملة من الهند إلى مصر عن طريق البحر الأحمر.

على أن مما تجدر ملاحظته أن اتخاذ هذا القرار لم يكن معناه أن بت قد عدل عن خطته الأولى من حيث الاعتماد على الأتراك في النضال ضد الفرنسيين، بل كان متمشيًا مع تعليماته التي أصدرها إلى اللورد كيث أميرال الأسطول الإنجليزي في البحر الأبيض ومتممًا لها، والغرض منه منع جلاء الحملة عن مصر بالطرق السلمية على النحو الذي أراده كليبر والسير سدني سمث ورجال السفارة الإنجليزية في القسطنطينية فضلًا عن الباب العالي نفسه. بل إن الأسباب التي حملت بت على بذل بعض المساعدة للأتراك في صورة إرسال حملة من الهند عن طريق البحر الأحمر؛ كانت في جوهرها أسبابًا سياسية، ولا تمت إلى خطط الدفاع والهجوم العسكرية بصلة وثيقة؛ ذلك أن خروج مثل هذه الحملة الإنجليزية من الهند من شأنه أن يكسر من حدة غضب الأتراك، ويزيل شيئًا من ذلك الأثر السيئ الذي أحدثه في نفوسهم رفض الاتفاق العثماني الفرنسي، ويكسبهم شجاعة جديدة على المضي في النضال، ويمنعهم من محاولة الخروج من المحالفة التي عقدوها مع الإنجليز منذ يناير ١٧٩٩م.

وثمة ملاحظة أخرى هي أن هذه «المساعدة» التي قرر بت القيام بها لم تكن جدية بالصورة التي تمكِّن الحليفتين إنجلترا وتركيا من إنزال الهزيمة الحاسمة بجيش الشرق، والبت في أمر المسألة المصرية نهائيًّا؛ لأن الحملة المزمعة كانت تتألف من خليط من الهنود والإنجليز، ولا تدل على أن إنجلترا قد أخذت على عاتقها فعلًا عبء العمليات العسكرية الكبيرة، فضلًا عما يلزم من زمن طويل لوصول هذه الحملة الهندية إلى السويس أو غيرها من الموانئ المصرية في البحر الأحمر. وقد نجم عن عدم الرغبة في مشاركة العثمانيين جديًّا في جهودهم العسكرية رفض التفكير في إرسال قوات إنجليزية إلى مصر عن طريق البحر الأبيض. وعندما بحثت الحكومة الأخطار التي يمكن أن تتعرض لها حملة الهند إذا أقدمت على عمليات عسكرية دون أن تلقى تأييدًا كاملًا من ناحية البحر الأبيض؛ قرَّ رأيها على تأجيل إرسال حملة الهند «حتى تأتي الفرصة المناسبة.»

ومع ذلك فقد فكر آخرون قبل بت في إمكان إرسال حملة هندية إلى مصر، واختلف مقصدهم من الحملة عن أغراض رئيس الحكومة الإنجليزية، من هؤلاء دنداس وسدني سمث وإلجين، بل ورجال الباب العالي نفسه في القسطنطينية. وظل التفكير في أمر هذه الحملة وضرورة الإسراع بإرسالها مع نجدات كافية يشغل أذهان الصدر الأعظم ورجال السياسة والحرب الإنجليز الذين قصدوا معسكر الصدر في يافا أو أشرفوا على تنظيم جيوشه.

وكان غرض كل هؤلاء أن تشترك هذه النجدات الإنجليزية الهندية اشتراكًا فعَّالًا في الحرب الدائرة، وبصورة تمكِّن من إلحاق الهزيمة بجيش الشرق وطرد الفرنسيين من مصر في النهاية.

ويعود تفكير دنداس في ضرورة إرسال الحملة الهندية إلى وقت ذيوع أنباء تحطيم أسطول برويس في معركة أبو قير البحرية، فاقترح إرسال أحد الضباط الإنجليز الكولونيل ميتلاند Maitland إلى البحر الأحمر للكشف والاستطلاع.
ومن المحتمل أن يكون إلجين قد فكَّر في ذلك أيضًا من نفسه أو عن طريق السير سدني سمث،١٤٣ وقد كتب كلاهما إلى ولزلي حاكم الهند يسألانه الرأي في ذلك، ولم يشجع ولزلي إرسال حملة من الهند بدعوى قلة ما لديه من جنود كان لا يزال بحاجة لاستخدامهم في عملياته العسكرية في الهند. أمَّا في القسطنطينية فقد بدأ بحث هذا الموضوع منذ أن عُرِف نزول الفرنسيين في مصر.
وكتب سبنسر سمث الوزير الإنجليزي بالقسطنطينية وقتئذٍ إلى مانستي Manesty وكيل شركة الهند الشرقية التجارية في البصرة، في ضرورة توجيه عناية حكومة الهند إلى البحر الأحمر، واتخاذ وسائل الحيطة والحذر لمنع بونابرت الذي نزل في مصر من تهديد مصالح الإنجليز في الهند، كما أوضح له أن العثمانيين أنفسهم قد أظهروا هذه الرغبة (٢٨ يوليو ١٧٩٨م). وفضلًا عن ذلك فقد بادر سبنسر سمث بإبلاغ هذه الأخبار إلى اللورد جرنفيل (٤ أغسطس)، وبعث إليه بصورة من كتابه إلى مانستي.١٤٤
وعلى ذلك فقد وجد اللورد إلجين والسير سدني سمث عند حضورهما إلى القسطنطينية فكرة الاستنجاد بحملة من الهند مختمرة في أذهان رجال السفارة من جهة وفي أذهان الأتراك من جهة أخرى، وطفق سدني سمث يدعو إلى إرسال حملة من الهند عن طريق البحر الأحمر لنجدة الأتراك عند زحف بونابرت على الشام وتشديده الحصار على عكا، ثم عقب انسحابه إلى مصر وهزيمة العثمانيين في موقعة أبو قير البرية.١٤٥ حتى إذا ما بدأت مفاوضات العريش عاود سدني سمث الكرة، فاقترح إذا أخفقت مباحثاته مع ديزيه وبوسيلج أن تأتي حملة من الهند؛ لأن الفرنسيين كانوا يرهبون على حد قوله غزاة الهند وفاتحي ميسور ويخشون من ظهورهم في الصعيد، بينما لا تزعجهم بتاتًا جيوش الصدر الأعظم التي ينعدم فيها النظام وتشيع فيها الفوضى، فضلًا عن أن جيش الشرق وقد نقصت قواته إلى حوالي الثمانية عشر ألف رجل تقريبًا، كان يدرك خطورة التعرض لهجوم مزدوج عليه من ناحيتي البحر الأبيض والبحر الأحمر في وقت واحد.١٤٦
وعندما نقض الإنجليز اتفاق العريش وأوقع كليبر الهزيمة بجيش يوسف ضيا الصدر الأعظم في هليوبوليس (٢٠ مارس ١٨٠٠م)، استأنف سدني سمث مساعيه في لندن لكي تصدر أوامرها بخروج حملة الهند، وكتب إلى اللورد مورننجتون (ولزلي) يطلعه على حقيقة الموقف في مصر، حتى يأخذ الأهبة لإرسال هذه الحملة بمجرد وصول أوامر الحكومة الإنجليزية إليه في ذلك.١٤٧ واعتنق اللورد إلجين السفير الإنجليزي الجديد — منذ وصوله إلى القسطنطينية في نوفمبر ١٧٩٩م — فكرة استقدام حملة من الهند لتأييد عمليات العثمانيين العسكرية، فظلَّ خلال الشهور التالية يكتب إلى دنداس في لندن وإلى مورننجتون في الهند، في شأن القيام بعمل عسكري هام في البحر الأحمر يضعف مقاومة العدو، ويعجل إجلاء الفرنسيين عن مصر وطردهم منها.١٤٨
وأجمع الثقات الإنجليز في جيش الصدر الأعظم على ضرورة إرسال حملة من الهند للقيام بعمليات عسكرية في الصعيد على وجه الخصوص، في نفس الوقت الذي يحارب فيه الأتراك الفرنسيين في الوجه البحري، فقرر هذا الرأي مورييه Morier سكرتير اللورد إلجين، الذي أرسله السفير إلى معسكر الصدر الأعظم في يافا لتدبير تحطيم جيش الشرق بالاشتراك مع العثمانيين غدرًا وخيانةً بعد تسليم كليبر المنتظر بعد إبرام اتفاق العريش،١٤٩ ومكث في المعسكر العثماني مدة أقنعته بضرورة إرسال قوات إنجليزية من الهند لمعاونة جيش الصدر في حربه ضد الفرنسيين، وانبرى يؤيد هذا الرأي كذلك الجنرال كوهلر Koehler الذي بعثت به الحكومة الإنجليزية لإدخال شيء من النظام في جيش الأتراك، وأقام وقتئذٍ مع الصدر الأعظم في معسكره بيافا، فأشار بضرورة إرسال حملة من الهند إلى القصير كي تساعد بنشاطها في الصعيد عمليات الجيش العثماني على الحدود الشامية، وتُتاح الفرصة بذلك للقيام في وقت واحد بهجوم واسع النطاق على مراكز الفرنسيين الموزعة بين الإسكندرية ودمياط والسويس والقاهرة وفي الوجه القبلي. وفي رأي أحد المؤرخين١٥٠ أن ما أشار به كوهلر وقتئذٍ كان نفس النظرية التي بنى عليها العسكريون ورجال السياسة الإنجليز خططهم، وزاد الاقتناع بها رويدًا رويدًا في لندن وكلكتا ويافا، حتى استندت إليها عمليات حملة ١٨٠١م التي انتهت بالانتصار على الفرنسيين وإخلاء جيش بونابرت من مصر.
ومع أن مورننجتون أو ولزلي كان يرفض في بادئ الأمر على نحو ما رأينا إرسال جزءٍ من جيشه إلى البحر الأحمر بدعوى حاجته إلى كل قواته بالهند؛ فإنه ما لبث أن أبدى استعداده لإجابة هذه الرغبة بمجرد أن انتهت حملته ضد تبو صاحب في ميسور (في مايو ١٧٩٩م)، وشرع يبحث جديًّا مع ضباطه مشروع الحملة المنتظرة. وكان من رأيه أن الاكتفاء بإرسال جيش عن طريق البحر الأحمر للقيام بعمليات واسعة النطاق في الصعيد لمجرد شغل الفرنسيين وإرغامهم على توزيع قواتهم على نحو ما قصده بت؛ أمر لا جدوى منه ولا ينجم عنه سوى إهراق الدماء وتبديد الأموال دون طائل، وذلك ما دام هذا الجيش لا يلقى معاونة صادقة من ناحية حملة أخرى قوية تنزل في مصر من ناحية البحر الأبيض.١٥١ أمَّا إذا كان الغرض من إرسال جيش الهند القيام بعمليات ثانوية ضد مراكز الفرنسيين القليلة على شاطئ البحر الأحمر، فلا خطر في محاولته ذلك، بل يرجو مورننجتون أن تعود هذه المحاولة بفائدة دون تحمل نفقات كثيرة.
ولما كانت الحكومة الإنجليزية لا تزال معتمدة في القتال على جهود العثمانيين العسكرية فحسب، ولا تريد إرسال حملة إنجليزية على مصر عن طريق البحر الأبيض؛ فقد أصرَّ ولزلي على اجتناب القيام بعمليات واسعة النطاق في البحر الأحمر، ولم يثنه عن عزمه سوى إلحاح أصحاب مشروع الحملة الهندية الأولين أمثال إلجين وسدني سمث وغيرهما، فانصاع ولزلي رويدًا رويدًا إلى رغبة هؤلاء، وأخذ يميل منذ يوليو ١٨٠٠م إلى إرسال جزء من جيشه إلى مصر عن طريق البحر الأحمر دون انتظار معاونة حملة إنجليزية أخرى كبيرة تنزل في هذه البلاد عن طريق البحر الأبيض. ثم زاد من اقتناعه أخيرًا بضرورة التعجيل باتخاذ هذه الخطوة ما صار يصل إليه بعدئذٍ من أخبار انتصارات القنصل الأول العسكرية والسياسية في أوروبا، حتى بات يخشى أن يعتزم بونابرت نجدة جيش الشرق، إمَّا بتصويب ضربة قاتلة ضد الإنجليز في الهند، وإمَّا بالاستيلاء على منافذ البحر الأحمر. وعلى ضوء هذه التطورات الأخيرة إذن انتظر ولزلي أن تأتيه الأوامر من لندن بإرسال حملة الهند دون إمهال إلى البحر الأحمر وليس لمجرد مناوشة مراكز الفرنسيين في هذا البحر، بل من أجل التعاون مع جيش كبير آخر يبعث به الإنجليز إلى مصر عن طريق البحر الأبيض.١٥٢
وانكب ولزلي على تجهيز حملته بكل همة، ولما لم تصله حتى نهاية عام ١٨٠٠م أية أوامر من لندن بصدد هذه الحملة فقد أخذ ولزلي على عاتقه مسئولية سبق هذه التعليمات «المنتظرة»، وإخراج قوة برية مع جماعة من الجند بقيادة الأميرال بلانكت Blankett للقيام «ببعض» عمليات في البحر الأحمر لا تتعدى الاستيلاء على القصير والسويس، ثم قطع كل مواصلات العدو مع منطقة القصير وإمداد البكوات المماليك بالأسلحة والذخائر عن طريق القصير، وإشاعة الفوضى والارتباك في صفوف الفرنسيين. وعندما وصلت أخبار ذلك إلى إلجين في القسطنطينية بادر السفير بإبلاغ ذلك كله إلى لندن في ١٤ نوفمبر، راجيًا أن يتفق وصول حملة الهند إلى مصر وقيام الحلفاء الإنجليز والعثمانيين بهجوم كبير على مصر من ناحية البحر الأبيض وسوريا حتى تتحقق أغراض حكومته.١٥٣ أمَّا حملة الأمير بلانكت فقد غادرت بمباي في ٢٨ ديسمبر سنة ١٨٠٠م.

حملة البحر الأبيض

وعندما كتب إلجين إلى اللورد جرنفيل في ١٤ نوفمبر، كان قد طرأ منذ شهر سبتمبر تعديل على خطة الحكومة الإنجليزية، من حيث نبذ فكرة الاعتماد على جهود العثمانيين العسكرية فحسب في مواصلة القتال ضد الفرنسيين، والاقتناع بضرورة الاشتراك معهم جديًّا من أجل طرد جيش الشرق من مصر. ومردُّ ذلك إلى أسباب عدة: فقد عمد الإنجليز إزاء انتصارات بونابرت في حملته الإيطالية الثانية إلى اتخاذ خطوات سريعة لنجدة حلفائهم في مختلف نواحي القارة، وتقوية مراكزهم في البحر الأبيض، وضمان سيطرتهم في هذا البحر؛ لمنع بونابرت من إرسال أية إمدادات إلى مصر. وفي مايو سنة ١٨٠٠م صدرت تعليمات الحكومة إلى السير رالف أبركرمبي Abercromby الذي خلف السير تشارلس ستيوارت في قيادة البحر الأبيض؛ ليعمل على تعزيز القوات الإنجليزية الواقفة على حصار مالطا، ثم تعزيز حامية مينورقة، ونجدة النمساويين في إيطاليا، وبذل المعونة لأهل نابولي والبرتغاليين بصورة تمكِّنهم من الصمود أمام الفرنسيين إذا غزا هؤلاء بلادهم، وأخيرًا تحريك الملكيين للثورة في جنوب فرنسا ومساعدتهم. وفضلًا عن ذلك فقد اعتزم الإنجليز في أغسطس القيام «بعمليات» عسكرية ضد الموانئ الإسبانية في فيجو Vigo   وفيرول Ferrol   وقادش Cadix وغيرها.١٥٤
بيد أن هذه الأغراض جميعها كان نصيبها الفشل، إمَّا لعجز الإنجليز عن تحقيقها، وإمَّا لعدم تنفيذها أصلًا؛ ذلك أن السير جيمس بلتيني Pulteney لم يلبث أن انهزم أمام فيرول في أغسطس، ثم اضطر أبركرمبي إلى وقف هجومه على قادش في بداية أكتوبر، وعندما حاول الأميرال كيث إنزال النجدات في ليفورنه وجد أن النمساويين قد مدوا هدنتهم مع الجيش الفرنسي في إيطاليا فترة أخرى في اتفاق كاستيليوني Castiglione، ولم يسع كيث بسبب تفشي المرض بين جنده وما كانوا فيه من تعب وإعياء إلَّا أن يبعث بفريق منهم إلى ماهون في مينورقة، وبالآخرين إلى مالطا، وكان كل ما أفاده الإنجليز من عملياتهم إرغام مالطا على التسليم (في ٤ سبتمبر سنة ١٨٠٠م).١٥٥ وفضلًا عن ذلك فقد خابت الدبلوماسية الإنجليزية وقتئذٍ في القارة وسارت المحالفة الدولية ضد فرنسا حثيثًا في طريق الانحلال، فالنمسا المنهزمة تتفاوض مع القنصل الأول، والروسيا تخرج من المحالفة، وتركيا متعبة من النضال يجب مراقبتها عن كثب وبذل المعونة لها خوفًا من أن تتفق مع بونابرت.

وتوقع الإنجليز أن تفلح دبلوماسية القنصل الأول في إحياء محالفة الحياد المسلح بين دول الشمال الأربع، وبات من الواضح أن الإنجليز سوف يُرغمون على إرسال جزء من أساطيلهم للعمل في بحر الشمال ضد دول المحالفة المنتظرة، وإضعاف قوتهم البحرية في البحر الأبيض نتيجة لذلك، وخشي الإنجليز بسبب نقص قواتهم في هذا البحر أن يستطيع القنصل الأول إرسال النجدات إلى مصر. أضف إلى هذا أنه كان لا يبدو أي أمل في احتمال خروج الفرنسيين من مصر دون قتال ومقاومة منذ أن قُتِل كليبر، وقُضي على أنصار الجلاء والمعارضين للاستعمار في هيئة أركان حرب الجيش وأعلن منو قائد الحملة الجديد تصميمه على البقاء، وإن كان الإنجليز قد عرفوا حدوث الانقسام في صفوف ضباط الحملة وقوادها من الرسائل التي صادرها أسطولهم، فقوي لديهم الأمل تبعًا لذلك في إمكان هزيمة جيش الشرق إذا قرَّ الرأي على إنزال جند أوروبيين في الأراضي المصرية، وترك الإنجليز خطة الاعتماد على العثمانيين وحدهم في محاربة الفرنسيين وإجلائهم عن البلاد.

وكان مما أقنع الحكومة الإنجليزية بضرورة التعاون العسكري مع الأتراك تعاونًا جديًّا، انعقاد الرأي بين ضباطهم وعمالهم في معسكر الصدر الأعظم على أن الجيش العثماني بحالته الراهنة عاجزٌ كل العجز عن طرد الفرنسيين من مصر، وما إن طلب يوسف ضيا باشا الصدر الأعظم نجدة إنجليزية من خمسة آلاف بل من عشرة آلاف جندي، حتى انبرى الجنرال كوهلر وسدني سمث يؤيدان طلب النجدة، واستبد اليأس بمورييه  Morier بسبب ما شاهده من ضعف العثمانيين، حتى إنه بات لا يرجو أية فائدة من نشاطهم العسكري ما لم يسرع الإنجليز بإرسال حملة كبيرة للاشتراك في النضال إلى جانبهم ضد جيش الشرق.١٥٦

وكان في هذه الظروف غير المواتية إذن أن قدَّم دنداس في ٣١ سبتمبر مذكرة إلى رئيس الحكومة تبحث الموقف في مصر خصوصًا، واضطرت إلى دعوة الوزارة للانعقاد لبحث مسألتي البورتغال (حليفة الإنجليز) ومصر، وقرَّ الرأي على الدفاع عن البرتغال، والاشتراك بصورة جدية مع الأتراك في عملياتهم العسكرية ضد الفرنسيين في مصر، فعُهِد إلى الجنرال بلتيني بالمهمة الأولى، بينما عُهد إلى السير رالف أبركرمبي بالمهمة الثانية. وفي بداية شهر أكتوبر من عام ١٨٠٠م أصدر دنداس طائفة من التعليمات إلى السير رالف، تأمره بالذهاب مع خمسة عشر ألف جندي إلى أحد الموانئ المناسبة في قبرص أو كريت أو آسيا الصغرى، للعمل مع قواد السلطان العثماني، والتعاون معهم من أجل الاستيلاء على الإسكندرية. وقدَّر دنداس عدد قوات الفرنسيين في مصر بحوالي ثلاثة عشر ألف جندي، منهم ثلاثة آلاف تقريبًا في حامية الإسكندرية، بينما ظلت بقية قوَّاتهم موزعة في الوجه البحري وعلى الحدود الشامية. وتوقع دنداس سقوط الإسكندرية بسهولة لضعف تحصيناتها من جهة، ولعجز العدو عن منع الإنجليز من تضييق الحصار عليها، ثم انحلال الروح المعنوية لدى الفرنسيين الذين نفد صبرهم وصاروا يتوقون للعودة إلى الوطن بكل سرعة وبأية وسيلة.

وعلى ذلك فقد طلب إلى أبركرمبي أن يعرض على الفرنسيين نقل حاميات الإسكندرية وسائر الحاميات في مصر إلى فرنسا، ويعمل على إذاعة هذه العروض بين صفوف العدو إذا رفضها منو وقواد الحملة، ثم منع أبركرمبي من الزحف داخل البلاد بعد سقوط الإسكندرية والموانئ الأخرى، إلَّا إذا وجد ضرورة لهذا الزحف وكان من شأنه مساعدة العثمانيين على اجتياز الحدود من جانبهم والتقدم في داخل البلاد. وأخيرًا ذكرت التعليمات تلك الأوامر التي صدرت إلى الهند من أجل إرسال حملة من خمسة آلاف جندي للاستيلاء على موانئ البحر الأحمر التي في حوزة العدو، وإضعاف جيش الشرق بسبب قيام هذه العمليات العسكرية في مؤخرته. وفي ٦ أكتوبر١٥٧ كتب دنداس إلى ولزلي حاكم الهند العام ينبئه بقرار الحكومة ورغبتها في إرسال قوة من ألف من المشاة الإنجليز وألفين من الهنود للعمل من ناحية البحر الأحمر. وبعث كذلك بالكتب في هذا الشأن إلى كلايف Clive حاكم مدراس وإلى دنكان Duncan حاكم بمباي في الوقت نفسه.
ثم لم تكتفِ الحكومة الإنجليزية بتجهيز هاتين الحملتين (حملة البحر الأبيض وحملة البحر الأحمر) لمعاونة الأتراك، بل عملت أيضًا على تجهيز حملة ثالثة بقيادة السير هوم بوبهام بعد عودته من مهمته الفاشلة في بطرسبرج، فعهدت الحكومة إليه بالخروج في أسطول صغير لنقل ما يجمع من جنود في رأس الرجاء الصالح يذهب بهم إلى بمباي، ثم يحمل ما يستطيع من القوات الهندية المعدَّة للإبحار كذلك إلى البحر الأحمر، فيذهب بهم إلى هذا البحر ويعمل على الاتصال ببقية وحدات الأسطول وحملة الأميرال بلانكت، وبذلك يستطيع الجميع الاتحاد مع القوات المرسلة عن طريق البحر الأبيض للاشتراك مع العثمانيين في إجلاء الفرنسيين عن مصر وطردهم منها. وكان دنداس يرى أن في استطاعة بوبهام الدخول في بحر العرب والوصول إلى مخا في زمن غايته شهر فبراير من عام ١٨٠١م.١٥٨ وهكذا صدرت أخيرًا الأوامر التي ظل ولزلي ينتظرها زمنًا طويلًا، فقامت الحملة الهندية إلى البحر الأحمر في بداية ديسمبر سنة ١٨٠٠م، ونزل الجند بقيادة الجنرال بيرد Baird في القصير في شهر مايو من العام التالي، ووصلوا الجيزة في ٧ أغسطس ١٨٠١م بعد تسليم القاهرة بأربعين يومًا، ثم بلغوا الإسكندرية وقت تسليم حاميتها،١٥٩ فلم يكن لها أي أثر في العمليات العسكرية التي أفضت إلى إجلاء الفرنسيين من مصر، ووقع العبء كله في ذلك على حملة البحر الأبيض.

نزول أبركرمبي في أبو قير

أمَّا هذه الحملة التي نقلها أسطول اللورد كيث بقيادة السير رالف أبركرمبي، فقد غادرت مالطا في ٢ نوفمبر سنة ١٨٠٠م، ثم يممت شطر مينورقة فأقامت بها مدة استأنفت بعدها السير في البحر (٢١ نوفمبر) قاصدة إلى مالطا فبلغتها في أول ديسمبر، ثم أقلعت مرة ثانية في ١٧ ديسمبر بعد أن كمل استعدادها وصارت تتألف من سبعة عشر ألف مقاتل، واتجهت شرقًا عن طريق كريت فبلغت ميناء مارموريس على شاطئ كرمنيا Caramania بآسيا الصغرى، فألقت مراسيها في خليج ماكري Macri شمال جزيرة رودس في ٢٩ ديسمبر، وأنزل أبركرمبي جنوده إلى الشاطئ ليأخذوا نصيبهم من الراحة بعد مشقات السفر.١٦٠ وكان غرض أبركرمبي من النزول عند خليج ماكري أن يتأكد لدى العثمانيين وصول الحملة، وعزم الإنجليز على التعاون الجدي معهم، فيحول ذلك دون مفاوضتهم مع الفرنسيين. وفضلًا عن ذلك أراد أبركرمبي أن يتمهل قليلًا في سيره حتى يفسح الوقت لوصول حملة البحر الأحمر الهندية في الوقت المناسب، ويتمكن في الوقت نفسه من العثور على عدد من الخيول كان في حاجة إليها لفرسانه ولنقل مدافع الحملة، علاوة على زوارق مدفعية تركية لحماية الحملة عند نزولها على الشاطئ المصري، وهذا عدا بعض السفن الخفيفة التي تستطيع الدخول في البحيرات المصرية الشاطئية.١٦١
ثم كان من أهم أغراض أبركرمبي محاولة الاتفاق مع الصدر الأعظم بصدد الخطة التي يجب اتخاذها من أجل الغزو المشترك، على أساس أن تجري عمليات العثمانيين العسكرية من ناحية الحدود السورية، بينما ينزل أبركرمبي وقواته في فرع النيل الشرقي. وكان أبركرمبي يبغي النزول في يافا بدلًا من الذهاب إلى الإسكندرية مخالفًا في ذلك تعليماته؛ حتى يشترك مع جيش الصدر الأعظم في الزحف عبر الصحراء على الحدود المصرية، فيجتمع الجيشان في السويس وينتظران هناك وصول الحملة الهندية، ثم تستأنف الجيوش الثلاثة زحفها على القاهرة.١٦٢ وأرسل أبركرمبي إلى معسكر الصدر في يافا الجنرال سيرجون مور Moore للاتفاق مع يوسف ضيا باشا بصدد ذلك كله، وقد ظل أبركرمبي رابضًا في مارموريس طول شهرَي يناير وفبراير سنة ١٨٠١م ينتظر عودة مور من مهمته، وإقبال الأتراك على تزويده بالخيول والمهمات اللازمة، وجمع السفن ورجال المدفعية في رودس. غير أن العثمانيين لم يزودوه بحاجته كما أنهم لم يجمعوا شيئًا في رودس مما طلب إليهم على الرغم من المساعي التي بذلها إلجين في القسطنطينية لهذه الغاية ووعود الباب العالي الكثيرة.
أمَّا مور فقد رجع من يافا في ٢٢ يناير يحمل أنباء غير مطمئنة عن حالة الجيش العثماني السيئة وجهل قواده، ويقرر عدم جدوى الاعتماد على معاونة الأتراك أو انتظار نجاح أي عملية عسكرية تجري بالاشتراك معهم، أضف إلى ذلك أن يوسف ضيا باشا لم يكن لديه سوى ثلاثة آلاف مقاتل تقريبًا من مختلف الأجناس، تنقصهم الأسلحة والذخيرة، وتشيع في صفوفهم الفوضى، ويعجزون عن الدخول في معارك كبيرة، ويعتمد الصدر على التزام خطة الدفاع فحسب من زمن طويل. وزاد من اختلال الأمور في المعسكر العثماني كذلك وفاة الجنرال كوهلر بالطاعون، وكان صاحب نفوذ عظيم على يوسف ضيا باشا، وفي وسعه إقناع الأتراك بمزايا خطط الإنجليز العسكرية. ثم زادت الحال سوءًا عندما أعلن أمير البحر العثماني القبطان حسين باشا الذي ذهب بأسطوله إلى القسطنطينية، أنه لا يستطيع العودة قبل أربعين يومًا؛ فزال أي أمل في إمكان التعاون مع العثمانيين، وبات واضحًا ألَّا معدى للإنجليز عن الاعتماد على أنفسهم فحسب إذا شاءوا إدراك أي نجاح في عملياتهم.١٦٣
وبينما كان أبركرمبي لا يزال مترددًا في اختيار الخطة التي يجب اتخاذها للخروج من هذا المأزق، لم يلبث أن وصله خبر دخول الفرقاطتين إجبسيين ولاجوستيس La Justice وعدد من السفن الفرنسية إلى الإسكندرية، وعرف أن أسطولًا فرنسيًّا قد خرج من برست ودخل البحر الأبيض يحمل جندًا وإمدادات منوعة لنجدة جيش الشرق في مصر، فكان لهذه الأنباء أثرٌ حاسمٌ في إزالة كل تردد لدى أبركرمبي واتخاذ قرار سريع في التو والساعة،١٦٤ ومغادرة «مارموريس» إلى أبو قير والإسكندرية رأسًا. وكان مما عزز هذا القرار أن مور والقواد الإنجليز في هيئة أركان الحرب كانوا يعتبرون أن إضاعة الوقت في «مارموريس» تفوِّت على جيش السير رالف فرصة مباغتة الفرنسيين وإلحاق الهزيمة السريعة بهم بفضل هذه المباغتة، وعلى الرغم مما كان يساورهم من قلق بسبب النقص الظاهر في قوة فرسانهم. وعاب مور تغيير الخطة الأصلية التي تضمنتها التعليمات، وهي الإبحار رأسًا إلى الإسكندرية من مالطا بدلًا من الذهاب إلى شواطئ آسيا الصغرى.١٦٥
ولما كان من واجب أبركرمبي أن يدعو العدو إلى الجلاء عن البلاد والعودة إلى فرنسا قبل بدء القتال معه، فقد وسط أبركرمبي منذ خروجه بالحملة من مالطا الصدر الأعظم لإبلاغ هذه العروض إلى منو، وبعث بها الصدر بدوره إلى مراد بك في بداية فبراير سنة ١٨٠١م، وأوصلها عثمان بك البرديسي إلى القاهرة، ولكن منو رفض الجلاء في ظروف سوف يأتي ذكرها.١٦٦ وعلى ذلك تضافرت كل هذه الأسباب مجتمعة لإقناع أبركرمبي بضرورة العمل فورًا، ثم الرجوع إلى خطته الأولى؛ أي الذهاب إلى الإسكندرية بدلًا من دمياط. وفي بداية يناير كانت قد وصلت إلى «مارموريس» النقالات التركية المعدة لنقل الخيول بحرًا، وكان يجري تجهيزها في أزمير، كما وصلت بعض زوارق المدفعية التركية من رودس، ووصلت في الوقت نفسه من مالطا بقية قطع الأسطول الإنجليزي. وفي ١٤ يناير وصل سير ريشارد بيكرتون Bikerton على ظهر سفينته سويفتشور Swiftsure، والسير سدني سمث على سفينته تيجر Tigre، كما وصل إلى «مارموريس» في اليوم نفسه قائد البحرية التركية.١٦٧ وقرَّ الرأي في مجلس حربي على أن يكون نزول الحملة في أبو قير، ثم تبدأ الزحف منها على الإسكندرية. وفي ١٧ فبراير اجتمع القواد على ظهر البارجة كنت Kent، وشرح لهم السير رالف أبركرمبي الغرض من الحملة وأصدر إليهم تعليماته النهائية.١٦٨
وفي ٢٣ فبراير غادر الأسطول «مارموريس» قاصدًا الشواطئ المصرية، وكان يتألف من سبع بوارج وست فرقاطات مسلحة، وتسع وثلاثين غير مسلحة، وقرويت واحدة وثلاثة أباريق، عدا ثمان نقالات مسلحة. أمَّا الأسطول العثماني فكان يتألف من عشر بوارج وثماني قراويت. ولكن سرعان ما هبت عاصفة شديدة ألقت الرعب في قلوب العثمانيين، فانفصلت قافلتهم عن الأسطول، ولجأت إلى الجزر المجاورة، وحُرم الإنجليز من معاونة الأتراك، وبات من الواجب الاعتماد على أنفسهم فحسب في العمليات التالية.١٦٩ وكان أسطولهم يحمل جيشًا إنجليزيًّا من حوالي خمسة عشر ألف جندي من المشاة، وألفين ومائتين من الفرسان، وستمائة مدفعي، وقائده العام السير رالف أبركرمبي، ثم يليه في القيادة الجنرالات: السير هيلي هتشنسون Hely Hutchinson، كوت Coote، كرادوك Cradock، كفان Cavan، مور Moore، يليهم دويل Doyle، ستورات Stewart، ثم فنش Finche    ولوسون Lawson.١٧٠ووصل الأسطول أمام الإسكندرية على مسافة تسعة أميال من الشاطئ تقريبًا في أول مارس سنة ١٨٠١م، وفي اليوم التالي ألقى الأسطول مراسيه في خليج أبو قير على مسافة سبعة أميال من الشاطئ، وحال هبوب العواصف دون إنزال الجنود إلى الشاطئ. حتى إذا هدأت الريح في ٦ مارس هاجمت بعض سفن المدفعية بقيادة السير سدني سمث طابية فرنسية صغيرة عند مدخل بحيرة المعدية «أبو قير».١٧١
وكان أبركرمبي قبل قيام الأسطول إلى أبو قير بأيام قليلة قد أرسل ضابطين للاستطلاع على الشاطئ المصري عند «مرابط» وفي خليج أبو قير، فوصلا إلى جهة مرابط في ليل ٢٧ فبراير ونزلا إلى الشاطئ، ولكنهما لم يستطيعا العودة قبيل طلوع النهار، فشاهد المدفعيون الفرنسيون سفينتهما في بحيرة المعدية (بحيرة أبو قير)، فقُتِل أحدهما بينما أُسِر الآخر وأُرسِل إلى القاهرة فوصلها في ٢ مارس، وعرف الفرنسيون الجهة التي يقصدها الإنجليز ويبغون النزول فيها؛ أي في خليج أبو قير، وبالفعل ألقى كيث مراسي أسطوله في نفس المكان الذي وقف فيه أسطول برويس قبل ذلك.١٧٢ ولمَّا كانت الريح الشديدة قد عطَّلت نزول الحملة إلى البر مدة ستة أيام تقريبًا، فقد بات لدى الفرنسيين من الوقت ما يكفي لاستعدادهم السريع، وانتفى عنصر المفاجأة. زد على ذلك أنه كان في وسعهم لو أنهم أحكموا التدبير أن يمنعوا نزول الحملة أو يلحقوا بها الهزيمة، فقد كان من رأي مور الذي بعث به أبركرمبي إلى البر عند هدوء الريح في يوم ٦ مارس للاستطلاع؛ أن النزول في هذه الجهة مخاطرة كبيرة؛ إذ تمكِّن طبيعة الأرض من تسلل قوات الفرنسيين إلى مواضع قريبة جدًّا من الشاطئ، بل وإخفاء قواتهم الحقيقية عن أنظار الإنجليز، واعتقد مور أن في وسع الفرنسيين كذلك أن يجمعوا جيشهم لمقابلة الإنجليز إذا أعطاهم هبوب الرياح وتعطيل نزول الحملة إلى البر الوقت الكافي ليفعلوا ذلك، وتوقع مور أنهم قد بادروا بجمع قواتهم فعلًا لهذه الغاية.١٧٣
ومع ذلك فقد قرر أبركرمبي أن يجرب حظه، واعتمد على ما كان لديه من معلومات دقيقة عن طبيعة الشواطئ المصرية، أمده بها جورج بلدوين قنصل الإنجليز سابقًا في القاهرة منذ انضمامه إلى الحملة، وكان أبركرمبي وكيث قد طلبا إليه الانضمام إليها فغادر نابولي حيث استقر به المقام بعد ذهابه إلى إيطاليا على أثر خروجه من مصر، وقابل الأسطول في مالطا وحضر الآن مع الحملة إلى الشواطئ المصرية.١٧٤ وواتى الحظ أبركرمبي لأن الفرنسيين لم يأخذوا أهبتهم الكافية، ولم يعرفوا الاستفادة من مواقعهم الاستراتيجية في المعارك التالية مباشرةً، فأنزل أبركرمبي أجزاء من الجيش بقيادة مور وأوكس Oakes، ثم بقيادة لادلو Ludlow وكوت، ثم عشرة مدافع، وبلغ عدد الجميع حوالي ستة آلاف مقاتل.١٧٥

وكانت طبيعة الأرض التي جرت عليها المعارك منذ وصول الحملة الإنجليزية إلى أبو قير إلى وقت تضييقهم الحصار على الإسكندرية؛ من شأنها مساعدة الفرنسيين على الدفاع لو أنهم أحسنوا خططهم العسكرية؛ ذلك أن المسافة بين أبو قير والإسكندرية كانت عبارة عن وادٍ ضيقٍ ذي انخفاض كبير، تحدُّ جانبيه مرتفعات صخرية تفصل هذا الوادي في الشمال عن البحر الأبيض وفي الجنوب عن مياه بحيرة المعدية «أبو قير»، ويضيق الوادي كثيرًا حتى يشبه عنق الزجاجة على مسافة قصيرة من قلعة أبو قير في طرف الخليج الشمالي الغربي، ثم يزداد ضيق الوادي قبيل الوصول إلى «معسكر قيصر» القائم على هضبة تحدها المرتفعات الصخرية في الشرق والجنوب والغرب، ويحده امتداد الوادي الضيق في الشمال، ومن وراء هذا الامتداد المرتفعات الصخرية التي تفصله عن البحر الأبيض، وتكاد هذه المرتفعات ذاتها تسد الطريق إلى مرتفعات نيكوبوليس حتى أطراف الإسكندرية عند باب رشيد. وكان يمر في الوادي الضيق طريقان: أحدهما إلى الشمال من قلعة أبو قير إلى الإسكندرية، ويُعرف باسم طريق أبو قير، والثاني في الجنوب من رشيد إلى الإسكندرية كذلك، ويُعرف باسم طريق رشيد.

أمَّا خلف الإسكندرية ومرتفعات نيكوبوليس فكانت تجري ترعة الإسكندرية متجهة صوب الشرق، يفصل شريط ضيق بينها وبين منخفض بحيرة مريوط القديمة، وكانت لا تزال جافة من أزمنة طويلة، ثم تجري هذه الترعة ذاتها صوب الجنوب الشرقي بعد اجتيازها منطقة نيكوبوليس، وتخترق شريطًا ضيِّقًا من الأرض يفصل بين بحيرة المعدية «أبو قير» وبين منخفض بحيرة مريوط، ثم تستمر في جريانها مارَّة بالبيضاء ودمنهور والرحمانية حتى تصب مياهها في فرع رشيد عند سمخراط. وعلى ذلك فإن الإنجليز إذا نزلوا في أبو قير يتعذَّر عليهم الزحف رأسًا إلى الإسكندرية إلَّا إذا اخترقوا الوادي الضيق، فيعرِّضون أنفسهم لنيران العدو دون أن يستطيعوا الاعتماد على أية مدفعية من جهتَي البحر أو بحيرة المعدية. ولم يكن أمامهم سوى الالتفاف حول مراكز الفرنسيين، وهذا أمرٌ يسهل إفساده إذا أحكم هؤلاء الدفاع عنها جيدًا.١٧٦
وكانت إذن مهمة فريان Friant قومندان الإسكندرية إلى جانب منع نزول القوات الإنجليزية إلى البر محاولة وقف زحفهم في السهل الضيق إلى الإسكندرية، فبادر منذ ٢ مارس بوضع قواته على الشاطئ في مواجهة أسطولهم، ثم أمدته الفرقاطة ريجينيريه في ٤ مارس ببعض النجدات، فبلغت قواته حوالي ١٤٥٠ جنديًّا منهم ١٥٠ فارسًا، وأرسل منو في الوقت نفسه من القاهرة جيشًا بقيادة الجنرال لانوس، ولكن هذه النجدة لم تصل إلى الإسكندرية عن طريق الرحمانية إلَّا يوم ١٠ مارس، فاتخذت مواقعها في «معسكر قيصر» أو «قصر القياصرة»، فلم يستفد فريان من هذه القوات في مناوشاته الأولى من أجل منع نزول الإنجليز إلى البر. وكان الواجب يقتضيه بسبب ضعف قواته بالقياس إلى جيش الإنجليز أن يجمع في أبو قير أكبر عدد مستطاع من الجند الموزعين بين رشيد وقلعتها (قلعة جوليان) وإدكو ومعسكر قيصر والإسكندرية،١٧٧ ولكنه بدلًا من ذلك عمد إلى توزيع قواته على طول الهضبة، وقسَّم المدفعية ثلاثة أقسام على جانبَي الهضبة وفي وسطها، وترك بالإسكندرية حوالي ١٢٠٠ من الجنود البحريين وستين فارسًا من غير الراكبين ومائة وخمسين من سلاح المهندسين، فضلًا عن بقاء الجنرال زايونشك Zayonschek في معسكر قيصر مع خمسمائة من المشاة وآلاي من الفرسان.١٧٨
فسهل على الإنجليز بفضل تفوقهم العددي هزيمة فريان وتثبيت أقدامهم على الشاطئ، واضطر الفرنسيون بعد أن تكبدوا خسارة فادحة إلى التقهقر، واتخاذ مواقعهم الجديدة على المرتفعات أمام باب رشيد للدفاع عن مداخل الإسكندرية. ولما كان الإنجليز لم يفرغوا بعد من إنزال فرسانهم ومدفعيتهم إلى البر، فقد تعذَّر عليهم مطاردة فريان وقضوا ثلاثة أيام دون حراك في مواقعهم،١٧٩ وكان من السهل على فريان أن ينتهز هذه الفرصة للهجوم عليهم بفضل ما لديه من فرسان ومدفعية، ولأنه كان يصعب على مشاة العدو الاستمرار في الزحف على رمال الوادي الرخوة دون اشتراك فرسانهم والاحتماء بنيران مدفعيتهم.١٨٠ ولكن فريان بدلًا من ذلك شغل الوقت كله بالكتابة إلى منو يطلب إليه منذ ٨ مارس الحضور بالجيش إلى الإسكندرية على عجل من القاهرة، مع العلم بأن جيش منو ما كان يستطيع الوصول إلى الإسكندرية إلَّا بعد انقضاء أحد عشر يومًا، في وقتٍ كان يجب عليه فيه أن يحضر بالجيش إلى الإسكندرية يوم ٩ مارس لو أنه غادر القاهرة في الوقت المناسب للاشتراك في هذه العمليات الهامة الأولى.١٨١
ومع أن قوات لانوس التي غادرت القاهرة في يوم ٤ مارس ما لبثت أن وصلت إلى الإسكندرية في ١٠ مارس، وأصبح لدى فريان حوالي الخمسة آلاف جندي؛ فإنه لم يحاول هجومًا على الإنجليز، بل فضَّل خطة الدفاع حتى يأتيه جيش منو. وشُغل فريان في الأيام الثلاثة ٩، ١٠، ١١ مارس بتأمين مواصلاته بين الإسكندرية والبركة «بركة غطاس» طريق الإمدادات الوحيد إلى الإسكندرية، فغادر مواقعه أمام الإسكندرية، واحتل المرتفعات التي كانت تقوم في عرض الوادي الضيق ممتدة من البحر إلى طرف بحيرة المعدية، فكانت ميسرته تستند على معسكر قيصر بينما استندت ميمنته على ترعة (أو خليج) الإسكندرية في جزئها الذي يفصل بين بحيرة المعدية وبين منخفض مريوط، أمَّا القلب فقد بات يحده من الناحية الشمالية طريق أبو قير ومن الناحية الجنوبية طريق رشيد. واتخذ لانوس في الوقت نفسه موقعًا يمكِّنه من الارتكاز بميسرته على معسكر قيصر، وبسط جناحه الأيمن حتى طريق أبو قير، وعلاوة على ذلك احتل فريق من جيش فريان بقيادة الجنرال دلاجرانج Delagrange منطقة الترعة أو الخليج الواقعة بين بحيرة المعدية ومنخفض مريوط، ووضع فريان الفرسان بقيادة الجنرال برون Bron في الصف الثاني؛ أي خلف خط القتال الأول.١٨٢
ووجد الإنجليز عندما فرغوا من إنزال فرسانهم ومدفعيتهم إلى البر، وقرروا الزحف على الإسكندرية في يوم ١٢ مارس؛ أن الواجب يقتضيهم انتزاع أهم مواقع الفرنسيين في خط دفاعهم، وهو معسكر قيصر الذي ترتكز عليه مدفعيتهم.١٨٣ وفي ١٣ مارس بدأت معركة نيكوبوليس بهجوم الإنجليز على خطوط الفرنسيين، وقاموا بمغامرة للالتفاف حول ميمنة الفرنسيين فسيَّروا طابورًا لهذه الغاية، وعندئذٍ بدا للجنرال لانوس أن الإنجليز قد أخطئوا التقدير فدخل جناحهم الأيسر بقوات قليلة في أرض الوادي أو السهل الضيق، وأن الفرصة قد باتت مواتية لتحطيم هذا الجناح، فغادر موقعه الحصين وانقض بفرسانه عليهم وأمر المشاة والمدفعية بالتقدم وقام بحركة جريئة منفصلة، إذ لم يكن لدى قوات فريان متسع من الوقت للتدخل. ولكن لانوس سرعان ما أدرك خطأه عندما انكشفت له حقيقة المناورة وضغط عليه الإنجليز بقواتهم المتدفقة فاضطر إلى التقهقر، ولم ير فريان بدًّا من التراجع هو الآخر عندما شاهد ميسرة الجيش متقهقرة، فأخلى لانوس وفريان معسكر قيصر واتخذا مواقعهما الجديدة على مرتفعات نيكوبوليس القريبة من الإسكندرية. وخسر الفرنسيون معركة ٢٢ فنتوز أو ١٣ مارس،١٨٤ ودخل الإنجليز معسكر قيصر، واتخذوا منه مركزًا دفاعيًّا منيعًا، يصدون منه كل هجوم عليهم، أو يجعلون منه قاعدة يعتمدون عليها عند استئناف عملياتهم العسكرية.١٨٥ وعزا فريان هذه الهزيمة إلى حماس واندفاع الجنرال لانوس الذي ما فتئ منذ حضوره إلى الإسكندرية يبدي رغبة شديدة في الاشتباك مع الإنجليز وإلحاق الهزيمة بهم دون حاجة إلى انتظار وصول منو، حتى لا يكون لقائد جيش الشرق الأعلى فضلٌ في ذلك.١٨٦ وقد نقد بونابرت فيما بعد اندفاع لانوس نقدًا مرًّا، وفي رأيه أنه كان يجب على لانوس عدم مغادرة مواقعه الحصينة أو التقهقر إلى باب رشيد، بل إلى داخل أسوار المدينة إذا لزم الأمر محتميًا بنيران المدفعية، فيكسب بفضل ذلك بضع ساعات تمكِّنه من معرفة أعداد الإنجليز الزاحفين في الوادي أو السهل الضيق تحت أنظاره، فلو أنه فعل ذلك لأدرك خطورة المجازفة بالهجوم على جيش يبلغ أربعة أمثال جيشه.١٨٧
وكان من آثار انتصار الإنجليز في هذه المعركة أن أقبل العربان يمدون الجيش بالمؤن والأغذية، فقد سرَّهم ولا شكَّ انهزام الفرنسيين الذين كانوا يعنفون في معاملتهم. وكان العربان يعرفون المستر جورج بلدوين القنصل الإنجليزي القديم الذي نزل الآن بينهم؛ لتنظيم حركة البيع والشراء بينهم وبين الحملة، وأفلح بالاتفاق معهم على إقامة «سوق» بالقرب من بحيرة المعدية «أبو قير» تحت إشرافه، لتقديم المواشي والخيول والجمال وما إلى ذلك إلى الجيوش الإنجليزية.١٨٨ وفضلًا عن ذلك فقد تسبب عن تقهقر فريان وعزل حامية أبو قير الفرنسية أن سقطت قلعة أبو قير في أيدي الإنجليز في ١٨ مارس، وسلَّمت الحامية بقيادة دالهوسي Dalhousie   وفيناش Vinache كأسرى حرب، بعد أن أقام الإنجليز على حصار القلعة منذ نجاح عمليات نزولهم إلى البر.١٨٩ ثم أنشأ هؤلاء خطين جديدين من التحصينات: أحدهما قريبًا من ترعة (أو خليج) الإسكندرية، والأخر أمام قصر القياصرة (معسكر قيصر). ولما كان غرضهم عزل الإسكندرية، ووجدوا أن منخفض مريوط لا يصلح للعمليات العسكرية؛ فقد اعتمدوا على إحراز السيطرة التامة على منافذ الترعة ومراقبة حدود الإسكندرية الجنوبية من بحيرة المعدية، فاستولوا على قرية البيضاء، وأدخلوا عددًا عظيمًا من زوارق المدفعية في البحيرة، ووضعوا بطاريات قوية على طول الخط الممتد على منافذ الترعة.١٩٠ أمَّا فريان فإنه لم يستطع فعل شيء بسبب قواته الضعيفة، وظل ينتظر وصول النجدات وحضور منو على رأس الجيش من القاهرة.

منو في القاهرة

وصلت أخبار نزول الإنجليز في أبو قير وعملياتهم العسكرية وطلب فريان النجدة من القاهرة إلى منو في وقت كان قائد الحملة العام ما يزال مشغولًا بخلافاته مع كبار قواده، وإعداد مشروعاته «الإصلاحية» العظيمة، وجمع «المليون» الذي تقدم الحديث عنه في الفصول السابقة لسد العجز الظاهر في مالية الحملة، وفرض الإتاوات والمغارم. ومع ذلك كان منو يعلم منذ شهرَي ديسمبر سنة ١٨٠٠م ويناير من العام التالي أن الأتراك والإنجليز يستعدون لإرسال حملة كبيرة على مصر، ثم لم يلبث أن جاءته الأخبار في فبراير منبئة بعزم الإنجليز على النزول في شاطئ البحر الأبيض، وتوقع حدوث الغزو في جهة أبو قير والإسكندرية، ولكنه لم يتخذ أي إجراء حاسم لتقوية الدفاع عن أبو قير والإسكندرية، بل ظل متمسكًا بخطة للعمليات العسكرية من أجل الدفاع عن مصر دلَّت على عدم درايته بفنون الحرب والقتال، وبنى هذه الخطة على تقديرات خاطئة. وذلك على الرغم من المحاولات التي استمر يبذلها أقدر قواده لإظهار وجود الخطأ الجسيم في مسلكه، فقد بعث إليه دونزيلو في ٤ يناير ١٨٠١م بخطاب من مراد بك تحدث فيه صاحبه عن وصول حملة إنجليزية كبيرة إلى رودس للانضمام إلى الأتراك في زحفهم عبر الصحراء على حدود مصر الشرقية. ثم بعث إليه برسالة أخرى في ٢ فبراير عن رغبة الصدر الأعظم في أن يتوسط مراد مع الفرنسيين من أجل عقد الصلح، وكتب دونزيلو في اليوم نفسه إلى رينييه كذلك يخبره بحضور عثمان بك البرديسي من قبل مراد يحمل الخراج إلى القاهرة، ولكي يتحدث في بدء المفاوضات المزمعة بين الصدر ومنو. ووصل عثمان بك البرديسي فعلًا إلى القاهرة لهذه الغاية في ٧ فبراير، وتأكد لدى منو اشتراك الإنجليز مع العثمانيين في الهجوم المنتظر.

بيد أنه سرعان ما نجمت عن بعثة البرديسي هذه ومكاتبات دونزيلو نتائج خطيرة كان لها أكبر الأثر في خطط منو وإجراءاته التالية؛ ذلك أن دونزيلو أكَّد في رسائله أن الصدر الأعظم «يطرق كل باب من أجل الوصول إلى صلح يكسبه حسن السمعة، ويمكِّنه من استعادة ثقة السلطان العثماني به»، إذا استطاع الاتفاق مع الفرنسيين على الجلاء عن مصر في صلح منفرد معهم،١٩١ وما إن وصل عثمان البرديسي إلى القاهرة حتى أكَّد للقائد العام هذه الرغبة، وكان مراد بك قد وقف على حقيقة أغراض العثمانيين، وعرف خططهم من مماليك إبراهيم بك في المعسكر العثماني، فقد عرف يوسف ضيا الصدر الأعظم أن الجماعة المقاومة للنفوذ الإنجليزي في القسطنطينية قد قوي شأنها أخيرًا، وأنها تفضل المفاوضة والصلح على نزول الإنجليز في الشواطئ المصرية أو دخولهم إلى البلاد عبر الحدود الشرقية خوفًا مما قد يترتب على ذلك — والإنجليز أصحاب أطماع استعمارية معروفة — من نتائج مضرة بمصالح العثمانيين.١٩٢ ولكنه لما كان قد بات الاتصال متعذِّرًا بين الصدر ومنو بسبب موقف هذا الأخير، وإصراره على أن يجري كل اتفاق بشأن مصر عن طريق حكومة الجمهورية الفرنسية، وانقطعت المراسلات بينهما من مدة؛ فقد اقترح الصدر على إبراهيم بك أن يطلب من مراد التوسط. وأدرك مراد خطورة الموقف، ورأى أن من مصلحة حلفائه الفرنسيين المفاوضة والاتفاق مع الأتراك، فأرسل عثمان البرديسي إلى القاهرة يحمل عروض الصدر الأعظم.
وقابل البرديسي منو وبذل قصارى جهده ليكسب ثقته، فأطلعه على الخطابات التي كتبها إبراهيم بك إلى مراد باسم الصدر الأعظم. وقد تحدث يوسف ضيا في هذه الرسائل عن صعوبة مقاومة الفرنسيين ضد الجيوش الثلاثة التي قرر الحلفاء غزو مصر بها، وأن النصر إذا بسم له الحظ — والحظ قُلَّب ولا يؤمن جانبه — سوف يكلفه خسائر فادحة، وأن من حسن السياسة قبول المفاوضة على أساس إخلاء مصر.١٩٣ وكان من بين التفصيلات التي أعطاها البرديسي أن جيشًا إنجليزيًّا يتألف من ثمانية عشر ألف جندي سوف يعمل بالاشتراك مع القبطان باشا في النزول على الشواطئ المصرية، بينما يزحف الصدر الأعظم من يافا على الحدود الشرقية، وتنزل في السويس قوة إنجليزية أخرى آتية من الهند. ولما كان مراد حريصًا على بقاء الحكم له في الصعيد فقد رجا منو ألَّا يغفل مصالحه عند المفاوضة، أمَّا إذا رفض منو المفاوضة فإن مرادًا ما يزال على ولائه للفرنسيين، ولا يتوانى عن إرسال النجدة والإمدادات حسب معاهدة التحالف بينه وبين الفرنسيين،١٩٤ ونصح مراد وعثمان البرديسي بالمفاوضة.
وكانت الأنباء التي نقلها عثمان بك البرديسي إلى منو على جانب كبير من الخطورة، إذ تدل على أن الإنجليز قد قرَّ رأيهم على الاشتراك مع العثمانيين في القتال المنتظر، وأن قوات عظيمة سوف تطبق على جيوش منو من الشمال والشرق والجنوب، وأن من الواجب على منو أن يسرع باتخاذ التدابير العاجلة لمواجهة الموقف. ولكن منو ظل على الرغم من الأنباء التي أبلغها إياه مراد والبرديسي متأثِّرًا بفكرة خاطئة، هي تعذر الاتفاق بين الأتراك والإنجليز على أي عمل مشترك، فضلًا عن اعتقاده الراسخ بضعف الترك عندما راح يؤكد في رسالته إلى تاليران (في ٢٥ يناير) أن الطاعون يفتك فتكًا ذريعًا بجيش الصدر الأعظم، ويكثر فرار الجنود من الصفوف، كما تزيد صعوبات الصدر يومًا بعد آخر بسبب عداء العرب وعشائر الدروز وأهل نابلس له، وامتناع الجزار باشا في عكا عن الاعتراف بسلطة الصدر أو تأييده.١٩٥ وعلى ذلك فإنه بدلًا من العمل بنصيحة مراد بك أظهر منو عدم تصديقه للأنباء التي جاء يحملها البرديسي، ونفى بتاتًا إمكان تعاون العثمانيين والإنجليز في أي هجوم مشترك على مصر.
ولما كان يسوءه أن يجد مراد بك أدرى منه بسير الحوادث وأكثر اطِّلاعًا منه على دقائقها، فقد عنف في معاملة البرديسي رسول مراد وأغلظ له القول، وطلب أن يلتزم مراد السكون في الصعيد، «فلا يزعج خاطره» بما يحدث بعيدًا عنه، ومن الأفضل له أن يمتنع عن تبادل الرسائل مع البكوات الموجودين في معسكر الصدر. وعندما أجاب البرديسي بأن كليبر على العكس من ذلك كان يأذن لمراد بالاتصال مع أصدقائه وأعوانه بالشام، قال منو غاضبًا «إنه لا يقلِّد الأخطاء التي ارتكبها كليبر، وإنه لا يريد بيع مصر»، ثم احتدمت المناقشة عندما أبلغ البرديسي منو رغبة مراد في أن يصفح القائد العام عن إبراهيم بك الذي لجأ إليه يرجوه التوسط لدى منو في العفو عنه، وقال إن مرادًا لم يسعه أن يرفض رجاء إبراهيم، فأقطعه قرية يقيم بها مع مماليكه حتى يأتيه العفو، فاندفع منو يعيب على مراد سلوكه ويقول في كلام ملؤه التأنيب الشديد إن الواجب كان يقتضي مرادًا أن يبعث بإبراهيم مكبلًا بالأغلال إلى القاهرة حتى يلقى جزاءه.١٩٦ وفضلًا عن ذلك أبى منو أن يجيب رغبة مراد في العفو عن محمد بك الألفي، وعنف في حديثه مع عثمان بك البرديسي بسبب صفح مراد عن الألفي وتأمينه له.١٩٧ ثم عظم استياء منو عندما طلب البرديسي زيارة كبار القواد حتى يبلغهم تحية سيده، فخرج البرديسي من هذه المقابلة وقد بلغ منه اليأس حدًّا بعيدًا.
وكان من أسباب غضب منو ذلك الاحترام الكبير الذي ظلَّ مراد يظهره في رسائله إلى منو وإلى قواد الحملة لذكرى الجنرال كليبر.١٩٨ وأظهر البرديسي استياءه من منو في أثناء مقابلاته بعد ذلك مع داماس ودور وغيرهما. وما إن علم منو باجتماعه مع هؤلاء حتى شدد الرقابة عليه وأظهر الشك في إخلاصه وأمانته، وصار يتوعده بالعقاب الصارم إذا هو أبدى حراكًا بعد ذلك. وبقي البرديسي في القاهرة أيامًا أخرى على أمل أن يعمل منو بنصيحة مراد في النهاية ويقبل المفاوضة مع الأتراك أو يطلب مساعدة مراد، ولكن منو لم يغير شيئًا من موقفه، وظل مصرًّا على رفض كل مساعدة من ناحية مراد، فغادر البرديسي القاهرة يائسًا.١٩٩
وعلى الرغم من تلك «الإهانة» التي لحقت برسول مراد ظهر مراد بمظهر النبيل فلم يغضب أو تفتر عزيمته، وأخذ في مطاردة المهدي مولاي محمد، ذلك المتمهدي الذي حضر من درنة بطرابلس الغرب ودعا إلى الثورة في البحيرة ضد الفرنسيين في أثناء حملة بونابرت في الشام، حتى إذا قضى لانوس على قواته في دمنهور (مايو ١٧٩٩م) اختفى فترة من الزمن عاد بعدها إلى الظهور في أثناء ثورة القاهرة الثانية (مارس-أبريل ١٨٠٠م)، ثم لحق بعد إخمادها بجيش الصدر الأعظم، وأرسله العثمانيون إلى هذه البلاد مرة أخرى (يناير ١٨٠١م) ليجدد الفتن والثورات بها، في الوقت الذي تزمع فيه الجيوش المتحالفة الزحف على مصر وغزوها، ثم اضطر المهدي بعد مطاردة عنيفة في الدلتا إلى الفرار إلى الصعيد، ولقي هناك تأييدًا من قبيلة جهينة، وأخذ مراد الآن في مطاردته مطاردة عنيفة،٢٠٠ وأفلح في تفريق شمل أتباعه.٢٠١ ولا جدال في أن منو قد أخطأ في إساءة معاملة البرديسي، وكان في وسعه على الأقل بعد إظهار ثقته التامة بقدرة جيشه على مقاومة جيوش العدو المتحدة أن يقبل المساعدة التي يعرضها مراد كبرهان على احترامه له وتقديره لولائه، وعلاوةً على ذلك فإن المفاوضة مع الصدر الأعظم قد تعطيه الفرصة حتى يبذر بذور الشقاق والتفرقة بين الصدر والإنجليز، وتعطيل نشاط الجيش الإنجليزي، ثم تعزيز دبلوماسية القنصل الأول في القسطنطينية.
وذاع خبر حادث البرديسي ووساطة مراد، فساد الأهلين بالقاهرة شعورٌ قويٌّ بأن الحرب لا محالة واقعة في وقتٍ جد قريب، وشاطر هذا الشعور نفر كبير من الفرنسيين إن لم يكونوا جميعهم.٢٠٢ وظل منو وحده يشعر بالثقة والطمأنينة، وهو الذي كان ما يزال يعتقد بأن السير رالف أبركرمبي سوف يجد عند نزوله في الشاطئ الشمالي إذا حاول ذلك «قذائف المدافع ورصاص البنادق معدًّا لاستقباله»، ويزعم أن الإنجليز والعثمانيين لن يستطيعوا الاشتراك في هجوم على مصر. ورأى منو أن الواجب يقتضيه أن يبذل ما وسعه من جهد وحيلة ليدخل الطمأنينة إلى نفوس الفرنسيين، ويحفظ روحهم المعنوية من الانهيار بسبب انقطاع الصلات بين الحملة في مصر وبين رجال الحكومة والقنصل الأول في أرض الوطن منذ أن بات متعذِّرًا وصول السفن الفرنسية إلى الموانئ المصرية إلَّا بعد كل عناءٍ ومشقة، بسبب سيطرة الإنجليز في البحر الأبيض. وحرص منو إلى جانب ذلك على إخماد كل تذمر قد يبدو من ناحية الأهلين، والقضاء على مروجي الأخبار «الكاذبة»، ومنع اتصال القاهريين بعملاء الصدر الأعظم، وإنزال العقوبة الرادعة بأولئك الذين عمدوا إلى إشاعة الشائعات المزعجة.
وكانت وسيلة منو في ذلك كله الإعلان بإطلاق المدافع عند وصول السفن إلى الموانئ المصرية، وإصدار المنشورات لتحذير الأهلين، وعقد الديوان لقراءة «الفرمانات» على أعضائه، وإذاعة الأخبار الملفقة عن جهود القنصل الأول في سبيل توطيد أركان الاحتلال الفرنسي في مصر. فما إن علم منو بوقوع الصلح بين الفرنسيين وبين أهل الجزائر وتونس حتى أذاع هذا الخبر فقرئ فرمان (في ٢٠ يناير ١٨٠١م) «بورود مكاتبات من فرنسا» بوقوع هذا الصلح «بشروط ممضاة مرضية»، فصار في استطاعة التجار من أهل الجهتين السفر للتجارة، «فمن سافر فله الحماية والصيانة في ذهابه وإيابه وإقامته باسم دولة الجمهور الفرنساوية». ووقعت بعد أربعة أيام واقعة «سيدي محمود وأخيه سيدي محمد المعروف بأبي دفية.» وكان لسيدي محمود صلات بالصدر الأعظم يبعث إليه بالأخبار من القاهرة عن حركات الفرنسيين، ويزوِّده الصدر بالتعليمات لإشاعة الشوائع وإثارة الخواطر ضد الفرنسيين، وكلَّفه الصدر بتوزيع «أربع أوراق مكتوبة باللغة الفرنساوية» فانكشف أمره قبل أن يفرغ من توزيع هذه الورقات (أو المنشورات)، واختفى سيدي محمود، ولكن الفرنسيين قبضوا (في ٢٤ يناير) على أخيه وكل من وجدوه معه «وحبسوهم ببيت قائمقام.»٢٠٣ وفي ٨ فبراير «ضربت مدافع كبيرة بسبب ورود مركبين عظيمين من فرنسا هما «أوزيريس وتيربيلان» وصلتا إلى الإسكندرية منذ يناير، فيهما عساكر وآلات حرب، وأخبار بأن بونابرته أغار على بلاد النمسه وحاربهم وحاصرهم وضايقهم وأنهم نزلوا على حكمه، وبقي الأمر بينهم وبينه على شروط الصلح، وأنه استغنى عن هذه الأشياء المرسلة، وسيأتي في أثرهم مركبان آخران فيهما أخبار تمام الصلح. ويُستدل بذلك على أن مملكة مصر صارت في حكم الفرنسيين لا يشاركهم غيرهم فيها. هكذا قالوا وقرءوه في ورقة بالديوان.»٢٠٤

وكان مما اهتم به منو اهتمامًا كبيرًا محاولة إقناع الأهلين بأن الفرنسيين لن يبرحوا البلاد، وأن لديهم من الوسائل ما يمكِّنهم من الاحتفاظ بهذه المستعمرة والذود عنها ضد جيوش الأعداء وأساطيلهم. وخشيَ منو أن يصدِّق أهل القاهرة ما قد يتسرب إليهم من أخبار عن حركات العثمانيين وحلفائهم الإنجليز، أو أن يندس بينهم «المفسدون» ويثيروا الفتن والاضطرابات بعد أن أثبت حادث سيدي محمود أبو دفية احتمال وجود عدد من عملاء العثمانيين ومروجي الإشاعات، وانتشار الإشاعات عن وصول أسطول الإنجليز إلى جهة أبو قير. ومع أن أهل القاهرة كانوا يتوقون ولا شك للخلاص من الفرنسيين، ويهمهم أن يقفوا على حقيقة ما يبذله العثمانيون وحلفاؤهم من جهودٍ لتحرير البلاد وخلاصها؛ فإنهم كانوا لا يزالون في هذه الفترة العصيبة من حياتهم في شغلٍ شاغلٍ بأمر «بواقي الفردة» وتدبير المليون، «ولا شغل لكل فرد إلا بتحصيل ما فُرض عليه»، ولا يفكرون في شغب أو عصيان أو القيام بالثورة. وكان مما ساعد على استقرار الهدوء في القاهرة إلى جانب الانصراف لتدبير سداد المليون وبواقي الفردة؛ ما حدث من وجوم وخوف شديدين بعد مصرع كليبر وإغلاق الجامع الأزهر (منذ يونيو ١٨٠٠م) وهو المكان الذي اعتاد شيوخه (والمجاورون) على الإشراف منه على الثورة وتحريكها.

ومما يجدر ذكره أن الذي طلب إغلاق الجامع الأزهر كان المشايخ أنفسهم، فقد استأذن المشايخ الشرقاوي والمهدي والصاوي «كبير الفرنسيس في إقفال الجامع وتسميره … وكان قصدهم من ذلك منع الريبة بالكلية»، بعد أن ثبتت إقامة سليمان الحلبي قاتل كليبر وسكنه بالأزهر، فإن للأزهر على حد قولهم «سعة لا يمكن الإحاطة بمن يدخله، فربما دس العدو من يبيت به واحتج بذلك على اتخاذ غرضه ونيل مراده من المسلمين والفقهاء، ولا يمكن الاحتراس من ذلك.»٢٠٥ وقد صادف ذلك ولا شك هوًى في نفس منو، وكان بناءً على رغبته في الحقيقة؛ لأنه كان قد دعا لبحث هذا الأمر ديوانًا، «وادعى أن هذا المكان ليس محلًّا للدرس والتعليم للفرائض والسنن، بل هو محل لعقد المشورة وإيقاظ الفتن، (واعتزم) طرد المجاورين وقفل أبوابه.»٢٠٦
ومع ذلك فقد عمد منو إلى «ضرب عدة مدافع من القلاع»، ثم أعدَّ فرمانًا قرئ بالديوان في اليوم التالي (٢٨ فبراير سنة ١٨٠١م) لم يلبث أن «أُلصقت منه نسخ في مفارق الطرق والأسواق»، ذكر فيه منو٢٠٧ أن نفرًا «من الناس الذين هم من الأشقياء والمفسدين ولا يعيشون إلا على الإضرار بالناس وإضراركم؛ يُظهرون في وسط المدينة بينكم أخبارًا رديئةً تزويرًا لتخويفكم وتخويف المملكة، وكل ذلك كذبٌ وافتراءٌ.» وبعد أن هدد منو «برمي رقبة» كل من يُقبض عليه متَّهمًا بإشاعة هذه الشوائع المزعجة، قال إن الغرض من هذه الصرامة إنما هو «تعذيب العصاة»، أمَّا أهل مصر فواجبهم أن يكونوا «مستريحي البال ومترهفي الحال»؛ ذلك أن دولة الجمهور الفرنساوي إنما حضرت لحمايتهم وصيانتهم.
ولما لم يكن هناك ما يدعو — في نظر الديوان وأهل القاهرة عمومًا — لهذا التهديد والوعيد من ناحية، ثم تذكيرهم والتأكيد لهم بأن دولة الجمهور الفرنساوي لا تزال تعمل من أجل «حمايتهم والمحافظة عليهم»؛ فقد ثبت لأعضاء الديوان أن أمورًا خطيرة قد حدثت بالفعل، وأن ما بلغهم من إشاعات عن تحرك العثمانيين ووصول مراكب إنجليزية إلى جهة أبو قير كان صحيحًا. وعلى ذلك فقد سأل الأعضاء الوكيل فورييه عن سبب إطلاق المدافع في اليوم السابق، وعندئذٍ انبرى فورييه يلقي على أسماعهم مزيجًا من الأخبار الصحيحة والملفقة، طغى الجزء الملفق منها على ما عداه، بنيَّة إقناعهم بأن الفرنسيين باقون في البلاد وأن العدو لن ينال منهم، وأن المغارم التي يشكون منها سوف تنتهي قريبًا بمجرد انتهاء الحرب، على أمل أن يستقر في أذهانهم عبث التفكير في المقاومة وإثارة الفتن من جهة، ورجاء أن تدخل الطمأنينة إلى قلوبهم وتهدأ نفوسهم. فأخذ فورييه يفسر لهم إطلاق المدافع بقوله: «إن الفرنساوية كانت تحارب القرانات (الدول الكبيرة)، والآن وقع الصلح بينهم وبين القرانات ما عدا الإنكليز، فإنه الآن مُضيَّق عليه، وربما كان ذلك سببًا لرضاه بالدخول في الصلح — أي حمل الإنجليز على قبول الصلح مع فرنسا — وقد خرج من فرنسا عمارة ربما توجهت على الهند، وربما أنهم يقدمون إلى مصر. وقد وصل لساري عسكر أمر من المشيخة بوصول مراكب الموسقو التي تحمل الذخائر إلى الفرنساوية، وأن يمكِّنهم من دخول الإسكندرية، وقد خرج ستة غلايين من فرنسا إلى بحر الهند، فربما قدموا بعد ذلك إلى جهة السويس. وبورود هذه الأخبار تعين خلوص مصر إلى جمهور الفرنساوية. وفي سالف الزمان كانت جميع القرانات التي بالجهة الشمالية ضدًّا للفرنساوية، وقد زالت الآن هذه الضدية، ومتى انقضى أمر الحرب عمت الرحمة والرأفة والنظر بالملاطفة للرعية، والذي أوجب الاغتصاب والعسف إنما هو الحرب، ولو دامت المسألة (المسالمة) لما وقع شيءٌ من هذا.»٢٠٨
على أن الموقف ما لبث أن زاد حرجًا عندما أخذت الأخبار المزعجة تترى على منو في الأيام القليلة التالية، فجاءه خطاب من رامبون في دمياط في آخر فبراير ينبئه بتوقع نزول الإنجليز إلى البر، بينما يستعد أربعة وعشرون ألف تركي لاجتياز الصحراء والزحف على مصر.٢٠٩ وفي ٤ مارس أرسل رافل Raffle قومندان بلبيس إلى رينييه كتابًا يخبره فيه أن الصدر الأعظم يستعد للزحف في غضون أسبوعين أو عشرين يومًا، ووصل منو في اليوم نفسه من فريان في الإسكندرية نبأ ظهور الأسطول الإنجليزي أمام أبو قير،٢١٠ ويطلب نجدة من الفرسان، وانتظر منو وقد اطمأن من ناحية بلبيس والحدود الشرقية أن تصله أخبار أوفى عن حركات العدو في الشواطئ الشمالية، فأضاع صباح يوم ٥ مارس في هذا الانتظار، حتى إذا كان المساء جاءته رسالة من فريان تقول إن الأسطول الإنجليزي قد ألقى بمراسيه في خليج أبو قير.
وكان من رأي فريان أن العدو إنما يقصد القيام بعمليات ثانوية في الشاطئ فحسب، بينما يحدث الغزو من جانب العثمانيين في الحدود الشرقية. وأكَّد فريان أن في وسعه تحطيم قوات الإنجليز وأسطولهم، فلا يزعج منو نفسه من هذه الناحية، ومع ذلك فقد طلب فريان إرسال آلاي من الفرسان فورًا وبكل سرعة. وعلى ضوء هذه الأخبار إذن كان من الواضح أن العدو على وشك غزو البلاد من ناحيتي الشمال والشرق في وقت واحد، وإن كان الخطر المباشر من ناحية الإسكندرية بسبب ما كان متوقعًا من تأخر حركة جيش الصدر الأعظم مدة أسبوعين أو ثلاثة أسابيع تقريبًا. وفضلًا عن ذلك فإن فريان على الرغم من تقليله من شأن قوة الأسطول الإنجليزي وادعائه القدرة على تحطيمه بالجند القليلين معه — وقد اتهمه رامبون بسبب هذه الأخبار المطمئنة التي أرسلها إلى القاهرة بأنه كان المسئول الأول عن هزيمة الفرنسيين في معارك أبو قير والإسكندرية٢١١ — طلب نجدة سريعة من القاهرة لحاجته الملحة إلى قوة من الفرسان لا معدى عن استخدامها في العمليات اللازمة لمنع نزول الإنجليز إلى البر، ولتعطيل زحفهم في ذلك الوادي الضيق بين أبو قير والإسكندرية.
أضف إلى ذلك أنه كان واضحًا أن الجيش الذي حمله الأسطول إلى أبو قير لم يكن سوى جزء من الحملة المشتركة. ولما كان معروفًا من الأخبار التي أبلغها عثمان البرديسي أن جيشًا ثالثًا سوف يأتي من الهند، فقد بات من المتوقع كذلك أن يجد الفرنسيون أنفسهم في وقت قريب محاصرين من جميع النواحي، كما أن عزم الإنجليز على إرسال حملة الهند لم يكن معناه كما توقع فريان أن يقصر السير رالف أبركرمبي نشاطه في الشمال على القيام بعمليات ثانوية كستار لتغطية زحف العثمانيين من الشرق فحسب، بل كان معناه أن السير رالف إنما يبغي الاستيلاء على الإسكندرية ثم الزحف إلى داخل البلاد لمقابلة الحملة الهندية.٢١٢
وعلى ضوء هذه الاعتبارات إذن أجمع الثقات على أن الخطة المثلى التي كان من الواجب اتباعها لمواجهة الموقف من كل نواحيه هي أن يعمل منو بتلك التعليمات التي تركها بونابرت إلى كليبر عند مغادرته البلاد، وفحواها أن تجتمع قوات الجيش الفرنسي بكل سرعة في مكان تستطيع منه إرسال وحداتها بسهولة وسرعة للعمل ضد الإنجليز والأتراك إذا نزل الإنجليز في أبو قير،٢١٣ وأن من الواجب الذهاب إلى الإسكندرية مباشرةً وبمجرد وصول أخبار فريان إليه عن ظهور أسطول الإنجليز في خليج أبو قير كما فعل بونابرت نفسه في ظروف مشابهة قبل ذلك، أو الذهاب إلى الرحمانية — وهي خير مكان لحشد الجيوش التي يمكن إرسالها منه لنجدة الإسكندرية من جهة، ولتعزيز الدفاع عن دمياط وحدود البلاد الشمالية الشرقية من جهة أخرى كما فعل كليبر كذلك.٢١٤ ولما كان من المتوقع تأخر زحف العثمانيين فقد بات واضحًا أن الخطر الماثل إنما هو من جهة الإسكندرية، وأن في وسع منو إذا اتخذ إجراءً سريعًا لدفع هذا الخطر وهزيمة الإنجليز في الشواطئ الشمالية أن يرتد بعد ذلك إلى القاهرة لمناجزة العثمانيين والانتصار عليهم، ولو كان هؤلاء قد استطاعوا في أثناء ذلك الدخول إلى القاهرة ذاتها، وليس أدلُّ على ذلك مما فعله كليبر الذي هزم العثمانيين في معركة هليوبوليس على الرغم من دخول بعض قواتهم إلى القاهرة.٢١٥ على أن أهم ما كان على قائد الحملة العام أن يفعله هو حشد كل ما لديه من قوات وعدم توزيعها حتى يتسنى له الصمود أمام جيوش العدو التي كانت تفوق جيشه كثيرًا في عدد مقاتليها واستعدادها،٢١٦ زد على ذلك أن الموقف ما كان يحتمل أي تباطؤ أو مراوغة بل يقتضي كل سرعة، ولا يقل عن ذلك أهمية التشاور مع كبار قواد الحملة المحنكين والإنصات إلى آرائهم.
ومع ذلك ظل منو من أول الأمر يدين بعدة آراء كانت ذات أثر حاسم في تطور القتال وانهزام جيش الشرق واضطراره إلى الجلاء عن مصر في النهاية؛ ذلك أن منو كان يعتقد أن القاهرة هي المكان الرئيسي الذي يجب أن تُدار منه كل خطط الدفاع في البلاد جميعها، فهي بمثابة العصب الذي يجب على القائد العام أن يبذل قصارى الجهد من أجل المحافظة على سلامته وتقويته، وأنه ما دامت الإسكندرية بعيدة عن الخطر فمن واجبه البقاء في القاهرة.٢١٧ ومع أن منو كان يتوقع حدوث الهجوم من ناحيتي الشمال حيث الإنجليز والشرق حيث الأتراك، فقد اعتقد أن هذا الهجوم المزدوج سوف يقع في وقتٍ واحدٍ،٢١٨ وأصرَّ على أن الأتراك والإنجليز سوف يوحدون حركاتهم فلا يقوم فريق منهم بعمل منفرد.
وكان لنظرية الهجوم المشترك واتحاد العمليات الإنجليزية والعثمانية أكبر الأثر على خطط منو وإجراءاته؛ ذلك أن أي عمل جدِّي من ناحية الإنجليز في جهة أبو قير كان لا يمكن أن يتم — حسب هذه النظرية — إلا إذا بدأ الأتراك بالزحف فعلًا من ناحيتهم، وأن الحركات العسكرية في جهة أبو قير سوف تكون لذلك ذات قيمة ثانوية. وعلى ذلك فقد اهتم منو بتقوية الدفاع عن الحدود الشرقية كإجراء لا معدى عن اتخاذه بكل سرعة، وهذا على الرغم من أن منو نفسه كان يعتقد أن زحف الأتراك سوف يتأخر كثيرًا بسبب ضعفهم. وكان مما زاده استمساكًا بهذه الآراء ما بلغه من أخبار ومعلومات جاءته عن طريق رجاله وقوَّاده من جهة، وأوصلها إليه العدو كما يبدو بغية تضليله، فقد أبدى فريان — كما رأينا — ثقته في القدرة على صد العدو وتحطيم سفنه، وصدَّق منو كذلك قول فريان في رسالة بعث بها هذا إليه في ٣ مارس ووصلت القاهرة بعد يومين أن الإنجليز «لن ينزلوا جنودهم إلى البر إلا في اللحظة التي يتم فيها اقتراب جيش الصدر الأعظم من الحدود المصرية»، ومع أن فريان طلب أورطتين من المشاة وآلايًا من الفرسان وعددًا من الخيول لاستخدامها في جر المدافع، ثم طلب حضور الضابط لوفيفر Lefévre في ظرف يومين إلى إدكو، حيث كان بها الجنرالان زايونشك ودلجرانج؛ فقد ختم رسالته بإظهار اعتقاده أن منو في وسعه مع بقية الجيش أن يهزم جيش الصدر الأعظم٢١٩ بسهولة.
وفضلًا عن ذلك فإن فريان مع إصراره على ضرورة إرسال الفرسان والمشاة الذين طلبهم في رسالته السابقة، عاد يؤكد في ٦ مارس هزيمة العدو إذا حاول النزول إلى البر لا شك في ذلك، ثم يذكر في اليوم التالي أن قوات العدو لا تزيد على ستة آلاف فقط، وأنه استطاع أن يدفع محاولات عدة قام بها العدو من أجل إنزال جنوده عند مدخل بحيرة المعدية «أبو قير».٢٢٠ فتأيد لدى منو بفضل هذه الأخبار أن الخطر المنتظر إنما هو من ناحية الشرق وليس من جهة الشواطئ الشمالية، فازداد طمأنينةً لأنه — على نحو ما ظهر من رسالة له إلى رينييه في ٧ مارس — كان يرى أن الإنجليز إنما يريدون سحق جيش الصدر تمهيدًا لاقتسام الإمبراطورية العثمانية، بدلًا من التعاون الصادق مع جيشه.٢٢١ وأفلح الأعداء في إشاعة بعض الأنباء الكاذبة لتضليل الفرنسيين وخديعتهم، فأذاعوا أن الإنجليز ليس لديهم على ظهر السفن التي حضرت إلى أبو قير سوى عدد قليل من الجند المعدِّين للنزول إلى البر، بينما بقيت أكثر قواتهم في رودس لتوطيد أقدام الإنجليز وإخماد ثورة الأهلين بها والاستيلاء على جزر الأرخبيل.٢٢٢ وفضلًا عن ذلك تطايرت الشائعات عن حدوث انقسام خطير في صفوف القيادة الإنجليزية، وصدَّق منو هذه الشوائع، واعتقد أن قواد الحملة الإنجليز بسبب عجز السير رالف أبركرمبي الذي فشل في هولندا وهزمه الإسبان في فيرول Ferrol، وأخفق أمام ليفورنه وقادش، ثم ما يوجد من خلافات بين السير رالف والسير سدني سمث؛ سوف يضطرون إلى طلب الصلح عاجلًا.٢٢٣
وعلى ضوء هذه الآراء والمعلومات الخاطئة إذن بنى منو خططه الأولى، وظلت تدور حول أمرين رئيسيين: بقاء الجيش مع قائده في القاهرة «لتأمين شخص القائد العام فحسب، وليس للدفاع عن البلاد — كما قال ناقدوه — لأن القاهرة كانت تبعد بمسافات شاسعة عن الإسكندرية» موضع الخطر،٢٢٤ ثم تقرير الدفاع عن الحدود الشرقية، والاكتفاء بإرسال النجدات القليلة التي طلبها فريان في الإسكندرية، فاصدر أوامره إلى الجنرال رينييه بالذهاب مع قوة من المشاة والمدفعية إلى بلبيس (في ٤ مارس). وقد حاول رينييه أن يقنع منو بضرورة ذهاب الجيش مع قائده الأعلى إلى أبو قير، حتى إذا قضى على خطر الإنجليز أمكن التفرغ لمناجزة العثمانيين، ولكن منو تمسك برأيه وطلب إلى رينييه الخروج إلى بلبيس في التو والساعة، وعد رينييه صدور هذا الأمر إهانة له وازدراء لكفايته، واعتبر كثيرون أن غرض منو من إرسال رينييه إلى بلبيس في هذا الظرف العصيب لم يكن سوى استبعاده لكراهيته له وعدم وثوقه من إخلاصه.٢٢٥ وأرسل منو قوات أخرى بقيادة موران Morand إلى دمياط، وأصدر أوامره ببقاء الحاميات في مراكزها مبعثرة في أنحاء البلاد: في الصالحية وبلبيس والسويس وعزبة البرج والبرلس، وكذلك بقي الجنرال دونزيلو في الصعيد ومعه ستة آلاف جندي.٢٢٦
ولما كان فريان قد ألحَّ في ضرورة إرسال نجدات من الفرسان والمشاة إلى جهة أبو قير والإسكندرية، فقد بعث إليه منو يطمئنه على وصول بعض هذه النجدات إليه من الفرسان والمشاة الموجودين بالدلتا، وعلاوة على ذلك كتب منو إلى فريان أنه إذا لم تأته أخبار أخرى في مساء اليوم نفسه (٤ مارس) فإنه سوف يحضر إلى الإسكندرية في اليوم التالي، ومع ذلك فإن منو سرعان ما غير رأيه، فكتب إلى فريان رسالة أخرى ينبئه فيها بخروج لانوس من القاهرة بدلًا منه، وصدرت الأوامر لهذا الأخير أن يستعد للسير إلى الإسكندرية،٢٢٧ وغادر لانوس القاهرة في ٤ مارس يصحبه عدد من المشاة ثم آلاي من الفرسان بقيادة الجنرال برون Bron.
أمَّا منو فقد ظل ينتظر في مقر قيادته وصول أخبار أخرى من فريان، وجاءته رسالة فريان التالية في ١٥ مارس، وكانت تبعث على الطمأنينة — كما رأينا — على الرغم من تكرار طلب الإمدادات بكل سرعة، فكان من أثر ذلك أن أُرسِل منو إلى لانوس يأمره بالتوقف في الرحمانية، ثم الاكتفاء بإرسال جزءٍ بسيطٍ من القوات التي معه إلى الإسكندرية.٢٢٨ وظن منو وقد اتخذ كل هذه الإجراءات «الصائبة» أن مسئولية الدفاع عن البلاد قد انتهت، وخيَّم جو من السكون على مقر القيادة العامة، وانصرف رجال الحملة وسائر الفرنسيين إلى التفريج عن أنفسهم بالتندر والفكاهة، وكان من رأيهم وقد وجدوا إجراءات قائدهم تتسم بطابع الاستخفاف بشأن الإنجليز أن هؤلاء لا بد أن يكونوا قد أحضروا سفن أسطولهم إلى أبو قير والإسكندرية فارغة لا جنود عليها،٢٢٩ وطفق منو يوجه عنايته إلى «معالجة» الموقف الداخلي.
فقد استفاضت الأنباء في القاهرة منذ ٣ مارس عن وصول «مراكب إلى أبو قير، وتأيدت الإشاعات التي انتشرت في أنحاء العاصمة منذ أواخر فبراير، وزاد اقتناع الأهلين بصحتها عندما شهدوا في اليوم التالي (٤ مارس) خروج «جملة من العسكر الفرنساوية وسفرهم إلى الجهة البحرية برًّا وبحرًا»، فانتهز منو اجتماع الديوان في يوم ٦ مارس وحاول تضليل أعضائه، فبدأ «الوكيل فورييه يقول إنه كان يظن أن يكون حرب ولكن وردت أخبار أن المراكب التي حضرت إلى إسكندرية وهي نحو مائة وعشرين مركبًا قد رجعت، فقيل له وما هذه المراكب؟ فقال: مراكب منها طائفة من الإنكليز وصحبتهم جماعة من الأروام وليس فيها مراكب كبار إلا قليلٌ جدًّا وباقيها صغار وتحمل الذخيرة. ثم قال إن حضرة ساري عسكر كان قد وجَّه إليكم فرمانًا في شأن ذلك قبل أن يتبين الأمر وهو وإن كان قد فات موضعه من حيث إنه كان يظن أن هناك حربًا، ولكن من حيث كونه قد برز إلى الوجود فينبغي أن يُتلى على مسامعكم»، ثم أخذ روفائيل الترجمان يقرأ هذا الفرمان الجديد وكان يحمل تاريخ ٥ مارس، تحدث فيه منو٢٣٠ عن ظهور الإنجليز «في السواحل وإن كانوا يتجرءون يضعون أرجلهم في البر فيرتدون في الحال على أعقابهم في البحر، والعثمانيون متحركون كهؤلاء الإنكليزية يعملون أيضًا بعض حركات، فإن كان يقدمون ففي الحال يرتدون وينقلعون في غبار وعفار البادية.»
ثم طلب إليهم وإلى أهل البلاد قاطبةً أن يخلدوا إلى الهدوء والسكينة ويتفرغوا إلى أعمالهم. وحذَّر منو أهل القاهرة من إثارة الفتن والقلاقل، وأنذر بتوقيع العقوبة الصارمة على كل من تحدثه نفسه بذلك، وحمَّل المشايخ مسئولية ما يحدث، واجتمع هؤلاء (يوم ٧ مارس) «ببيت الشيخ عبد الله الشرقاوي، وحضر الأغا والوالي والمحتسب، وأحضروا مشايخ الحارات وكبراء الأخطاط ونصحوهم وأنذروهم وأمروهم بضبط من هو دونهم، وألا يغفلوا أمر عامتهم، وحذَّروهم وخوَّفوهم العاقبة وما يترتب على قيام المفسدين وجهل الجاهلين، وأنهم هم المأخوذون بذلك كما أن من فوقهم مأخوذ عنهم.»٢٣١
ولما كان الطاعون قد انتشر في القاهرة بصورة مزعجة منذ منتصف فبراير، وضاق الناس ذرعًا بإجراءات الفرنسيين الصحية التي لم تكن تعدو «التشديد في أمر الكرنتيلة»، وتوقع أهل القاهرة حدوث الفتن بسبب «ورود أخبار المراكب إلى أبو قير وتحذير الفرنساوية واستعدادهم وتأهبهم ونقل أمتعتهم إلى القلعة»؛٢٣٢ فقد عمد كثيرون إلى الفرار من القاهرة والهروب إلى الريف. وكان من أسباب هياج الخواطر ما شاهده القاهريون من خروج «عساكر كثيرة بحمولهم وفرشهم «وذهابهم» إلى جهة الشرق، «ثم ذيوع الأخبار» عن حضور عرضى العثمانية ووصولهم إلى العريش صحبة يوسف باشا الوزير»، وعلاوةً على ذلك فقد أخذ الفرنسيون كرهائن الشيخ السادات ثم علي أغا المحتسب، وأصعدوهما إلى القلعة.٢٣٣ وكان منو عندما أكَّد لأعضاء الديوان أن الإنجليز والعثمانيين سوف يكون نصيبهم ولا شك الهزيمة إذا حاول الأولون النزول إلى البر وعبر الآخرون الحدود الشرقية؛ جادًّا في قوله ولا يقصد أي تمويه، وآية ذلك أنه أذاع هذا القول نفسه في أمر يومي أصدره في ٦ مارس ينقل إلى جنوده أخبار وصول الأسطول الإنجليزي إلى الشواطئ المصرية وتحرك الجيش العثماني صوب العريش، ويؤكد لهم أنه سوف يلقي بالأولين في البحر إذا حاولوا النزول إلى البر وأن جيوش العثمانيين سوف تهلك في الصحراء.٢٣٤
غير أن فترة الاطمئنان هذه سرعان ما مرت وانقضت عندما كتب فريان في ٨ مارس يلح على منو في إرسال النجدات «والحضور مع الجيش بكل سرعة»، ثم عاد يكرر هذا الطلب مرات أخرى في اليوم نفسه، ويسأل منو الحضور مع الجيش بأكمله إلى الإسكندرية. ثم وصلت الأخبار إلى القاهرة في يوم ١١ مارس منبئةً بنزول الإنجليز وهزيمة فريان وعجزه عن صدهم،٢٣٥ وعندئذٍ لم يجد منو محيدًا عن اتخاذ قرار بمغادرة القاهرة في مساء اليوم نفسه. وهكذا يكون منو قد اضطر إلى الذهاب إلى الشواطئ الشمالية بعد أن رفض نصيحة رينييه وزملائه وأضاع حوالي أسبوعين منذ أن أخبره رامبون بتوقع نزول الإنجليز في الشواطئ الشمالية، وحوالي الأسبوع منذ أن أخبره فريان بوصول الإنجليز إلى أبو قير وإرساء سفنهم في الخليج، وأربعة أيام منذ أن طلب منه فريان الحضور بالجيش إلى الإسكندرية. وحدث ذلك كله في وقت أثبتت الحوادث فيه أن إضاعة كل دقيقة من شأنها إتاحة الفرصة للإنجليز ليوطِّدوا أقدامهم على الشاطئ وينجزوا استعداداتهم للالتحام مع جيش الشرق في معارك حاسمة.٢٣٦
ومع ذلك فقد شُغل منو في يوم ١١ مارس باتخاذ بعض الإجراءات التي كان لا غنى عن اتخاذها لتنظيم شئون القيادة في القاهرة، فعهد بها إلى الجنرال بليار Belliard ومهمته الاشتراك في دفع غزو الأتراك مع زميله رينييه الذي طلب إليه إلى جانب مراقبة الحدود الشرقية في بلبيس والصالحية إرسال بعض قواته إلى القاهرة لتعزيز حاميتها وإلى الرحمانية عن طريق الدلتا. وهكذا ظهر أن منو حتى اللحظة الأخيرة وعلى الرغم من اضطراره إلى الذهاب إلى الشواطئ الشمالية، كان ما يزال متأثرًا بفكرته الخاطئة الأولى، ويتوقع أن تظل الحدود الشرقية مصدر أخطار كبيرة وميدانًا للعمليات العسكرية الهامة. وكان لذلك أوخم العواقب لأن منو بدلًا من الخروج «بكل جيشه» إلى الإسكندرية أبقى حوالي الألفين في القاهرة للسهر على الدفاع عنها ومراقبة الحدود السورية، وامتنع عن إخلاء الصعيد والمراكز الأخرى في دمياط وبلبيس والصالحية والسويس ورشيد وعزبة البرج، وأمر الجنرال رامبون بالحضور من دمياط إلى الرحمانية،٢٣٧ فصار بفضل هذه الخطة حوالي تسعة آلاف جندي مبعثرين في أنحاء البلاد، ولا يفيد القائد العام من استخدامهم في معارك الإسكندرية الفاصلة.٢٣٨
وقد أدهشت هذه الإجراءات قواده وضباط الجيش وجنوده، حتى إن القواد رأوا من واجبهم أن يبصِّروا قائدهم الأعلى بعواقب هذه الخطة الوبيلة، ولكنهم آثروا السكوت في النهاية عندما لم يظفروا من منو بإجابات شافية، خوفًا من اتهامهم بالخروج على الطاعة وعصيان الأوامر.٢٣٩ وانفرد رينييه وحده بمخالفة أوامر قائده، فإنه ما إن وصلت إليه تعليمات منو الأخيرة في ١١ مارس حتى أدرك خطورة الموقف، وقرر العودة إلى القاهرة يصحبه داماس وبوضوط Beaudot بدلًا من الذهاب إلى بلبيس والصالحية.٢٤٠ وفي يوم ١٢ مارس طلب منو «رؤساء الديوان والتجار فحضروا إلى منزله، فأعلمهم أنه مسافر بحري وتارك بمصر قائمقام بليار وجملة من العسكر والكتبة والمهندسين، وأوصاهم بأن يكون نظرهم على البلد. وكان في العزم حبسهم رهينة، فاستشار في ذلك فاقتضى رأيهم تأخير ذلك.»٢٤١ وبعد أن انفض الاجتماع ركب منو من فوره وغادر القاهرة، وما إن وصل رينييه إلى القاهرة في اليوم التالي حتى استأنف السير هو الآخر مع جنده صوب الإسكندرية «ولحقوا بكبيرهم برًّا وبحرًا.»٢٤٢ وكشفت للأهلين عودة رينييه غير المنتظرة إلى القاهرة مدى الخلاف المستحكم بين القائدين، وخطل الرأي الذي أخذ به منو من عدم توقع نزول الإنجليز في الشواطئ الشمالية وإهمال «تحصين ثغور الإسكندرية» نتيجة لذلك.٢٤٣
ومع أن منو غادر القاهرة بعد لأيٍ وعنادٍ شديد وإضاعة الوقت سدًى، فقد تلكأ في سيره فوصل إلى الرحمانية في مساء ١٥ مارس واستراح بها يومًا ثم بلغ دمنهور في ١٨ مارس، وهناك لحق به رينييه ورامبون، ثم بلغ بركة غطاس في اليوم التالي (١٩ مارس)، وفي مساء اليوم نفسه وصل إلى معسكر لانوس بالإسكندرية،٢٤٤ وهكذا قطع منو المسافة بين القاهرة والإسكندرية في ثمانية أيام.
وكان تباطؤ القائد العام في هذه الظروف العصيبة موضع نقد لاذع وتهكم كبير من جانب مواطنيه الذين سخروا كذلك من كثرة ما كان يذيعه من منشورات وأخبار ويصدره من أوامر يومية، فظهرت في هذه الآونة رسوم هزلية تصور منو ممتطيًا صهوة جواده على ظهر سلحفاة تسير ببطء شديد صوب الإنجليز ويحيط به عدد من الجمال تحمل زوجه وابنه سليمان، وتتألف بطارية مدافعه من أواني مطبخه، وهذا بينما يحمل أحد الجمال «أوامر منو اليومية» إلى جيشه، ويحمل آخر «أخبارًا شبيهة بالرسمية»، والثالث «الحقيقة بأكملها»، وكانت هذه الجمال الثلاثة تنوء بحملها.٢٤٥ وقد تداول الجند هذه الصور «بكل حرية»، وكان ذلك دليلًا على ضعف النظام في جيش سمح أفراده لأنفسهم أن يتهكموا بقائدهم الأعلى.٢٤٦

معركة كانوب (٢١ مارس سنة ١٨٠١م)

وجد منو الإنجليز عند وصوله إلى الإسكندرية في مساء ١٩ مارس متحصنين في معسكر قيصر، مصطفِّين في خطين: عند ترعة الإسكندرية وأمام مراكزهم في معسكر قيصر، وتحرس مدفعيتهم منافذ بحيرة المعدية بينما ينتشر عدد من زوارق المدفعية في هذه البحيرة. ومع أن مواقع الإنجليز كانت تبدو ممتنعة،٢٤٧ فإن السير رالف أبركرمبي بعد نجاح عملياته العسكرية في معركة ١٣ مارس كان يشعر بحرج موقفه، ويخشى مغبة الهجوم على مواقع الفرنسيين الذين كانوا يحتلون مرتفعات نيكوبوليس، ويعتمدون في تعزيز هذه المواقع على قوة مدفعيتهم. وفضلًا عن ذلك كان أمام السير رالف — حتى إذا استطاع إجلاء العدو عن هذه المرتفعات المنيعة — واجب إخضاع الإسكندرية ذاتها ومحاصرتها. وتوقع القائد الإنجليزي أن يطول الحصار بسبب ما كان منتظرًا من دفاع الفرنسيين الشديد عنها، فيلقى السير رالف جيشًا على كامل الأهبة، لا مجرد حامية بسيطة يسهل التغلب عليها،٢٤٨ أضف إلى هذا أن الإنجليز كان ينقصهم الفرسان ولم يَحُل تفوُّق مشاتهم دون ضعف ميسرتهم الظاهر.٢٤٩ ولكن لما كان الغرض من العمليات العسكرية الزحف على الإسكندرية واحتلالها، وليس البقاء دون حراك في ذلك الوادي الضيق أو «البرزخ» الذي يفصل بين أبو قير والإسكندرية؛ فقد بات واجبًا على أبركرمبي أن يقرر استئناف العمليات العسكرية والتحرك عاجلًا أو آجلًا، بل إن السير رالف كان في عزمه إصدار الأوامر ببدء الهجوم في خلال يومين على الأكثر،٢٥٠ لأنه ما كان يعتقد أن الفرنسيين سوف يتركون مراكزهم المنيعة على المرتفعات ويحاولون مهاجمته،٢٥١ ولكن هؤلاء سرعان ما أخرجوا القائد الإنجليزي من ورطته عندما قرَّ رأيهم على بدء الهجوم من جانبهم.
وما إن وصل منو إلى معسكر لانوس حتى راح يتساءل عن الإجراءات التي اتُّخذت لإخبار غانتوم بحركات الإنجليز ونزولهم في الشاطئ، وكان منو عظيم الثقة بأن غانتوم سوف يحضر بنجدات كبيرة إلى مصر، فأكَّد له لوروي Le Roy أن السفينة أوزيريس Osiris قد أُرسلت تحمل هذه الأنباء إلى غانتوم، وأن الاستعدادات لاستقبال النجدات عند وصولها قد تمت، وعندئذٍ طفق منو يفحص مع قواده الموقف، ولاحظ هؤلاء أن الإنجليز إذ جعلوا ميمنة جيشهم مستندةً إلى البحر وميسرته متكئة على بحيرة المعدية قد أتاحوا للعدو فرصة الانتصار عليهم إذا أقدم على تركيز كل جهوده في مهاجمة القلب بصورة تفصل بينه وبين جناحَي الجيش، حتى إذا حدث ذلك سهل الإجهاز على كل جناح من هذين الجناحين على حدة وإلقاء جنده إلى البحر أو البحيرة.٢٥٢واعتقد منو وقواده أن النصر قمين أن يكون من نصيبهم إذا هم اتبعوا هذه الخطة. وعلى ذلك فقد وافقوا جميعًا عليها، وآمنوا بالنصر واتخذوا قرارًا بالهجوم العاجل على جيش أبركرمبي.
وكان من الأسباب التي دعت إلى تقرير الهجوم السريع خوف القواد من زحف العثمانيين على الحدود الشرقية ووصول حملة الهند قبل أن يكونوا قد فرغوا من هزيمة العدو في الشواطئ الشمالية،٢٥٣ ولو أنه لم يكن هناك ما يدعو في واقع الأمر إلى الخوف من زحف العثمانيين الذي وقع بعد هذه الحوادث بفترة طويلة من الزمن، كما أن حملة الهند وصلت بعد انقضاء المعارك الهامة. وللمرة الأولى في تاريخ قائد الحملة العام تحرر منو من صلفه وكبريائه، وأقبل يستشير أولئك القواد الذين كانوا أكثر منه حنكةً ودرايةً ومعرفةً بفنون القتال. ولما كان لا يجرؤ على استشارة رينييه بعد كل ذلك الذي حدث بينهما، فقد طلب من لانوس أن يعد خطة المعركة المقبلة على اعتبار أن لانوس قد قضى زمنًا طويلًا بالوجه البحري فأصبح أكثر معرفة من غيره بخصائص الإقليم الذي يدور فيه القتال. وكان منو يرجو من ذلك ولا شك أن يبحث لانوس تفاصيل هذه الخطة مع الجنرال رينييه وهو القائد الذي شهد الجميع بكفاءته. وبالفعل بحث لانوس مع رينييه خطة المعركة، واشترك معهما في البحث الجنرال لاجرانج رئيس هيئة أركان الحرب، وأسفر البحث عن وضع خطة لم يلبث أن صدر بتفاصيلها أمر يومي في ٢٠ مارس سنة ١٨٠١م وُزِّع على سائر القواد في الساعة العاشرة من مساء اليوم نفسه.٢٥٤
وبلغ الإنجليز نبأ ما قرره الفرنسيون ودُهش أبركرمبي في أول الأمر، ورفض أن يصدق الأنباء التي وصلته، ولكنه ما تأكدت له صحتها حتى أخذ يعد للأمر عدته. وتوقع الإنجليز أن يبدأ الفرنسيون هجومهم المنتظر في أثناء الليل، ووقفت خطوطهم الأمامية وقواتهم الاحتياطية على قدم الاستعداد للعمل عند أول بادرة، وفي فجر يوم ٢١ مارس بدأت معركة كانوب الفاصلة.٢٥٥
كان الإنجليز عند بداية المعركة يقفون في خطهم الأول بصورة جعلتهم يركزون أكثر قواتهم؛ أولًا: في جناح الجيش الأيمن بقيادة الجنرال مور Moore على مرتفعات معسكر قيصر، يعززه «متراس» حصين أمام هذا المعسكر، وثانيًا: في القلب بقيادة الجنرال كوت Coote، كما اتخذ السير رالف أبركرمبي موقفه في القلب كذلك. أمَّا جناح الجيش الأيسر فقد استند إلى ترعة الإسكندرية التي كانت تفصل بينه وبين منخفض مريوط، وكان هذا الجناح ضعيفًا تولى قيادته الجنرال كرادوك Craddock ووقف خلفه كافان Cavan. ووضع الإنجليز فرسانهم القليلين إلى جانب قوات من المشاة في خط القتال الثاني خلف خطهم الأمامي، فكان الفرسان بقيادة فينش Finch والمشاة بقيادة Doyle وراء القلب وعلى طرفه الأيمن مباشرةً، ثم انتشر المشاة الإنجليز في قوات احتياطية خلف هذين الخطين بين شاطئ البحر ومنخفض مريوط، وتولى الجنرال ستيوارت القيادة واتخذ مركزه في الميمنة.
وأما الفرنسيون فقد جعلوا ميمنتهم بقيادة الجنرال رينييه ترتكز على ترعة الإسكندرية من ناحيته ويقف إلى يساره الجنرال فريان، ثم جعلوا القلب بقيادة الجنرال رامبون وإلى يمينه الجنرال داستان D’Estaing بين قوتي رامبون وفريان، وجعلوا الميسرة بقيادة الجنرال لانوس ممتدة إلى شاطئ البحر، ووزَّعوا مدفعيتهم بين القلب والجناحين وفي طرف جيش رينييه المطل على الترعة ومنخفض مريوط. ووضع الفرنسيون جزءًا من فرسانهم بقيادة الجنرال برون في طرف ميمنة جيشهم خلف ترعة الإسكندرية في منخفض مريوط، وأما بقية فرسانهم فقد اتخذت مواقعها في مؤخرة القلب وعهدوا بقيادتها إلى الجنرال رواز Roize ومن خلفها المدفعية، وفضلًا عن ذلك فقد أعدُّوا قوةً من الهجانة بقيادة الكولونيل كفالييه Cavalier.
ونصت التعليمات التي وُزِّعت على القواد في مساء يوم ٢٠ مارس٢٥٦ على أن تبدأ المعركة في منتصف الساعة الخامسة صباحًا، بأن تقوم قوات الهجانة (بقيادة كفالييه وتحت أوامر رينييه) بهجومٍ كاذب على ميسرة الإنجليز، حتى إذا شُغل هؤلاء بدرجة كافية يبدأ الهجوم الكبير على الفور تقوم به ميسرة الفرنسيين بقيادة رامبون وداستان، على أن يكون هدفهم المباشر تحطيم المتراس القائم أمام معسكر قيصر. وقد طُلب إلى رينييه قائد الميمنة أن يتحرك بقواته في أثناء هذا الهجوم رويدًا رويدًا، حتى إذا رأى القلب يشتبك نهائيًّا في المعركة معززًا بذلك هجوم الميسرة يبدأ رينييه هجومه الجدي بصورة تمكِّن من الإجهاز على خط العدو الأول. فإذا تم ذلك أعاد الجيش تنظيم صفوفه، واستأنف الهجوم على خط العدو الثاني، فتحمل الميسرة على العدو، ويحذو القلب حذو الميسرة مسترشدًا بخطواتها، بينما تظل مهمة الميمنة (قيادة رينييه) شغل ميسرة العدو ومنعها من الاشتراك في صد الهجوم الفرنسي، فلا يجد قلب العدو وميمنته إزاء هجوم الفرنسيين الشديد مناصًا من الارتداد صوب ميسرته، وبحركة تطويق سريعة يستطيع هؤلاء حينئذٍ أن يلقوا بالجيش المتقهقر في بحيرة المعدية.

تلك كانت الخطوط الرئيسية التي رسمها الفرنسيون للمعركة، وواضحٌ أن واضعيها لم يجدوا حاجة إلى استخدام قوات رواز وبرون في أثناء القتال بصورة حاسمة؛ إذ جعلوا مهمة برون وفرسانه مجرد إزعاج العدو بإطلاق النار عليه في أثناء الهجوم الأول ثم لم يشركوه حسب خططهم في الهجوم الثاني. أمَّا رواز فقد انحصرت مهمته في أثناء المرحلة الأولى من المعركة في حماية مؤخرة القلب مع مدفعيته، ثم مطاردة فلول العدو المنهزم في المرحلة الثانية، واستخدام المدفعية في أثناء العمليات جميعها، فضلًا عن مراقبة مدفعيته للعدو، وزيادة على ذلك فإن نجاح هذه الخطة بحذافيرها كان يتوقف على نجاح خدعة الهجوم الكاذب حتى يمكن استدراج شطر من قوات الإنجليز من القلب واليمين لتعزيز ميسرتهم فتتحقق بفضل ذلك فائدة الهجوم الكبير، وكانت ميسرة الإنجليز أضعف النقط الظاهرة في خط قتالهم. ومع ذلك فقد منعت التعليمات ميمنة الجيش الفرنسي (قيادة رينييه) من القيام بهجومٍ حاسمٍ على هذه الميسرة، بل قيدت حركته وجعلت تقدمه أو اشتراكه في المعركة مرهونًا بتقدم القلب ونجاح هجومه مع الميسرة على جناح العدو الأيمن وقلبه.

ولعل أهم ما يمكن توجيهه من ضروب النقد أن الفرنسيين عندما وضعوا خطة المعركة حصروا كل اهتمامهم في تنظيم الهجوم على ميمنة العدو وأغفلوا شأن ميسرته مع أن مراكز الإنجليز في معسكر قيصر وحوله كانت قوية، وإن كان يبدو للعين المجردة أن هناك بعض الثغرات في خط الإنجليز الأمامي يمكن النفاذ منها بسبب التواء هذا الخط قليلًا صوب الشمال الغربي عند معسكر قيصر، ووجود فرجة بسيطة بين ميمنته وقلبه. وفات الفرنسيين أن فرسان العدو وبعض مشاته بقيادة دويل Doyle وغيره كانت تحمي ظهور الميمنة، ناهيك بقوات الجنرال ستيوارت في الخط الخلفي. وكان الخطأ الذي وقع فيه رينييه ولانوس ولاجرانج عند وضع تفاصيل هذه الخطة ظاهرًا لدرجة أن نابليون فيما بعد أخذ على قواد جيش الشرق أنهم أغفلوا في تدبيرهم الاستفادة من ضعف ميسرة الإنجليز، وكان من رأيه٢٥٧أن يغيِّر القوَّاد خططهم في ليل ٢٠-٢١ مارس بصورة تمكِّنهم من تركيز الهجوم على ميسرة الإنجليز الضعيفة؛ وذلك بأن تستند الميمنة الفرنسية (قيادة رينييه) على بحيرة المعدية بينما تتخذ الميسرة والقلب مواضع تمكِّنهما من الدفاع عن باب رشيد (مدخل الإسكندرية) من جهة، ثم القيام بحركة تطويق تساعد على إرغام قلب العدو وأكثر قواته على الارتداد ثم الانحراف مع الميسرة نحو البحيرة من جهة أخرى، فيشترك حينئذٍ القائمون بالهجوم في قذف العدو إلى المياه في بحيرة المعدية «أبو قير».

ومع ذلك فقد أجمع الثقات على أنه كان في استطاعة الفرنسيين على الرغم من عيوب خطتهم أن يلحقوا الهزيمة بالعدو، بفضل مناعة مواقعهم من ناحية وحاجة العدو إلى الفرسان وضعف ميسرته من ناحية أخرى، لو أنهم (أي الفرنسيين) أفلحوا في خديعة الهجوم الكاذب أولًا، ثم ألقى رينييه بالميمنة في أتون المعركة عندما حمي وطيس القتال بعد ذلك. وكان القائد العام الذي أشرف على سير القتال رجلًا غير منو. بل إنه كان في الاستطاعة أن يتجنب الفرنسيون بعض ما نزل بهم من خسائر فادحة لو أنهم تقهقروا في الوقت المناسب، بل كان في وسعهم بمجرد إعادة تنظيم صفوفهم أن يستأنفوا الهجوم، وأن يتخذوا من التدابير ما يكفل بعد ذلك تعطيل زحف الجيوش الإنجليزية إلى داخل البلاد، ولم يحدث شيء من ذلك كله لعجز منو وفشل القيادة العامة، وقد ظهر هذا العجز وهذا الفشل بأوسع معانيهما في أثناء معركة كانوب الحاسمة نفسها.

فقد بدأ تنفيذ الخطة الموضوعة لإدارة رحى هذه المعركة بإطلاق الرصاص على ميسرة الجيش الإنجليزي تمهيدًا للقيام بحركة الهجوم الكاذب. وكان الضرب ضعيفًا حتى إن الإنجليز اعتقدوا في أول الأمر أن الغرض من هذه العمليات لم يكن سوى خديعتهم وإزعاج جنودهم وأعيانهم ومعرفة مدى انتباههم ويقظتهم ومبلغ استعدادهم لخوض غمار المعركة.٢٥٨ غير أن الضرب سرعان ما أخذ يشتد ويقوى على جناحهم الأيسر الضعيف، وقام الكولونيل كفالييه على رأس هجانته بهجوم عنيف على جيش كرادوك واقتحم بطارية العدو الأولى مكتسحًا كل شيء أمامه حتى صار يهدد باختراق الترعة (ترعة الإسكندرية بين منخفض مريوط وبحيرة المعدية) والاستدارة خلف جيش كرادوك، فيكشف بهذا العمل كل الجناح الأيسر. وأدرك الإنجليز خطورة الموقف، واضطر الجنرال ستيوارت عند اشتداد ضرب النار إلى التحرك من موقفه خلف ميمنة الجيش صوب الميسرة، واضطر الجنرال مور — وكان صاحب الإشراف على العمليات العسكرية في هذا اليوم — إلى العَدْو بحصانه في نفس الاتجاه لاستطلاع الخبر. ولا شك في أنه لو استمرت خدعة الفرنسيين وقتًا أطول وكان لدى كفالييه قوات كافية، وصدرت له الأوامر من ناحية ميمنة الجيش الفرنسي — وكان كفالييه يخضع في حركاته لأوامر رينييه حسب التعليمات التي تضمنتها خطة المعركة — بالاستمرار في هذا الهجوم، واشترك رينييه معه في الهجوم أو عزز قواته بإرسال النجدات إليه عندما وجد الهجوم الكاذب على وشك أن يتحول إلى هجوم صحيح لفائدة الفرنسيين الظاهرة بسبب ضعف ميسرة الإنجليز؛ نقول إنه لو حدث شيء من ذلك لاختلفت نتيجة القتال في ذلك اليوم، غير أن منو الذي قبع في مكانه أو ظل طوال المعركة يتجول على حصانه خلف الخطوط، لم يدرك أهمية ما جدَّ من حوادث، واكتفى رينييه بالتقدم قليلًا باسطًا بعض قواته بحذاء الترعة وفق ما كان لديه من تعليمات، ولم تشأ القيادة الفرنسية أن تتحول قيد أنملة عن خطتها الأساسية من حيث اعتبار هجوم كفالييه في صميمه هجومًا كاذبًا وتركيز الاهتمام في الهجوم على ميمنة الجيش الإنجليزي وقلبه.
ومع أنه كان يجب التريث حتى يبدأ الإنجليز فعلًا في نقل بعض قواتهم لتعزيز جناحهم الأيسر فيتحقق الغرض من الهجوم الكاذب، وقد شاهدنا كيف أن ستيوارت ومور كانا في طريقهما إلى الميسرة؛ فقد أسرع الجنرال لانوس بالانقضاض على ميمنة العدو ولمَّا ينقضِ وقت طويل على بدء «الهجوم الكاذب»٢٥٩ وأفسد بتسرعه الأحمق خطة المعركة،٢٦٠ فإنه ما إن سمع مور Moore إطلاق الرصاص وشهد ضرب المدفعية على الميمنة حتى عاد، فلوى عنان حصانه ناكصًا على عقبيه وهو يقول: «إنما يقع في هذا المكان الهجوم الصحيح»،٢٦١ وفعل مثله كذلك الجنرال ستيوارت، واستطاع الإنجليز أن يصمدوا أمام هجوم لانوس العنيف. وكان غرض لانوس الاستيلاء على المتراس الحصين الواقع أمام معسكر قيصر، ثم إجلاء الإنجليز عن مواقعهم في هذا المعسكر وتحطيم جناحهم الأيمن. فحمي وطيس القتال وأحكم الإنجليز تدابير دفاعهم عن المسالك الضيقة الموصلة لهذه المراكز، وعندما عنف إطلاق النار على القوات المهاجمة في الطليعة، ترددت سائر قوات لانوس في متابعة الهجوم، ووجد لانوس أن قسمًا من هذه القوات ما يزال في المؤخرة بقيادة الجنرال فالنتان Valentin، فعدا بحصانه إلى الخلف كي يستحثه على التقدم بكل سرعة وتأييد رأس الجيش، ولكنه لم يلبث أن أُصيب بطلقة من مدفع في فخذه وحُمل من ميدان المعركة، وبدأ اختلال النظام يشيع في جيشه،٢٦٢ وصاح لانوس في وجه منو وهو يُحتضر في مساء اليوم نفسه: «لقد هلكت، وهذا هو مصير المستعمرة كذلك.»٢٦٣
وفي وقت حدوث هذا الهجوم على جناح الإنجليز الأيمن بدأ الجنرالان رامبون وداستان هجومهما حسب الخطة الموضوعة على قلب الجيش الإنجليزي، وانحرف هجوم رامبون نحو اليمين حتى يشمل جزءًا من ميسرة الإنجليز. أمَّا داستان فقد حاول أن ينفذ من الفضاء الواقع بين المتراس وبين المعسكر، فقوبل بنيران شديدة اضطرته إلى الانسحاب، ووقع جنده الذين توغلوا قليلًا في هذا الفضاء أسرى في أيدي الإنجليز، وجُرح داستان في أثناء هذا الهجوم، بينما نجا رامبون من الموت بصعوبة. وهكذا فشل أهم أجزاء الخطة الفرنسية، وكان من الواضح أن سبب هذا الفشل الأكبر هو عدم توحيد العمليات بحيث يقع الهجوم على ميمنة جيش الإنجليز وقلبه في وقت واحد، بل حدث الهجوم في حركات «غير متسقة» وبقوات من المشاة ضعيفة بالقياس إلى العدو، و«منفصلة» بعضها عن بعض.٢٦٤
وكان في هذه الظروف العصيبة أن ارتكب منو القائد العام خطأه الأكبر، فقد خطر له — وقد شاهد فشل هجوم لانوس ورامبون وداستان — أن يلقي بقوات فرسانه بقيادة الجنرال رواز في أتون المعركة علَّه يتمكن من اختراق صفوف الإنجليز ويظفر بإخراجهم من مواقعهم، فاقترب منو في أثناء جولته على حصانه خلف الخطوط من رواز، وطلب إليه الهجوم بفرسانه على العدو. ولما كان رواز قد لاحظ الارتباك الذي حدث في صفوف الميسرة والقلب الفرنسيين بعد فشل هجوم لانوس ورامبون وداستان، وكان يعتقد أن دخول فرسانه إلى الميدان بعد هذا الفشل لا فائدة منه وليس هناك ما يسوغه، ولا ينجم عنه سوى تضحية قواته سدًى ودون جدوى؛ فقد أدهشه أمر منو له بالهجوم، ولما لم يستطع إخفاء حيرته وظل ينظر إلى القائد العام مشدوهًا، فقد كرر منو الأمر بالهجوم بصورة جعلت حمرة الخجل تعلو جبهة رواز الذي اكتفى بأن سأل منو عما إذا كان من واجبه حقًّا الهجوم، فقال منو: «أمامك، وفي خط مستقيم»، وكان معنى هذا الأمر أن يقوم رواز بالهجوم على معسكر قيصر — «أمامه وعلى خط مستقيم» — أمنع معاقل الإنجليز، وحيث عجز مشاة لانوس عن اقتحامه، فضلًا عن اختلال النظام الذي بدأ يشيع في صفوفهم عقب سقوط لانوس، فكان جواب رواز: «إلى الأمام أيها الإخوان، إنهم يبعثون بنا إلى المجد والموت.»٢٦٥ وكان هجومًا كتب لرواز وفرسانه صفحة من المجد والفخار، ولكنه لم يأتِ بأية نتيجة، بل كلف الفرنسيين خسارة أخرى إلى جانب خسائرهم الأولى الفادحة.
ومما يزيد في خطورة مسئولية منو عن هذا الفشل الذريع في كانوب أنه لم يأمر المشاة بتعزيز هجوم رواز،٢٦٦ وكان لديه جيش رينييه في الميمنة لم يشترك في شيء من الالتحامات السابقة، وعلى ذلك فقد حمل فريق من فرسانه بقيادة الجنرال بوسار Boussart حملة عنيفة على مواقع الإنجليز أوصلتهم إلى خيامهم، ولكنهم سرعان ما أُوقفوا عندما صارت خيولهم تتعثر في حبال هذه الخيام وتقع في الحفرات التي ملأت المكان من جهة،٢٦٧ ثم اشتداد إطلاق النار عليهم من جهة أخرى، فهلك عدد عظيم من خيولهم، وجاءت النجدات مسرعة لتعزيز صفوف الإنجليز فاتخذت مواقفها في ذلك الفضاء الذي كان يفصل بين المتراس والمعسكر، ومع ذلك بلغ هجوم صفوف الفرسان التالية بقيادة رواز نفسه من أجل اقتحام هذا الموضع أقصى ما يبلغه هجوم من الشدة والعنف، حتى إن الإنجليز لم يسعهم إزاء هذه الإغارة اليائسة إلَّا أن يخلوا مكانًا لمرور الفرسان الفرنسيين. وما إن نفذ هؤلاء من الثغرة حتى استدار الإنجليز وأخذوا يمطرونهم وابلًا من الرصاص أهلك عددًا عظيمًا منهم، وعبثًا حاول الفرسان عندئذٍ أن يعودوا أدراجهم حتى يخرجوا من هذا المأزق إذ أطبق الإنجليز عليهم من كل جانب وأوقعوا بهم مقتلة عظيمة،٢٦٨ وكان رواز نفسه من بين الذين قُتلوا، كما أُصيب السير رالف أبركرمبي بجرح قاتل وكاد مور يقع في الأسر. وكان من الواضح أنه لا معدى عن اشتراك المشاة الفرنسيين في القتال الدائر، ليس فقط من أجل تعزيز هذا الهجوم بل لتخليص رواز وفرسانه من مأزقهم، ومع ذلك فقد ظل منو لا يبدي حراكًا ولا يصدر أوامره لمشاة رينييه بالدخول في المعركة.
أمَّا رينييه الذي انتظر عبثًا صدور هذه الأوامر، فقد أخذ على عاتقه مسئولية التقدم لتخليص فرسان رواز. ومع أن بعض المؤرخين الذين درسوا هذه المعركة يشكون في أن رينييه قد تحرك أصلًا للاشتراك في هذا القتال الدائر؛٢٦٩ فقد تحدث الإنجليز الذين شهدوا وقائعها عن محاولة المشاة الفرنسيين نجدة رواز وفرسانه، وتعرضهم بسبب ذلك إلى نيران العدو التي كبدتهم خسارة فادحة،٢٧٠ ويقول مؤرخوهم إن قسمًا من جيش رينييه قد تحرك فعلًا لتأييد هجوم رواز، ولكنهم لم يستطيعوا الاقتراب من المتراس أو تلك الثغرة التي سدها الإنجليز بكل سرعة.٢٧١ ويؤكد رينييه أن جنده ما كادوا يصلون إلى المتراس حتى تبين لهم أن الفرسان قد صُدُّوا، ويعلل رينييه عجز مشاته عن الاشتراك في القتال بصورة حاسمة بأنه لم يكن لديه متسع من الوقت لإرسال قوات كبيرة من جناحه الأيمن لتأييد رواز،٢٧٢ وسبب ذلك ولا شكَّ أن أحدًا لم يخبر رينييه بالهجوم المنتظر، ولم يدرك رينييه ومشاته خطورة ما وقع إلَّا عند مشاهدتهم الهجوم يحدث فعلًا. وعلى كل حال فقد كانت محاولة رينييه المتأخرة ضئيلة القيمة والغاية، لدرجة أن أحدًا من الإنجليز الذين اشتركوا في هذه المعركة أو شهدوا وقائعها لم يشعر بها، بل انعقد رأي هؤلاء جميعًا على أن ميمنة الجيش الفرنسي بقيادة رينييه وفريان ظلت طوال الوقت في عزلة تكاد تكون تامة، ولا يعدو اشتراكها في المعركة الدائرة الاستهداف لنيران العدو ومقابلة هذه النيران بمثلها.٢٧٣
ولعل أكبر أخطاء رينييه عندما أرسل بعض مشاته لتخليص رواز أنه فضَّل عدم المثابرة في حركته على الصمود أمام العدو فأسرع جنده بالارتداد. وفضلًا عن ذلك فإنه لم يحاول استئناف الهجوم بقوات أكبر في وقت أكَّد فيه الإنجليز أنفسهم أنهم ظلوا بعد التحام رواز العنيف ساعة بأكملها دون أن يوجد لديهم طلق واحد وعجزت مدفعيتهم عن إطلاق قذائفها على العدو، ولم يكن هناك معدى لو تقدم المشاة الفرنسيون عن أن يقابلهم نظراؤهم الإنجليز بالسلاح الأبيض (أو السونكي) فحسب.٢٧٤ ومع ذلك فقد كان لدى الإنجليز من ناحية أخرى قوات احتياطية كثيرة لم تكن قد اشتركت في المعركة حتى هذا الوقت، وفي وسعها صد الهجوم الفرنسي الجديد إذا حدث.٢٧٥ ومهما يكن من أمر فقد بات واضحًا بعد هزيمة رواز أن الفرنسيين قد خسروا المعركة، وغدت مهمة منو التالية تدبر الموقف دون إبطاء.
وكان من رأي رينييه وقد فشل هجوم رواز إنهاء المعركة والارتداد إلى تلك المراكز الحصينة التي خرج منها الفرنسيون في بداية القتال، أو اتخاذ إجراء حاسم لمحاولة هجوم جديد لانتزاع مواقع الإنجليز الحصينة عند المتراس ومعسكر قيصر، تقوم به ميمنة الجيش (قيادة رينييه) التي ظلت محتفظة بنشاطها، ولو أنه لم يكن من الحكمة المخاطرة بهذه القوات التي ظل في إمكانها حماية مؤخرة الجيش عند تقهقره. ويقول رينييه إنه عرض هذه الحلول على منو وطلب إليه إمَّا الارتداد إلى مرتفعات نيكوبوليس وإمَّا استئناف الهجوم، ولكنه لم يظفر منه بطائل، فظل جناح الفرنسيين الأيمن (قيادة رينييه) في موضعه معرضًا لنيران مدافع العدو دون أن يبدي حراكًا يتكبد خسائر فادحة في كل لحظة مدة تزيد على ساعتين.٢٧٦ ولا شكَّ في أنه كان في وسع منو — وقد بيَّت النية على عدم استئناف الهجوم — أن يتجنب هذه الخسائر لو أنه أمر بالتقهقر قبل أن تأتي الذخائر إلى العدو بعد أن ظلت بطاريات مدافعهم دون طلق واحد مدة ساعة بأكملها على نحو ما قدمنا.
ويرى بعض المؤرخين أن الكبرياء الكاذبة وحدها هي التي جعلت منو يصر على إبقاء الجنود في خط القتال بعد أن بات واضحًا ضياع كل فرصة لاحتمال القيام بهجوم ناجح.٢٧٧ ويقول مؤرخو الإنجليز: إن تعريض الجنود لنيران العدو على هذا الوجه كان بالقياس إلى سائر الأخطاء التي ارتكبتها القيادة الفرنسية في ذلك اليوم أشدها إجرامًا.٢٧٨ وأخيرًا وبعد أن تأكد لدى منو نفاد الذخيرة لدى جنوده أصدر حوالي منتصف الساعة الحادية عشرة صباحًا أمره إلى الجيش بالتقهقر إلى مرتفعات نيكوبوليس.٢٧٩ وبذلك تكون قد انتهت معركة كانوب الحاسمة، تلك المعركة التي قضت على مصير جيش الشرق في هذه البلاد، والتي جاءت خسارتها في الحقيقة مؤذنة بانتهاء حملة عام ١٨٠١م الكبيرة، والتي كان غرضها إجلاء الفرنسيين عن مصر وطردهم منها.
وقد سقط في هذه المعركة من الفرنسيين حوالي الألف وجُرح حوالي المائة وألف، وكان من بين الصرعى لانوس الذي رفض أن تُبتر ساقه لإنقاذه من الموت حتى لا يعيش بعد هذا اليوم الأغبر. ويذكر نقولا التركي أنه عندما نُقِل لانوس جريحًا من المعركة «دخل عليه قبل وفاته أمير الجيوش عبد الله منو وبكى عليه، وقال له: سلامتك أيها البطل من الهلاك! ولا تشمت بك أعداءك. فتنفَّس الجنرال لانوس الصُّعَداء من فؤادٍ مجروح من سهام الأعداء وأجابه قائلًا: قد ألقيتنا أيها الجنرال ببحر الهلاك من فساد رأيك وكبريائك، فلا يسوغ للذي نظيرك أن يكون أمير الجيوش الفرنساوية ومدبر حروبها القوية، بل يجب أن يكون مدبِّرًا في مطبخ المشيخة؛ لأنك لو كنت تركت العساكر سائرة في طريقها لما كانت أعداؤنا الإنكليز قدرت تملك منَّا البر وتتمكن هذا التمكين، فكان ذلك من جبروتك وعنادك المبين.»٢٨٠ وكذلك هلك رواز وبوضوط Beaudot، وكان من بين الجرحى داستان وبوسار وغيرهما من كبار الضباط. أمَّا الإنجليز فقد بلغت خسارتهم حوالي الألف وخمسمائة، وكان من بين القتلى قائد الحملة نفسه السير رالف أبركرمبي ثم الجنرال كوت Coote، ومن الجرحى أواكس Oakes   ولوسون Lawson والسير سدني سمث وغيرهم.٢٨١
وكان من الطبيعي أن يحاول الفرنسيون تحديد مسئولية أولئك الذين جلبوا العار والهزيمة على جيش الشرق في ذلك اليوم المشهود، وعنفت مناقشاتهم في أسباب هذه الهزيمة، وانقسموا فريقين: أحدهما وعلى رأسه منو ورامبون ولاجرانج يرد أسبابها إلى سوء نوايا رينييه وداماس وقواد ميمنة الجيش عمومًا وسوء تصرف لانوس وحماقته، أمَّا الفريق الثاني فكان يتألف من رينييه ودوجرو Dougereau وغيرهما ممن ألقوا المسئولية على منو وحده، فقال جلان Galland: «إن كثيرين من الجنود يعزون فشل المعركة إلى تفرُّق كلمة القواد السيئ، ويتهمون رينييه وداماس بعدم مؤازرة القائد العام منو لنجاح عملياته العسكرية، ويقولون إن رينييه فقد عددًا عظيمًا من جنده دون أن يطلق رصاصة واحدة وكان الجنود في شدة الغضب، ومن أقوالهم كذلك إن لانوس قد قُتِل ولكن دون أن يقاتل في المكان الذي خُصِّص له.»٢٨٢
وينفي هؤلاء أن بطء منو كان السبب في الهزيمة، ويقول ملِّيه Millet وكان ممن شهدوا المعركة: إن قواد الميمنة (أي رينييه وداماس وزملاءهما) الذين كرهوا منو لم يتصدَّوا لمؤازرة القلب عندما طلب رامبون وفريان النجدة.٢٨٣ وقال نقولا التركي إنه عندما أُصيب لانوس بجرحه القاتل «حضر إلى معونته أمير الجيوش، وحمل على الأخصام وأمر إلى رءوس العساكر الجنرال رانيه والجنرال داماس وهما المكروهين منه أن يتقدما لمساعدة لانوس فتخلَّفا وأبيا عن التقدم، وقُرعت طبول الكسرة والرجوع إلى ورا نكاية في أمير الجيوش.»٢٨٤
أمَّا منو نفسه فقد أصدر منشورًا إلى جنوده بعد مضيِّ أسبوع من المعركة يتحدث فيه عن «أولئك الأفراد الذين بسبب سوء نواياهم يعمدون إلى إشاعة الفوضى في صفوف الجيش.»٢٨٥
ثم أعد بعد ذلك في ٢٤ أبريل تقريرًا طويلًا إلى القنصل الأول، أخذ يسرد فيه ما وقع من حوادث منذ ظهور المراكب الإنجليزية أمام الإسكندرية في بداية مارس، فقال إن نفرًا من الذين ساءت نواياهم وخبثت طويتهم شرعوا عشية المعركة (معركة كانوب) يهيجون خواطر الجنود ويحضونهم على العصيان، ويكتبون إلى القاهرة أن الفرنسيين قد فقدوا كل شيء وأنه لا محيد عن إخلاء البلاد والتسليم الكامل في سبيل عقد الصلح مع العدو وقبوله مهما كانت شرائطه.٢٨٦ وكان أصحاب النوايا السيئة الذين قصدهم منو بطبيعة الحال هم أعداؤه القدامى: رينييه وجماعته «أولئك الذين رغبوا منذ زمن طويل في إخلاء البلاد، وأقاموا الدليل في أثناء هذا اليوم الذي لا يمكن نسيانه على خبث طويتهم العظيم.»
أمَّا رينييه فقد شرع يكتب إلى أصدقائه في فرنسا وإلى أعوانه في القاهرة مساء يوم المعركة نفسه يعزو الفشل إلى تردد منو، ويقيم الحجة بعد الحجة على عجز وسوء تدبيره في أثناء المعركة. وكان أكبر دفاع له في دحض أقوال أولئك الذين اتهموه بالجمود وعدم الحركة في أدق ظروف المعركة وأشد أوقاتها حرجًا؛ أن الخطة التي صدر بها أمر منو واشترك هو مع غيره في وضع تفاصيلها كانت تلزمه بالوقوف قليلًا والحركة ببطء، حتى إذا تم تقدم القلب لتعزيز جناح الجيش الأيسر وحمي وطيس المعركة تقدم هو بميمنته واشترك مع جيشي لانوس ورامبون في هزيمة الإنجليز، أمَا وقد أخفق الهجوم فقد انتفت الحاجة لجيشه، وبات واجبه حماية المؤخرة حتى تستطيع قوات لانوس ورامبون التقهقر في نظام لا يعرِّضها لتكبد خسائر أخرى. وفضلًا عن ذلك فقد أسفرت هذه العمليات الأولى عن هزيمة حوالي ثلاثة أخماس الجيش الفرنسي، ومع أن هذه خسارة كبيرة فإنها لم تكن ذات آثار حاسمة. وكان الأجدر عندئذٍ أن يصدر الأمر بالتقهقر، فلا تعدو المعركة حينئذٍ عملية استطلاع فحسب، ويتسنى للجيش بعد إعادة تنظيم صفوفه أن يستأنف الهجوم مرة أخرى. أضف إلى ذلك أنه لم يكن لديه قوات كافية للمجازفة بالإغارة على الإنجليز، في وقت كان يرى فيه جنود لانوس ورامبون مبعثرين في ميدان المعركة بسبب ما حل بهم من هزيمة.٢٨٧
وسواء كان رينييه مصيبًا أم كان منو على حق في دعواه، فالثابت أن الفرنسيين في هذه المعركة الحاسمة كان ينقصهم وجود القائد العام المحنك، الذي كان من واجبه من أول الأمر حشد كل قواته في المعركة، فلا يترك جنوده موزعين على الحاميات في طول البلاد وعرضها وقت الحاجة الملحة لخدماتهم، ولا يدع الأيام تمضي منذ ٢ مارس على الأقل دون الإسراع إلى مكان المعركة المقبلة، حتى إذا ما دارت رحى القتال سهر على تنفيذ الخطة الموضوعة، فلا يترك لقواده حرية التصرف دون أن يعمل على تنسيق حركاتهم، الأمر الذي حدا بنابليون فيما بعد إلى وصف معركة كانوب بأنها كانت مجموعة من العمليات التي لا يربط بينها رابط، وتدل على أن الجيش كان خلوًّا من كل قيادة.٢٨٨ وقال الضباط الذين شهدوا هذه المعركة إن أحدًا لم يكن يرجو أن يسفر الهجوم الذي حدث عن أي انتصار، أو على الأقل لم يتخذ إنسان أي إجراءٍ صحيحٍ يضمن الظفر.٢٨٩ وعاب آخرون عجز القيادة الظاهر، فقالوا إن منو الذي ظل لا يجرؤ على اتخاذ قرار حاسم طوال المعركة لم يلبث أن أقام الدليل على نقص مواهبه عندما أصدر ذلك الأمر الوحيد الذي جاء في غير أوانه ودون حاجة إليه؛ يطلب إلى رواز وفرسانه أن يُلقوا بأنفسهم إلى التهلكة.٢٩٠ وقد تحدث الإنجليز كذلك عن انتفاء أي غرضٍ واضحٍ من ذلك الهجوم الذي قر رأي منو على القيام به دون تريث أو «غاية معينة»، على حين كان من الواجب عليه الانتظار حتى تبدأ عمليات الإنجليز أنفسهم بالهجوم على مراكز الفرنسيين الحصينة.٢٩١
أمَّا عن وقوف منو خلف الخطوط وعدم النزول بنفسه إلى ميدان المعركة، فيكفي أن نذكر للمقارنة بين القيادتين الإنجليزية والفرنسية في أثناء هذا القتال ما فعله أبركرمبي الذي كان في رأي منو الاستهانة به والاستخفاف بقدرته؛ فقد أصرَّ السير رالف على الرغم من جرحه الخطير الذي أُصيب به عند هجوم رواز وفرسانه على البقاء في ميدان المعركة خشية أن تختل صفوف جنده في هذه المرحلة الحاسمة من مراحل المعركة، فتحمل آلام جراحه بجلَد عظيم، حتى إذا شاهد النصر يقبل على جنوده وقد تقهقر العدو أذن بفحص جرحه بعد أن خارت قواه فأُغمي عليه ثم نُقل بعد ذلك إلى بارجة اللورد كيث حيث فاضت روحه بعد أيام قليلة (٢٨ مارس).٢٩٢
ولعل أكبر دليل على عجز منو ذلك الانقسام الذي استفحل أمره بين قواد الحملة، ووجود تلك «النوايا السيئة» التي عزا منو فشله إلى أصحابها. وفضلًا عن ذلك فقد ذاع خبر هذا الخلاف حتى عرفه أهل البلاد. أمَّا هؤلاء فقد شاطروا «أصحاب هذه النوايا السيئة» الرأي في أن منو كان لا يصلح للقيادة، وآية ذلك ما دوَّنه الشيخ الجبرتي عن تفاصيل هذه المعركة؛ إذ كتب في ١٩ ذي القعدة ١٢١٥ﻫ / ٣ أبريل ١٨٠١م: «سُمع ونُقل عن بعض الفرنسيس أنه وقع الحرب بين الفرنساوية والإنكليزية، وكانت الهزيمة على الفرنساوية وقُتل بينهم مقتلة كبيرة وانحازوا إلى داخل الإسكندرية، ووقع بينهم الاختلاف، واتهم منو ساري عسكر رينه وداماص ورابَهُ منهما ما رابه، وكانا سببًا لهزيمته فيما يظن ويعتقد فقبض عليهما وعزلهما من إمارتهما. وذلك أن رينه وداماص لما ذهبا على الصورة المتقدمة ونظر رينه وأرسل من كشف على متاريس الإنكليز فوجدها في غاية الوضع والإتقان؛ فاجتمعوا للمشورة على عادتهم ودبروا بينهم أمر المحاربة، فرأى ساري عسكر منو رأيه فلم يعجب رينه ذلك الرأي، وإن فعلنا ذلك وقعت الغلبة علينا وإنما الرأي عندي كذا وكذا، ووافقه على ذلك داماص وكثير من عقلائهم، فلم يرضَ بذلك منو وقال: أنا ساري عسكر وقد رأيت رأيي، فلم يسعهم مخالفته وفعلوا ما أمر به، فوقعت عليهم الهزيمة وقُتل منهم في تلك الليلة خمسة عشر ألفًا. وتنحى رينه وداماص ناحية ولم يدخلا في الحرب بعسكرهما، فاغتاظ منو ونسبهما للخيانة والمخامرة عليه وتسفيههما لرأيه …»٢٩٣ ومع أن بعض هذه التفاصيل لم يكن صحيحًا، فالواضح من رواية الشيخ الجبرتي أن الرأي الذائع في سبب الهزيمة كان أولًا: اعتداد منو برأيه الخاطئ، وإصراره على مخالفة ما انعقد عليه رأي «العقلاء» من قواده، وفي ذكر «العقلاء» تسفيه خفي وإن كان ملموسًا لرأي منو نفسه، وثانيًا: عدم اشتراك رينييه وداماس في المعركة بسبب ما كان بينهما وبين منو من خلافاتٍ مستحكمة.

زحف الإنجليز على القاهرة

وظهر أثر هذه الخلافات العميقة عندما شرع القواد الفرنسيون يتدبرون الموقف بعد انسحاب الجيش المنهزم إلى مرتفعات نيكوبوليس، فقد رأى فريق منهم أن يغادر الجيش بقيادة منو الإسكندرية بعد أن يترك بها حامية للدفاع عنها، فيتخذ مواقعه في الرحمانية، على أن تجتمع بالرحمانية كذلك جميع القوات الأخرى فلا يبقى إلَّا بعض الفرق في قلعة القاهرة وقلعة جوليان (برشيد) وعزبة البرج. وكان الغرض من الانتقال إلى الرحمانية اختيار مكان يسهل منه مراقبة عمليات الإنجليز والعثمانيين العسكرية من الشمال والشرق، ثم حشد القوات الفرنسية سريعًا لمقابلة جيوش الأعداء متفرقة في أي مكان يأتي الخطر منه وفي الوقت المناسب، فيستأنف جيش الشرق الموجود في الرحمانية الهجوم على الإنجليز إذا قرَّ رأي هؤلاء على البقاء في الشواطئ، أو يذهب لملاقاة جيش الصدر الأعظم إذا زحف يوسف ضيا باشا عن طريق الصحراء،٢٩٤ وقد اتفقت كلمة مؤرخي حملة ١٨٠١م العسكرية على أن هذه كانت أفضل الخطط — من الناحية النظرية على الأقل — التي وجب اتباعها.٢٩٥ وكان من كبار الداعين لهذا الرأي الجنرال رينييه الذي كان يتوقع بعد هزيمة كانوب أن يقوم الإنجليز والعثمانيون بحملة مزدوجة من البر والبحر تزيد من خطورة مركز الفرنسيين في الإسكندرية وغيرها من المواقع.

ومما هو جدير بالذكر أن رينييه طلب مراتٍ عدة بعد معركة كانوب مقابلة منو ليشرح له الموقف، ويتحدث إليه في خطط الدفاع عن مصر الواجب اتخاذها، وعندما عجز عن الحصول منه على إجابات مقنعة وجد رينييه لزامًا عليه في آخر الأمر أن يدون آراءه في كتاب بعث به إلى منو في ١٣ أبريل سنة ١٨٠١م عرض فيه الموقف بإيجاز، وأشار إلى حديثه مع قائد الحملة العام في صباح اليوم نفسه، ثم شرع يذكر تفصيلات عسكرية من شأن العمل بها تقوية جناحَي الجيش، واحتلال المواقع التي تصلح قواعد يمكن استخدامها لدفع هجوم العدو عن الإسكندرية. ورأى رينييه أن الإشارة إلى خبرته الشخصية وتجاربه الماضية مدة عشر سنوات قضاها في قيادة الجيوش والخدمة العسكرية النشيطة، فضلًا عن اهتمامه وزملائه بالمحافظة على شرف الجيش الفرنسي من جهة، ورغبتهم جميعًا في المحافظة على هذه البلاد من جهة أخرى؛ رأى رينييه في ذكر ذلك كله شيئًا قد يفيد في تعزيز مقترحاته.

أمَّا هذه المقترحات فأهمها أن يجمع منو القوات التي كانت لا تزال بعد معركة كانوب مبعثرة في أنحاء البلاد، والتي أشار رينييه بضرورة جمعها قبل المعركة كذلك، بل منذ أن علم بوصول الأسطول الإنجليزي إلى أبو قير، والغاية من ذلك إمكان القيام بعمليات عسكرية ناجحة. واتخذ رينييه من بطء حركات العدو سواء الجيش الإنجليزي الذي قل نشاطه الظاهر بعد الاستيلاء على رشيد على نحو ما يأتي ذكره، أم الجيش العثماني الذي بدأ زحفه البطيء من مدة قريبة؛ ذريعة للإسراع بجمع جيش الشرق في مكان يسهل منه تعطيل عمليات العدو. وفضلًا عن ذلك فإن جمع الجيش في موقع مختار يتيح للفرنسيين فرصة كسب الوقت في أثناء تعطيل عمليات العدو حتى تصلهم النجدات من فرنسا أو يأتيهم ما قد تصدره إليهم حكومة القنصل الأول من أوامر ترتئي إرسالها إليهم. وعلى كل حال فإنه سوف يصبح في قدرة منو انتظار ما قد تسفر عنه مفاوضات الصلح في لندن إذا كان ما بلغ «رينييه» عن سقوط وزارة «بت» صحيحًا.٢٩٦
ولكن منو لم يشأ الإجابة على هذه الرسالة، ولم يجد في الآراء التي تقدم بها رينييه وزملاؤه إلَّا وسيلة لخذلانه والقضاء عليه، فرفض العمل بها.٢٩٧ وكان منو يرى مراكز الفرنسيين بالإسكندرية منيعة، ونفى أن الصدر الأعظم في وسعه أن يتقدم ويعبر الحدود، وقال إن الإنجليز على الرغم من انتصارهم الأخير سوف يرحلون على سفنهم، وإن جمع جيش الشرق في مكان واحد كالرحمانية ليس الغرض منه سوى إخلاء البلاد من الحاميات الفرنسية تمهيدًا للجلاء عن مصر على نحو ما يريد المعارضون للاستعمار من جماعة رينييه وداماس وهكتور دور ومن إليهم. وعلى ذلك فإن هيئة أركان الحرب الفرنسية هي نفسها مصدر الخطر على الجيش كله، وإن من واجبه البقاء بالإسكندرية حتى يتمكن من إحكام الرقابة على هؤلاء الأعداء الخفيين الذين استهدفوا من زمن طويل لغضبه.٢٩٨ وفضلًا عن ذلك اعتقد منو أن أنصار الجلاء الذين يشيرون عليه بالخروج من الإسكندرية إلى الرحمانية أو إلى أي مكان آخر لم يكن غرضهم سوى المجازفة بجيش الشرق كله بتعريضه لهجوم العدو عليه في أرض منبسطة سهلة بعد حرمانه من مواقعه الحصينة في الإسكندرية. وكان من رأي بليار (منذ ٢٧ مارس) أن هزيمة الجيش الجديدة بعد حشده واستئناف الهجوم مرة أخرى سوف ينجم عنها ولا شك إصرار العدو على إملاء شروطه القاسية والمجحفة على قائد الحملة العام.
وعلاوةً على ذلك اعتقد منو أن رينييه وداماس إذا كُتب لجيش الشرق النصر، سوف يتخذون من هذا الانتصار ذريعة لإرغام منو وإرغام الإنجليز والعثمانيين كذلك على قبول ذلك «التسليم المشرف» الذين ظلوا يسعون لتحقيقه بكل قواهم زمنًا طويلًا؛ لذلك كان من رأي منو «اتباع خطة الحرب الدفاعية» بالبقاء في الإسكندرية من جهة، والاطمئنان إلى استمرار طريق المواصلات مع فرنسا مفتوحًا وكسب الوقت حتى تأتيه تلك النجدات التي وعده بها القنصل الأول من جهة أخرى.٢٩٩
وكتب نابليون فيما بعد أن الفرنسيين خسروا في معركة ٢١ مارس حوالي الألفين بين قتيل وجريح، ولا يمكن تعويض هذه الخسارة الفادحة إلَّا إذا أحضر غانتوم النجدات التي كان ينتظر وصولها كل إنسان بفارغ الصبر، ولو أن الجميع وقد طال انتظارهم سرعان ما فقدوا الأمل في مجيء هذه النجدة ما عدا منو الذي ظل وحده يعتقد أنها لا بدَّ آتية. وقد نجم عن خسائر الفرنسيين الكبيرة أن الفرنسيين لم يكونوا في أعداد تسمح لهم بالابتعاد عن الإسكندرية بعد أن يتركوا بها حامية تكفي للدفاع عنها، وكان يخيفهم زحف الصدر الأعظم عبر صحراء الشام على مصر، كما استبد بهم القلق على مصير القاهرة، وقال نابليون: إن هذه صعوبات لم يكن يستطيع مواجهتها والتغلب عليها سوى قائد محنك قدير. ولم يكن نابليون في يوم من الأيام يعتقد أن الجنرال منو صاحب عبقرية أو دراية في فنون الحرب والقتال.٣٠٠
ويعزو بعض ثقات المؤرخين تصميم منو على البقاء بالإسكندرية ورفض نصيحة رينييه أو قواده الآخرين الذين أشاروا عليه بضرورة حشد الجيش في الرحمانية؛ إلى أنه كان يعترف في قرارة نفسه بعجزه عن إدارة العمليات العسكرية ووضع خطط المعارك الناجحة، ومعنى الانتقال إلى الرحمانية واتخاذها مركزًا لإدارة الحرب المقبلة أن يضطلع بأعباء القيادة، وهذا ما كان يخشاه ويريد أن يتجنبه بكل وسيلة، وبخاصة عندما ثبت في معركة نيكوبوليس أن أحدًا لا يستطيع الاعتماد على تدابير القائد العام وخططه، ناهيك بما يسببه له مجرد إصدار الأوامر لقواده عند الاستعداد للخوض في غمار أية معارك من تعب ذهني لا قدرة له على احتماله.٣٠١ وفضلًا عن ذلك فإن بقاءه بالإسكندرية يجنبه مخاطر كثيرة؛ إذ يقتضي وجود القائد العام بهذه المدينة الحصينة وجود أكبر قوات الجيش معه وفي ذلك حماية لشخصه، إلى جانب احتمائه وراء أسوار المدينة وتحصيناتها الكثيرة.٣٠٢
وعلى ذلك رفض منو نصيحة قواده المحنكين، وقرر البقاء بالإسكندرية وتوزيع قواته بدلًا من حشدها بالرحمانية. وعملًا بخطة الحرب الدفاعية التي صمم على اتباعها أصدر أوامره إلى رؤساء المهندسين وسلاح المدفعية بتحصين مرتفعات نيكوبوليس الممتدة أمام الإسكندرية، حتى ينشئوا سدًّا من التحصينات المنيعة في وجوه الإنجليز. ولما كان الإنجليز بعد انتصارهم في ٢١ مارس قد ظلوا بعض الوقت دون حراك فقد أمن منو جانبهم، حتى إنه كتب إلى بليار في ٥ أبريل أن العدو في حال يسوء كثيرًا عن حال الفرنسيين بسبب انتشار المرض ونقص المؤن الشديد لديه، وكان مما زاد منو اطمئنانًا على قدرته على الدفاع عن الإسكندرية ما كان لديه من مؤن وذخائر وأموال اعتقد أنها تكفيه شهورًا عدة، كما أن في استطاعته أن يجلب مؤنًا وأغذيةً كثيرة بفضل بقاء المواصلات مفتوحة مع البلاد الداخلية عن طريق مريوط. وقد أمكن منو ببذل بعض المال أن يقنع عربان أولاد علي أن يأتوه بشيء من المؤن، وأرشدتهم فرق الهجانة الفرنسية إلى الطريق الذي يحضرون منه هذه المؤن إلى الإسكندرية.٣٠٣ وأصر منو على بقاء الحاميات في مواضعها، فاستدعى فقط جند حاميات ميت غمر ومنوف وسحب بعض الجنود من بلبيس والصالحية، ولو أنه أصدر أمرًا طلب فيه عودة جند الصعيد، ثم لم يرسل إلى الرحمانية وإلى رشيد سوى نفر قليل، فقرر إرسال ألف ومائتي جندي إلى الرحمانية ما لبث أن أنقصهم إلى النصف، وأمر الجنرال موران Morand في دمياط أن يترك مائة جندي فقط في عزبة البرج وعددًا مماثلًا في الديبة وأم فرج ويذهب بالباقين إلى الرحمانية مع المدفعية. ومع ذلك فإن الأعرابي الذي حمل هذه الأوامر فشل في إيصالها إلى موران.٣٠٤

غير أن الإنجليز الذين توقع منو أن يطول خمولهم بعد انتصار ٢١ مارس حتى يضطروا في النهاية إلى ركوب البحر والعودة أدراجهم؛ سرعان ما استأنفوا نشاطهم عندما تبين للجنرال هتشنسون — الذي خلف أبركرمبي في القيادة — أن الوقوف بلا حراك أمام تحصينات الإسكندرية من شأنه إذا طال أمده أن يذهب بثمار انتصار نيكوبوليس. وواقع الأمر أن مركز الإنجليز بعد هذا الانتصار كانت تكتنفه الصعوبات من كل جانب، فمع أنهم أحرزوا نصرًا ظاهرًا في المعركة فإن هذا النصر لم يكن حاسمًا بالدرجة التي تمكِّنهم من اقتحام تحصينات نيكوبوليس والإسكندرية، فجيش الشرق لا يزال قويًّا وتنتشر فرق منه في أنحاء البلاد. ولم يكن غرض الإنجليز الاستيلاء على الإسكندرية فحسب، بل الاستيلاء على معاقل الفرنسيين الأخرى. وفضلًا عن ذلك فإن من أهم الصعوبات التي واجهتهم إلى جانب ضرورة الاستيلاء على هذه المعاقل والحصون، كان اتخاذ التدابير التي تكفل لهم الحصول على المؤن والأغذية عند زحفهم في داخل البلاد، فضلًا عن فتح طريق للمواصلات بينهم وبين جيش الصدر الأعظم من جهة وجيش الهند من جهة أخرى.

وقد زاد من صعوباتهم انتشار الطاعون وغيره من الأوبئة والأمراض التي صارت تفتك بجنودهم وتهدد بنقص أعدادها. ولما كان اللورد كيث الأميرال الإنجليزي يعتزم مغادرة الشواطئ المصرية بعد شهور قليلة لحاجة بعض سفنه إلى الترميم والإصلاح وللتزود بالمؤن والذخائر، ولأنه كان يخشى من اشتداد الأنواء في البحر الأبيض وعلى الشواطئ الشمالية بعد شهر أكتوبر؛ فقد بات ضروريًّا استئناف العمليات العسكرية والفراغ من الحملة بكل سرعة في ظروف لم تكن مواتية.٣٠٥ أضف إلى هذا أن الإنجليز كانوا قد خسروا في العمليات السابقة حوالي ألف وأربعمائة مقاتل عدا القتلى والجرحى من الضباط، وقد بلغ عدد هؤلاء ثلاثًا وسبعين لم يلبث هتشنسون أن طلب عوضًا عنهم نجدات جديدة من حاميات مينورقة في مساء يوم معركة نيكوبوليس نفسه.٣٠٦ ويبدو أن هتشنسون بسبب هذه الصعوبات كان بعد المعركة على استعداد لإنهاء القتال مع الفرنسيين والوصول إلى اتفاق معهم على أساس اتفاق العريش القديم، فيحذو في ذلك حذو السير رالف أبركرمبي نفسه قبل الموقعة.
وعزز هذه الرغبة ما كان السير سدني يدعو إليه في كل مناسبة، فقد تمسك السير سدني سمث دائمًا بسياسة الوصول إلى إخلاء مصر نظير عقد الصلح مع الفرنسيين على أساس تسليم هؤلاء دون إلحاق أية إهانة بهم أو إذلالهم، وكان من خطته في كل وقت أن يلوح للفرنسيين باتفاق العريش كأداة تمكِّنهم إذا شاءوا استخدامها من إنهاء نزاعهم مع الإنجليز وحلفائهم العثمانيين. ونصح السير سدني في هذه الظروف بأن يقبل هتشنسون جلاء الفرنسيين لقاء تسليم هؤلاء بصورة تحفظ لهم الشرف العسكري، ووافق هتشنسون٣٠٧ وقام بمهمة عرض الصلح السير سدني نفسه، فتقدم في مساء يوم ٢٣ مارس وهو يرفع راية الهدنة حتى وصل إلى مخافر الفرنسيين الأمامية وطلب مقابلة الجنرال فريان «قومندان الإسكندرية»، ولكنه لم يُسمح له باجتياز خطوط الفرنسيين، فأرسل السير سدني كتابًا من السير رالف أبركرمبي (وكان لا يزال على قيد الحياة) واللورد كيث يقترح جلاء الفرنسيين عن مصر، ونقلهم إلى فرنسا أحرارًا طليقين دون اعتبارهم أسرى حرب، ثم يطلب إليهم تسليم سفنهم ومدفعيتهم وعتاد الحرب إلى الإنجليز، فيحتفظ جيش الشرق بأعلامه وسلاحه البسيط ومقتنيات جنوده الخاصة لقاء إنهاء القتال وعقد الصلح معهم.
غير أنه لما كان منو لا يفكر بتاتًا في إخلاء مصر، فقد جاء جواب فريان في صبيحة اليوم التالي يحمل رفض هذه العروض، ويظهر صاحبه الدهشة من مقترحات لا يجد ما يسوغ صدورها أو التفكير فيها، ويؤكد عزم الفرنسيين على الدفاع عن مصر إلى النهاية، ومع ذلك فقد شكر فريان كبير قواد الإنجليز لما يظهره من عطف على الجرحى الفرنسيين الذين وقعوا في أسره.٣٠٨ على أن السير سدني سمث لم يلبث أن علم بفضل أحاديثه مع الجنود في المخافر الأمامية أنهم إنما يحاربون لأن نظام الجيش وواجب الجندية يفرضان عليهم ذلك ولا يقاتلون من أجل المحافظة على مصر، تلك البلاد التي تدل الدلائل جميعها على أن الإنجليز سوف يخلفونهم في احتلالها قريبًا. وقد أكَّدت هذه المعلومات للسير سدني أن من سداد الرأي المضي في تلك الخطة التي اتبعها دائمًا، وهي التلويح لهؤلاء الجند بمغادرة البلاد والعودة إلى الوطن وفق شروط تحفظ لهم كل مظاهر الشرف العسكري، وأثبتت الحوادث فيما بعد أن تلك كانت خطة ناجحة عندما سهل على فرق من المقاتلة الفرنسيين أو حاميات بأكملها إلقاء سلاحهم وتفضيل التسليم على مواصلة القتال في أثناء الشهور القليلة التالية.٣٠٩
واستقامت الأمور في المعسكر الإنجليزي بعد مضيِّ أيام قليلة، فقد حدث في يوم ٢٥ مارس أن وصل إلى أبو قير القبطان باشا على رأس عمارة تركية من ست بوارج وبضع فرقاطات عدا سفن القتال الصغيرة والنقالات، وقد بلغت جميعها سبعًا وخمسينً مركبًا تحمل حوالي أربعة آلاف مقاتل.٣١٠ ولما كان أبركرمبي ينتوي استخدام قوات العثمانيين في الاستيلاء على رشيد، فقد قرر هتشنسون إرسال الجنرال سبنسر Spencer على رأس قوة من أربعة آلاف مقاتل تركي وألفين من الإنجليز للاستيلاء على رشيد من أجل السيطرة على مصب النيل عند هذه البلدة، وتمهيدًا لدخول زوارق المدفعية في فرع رشيد عند الزحف على القاهرة. وفي ٣ أبريل أخبر سانت فاوست Saint Faust قومندان المدفعية منو أن الإنجليز قد أنشئوا مركزًا قويًّا في القلعة المربعة الواقعة على بعد فرسخ شمالي رشيد على البر الغربي، ووضعوا بها أربعة آلاف جندي عثماني استعدادًا للهجوم على رشيد ذاتها، فبعث منو بأحد ياورانه مع قوة من الفرسان للاستطلاع بين إدكو والقلعة المربعة، ولما لم تكن لهذا الضابط دراية بهذه الشئون فقد اكتفى بالتجول أمام رشيد، واعتمد في المعلومات التي جمعها على ما بلغه من احد العربان بهذه الجهة، وعاد أدراجه يحمل في جعبته تقريرًا مطمئنًا، فحواه أن الغرض من احتلال القلعة المربعة لم يكن سوى إنشاء مستشفى لعزل الأتراك عن بقية الجيش، وأن القوة التي بها لا تزيد على سبعمائة أو ثمانمائة جندي فحسب.
ومع ذلك فقد نقل شيخ إدكو في يوم ٦ أبريل أخبارًا مزعجة إلى سانت فاوست عن عدد القوات النازلة في القلعة المربعة وعن حركات العدو عمومًا، وأنه يستعد للزحف على رشيد في اليوم التالي. وكان هذا الشيخ صادق الولاء للفرنسيين منذ قدومهم إلى هذه البلاد، ورجا الشيخ قومندان رشيد أن يحرق رسائله وأن يمتنع عن مكاتبته خوفًا من وقوع هذه الرسائل والمكاتبات في أيدي العدو. وعندئذٍ لم ير سانت فاوست بدًّا من نقل المدفعية ثم المرضى والجرحى من جنوده إلى قلعة «جوليان» أو قلعة رشيد. ولما كان الشيخ قد أبلغه أن قوات العدو تبلغ أربعة آلاف ولم تكن لدى سانت فاوست قوات كافية لصدهم، فقد قرر إنزال جميع الرجال الإداريين من السفن وانتقل إلى البر المقابل يرقب حركات العدو من جهة، وحتى يستطيع الحركة بقواته القليلة على شاطئ الدلتا، غير أنه ما لبث أن عاد أدراجه عندما انقضى اليوم (٧ أبريل) دون أن يبدو أثر للعدو. على أن طلائع الأتراك سرعان ما ظهرت أمام رشيد في اليوم التالي واشتبكوا مع الفرنسيين، وعندئذٍ قرر سانت فاوست إخلاء المدينة. وحدث في هذا الوقت أن حضر سارتلون Sartelon مدير المهمات مكلَّفًا من منو بنقل المؤن إلى الرحمانية، فلم يجد في رشيد وسائل كافية للنقل ولم يكن هناك وقت لنقل شيء فغادرها بسرعة، وأخليت رشيد وبقيت حامية صغيرة في قلعة جوليان ثم في برج أبو مندور، أمَّا سائر القوات فقد انسحبت إلى فوة وإلى الرحمانية. وفي عصر اليوم نفسه شاهد المراقبون في برج أبو مندور جيش العدو يزحف على رشيد وعلى قلعة جوليان، وفي ١٠ أبريل اتخذ العدو مواقعه أمام رشيد فسلمت إليه المدينة دون مقاومة.
وأزعج سقوط المدينة منو وقواده؛ إذ كان من المتوقع بعد تسليم رشيد وسقوط قلعة جوليان بعد ذلك في أيدي الإنجليز أن يتمكن هؤلاء من الزحف بطريق النهر والبرِّ معًا على الرحمانية وتهديد مراكز الفرنسيين بها، وكانت حامية الرحمانية ضعيفة ويطلب قائدها لاكروا Lacroix المعونة، وأدرك منو أنه لا مناص من الاعتراف بأهمية هذا الموقع كمركز يمكن تموين الإسكندرية ذاتها منه، حتى إنه أمر بإرسال قوة من القاهرة لتعزيزها، وقامت هذه القوة فعلًا بقيادة بيبان Pépin ولكن بليار ما لبث أن أمر بعودتها بمجرد أن علم ببداية زحف الأتراك من الحدود الشرقية على القاهرة، فبلغ بيبان أمر بليار يوم ٧ أبريل وهو لا يزال على مسافة خمسة فراسخ من الرحمانية فعاد أدراجه. وعلى ذلك فقد ألح قواد الفرنسيين بضرورة اتخاذ قرار سريع وحاسم لإنقاذ رشيد، ولم يسع منو سوى إجابة رغباتهم، ومع ذلك فإن منو الذي أصر على التمسك بخطة الحرب الدفاعية لم يشأ أن يرسل إلى رشيد قوات كافية، بل بعث بالجنرال فالنتان Valentin على رأس نفرٍ قليل من الجند عجزوا عن استعادة البلدة، واستطاع الإنجليز أن يطلقوا نيران مدفعيتهم على قلعة جوليان مدة يومَي ١٧، ١٨ أبريل، وفي ضحى اليوم الثالث اضطرت حاميتها إلى التسليم. وبذلك سيطر الإنجليز على مصب فرع رشيد، وانفتح طريق النيل لدخول زوارق من مدفعيتهم مصعدة فيه صوب الرحمانية، واستطاعوا بفضل تسلطهم على هذا الفرع إنشاء شبكة من المواصلات النهرية مع بقية أجزاء الدلتا وجلب المؤن اللازمة لهم.٣١١
أمَّا القوات المنسحبة من رشيد فقد وصلت إلى فوة وإلى الرحمانية في ١١ أبريل، ولما كان لا يوجد وقتئذٍ بالرحمانية سوى خمسمائة مقاتل يعجزون عن الدفاع عنها، وأدرك منو أن سقوط الرحمانية بيد الإنجليز سوف يفصله عن القاهرة، ويحول دون وصول الإمدادات إلى الإسكندرية عن طريق النيل، وأكد كل من الجنرال فوجيير Fugières قومندان الرحمانية ثم مدير المهمات سارتلون ضرورة تعزيز حاميتها بكل سرعة؛٣١٢ فقد تقرر الآن إرسال النجدات إليها ثم تعزيز مواقع الفرنسيين الأخرى على النيل في فوة والعطف كمخافر أمامية تفيد في الدفاع عن الرحمانية ووقف الزحف الإنجليزي عليها. وعلى ذلك أمر الجنرال لاجرانج بالذهاب إلى العطف والتحصن بها في ١٥ أبريل، بينما تحصن فالنتان في فوة. واسترعى هذا النشاط الجديد انتباه الإنجليز، فعزموا على تأييد مواقعهم في رشيد وحولها، ثم حرمان الفرنسيين من الاستفادة من طريق النيل في إبقاء المواصلات مفتوحة بين الإسكندرية والقاهرة، والاعتماد على الرحمانية كمركز لإرسال المؤن من الدلتا إليهم بالإسكندرية، وعزل الرحمانية ذاتها عن بقية الجيش في الإسكندرية تمهيدًا للزحف عليها وفتح الطريق إلى القاهرة. ولما كان الإنجليز قد عثروا فيما وجدوه في أوراق الجنرال رواز على رسالة كان منو قد بعث بها إليه يتحدث فيها عن مخاوفه من أن يعمد الإنجليز إلى قطع ترعة الإسكندرية، وإحداث ثغرة في ذلك السد الذي يفصل بين بحيرة المعدية ومنخفض مريوط فتدخل منها المياه في البحيرة القديمة، فقد فكَّر الإنجليز جديًّا في قطع الترعة وإغراق منخفض مريوط حتى يمتنع وصول أي قوات أو نجدات إلى الفرنسيين عن طريق الدلتا والنيل، فضلًا عما يفيدونه من ذلك من حيث تأمين جناحِهم الأيسر بل وجزءٍ من جبهة جيشهم الأمامية أيضًا، وتخفيف شيءٍ من عبء العمليات العسكرية اللازمة لتضييق الحصار على الإسكندرية، ووضعها في معزل عن مراكز الفرنسيين الأخرى.
ومع أن هتشنسون كان يخشى في أول الأمر أن تطغى مياه البحر بحال يتعذر معها وقفها وقد تؤدي إلى تخريب الإسكندرية ذاتها، فقد وافق في النهاية على إغراق منخفض مريوط وقطع الترعة٣١٣ عندما رأى الفرنسيين يسيرون في انسحابهم من رشيد صوب الرحمانية ويحتلون فوة، ويعمدون إلى تعزيز قواتهم في العطف والرحمانية، وخشي أن يستطيع هؤلاء تهديد جيشه من الرحمانية، فبدأ الإنجليز منذ يوم ١١ أبريل بفتح أربع ثغرات بالسد الذي يفصل بين المعدية ومريوط عرضها ثمانية وعشرون قدمًا، واستطاعوا بفضل ذلك إغراق منخفض مريوط، فضلًا عن منع وصول المياه العذبة إلى الإسكندرية عند حلول فصل الفيضان في شهر سبتمبر.٣١٤ ونجم عن إغراق منخفض مريوط أن باتت جيوش الفرنسيين الثلاثة في الإسكندرية والرحمانية والقاهرة منعزلة ولا تستطيع الاتصال بعضها ببعض إلَّا بمشقة عظيمة. وفضلًا عن ذلك حُرمت الإسكندرية من طريق النهر، وأصبح تموينها من الدلتا متعذرًا، ولا تأتيها المؤن إلَّا بطريق برج العرب بعد الاستدارة خلف بحيرة مريوط الجديدة.٣١٥ وما إن اطمأن هتشنسون إلى قوة مراكزه في أبو قير والإسكندرية بعد سقوط قلعة جوليان، حتى نقل مقر قيادته إلى رشيد، واستعد للزحف على الرحمانية تؤازره قوات القبطان باشا.٣١٦
وعندما تقرر بدء الزحف في الدلتا كانت قوات الفريقين من الإنجليز والفرنسيين موزعة بصورة تمكِّن الأخيرين من القيام بعمل عسكري مفيد إذا شاء منو النزول عن خطة «الحرب الدفاعية»؛ ذلك أن حامية الإسكندرية كانت تتألف من ستة آلاف فرنسي، يقابلها نفس العدد من الإنجليز في معسكر الإسكندرية. وكان لدى الجنرال لاجرانج في العطف تسعمائة وثلاثة آلاف جندي، يقابلهم سبعة آلاف إنجليزي وستة آلاف تركي، ثم كان لدى بليار في القاهرة حوالي ثلاثة آلاف يواجهون جيش الصدر الأعظم وأعداده العظيمة.٣١٧ وواضحٌ من هذا التوزيع أن قوات العدو كانت تزيد كثيرًا على قوات الفرنسيين في العطف والقاهرة، وإن كانت قوات الفريقين تبدو متكافئة أمام الإسكندرية، فدعا هذا التوزيع القواد الفرنسيين إلى التفكير في الموقف، واستطاعوا أن يعرضوا على منو اقتراحات عدة للعمل الجدي ونبذ الحرب الدفاعية حتى يتسنى إنقاذ البلاد من خطر الغزو وإلحاق الهزيمة بالعدو. وكانت أوضح الخطط التي يجب اتباعها وأقربها منالًا أن تبادر حامية الإسكندرية بالهجوم على المعسكر الإنجليزي بمجرد خروج هتشنسون من هذه الجهات وبداية الزحف في الدلتا، فيستعيد منو السيطرة على الشاطئ ويقطع كل صلة بين الجيش الزاحف وبين مؤخرته.٣١٨
أمَّا إذا تشبث منو بالبقاء في الإسكندرية ورفض الخروج منها، فالواجب يقتضيه حينئذٍ أن يأمر لاجرانج بترك الرحمانية والانسلال من بين قوات الإنجليز والعثمانيين في الدلتا والانضمام بجيشه إلى جيش بليار في القاهرة، فيشترك الاثنان في إلحاق الهزيمة بجيش الصدر الأعظم وتشتيت فلوله وسط الصحراء، ثم يعودان أدراجهما إلى الرحمانية بكل سرعة فيلتحمان مع هتشنسون في معركة حاسمة. وكان الجنرال رينييه من مؤيدي هذه الخطة،٣١٩ كما رأى آخرون أن ينقض لاجرانج على جيش الصدر الأعظم في أثناء استعداد الإنجليز لبدء زحفهم على القاهرة.٣٢٠ وقد قدم الجنرال فريان إلى منو مشروعًا يشبه في جوهره المشروع السابق، وأساسه أن يحشدوا الجنود في الرحمانية على أن ينتقل هؤلاء الجنود إلى القاهرة إذا زحف العثمانيون عليها، فيشترك لاجرانج مع بليار في هزيمة الصدر الأعظم ثم يعودان إلى الرحمانية. فإذا ظل العثمانيون واقفين على الحدود دون حراك انتقل بليار إلى الرحمانية واشترك حينئذٍ مع لاجرانج في صد هجوم العدو ومنع السير هيلي هتشنسون وحلفائه من التوغل في الدلتا، وقطع مواصلاته مع البلاد الداخلية. وأصر فريان على عدم الاعتماد على الشاطئ الشمالي بل اعتباره في حوزة العدو، ولا جدوى من انتظار نجدات يحملها الأسطول الفرنسي من أرض الوطن، ثم كان من رأيه كذلك أنه إذا بات متعذرًا تموين الإسكندرية وجب إخلاؤها واعتلاء النهر إلى وردان وإلى القاهرة ذاتها.
وفي ٢٦ أبريل ألح لاجرانج على منو بسبب ما شاهده من امتناع الإنجليز عن مهاجمة الإسكندرية أن يترك بها حامية كافية للدفاع عنها، والاشتراك مع لاجرانج في سد طريق النيل في وجه جيش الإنجليز وحلفائهم العثمانيين الزاحف على القاهرة، أو الصعود في النيل سريعًا حتى يتمكن من سبق العدو في الوصول إلى القاهرة. وكان من رأي لاجرانج أن يتخذ منو من الرحمانية مكانًا يحشد به الجيش، وقاعدة لتوجيه العمليات منها ضد جيش الصدر الأعظم والسير هيلي هتشنسون على السواء. ويبدو أن منو قد أدرك ما تنطوي عليه هذه الخطة من حكمة بالغة، فكتب إلى بليار في ٣ مايو أنه سوف يحضر إلى القاهرة بعد أيام قليلة بمجرد الفراغ من تحصين الإسكندرية، وأخبر لاجرانج في الوقت نفسه أنه سوف يجيء إليه في العطف بعد يومين اثنين فقط مع سائر الجند. وقد أجمع الثقات على أنه لو نفذ منو هذه الخطة لأصبح ميسورًا استبقاء مصر في أيدي جيش الشرق وطرد العدو من أرضها،٣٢١ ولكن شيئًا من ذلك لم يحدث.
وأفاد الإنجليز من تردد الفرنسيين وبطء حركاتهم، وأرسل هتشنسون نجدات جديدة لتعزيز قوات الجنرال سبنسر Spencer الذي ذهب إلى الحماد. وما إن وصل الكونترأميرال بارلس وارين Barlesse Waren يحمل أسطوله بعض النجدات، حتى قرر هتشنسون مغادرة رشيد إلى الحماد بعد أن ترك الجنرال كوت على رأس الجيش المرابط أمام الإسكندرية لحصارها وكان يتألف من ستة آلاف مقاتل، بينما أخذ هتشنسون معه حوالي خمسة آلاف جندي.٣٢٢ ولاحظ الإنجليز أن وجود لاجرانج في العطف لا يحول دون مرور جيوشهم بين ميسرته وبين بحيرة إدكو، كما لاحظوا أن الطريق لا يزال خاليًا من كل عائق بين إدكو وبين بحيرة المعدية، وفي استطاعتهم أن يرسلوا منه جيشًا على دمنهور حتى يقوم بالهجوم على الرحمانية من الجهة الغربية،٣٢٣ وعلى ذلك قرَّ رأي هتشنسون على الزحف على العطف ثم على الرحمانية. وبدأ سير الجيش الإنجليزي العثماني من الحماد في ٥ مايو، بينما اعتلت قوارب المدفعية والسفن المسلحة فرع رشيد.٣٢٤ وحدث قبل الزحف بيومين أن وصل إلى معسكر الإنجليز في الحماد رسول يحمل إلى القائد الإنجليزي رسائل من مراد بك وأتباعه ردًّا على كتاب كان قد بعث به هتشنسون إلى مراد وأرفق به فرمانًا من السلطان وضمانًا من القبطان باشا يؤمِّن مراد بك إذا هو انحاز إلى جانب الجيوش التي حضرت لتخليص البلاد من العدو الغاصب، فأكَّد الآن مراد بك استعداده للانضمام إلى القائد الإنجليزي إذا زحف جيشه على القاهرة، وأبدى عجزه عن القيام بأي عملٍ حاسم قبل بداية هذا الزحف.
ولما كان مراد قد مات بعد ذلك بالطاعون في ٢٢ أبريل، وأوصى وهو على فراش الموت بأن يخلفه في رياسة أتباعه عثمان بك الطنبورجي؛ فقد بعث هذا بخطاب كذلك إلى السير سدني سمث يعلن فيه وفاة مراد، وسوَّغ ما فعله مراد من قبول الاتفاق مع الفرنسيين بعجزه عن مقاومتهم، ولكنه أكَّد الآن تأييد أغراض الإنجليز وحلفائهم. وقد ارتاح الإنجليز لانحياز البكوات المماليك إلى جانبهم بسبب ما كان لدى هؤلاء من فرسان عديدين منظمين، ولأنهم كانوا يعرفون البلاد وأهلها معرفةً جيدة.٣٢٥ وفضلًا عن ذلك فقد أسفر تأييد مراد وأتباعه للإنجليز عن انضمام ذلك الثائر المغربي القديم مولاي محمد إلى جيش هتشنسون الزاحف من الحماد، وكان يستمتع باحترام ونفوذ عظيمين بين الأهلين الذين نظروا إليه كأحد القديسين لما اشتُهر عنه من الصلاح والتقوى والجهاد في سبيل الله، كما أنه غدا في نظرهم رمز المقاومة العنيفة ضد أعدائهم الفرنسيين.٣٢٦
على أن الإنجليز سرعان ما أرغموا فالنتان على إخلاء فوة،٣٢٧ وما إن اقترب هتشنسون من العطف حتى بادر لاجرانج بإخلائها والانسحاب إلى الرحمانية (٧ مايو) بعد مناوشات يسيرة ودون أن يقوم العدو بأي هجوم على مراكز الفرنسيين بها، ودُهِش الإنجليز لهذا الانسحاب عندما وجدوا تحصينات العطف قوية، وتمتد في عرض السهل حوالي ثلاثة أميال من النيل جنوب بحيرة إدكو،٣٢٨ غير أنه يبدو أن لاجرانج كان يخشى من أن يطوقه الإنجليز لأن التحصينات كانت تحمي في واقع الأمر مواقعهم الأمامية، بينما ظل في إمكان العدو المرور من الفضاء الواقع بين ميسرة الفرنسيين وبين بحيرة إدكو.٣٢٩ وكان هتشنسون عندما بدأ زحفه على العطف يجهل حقيقة قوات الفرنسيين بها، ولكنه ما لبث بعد سقوطها أن عثر على عددٍ من الوثائق علم منها أن جيش العدو كان لا يزيد على أربعة آلاف جندي تقريبًا، وعرف كذلك أن بليار كان يشكو من انتشار وباء الطاعون بين جنوده في القاهرة، ويشكو من قلة ما لديه من قوات تمكِّنه من الاحتفاظ بمركزه طويلًا، فشجعت هذه المعلومات هتشنسون على المضي في زحفه.٣٣٠
وفي ظهر يوم ٩ مايو وصل هتشنسون أمام الرحمانية، وبدأ القتال بين الفريقين، ومع أن الإنجليز عدُّوا هذا القتال «مناوشة بسيطة» على خلاف ما يدَّعي الفرنسيون، فقد قرر لاجرانج في مساء اليوم نفسه إخلاء الرحمانية، وجرى الإخلاء في ليل ٩-١٠ مايو، وفي صبيحة ١٠ مايو سلمت الرحمانية٣٣١ في نظير احتفاظ الضباط بسيوفهم ومقتنياتهم الخاصة وإرسال الجند إلى فرنسا بعد أن يتعهدوا بعدم الاشتراك في حروب ضد إنجلترا وحلفائها، إلَّا إذا أعاد الفرنسيون عددًا مماثلًا لهم من أسرى الإنجليز وحلفائهم إلى أوطانهم.٣٣٢ وانقطعت بسبب سقوط الرحمانية كل صلة بين جيش الفرنسيين في الإسكندرية والقاهرة، وكان مما أفاد الإنجليز ولا شكَّ تردد منو وبطء حركته الشديد، فقد كان في وسعه أن ينفذ بين يومَي ٣، ٩ مايو ذلك الوعد الذي قطعه على نفسه لقائديه في الرحمانية والقاهرة، فيذهب بالجيش إلى الرحمانية ويضم صفوفه إلى صفوف لاجرانج في منازلة الإنجليز، ولكنه بدلًا من ذلك ظل متشبثًا بأوهامه ينتظر وصول غانتوم بالنجدات التي وعد بها القنصل الأول. وكتب إلى وزير البحرية الفرنسية في ٣ مايو يسأله عن سبب تأخر وصول غانتوم، ويذكر له ما كان في استطاعة أمير البحر أن يفعله من منع وصول النجدات لو أنه حضر إلى الشواطئ المصرية في الوقت المناسب.٣٣٣ وأخيرًا وافق منو على إرسال الجنرال دليجورج Delegorgue على رأس قوة لنجدة الرحمانية، ولكن دليجورج ما إن وصل إلى بركة غطاس حتى جاءته الأخبار بسقوط الرحمانية، فعاد أدراجه ووصل إلى الإسكندرية بعد يومين فقط من خروجه منها.٣٣٤ ومما يجدر ذكره أن الإنجليز استطاعوا أسر قافلة من السفن كانت حاضرة عن طريق قناة منوف تنقل مهمات كثيرة، وتبغي الاشتراك في الدفاع عن الرحمانية والإسكندرية، ولكنها بلغت الرحمانية بعد انسحاب لاجرانج فاستولى عليها الإنجليز يوم ١٤ مايو.٣٣٥ أمَّا لاجرانج فقد استطاع المضي إلى القاهرة فوصل إلى الجيزة في يوم ١٣ مايو، ثم عبر النهر إلى بولاق وانضم إلى جيش بليار، وبات مصير الجيش في القاهرة والإسكندرية من ذلك الحين رهنًا بيد القدر.٣٣٦
وكان على القائد الإنجليزي بعد سقوط الرحمانية أن يتدبر الموقف، فهو يرى الجنود المنسحبين من الرحمانية يسيرون في طريق القاهرة، وكان عليه أن يستأنف الزحف على القاهرة في أثرهم ويتعقبهم ويطاردهم دون هوادة، ويرى قواده من جهة أخرى أن الموقف أمام الإسكندرية قد تحسن كثيرًا بسبب وصول النجدات الأولى الآتية من مالطا ونزولها في أبو قير منذ يوم ٩ مايو، فضلًا عن الأخبار التي بلغتهم عن زحف الصدر الأعظم على الصالحية، كما كثرت الإشاعات عن ظهور أسطول الهند في البحر الأحمر. وكان مما دعا القواد إلى اختيار العودة إلى الإسكندرية بدلًا من الاستمرار في الزحف على القاهرة خوفهم من عدم قدرة الجنود على احتمال قيظ الصيف الشديد وحاجتهم الملحة إلى المؤن والذخائر، وذعرهم من تفشي وباء الطاعون في القاهرة خصوصًا، واعتقادهم بأن لدى بليار في هذه المدينة قوات تفوق جيوشهم عددًا وعدةً، واستحالة حصار القلعة بصورة مجدية. ولما كانت هذه كلها اعتبارات لا وزن لها في نظر القائد العام للحملة، ولم يكن الغرض منها سوى ستر نفور القواد وسائر الضباط من السير هيلي هتشنسون؛ فقد قرَّ رأي القائد العام على الزحف صوب القاهرة، فأغضب هذا القرار قواده لدرجة بلغت حد التمرد والعصيان، حتى إنهم طلبوا حضور الجنرال كوت من الإسكندرية والجنرال مور الذي ظل في رشيد بسبب جرحه حتى يتوليا القيادة، ونشأت في المعسكر الإنجليزي حركة عصيان وانقسام تشبه كثيرًا ما كان يشكو منه منو في المعسكر الفرنسي نفسه، ولكن أحدًا من كبار القواد الإنجليز لم يؤيد هذه الحركة، فامتنع كل من كوت ومور عن إجابة رغبات المتمردين واستطاع هتشنسون أن ينفذ إرادته،٣٣٧ ورجحت كفة القائلين بوجوب الزحف على القاهرة لمطاردة الفرنسيين المتقهقرين من جهة، ولتغطية جيش الصدر الأعظم الزاحف على القاهرة والاتصال مع جيش الهند عند وصوله من جهة أخرى.٣٣٨ وفي ١٤ مايو غادر هتشنسون الرحمانية في طريقه إلى القاهرة، ثم عسكر الإنجليز في علقام يوم ١٧ مايو، وفي اليوم نفسه أبلغهم العربان أن قوة من الفرنسيين قد جاءت إلى هذه الجهات تقصد الذهاب إلى القاهرة وتتقدم صوب النيل قريبًا من المكان الذي ترابط فيه سفن القبطان باشا، فبعث هتشنسون في أثرها فرسانه بقيادة الجنرال دويل.٣٣٩
وتفصيل ذلك أن منو أرسل في ١٤ مايو كفالييه قائد الهجانة إلى إقليم البحيرة حتى يجمع من القرى المؤن والأغذية، فخرج كفالييه من الإسكندرية ومعه قافلة كبيرة من الجمال (حوالي التسعمائة جمل)، يحرسها جنود من المشاة والفرسان والهجانة بلغوا ٤٤٥ جنديًّا ويستخدمون مدفعًا واحدًا. وزار كفالييه في أثناء تطوافه قريتين من قرى البحيرة وجدهما خاويتين على عروشهما ولا مؤن بهما. ولما كان يجهل أن الإنجليز غادروا الرحمانية، فقد قرر الذهاب إلى النيل واعتلاء النهر إلى القاهرة بدلًا من العودة إلى الإسكندرية، ولكنه فوجئ برؤية سفن القبطان باشا في النهر واعتقد أن العدو قريب منه. وعلى ذلك ارتد إلى الصحراء وشكَّل مربعًا ليدفع عن قافلته هجمات العربان الذين ظلوا يتعقبونه ويطلقون النار عليه من كل جانب. وكان في أثناء هذا الارتداد أن وجد كفالييه نفسه فجأة وجهًا لوجه أمام قوات الجنرال دويل، ومع أنه استطاع أن يشق طريقه بكل صعوبة، فقد اشتدت مطاردة الإنجليز والعربان له، وبات يتوقع هجومًا عنيفًا على مؤخرته وجناحيه؛ ولذلك فإنه ما إن أرسل دويل له مفاوضًا يعرض عليه التسليم بنفس الشروط التي جرى بها تسليم الرحمانية حتى قبل كفالييه ووقع على شروط التسليم عند قرية كوم شريف في ١٧ مايو.٣٤٠ وغضب منو عندما بلغه الخبر فأصدر أمرًا يوميًّا وصف به كفالييه بالجبن والخيانة إذ سلم للعدو دون إطلاق رصاصة واحدة ومعه حوالي السبعمائة من الجنود. وانقسم الرأي في هذه المسألة فاعتقد البعض أن كفالييه كان يُستهدف لهلاك محقق لو أنه رفض عروض الإنجليز،٣٤١ بينما علل فريقٌ آخر من الإنجليز خصوصًا هذا الحادث بأن الجنود الفرنسيين بعد معركة كانوب كانوا قد بدءوا ينبذون الطاعة ونفد صبرهم، وصار يكفي المرء أن يذكر اسم فرنسا أو يلوح لهم بالعودة إلى الوطن حتى يفقدوا كل سيطرتهم على أعصابهم، وعجز كفالييه عن مقاومة هذا الشعور العنيف وهذه العاطفة الجامحة.٣٤٢
وحدث في اليوم الذي سلم فيه كفالييه أن انسحب الفرنسيون من عزبة البرج والبرلس، وكان الإنجليز قد قرروا الهجوم على العزبة وأرسل الصدر الأعظم قوات كبيرة مع خمسة مدافع لهذا الغرض بقيادة إبراهيم باشا، فاحتل العثمانيون دمياط التي أخلاها الفرنسيون دون معارك، ثم هاجموا العزبة بالاشتراك مع سفن المدفعية الإنجليزية التي دخلت البوغاز، ولكن الفرنسيين أخلوا العزبة في أثناء الليل (١٤ مايو) وانسحبوا إلى البرلس، وهناك بلغهم نبأ انسحاب لاجرانج من الرحمانية إلى القاهرة فقرروا إخلاء البرلس، وشرعت خمس سفن صغيرة تنقل جموعهم إلى الإسكندرية فطاردتها عند أبو قير فرقاطة إنجليزية وأسرت أربعًا منها، بينما فرت الخامسة صوب جزيرة رودس فأسرعت في تعقبها فرقاطة تركية. وفي رواية أخرى أن عدد السفن كان أربعًا، أسر منها الإنجليز اثنتين وسارت الأخريان إلى الشواطئ الإيطالية رأسًا.٣٤٣ وهكذا كان توزيع الجنود في الحاميات المبعثرة من أهم أسباب ضعف هذه المراكز الفرنسية وسقوطها في أيدي العدو، وحرمان منو من قوات قد تفيده في الدفاع عن الإسكندرية أو في العمليات الأخرى العسكرية، فإنه لما كان عدد جنود هاتين الحاميتين في العزبة والبرلس يبلغ السبعمائة جندي، فقد بلغ عدد من وقع من جنود جيش الشرق في أيدي الإنجليز — حسب تقدير هؤلاء أنفسهم — حوالي ألف وستمائة جندي في غضون أيام قليلة (من ٩ مايو إلى ١٧ منه).٣٤٤
أمَّا هتشنسون فقد استمر في زحفه فوصل إلى الطرانة يوم ٢١ مايو. ولما كان الصدر الأعظم بعد زحفه على القاهرة واشتباكه مع قوات بليار في معركة الزوامل كما سيأتي ذكره، قد رغب في مقابلة القائد الإنجليزي للاتفاق على تفاصيل العمليات العسكرية المقبلة؛ فقد ذهب لمقابلة هتشنسون. وما إن وصل القائد الإنجليزي في زحفه قريبًا من بير شام Byr-Chàm حتى وجد طلائع الجيش العثماني بقيادة طاهر باشا، وذهب هتشنسون ومعه القبطان باشا الذي صحبه دائمًا منذ أن غادر أبو قير لزيارة الصدر الأعظم في مخيمه، وهناك تقابل مع إبراهيم بك ومحمد باشا حاكم القدس وطاهر باشا، واتفق الصدر وهتشنسون على كل ما يجب اتباعه في الحملة المقبلة.٣٤٥ وفي ٢٨ مايو اتصل عثمان بك الطنبورجي بالأتراك والإنجليز، ووصلت السفن الإنجليزية والعثمانية إلى بطن البقرة، بينما كان جيش الصدر قد بلغ دجوة في القليوبية، ثم وقف الإنجليز بضعة أيام بهذا المكان، وانهمك العثمانيون في صنع العجلات وفنادق (جرارات) المدافع وما إلى ذلك.
وفي يوم ٥ يونيو استأنف الجيشان الإنجليزي والعثماني زحفهما حتى بلغا وردان، ووجد الإنجليز أنفسهم على مسافة سبعة أميال فحسب من الأهرامات. وفي ١٤ يونيو بدأ الزحف من جديد على شاطئ النيل الأيسر، وبعد يومين أقاموا معسكرهم على مسافة نصف ميل من إمبابة. وفي صبيحة ١٦ يونيو وصلت الإنجليز نجدات جديدة مكونة من آلايين من الإسكندرية بعد رحلة استمرت أربعة عشر يومًا. وشرع الإنجليز ينشئون جسرًا من القوارب لفتح طريق للمواصلات عبر النهر بينهم وبين العثمانيين الذين عسكروا على الجانب الآخر، وفي هذا المكان كذلك انضم إلى الجيش الزاحف عثمان بك ومماليكه وكانوا يبلغون ألفًا وخمسمائة. أمَّا الجسر فقد تم صنعه عند شبرا في ٢٠ يونيو، وفي اليوم نفسه أخبر روبان Robin الجنرال بليار أن العدو قد اتخذ مواقعه في مواجهة المعسكر الفرنسي ويبدو أنه قد أكمل استعداده لبدء المعركة.٣٤٦

بليار في القاهرة

وكان بليار خلال الشهور الثلاثة الماضية منذ أن غادر منو القاهرة في ١٢ مارس في مركز تحوط به الصعوبات من كل جانب لأسباب عدة؛ أهمها ولا شكَّ أن قائد الحملة العام لم يترك أوامر مفصلة فيما يجب عليه أن يفعله عند إطباق العدو الذي شرعت جيوشه تزحف على القاهرة من الشمال والشرق والجنوب؛ ذلك أن خطة منو كانت لا تعدو التمسك بالإسكندرية والقاهرة والاحتفاظ بجميع مراكز الفرنسيين المبعثرة في أنحاء القطر، فيصمد كل قائد في موضعه أمام جيوش العدو، ويعمل منو على تحصين الإسكندرية، بينما يعمل بليار من جانبه على تحصين القاهرة، ويدافع قومندانا الصالحية وبلبيس عن هاتين المدينتين إلى النهاية، ويبذل جيش الشرق عمومًا قصارى جهده لإنهاك قوى العدو بإرغام الإنجليز والعثمانيين على إطالة أمد الحصار المضروب على مواقع الفرنسيين زمنًا يتيح لهؤلاء استقبال النجدات التي وعد القنصل الأول بإرسالها من فرنسا، أو يمكِّنهم من عدم وقف القتال حتى تجيء الأخبار بعقد الصلح العام في أوروبا.٣٤٧ أي إن منو كان يرغب كذلك في أن يتبع بليار (وسائر القواد) خطة الحرب الدفاعية بأوسع معانيها. وفي هذه الظروف إذن كان يتوقف نجاح بليار في الاحتفاظ بالقاهرة على انتصار منو الذي خرج لصد جيوش الأعداء عن الإسكندرية والعمل بفضل هذا الانتصار إذا تم على بقاء المواصلات مفتوحة بين الإسكندرية والقاهرة. وأدرك بليار وزملاؤه أن نتيجة المعركة المقبلة بالإسكندرية سوف تكون ولا شكَّ ذات أثرٍ حاسم في تقرير مصير «المستعمرة»، وخشي بليار من هزيمة الفرنسيين في هذه المعركة وما ينجم عن انتصار الإنجليز من آثار سيئة، وهم الذين قالوا على لسان وزيرهم دنداس Dundas في البرلمان الإنجليزي إنهم سوف ينكِّلون بالجيش الفرنسي في مصر حتى يصبح عبرة لغيره ويخدمون الإنسانية بالقضاء عليه قضاءً مبرمًا.٣٤٨وعلى ذلك فقد شُغل بليار وزملاؤه في الأيام التالية باستقصاء أخبار منو وتوقعوا أن تحدث المعركة الفاصلة يوم ١٩ مارس، ولكنهم لبثوا خمسة أيام بتمامها دون أن تصلهم أخبار من الإسكندرية فاستبدَّ بهم القلق.
وزادت هواجس بليار عندما «أُشيع بين الناس (يوم ٢٤ مارس) وصول العثمانية إلى ناحية غزة، وأن جواليشهم وصلوا إلى العريش، وقدمت الهجانة إلى الفرنساوية بالخبر»،٣٤٩ وكان سبب هذه الإشاعات أن أحد شيوخ قبائل العربان بالوادي أخبر قومندان بلبيس أن قوات من الفرسان العثمانيين قد شوهدت في هذه الجهات، فذاع الاعتقاد بأنهم طلائع جيش الصدر الأعظم، وبات من المتوقع حسب رواية الشيخ أن يصل هؤلاء الفرسان إلى القاهرة يوم ٢٧ مارس، واتخذ بليار معسكره بين القبة وبركة الحاج استعدادًا لمقابلتهم،٣٥٠ وخشي الفرنسيون أن يكون العثمانيون قد أنشئوا صلاتٍ وثيقة مع كبار أهل القاهرة وأن القاهريين يعتزمون القيام بالثورة، وانزعج الفرنسيون انزعاجًا شديدًا وبدا الذعر واضحًا على وجوههم وفي حركاتهم، فشُغل كل امرئ منهم بتدبير وسائل نجاته وخلاص نفسه، وظلوا طيلة يوم وليل ٢٥ مارس يخلون دورهم ومساكنهم ومستشفياتهم وينقلون متاعهم ومرضاهم إلى القلعة، وتطايرت الشائعات في الأوساط الفرنسية عن بدء تجمع الأهلين بجوار الجامع الأزهر يتباحثون ويتناقشون ويدبرون — في زعمهم — الثورة المقبلة.
ومع أن هذه الاجتماعات لم تسفر عن شيء لأن الأهلين كما ذكر الفرنسيون ومؤرخوهم كانوا لا يزالون متأثرين بذلك الدرس القاسي الذي أُلقى عليهم عند مقتل كليبر، وتم النقل إلى القلعة دون حدوث أية اضطرابات؛٣٥١ فقد حرص الفرنسيون منذ أن وصلت أخبار الطلائع العثمانية على استمالة كبار الأهلين وقادة الرأي فيهم والتأثير عليهم بالوعد تارة وبالوعيد تارة أخرى حتى يخلدوا إلى الهدوء والسكينة، فدعوا مساء يوم ٢٤ مارس المشايخ للاجتماع بالديوان، «فلما تكامل حضورهم حضر فورييه الوكيل وصحبته آخر من الفرنسيس من طرف قائمقام بليار، فتكلم فورييه كلامًا كثيرًا ليزيل عنهم الوهم ويؤانسهم بزخرف القول، كقوله إنه يحب المسلمين ويميل بطبعه إليهم وخصوصًا العلماء وأهل الفضائل، ويفرح لفرحهم ويغتم لغمهم ولا يحب لهم إلَّا الخير، وسياسة الأحكام تقتضي بعض الأمور المخالفة للمزاج وأن ساري عسكر منو قبل ذهابه رسم لهم رسومًا وأمرهم بإجرائها والمشي عليها في أوقاتها، وأنه عند سفره قصد أن يعوق المشايخ وأعيان الناس ويتركهم في الترسيم رهينة عن المسلمين، فلما ظهر له وتحقق أن الذين وردوا إلى أبو قير ليسوا من المسلمين وإنما هم إنكليزية ونابلطية وأعداء للفرنساوية والمسلمين أيضًا وليسوا من ملتهم حتى يخشى من ميلهم إليهم أو ليتعصبوا من أجلهم. والآن بلغنا أن يوسف باشا الوزير وعساكر العثمانية تحركوا إلى هذا الطرف، فلزم الأمر لتعويق بعض الأعيان وذلك من قوانين الحروب عندنا بل وعندكم، ولا يكون عندكم تكدر ولا وهم بسبب ذلك، فليس إلَّا الإعزاز والإكرام أينما كنتم، والوكيل دائمًا نظره معهم ولا يغفل عن تعليل مزاجهم في كل وقت ويوم.» وانتهى الأمر «بتعويق» أربعة من المشايخ هم الشرقاوي والمهدي والصاوي والفيومي فنقلوهم إلى القلعة و«أجلسوهم بجامع سارية، ونقلوا إلى مكانهم الشيخ السادات فاستمر معهم بالمسجد، وأمروا الأربعة الباقية من أعضاء الديوان وهم البكري والأمير والسرسي و«الشيخ عبد الرحمن الجبرتي» أن يكون نظرهم على البلد ويجتمعون بشيخ البلد ولا ينقطعون عنه.»
وكان من الذين أُخذوا رهائن وأُصعدوا كذلك جماعة أخرى من أصحاب الكلمة والنفوذ، «وأمروا المشايخ الباقية والذين لم يُحبسوا بتقييدهم ونظرهم إلى البلد والعامة، وأنهم يترددون على بليار قائمقام ويعلمونه بالأمور التي ينشأ عنها الشرور والفتن.» وكان من وسائل التهدئة والتسكين التي لجأ إليها الفرنسيون أن «أُهمل ديوان المليون والمطالبة بثلثه، وكذلك كُسرت الفردة ونفَّس الله عن الناس، وكذلك تُسُوهل في أمر الكرنتيلة وإجازة الأموات وعدم الكشف عليهم وتصديق الناس بما يخبرون به في مرض من يموت»، وذلك — على حدِّ قول الشيخ الجبرتي — «لكثرة أشغالهم وحركاتهم وتحصنهم ونقل متاعهم وصناديقهم وفرشهم وذخائرهم إلى القلعة الكبيرة على الجمال والحمير ليلًا ونهارًا، والطاعون متعلق فيهم ويموت منهم العدة الكثيرة في كل يوم.»٣٥٢
ومع أن بعضًا من الفلاحين ما لبثوا أن حضروا يحملون معهم أنباء هذه الطلائع العثمانية التي شوهدت في الصحراء الشرقية تفيد أن هؤلاء لم يكونوا سوى مماليك إبراهيم بك، وأنهم إنما جاءوا للذهاب إلى مراد بك والانضمام إلى قواته في الصعيد، وطمأنت هذه الأخبار الفرنسيين قليلًا؛ فقد زاد ابتئاسهم عندما حضر إلى القاهرة الضابط تيوش Tioche مساء يوم ٤ أبريل يحمل من الإسكندرية تفاصيل موقعة كانوب وبعض الأوامر التي أصدرها منو من أجل إخلاء الصعيد وإنقاص حاميات الصالحية وبلبيس والبرلس وعزبة البرج، ثم إخلائها إذا هاجمها العدو بقوات متفوقة عليها، وكذلك إرسال كل ما يمكن إرساله من قوات إلى الشواطئ الشمالية، ويطلب من جميع الفرنسيين سواء كانوا من الجند أو من رجال الإدارة الالتجاء إلى القلعة والتحصن بها.٣٥٣ فكان لهذه الأنباء أسوأ الأثر في نفوس الجند وقوادهم بالقاهرة، وعظم غضبهم من إخفاق خططهم العسكرية وهزيمة جيشهم بالإسكندرية، واشتد بهم الجزع حتى طفرت دموع الكثيرين من أولئك الذين قال عنهم بليار «إنهم يخافون العسكر الإنجليز خوفًا شديدًا، ويخشون مغبة استيلاء الإنجليز على البلاد.»٣٥٤
أمَّا بليار فقد اشتد به هو الآخر الحزن والقلق، وبخاصة عندما تأكد لديه أن المواصلات بينه وبين منو قد باتت مقطوعة، منذ أن بلغه ما حل بالرسل الذين كُلِّفوا بنقل الرسائل والأخبار، والذين ثبت لديه أنهم قُتلوا في الطريق أو أُصيبوا بجراح بليغة منعتهم عن نقلها. وما إن بلغته أنباء الهزيمة في كانوب (٤ أبريل) حتى عقد مجلسًا حربيًّا في الساعة الواحدة من صباح اليوم التالي (٥ أبريل) لتقليب وجوه الرأي فيما يجب فعله، واتجه الرأي إلى إحداث انفجار في قلاع بلبيس والصالحية والسويس لتحطيم هذه القلاع بعد انسحاب حامياتها واستقدام جندها إلى القاهرة، ولكن المجلس لم يلبث أن انفض دون الوصول إلى نتيجة.٣٥٥ وبلغ اليأس من بليار أشده حتى إنه كتب إلى منو في اليوم التالي يشكو تعذر الدفاع عن القاهرة والأتراك يزحفون عليها، بينما كانت المخازن خاوية وانتشر وباء الطاعون بدرجة مروعة، حتى إن بليار اضطر بين يومَي ٣٠ مارس، ٣ أبريل إلى نقل مائة وعشرين رجلًا إلى المعزل «لازريتو» مات منهم عشرون، وقد يلحق بهم كثيرون غيرهم. ويتوقع القائمقام أن تثور القاهرة عند اقتراب العثمانيين منها، ولا مندوحة عن إخلاء المدينة والاقتصار على الدفاع عن القلعة.٣٥٦
وكان من أسباب قلق بليار ذيوع الشائعات في القاهرة عن هزيمة الفرنسيين في موقعة كانوب وعن أسباب هذه الهزيمة، ثم حديث الأهلين عن الانقسامات الخطيرة في مقر قيادة جيش منو بينه وبين رينييه وداماس تلك الانقسامات التي سبقت هزيمتهم، ثم ما صار القاهريون يتناقلونه عن إطلاق «حبوس المياه الملحة» وما فعله الإنجليز لإغراق «طرق الإسكندرية حتى صارت جميعها لجة ماء، ولم يبقَ للفرنسيين طريق مسلوك إلَّا من جهة العجمي إلى البرية.»٣٥٧ وأزعجت بليار أخبار خلافات القواد بالإسكندرية، وتلك الآراء المتضاربة التي صارت تصله وتشير عليه بالطريق الذي يجب أن يسلكه؛ فبينما يريده منو أن يبقى في القاهرة للدفاع عنها، ينصحه رينييه إذا عجز عن صد جيوش الصدر الأعظم بالحضور بكل ما لديه من قوات إلى الإسكندرية؛ إذ يساعد وجود الجيش مجتمعًا على القيام بمحاولة جديدة للانتصار على العدو أو «إملاء شروط مشرفة.» وفي وسط هذه الآراء المتضاربة إذن كان كل ما يرجوه بليار أن يحصل من منو على أوامر صريحة حاسمة.
ومع ذلك فقد ظل منو يبعث إلى القاهرة ما عدَّه «أخبارًا مطمئنةً»، فكان يتحدث تارة عن ضعف الجيش الذي وقف على حصار الإسكندرية وكثرة فرار جنود القوات المساعدة من صفوفه، وتارة أخرى عن سقوط وزارة بت وخروج جرنفيل من الحكم، وكيف أن اللورد كيث هو الذي نقل إليه هذه الأخبار التي تدعو إلى الاطمئنان بأن عقد الصلح العام قد بات قريبًا، ومرة ثالثة يبدي منو اعتقاده بأن العدو لن يحضر إلى القاهرة أو يزحف إليها، أمَّا إذا حضر فواجب بليار أن يهزمه هزيمةً ساحقةً ثم يأتي بالجنود إلى الإسكندرية، ومرة رابعة يحيل منو قائده بليار على كل من القواد روبان Robin  وديرانتو Duranteau    وتارير Tareyre «صاحب الرأس المفكر»؛ يستشيرهم فيما يجب عليه أن يصنع، بل يترك له أيضًا حرية التصرف «حتى يسلك ما يراه أنه أفضل الطرق» المحققة لغرضه «إذ إن منو في مكانه بالإسكندرية لا يستطيع أن يصدر رأيًا في موقف متغير تبعًا لتغير الحوادث السريع مرة في كل خمس عشرة دقيقة»، ثم تتمخض نصيحة منو في آخر الأمر عن تذكير بليار بأن الواجب يقتضيه أن يملأ قلعة القاهرة بالذخائر والمؤن «لأن هذا المكان إذا أحكم الدفاع عنه رجل مثل قومندان القلعة دوباس Dupas أمكن أن يصمد في وجه العدو أربعة شهور تقريبًا»، وأن يعمل على كسب الوقت دائمًا «إذ من المحقق أن السلطان العثماني قد أرسل فرمانات يطلب فيها من جنوده الامتناع عن الزحف»، ويشدد منو على بليار بضرورة إذاعة هذه الأخبار على أهل القاهرة؛ لأن الإنجليز بفضل ما يوزعونه من أموال قد استمالوا نفرًا من العثمانيين الموالين لهم إلى متابعة الزحف على البلاد المصرية.٣٥٨
وكان من الواضح أن منو مع رغبته في الاحتفاظ بهذه البلاد أطول مدة ممكنة لا يزال يرفض الاشتباك في معارك فاصلة ولا يريد أن يحيد عن خطة الحرب الدفاعية؛ ولذلك فإن رسائله إلى بليار لم تكن مطمئنة ولا مشجعة. وزادت هموم بليار عندما وصل دونزيلو إلى القاهرة في يوم ٨ أبريل على رأس جنوده من الصعيد، ثم وصل بعد أربعة أيام الجنرال لاجرانج بجنده من الرحمانية، كما جاءت حامية الصالحية في ١٠ أبريل وكان الفرنسيون قد أخلوا الصالحية قبل ذلك بيومين، ثم توالى حضور حاميات القرين وبلبيس والسويس وسائر الجنود «بناحية الشرقية» رويدًا رويدًا بعد ذلك.٣٥٩ وقد دلَّ مجيء لاجرانج على أن الإنجليز قد باتوا أصحاب السيطرة التامة على طريق النيل، وفي استطاعتهم الملاحة في هذا النهر دون عائق، بل في وسعهم الوصول أمام بولاق في ثلاثة أيام فقط لو أنهم شاءوا ذلك، وأن يهددوا الفرنسيين من الخلف بينما يهددهم العثمانيون من الأمام.
وكانت الأخبار قد بلغت الفرنسيين بأن الصدر الأعظم غادر العريش منذ ٤ أبريل مع جيش مؤلف من عشرين ألف عثماني إلى جانب اثني عشر ألف إنجليزي،٣٦٠ كما وصلتهم الأنباء عن قرب وصول الحملة الهندية الإنجليزية إلى القصير. وكان على بليار أن يختار بين أمرين: إمَّا البقاء في القاهرة فيتلقى ضربات العدو الزاحف عليه من جهة الدلتا في الشمال والسويس في الشرق والقصير في الجنوب، وقد بلغ عدد هؤلاء جميعًا حوالي سبعين ألف جندي، بينما كانت قوات بليار لا تعدو السبعة آلاف فحسب، وإمَّا الخروج لمقابلة جيش الصدر الأعظم فيقضي عليه في معركة شبيهة بمعركة هليوبوليس الماضية، وإذا قُدِّر له النصر عاد أدراجه لمواجهة الإنجليز الزاحفين على القاهرة من الشمال مستفيدًا في هذه الحركة من وجود القوات التي أحضرها لاجرانج ودونزيلو خصوصًا إلى القاهرة، فيخبر منو بالأمر حتى يقوم القائد العام من جانبه بهجوم آخر في الوقت نفسه على مؤخرة الإنجليز.٣٦١ ولم يكن البقاء في القاهرة وتلقي ضربات العدو فيها خطة حكيمة لتفشي الطاعون واشتداد وطأته من جهة، ولانعدام الثقة في القاهريين من جهة أخرى وذلك على الرغم من هدوئهم الظاهر، وما صار ينقله إلى بليار نفرٌ من أهلها عن حركات الجيش العثماني ومواقعه أو يرشدونه إلى مواضع الثغرات التي يستطيع الدخول منها إلى القاهرة.٣٦٢
فمع أن الفرنسيين ظلوا يبذلون قصارى جهدهم لتهدئة أهل القاهرة، ويؤكدون لهم انتشار الأمراض (كالزحير والرمد وما إلى ذلك) في صفوف الإنجليز وعزم هؤلاء على العودة إلى بلادهم، ويقرءون في الديوان رسائل مطمئنة من منو تشتمل على أخبار كاذبة منها رغبة السلطان في إخلاء البلاد من جنده تجنُّبًا للاشتباك في نضال مع روسيا التي هدده قيصرها بالحرب إذا هو أصر على إزعاج الفرنسيين في مصر، ويعدون المشايخ في الديوان برفع «نصف المليون» والظلم عن الأهلين؛ لم يصدق أحدٌ هذه الأخبار أو ذلك «الكلام الفارغ». وفضلًا عن ذلك زاد من نفور الأهلين ما صار يفعله صنائع الفرنسيين من أشرار القوم «وأسافل العامة» مثل عبد العال الذي عُيَّن أغات مستحفظان ومحتسبًا، فصار يمعن في إرهاق التجار وابتزاز أموالهم والتضييق على الناس وحبس الرهائن وضرب أعناق الفلاحين من أهل القرى المجاورة في طريق العثمانيين، وقد ظل الحال على ذلك حتى أوائل مايو.٣٦٣
وزاد الموقف حرجًا عندما جاءت الأخبار منذ ٢٦ أبريل معلنة وفاة مراد بك بالطاعون بالوجه القبلي، ففقد الفرنسيون أقوى أنصارهم في الجنوب. وكان بليار قد طلب إلى مراد منذ يوم ١٥ مارس أن يحضر إليه بمماليكه من الصعيد، ولكن بوفاة مراد بدأ أتباعه يتمسكون بخطة الحياد، وينصرفون عن تأييد الفرنسيين وإن لم يظهروا نبذ ولائهم بصورة علنية. وكان سبب تغير المماليك أنهم شاهدوا الجيوش الحليفة تزحف على القاهرة من كل جانب، وعلى وشك أن تطبق على قوات بليار الضعيفة في القاهرة، فاقتنعوا الآن بأن موقف الفرنسيين سواء في القاهرة أو الإسكندرية قد بات ميئوسًا منه، وصاروا يستعدون لاتخاذ معسكرهم قريبًا من الإنجليز والقبطان باشا. ومع ذلك حرصوا في الوقت نفسه على إخطار الفرنسيين بما صح عليه عزمهم، وصاروا يلتمسون الأعذار في إقدامهم على اتخاذ هذه الخطوة، ذاكرين في الوقت نفسه أنهم لا يريدون بهم شرًّا ولا ينوون الإخلال بعهودهم ومواثيقهم.٣٦٤ وأخيرًا سرعان ما جاءت الأخبار منبئة «بوصول طاهر باشا الأرنؤدي بجملة من العساكر الأرنؤدية إلى أبو زعبل.» وفي ١٢ مايو «وردت الأخبار (كذلك) بوصول ركاب الوزير يوسف باشا إلى مدينة بلبيس»، وذلك منذ ٨ مايو.٣٦٥
وكان الصدر الأعظم قد جمع حوله منذ أواخر فبراير جيشًا عظيمًا على مسافة قريبة من يافا، ولكنه لم يستطع الزحف وقتذاك بسبب انتشار الوباء، وزيادة على ذلك أرسل له الجزار باشا والي عكا نجدات جديدة برهانًا على ولائه للباب العالي، فقرر أن يبدأ زحفه على الحدود الشرقية، وصحب نخبة من الضباط الإنجليز جيشه، فكان مع الصدر الكولونيل هالوي Halloway، ومع فرسان طاهر باشا الكابتن ليك Leake، ومع مشاة محمد باشا الألبانيين الكابتن لاسي Lacey.٣٦٦ فبدأ الصدر زحفه يوم ١٢ مارس وحالت رداءة الطقس دون سرعة الحركة، فبلغ العثمانيون العريش في آخر الشهر نفسه. وفي ٢ أبريل غادر جيش طاهر باشا ومعه الكابتن ليك العريش صوب القطية و«الطينة»، وبعد ثلاثة أيام تبعه جيش محمد باشا ومعه الكابتن لاسي. وفي ١٩ أبريل تحرك الصدر الأعظم يوسف ضيا بسائر قوات الجيش والضباط الإنجليز الذين كانوا بقيادة هالوي، حتى إذا وصل الصدر إلى قطية بعث يطلب تسليم الحاميات الفرنسية في عزبة البرج ودمياط، ثم وجَّه إليها جزءًا من قواته ما لبث أن احتلها بعد أن أخلاها الفرنسيون على نحو ما شاهدنا، وواصل الصدر سيره في طريق القاهرة.
ولما كان الفرنسيون قد أخلوا الصالحية بعد أن نسفوا تحصيناتها ومخازنها منذ ٩ أبريل وفعلوا مثل ذلك في بلبيس في ١١ منه؛ فقد استولى الصدر على الصالحية في ٢٨ أبريل ووصلت طلائع جيشه إلى بلبيس في اليوم التالي، وانضم إليه كثيرٌ من المماليك والعربان والفلاحين الذين عزا مؤرخو الفرنسيين انضمامهم إلى جيوش الصدر إلى رغبتهم في السلب والنهب فحسب، ولو أن هؤلاء العربان والفلاحين كانوا يحضرون معهم المؤن والأغذية الكثيرة من القرى المجاورة التي سرعان ما اطمأن أهلها بعد أن ذهب عنهم الخوف وقويت روحهم المعنوية، وبات العثمانيون يهددون بتدفق جيوشهم على القاهرة.٣٦٧
وقد ساعد الصدر الأعظم ولا شكَّ على التقدم في داخل البلاد انتصار الإنجليز في معركة كانوب ثم نجاح عملياتهم العسكرية التالية حتى سقوط الرحمانية؛ ولذلك فإنه لم يشأ الاستقلال في الرأي أو أن يعمل منفصلًا عن حلفائه، واستمع لمشورة هتشنسون الذي كان يخشى من أن تلحق بالعثمانيين الهزيمة إذا هم اشتبكوا في معارك كبيرة مع العدو من جهة الدلتا بدلًا من الزحف على القاهرة مباشرة. وكان الغرض من ذلك شغل الفرنسيين وبعثرة جهودهم، ثم إتاحة الفرصة لجيش الصدر نفسه ليجد في الجيش الإنجليزي الزاحف على القاهرة تكأة تستند إليها مؤخرة العثمانيين،٣٦٨ وعلى ذلك فقد ذهبت بعض قوات العثمانيين إلى عزبة البرج ودمياط على نحو ما قدمنا ووقف الصدر بجيشه في بلبيس.
ولما كان بليار يرى من مدة أن في استطاعته الخروج من القاهرة والاشتباك مع العثمانيين في معركة فاصلة إذا اجتمع لديه جيش يكفي لتشكيل أربعة مربعات عدا تأليف قوة احتياطية يواجه بها جميعًا جيوش العثمانيين؛٣٦٩ فقد سنحت الفرصة لتنفيذ ذلك عند مجيء لاجرانج بجنده من الرحمانية وزيادة عدد جيش القاهرة تبعًا لذلك حتى صار يبلغ أحد عشر ألف مقاتل تقريبًا، ولم يعد هناك ما يدعو إلى بقائه بالقاهرة يتلقى ضربات الأعداء الزاحفين عليه من الشمال والجنوب والشرق. ومع ذلك ظل بليار مترددًا فترة من الزمن، ثم دعا أخيرًا مجلسًا حربيًّا للانعقاد في يوم ١٥ مايو لبحث الموقف، وما كاد يجتمع هذا المجلس حتى تعددت الآراء في أول الأمر وتنوعت، فاقترح بعض القواد التقهقر إلى دمياط وإخلاء القاهرة، وأظهر دوتبول D’Hautpoul قومندان سلاح المهندسين مزايا الانسحاب إلى دمياط؛ ذلك أن هذه كانت مركزًا عسكريًّا يسهل تحصينه وتوجد به المؤن بكثرة وافرة، وكاد بليار يقبل فكرة التقهقر إلى دمياط لا سيما إذ كان يعتقد أن الدفاع عن القاهرة ضرب من الجنون، ولكنه ما لبث أن نبذ هذه الفكرة حتى لا يحمل مسئولية إخلاء القاهرة. ثم قرَّ الرأي على اتباع خطة كان بليار نفسه قد اقترحها على منو منذ ٢٢ أغسطس سنة ١٨٠٠م، وفحواها أنه إذا فُرض أن غادر الجيش القاهرة ثم زحف العدو عليها فالواجب أن يحتل الفرنسيون الحصون والمواقع الهامة حول القاهرة، ثم يجري تشكيل طابور منظم يسير لمقابلة العدو في أي مكان يأتي منه، ولا يستطيع العدو الزحف على القاهرة إلَّا من جهتين: إمَّا من ناحية المطرية وإمَّا من ناحية مصر القديمة، وكان معنى اتباع هذه الخطة خروج بليار بجيش القاهرة للاشتباك مع العثمانيين في معركة حاسمة.٣٧٠

معركة الزوامل

وعلى ذلك فقد صمَّم بليار على الخروج بجيش من ستة آلاف مقاتل تقريبًا يقوده كذلك لاجرانج وروبان، وكلف القوات الباقية بقيادة الجنرال ألميرا Almeyras بالاحتماء بالقلعة والتحصن بها والعمل على صد هجمات العدو عنها إذا وجه العثمانيون قوات إليها.٣٧١ وغادر بليار القاهرة في عصر يوم ١٥ مايو قاصدًا إلى بلبيس، وكان معنى انهزام جيش الصدر لو قُدِّر للفرنسيين النجاح ضمان استرجاع البلاد وافتتاحها من جديد، إذ يؤكد بعض المؤرخين أن مثل هذا الانتصار من شأنه أن يضمن بقاء الأهلين على هدوئهم وسكينتهم واستمرارهم على ولائهم الظاهر للفرنسيين. وفضلًا عن ذلك فإن النصر سوف يقضي على الجيش العثماني الزاحف من الشام ويفضي إلى عزل جيش العدو الزاحف على القاهرة، بل ويضع هؤلاء بين حجري الرحى: جيش بليار في القاهرة من أمامهم وجيش منو في الإسكندرية من خلفهم.٣٧٢ وكانت هذه ولا شك خطة حكيمة لو أن القائد الذي حاول تنفيذها كان جريئًا غير هياب ولا وجل، ولكن بليار كان شديد الخوف كثير التردد.
وصل بليار إلى «المنير» في اليوم نفسه وطرد منها بعض قوات العدو ثم قضى بها الليل، ووصلت أخبار زحفه إلى الصدر الأعظم في بلبيس، فأرسل الصدر على الفور قوة بقيادة طاهر باشا وصلت في مساء اليوم نفسه إلى مسافة ثلاثة أميال من مواقع الفرنسيين.٣٧٣ وفي صبيحة اليوم التالي (١٦ مايو) كانت معركة الزوامل، فبدأت العمليات العسكرية بهجوم الأتراك على الفرنسيين، ثم سرعان ما انضم خمسمائة من الفرسان لتعزيز قوات العثمانيين، ولما تبين هؤلاء أن العدو قد أحضر معه قوات كبيرة من المشاة والفرسان عدا المدافع، أمر الصدر قائده الآخر محمد باشا بالتقدم إلى المعركة في خمسة آلاف من الفرسان والمشاة وتسعة مدافع من الطراز الخفيف، ثم تسلَّم الصدر نفسه القيادة العامة فوزع قواته إلى جماعات صغيرة للالتفاف حول مربعات الفرنسيين ومناوشتهم، وكان غرضه الواضح عدم الاشتباك مع الفرنسيين في معركة حاسمة عملًا بنصيحة هتشنسون بل مجرد شغلهم، بينما يسرع القسم الأكبر من فرسانه إلى القاهرة للاشتراك مع الإنجليز الزاحفين من الرحمانية في احتلال المدينة وقطع خط الرجعة على بليار وجيشه.٣٧٤ وانتقل الفرنسيون في أثناء ذلك إلى مكان يكثر النخيل به فحمي وطيس القتال، وصُدَّ الفرنسيون على الرغم من هجومهم الشديد صدًّا عنيفًا حتى إنهم اضطروا إلى التقهقر إلى ما وراء الخانكة على مسافة سبعة أميال تقريبًا من مكان العمليات الأولى.
ومع ذلك امتنع الصدر عن مطاردتهم بل أصدر أوامره بعدم تعقبهم،٣٧٥ وشاهد الفرنسيون العدو فجأة يكف عن ملاحقتهم، وبدا كأنه إنما يبغي الارتداد على الرغم من نجاح عملياته الظاهر. فكان هذا التوقف من جانب العثمانيين كافيًا لأن يستبد القلق بالقائد الفرنسي، فقد لحظ بليار اختفاء فريق من فرسان الأتراك من الميدان، وخشي أن يكون هؤلاء قد قصدوا الذهاب إلى القاهرة على نحو ما فعل ناصف باشا بعد موقعة هليوبوليس،٣٧٦ وبدر من الأتراك فعلًا بعد قيامهم بحركة الالتفاف السابقة ما يدل على أن فرسانهم يريدون أن يشقوا لأنفسهم طريقًا إلى القاهرة. وكان أكثر ما يخشاه أن يكون الغرض من توقف الأتراك ثم اختفاء فريقٍ من فرسانهم أنهم يرومون التقهقر والارتداد حتى ينضموا إلى جيش القبطان باشا والجنرال هتشنسون،٣٧٧ وفاته أن الصدر بسبب نفوره من القبطان حسين باشا لا يرضى بوضع قواته إلى جانب جيش منافسه القديم،٣٧٨ فضلًا عن أن انسحاب الصدر وتقهقره يحمل في طياته — لو حدث — بذور الفوضى ويؤدي إلى تشتيت جيشه.٣٧٩
وعلى ذلك فإنه بدلًا من أن يمضي بليار في قتاله ويبذل قصارى جهده من أجل الاستيلاء على بلبيس والصالحية فيهدد بذلك مؤخرة العثمانيين ويرغمهم على الارتداد لاستخلاص قواعدهم على الأقل تاركًا لحامية القاهرة — وكانت تتألف من حوالي الخمسة آلاف — مهمة الدفاع عنها وصد هجوم العثمانيين إذا حاولوا الهجوم عليها؛ صمم بليار على الانسحاب إلى القاهرة. وكانت حجته في ذلك إلى جانب ما تقدم أن التعب والإعياء قد أخذا من جنده كل مأخذ بسبب سيرهم الشاق الطويل في الصحراء دون أن يكون لديهم ماء أو مؤن كافية. وبذلك انتهت معركة الزوامل وحلت الهزيمة بالجيش الفرنسي — وهو جيش ظل مرهوب الجانب دائمًا — على أيدي العثمانيين وجنودهم التي يعوزها النظام، والتي لا يمكن أن ترقى إلى جيوش الفرنسيين المظفرة ذات الشهرة الذائعة في فنون الحرب والقتال.٣٨٠ وهكذا أفلتت من بليار بسبب تردده ولعدم ثقته بنفسه وضعف إيمانه بالمهمة الملقاة على عاتقه فرصة تخليص البلاد من جيوش «الأعداء» وبقائها مستعمرة فرنسية.٣٨١ وفي ١٦ مايو عاد بليار إلى القاهرة ودخلها جيشه في ذلة وسكون، فقال الشيخ الجبرتي: «ورجعوا مهزومين وكتموا أمرهم ولم يذكروا شيئًا.»٣٨٢

القاهرة بعد معركة الزوامل

عاد بليار إلى القاهرة في حزنٍ واستخذاء، وزاد حزنه ولا شكَّ عندما وجد القاهرة لا تزال على الحال التي تركها، فقد لزم الأهلون جانب الحكمة في أثناء معركة الزوامل، وساد السكون والهدوء على خلاف ما حدث أيام معركة هليوبوليس، فامتنع القاهريون عن الاختلاط بالعثمانيين القريبين من مدينتهم، سواء كان سبب ذلك الخوف من العقوبة الصارمة أو الغفلة وعدم الاكتراث.٣٨٣ وفضلًا عن ذلك كان هتشنسون وجنوده لا يزالون في طريقهم من الرحمانية إلى الطرانة، بعيدين عن القاهرة، ولم تكد الحملة الإنجليزية الهندية تصل إلى القصير.٣٨٤ ومع ذلك فإن المخاوف والأوهام التي جعلت زمام المعركة يفلت من بين يدَي بليار ظلت مسيطرة عليه كذلك حتى بعد عودته إلى القاهرة، فهو لا يزال يعتقد أن القاهريين يضمرون له العداء ولجيشه الكراهية ويتربصون بالفرنسيين الفرص للقيام بالثورة عليهم، وتزعزع إيمانه في إمكان الدفاع عن القاهرة ضد الجيوش الزاحفة التي سوف تطبق على قواته بعد فترة قصيرة من الزمن، وزالت ثقته في جدوى أعمال التحصينات التي يقوم بها جنده، ووطد النفس على أن يلقى العثمانيين والإنجليز وهو على حد قول نابليون فيما بعد «مكتوف الذراعين» مشلول الحركة قد غابت عن ذهنه كل فنون المبارزة، فلا يحاول أن يشن هجومًا على هتشنسون أو يعيد الكرة على جيش الوزير (الصدر الأعظم)، ولا يسعى للاتصال بقائد الحملة الأعلى منو في الإسكندرية.
وكان في وسع بليار أن يفعل ذلك لو أنه كما يقول نابليون أيضًا شق لنفسه طريقًا على جانب النيل الأيسر، ثم هو إلى جانب ذلك كله لم يبذل جهدًا نافعًا لتحصين القلعة حتى إن دوباس قومندانها أنذر باستقالته.٣٨٥ واعتقد كثيرون أن بليار ما كان يبغي من اهتمامه بتنظيم الدفاع عن القاهرة سوى إقناع العدو بأن من الخير له أن يعرض على الفرنسيين تلك الشروط التي عرضها سابقًا على كليبر فيخلي هؤلاء القاهرة لقاء «شروط تسليم مشرِّفة»، وآية ذلك كتاب بليار نفسه إلى القنصل الأول يتحدث فيه عن الهمة العظيمة التي يبذلها جنوده في تحصين القاهرة وحفر الخنادق وإقامة المتاريس، ثم يعد بأن العدو لن يستطيع الدخول إلى القاهرة إلَّا على أجساد جنده، ويقول: «ومن ذلك يتضح أننا لا نهاب الموت جميعًا أو نملي (بأنفسنا) شروط تقهقرنا»، وإخلاء القاهرة.٣٨٦ وزاد اقتناع بليار بعبث المقاومة عندما بلغه غداة دخوله القاهرة خبر تسليم كفالييه وما دل عليه هذا الحادث من اشتياق الجند إلى الوطن، ورغبتهم في التسليم ما دامت شروطه تكفل في نظرهم العودة إلى فرنسا مرفوعي الرأس موفوري الكرامة. وفتَّ في عضده انتشار الطاعون، وكان وباءً جارفًا لم تشهد البلاد مثله من أيام وباء «إسماعيل بك» في عام ١٧٩١م، فقد أهلك الطاعون منذ ظهوره في شهر يناير (١٨٠١م) مئات الفرنسيين — عدا ألوف الأهلين — ولم تنكسر حدة هذا الوباء وتخف وطأته إلَّا في أواخر مايو.٣٨٧
وهكذا انقضت الأيام التالية دون فعل شيء، بل قنع بليار بالوقوف دون حراك ينتظر مجيء العدو، وكان لهذا الموقف السلبي أكبر الأثر في إضعاف روح الجند المعنوية، أولئك الجند الذين شاهدوا الوباء يفتك بجموعهم ويزحف العدو عليهم من كل جانب دون أن يحرك قوادهم في الإسكندرية والقاهرة ساكنًا لإنقاذهم أو يرسل القنصل الأول النجدات اللازمة لتخليصهم من مأزقهم، فاشتد بهم اليأس واعتقدوا أن «فرنسا قد تركتهم وشأنهم، وصارت لا تُعنى بهم»، وصاروا ينعون على هتشنسون والإنجليز بطأهم؛ لأنهم باتوا يريدون الآن «الانتهاء» على أية صورة من الصور من ذلك البؤس وتلك الشقوة التي نغصت عليهم عيشهم.٣٨٨

وعلى ذلك فقد غدت القاهرة منذ عودة بليار من معركة الزوامل إلى وقت إخلائها ودخول العثمانيين إليها مسرحًا لحوادث عدة، ترجع أسبابها إلى موقف بليار «السلبي» وما ترتب عليه من ضرورة مواصلة التحصينات وتهيئة سبل الدفاع عن القاهرة، ثم العمل بكل الوسائل من اجل «إقناع» القاهريين بواجب الإخلاد إلى السكينة. ولما كان الفرنسيون قد قنعوا بالوقوف مكتوفي الأيدي في انتظار وصول العدو، فقد نجم عن زحف الإنجليز والعثمانيين على القاهرة قطع كل الطرق بينها وبين البلدان المجاورة، كما منع العدو كل اتصال بين القاهرة والصعيد، وضيَّق العدو الحصار على القاهرة رويدًا رويدًا، فامتنع ورود الأغذية والمؤن، وشعر القاهريون بوطأة هذا التضييق الشديد أكثر من الفرنسيين الذين كانوا قد ملئوا مخازن القلعة التي تحصنوا بها بالمؤن والعتاد، فارتفعت الأثمان وشكا الأهلون من الغلاء الفاحش. وفضلًا عن ذلك فإنه لما كان من المتعذر على الفرنسيين أن يجبوا أية ضرائب من مختلف جهات القطر التي خرجت من حوزتهم، وكانوا بحاجة ملحة إلى المال ينفقون منه على أعمال تحصيناتهم ودفع مرتبات جندهم وسداد تكاليف الحكم والإدارة في تلك المواقع القليلة التي بقيت لهم؛ فقد باتوا يعتمدون الاعتماد كله على ابتزاز الأموال بشتى الطرق من أهل القاهرة لسد حاجتهم فعظم الكرب والبلاء.

ولم يمنع القاهريين في هذه الشهور القليلة الحاسمة في تاريخهم من إعلان الثورة على الفرنسيين سوى انشغالهم بتدبير أمور معاشهم من جهة وبدفن موتاهم في وقت كان الطاعون يفتك بهم فتكًا ذريعًا، ولا يرون طريقًا للخلاص منه من جهة أخرى، وعدم اكتراثهم بذلك النضال الدائر حولهم وقد باتوا يشعرون في قرارة نفوسهم بفضل ما يتسقطونه من أخبار عن حركات الجيوش العظيمة الزاحفة على القاهرة أن الفرج قريب، وأن الهزيمة في هذه المرة من نصيب الفرنسيين لا محالة، وآية ذلك أن أحدًا من أعضاء الديوان أو المشايخ ما كان يصدق تلك «التمويهات» التي صار يقصها عليهم فورييه وكيل الديوان أو جيرار الذي خلفه، أو يلقي بالًا إلى تلك الرسائل التي «ادعى» فورييه أو جيرار أو أستوف الخازندار العام ومدبر الحدود أنها آتية من منو بالإسكندرية. ولم يلمس القاهريون في محاولة الفرنسيين أن يستميلوهم إليهم بعد أن أخذوا منهم الرهائن واعتقلوا شيوخهم وكبار سراتهم، ثم سوَّدوا عليهم نفرًا من «أسافل» الناس، وأرهقوهم بمطالبهم المالية التي لا تفرغ؛ إلَّا ضعفًا، ولم يروا في ذلك كله إلَّا دليلًا على عجز أعدائهم وهزيمتهم، وعلل الأهلون أنفسهم بانكشاف الغمة قريبًا، فلم يبد شيوخهم من أعضاء الديوان اهتمامًا بما يُطلب إليهم أن يفعلوه، فهم ينمقون الرسائل تارة إلى منو «بشكره»، وتارة إلى بليار يأخذون على أنفسهم العهود والمواثيق بالتزام الهدوء والسكينة، وهم يظهرون «تصديقهم» لما يُلقى عليهم من أكاذيب، ثم انتهى بهم الأمر إلى غمز الفرنسيين ولمزهم في مناقشات تدل على أنهم ما عادوا يقيمون لهم وزنًا ولا اعتبارًا.

ويذكر الشيخ الجبرتي ما فعله الفرنسيون من أجل تحصين القاهرة، ويصف ما ترتب على ذلك من هدم وتخريب حتى «عم الخراب خطة الحسينية خارج باب الفتوح والخروبي، فهدموا تلك الأخطاط والجهات والحارات والدروب والحمامات والمساجد والمزارات والزوايا والتكايا وبركة جناق وما بها من الدور والقصور المزخرفة وجامع الجنبلاطية العظيم بباب النصر … واتصل هدم خارج باب النصر بخارج باب الفتوح وباب القوس إلى باب الحديد، حتى بقي ذلك كله خرابًا متصلًا واحدًا، وبقي سور المدينة الأصلي ظاهرًا مكشوفًا، فعمروه ورموا ما تشعب منه وأوصلوا بعضه ببعض بالبناء ورفعوا بنيانه في العلو، وعملوا عند كل باب كرانك وبدنات عظامًا وأبوابًا داخلة وخارجة وأخشابًا مغروسة بالأرض مشبكة بكيفية مخصوصة، وركزوا عند كل باب عدة من العسكر مقيمين وملازمين ليلًا ونهارًا، ثم سدُّوا باب الفتوح بالبناء وكذلك باب البرقية وباب المحروق، وأنشئوا عدة قلاع فوق تلال البرقية ورتبوا فيها العساكر وآلات الحرب والذخيرة وصهاريج المياه، وذلك من حد باب النصر إلى باب الوزير وناحية الصوة طولًا فمهَّدوا أعالي التلال وأصلحوا طرقها وجعلوا لها مزالق وانحدارات لسهولة الصعود والهبوط بقياسات وتحريرات هندسية على زوايا قائمة ومنفرجة، وبنوا تلك القلاع بمقادير بين أبعادها، وهدموا أبنية رأس الصوة حيث الحطابة وباب الوزير تحت القلعة الكبيرة وما بذلك من المدارس القديمة المشيدة والقباب المرتفعة، وهدموا أعالي المدرسة النظامية ومنارتها وكانت في غاية من الحسن وجعلوها قلعة ونبشوا ما بها من القبور فوجدوا الموتى في توابيت من الخشب فظنُّوا داخلها دراهم فكسروا بعضها فوجدوا بها عظام الموتى فأنزلوا تلك التوابيت وألقوها إلى خارج، فاجتمع أهل تلك الجهة وحملوها وعملوا لها مشهدًا بجمع من الناس ودفنوها داخل التكية المجاورة لباب المدرج، وجعلوا تلك المدرسة قلعة بعد أن هدموا منارتها أيضًا، وكذلك هدموا مدرسة القانبية والجامع المعروف بالسبع سلاطين وجامع الجركسي وجامع خوندبركة الناصرية خارج باب البرقية، وكذلك أبنية القرافة ومدارسها ومساجدها وسدُّوا الباب وعملوا الجامع الناصري الملاصق له قلعة بعد أن هدموا منارته وقبابه وسدُّوا أبواب الميدان من ناحية الرميلة وناحية عرب اليسار وأوصلوا سور باب القرافة بجامع الزمر وجعلوا ذلك الجامع قلعة، وكذلك عدة قلاع متصلة بالمجراة التي كانت تنقل الماء إلى القلعة الكبيرة وسدُّوا عيونها وبواكيها وجعلوها سورًا بذاتها ولم يبقوا منها إلَّا قوصرة واحدة من ناحية الطيبي جهة مصر القديمة جعلوها بابًا ومسلكًا، وعليها الكرنك والغفر والعسكر الملازمون الإقامة بها، ولقبض المكس من الخارج والداخل، وسدُّوا الجهة المسلوكة من ناحية قنطرة السد بحاجز خشب مقفص، وعليه باب بقفل مقفص أيضًا وعليه حرسجية ملازمون القيام عليه وذلك حيث سواقي المجراة التي كانت تنقل الماء إلى القلعة، وحفروا خلف ذلك خندقًا.»

وخربوا دور الأزبكية وهدموا قنطرة الموسكي وما جوارها، «ومن أول القنطرة المقابلة للحمام إلى البوابة المعروفة بالعقبة الزرقاء حيث جامع أزبك … فيسلك المار من على القنطرة في رحبة متسعة ينتهي إلى رحبة الجامع الأزبكي، وهدموا بيت الصابونجي ووصلوه بجسر عريض ممتد ممهد حتى ينتهي إلى قنطرة الدكة، وفي متوسط ذلك الجسر ينعطف جسر آخر إلى جهة اليسار عند بيت الطويل المهدوم وبيت الألفي حيث سكن ساري عسكر، ممتد ذلك الجسر إلى قنطرة المغربي، ومنها يمتد إلى بولاق على خط مستقيم إلى ساحل البحر … وهدموا المسجد المجاور لقنطرة البركة مع ما جاوره من الأبنية والغيطان، وعملوا هناك بوابة وكرنكًا وعسكرًا ملازمين الإقامة والوقوف ليلًا ونهارًا، وذلك عند مسكن بليار قائمقام وهي دار جركس الجوهري وما جاوره.»٣٨٩
وهدم الفرنسيون «القباب والمدافن الكائنة بالقرافة تحت القلعة خوفًا من تترس المحاربين بها فكانوا يهدمون ذلك بالبارود على طريق اللغم … وكذلك أزالوا جانبًا كبيرًا من الجبل المقطم بالبارود من الجهة المحاذية للقلعة خوفًا من تمكُّن الخصم منها والرمي على القلعة»، «واجتهد الفرنساوية في وضع متاريس خارج البلد من الجهة الشرقية والبحرية وحفروا خنادق، وطلبوا الفَعَلَة للعمل فكانوا يقبضون على كل من وجدوه ويسوقونهم للعمل، وكذلك فعلوا بجهة القرافة، وألقوا الأحجار العظيمة والمراكب ببحر إنبابة لتمنع المراكب من العبور، وابتدءوا المتاريس البحرية من باب الحديد ممدودة إلى قنطرة الليمون إلى قصر إفرنج أحمد إلى السبتية إلى مجرى البحر»، «وشرعوا في هدم جانب من الجيزة في الجهة البحرية (بسبب اقتراب) عساكر الإنكليز القادمة من البر الغربي إلى البلد المسماة بنادر عند رأس ترعة الفرعونية.»٣٩٠
وأزعج هذا الهدم والتخريب الأهلين إزعاجًا كبيرًا، فقد لقي هؤلاء بسبب سد باب البرقية (أو الغريب) خصوصًا مشقات كبيرة في دفن موتاهم ببستان المجاورين، وكان باب البرقية هو الطريق المسلوك إلى هذه المدافن، وذلك في وقت اشتد فيه فتك الطاعون، فاضطر بليار إلى فتح باب صغير في «حائط السور جهة كفر الطماعين على قدر النعش والحمالين والمشاة.»٣٩١ وكان مما أرهقهم ذلك الخندق الذي احتفره الفرنسيون عند تلال البرقية كذلك «فكان الذين يخرجون بالأموات يصعدون بهم من فوق التل، ثم ينزلون ويمرون على سقالة من الخشب على الخندق المحفور فحصل للناس غاية المشقة. واتُّفق أن ميتًا سقط من على رقاب الحمالين وتدحرج إلى أسفل التل.»٣٩٢ وزاد بلاء الناس وشقاؤهم عندما شحَّت الأقوات وارتفعت الأثمان، «لاستمرار انقطاع الطرق وأسباب المتاجر، وغلو البضائع المجلوبة من البلاد الرومية والشامية والهندية والحجازية والمغرب، حتى علت أسعار جميع الأصناف وانتهى سعر كل شيء إلى عشرة أمثاله.»٣٩٣
ولما ضيقت الجيوش الزاحفة الخناق على القاهرة «عزَّت الأقوات وشحت زيادة على قلتها وخصوصًا السمن والجبن والأشياء المجلوبة من الريف، ولم يبقَ طريق مسلوكة إلى المدينة إلَّا من جهة باب القرافة وما يُجلب من جهة البساتين من القمح والتين، فيأتي ذلك إلى عرصة الغلة بالرميلة ويزدحم عليه النساء والرجال بالمقاطف فيُسمع لهم ضجة عظيمة. وشح اللحم أيضًا وغلا سعره لقلة المواشي والأغنام … (وأمَّا) الزيت (فصار) لا يوجد البتة وغلت الأبذار جدًّا»،٣٩٤ وطلب الفرنسيون الزيت من «الزياتين وألزموهم بمائتي قنطار سيرج وسمَّروا جملة من حوانيتهم، وخرج جماعة من الجزارين لشراء الغنم من القرى القريبة فقبض عليهم عساكر العثمانية القادمة ومنعوهم من العودة بالغنم والبقر، وكذلك منعوا الفلاحين الذين يجلبون الميرة والأقوات إلى المدينة فانقطع الوارد من الجهات البحرية والقليوبية»، واضطر الجزارون إلى إغلاق حوانيتهم.٣٩٥
وما إن وصلت الجيوش الزاحفة إلى الجيزة حتى منعت «المعادي من تعدية البر الشرقي فانقطع الجالب من الناحية القبلية أيضًا، فامتنع وصول الغلال والأقوات والبطيخ والعجُّور والخضراوات والخيار والسمن والجبن والمواشي، فعزت الأقوات وغلت الأسعار في الأشياء الموجودة منها جدًّا»، وعلا ضجيج الناس وصخبهم عندما تعذر حصولهم على الغلال خصوصًا.٣٩٦ وزاد كرب القاهريين وبؤسهم عندما أقر الفرنسيون أعمال عبد العال وأساليبه العاتية في ابتزاز أموال الناس، لحاجة الفرنسيين الملحة إلى المال يسدون به نفقاتهم بعد انقطاع مواردهم، فقبض هؤلاء بفعل عبد العال الأغا على «نيف وستين من مغاربة الفحامين وطولون والغورية ونفوهم.»٣٩٧ وقبض عبد العال الأغا «على أناس من الغورية والصاغة ومرجوش وغيرهم وألزمهم بمال، وسُئل عن ذلك فقال: لم أفعله من قبل نفسي، بل عن أمر من الفرنسيس.»
وعندما ضج القاهريون بالشكوى «أنهى مشايخ الديوان تعرُّض عبد العال لمصادرة الناس وطلب المال بعد تأمينهم وتبشيرهم برفع نصف المليون عنهم، فأُجيبوا بأن ذلك على سبيل القرض لتعطل المال الميري واحتياج العسكر إلى النفقة. وقيل لهم أيضًا: إن كان يمكنكم أن تكتبوا إلى البلاد بدفع الميري رفعنا الطلب عن الناس، فقالوا: هذا غير ممكن لحصول البلاد في حيازة القادمين وقطع الطريق من وقوف العرب بها وعدم الانتظام، وإنما القصد الملاطفة والرفق، فإن وظيفتنا النصح والوساطة في الخير.»٣٩٨ وتشدد الفرنسيون في طلب الأموال «المتأخرة من فردة الملتزمين»، و«قبضوا على ألطون أبو طاقية النصراني القبطي وحبسوه بالقلعة وألزموه بمبلغ دراهم تأخرت عليه من حساب البلاد.»٣٩٩ وظهر التخبط والارتباك في فعالهم، فهم تارةً يعملون على استمالة القاهريين وتأمينهم، وتارة أخرى يستفزون القاهريين بأعمالهم ويثيرون أحقادهم، فقد تقدم كيف شكَّل الفرنسيون في عهد كليبر فرقة عسكرية من الأقباط وعهدوا بقيادتها إلى المعلم يعقوب، فانتهز يعقوب الفرصة وأخذ يكثر من «جمع شبان القبط وحلق لحاهم وزيَّاهم بزي مشابه لعسكر الفرنساوية مميَّزين عنهم بقبع يلبسونه على رءوسهم مشابه لشكل البرنيطة وعليها قطعة فروة سوداء من جلد الغنم … وصيَّرهم عسكره وعزوته وجمعهم من أقصى الصعيد وهدم الأماكن المجاورة لحارة النصارى التي هو ساكن بها خلف الجامع الأحمر، وبنى له قلعة وسوَّرها بسور عظيم وأبراج وباب كبير يحيط به بدنات عظام، وكذلك بنى أبراجًا ظاهر الحارة جهة بركة الأزبكية، وفي جميع السور المحيط والأبراج طيقانًا للمدافع وبنادق الرصاص على هيئة سور مصر الذي رمَّه الفرنساوية، ورتب على باب القلعة الخارج والداخل عدة من العسكر الملازمين للوقوف ليلًا ونهارًا وبأيديهم البنادق على الطريقة الفرنساوية.»٤٠٠
وعندما شرع الفرنسيون يحصنون القاهرة «توكَّل رجل قبطي يقال له عبد الله من طرف (المعلم) يعقوب يجمع طائفة من الناس لعمل المتاريس، فتعدى على بعض الأعيان وأنزلهم من على دوابهم وعسف وضرب بعض الناس على وجهه حتى أسال دمه، فتشكَّى الناس من ذلك القبطي وأنهوا شكواهم إلى بليار قائمقام فأمر بالقبض على ذلك القبطي وحبسه بالقلعة.»٤٠١ على أن مما يجدر ذكره أن سائر الأقباط لم يكونوا راضين عن هذه الفعال، فكتب منو إلى القنصل الأول منذ أواخر نوفمبر سنة ١٨٠٠م: «إن الأقباط باستثناء المعلم يعقوب لا ينظرون إلينا بعين الرضا، بل يشعرون بأن أسباب السلطة قد أفلتت من أيديهم»، ثم وصفهم منو بأنهم أعظم الناس ميلًا إلى المخاتلة والمكر في العالم،٤٠٢ وهو وصف إن دل على شيء فإنما يدل على عدم اطمئنان الفرنسيين إلى القبط، وعلى أن الفرنسيين كانوا يتوقعون — إذا استثنيت جماعة المعلم يعقوب — اشتراك القبط مع سائر إخوانهم القاهريين في الثورة على الفرنسيين عند سنوح الفرصة. وكان أكثر ما يخشاه الفرنسيون عند اشتداد حرج مركزهم في هذه الأيام الحاسمة أن يشعل القاهريون الثورة ضدهم، وبخاصة عندما ذاعت الأخبار أن القاهريين صاروا يكثرون من عقد الاجتماعات في حي الأزهر، واعتقد كثيرون من قواد وكبار رجال الحملة أن خوف القاهريين «العظيم» من بطش الفرنسيين بهم هو السبب الذي يمنعهم من إشعال هذه الثورة٤٠٣ ويقنعهم بالتزام الهدوء والسكينة على الرغم مما كانوا يقاسونه من ويلات الحصار، وعلى الرغم من اقتراب قوات «العدو» — العثمانيين والإنجليز — من أسوار القاهرة، ومع ذلك فقد أبلغ المشايخ بليار والفرنسيين أن القاهريين ينتوون الانضمام إلى العثمانيين إذا أفلح هؤلاء في دخول القاهرة، وأنه يتعذر عليهم — أي على المشايخ — أن يمنعوهم من ذلك، ونصحوا بضرورة إحكام الرقابة على المسالك المؤدية إلى القاهرة ومضاعفة الحراسة على أبوابها. وكان من أثر هذه النصيحة التي عمل الفرنسيون بها أن أخذ بليار عددًا من المشايخ أبقاهم «رهينة» في القلعة.٤٠٤
وعمد الفرنسيون إلى استمالة أهل القاهرة بشتى الطرق، ومن أهمها أنهم أخذوا يظهرون الرفق بالقاهريين، «ورفعوا الطلب عن الناس بباقي نصف المليون»، ثم صاروا يكثرون من عقد الديوان، ويقرءون على أعضائه الكتب والرسائل الواردة من الإسكندرية، ويدلون بالبيانات، ويلقون الخطب التي كان الغرض منها «محاولة إقناع المشايخ» — ثم أهل القاهرة عمومًا — بأن الفرنسيين لا يزالون يتمتعون بكل سيطرة وسلطان في البلاد وأن النصر سوف يكون نصيبهم لا محالة على الرغم من إطباق جيش العدو على القاهرة، وأنهم لا ينوون الجلاء عن مصر مهما طال أمد القتال. ولكن مساعيهم هذه كانت فاشلة؛ لأن محاولة رفع «الطلب عن الناس بباقي نصف المليون» جاءت متأخرة وبعد عودة بليار من موقعة الزوامل مهزومًا، فكان السبب في إظهار «الرفق بالناس والسرور بهم» هو عدم قيام القاهريين — على حدِّ قول الشيخ الجبرتي — «عند خروج (الفرنسيين) للحرب وخلو البلدة منهم، وكان (الفرنسيون) يظنون منهم ذلك.»٤٠٥
وأدرك القاهريون أن الفرنسيين ما لجئوا إلى رفع هذه المظالم عنهم إلَّا بسبب ما كانوا فيه من حرجٍ شديد، خوفًا من ثورة الأهلين عليهم في وقت كانوا يتأهبون فيه للدفاع عن القاهرة، وزاد القاهريين اقتناعًا بأن الهزيمة سوف تنزل بأعدائهم أن هؤلاء ظلوا ينقلون الأغذية والأمتعة والذخائر إلى القلعة، فدوَّن الشيخ الجبرتي أخبار ذلك في نفس اليوم الذي رفع فيه الفرنسيون الطلب عن الناس بباقي نصف المليون، فقال: «وفيه (أي في هذا اليوم نفسه، وهو اليوم الثامن عشر من شهر مايو ١٨٠١م والخامس من شهر ذي القعدة ١٢١٦ﻫ) أُخِذت جملة من عِدد الطواحين وأُصعِدت إلى القلعة، وأكثروا من نقل الماء والدقيق والأقوات إليها وكذلك البارود والكبريت والجلل والقنابر والبنب، ونقلوا ما في الأسواق والبيوت من الأمتعة والفرش والأسرَّة وحملوه إليها ولم يبقوا بالقلاع الصغار إلَّا مهمات الحرب.»٤٠٦ ثم استمر الفرنسيون يحصنون القاهرة، يهدمون الأبنية ويحفرون الخنادق ويقيمون المتاريس. ولم يكن من المنتظر بسبب ذلك كله أن يصدق القاهريون تلك البلاغات أو البيانات والخطب التي اتخذ الفرنسيون من عقد الديوان وطلب المشايخ إلى الاجتماع ذريعة لإلقائها على المشايخ وأعضاء الديوان حتى يتاح لها الذيوع والانتشار بواسطة هؤلاء الرؤساء بين الأهلين عمومًا. ولم تفلح هذه البلاغات والبيانات في إقناع القاهريين بأن الفرنسيين باقون في بلادهم، وأن ما يتطاير بينهم من شائعات عن انهزام جند الحملة وانتصار العثمانيين وحلفائهم الإنجليز عليهم لا يستند إلى أساس من الصحة.

وكان السبب الأكبر في عدم تصديق أقوال الفرنسيين أن هؤلاء اعتمدوا على التلفيق والكذب في صوغ رسائلهم وبياناتهم وخطبهم، بل ظهر تمويههم بصورة جعلت القاهريين يزدرون بهم ويستخفون بأمرهم، وقد سبق ذلك الشيء الكثير من ذلك. ومن أواخر شهر أبريل وطوال شهر مايو على وجه الخصوص كثر انعقاد الديوان أو الجمعية وقراءة الكتب الواردة من منو على المشايخ والأعضاء وإلقاء البيانات «الكاذبة»، فحدث في أول مايو أن انعقد الديوان «وحضر الخازندار أستوف والوكيل جيرار وعبد العال وعلي أغا الوالي وبعض التجار — كالسيد أحمد الزرو والحاج عبد الله التاودي شيخ الغورية والحاج عمر المليطي التاجر بخان الخليلي ومحمود حسن وكليمان الترجمان — فتكلم أستوف وترجم عنه الترجمان أن ساري عسكر الكبير منو يقرئكم السلام ويثني عليكم كثيرًا، وسينجلي هذا الحادث إن شاء الله تعالى ويقدم في خير ويرى أهل مصر ما يسرهم، وقد هلك من الإنكليز خلقٌ كثيرٌ وباقيهم أكثرهم مرمودو الأعين وبمرض الزحير، وجاءت طائفة منهم إلى الفرنساوية وانضموا إليهم من جوعهم وعطشهم. ولتعلموا أن الفرنساوية لم يسلموا في رشيد قهرًا عنهم بل تركوها قصدًا، وكذلك أخلينا دمياط لأجل أن يطمعوا ويدخلوا إلى البلاد ويتفرق عساكرهم فنتمكن عند ذلك من استئصالهم. ونخبركم أنه قد وردت إلى سكندرية مركب من فرنسا وأخبرت أن الصلح قد تم مع كامل القرانات ما عدا الإنكليز فإنهم لم يدخلوا في الصلح، وقصدهم عدم سكون الحرب والفتن ليستولوا على أموال الناس، واعلموا أن المشايخ المحبوسين بالقلعة وغيرهم لا بأس عليهم، وإنما القصد من تعويقهم وحبسهم رفع الفتن والخوف عليهم، وشريعة الفرنساوية اقتضت ذلك ولا يمكن مخالفتها كمخالفة القرآن العظيم عندكم. وقد بلغنا أن السلطان العثملي أرسل إلى عسكره بالكف عن الفرنساوية والرجوع عن قتالهم، فخالف عليه بعض السفهاء منهم وخرجوا عن طاعته وأقاموا الحرب بدون إذنه، فأجابه بعض الحاضرين بقوله إن القصد حصول الراحة والصلح، والفرنساوية عندنا أحسن حالًا من الإنكليز لأننا قد عرفنا أخلاقهم، ونعلم أن الإنكليز إنما يريدون بانضمامهم إلى العثملية تنفيذ أغراضهم فقط، فإنهم يولُّون العثملي ويقرُّونه حتى يوقعوه في المهالك ثم يتركوه كما فعلوا سابقًا.»

وكأنما قد أدرك الخازندار أن الحاضرين إنما يتظاهرون بتصديق أقواله مجاراة له ولدفع الأذى عن أشخاصهم فحسب، فأنشأ يقول: «إن الفرنساوية لا يحبون الكذب ولم يُعهد عليهم، فلازمٌ أن تصدقوا كل ما أُخبركم به»، فأجابه بعض الحاضرين بقوله إن الكذب من شيمة الحشاشين وحدهم «والفرنساوية لا يأكلون الحشيش»، فغيَّر أستوف من لهجته وأخذ يتوعد المصريين بالعقوبة الصارمة إذا «وقع من أهل مصر فشل أو فساد»، ثم قال: «واعلموا أن الفرنساوية لا يتركون الديار المصرية ولا يخرجون منها أبدًا؛ لأنها صارت بلادهم وداخلة في حكمهم، وعلى الفرض والتقدير إذا غُلبوا على مصر فإنهم يخرجون منها إلى الصعيد ثم يرجعون إليها ثانيًا. ولا يخطر في بالكم قلة عساكرهم فإنهم على قلب رجل واحد، وإذا اجتمعوا كانوا كثيرًا.» ومع ذلك فإن أحدًا من الحاضرين لم يصدق هذه «التمويهات والخرافات» التي «طال الكلام فيها»، وكانت أجوبة الحاضرين على حد قول الشيخ الجبرتي «بحسب المقتضيات». «ثم قال الخازندار: والقصد منكم معاونة الفرنساوية ومساعدتهم وغلاق نصف المليون ونشفع بعد ذلك عند ساري عسكر في فوات النصف الثاني حكم ما عرَّفكم قائمقام بليار. فاجتهدوا في غلاقه من الأغنياء واتركوا الفقراء، فأجابوا في آخر الكلام بالسمع والطاعة، فقال: لكن ينبغي التعجيل فإن الأمر لازم لأجل نفقة العسكر. ثم قال لهم: ينبغي أن تكتبوا جوابًا لساري عسكر تعرِّفونه فيه عن راحة أهل البلد وسكون الحال وقيامكم بوظائفكم، وهو إن شاء الله يحضر إليكم عن قريب. وانفضَّ المجلس وكُتب الجواب المأمور به وأُرسل.»٤٠٧

ويذكر الشيخ الجبرتي أن الفرنسيين ما لبثوا بعد ذلك أن «أبرزوا مكتوبًا (في ٩ مايو) وزعموا أنه حضر من ساري عسكرهم وقرئ بالديوان»، وقد أظهر منو في هذا الخطاب غضبه على فورييه وكيل الديوان الذي ترك القاهرة وتوجه إلى الإسكندرية «ضد أوامره … وما تلك الفعلة إلَّا من نقص جسارته»، فاستبدل به «الستويان جيرار، وهو — على حد قول منو — رجل واجب الاستوصاء لأجل عرضه وفضله وخصوصًا لأجل غيره وجسارته.» وقد أعاد جيرار «فرش الديوان» في اليوم التالي، أمَّا الشيخ الجبرتي فلم يرَ في إعادة فرش الديوان إلَّا إمعانًا في التمويه والتضليل «على حد قول القائل:

وتجلُّدي للشامتين أريهمُ
أني لرَيب الدهر لا أتضعضع»٤٠٨
وفي يوم ٩ يونيو «طلبوا مشايخ الديوان فاجتمعوا بالديوان، وحضر الوكيل والترجمان وطلبهم للحضور إلى قائمقام، فلما حصلوا عنده قال لهم على لسان الترجمان: نخبركم أن الخصم قد قرب منا، ونرجوكم أن تكونوا على عهدكم مع الفرنساوية، وأن تنصحوا أهل البلد والرعية بأن يكونوا مستمرين على سكونهم وهدوِّهم ولا يتداخلوا في الشر والشغب؛ فإن الرعية بمنزلة الولد وأنتم بمنزلة الوالد، والواجب على الوالد نصح ولده وتأديبه وتدريبه على الطريق المستقيم التي يكون فيها الخير والصلاح، فإنهم إن داموا على الهدوِّ حصل لهم الخير ونجوا من كل شر، وإن حصل منهم خلاف ذلك نزلت عليهم النار وأُحرقت دورهم ونُهبت أموالهم ومتاعهم ويُتمت أولادهم وسُبيت نساؤهم وأُلزموا بالأموال والفِرَد التي لا طاقة لهم بها فقد رأيتم ما حصل في الوقائع السابقة، فاحذروا من ذلك فإنهم لا يدرون العاقبة ولا نكلفكم المساعدة لنا ولا المعاونة لحرب عدونا، وإنما نطلب منكم السكون والهدوء لا غير، فأجابوه بالسمع والطاعة وقولهم كذلك وقرئ عليهم ورقة بمعنى ذلك»،٤٠٩ وأمر الفرنسيون «الأغا وأصحاب الشرطة بالمناداة على الناس بذلك، وأنهم ربما سمعوا ضرب مدافع جهة الجيزة فلا ينزعجوا من ذلك فإنه شنك وعيد لبعض أكابرهم، وأن يجتمع من الغد بالديوان الأعيان والتجار وكبار الأخطاط ومشايخ الحارات ويُتلى عليهم ذلك. فلما كان ضحوة يوم الثلاثاء (١٠ يونيو) اجتمعوا كما ذُكر وحصلت الوصية والتحذير وانتهى المجلس وذهبوا إلى محلاتهم.»٤١٠
وفي يوم ١٢ يونيو «اجتمع المشايخ والوكيل بالديوان على العادة، وحضر أستوف الخازندار وترجم عنه رفاييل بقوله إنه يثني على كلٍّ من القاضي والشيخ إسماعيل الزرقاني باعتنائهما فيما يتعلق بأمر المواريث وبيت المال والمصالح على التركات المختومة؛ لأن الفرنساوية لم يبقَ لهم من الإيراد إلَّا ما يتحصل من ذلك، والقصد الاعتناء أيضًا بأمر البلاد والحصص التي انحلَّت بموت أربابها، فلازم أيضًا من المصالحة والحلوان والمهلة في ذلك ثمانية أيام، فمن لم يصالح على الالتزام الذي له شبهة في تلك المدة ضُبطت حصته ولا يُقبل له عذر بعد ذلك. واعلموا أن أرض مصر استقر ملكها للفرنساوية، فلازم من اعتقادكم ذلك وأركزوه في أذهانكم كما تعتقدون وحدانية الله تعالى، ولا يغرنكم هؤلاء القادمون وقربهم فإنه لا يخرج من أيديهم شيء أبدًا. وهؤلاء الإنكليز ناس خوارج حرامية وصناعتهم إلقاء العداوة والفتن، والعثملي مغتر بهم، فإن الفرنساوية كانت من الأحباب الخلَّص للعثملي، فلم يزالوا حتى أوقعوا بينه وبينهم العداوة والشرور، وأن بلادهم ضيقة وجزيرتهم صغيرة، ولو كان بينهم وبين الفرنساوية طريق مسلوك من البر لانمحى أثرهم ونُسيَ ذكرهم من زمان مديد. وتأملوا في شأنهم وأي شيء خرج من أيديهم، فإن لهم ثلاثة أشهر من حين طلوعهم إلى البر وإلى الآن لم يصلوا إلينا، والفرنسيس عند قدومهم وصلوا في ثمانية عشر يومًا، فلو كان فيهم همة أو شجاعة لوصلوا مثل وصولنا»، واستمر أستوف على حد قول الشيخ الجبرتي يذكر كلامًا كثيرًا «من هذا النمط في معنى ذلك من بحر الغفلة». ويكمل الشيخ قصة ما حدث في ذلك اليوم فيقول: «ثم ذكر البكري والسيد أحمد الزرو أنه حضر مكتوب من رشيد على يد رجل حناوي لآخر من منية كنانة، يذكر فيه أنه حضر إلى سكندرية مراكب وعمارة من فرنسا، وأن الإنكليز رجعت إليهم، وأن الحرب قائمة بينهم على ظهر البحر، فقال الخازندار: يمكن ذلك وليس ببعيد. ثم نقلوا ذلك إلى بليار قائمقام فطلب الرجل الراوي لذلك، فأحضر الزرو رجلًا شرقاويًّا حلف لهم أنه سمع ذلك بأذنه من الرجل الواصل إلى منية كنانة من رشيد.»٤١١
واستمر تمويه الفرنسيين في الأيام التالية، فحدث قبل غروب شمس يوم ١٣ يونيو أن «مشى عبد العال الأغا وشقَّ في شوارع المدينة وبين يديه منادٍ يقول: الأمن والأمان على جميع الرعايا، وفي غد تُضرب مدافع وشنك من القلاع في الساعة الرابعة فلا تخافوا ولا تنزعجوا، فإنه حضرت بشارة بوصول بونابرته بعمارة عظيمة إلى الإسكندرية، وأن الإنكليز رجعوا القهقرى.» وعندما أُطلقت المدافع في صبيحة اليوم التالي (١٤ يونيو) «صعد أناس إلى المنارات ونظروا بالنظارات فشاهدوا عساكر الإنكليز بالجهة الغربية وصلوا إلى آخر الوراريق وأول إنبابة ونصبوا خيامهم أسفل إنبابة، وعند وصولهم إلى مضاربهم ضربوا عدة مدافع، فلما سمعها الفرنساوية ضرب الآخرون تلك المدافع التي ذكروا أنها شنك. أمَّا العساكر الشرقية فوصلت أوائلهم إلى منية الأمراء المعروفة بمنية السيرج والمراكب فيما بينهما من البرين بكثرة.»٤١٢
وفي يوم ١٥ يونيو «حصلت الجمعية بالديوان»، وقرئ خطاب من بليار موجه «لأرباب الديوان والحاضرين، يذكر فيه أنه حضر إليه مكتوب من كبيرهم منو بالإسكندرية صحبة هجانة فرنسيس وصلوا إليهم من طريق البرية، مضمونه أنه طيِّب بخير والأقوات كثيرة عندهم يأتي بها العربان إليهم، وبلغهم خبر وصول عمارة مراكب الفرنساوية إلى بحر الخزر وأنها عن قريب تصل الإسكندرية، وأن العمارة حاربت بلاد الإنكليز واستولت على شقة كبيرة منها، فكونوا مطمئني الخاطر من طرفنا ودوموا على هدوِّكم وسكونكم، إلى آخر ما فيه — على قبيل الشيخ الجبرتي — من التمويهات، وكل ذلك لسكون الناس وخوفًا من قيامهم في هذه الحالة. وكان وصول هذا المكتوب بعد نيف وأربعين يومًا من انقطاع أخبار سكندرية ولا أصل لذلك.»٤١٣
وكان الغرض من هذه التمويهات إقناع القاهريين بالتزام الهدوء والسكينة على نحو ما ذكر الشيخ الجبرتي، ومع أن أحدًا لم يصدق شيئًا من هذه التمويهات فقد التزم الأهلون جانب الهدوء والسكينة، وإن كان من الواضح أن هؤلاء سوف يرحبون بدخول العثمانيين إلى القاهرة، وينضمون إليهم ضد الفرنسيين عند سنوح الفرصة.٤١٤ وقد شُغل القاهريون في أثناء ذلك كله بتتبع أخبار زحف العثمانيين وحلفائهم الإنجليز صوب القاهرة، وبخاصة منذ عودة بليار من معركة الزوامل مهزومًا، فعلموا «بوصول طاهر باشا الأرنؤدي بحملة من العساكر الأرنؤدية إلى أبو زعبل.»٤١٥
وفي يوم ١٢ مايو ذاع نبأ وصول «ركاب الوزير يوسف باشا إلى مدينة بلبيس» وذلك يوم ٨ مايو.٤١٦ وفي ١٤ مايو «تواترت الأخبار بوصول القادمين من الإنكليز والعثمانية إلى الرحمانية، وتملكهم القلعة وما بالقرب منها من الحصون الكائنة بالعطف وغيره.»٤١٧ ثم علم القاهريون أن «العساكر القادمة من الجهة الشرقية (قد قربت) وحضرت طوالعهم إلى القليوبية والمنير والخانكة لأخذ الكلف.»٤١٨ وفي ٢٣ مايو «تواترت الأخبار بأن العساكر الشرقية وصلت أوائلها إلى بنها وطحلا بساحل النيل.»٤١٩ وتأكد لدى القاهريين إطباق العثمانيين والإنجليز على القاهرة عندما اشتد إطلاق المدافع، وسمع القاهريون أصوات هذا الضرب الشديد «على بعد» ضحوة يوم ٩ يونيو، ثم أُشيع في اليوم التالي «حضور الوزير إلى شلقان وكذلك عساكر الإنكليز بالناحية الغربية، (ووصولهم) إلى أول الوراريق.»٤٢٠ ثم زاد إطلاق المدافع يوم ١٤ يونيو، وتابع الفرنسيون ضرب مدافعهم «من جميع القلاع.»
وتبين للقاهريين أن الإنجليز قد وصلوا إلى «آخر الوراريق وأول إنبابة»،٤٢١ ثم ذاع الخبر في اليوم التالي عن وصول «العساكر الشرقية إلى العادلية (وامتداد) العرضي منها إلى قبلي منية السيرج وكذلك الغربية إلى إنبابة. وقد نصب العثمانيون والإنجليز خيامهم بالبرين وأقاموا جسرًا من المراكب في النيل بين المعسكرين، «وضربوا عدة مدافع، وخرج عدة من الفرنساوية خيالة فترامحوا معهم وأطلقوا بنادق، ثم انفصلوا بعد حصة من الليل ورجع كل إلى مأمنه»،٤٢٢ ثم «زحف العساكر الشرقية (العثمانيون) حتى قربوا من قبة النصر، وسكن إبراهيم بيك زاوية الشيخ دمرداش» وكان ذلك يوم ١٨ يونيو، واستطاع فريق منهم الوصول إلى جهة المذبح، وأشرفوا من حائطه على الجزارين وأطلقوا بنادقهم على ثلاثة من «أنفار الفرنسيس … فأُصيب أحدهم في رجله فأخذوه وهرب الاثنان»، «ووقع بين الفريقين مضاربة على بعد وقُتل بعض قتلى وأُسر بعض أسرى، ولم يزل الضرب بينهم إلى قريب العصر والفرنسيس يرمون من القلعة الظاهرية وقلعة نجم الدين والتل ولا يتباعدون عن حصونهم»، ثم تبادل الفريقان إطلاق النار في اليوم التالي كذلك.٤٢٣ ثم حدث بعد ذلك أن «وقعت مضاربة أيضًا بطول النهار (في يوم ٢٠ يونيو)، ودخل نحو خمسة وعشرين نفرًا من عسكر العثمانية إلى الحسينية، وجلسوا على مساطب القهوة وأكلوا كعكًا وخبزًا وفولًا مصلوقًا وشربوا قهوة ثم انصرفوا إلى مضربهم.»٤٢٤ وحدث في نفس اليوم أن «زحفت عساكر البر الغربي إلى تحت الجيزة»، فانتقل بليار إلى «بر الجيزة، فسُمع الضرب أيضًا من ناحية الجيزة، وسُمعِت طبول الأمراء ونقاقيرهم، واستمر الأمر إلى يوم الثلاثاء حادي عشره (أي اليوم الحادي عشر من شهر صفر الخير سنة ١٢١٦ﻫ، الموافق ٢٣ يونيو سنة ١٨٠١م) فبطل الضرب في وقت الزوال» … وانقضى اليومان التاليان «والمضاربة بين الفريقين ساكنة، وأُشيع وقوع المسالمة والمراسلة بينهما، والمتوسط في ذلك الإنكليز وحسين قبطان باشا، فانسرَّ الناس وسكن جأشهم لسكون الحرب.»٤٢٥

تسليم بليار

وتضافرت عوامل عدة ساعدت العثمانيين وحلفاءهم الإنجليز في زحفهم على القاهرة، كان من أهمها أن مشايخ القرى والبلدان التي مر بها الصدر الأعظم والقبطان باشا في طريقهما إلى عاصمة البلاد؛ سرعان ما صاروا يقدمون خضوعهم للعثمانيين، ثم حذا حذوهم الفرسان البدو الذين أخذوا يفدون من جميع الجهات للانضمام إلى الترك في زحفهم على القاهرة. ولو أن رينييه كان يعزو ترحيب الأهلين إلى خوف هؤلاء من العثمانيين وبطشهم فيقول إنهم ما كانوا يقدمون المؤن إلى الجيش الزاحف إلَّا مرغمين إرغامًا على ذلك، كما زعم أن فرسان البدو ما حضروا إلى معسكر الأتراك إلَّا لخوفهم من مطاردة هؤلاء لهم من جهة، ولأنهم كانوا يطمعون في أن تُتاح لهم فرصة الحصول على الأسلاب والمغانم بفضل ما ينهبونه من البلدان التي يمرون بها في وقت سادت فيه الفوضى نتيجة لعجز الفرنسيين عن المحافظة على الأمن وسط هذه الأزمة المستحكمة بسبب الغزو العثماني الإنجليزي.٤٢٦
ومع ذلك فمما لا شكَّ فيه أن عجز الفرنسيين عن صد الجيوش الزاحفة في الدلتا، ثم انهزام بليار في معركة الزوامل على وجه الخصوص؛ كان قد زاد الأهلين وبدو الصحراء اقتناعًا بأن الفرنسيين لا محالة راحلون عن البلاد، وأن أيامهم في القاهرة قد باتت قصيرة ومعدودة، فكان لهذه المعركة أثر حاسم في موقف الأهلين والعربان عمومًا من الفرنسيين، كما أحدث الانتصار على بليار في هذه المعركة أثرًا لا يقل خطورةً عن سابقه في موقف العثمانيين وحلفائهم الإنجليز كذلك من جيش الاحتلال الفرنسي في القاهرة، ذلك بأن «الزوامل» كانت المعركة الأولى التي أحرز فيها العثمانيون نصرًا ظاهرًا على الفرنسيين بعد انهزامهم الكبير في موقعة هليوبوليس أيام كليبر ثم في غير هذه من المعارك والمناوشات. فدلَّ انتصار الأتراك — وهم الذين كانت جيوشهم تفتقر إلى التنظيم وتنقصها الأسلحة والمعدات الحديثة — على أن الفرنسيين قد وصلوا من الضعف إلى درجة شديدة، فاطمأن الإنجليز إلى قدرة حلفائهم الأتراك على كسب المعارك، وزاد الأتراك من ناحيتهم إيمانًا باستطاعتهم الانتصار على أعدائهم،٤٢٧ وشجع هذا النصر كلا الجيشين العثماني والإنجليزي على مواصلة الزحف بهمة ونشاط صوب القاهرة. وفضلًا عن ذلك فقد كفل انتصار «الزوامل» اطمئنان العثمانيين إلى خطوط مواصلاتهم، فصاروا لا يخشون من قيام العدو بأية محاولات جدية لقطعها، بل أمكن الاتصال في آخر مايو بين هتشنسون والصدر الأعظم وانضم آلايان من المشاة الإنجليز وبعض الفرق من فرسانهم ومدفعيتهم إلى الجيش العثماني.٤٢٨
وعندما عسكر الإنجليز وحلفاؤهم العثمانيون قريبًا من القاهرة عظم الأمل في إمكان تضييق الخناق على الفرنسيين وجيش بليار وإرغامهم على التسليم طوعًا أو كرهًا، وكان مما عزز هذا الأمل انضمام البكوات المماليك بفرسانهم إلى الجيوش الزاحفة منذ أوائل شهر يونيو على نحو ما سبق ذكره، فقد تم الاتفاق بين هتشنسون وبين عثمان بك البرديسي وعثمان بك الطنبورجي ومحمد بك الألفي وعثمان بك حسن وسليم بك وغيرهم؛٤٢٩ على أن يبذل هؤلاء كل مساعدة ممكنة للإنجليز وأن يشتركوا معهم في القتال الدائر ضد الفرنسيين، لقاء أن يضمن لهم الإنجليز استرجاع ممتلكاتهم، ثم ذلك المركز الممتاز الذي أعطاهم كل سيطرة وسؤدد في البلاد قبل مجيء «الحملة الفرنسية».٤٣٠
ومع أن هذه كانت جميعها ظروفًا مواتية ولا شكَّ لأنْ يبدأ هتشنسون هجومه الحاسم على القاهرة، فقد اكتفى العثمانيون والإنجليز في مبدأ الأمر بإرسال الرسل يعرضون على بليار شروطًا «سخيةً» نظير تسليم القاهرة، فبعث الصدر الأعظم منذ ٢ مايو بأحد الضباط الإنجليز يطلب إلى بليار التسليم،٤٣١ وفي منتصف يونيو عرض هتشنسون على بليار التسليم «وفق شروط مناسبة ومفيدة»،٤٣٢ ورفض بليار عروض الوزير العثماني والقائد الإنجليزي. وكان مما سبب إرجاء القيام بأية عمليات عسكرية حاسمة ضد القاهرة من جانب الإنجليز ثم من جانب الأتراك — الذين لم يكونوا يستطيعون العمل في الحقيقة منفردين دون معاونة حلفائهم الإنجليز لهم — أن هتشنسون عند وصوله أمام القاهرة سرعان ما وجد نفسه في مأزق تحيط به صعوبات تشبه من وجوه عدة تلك التي صادفها القائد الإنجليزي عقب واقعة نيكوبوليس، فقد ذاع في المعسكر الإنجليزي نبأ ظهور أسطول غانتوم قريبًا من الشاطئ الأفريقي غرب الإسكندرية يحمل النجدات إلى منو، كما ذاع خبر نجاح إحدى الفرقاطات الفرنسية في الدخول إلى ميناء الإسكندرية.
وعلى ذلك فقد بدأ أولئك الذين أعربوا عن تذمرهم وأعلنوا عصيانهم في ظروف سابقة يرفعون رءوسهم مرة أخرى لإقناع القائد العام بالعدول عن محاولة اقتحام خطوط الفرنسيين الأخيرة والهجوم على القاهرة، لما في ذلك من خطر بالغ قد يعرِّض الجيش في نظرهم إلى الهلاك المحقق وذلك لاعتبارات عديدة، منها أن قوات الجنرال كوت المرابطة أمام الإسكندرية قد نقصت بسبب المرض إلى حوالي أربعة آلاف مقاتل، كما انتشر المرض في جيش هتشنسون حتى اضطر القائد العام نفسه إلى إرسال حوالي الألف من المرضى بطريق النيل منذ مغادرته الحماد. أضف إلى هذا أن معظم قواته الزاحفة على القاهرة كانت من الجنود العثمانيين الذين يُشك كثيرًا في صلابة عودهم، وذلك بينما تفصل بين القاهرة والإسكندرية مسافات شاسعة، ولا يستطيع الجنرال كوت بجيشه الذي لا يزيد على أربعة آلاف جندي أن يصمد أمام جيش منو الذي يبلغ حوالي سبعة آلاف مقاتل معتصمين بالإسكندرية. ومع أن الأمل كان عظيمًا في وصول قوات الحملة الإنجليزية الهندية أمام القاهرة، فإن جزءًا بسيطًا من هؤلاء الجنود فحسب قد بلغ القاهرة وانضم إلى جيش هتشنسون، بينما كانت الحملة الإنجليزية الهندية لا تزال منعزلة عن بقية الجيش في أحد موانئ البحر الأحمر البعيدة، ويفصل بين هذا الميناء وبين القاهرة فراسخ عدة.٤٣٣
غير أن هتشنسون الذي استطاع أن يقضي على معارضة هؤلاء المتذمرين سابقًا كان قوي العزم والإرادة، ويعتقد اعتقادًا راسخًا أنه يستحيل عليه في هذا الوقت أكثر من أي وقت آخر النكوص على عقبيه والتقهقر من أمام القاهرة وصمم على المضي في خطته، وكان له من انتصاراته السابقة ونجاح زحفه على القاهرة خير كفيل بإمكان القضاء على هذه المعارضة، وزيادة على ذلك فقد ساعده الفرنسيون أنفسهم بتخاذلهم وترددهم على اجتياز الأزمة بسلام، فإن غانتوم الذي عقد الفرنسيون آمالهم على نجاحه في حمل النجدات إلى الإسكندرية وأثار ظهوره على الشاطئ الإفريقي مخاوف الإنجليز لم يلبث أن عاد أدراجه، وما إن بلغت أخبار اختفاء الأسطول الفرنسي من البحر الأبيض المعسكر الإنجليزي حتى تنفَّس هتشنسون الصُّعَداء وصمم على بدء الهجوم واقتحام تحصينات القاهرة.٤٣٤

وعلى ذلك فقد ترك هتشنسون عددًا من الجند لحراسة «الجسر» الممتد عبر النيل بين معسكري الجيشين الإنجليزي والعثماني، وتقدم ببقية قواته حتى عسكر أمام أسوار الجيزة في ٢١ يونيو استعدادًا لمحاصرتها، ولم يكن من المتوقع أن تبدي قلعتها مقاومة تُذكر بسبب ضعف حاميتها، ولو أن الفرنسيين كانوا يعتمدون في إمكان الصمود أمام هجوم الإنجليز على أنه كان في استطاعتهم أن يمدوا هذه القلعة بالنجدات بواسطة جسر أنشئوه على النهر لهذه الغاية. ولذلك فقد بات هدف هتشنسون الأكبر الاستيلاء على هذا الجسر، حتى إذا تم له ذلك وسقطت الجيزة في قبضته عَبَر النهر بجيشه للاتصال بجيش الصدر الأعظم المعسكر على مسافة قصيرة من القاهرة، فيتحد عندئذٍ الجيشان في هجوم حاسم على القاهرة ذاتها.

غير أن صعوبات عدة لم تلبث أن عطلت تنفيذ هذه الخطة واضطرت القائد العام إلى إرجاء الهجوم بعض الوقت، وأهم هذه الصعوبات انخفاض مياه النهر بدرجة جعلت من المتعذر عبوره بسهولة أو نقل المدافع الثقيلة مسافات طويلة، كما ظهرت الحاجة للمهمات والمواد الكثيرة التي كانت تنقص الجيش لتنفيذ هذه الخطة، ووضحت تبعًا لذلك ضرورة إرجاء الهجوم أيامًا أخرى حتى يتسنى تذليل هذه الصعوبات التي من شأنها «إطالة عمليات الحملة العسكرية وزيادة متاعبها.»٤٣٥ ولكنه ما بدأ هتشنسون في اليوم التالي (٢٢ يونيو) يعمل على تذليل هذه الصعوبات حتى انتفى كل سبب لتدبير أمر الهجوم على القاهرة؛ ذلك بأن بليار ما لبث أن أرسل توسار Tousard أحد ضباطه يطلب مقابلة الجنرال هوب Hope ويرجوه إخبار هتشنسون برغبة القائد الفرنسي العام في عقد مؤتمر للبحث في شروط تسليم القاهرة،٤٣٦ فكانت مفاجأة طرب لها الصدر الأعظم طربًا عظيمًا، ووافق هتشنسون على انعقاد المؤتمر في اليوم التالي للنظر في شروط التسليم، ونُصبت الخيام في معسكر أنشئ لهذه الغاية على شاطئ النيل بين مخافر الإنجليز الأمامية وحصن أو قلعة الجيزة أُطلِق عليه اسم «معسكر المؤتمر».٤٣٧
وكان قرار تسليم القاهرة قرارًا خطيرًا اختلف رأي المعاصرين في تقدير أسبابه، ووزن الظروف التي أقنعت بليار بضرورة الاعتراف بالهزيمة والتعجيل بتسليم القاهرة دون إبداء أية مقاومة، وقبل محاولة الدفاع عن القاهرة والالتحام مع العدو في معركة حاسمة؛ فنقم فريقٌ من المعاصرين على بليار ما عدُّوه تخاذلًا مشينًا من جانبه وأيده فريق آخر. ولا يزال قرار التسليم موضع نقاش كبير بين الكتاب والمؤرخين — والفرنسيين منهم على وجه الخصوص — إلى الوقت الحاضر؛ فبينما يرى جماعة منهم أن الدفاع عن القاهرة كان متعذرًا لأسباب عسكرية واقتصادية وسياسية عدة، اعتقد آخرون أن بليار كان في وسعه الدفاع عن القاهرة، ولكنه لم يحاول الصمود أمام العدو لسبب واحد هو أنه كان قد قرر التسليم منذ حلت به الهزيمة في معركة الزوامل (أو الخانكة)، لاعتقاده أن جيش الشرق والفرنسيين قد فقدوا مصر نهائيًّا، وأن الاستمرار على المقاومة عبث لا طائل تحته، وأن الجلاء عن مصر في شروط تشبه شروط اتفاق العريش السابقة خير وأجدى؛ إذ يتمكن جيش الشرق عندئذٍ من العودة إلى أرض الوطن مرفوع الرأس موفور الكرامة.٤٣٨

غير أنه لا يتسنى الوصول إلى رأي قاطع في مسألة تسليم بليار دون فحص الظروف التي أحاطت بهذا التسليم، والأسباب التي أقنعت بليار بوقف القتال وترك الدفاع عن القاهرة، فقد كان أمام القائد الفرنسي أن يختار بين خطط ثلاث: إمَّا تركيز قواه في القاهرة ثم الاستمرار على الدفاع عن العاصمة، وإمَّا محاولة الخروج من القاهرة وشق طريق لجنده وسط الجيوش المحاصرة والالتحام مع هذه الجيوش في معارك حاسمة حتى يتمكن من تحطيم ذلك الحصار المضروب على القاهرة، وإمَّا الانسحاب من القاهرة والتقهقر إلى الدلتا أو إلى الصعيد لاستئناف العمليات العسكرية ضد العدو.

وكان لكلٍّ من هذه الخطط الثلاث مزايا عدة لو أنه أمكن تنفيذها، فمما لا شكَّ فيه أن خطة تركيز القوى كانت ذات فوائد كبيرة؛ إذ تمكِّن الفرنسيين من حشد قواتهم لمقابلة جيوش العدو المتفوقة عليهم، ولكن مما لا شكَّ فيه كذلك أن تركيز القوى في القاهرة لم يكن من الناحية العسكرية تدبيرًا يكفل النصر في النهاية؛ ذلك بأن عدد القلاع أو الحصون الصغيرة التي وجب التمسك بها والدفاع عنها في القاهرة وما يجاورها كان لا يقل عن أربعة عشر حصنًا أو موقعًا عدا قلعة القاهرة الكبيرة، وهذا بينما امتد خط القتال مسافة تزيد على اثني عشر ميلًا من القاهرة إلى الجيزة مارًّا بمصر القديمة وبولاق، أضف إلى هذا أنه لم يكن من الحكمة في شيء اتخاذ القاهرة مركزًا للعمليات العسكرية الهامة، في وقت كان الخوف من قيام القاهريين بالثورة وانحيازهم إلى جانب العدو الرابض أمام أبواب القاهرة شديدًا.

أمَّا إذا قرر بليار أن يخرج من القاهرة وأن يشق له طريقًا بحد السيف وسط جيوش العدو، فإن هذا العمل على خطورته وما قد ينجم عنه من خسائر فادحة سوف يعرض القاهرة ومؤخرة جيش بليار نفسه لكارثة محققة؛ لأن انشغال بليار بالالتحام مع جيش هتشنسون من ناحية سوف يعطي الصدر الأعظم الفرصة لاقتحام تحصينات القاهرة والدخول إلى المدينة من الناحية الأخرى، وكذلك إذا هاجم بليار جيش الصدر فإن هتشنسون سوف يجد طريقه كذلك لاقتحام القاهرة. وعلى ذلك فقد كان من العبث التفكير في محاولة «خروج مسلح» من القاهرة والالتحام مع العدو أمام تحصيناتها.

وأمَّا إذا قرر بليار الانسحاب من القاهرة وحاول القهقرى إلى الدلتا أو الصعيد، فإن صعوبات عدة سوف تحول دون نجاح هذه الحركة؛ ذلك بأن دمياط ورشيد والرحمانية في الشمال كانت جميعها في أيدي الإنجليز، بينما يحاصر هؤلاء الإسكندرية حصارًا شديدًا، ولا سبيل إلى الانضمام إلى قوات الجنرال منو المحاصرة بها بسبب انقطاع طرق المواصلات إذ أغرق الإنجليز منخفض مريوط بالماء، ومن المتعذر استخدام الطريق الصحراوي إلى الإسكندرية دون التعرض لأخطار عدة شديدة. ولم يكن من الحكمة في شيء محاولة التقهقر إلى الصعيد كذلك، إذ إنه كان من المتوقع أن تعترض الحملة الهندية الإنجليزية الزاحفة من الجنوب جيش بليار المتقهقر في الصعيد، فلا يمضي وقت طويل حتى يجد بليار نفسه محاصرًا بين جيشين؛ جيش هذه الحملة من أمامه وجيش الجنرال هتشنسون (والصدر الأعظم) من خلفه. أضف إلى ذلك أن وباء الطاعون كان منتشرًا في الصعيد، ويستأثر بالسلطة في أكثر أقاليم الوجه القبلي مولاي محمد المهدي الذي أفلح في إشعال الثورة في الصعيد بعد وفاة مراد بك. وهكذا وجد بليار أنه من المتعذر عليه أن يترك القاهرة، كما وجد أن الاقتصار على تركيز القوى بها أمر لا نفع فيه ولا جدوى منه إذا لم يصحب تركيز هذه القوى تصميم على الدفاع عن القاهرة بصورة جدية.٤٣٩

ومع ذلك فقد كان من رأي بليار أن الدفاع عن القاهرة يكاد يكون أمرًا من المستحيل محاولته؛ لأن قلاع القاهرة لم يكن في مقدورها الصمود أمام هجوم العدو عند بدء المعركة الحاسمة سوى أيام معدودة، لضآلة حامياتها ونقص استعداداتها وضعف تحصيناتها على الرغم من مظهرها الذي كان يدل على القوة والمناعة. ومع أن بليار كان قد أقام جملة مراكز للدفاع بين القاهرة وبولاق، فإن هذه ما كانت تقوى على احتمال نيران المدفعية الشديدة، ومن المتوقع انهيارها إذا جد الجد وحمي وطيس القتال، ومن المنتظر أن تسلم للعدو الواحدة بعد الأخرى إذا استطاع هتشنسون أو الصدر الأعظم اقتحام مركز منها. ولا شك في أن توزيع الجند على هذه المراكز والقلاع وعلى طول خط الدفاع الممتد من القاهرة إلى الجيزة سوف يترك أبواب القاهرة تحت رحمة العدو وتحت رحمة القاهريين المتأهبين للثورة، ويجعل من المتعذر حشد جند هذه الحاميات في صعيد واحد للالتحام مع العدو في معركة أخيرة فاصلة، ولا معدى في هذه الحالة عن سقوط القاهرة.

وكان أخشى ما يخشاه بليار وقوع القاهرة في قبضة العدو بعد فشل الدفاع عنها؛ إذ إن ذلك — كما أعتقد — سوف يؤدي لا محالة إلى حدوث مذبحة لن ينجو منها فرنسي واحد.٤٤٠ وفضلًا عن ذلك فإن الدفاع عن القاهرة — إذا تقرر — فلن تطول مدته؛ فالمؤن والذخائر قد بدأت تقل بسبب «إهمال» منو وسوء تدبيره، واعتقد بليار أنه من المتعذر عليه تصحيح «الأخطاء» التي ارتكبها قائد الحملة العام، ومع أنه بعث بمدير شئون التموين رينييه Reynier — شقيق الجنرال رينييه — في مركب مسلح للطواف بالبلدان الواقعة على شاطئ النيل في الصعيد كي يجلب منها الحبوب والأغذية، فقد وجد رينييه القرى حول القاهرة خالية من سكانها الذين فتك الطاعون بشطر كبير منهم وغادرها الباقون خوفًا من الهلاك، ثم إنه لم يستطع التقدم كثيرًا في النهر بسبب انتشار ثورة المهدي.٤٤١ وزادت صعوبات بليار عندما وجد خزائنه خالية ولا يكفي ما لديه من أموال لدفع مرتبات الجند أو سد مطالب الإدارة الضرورية سوى أيام معدودة فقط بفضل ما يمكن تحصيله من ضرائب وأموال من أهل القاهرة.
أمَّا المخازن وبخاصة مخازن المدفعية فقد باتت خاوية على عروشها بسبب طلبات منو المتكررة، وقد استخدم كل ما أُرسل إليه من ذخائر أو فُقد في الرحمانية ورشيد وسائر الأماكن التي كان الإنجليز يحتلونها، وبقي في القاهرة حوالي مائة وخمسين طلقة فحسب لكل مدفع بها، وانعدم وجود قنادق المدافع بتاتًا. ومع أن بليار ظل مدة طويلة ينتظر تعليمات حاسمة وواضحة من قائد الحملة العام، فقد اكتفى منو بأن يطلب إلى بليار «كسب الوقت» والاستماتة في الدفاع عن القاهرة، ولم يرسل إليه تعليمات للقيام بأعمال «إيجابية».٤٤٢ وفضلًا عن ذلك فقد حملت كل الرسائل التي وصلت بليار من منو تاريخًا يسبق سقوط الرحمانية، ولم تصل بليار أية تعليمات بعد أن أخلى «لاجرانج» الرحمانية أو في أثناء حصار القاهرة، وكان بعد تسليم القاهرة فقط أن بلغت بليار تعليمات من منو يأمره فيها بضرورة إحراز النصر أو الاستبسال في الدفاع عن القاهرة حتى الموت والفناء، وذلك في وقت كان يعلم فيه منو أن الحامية المحاصرة قد باتت تعاني شدائد عظيمة وتطبق عليها جيوش العدو من كل جانب، فدلت هذه التعليمات على أن صاحبها قد فقد كل اتزان وحكمة، وصار لا يرضيه — على حد قول أحد ضباط بليار في القاهرة — إلَّا أن يرى أشلاء رجال الحامية مبعثرة في كل مكان ما دام هلاك جيش القاهرة ينقع غلته ويروي ظمأه الشديد إلى المجد والشهرة.٤٤٣
فكان لهذه الأسباب جميعها أن قرَّ رأي بليار على تسليم القاهرة. وزاده اقتناعًا بضرورة عدم الإبطاء في التسليم أن عثمان بك البرديسي وهو أحد البكوات الذين انحازوا إلى جانب الإنجليز ما لبث أن أفلح في إبلاغ ماجو Majou أحد ياوران بليار وبتروتشي (أو بطروشه) من الوكلاء المدنيين بأن الإنجليز والعثمانيين ينوون التساهل مع الفرنسيين ومعاملتهم بسخاءٍ كبيرٍ، إذا قبل هؤلاء التسليم وقرروا وقف القتال.٤٤٤

ومع ذلك فإن بليار لم يشأ أن يأخذ على عاتقه وحده مسئولية البت في هذه المسألة الخطيرة، فعقد مجلسًا حربيًّا في القلعة بعد ظهر يوم ٢٢ يونيو (و٣ مسيدور من السنة التاسعة) لبحث موضوع التسليم، وحضر هذا الاجتماع كبار القواد الفرنسيين في القاهرة.

ولما كان القواد أكثر تضامنًا واختفت عوامل التفرقة من هيئة أركان الحرب منذ أن غادر منو القاهرة، فقد صار ميسورًا تقليب وجوه الرأي في الموقف بكل هدوءٍ وسكينة، واستطاع القواد المجتمعون الوصول إلى قرار حاسم بعد الاستماع إلى وجهات النظر المختلفة، فبدأ بليار الحديث وأخذ يوضح في هدوء الصعوبات التي أحاطت بالموقف من كل جانب، فذكر انتشار وباء الطاعون، وبسط أسباب ضعف قواته بالقياس إلى قوات العدو، وأبدى خوفه من قيام القاهريين بالثورة، وما كان يتوقعه من حدوث مأساة مروعة إذا قُدِّر لحامية القاهرة بعد هزيمتها الوقوع في أيدي العثمانيين وأحلافهم المنتصرين وأيدي أهل القاهرة، ثم طلب إلى الحاضرين أن يُدلوا بآرائهم ويبسطوا أقوالهم في ذلك كله، فانبرى لاجرانج — وكان من مؤيدي منو في ضرورة الاستماتة في الدفاع عن القاهرة إلى النفس الأخير — فرفض المفاوضة والاتفاق مع العدو دون أخذ رأي قائد الحملة العام (أي منو) في ذلك أولًا، وكان من رأيه أن من نتائج التسليم الجزئي في القاهرة حرمان الجيش المحاصر في الإسكندرية من الاشتراك في إملاء شروط التسليم، ثم التأثير عمومًا بصورة سيئة على مسألة الإخلاء وجلاء الحملة، وعلى ذلك فقد نصح بأن يحدث الاتفاق على التسليم بالاتحاد بين حامية القاهرة وحامية الإسكندرية، وتمسك بضرورة الاستمرار في المقاومة والدفاع. وكان من بين الذين عارضوا التسليم كذلك دونزيلو Donzelot الذي حضر قريبًا من الصعيد ويعرف موارد البلاد الحقيقية، ويعتقد أن في استطاعة الفرنسيين مواصلة الحرب بنجاح ضد العدو في الوجه القبلي، فنصح بالانسحاب إلى الصعيد والصمود في حرب دفاعية طويلة من شأنها إرغام الإنجليز على قطع المسافات الشاسعة سيرًا على الأقدام وتعريضهم للأمراض المهلكة وإنهاك قواهم، حتى يحين الوقت الذي تشعر فيه حكومة القنصل الأول بضرورة إرسال النجدات إلى مصر.
ثم تحدث بعد دونزيلو كل من تارير Tarayre وجوجيه Goguet ودوتبول d’Hautpoul. وأُعطيت الكلمة بعد ذلك إلى دوباس Dupas قومندان القلعة، وكان دوباس صريحًا في نبذ فكرة التسليم والمفاوضة، وقال: «إن جيش بونابرت وكليبر، ذلك الجيش الذي انتصر في أبو قير وهليوبوليس لا يستطيع أن يسلم بلادًا دفع دماءه ثمنًا لافتتاحها»، بل يرى من الواجب الاستمرار في القتال حتى النهاية.
وهكذا كان من الواضح أن لاجرانج ودونزيلو ودوباس يعارضون جميعًا التسليم والمفاوضة مع الإنجليز،٤٤٥ ولكن هؤلاء كانوا أقلية فقد تحدث بعدهم آخرون كانوا يخالفونهم في الرأي مخالفةً صريحةً، وقد ذهب هؤلاء المتحدثون من أنصار التسليم والمفاوضة إلى أنه لم يحدث قط أن وجد الجيش فيما مر به من تجارب منوعة موقفًا يشبه الموقف الحالي، بل إن الظروف التي تحيط بالجيش الآن — على حد قولهم — إنما هي ظروف غير عادية، وتستلزم لمعالجتها وسائل وإجراءات سريعة وغير عادية كذلك، ولا جدوى من انتظار وصول أوامر وتعليمات جديدة من منو؛ لأن الانتظار الطويل معناه تفويت الفرصة وتعريض الجيش لهجوم العدو ووقوع الفرنسيين أسرى في أيدي الإنجليز والعثمانيين، وعلاوة على ذلك فإن الانسحاب إلى الصعيد لن يمنع الإنجليز والعثمانيين بحال من الأحوال من تعقب الجيش المتقهقر ومطاردته حتى الشلال إذا لزم الأمر، ولا أمل في إدارة العمليات العسكرية بنجاح في الصعيد بسبب انقطاع المواصلات بين الجيش المتقهقر وسائر القوات الفرنسية وخلو المخازن من الذخيرة والمؤن، ولأن أهل البلاد سوف يبادرون بالانقلاب عليهم. ومع أن دوباس كان قد تحدث عن المقاومة حتى الهلاك، وذكر ما ينتظر الجيش من مجد وفخار إذا سقط جميع رجاله في ساحة الوغى، فقد أجاب مؤيدو التسليم على ذلك بقولهم إن المجد والفخار ولا شك سوف يكون من نصيب أي فرد يجد من الشجاعة التضحية بنفسه لإنقاذ غيره ولكن التضحية بجيش يبلغ عدد رجاله حوالي السبعة أو الثمانية آلاف ضرب من الجنون لا يصح السكوت عليه أو قبوله، وإذا تحدث إنسان عن انتصار أبو قير وهليوبوليس فإن الظروف التي أحاطت بمعركة هليوبوليس تشبه وحدها من بعض الوجوه الظروف التي تحيط بالجيش في موقفه الحاضر.
حقيقة كان جند العدو منتشرين في الأراضي المصرية ولكن هؤلاء الجند كانوا من العثمانيين الذين يجهلون النظام ولم يكن لديهم خطة حربية معينة، ويتألف جيشهم من عناصر مختلفة جُمعت بكل سرعة ولا رابط يربط صفوفهم، ومن المنتظر إذا حلَّت بهم الهزيمة في أية مناوشة صغيرة أن تنحل جموعهم وتذهب ريحهم على خلاف الحال اليوم؛ لأن الأتراك لا يحضرون وحدهم في هذه المرة، بل يشد أزرهم عشرون ألفًا من الإنجليز، وبدلًا من أن يقاتلهم الفرنسيون بجيش يبلغ عشرة آلاف كما حدث أيام كليبر في هليوبوليس، فقد بات الجيش الفرنسي لا يعدو ستة آلاف فحسب، لا يقوون على مهاجمة أعدائهم، بل في وسعهم إطالة الدفاع عن القاهرة مدةً قد تكفي لتدبير المفاوضة مع العدو من أجل الوصول إلى شروط ملائمة تحفظ حياة هؤلاء الجنود الشجعان وتمكِّنهم من العودة إلى أرض الوطن لخدمة فرنسا في ميادين أخرى بدلًا من تضحيتهم في نضال لا طائل تحته وذلك في نظير تسليم القاهرة.٤٤٦
واحتدم النقاش وقتًا طويلًا، وكان من رأي لاجرانج أن التفكير في الهدنة «سابق لأوانه»، والواجب المضي في الحرب، ووافقه على ذلك كل من ديرانتو وفالنتان، وأصرَّ دوباس إصرارًا شديدًا على ضرورة مواصلة القتال؛ لأنه رفض أن يعتقد أن عشرة آلاف من الجنود الفرنسيين في وسعهم أن يسلموا سلاحهم للأتراك أو للإنجليز: الترك الذين لا شأن ولا وزن لهم، والإنجليز الذين كان الفرنسيون يجهلون حقيقة أعدادهم، ولا سبيل إلى معرفة قوتهم الصحيحة إلَّا بالاشتباك معهم، فإذا اتضح في ساحة القتال أنهم يفوقون الفرنسيين عددًا وعدةً انسحب هؤلاء إلى الحصون، ولا شك في أن لدى الفرنسيين متسعًا من الوقت دائمًا للمفاوضة، ولكن مما لا شك فيه كذلك على حد قوله أن من الأفضل أن تفقد الجمهورية حامية القاهرة في الميدان بدلًا من أن «يحمر وجهها خجلًا» عند عودة هؤلاء الجنود إلى فرنسا.٤٤٧
وأصر الجنرال دونزيلو على الصمود بضعة أسابيع أخرى حتى ترتفع المياه في النهر ويتم الاستعداد للانسحاب إلى الصعيد، فتُتاح الفرصة للفرنسيين بسبب معرفتهم للبلاد أكثر من أعدائهم للقيام «بمناورات» ناجحة. وقد دفع بليار هذا الرأي بقوله إن الوباء منتشر في الصعيد ولا أمل في العثور على مواقع «إستراتيجية» هامة في هذه الأقاليم، ولن يجد الفرنسيون — بسبب مطاردة الإنجليز لهم — وقتًا كافيًا لإحكام تدابير مناوراتهم.٤٤٨ واقترح الجنرال موران Morand اقتحام خطوط العثمانيين على شاطئ النيل الشرقي والزحف إلى دمياط حيث تكثر المؤن للتحصن بها، وأكد الجنرال لاجرانج استحالة فعل شيء دون أخذ رأي منو، واقترح إرسال ضابط إلى الإسكندرية لإبلاغه حقيقة الموقف بالقاهرة، ونصح بالتريث والانتظار حتى يمكن معرفة رأي منو وقراره.
ولكن بليار رفض مواصلة القتال، كما عارض فكرة «التقهقر المسلح» واقتحام خطوط العدو، ولم يوافق على استشارة منو أو انتظار أية تعليمات جديدة قد تأتيه من قائد الحملة العام. وقد بنى بليار رأيه على اعتبارات عدة استطاع جاربيه Garbé أحد ضباطه أن يلخصها في مذكرة بادر بإعدادها في اليوم التالي للاجتماع، جاء فيها أن كليبر عندما أراد الدفاع عن القاهرة كان عليه أن يتخذ إجراءات من شأنها إحكام خطة الدفاع ضد جماعات من فرسان الأتراك فحسب، بينما بات الواجب الآن اتخاذ تدابير فعالة ضد جيش عظيم يحتل شاطئ النيل وله في النيل أسطول صغير ولا وسائل للدفاع عن جزيرة الروضة، ومن واجب الفرنسيين المحافظة على جبهة متسعة بقوات قليلة من الجند، ويقتضي الدفاع عن معسكر الفرنسيين بالقاهرة حوالي نصف عدد الجنود الموجودين على أقل تقدير.

وأوجز جاربيه النتائج التي وصل إليها في قوله «أولًا» إنه قد اتضح بعد التأكد من عدد قوات العدو الواقفة على حصار القاهرة أن في وسعهم أن يشنوا هجومهم على أربعة مواقع من مواقع الدفاع عن القاهرة، إذا جلبوا إلى كل موقع منها بالتوالي قوات تساوي في عددها تلك التي يستطيع الفرنسيون أنفسهم أن يجمعوها إذا شاءوا تركيز قوات جيشهم بأجمعها في كل واحد من هذه المواقع لصد هجوم العدو. «ثانيًا» غير أنه لما كانت وسائل الدفاع ضعيفة فقد صار من المتعذر القيام بهذه المناورة وتركيز قوات الجيش في موقع دون سائر المواقع، إذ يعرض هذا العمل المواقع الأخرى لخطر محقق لأنها لا تقوى بمفردها على مقاومة العدو بسبب ضعف حامياتها. ولذلك فمن الواجب ترك جميع هذه المواقع والاكتفاء بالدفاع عن القلعة — قلعة القاهرة — ومع ذلك فإن الانسحاب إلى القلعة سوف يكون عملًا شاقًّا؛ لأن أحدًا سوف لا يعلم إلَّا في وقت متأخر جدًّا أي المواقع التي يبغي العدو اقتحام تحصينات القاهرة والدخول إلى المدينة منها، فلا يكون ثمة وقت لجمع الحاميات وحشدها في القلعة. وفضلًا عن ذلك فإن العدو سوف يبادر بوضع مدفعيته على جبل المقطم، فلا تنقضي أيام معدودة — عشرة أيام أو اثنا عشر يومًا — حتى تكون هذه القلعة التي يسيطر عليها جبل المقطم قد سقطت في قبضة العدو.

وكان من رأي روتي Ruty قومندان المدفعية عندما سأله بليار في ذلك أن اقتراح التحصن بالقلعة وإخلاء المواقع الأخرى لا يمكن بحال تأييده؛ إذ يكفي يومان فقط لاستهلاك ثلثَي كمية الذخائر الموجودة دون أي أمل في إمكان الحصول على غيرها؛ ذلك بأن كل ما لديه من مدافع كان لا يعدو ١٣٤ مدفعًا، أمَّا عدد الطلقات المخصصة لكل مدفع من مدافع القلعة فكان ٢٦٠ طلقة، ولكل مدفع في القاهرة ٩٠ طلقة وفي الجيزة ١٢٠ طلقة، ولكل مدفع من مدافع الميدان ٢٨٠ طلقة، ولا يوجد بالمخازن أي احتياطي من الذخائر.٤٤٩

تلك كانت الأسباب العسكرية التي أقنعت بليار بضرورة وقف القتال، وأقنعت فريقًا كبيرًا من الحاضرين بتأييد ما ذهب إليه، ووافق لاجرانج على أن الموقف حقيقة لا يبعث على الطمأنينة، ولكنه عاد فتساءل: وماذا يكون الموقف إذا حدث بعد التوقيع على التسليم أن وصلت النجدات إلى القاهرة؟ فأُجيب على ذلك بأنه في الاستطاعة دائمًا المماطلة والتسويف في أثناء المفاوضات حتى تنقضي المدة التي يطلبها لاجرانج، وأن المماطلة ومد أجل المفاوضة خير من المضي في القتال.

ولما كان أكثر الحاضرين قد رفضوا فكرة التسليم دون قيد أو شرط، وتمسكوا بأن تجري المفاوضة على أساس عقد اتفاق للإخلاء على نفس الأسس التي قام عليها اتفاق العريش القديم؛٤٥٠ فقد عرض بليار الاقتراح التالي لأخذ الرأي عليه، ونصه: «الدفاع عن القاهرة أو المفاوضة مع العدو»، فجاء قرار الأكثرية في جانب الاتفاق مع العدو، وترك هؤلاء للجنرال بليار القيام بأعباء المفاوضة. وكان المعارضون أربعة فحسب هم لاجرانج وديرانتو وفالنتان ودوباس، وشفعوا معارضتهم بالاحتجاج على هذا القرار ولكن دون جدوى.٤٥١ ووقف دوتبول بناء على رجاء من بليار نفسه يشرح للمجتمعين مرة أخرى الصعوبات العسكرية التي تعترض المضي في القتال، وتحتم استحالة تذليلها قبول مبدأ التسليم والدخول في مفاوضات مع العدو من أجل إنهاء الحرب الدائرة.٤٥٢
ووقع اختيار بليار على المندوبين الذين عهد إليهم بمهمة المفاوضة، وكانوا ثلاثة: الجنرال موران والجنرال دونزيلو والقومندان تارير. واجتمع المفاوضون الفرنسيون في اليوم التالي (٢٣ يونيو سنة ١٨٠١م) بالمفاوضين الأتراك والإنجليز في «معسكر المؤتمر»، وقد مثل الإنجليز في هذا الاجتماع الجنرال هوب Hope، بينما حضر عثمان بك عن الصدر الأعظم، وإسحاق بك عن القبطان باشا، ووقع المجتمعون في اليوم نفسه على هدنة يتم في خلالها إبرام المعاهدة على أساس «إخلاء مصر» من الجنود الفرنسيين تحت قيادة الجنرال بليار. واستمرت المفاوضة حتى يوم ٢٧ يونيو،٤٥٣ وقد حدث في أثناء هذه المفاوضة أن طلب الفرنسيون أن يدفع لهم الأتراك مبلغًا كبيرًا من المال لسداد ديونهم في القاهرة من جهة، ولتعويضهم عن الإيرادات المستحقة لهم والتي لم يستطيعوا تحصيلها من البلاد بسبب ظروف الحرب من جهة أخرى، ولكن الجنرال هوب رفض إجابة هذا الطلب، كما قال الأتراك إن من واجبهم أن يطالبوا الفرنسيين — على العكس مما حدث — بأن يدفعوا لهم تعويضًا كبيرًا عن تلك السفن التركية التي صادرها هؤلاء في ميناء الإسكندرية عقب نقض اتفاق العريش، عدا الأموال الكثيرة التي دفعوها للجنرال كليبر قبل نقض هذا الاتفاق.٤٥٤
وطلب الفرنسيون أن يتم التسليم «على يد حسين باشا قبطان بواسطة الإنكليز، وسببه — على حد قول نقولا التركي — كان هذا المشار إليه يميل لطرف الفرنساوية ميلًا عظيمًا، وذلك قبل دخولهم وأخذهم الأقطار المصرية. وقد تهمه الوزير الأعظم أن دخولهم كان باطِّلاعه، وتغمغمت الفرنساوية على الوزير لدخوله في الجمعية، وقالوا نحن لا نعقد معه شروطًا ولا نقبل منه خطوطًا؛ لأنه كان خان عهوده مع أمير جيوشنا الأمير كليبر، وإذا لم يقدر على التغلب عليه أرسل قتله خفية.» وقد أمكن تذليل هذه الصعوبة بقبول المفاوضين الإنجليز والعثمانيين أن يتم التسليم «على يد حسين باشا وسر عسكر الإنكليز، وتسطرت أسطر الشروط»،٤٥٥ وكانت تتألف من إحدى وعشرين مادة. وفي يوم ٢٧ يونيو وقَّع على شروط التسليم من الجانب الفرنسي كل من دونزيلو وموران وتارير، ومن الجانب الإنجليزي الجنرال هوب، ومن الجانب العثماني عثمان بك وإسحاق بك، وصادق عليها في اليوم التالي كل من الجنرال هيلي هتشنسون وضابط البحرية جيمس ستفنسون Stevenson عن أمير البحر الإنجليزي اللورد كيث Keith والصدر الأعظم الحاج يوسف ضيا والقبطان دريا حسين باشا.٤٥٦
ونصت شروط الاتفاق على أن يخلي جنود بليار مدينة القاهرة والقلعة وحصون بولاق والجيزة وكل الجهات التي كان يحتلها جيش بليار وقت التسليم، على أن يتم انسحاب الجند بسلاحهم وعتادهم ومدفعيتهم وذخائرهم إلى رشيد عن طريق البر بحذاء شاطئ النيل الأيسر، حتى إذا وصلوا إلى رشيد نقلتهم سفن الحلفاء الإنجليز والعثمانيين إلى الموانئ الفرنسية في البحر الأبيض المتوسط. ونصت المادة الثانية على أن يحدث ذلك كله في مدة أقصاها خمسون يومًا من وقت التصديق على الاتفاق. ونصت المواد التالية على تسليم قلعة سلكوسكي Sulkosky (وباب الأهرامات) في بلدة الجيزة بمجرد التوقيع على الاتفاق، ثم تسليم مدينة القاهرة وقلعتها وبولاق وحصونها بعد اثني عشر يومًا، على أن يتعهد الإنجليز والعثمانيون بتقديم كل وسائل النقل وما يحتاج إليه الجيش المنسحب من أغذية ومؤن إلى جانب إعداد السفن الحربية اللازمة لحراسة الفرنسيين في أثناء عودتهم إلى بلادهم بطريق البحر الأبيض. ونصت المادة الحادية عشرة على أن يتمتع رجال الإدارة وأعضاء لجنة العلوم والفنون ثم جميع الأفراد الملتحقين بخدمة الجيش الفرنسي بنفس المزايا التي يتمتع بها العسكريون، وعلى أن يحمل رجال الإدارة وأعضاء لجنة العلوم والفنون كل ما لديهم من أوراق متعلقة ببحوثهم وأعمالهم إلى جانب أوراقهم الخاصة وغير ذلك من الأشياء التي يملكونها. ثم نصت المادة الثانية عشرة على أن لكل فرد من المصريين كل الحرية في الذهاب مع الفرنسيين ما دام يريد اللحاق بالجيش الفرنسي، وذلك دون أن تتعرض أسرته بعد ذهابه لأي ضرر ودون أن تُصادَر أملاكه. وضمنت المادة الثالثة عشرة من الاتفاق عدم إيذاء أحد من «سكان مصر» الذين كانت لهم صلات بالفرنسيين في أثناء احتلالهم للبلاد أو مصادرة أملاكه مهما كانت عقيدته الدينية.
وهكذا حصل بليار على الشروط التي سبق أن قبلها كليبر في اتفاق العريش، بل إن هذه الشروط في نظر بعض المؤرخين٤٥٧ كانت أفضل من سابقتها؛ لأن كليبر لم يستطع الحصول على موافقة الصدر الأعظم على إباحة ذهاب المصريين مع الجيش الفرنسي إلى أوروبا.

ومع أنه كان من الواضح أن فرنسا قد خسرت نهائيًّا «مستعمرتها» في مصر بسبب تسليم ٩ مسيدور (٢٨ يونيو ١٨٠١م) فإن مصير هذه المستعمرة كان قد تقرر في الحقيقة من نحو عامين مضيا عندما حطَّم نلسن العمارة الفرنسية في موقعة أبو قير البحرية، ودلَّت الحوادث على أن تسليم ٩ مسيدور لم يكن سوى نتيجة حتمية لما وقع. واعتقد بليار وغيره من المعاصرين الذين اعتقدوا أنه من العبث الاستمرار على المقاومة أنه لم يكن هناك معدى عن هذا التسليم سواء أطال أمد الانتظار أم قصر، بل إن بليار كان يعتقد أن الخير كل الخير فيما فعله، حتى إنه وجد لزامًا عليه أن يشترط من تلقاء نفسه للجنرال منو قائد الحملة العام حق التمتع بالمزايا التي تضمنتها معاهدة القاهرة، فاشترط في المادة العشرين من اتفاق التسليم أن يقوم أحد الضباط الفرنسيين بإبلاغ هذا الاتفاق إلى منو بالإسكندرية، على أن يكون للجنرال منو كامل الحرية في قبوله فيما يتعلق بالقوات البرية والبحرية الموجودة بالإسكندرية، حتى إذا ما قبل منو هذا الاتفاق أبلغ موافقته عليه إلى قائد القوات الإنجليزية المرابطة أمام الإسكندرية «في مدة عشرة أيام» من تاريخ اطِّلاعه على المعاهدة.

وفي ٢٩ يونيو بعث بليار بالضابط تارير Tarayre إلى الإسكندرية لإخبار منو بتسليم القاهرة.٤٥٨ وفي ٣٠ يونيو بعث بليار برسالة مطولة إلى القنصل الأول يذكر فيها الحوادث الأخيرة ويبسط الأسباب التي حتمت عليه تسليم القاهرة.٤٥٩
ومع أن بليار حاول جهده في رسالته إلى القنصل الأول أن يبرر هذا التسليم بذكر الأسباب العسكرية وغيرها التي أقنعته بضرورة اتخاذ هذه الخطوة؛ فقد اختلف رأي معاصريه في قيمة «الأسباب» التي أفضت إلى تسليم القاهرة، ومما لا شكَّ فيه أن أولئك الذين لم يروا في الأسباب التي تذرع بها بليار أي مبرر لتسليم القاهرة كانوا يزيدون كثيرًا على أولئك الذين اقتنعوا بأهميتها، بل إنه مما يسترعي النظر أن عديدين من الفرنسيين الذين رغبوا وقتئذٍ في العودة إلى أوطانهم كانوا من بين أولئك الذين أسفوا على مغادرة البلاد، وكانوا في قرارة نفوسهم لا يرضون بهذا التسليم على الرغم من تأييدهم الظاهر لهذه الخطوة، نذكر من هؤلاء الضابط بريكار Bricard أحد مؤيدي التسليم، والذي كتب في مذكراته: إن الدهشة التي أثارها التسليم كانت لا تقل عن الارتياح الذي قوبل به نبأ إبرام المعاهدة؛ إذ يأسف الفرنسيون على مغادرة بلاد بذلوا في افتتاحها «مرتين» تضحيات كبيرة، وكان بفضل جهودهم أن بدأ الرخاء يجد طريقه إليها، ومن المنتظر أن تصبح بعد قليل أغنى المستعمرات الفرنسية. وقال بريكار: حقًّا لقد كان التسليم «هروبًا»، ولكن إخلاء البلاد ومبارحتها لم يحدث إلَّا بعد إبرام معاهدة «مشرفة».٤٦٠
وإذا كان بريكار وكان بليار والقواد الذين وافقوا على التسليم يرون في اتفاق التسليم والإخلاء الذي أبرموه مع الإنجليز والعثمانيين عملًا «مشرِّفًا»؛ فقد كان هناك آخرون يرون خلاف ذلك ولا يجدون في الأسباب التي استند إليها بليار وقواده ما يصح اتخاذه مبررًا لإلقاء السلاح وتسليم القاهرة المحصنة دون مقاومة، فقد اعتقد الجنرال رينييه أنه كان في استطاعة بليار لو أنه أُوتي الجرأة والشجاعة أن يدبر «خروجًا مسلحًا»، من شأنه مفاجأة العدو المرابط أمام القاهرة في موقع من المواقع التي استهان العدو بقوة تحصيناتها وأغفل تشديد الرقابة عليها.٤٦١ وأيَّد بونابرت هذا الرأي كذلك، واعتقد لو أن بليار درس خطة «الخروج المسلح» بإمعان لوجد أن في استطاعته تحطيم الحصار، وقد أملى «الإمبراطور نابليون الأول» فيما بعد مذكراته في أثناء منفاه في «سانت هيلانه» فنقد بشدة جميع عمليات بليار العسكرية منذ وصول الجنرال لاجرانج إليه بقوات الرحمانية في ١٣ مايو إلى وقت تسليم القاهرة.٤٦٢
واعتقد المؤرخون الإنجليز الذين بحثوا مسألة تسليم القاهرة أن أي قائد آخر من قواد بونابرت غير بليار ما كان يفكر في إلقاء السلاح قبل أن يحاول أولًا تشتيت جموع الأتراك غير النظامية، حتى إذا تمكَّن من تحطيمها سهل عليه إنزال الهزيمة الماحقة بالإنجليز. ولكن «رؤية الأردية الحمراء» (الجنود الإنجليز) وحدها كانت كافية لإقناع الفرنسيين بأن ساعة الخلاص قد دنت؛ لأن الإنجليز كان في وسعهم دون غيرهم أن يهيئوا ما يلزم من سفن لنقل الفرنسيين الراغبين في العودة من «المنفى» إلى أرض الوطن.٤٦٣ وشاطر بونابرت نفسه هذا الرأي فقال: «عندما يعتقد جيش ما أن في وسعه الخلاص من مأزق شديد بالوصول إلى اتفاق يكفل له المحافظة على كل مظاهر الشرف العسكري، فإنه سرعان ما تذهب ريحه ويذوي كل أمل في استمراره على المقاومة.»٤٦٤ وفضلًا عن ذلك فقد وجد بليار وقواده فيما فعله كليبر من قبل عند عقد اتفاق العريش مثالًا ينسجون على منواله، ولم يدر بخلد أحد منهم أن التسليم دون مقاومة تُذكر كان أمرًا لا يرضى به الشرف العسكري، وبخاصة عندما استند الجميع في تسليمهم إلى تلك الأسباب العسكرية التي ذكرها بليار عند انعقاد المجلس الحربي ودوَّنها جاربيه Garbé ثم بسطها بليار نفسه في خطابه إلى القنصل الأول، وكلها كما تقدم القول تدور حول استحالة تحطيم الحصار أو القيام «بخروج مسلح» أو إطالة التحصن بالقاهرة.
ومع ذلك فقد تصدى كثيرون لإقامة الحجة على أن هذه الأسباب «العسكرية» وغيرها التي ذكرها بليار وأخذ بها الموافقون على وقف القتال لم تكن صحيحة ولا تستند إلى حقائق ثابتة، فقد ذكر لاجرانج أن أعمال التحصينات الخارجية في الجيزة كانت قد انتهت — قبل حدوث التسليم — وتم تسليحها بعدد من المدافع القوية، كما حُفِرت الخنادق التي أقيمت عليها المتاريس، وحُصِّنت المنافذ الرئيسية.٤٦٥ وأيد هذا القول الضباط الإنجليز، فاعترفوا بأن التحصينات التي أقامها الفرنسيون كانت تبدو منيعة، حتى إن العدو ما كان في وسعه أن يجازف باقتحامها إذا قرر الهجوم على القاهرة إلَّا بعد تردد طويل،٤٦٦ بل إن الإنجليز عندما دخلوا القاهرة ووقفوا على حقيقة هذه التحصينات وعدد المدافع الموجودة بالقلاع والجنود المتحصنين بالقاهرة وقلعتها؛ زاد اقتناعهم بأنه ما كان في وسعهم أن يحصلوا على شروط أفضل من تلك التي حصلوا عليها.٤٦٧
حقيقة لم يقم بعض القواد الإنجليز — الجنرال مور خصوصًا — وزنًا كبيرًا لهذه التحصينات، ولكنه كان من رأي مور نفسه أن الفرنسيين لو أرادوا لأمكنهم الدفاع عن القاهرة، ولأرغموا الإنجليز على إطالة الحصار وكبدوهم خسائر فادحة؛ ولذلك فإن قرار التسليم جاء «في الوقت المناسب»،٤٦٨ وقال مور: «ويبدو لي أن سلوك بليار في تسليم القاهرة كان من أدنأ الأعمال التي سمع بها إنسان وأشدها ضعة، فلقد كان في وسعه على وجه التحقيق بفضل ما كان لديه من قوات ملحوظة الجانب أن يستمر في الدفاع (عن القاهرة)، وأن يكبدنا خسائر فادحة، وأن يؤخر تسليم القاهرة مدة تتراوح بين الأسبوعين والثلاثة أسابيع.»٤٦٩
ومع أن بليار كان يخشى مغبة هجوم الجيوش المحاصرة لو تأخر التسليم، فقد كان من رأي بونابرت أن هذا الخوف لا داعي له؛ لأنه لم يكن من المقطوع به أن العدو سوف يبدأ متعمدًا هجومه على المواقع الضعيفة التي يجهلها. وعلى ذلك فقد كان في وسع بليار أن يطيل أمد المقاومة مدة ستة أسابيع، لا يلبث أن يأتي الفيضان بعدها فتعلو المياه في النهر، وتفيض على جانبيه وتغرق الأراضي المجاورة، وترغم الإنجليز والأتراك على رفع الحصار ووقف عملياتهم العسكرية مدة شهرين على الأقل.٤٧٠ وقد اعترف الإنجليز بأن تسليم بليار كان «عملًا سعيدًا»؛ إذ منعهم ذلك من التعرض لأخطار لا معدى عن إحداقها بهم إذا طال الحصار، «ذلك بأنه كان يتحتم عليهم الاستيلاء على القاهرة حالًا دون إمهال، نظرًا لقرب انتهاء الوقت الصالح لاستمرار العمليات العسكرية؛ إذ إنه كان يستحيل على الإنجليز إذا طال أمد انتظارهم شهرًا واحدًا فحسب أن يستطيعوا تضييق الخناق على الإسكندرية؛ لأن مياه النيل سوف تفيض عندئذٍ على جوانبه، وتجعل من المتعذر على الإنجليز أن يستأنفوا السير صوب الإسكندرية؛ ولذلك فقد كان من حسن حظ الإنجليز أن يقترح الفرنسيون التسليم على الرغم من أنه كان في وسعهم المقاومة، ولا ينقصهم السلاح أو تعوزهم الذخيرة.»٤٧١
وعلاوة على ذلك فقد أعلن دوبار Dupart قومسيير الحرب عند انعقاد المجلس الحربي في ٢٢ يونيو أن قلعة القاهرة كانت ملأى بالذخائر والمؤن التي تكفي الجيش مدة شهرين. ومع أن بليار أكد في خطابه إلى القنصل الأول أنه لم يكن لديه من الذخائر سوى ما يكفي مائة وخمسين طلقًا لكل مدفع، فقد ذكر روتي في خطاب بعث به إلى سونجي Songis بالإسكندرية أن لديه ما يكفي ضعف عدد هذه الطلقات لكل مدفع من مدافع الميدان. ويتفق ما ذكره روتي في هذا الشأن مع ما أدلى به من معلومات في اجتماع المجلس الحربي، حقيقةً كان عدد الطلقات التي يمكن تخصيصها للمدافع الأخرى قليلًا، ولكن كان من الواضح أن في استطاعة المواطن شامبي Champy الذي أشرف على إعداد الذخائر أن يصنع قدرًا كبيرًا من القذائف كل يوم، عدا ما يمكن إنتاجه في مصانع ومسابك القاهرة والجيزة. ويؤكد روتي أن جميع التحصينات لا تنقصها الأسلحة كما كانت المواقع الهامة مسلحة تسليحًا جيدًا.٤٧٢
وكان من الأسباب التي تذرع بها بليار لقبول التسليم العاجل خوفه أولًا من أن يفتك الطاعون بجيشه، وثانيًا أن يقوم القاهريون بالثورة ضده وأن ينضموا إلى العدو، كما أنه كان يخشى من «وحشية» الأتراك وفتكهم بالفرنسيين إذا قُدِّر لهم الانتصار ودخلوا القاهرة عنوة،٤٧٣ غير أن وباء الطاعون كانت قد خفَّت وطأته رويدًا رويدًا، حتى إنه لم يبقَ في المعازل يوم ١٤ يونيو سوى مائة وثمان وعشرين مريضًا فحسب، كانوا جميعًا في دور النقه.٤٧٤ أمَّا القاهريون فقد تقدم كيف أنهم حافظوا على الهدوء والسكينة في أثناء اشتداد الحصار على مدينتهم، حتى إن جيرار الذي خلف فورييه في القيام بأعباء وكالة الديوان ما لبث أن كتب إلى منو في ١٧ يونيو: «إن القاهريين ينظرون لاقتراب العثمانيين منهم في غير اهتمام ودون مبالاة»، ونشرت جريدة الكورييه Courrier de l’Egypte في عددها رقم ١١٦ أن «هدوء سكان القاهرة مستمر على الدوام، ويستبين من دلائل عدة أنه من المتعذر أن يطرأ تغيير ما على هذه الحالة»، وكان من رأي جيرار أن سبب هذه السكينة تلك المتاعب التي تعرض لها القاهريون في أثناء وجود العثمانيين بالقاهرة في العام السابق، مما جعل الأتراك يفقدون شيئًا كثيرًا من سمعتهم الطيبة. زد على ذلك أن القاهريين إلى جانب عدم اهتمامهم بالعثمانيين وبالصدر الأعظم، ثم حذرهم من الإنجليز الذين لا يعرفونهم؛ كانوا على حدِّ قول جيرار يفضلون كثيرًا على هؤلاء الكفار — الإنجليز — الذين يجهلونهم أولئك الفرنسيين الذين عاشوا بينهم زمنًا استطاعوا في أثنائه أن يبلوا خيرهم وشرهم.٤٧٥
على أن ثمة حقيقة واحدة تعذر على الناقمين على بليار أن يدحضوها، هي أن منو منذ مغادرته القاهرة لم يرسل إلى قائده أية أوامر أو تعليمات «إيجابية»، واكتفى بأن يوصيه بضرورة «إزعاج الإنجليز والعثمانيين وإنهاك قواهم.» بل إنه كان من الظاهر فضلًا عن ذلك أن القنصل الأول نفسه قد ترك مصر وشأنها نهائيًّا، فقد كتب بليار في خطابه إلى بونابرت في ٣٠ يونيو: «لقد انقضى حوالي الثمانية شهور وأنت تعلم بنبأ مجيء حملة أبركرمبي، ومع ذلك فقد أخفقت جميع محاولاتك لإرسال النجدات إلينا، وقد بات لنا أربعة شهور ونحن ندافع عن أرض مصر شبرًا شبرًا ولم يصلنا شيء من النجدات بعد، فماذا عسانا نرجو؟ وفي اعتقادي أن الإنجليز ما كانوا يستطيعون التقدم والوقوف أمام أبواب القاهرة لو أنهم خشوا من ظهور أسطول فرنسي كبير في البحر الأبيض.»٤٧٦
ويبدو أن بونابرت نفسه قد أدرك هذه الحقيقة؛ ولذلك فإن الإمبراطور المنفي بعد أن أنحى باللائمة على بليار لتسليمه عاد يمتدح شجاعة بليار، ويحمل منو وزر هذا التسليم كله، فقال: «لقد تركه قائد الحملة العام دون أن يصدر إليه أية أوامر، وكان من أثر ذلك التذمر العام واليأس الذي سببه إبطاء منو وتردده وعدم كفايته العسكرية أن زال كل أمل ورجاء لدى الجند كما زالت كل ثقة لهم بأنفسهم. إن القواد الذين وقعوا على التسليم كانوا من الضباط الممتازين الذين عارضوا اتفاق العريش معارضة شديدة. وهل كان يليق بنا في وقت زينت أكاليل الغار هامة الجمهورية نتيجة لما أضفاه عليها من مجد وفخار عقد صلح لونفيل والصلح مع روسيا والباب العالي وإنجلترا؛ أن نحجب هذه الأضواء اللامعة ونسبب الألم والحزن للأمة الفرنسية بإجراء تحقيقات تنال من شرف أولئك الشجعان الذين لا شك في أنهم كانوا يستحقون تقدير الوطن العظيم لو أن الظروف التي مروا بها كانت غير الظروف التي أحاطت بهم؟ أوَلم يكن من الأفضل لنا أن نغمض أعيننا وأن نعزو كل ما حدث إلى حكم القضاء والقدر، وإلى أن الجيش كان ينقصه تمامًا وجود قائد أو رئيس يهيمن على مصايره؛ إذ لا مشاحة في أنه مهما بذل الإنسان من جهد، ومهما كان نوع ما تبديه أية حكومة من نشاط، ومهما استصدرت هذه الحكومة من تشريعات نافذة؛ فإن ذلك كله لن يجعل من جيش يقوم على رأسه «وعل» من الوعول جيشًا يتألف من الأسود الشجعان؟»٤٧٧

إخلاء القاهرة

وما إن تم التوقيع على شروط التسليم حتى بدأ الفرنسيون يأخذون أهبتهم لإخلاء القاهرة، فأطلقوا في اليوم التالي (٢٩ يونيو) سراح «المحبوسين بالقلعة من أسرى العثمانية، وأعطوا كل شخص مقطع قماش وخمسة عشر قرشًا، وأرسلوهم إلى عرضى الوزير. وكان بلغ بهم الجهد من الخدمة والفعالة وشيل التراب والأحجار وضيق الحبس والجوع ومات الكثير منهم، وكذلك أفرجوا عن جملة من العربان والفلاحين»،٤٧٨ وذهب عدد كبير من الضباط الفرنسيين إلى المعسكر الإنجليزي لتسليم خيولهم وبعض العتاد الذي وجدوا من المتعذر عليهم أخذه معهم، كما أحضروا معهم عددًا من النساء الجورجيات اللاتي رضين بمعاشرتهم وخشي الفرنسيون أن يتعرضن لانتقام الأهلين، واحتفظ الإنجليز بالخيول والعتاد، أمَّا النساء فقد باعوهن بيع الرقيق في «السوق» لحلفائهم الأتراك.٤٧٩ وحدث في مساء اليوم نفسه «أن سُمِع صوت مدفع بعد الغروب عند قلعة جامع الظاهر خارج الحسينية ثم سُمِع منها أذان العشاء والفجر، فلما أضاء النهار نظر الناس فإذا البيرق العثماني بأعلاها والمسلمون على أسوارها فعلموا بتسليمها وكان ذلك المدفع إشارة إلى ذلك، ففرح الناس وتحققوا أمر المسالمة، وأُشيع الإفراج عن الرهائن من المشايخ وغيرهم وباقي المحبوسين في الصباح. وأكثر الفرنساوية من النقل والبيع في أمتعتهم وخيولهم ونحاسهم وجواريهم وعبيدهم وقضاء أشغالهم»، ثم «أنزلوا عدة مدافع من القلعة، وكذلك من قلعة باب البرقية وأمتعة وفروش وبارود.»
وفي يوم ٣٠ يونيو «عُمل الديوان وحضر الوكيل وأعلن بوقوع الصلح والمسالمة، ووعد أن في الجلسة الآتية يأتي لهم فرمان الصلح وما اشتمل عليه من الشروط، ويسمعونه جهارًا.»٤٨٠ وظل الفرنسيون ينقلون أمتعتهم من «القلعة الكبيرة وباقي القلاع» طيلة ذلك اليوم، كما أفرجوا في الأيام التالية عن «بقية المسجونين والمشايخ»، فكان من بين هؤلاء محمد جلبي أبو دفية وإسماعيل القلق ومحمد شيخ الحارة بباب اللوق والبرنوسي نسيب أبو دفية والشيخ خليل المنير ثم الشيخ السادات والشيخ الشرقاوي والشيخ الأمير والشيخ محمد المهدي وحسن أغا المحتسب ورضوان كاشف الشعراوي وغيرهم، وقد نزل هؤلاء الأخيرون «إلى بيت قائمقام وقابلوه وشكروه، فقال للمشايخ: إن شئتم اذهبوا فسلموا على الوزير، فإني كلمته ووصيته عليكم.» وفي ٢ يوليو «حضر الوزير ومن معه من العساكر إلى ناحية شبرا، وكذلك الإنكليز وصحبتهم قبطان باشا إلى الجهة الغربية والعساكر تجاههم، ونصبوا الجسر فيما بينهم على البحر، وهو من مراكب مرصوصة مثل جسر الجيزة بل يزيد عنه في الإتقان.» ثم ألصق الفرنسيون في اليوم نفسه «أوراقًا بالطرق مكتوبة بالعربي والفرنساوي وفيها شرطان من شروط الصلح التي تتعلق بالعامة»، لتأمين الأهالي على «أنفسهم وأديانهم ومتاعهم»، وبخاصة أولئك الذين «كانوا بخدمة الجمهور الفرنساوي»، وإطلاق الحرية لمن يريد من أهل البلاد اللحاق بالفرنسيين والذهاب معهم. وفي ٣ يوليو «عملوا الديوان وحضر المشايخ والوكيل»، وقرأ الوكيل عليهم بقية شروط الصلح «والترجمان يفسرها.»٤٨١
وحدث في أثناء انشغال الفرنسيين بإخلاء القلعة والمواقع الأخرى أن وصل في ليل ٤-٥ يوليو جنود من الهجانة يحملون إلى القاهرة أمر منو الذي يطلب فيه من جيش بليار الصمود حتى إحراز النصر أو الاستبسال في الدفاع حتى يفنى الجيش عن آخره، ومع أن أحدًا لم يأبه لهذا الأمر الأخير، ورفض الجند أن يضحوا بأنفسهم إرضاءً لنزوات رجل لا يمكن أن يكون مستمتعًا بحواسه الكاملة — على حد قولهم — عندما أصدر هذا الأمر الذي يدل على أن بصاحبه خبلًا؛ فقد أصر دوباس على ضرورة إطاعة أوامر قائد الحملة العام، واستمسك بالدفاع عن قلعة القاهرة إلى النهاية وأغلق أبواب القلعة وأخذ يتحصن بداخلها، واضطر بليار إلى تهديده بالعزل إذا هو أصر على تعطيل الإخلاء،٤٨٢ فأذعن دوباس واستؤنف إخلاء القلعة.

وفي يوم ٦ يوليو «أرسلوا أوراقًا ورسلًا للاجتماع بالديوان، وهو آخر الدواوين، فاجتمع المشايخ والتجار وبعض الوجاقلية وأستوف الخازندار والوكيل والترجمان، فلما استقر بهم الجلوس أخرج الوكيل كتابًا مختومًا، وأخبر أن ذلك الكتاب من ساري عسكر منو بعث به إلى مشايخ الديوان، ثم ناوله لرئيس الديوان ففضه وناوله للترجمان فقرأه والحاضرون يسمعون»، وقد جاء في هذا الخطاب أن بونابرت سوف يبعث إلى المشايخ «جواب جميع مكاتيبهم إليه»، ووعد منو بزيارة القاهرة قريبًا، وطفق يؤكد «أن جمهور المنصور غلب في أقاليم الروم جميع أعدائه، وبعون الله هادى كل شيء سيغلب كذلك العدا في مصر»، ثم أوصى أهل الديوان خيرًا بزوجته «الكريمة السيدة زبيدة، وولده العزيز سليمان مراد»، ويبدو — على حدِّ قول الشيخ الجبرتي — أن منو كتب هذا الخطاب قبل وصول خبر الصلح إلى الإسكندرية. ثم أخذ الوكيل يقول: «إن الجنرال منو انسرَّ بسلوككم حتى الآن وراحة البلد حظ الفقراء، وإن الحكام القادمين لا بدَّ وأن يسلكوا معكم هذا الموضوع، ولا بد من وصول مكاتيب بونابرته بعد أربعة أيام أو خمسة، وإنه لا ينسى أحبابه كما لا ينسى أعداءه، ولو لم يكن له من الحسن إلَّا جعلكم وسايط لإغاثة الناس لكان كافيًا، وإنكم تعلمون أنه كان نظر إلى أحوال المارستان ومصالح المرضى، وكان قصده أن يبني جامعًا ولكن عاقه توجهه إلى الشام.»

ويقول الشيخ الجبرتي: إن جيرار وأستيف (أو أستوف) ما لبثا أن صارا يكثران من ذكر «أمثال هذه الخرافات والتمويهات»، وتحدث «أستوف الخازندار ومدبر الحدود العام في مجلس الديوان العالي» عن نوايا بونابرت ومنو الطيبة، وما بذلاه من ضروب الإصلاح، وما فعلاه من أجل إزالة أسباب الظلم والجور وإقامة الحكومة المصلحة العادلة. وذكر ما كان ينتويه منو على وجه الخصوص من تسهيل سبل الحج الشريف «في هذه السنة»، وزيارة «طنطا لأجل حفظ مقام السيد أحمد البدوي.» واختتم أستوف خطابه الطويل بقوله: «ويكفينا الآن أن نحقق لكم من عند حضرة القنصل الأول في الجمهور الفرنساوي بونابرته ومن عند حضرة سر عسكر منو المحبة والشفقة الصادقة التي واقعة من الفرنساوية إلى الرعايا المصرية، وهذه المحبة والعشم لم ينقطعا أبدًا بسبب سفر جانب من الجيش، وهل بتَّ أن يصادف يوم أننا نرجع إلى عندكم لأجل تمام الخير الذي يصدر من حكم الفرنساوي والذي ما أمكننا تتميمه، فلا تتوهموا يا مشايخ ويا علماء أن فراقنا لم يقع إلَّا عن مدة، وذلك محقق عندي، ولا بد أن دولتنا يربطون ثانيًا في مدة قريبة المحبة القديمة التي كانت بينهم وبينكم، وهل بتَّ أن دولة العثمانية لما تسير على الجرف الخالي الذي عمل لهم الإنكليز يرون أن الفرنساوية في طلب الديار المصرية ليس لهم إلَّا ربط زيادة محبة صحبتهم لأجل كسر نفس وطيش الإنكليز الذين مرادهم نهب جميع البحور ومتاجر الدنيا»، فكان جواب الحاضرين «إن الأمر للَّه والملك له، وهو الذي يمكِّن منه من شاء. وانفضَّ الديوان.»٤٨٣
وكانت خطبة أستيف الطويلة هذه بمثابة «خطبة الوداع»، ومع أنه كان واضحًا من تعليق الشيخ الجبرتي في أثناء نقل ترجمة هذه الخطبة أن أحدًا لم يصدق كل هذه «الخرافات والتمويهات» التي ذكرها أستيف عن محبة الفرنسيين للمصريين وسهرهم على منفعتهم وجلب الخير لهم، فقد استطاع أستيف أن يذكر في كتاب له إلى الجنرال منو في ٢٧ يوليو أن أكثر كبار القاهرة الذين حضروا لتوديعه كانت «تجري الدموع في مآقيهم»، ويبدو على وجوههم القلق الذي سببه رحيل الفرنسيين من مدينتهم.٤٨٤
وفي صبيحة اليوم نفسه كان الفرنسيون قد نبشوا «قبر كليبر بالقرب من القصر العيني، وأخرجوا الصندوق الرصاص الموضوع فيه رمته ليأخذوه معهم إلى بلادهم»، ثم نقلوا الجثة إلى الجيزة، وشيعها الجند في احتفال مهيب، وأطلق الإنجليز والعثمانيون — إلى جانب الفرنسيين — مدافعهم احترامًا لها، وأعدُّوا لنقلها في النيل «جرمًا» مجللًا بالسودان. وفي يوم ١٤ يوليو كان قد تم استعداد الجند للرحيل، فأعد الإنجليز والعثمانيون ثلاثمائة مركب لنقلهم في النيل صوب رشيد،٤٨٥ ونقل الفرنسيون معهم كذلك «هيكل» سليمان الحلبي قاتل كليبر.٤٨٦ وما إن وصل الجيش المنسحب إلى مسافة فرسخ واحد من رشيد حتى غادر الجند السفن للسير بطريق البر إلى أبو قير حتى يبحروا منها إلى بلادهم. وفي ٩ أغسطس اعتلى الجنرال بليار مع أركان حربه السفينة الإنجليزية «دوق يورك»، وكان قد بدأ انتقال الجند والمرضى والمدنيين منذ ٢ أغسطس على أربع سفن إنجليزية. وفي اليوم العاشر من شهر أغسطس كان قد تم انتقالهم جميعًا على ظهر السفن، وبلغ عدد الجميع ١٣٦٠٠ منهم تسعة آلاف جندي، وكان الباقون من المرضى والمدنيين، ومن هذا العدد جميعه حوالي الخمسمائة من اليونانيين والأقباط الذين قرروا الخروج مع الفرنسيين والذهاب إلى فرنسا.٤٨٧
وبلغوا جميعًا طولون — بعد رحلة طويلة مروا في أثنائها بقبرص ورودس وكريت ومالطا وصقلية وسردينيا — في ١٩ أكتوبر ١٨٠١م، ودخلوا فرضة مرسيليا في ٢٣ أكتوبر،٤٨٨ ونقلت رفات كليبر إلى «فورديف Fort d’If».٤٨٩ وكان ممن خرجوا مع الفرنسيين المعلم يعقوب القبطي،٤٩٠ ذلك أن المعلم يعقوب لم يشأ الاستفادة من «الأمان» الذي أرسله إبراهيم بك إلى أكابر القبط عند دخول العثمانيين والبكوات المماليك القاهرة، بل «خرج بمتاعه وعازقه وعدى إلى الروضة، وكذلك جمع إليه عسكر القبط، وهرب الكثير منهم واختفى، واجتمعت نساؤهم وأهلهم وذهبوا إلى قائمقام بليار، وبكوا وولولوا وترجوه في إبقائهم عند عيالهم وأولادهم، فإنهم فقراء وأصحاب صنائع ما بين نجار وبنَّاء وصائغ وغير ذلك، فوعدهم أنه يرسل إلى يعقوب أنه لا يقهر منهم من لا يريد الذهاب والسفر معه.»٤٩١
ويقدِّر الشيخ الجبرتي مدة «تحكم» الفرنسيين «بالديار المصرية» وبقائهم في القاهرة من يوم انتصارهم في معركة إنبابة أو الأهرام في ١٩ صفر ١٢١٣ﻫ إلى يوم «انتقالهم ونزولهم من القلاع وخلو المدينة منهم» ليلة ٢١ صفر ١٢١٦ﻫ بثلاث سنوات وواحد وعشرين يومًا.٤٩٢

منو في الإسكندرية

قضى سقوط القاهرة على كل أمل في إنقاذ الإسكندرية؛ إذ أصبح في استطاعة الإنجليز والعثمانيين بعد تسليم بليار أن يبعثوا بجيوشهم إلى الإسكندرية لتعزيز قوات الجنرال كوت الذي تركه هتشنسون على حصارها عند ذهابه إلى القاهرة. وقد ظل كوت مدة طويلة في حاجة لنجدة سريعة؛ لأن ذهاب هتشنسون بقسم من الجيش إلى القاهرة أنقص القوات المرابطة أمام الإسكندرية حتى صار عددها لا يزيد على سبعة آلاف جندي كان منهم حوالي الألف يشكون من مختلف الأمراض وينتشر الرمد على وجه الخصوص بينهم، كما كان ينقص جيش الجنرال كوت وقتئذ المؤن والأغذية ويهدد الطاعون بالفتك به،٤٩٣ وكان من المحتمل لدرجة بعيدة أن يكون النصر في جانب منو لو أنه انتهز الفرصة للاستفادة من هذه الصعوبات التي أحاطت بالعدو فالتحم مع الإنجليز في معركة حاسمة، ولكنه ما إن سقطت القاهرة حتى كان قد ضاع كل أمل في إمكان تحطيم الحصار وتخليص الإسكندرية،٤٩٤ بل اعتقد الإنجليز أن الإسكندرية لن تستطيع المقاومة طويلًا بعد تسليم القاهرة؛٤٩٥ ذلك أن فشل بليار في القاهرة سوف يزيد من ضعف روح حامية الإسكندرية المعنوية،٤٩٦ ولأن منو بفضل تهاونه واعتماده على اتخاذ خطة الدفاع فحسب قد جعل زمام الموقف يفلت من يده، كما مكَّن أعداءه من جلب النجدات اللازمة لتضييق الحصار والقيام بالعمليات العسكرية الناجحة ضد الإسكندرية.
وكان منو ما يزال قوي الأمل في استبقاء المستعمرة الناشئة على الرغم من الهزائم التي حلت بالفرنسيين وانتشار جيوش الإنجليز والعثمانيين في أرض الدلتا، ثم زحف هؤلاء صوب القاهرة — ولم تكن أنباء سقوط العاصمة قد بلغت منو بعد — وعظمت ثقة منو في أن القنصل الأول لن يتوانى عن إرسال النجدات السريعة لإنقاذ المستعمرة، وقرر التمسك بالإسكندرية حتى يستقبل بها هذه النجدات وحتى يتسنى لجيش الشرق بعد تعزيز قواته أن يستأنف منها العمليات العسكرية الكبيرة لطرد العدو من البلاد وإعادة افتتاحها. وكان على ضوء هذه الاعتبارات إذن أن التزم منو بعد معركة نيكوبوليس خطة الدفاع «السلبي» فحسب، وكانت هذه تقوم في نظره على تقوية تحصينات الإسكندرية والاعتصام بداخلها وتجنب كل التحام مع العدو، وإقامة سياج من الرقابة الشديدة لمنع كل صلة بين جنده وبين جند العدو في المخافر الأمامية، حرصًا منه على عدم تسرب الدعوة إلى التسليم والهزيمة بين صفوف جنده، أو تشجيع أولئك الذين يئسوا من المقاومة على الفرار من الجيش وتسليم أنفسهم أسرى للعدو في نظير أن يضمن لهم الإنجليز العودة إلى أوطانهم.٤٩٧
وعلى ذلك فقد استأثر تحصين الإسكندرية بكل اهتمام منو فأصبح شغله الشاغل بعد معركة كانوب، وكان أول ما عُني به تعزيز مواقع الفرنسيين على مرتفعات نيكوبوليس ذاتها وإنشاء خط جديد على شاطئ البحر لإحاطة مقر القيادة العامة ومعسكر منو نفسه بسلسلة من التحصينات المنيعة. ولما كان ضروريًّا إقامة حصنين لإحكام الدفاع عن مداخل المدينة أحدهما على مرتفعات كليوبطرة والآخر عند «عمود بومبي»، وبخاصة منذ أن وصلت المياه بعد إغراق «منخفض مريوط» إلى سفح الهضبة التي يقوم عليها عمود بومبي، فقد استطاع القواد سانسون Sanson   وبرتران Bertrand   وسونجي Songis أن ينجزوا تشييد هذين الحصنين بعد أن اقتنع منو بضرورتهما لمنع العدو من الاستيلاء على مراكز يستطيع منها — لو أنه استولى على مرتفعات كليوبطرة وعمود بومبي — أن يسيطر على الإسكندرية والميناء الجديد، ويقطع كل اتصال بين مراكز الفرنسيين الأخرى. ثم أنشأ الفرنسيون إلى جانب ذلك — وتحت وابل من رصاص العدو — سورًا جديدًا يبدأ من القلعة المثلثة إلى مسلة كليوبطرة، كما حفروا خندقًا كبيرًا حول الميناء الجديدة لمنع نزول العدو بها.٤٩٨ واعتقد منو — كما كتب إلى القنصل الأول — أن إنجاز هذه التحصينات المنيعة جعل العدو لا يجرؤ على فعل شيء ولا يحاول الهجوم على الإسكندرية؛ لأنه كان من المتعذر عليه اقتحامها.٤٩٩
على أن الاعتماد على مناعة تحصينات الإسكندرية والتمسك بخطة الدفاع وإطالة أمد المقاومة وإضاعة الوقت في انتظار وصول النجدات من فرنسا؛ كان عملًا بعيدًا عن الحكمة سرعان ما أسفر عن عواقب وخيمة، وكان من أهم الأسباب التي جعلت سقوط الإسكندرية أمرًا لا مفر منه ولا محيد عنه في النهاية. حقيقةً كانت التحصينات التي أقيمت في الجزء الشرقي من المدينة منيعة الجانب، واعترف العدو نفسه بمتانة الحصون (أو المتاريس) التي أقيمت عند كليوبطرة وبومبي، كما شهد بقوة المدفعية التي وضعها الفرنسيون عند «الفنار»؛ ولكن بقية التحصينات وفي الجزء الغربي من المدينة خصوصًا لم تكن ذات قيمة كبيرة، ولم يكن من المتوقع أن تستطيع الإسكندرية الصمود أمام هجوم العدو مدة تزيد على عشرة أيام أو اثني عشر يومًا.٥٠٠ ونقد نابليون نفسه فيما بعد هذه التحصينات، فقال عنها إنها كانت ممتدة في خط طويل يصعب تركيز الجهود في الدفاع عنه، كما أن منو قصر كل اهتمامه في الجزء الغربي من المدينة على تحصين مرابط فحسب، ثم جمع قواته في الناحية الشرقية من المدينة بصورة تسلبها القدرة على القيام بأية حركة.٥٠١
وفضلًا عن ذلك فقد سيطر انتظار النجدات من فرنسا على ذهن منو سيطرة كبيرة حتى إنه بدلًا من الإشراف على أعمال التحصينات أخذ ينفق وقته الثمين سدًى، تارة بالجولة على الشاطئ يرقب وصول النجدات من أرض الوطن،٥٠٢ وتارة أخرى بتسقط الأخبار المطمئنة عن قرب وصول هذه النجدات من بعض الأسرى الذين قد يقعون صدفة في قبضة رجاله، فينقل في خطابه إلى القنصل الأول في ٢٧ مايو خبر وقوع مركبين للعدو في أسره إحداهما إنجليزية والأخرى تركية، يقول ملاحوها: «إن بالبحر الأبيض جيشًا بحريًّا فرنسيًّا وإسبانيًّا»، ثم يسأل القنصل الأول: «ومتى يصل هذا الجيش» إلى الإسكندرية؟ لقد حصَّن الإسكندرية تحصينًا منيعًا، ولا جدال في أنه وجنده لا يحجمون عن التضحية بأنفسهم والهلاك جميعًا ما دام في ذلك خلاص الإسكندرية، «ولكن أين هي النجدات التي كُلِّف غانتوم أو غيره بإحضارها؟ ومتى تحضر؟»٥٠٣ وكان بسبب انتظار وصول هذه النجدات التي لا يتحقق بدونها — في نظر منو — تخليص الإسكندرية أن انصرف قائد الحملة العام عن التفكير في اتخاذ خطوات حاسمة لتحطيم قوات العدو الواقفة على حصار الإسكندرية.
ومما لا شكَّ فيه أن العدو في الشهور القليلة التي تلت موقعة كانوب لم يكن في مركز يمكنه من الصمود طويلًا لو أن منو استبدل مناجزة العدو بخطة الدفاع التي تمسك بها، فقد نقصت قوات الإنجليز كثيرًا منذ أن بدأ هتشنسون يزحف مع قسم هام من الجيش صوب القاهرة، وعلاوة على ذلك فقد أصدر هتشنسون أمره بعد وقت قصير إلى الجنرال كوت أن يبعث إليه بعدد من المشاة والفرسان والمدفعية، فنقصت قوات كوت أمام الإسكندرية إلى حوالي خمسة آلاف، كان من بينهم حوالي ألف وخمسمائة جندي مصابين بالرمد ومختلف العلل؛ أي إن عدد الجند الصالحين للقتال كان حوالي ثلاثة آلاف جندي فحسب.٥٠٤ وهذا بينما كان لدى منو بالإسكندرية ستة آلاف مقاتل في وسعهم القيام بهجوم ناجح ضد الإنجليز ورفع الحصار عن الإسكندرية،٥٠٥ ولكن منو أضاع الفرصة. وكان من عواقب الإصرار على التزام خطة إطالة أمد المقاومة أن بدأ الموقف يسوء في الإسكندرية خلال الشهور التالية، حتى انتهى الأمر بأن وجد منو نفسه يضطر إلى التسليم دون إبداء أية مقاومة جدية.
وكان من عوامل الضعف «الداخلية» التي حرمت منو إلى جانب تمسكه بأهداب الأمل في إمكان وصول النجدات التي اعتمد عليها في تخليص الإسكندرية عن التفكير في مناجزة العدو؛ ذلك الانقسام الذي بدأ في القاهرة بينه وبين زمرة من كبار قواده، والذي ما لبث أن ظهرت خطورة آثاره السيئة خلال حصار الإسكندرية، فقد رفض منو — على نحو ما سبق بيانه — أن يستمع لنصح رينييه قبل معارك نيكوبوليس وكانوب وبعدها وأصر على إرسال لاجرانج إلى الرحمانية، وحرم رينييه وجماعته من كل عمل مثمر، ثم عهد بالقيادة إلى طائفة من أنصاره الذين رفعهم إلى مراتب جنرالات كفريان ورامبون، كما رقَّى غيرهم دون نظر إلى كفايتهم العسكرية متحديًا في ذلك أعداءه القدماء، فزادت بسبب ذلك كله شقة الانقسام اتساعًا بين منو وبين رينييه وداماس.٥٠٦
ولما كان رينييه وداماس قد وجدا أنهما صارا متعطلين ولا عمل لهما، فقد حصرا كل اهتمامهما في مناقشة الحوادث وتوجيه النقد اللاذع لقائد الحملة العام ولقواده الجدد، واتهما فريان ورامبون بالخنوع لمنو، وقال داماس عن البولندي زايونشك الذي رفعه منو إلى رتبة جنرال: إن السبب في ترقيته لم يكن سوى قدحه في كليبر وإظهار إعجابه بمنو. وتناول رينييه وداماس بالنقد على وجه الخصوص خطة الدفاع التي تمسك بها منو وأنصاره؛ إذ كان من مقتضياتها إلزام الجيش بالوقوف ساكنًا، وإعطاء الفرصة للعدو حتى يكمل استعداداته لاقتحام تحصينات الإسكندرية بعد أن تكون قد جاءته الإمدادات الكافية، وبعد أن يكون الوباء قد انتشر بين جنود الحاميات، وتكون المجاعة قد فتكت بالجند والأهلين على السواء، وبلغ الضعف بالجيش الفرنسي حدًّا يجعل من المتعذر عليه المقاومة. ووجدت هذه الانتقادات آذانًا مصغية بين الجند والضباط، وبدأ الجيش المحاصر بالإسكندرية يضيق ذرعًا بتلك التحصينات التي أكثر منو من إقامتها، كما بدأ ينفد صبره من انتظار تلك النجدات التي استمر منو يمني النفس بقرب وصولها من فرنسا.٥٠٧ وكان من أثر ذلك أن بدأت تسوء حالة القواد النفسية وصارت الأعصاب متعبة، ولم ينجُ من ذلك حتى أولئك القواد الذين أظهروا إعجابهم بمنو وخضعوا لنفوذه، فصار فريان يشكو داستان إلى منو، وفقد زايونشك كل احترام بين زملائه، بل إن التذمر من خطة منو لم يلبث أن انتشر بين هؤلاء الأنصار أنفسهم، حتى صار لا يمنع فريان ورامبون وسونجي وسائر القواد عن المعارضة العلنية سوى حرصهم على استتباب النظام في الجيش واستسلامهم لما قد يأتي به القدر.٥٠٨
ولم يقتصر رينييه وداماس على إذاعة روح الاستياء من أعمال منو بين الضباط والقواد بالإسكندرية، بل وجدا متسعًا من الوقت بسبب تعطلهما للكتابة إلى زملائهم وأصدقائهم — إلى بليار في القاهرة وإلى الجنرال مورو Moreau في فرنسا ثم إلى القنصل الأول نفسه — يحصيان أخطاء منو وينددان بأعماله، ويرسمان صورة «لعهد الإرهاب» الذي أقامه منو في الإسكندرية، ويبسطان مبلغ اليأس الذي استبد بالنفوس نتيجة لذلك التصرف السيئ الذي كان يهدد في نظرهم بضياع مصر وفقد المستعمرة نهائيًّا. فكتب رينييه إلى مورو يشكو من أعمال منو، ويرسل إليه موجزًا عن الأعمال العسكرية التي تمت في عهد قيادته العامة ومذكرات تحوى تفصيلات ما يقع من حوادث «يوميًّا» على أمل أن يذيع مورو ذلك كله في فرنسا، ويعرض هذه التفصيلات على القنصل الأول. كما كتب رينييه إلى بليار يبسط له نظريته في أجدى طرق الدفاع عن المستعمرة، وفحواها أن يترك بليار القاهرة وأن ينسحب إلى الإسكندرية للانضمام بجيشه إلى الجيش المدافع عنها «لأن الإسكندرية هي المكان الذي يبغي الإنجليز الاستيلاء عليه.»٥٠٩
وكان من أثر هذه الانتقادات والأقوال اللاذعة التي أذاعها رينييه وداماس أن انقسم الجند المحاصرون بالإسكندرية فريقين؛ انحاز أحدهما إلى رينييه وجماعته وظل الآخر مؤيِّدًا لقائد الحملة العام.٥١٠ وزاد من تذمر الناقمين على منو أن الإنجليز في المخافر الأمامية كانوا يلوحون دائمًا أمام الجند الفرنسيين بالأمل في العودة سريعًا إلى أوطانهم إذا حدث التسليم وانفضَّ قتال لا طائل منه.٥١١ وبذل الإنجليز قصارى جهودهم لبذر بذور التفرقة بين الجند المحاصرين، وزيادة عوامل الانقسام شدة على شدتها، فتحدث بعض ضباطهم مع فريق من الجند الفرنسيين في المراكز الأمامية وأخبروهم بأن الضابط كليمان Clément أحد ياوران القنصل الأول قد وقع في أسرهم قريبًا من مرابط، وأن هذا الضابط كان يحمل أمرًا بترقية الجنرال رينييه إلى رتبة أعلى في قيادة الجيش، فكان لذيوع هذه الأخبار أسوأ الآثار في المعسكر الفرنسي؛ ذلك بأن رينييه لم يلبث أن ازداد عجرفة بعد ذلك في علاقته مع منو والقواد الموالين له، كما أنه أخذ يذيع هذه الأخبار. وعظم قلق منو من أن يدبر رينييه مؤامرة واسعة لانتزاع السلطة منه، وانتشر أعوانه في كل مكان يتجسسون على زملائهم.٥١٢ وانبرى داستان يؤكد لمنو أن الجند يبدون أسفًا عظيمًا لأنهم لم يرغموا رينييه عند وفاة كليبر على قبول القيادة العامة، وينحون باللائمة على أنفسهم لأنهم تركوا «جاهلًا» يتقلد هذا المنصب الخطير. وما إن أكد له رامبون وداستان — ثم انحاز إليهما فريان كذلك — أن رينييه وداماس قد أخلَّا بواجبهما في أثناء معركة كانوب وأن هناك ما يدل على ثبوت ذلك قطعًا، حتى اتخذ منو من هذه الأقوال ذريعة للتخلص من أعدائه نهائيًّا٥١٣ فأصدر أوامره إلى القومندان نوفل Novel في ١٣ مايو بالقبض على رينييه وداماس ودور وبواييه Boyer   ونيرو Néraud   وباشيلو Bachelu   ودليتر Delaître.
وفي ليل ١٣-١٤ مايو ذهبت قوة كبيرة تتألف من ثلاثمائة من الجند المشاة وخمسين من الفرسان عدا جماعة من المهندسين إلى منزل رينييه، فأحاطوا به وأخذوا معهم إلى جانب أسلحتهم الكثيرة مدفعًا لزيادة الحيطة. وكان السبب في اختيار سكون الليل وقتًا لتنفيذ أمر القبض على رينييه ثم حشد هذه القوات الكثيرة؛ خوف منو من حدوث ثورة خطيرة لو انكشف «السر» وذاع الخبر قبل تسليم رينييه.٥١٤ ومع أن رينييه كان يعتزم المقاومة إلَّا أنه ما لبث أن فضل الإذعان للقوة، وطلب مهلة كتب في أثنائها خطابًا عنيفًا لمنو شحنه بمختلف أنواع الوعيد والتهديد كما ملأه بالإهانات، وحمَّل فيه منو مسئولية الخسائر التي تكبدها الجيش دون جدوى؛ لأن منو رفض دائمًا أن يستمع لنصحه وإرشاده، ثم هدد بإبلاغ القنصل الأول ذلك كله عند عودته إلى فرنسا. وبعد الفراغ من كتابة هذه الرسالة نزل رينييه إلى الميناء استعدادًا للرحيل هو وصحبه إلى فرنسا، فاعتلى ظهر الإبريق لودي Lodi بينما اعتلى داماس ودور ظهر السفينة جود يونيون Good-Union وحملت لودي الضباط الآخرين واستطاع هذه الإبريق بعد مطاردة عنيفة الوصول إلى نيس في ٢٨ يونيو، بينما وقعت السفينة جود يونيون في أسر الإنجليز قريبًا من جزيرة كريت.٥١٥
وأمَّا منو فقد أذاع غداة القبض على رينييه وزملائه وترحيلهم أنه تمكَّن من مصادرة مبلغ كبير من الفرنكات يبلغ حوالي الثلاثة ملايين كان يمتلكه رينييه والقواد الآخرون، ووعد بأن يدفع منها إلى الجند رواتبهم المتأخرة. وكان غرض منو من إذاعة هذه الأقوال الإساءة إلى رينييه خصوصًا، فقد عرض منو في الوقت نفسه على أحد ياوران الجنرال رينييه — وقد بقي بالإسكندرية — أن يقدم له ما يحتاجه من مال يكفي سد «الديون» التي خلفها رينييه وراءه.٥١٦ وبادر منو بالكتابة إلى وزير الحربية وإلى القنصل الأول وإلى أصدقائه في فرنسا يبسط في خطابه إلى الوزير الأسباب التي دعته إلى إلقاء القبض على رينييه وزملائه وترحيلهم، فنفى أنه كان يحمل في نفسه حقدًا عليهم، بل اضطر إلى اتخاذ هذه الخطوة ضدهم «لأنهم إنما كانوا يحاولون إذاعة القلق والاضطراب في المستعمرة وفي صفوف الجيش.» وطفق منو يؤكد للقنصل الأول أنه وقد زال كل خوف من حدوث ثورة بالإسكندرية قد بات في إمكانه التفرغ تمامًا لشئون الدفاع عنها بعد رحيل هؤلاء القواد، ثم قال: وسوف يفنى جيش الشرق عن آخره تحت أنقاض المستعمرة إذا لم تأته النجدات من فرنسا سريعًا.٥١٧
وحاول منو جهده في رسائله إلى أصدقائه أن يعزو كل ما ارتكب من أخطاء إلى رينييه وداماس ولانوس، فهم المسئولون وحدهم عن الهزائم التي لحقت بجيش الشرق في المعارك السابقة، وهم وحدهم بسبب تذمرهم الذين أشاعوا روح الفوضى وعدم النظام في الجيش فلم يعد الجنود يطيعون الأوامر وإذا أطاعوها فعلوا ذلك متبرمين ساخطين. ولا جدال في أن اتخاذ هذه الخطوة الحاسمة من جانب منو وترحيل هؤلاء القواد قد ضمن — على حد قوله — الخلاص للمستعمرة والجيش، ومن شأنه إتاحة الفرصة لإنزال الهزيمة بالعدو.٥١٨ وكان منو حتى وقت القبض على رينييه وزملائه لا يزال عظيم الثقة في أن في استطاعته الانتصار في النهاية على العدو بالرغم من زوال كل أمل في الحقيقة في إحراز النصر منذ أن شرع الإنجليز يشددون الحصار على الإسكندرية وبدأت تنتشر بها المجاعة والأمراض، وباتت حاميتها في عزلة تامة بعد تسليم القاهرة خصوصًا، ولم تصل منو النجدات التي انتظرها طويلًا من فرنسا.

وواقع الأمر أن تمسك منو بالدفاع عن الإسكندرية، وإطالة أمد المقاومة بها ضد الجيوش التي ضربت حول المدينة نطاقًا من الحصار الشديد؛ كان عملًا مقضيًّا عليه بالفشل عاجلًا أو آجلًا وذلك لأسباب عدة، منها أن الإسكندرية باتت مهددة بالمجاعة منذ أن أفلح الإنجليز في قطع سد المعدية وإغراق بحيرة مريوط، فقد حوصر منو وجيشه نتيجة لذلك في «شبه جزيرة» صغيرة حول الإسكندرية أكثر أرضها مجدب. وازداد الموقف صعوبة عندما سقطت مخازن الجيش الملأى بالمؤن والذخائر وما إلى ذلك في أيدي الإنجليز، فإن العربان الذين ظلوا يمدون منو وجيشه بالمؤن والأغذية خلال شهرَي مارس وأبريل قد باتوا الآن لا يجرءون على الاقتراب من الإسكندرية بسبب تشدد العدو في مراقبة المسالك المؤدية إليها من الجهة الغربية، فأخذت الأقوات تشح رويدًا رويدًا بداخل المدينة، واضطر منو إلى تنظيم توزيع المؤن على الجيش بقدر معين وبدقة بالغة، فصار الزيت والنبيذ يُوزَّعان على الجند مرة كل يومين على أن يقتسم كل أربعة رجال زجاجة واحدة من النبيذ فيما بينهم، واختص منو «العمال» المشتغلين بأعمال التحصينات وما إليها بقدر أكبر من المؤن، وبذل جهدًا ظاهرًا لإعداد ما يكفي من خبز لجميع أفراد الجيش، وقرر إذا حالت الظروف دون توفير الخبز الكافي أن يضرب مثلًا لجنده بالاقتصار على استهلاك «البسكويت» في الأيام التي أُبيح فيها استهلاك هذا النوع من الغذاء فحسب.

وفي أوائل يونيو كانت قد شحت الأطعمة بالإسكندرية لدرجة اضطرت منو إلى اتخاذ إجراءات غير عادية، فأصدر أمرًا يوميًّا في ٤ يونيو بإخراج جميع الأفواه العاطلة من الإسكندرية وإبعادهم إلى الرحمانية، كما أعدم رميًا بالرصاص أحد الفارين من الجيش وبعض الأجانب الذين اتُّهموا بالتحريض على الثورة وإشاعة الفوضى في المدينة.٥١٩ ومنذ نهاية شهر مايو بدأت تفتك بالأهلين وبجند منو الأمراض الناجمة عن انتشار المجاعة، وأزعج القوم مشاهدتهم في أثناء ذلك مياه بحيرة مريوط تتقدم شيئًا فشيئًا نحو الغرب وتحطم كل أمل في الاتصال مع سائر البلاد من هذه الناحية. وزاد من يأس الجيش سقوط كفالييه في الأسر في الظروف التي سبق بيانها، وامتنع ورود الأقوات بتاتًا فانعدم اللحم من الأسواق وصار الخبز يُوزَّع على الجند والأهلين مخلوطًا بالأرز، ثم انتهى الأمر بتوزيع الأرز فقط واختفى الأرز بدوره، وفتكت أمراض سوء التغذية بالجنود والأهلين فصار مستشفى الإسكندرية يغص بالمرضى الذين يشكون من علة فساد الدم،٥٢٠ وأُسقط في يد منو الذي تعذر عليه أن يجد علاجًا ناجعًا لكل هذه الأدواء وإن ظل على الرغم من كل هذه الصعوبات مصممًا على المقاومة إلى النهاية.
وكان أخشى ما يخشاه منو أن يستبد اليأس بنفوس الجند فيستمعوا إلى «دعاية» العدو، الذي ظل يلوِّح أمام ناظريهم دائمًا بمزايا العودة إلى الوطن ويعمل على بذر بذور التفرقة والانقسام في صفوفهم، فأكثر منو من إصدار «الأوامر اليومية» يذيع فيها على الجند الأخبار المطمئنة، ويحثهم على الصمود أمام العدو، ويحذرهم مغبة الوقوع فريسة لدعايته الباطلة، ويمنيهم بالنصر القريب وسرعة انتهاء الشدة التي هم فيها، وكل ذلك لتقوية روح الجند المعنوية. فما إن عثر فريق الهجانة قريبًا من برج العرب على بضع رسائل معنونة من أنكونا حتى أذاع أخبارها على الجيش في أمر يومي بتاريخ ٢١ أبريل ١٨٠١م، حمل أنباء توقيع معاهدة لونفيل (في ٩ فبراير سنة ١٨٠١م بشروط مطابقة لشروط معاهدة كامبو فورميو)، «وإغلاق موانئ نابولي وصقلية في وجه الإنجليز.»٥٢١ ثم عاد منو فأصدر أمرًا يوميًّا آخر في ٧ مايو، نقل فيه إلى الجند خبر «وجود يوسف بونابرت في لندن من قبل القنصل الأول ووجود المستر فوكس Fox في باريس»، مما يدل على انتظار انتهاء النضال مع إنجلترا وعقد الصلح قريبًا بينها وبين حكومة القنصل الأول. واختتم منو أمره اليومي بمناشدة جنده أن يظلوا شجعانًا متذرعين بالصبر مستمرين على نشاطهم، كما طلب إليهم أن يذكروا دائمًا مقدار ما يحدثه التمسك بهذه البلاد دائمًا من أثر عظيم في مصير مفاوضات الصلح القائمة، ثم أخبرهم بوقوع مركب إنجليزي محمل بالأسلحة والذخائر عند مدخل الميناء القديم.٥٢٢ وعندما ذاع خبر إخلاء الرحمانية وانتشرت الإشاعات المزعجة بين الجنود أصدر منو أمرًا يوميًّا في ٢٢ مايو، تحدث فيه عن أولئك الرجال الذين لا شرف لهم والذين ذهبوا إلى مخافر العدو الأمامية ليعودوا منها بأنباء مثبطة ينشرونها بين الجنود: «إن الحرب مزيج من انتصارات وانهزامات لا مفر من وقوعها، أخذ منو على عاتقه أن يبلغ أخبارها الصحيحة إلى جيشه سواء كان النصر في جانبه أو صادفته الهزيمة.»٥٢٣
على أن هذه الأوامر اليومية وما حملته من أنباء «مشجعة» لم تفد شيئًا في مكافحة ذلك اليأس الذي أخذ يستبد بنفوس الجند، الذين نالت منهم المجاعة وأضعفهم المرض وبدءوا يشعرون بشدة وطأة حصار العدو لهم، وعجز منو عن دفع مرتباتهم إليهم كاملة لقلة ما صار في خزائنه من أموال كانت في ٣٠ مايو لا تزيد على ٩٥٩٩٧ جنيهًا فحسب، وذلك في وقت ارتفعت فيه الأسعار بالإسكندرية ارتفاعًا فاحشًا، حتى إن فريان ما لبث أن اضطر إلى دعوة تجارها إلى الاجتماع عنده حتى يأخذ عليهم العهود والمواثيق بعدم رفع أسعار السلع والمحاصيل. ومع أن العربان كانوا قد استطاعوا إحضار بعض اللحوم إلى الإسكندرية، فقد علم منو في ٣ يونيو أن هذه اللحوم قد نقصت وباتت لا تكفي لاستهلاك الجيش أو المدينة.٥٢٤

غير أنه حدث إبان اشتداد هذه الأزمة، وضياع كل أمل في إمكان وصول أية نجدات من فرنسا؛ أن شاهد القوم فجأة في يوم ٩ يونيو القرويت هليوبوليس تدخل ميناء الإسكندرية، وعلم الفرنسيون أن هليوبوليس كانت إحدى قطع أسطول غانتوم الذي أرسله بونابرت بالرجال والمؤن والذخائر لنجدة المستعمرة، فقابلها الجند ومنو على رأسهم بفرح عظيم، وقوي أملهم بقرب وصول النجدات الباقية إليهم، ولكن هذه الآمال ما لبثت أن تحطمت عندما علم الجيش مما أذاعه رجال هذه السفينة أنه من العبث انتظار مجيء أية نجدات أخرى، لإخفاق غانتوم في محاولته الوصول إلى الشواطئ المصرية واضطراره إلى النكوص على عقبيه، والالتجاء إلى الشواطئ الفرنسية فرارًا من مطاردة أسطول الإنجليز له. ومع ذلك فقد ظل منو وحده متشبثًا بأهداب الأمل، وزاده وصول هليوبوليس إيمانًا بأن القنصل الأول لن يرضى بضياع هذه المستعمرة «الجميلة»، وأنه لن يتوانى عن إرسال النجدات اللازمة للدفاع عنها.

ومن الثابت أن بونابرت كان يدرك تمامًا ضرورة الاحتفاظ بمصر في وقت كان ما يزال يرجو فيه عقد الصلح مع إنجلترا وبذل قصارى جهده لإرسال النجدات إلى منو ولو أن جميع هذه الجهود ذهبت سدًى، فقد أرسل بونابرت إلى ميناء روشفور أمير البحر الفرنسي بروي Bruix لتسليح أسطول جديد لهذه الغاية، فجمع بروي عددًا من السفن الإسبانية في فيرول وقادش كما جمع من أوترانتو Otranto جنودًا بغية إنزالهم في مصر، ولكنه أُصيب فجأة بمرض خطر اضطر بسببه لترك هذه المهمة.٥٢٥ وعهد بونابرت إلى الكونترأميرال «لينوا Linois» بمهمة إيصال النجدات إلى مصر، وغادر لينوا بالفعل ميناء طولون قبيل عودة غانتوم إليها بأيام قلائل في ١٣ يونيو، على أن يأخذ معه أسطولًا إسبانيًّا من ميناء قادش، ولكن لينوا لم يلبث أن علم في ٤ يوليو أن الإنجليز يحاصرون بأسطولهم ميناء قادش فاضطر إلى الدخول في خليج الجزيرة Algésiras بعد انتصاره في مناوشة ضد الإنجليز، ولكن هذا النصر لم يفد جيش الشرق في شيء، ولم يستطع القنصل الأول إرسال أية نجدات إلى الإسكندرية، وظل منو يبدد الوقت في انتظار هذه النجدات عبثًا.٥٢٦
وواقع الأمر أن وصول القرويت هليوبوليس إلى الإسكندرية كان له آثار سيئة على الرغم من السرور الوقتي الذي أحدثه لأسباب عدة، لعل أهمها أن منو الذي عظم اعتقاده بأن غانتوم لا محالة واصل بنجداته إلى الإسكندرية صار ينفق الوقت متجولًا على الشاطئ تارة أو واقفًا على إفريز الفنارة تارة أخرى يرقب وصول أسطول غانتوم، حتى إذا أرخى الليل سدوله غادر المكان وهو ما يزال يعتقد أن الغد سوف يحمل في طياته أنباء طيبة، واستأثر انتظار أسطول غانتوم بكل تفكيره حتى صار لا يُعنى بشئون الدفاع عن المدينة، فترك تدبير وسائله والإشراف على إنجاز التحصينات لطائفة من القواد كفريان وسونجي وسانسون Sanson   وبرتران Bertrand الذين لم يشغلهم «لحسن الحظ» التفكير في أمر هذه النجدات التي يحملها أسطول غانتوم، واستطاعوا التوفر على مراقبة التحصينات والعناية بوسائل الدفاع الأخرى.٥٢٧
وكان في هذه الأثناء أن عمد منو إلى إذاعة الأخبار الكاذبة التي تحملها تقاريره إلى حكومة القنصل الأول، من ذلك ما ذكره في إحدى رسائله إلى شابتال Chaptal وزير الداخلية بتاريخ ١٧ يونيو عن انهزام العثمانيين الذين هاجموا جيش الشرق من ناحية الشام فحلَّت بهم الهزيمة في معركتين كان الصدر الأعظم نفسه يقود الجيش في المعركة الثانية، وكأن إلحاق الهزيمة بالعثمانيين وحدهم لم يكن كافيًا فذكر منو أن الإنجليز قد دُحِروا في معركة بالقرب من إمبابة «على مسافة قصيرة من القاهرة وإن لم تكن قد وصلته التفصيلات بعد، ولكن الإنجليز الموجودين في هذا المكان أمام الإسكندرية يعترفون بأن خسائرهم في هذه المعركة كانت جسيمة، ويبدو أن قائدهم العام الجديد قد قُتِل في أثنائها»،٥٢٨ وبعث منو بهذه الأخبار «الكاذبة» ذاتها في كتاب أرسله في اليوم نفسه إلى القنصل الأول. وقد علق أحد مؤرخي الحملة الفرنسية في مصر على ذلك بقوله: «وهكذا تضمنت التقارير الرسمية أخبار معركة فاصلة ضد الإنجليز في إمبابة ومعركتين أخريين ضد الأتراك. إن ذلك ولا شكَّ لمما يجعل صحيحًا ما نعته به أحد المتندرين من جنود الحرس عندما سماه قائدًا عامًّا لجيش المغفلين.»٥٢٩ وفضلًا عن ذلك فقد بذل منو قصارى جهده لإرسال الأنباء الكاذبة إلى فرنسا بشتى الوسائل، وأثبت صاحب التاريخ السابق صورة ما جاء في أحد التقارير التي كثر تداولها في باريس وقتئذٍ. وكان منو وحده المسئول عن إذاعة ما احتوته من أكاذيب، لعل أشدها إمعانًا في التضليل القول بأن الإنجليز قد أخلوا مصر جميعها بعد أن اشتبكوا في عدة مواقع دامية مع الفرنسيين وأُصيبوا بهزيمة ماحقة أمام أبو قير والإسكندرية ولم يُنْجهم من الهلاك المحقق سوى مغادرتهم الشواطئ ونزولهم إلى البحر بكل سرعة. وكان من الأكاذيب التي تضمنها هذا التقرير كذلك أن الإنجليز فقدوا ثلاثة آلاف من القتلى عدا مئات من الجرحى والأسرى في ساحات القتال، وأن نجدات كبيرة قد وصلت لتعزيز جيش الشرق في مصر.٥٣٠
وقد يكون الباعث على إرسال هذه الأكاذيب إلى فرنسا أن منو لم يشأ أن يفقد مواطنوه الأمل في نجاح «الحملة» ونجاح تلك التجربة الاستعمارية، التي جندوا من أجلها العلماء والمتخصصين لمساعدة قائد الحملة العام في إنشاء المستعمرة الجديدة على أسس جديدة وفي ميادين جديدة حتى تستطيع فرنسا أن تجد فيها ما يعوضها عن الخسارة التي ما زالت تتكبدها في مستعمراتها القديمة في جزر الهند الغربية، فيحدو مواطنيه ورجال الحكومة الأمل في إرسال النجدات التي انتظرها منو طويلًا، والتي اعتقد أن خلاص المستعمرة مرهون بسرعة وصولها إلى الأراضي المصرية. وقد يكون الباعث على إذاعة هذه الأكاذيب أنه يرغب بفضل إحياء الآمال الكاذبة في إزالة الأثر الذي سوف تحدثه ولا شك معرفة أخطائه،٥٣١ أو قد يكون مبعث ذلك أن الأمر قد اختلط على منو نفسه لشدة ما كانت تسيطر الرغبة في البقاء بمصر على تفكيره حتى صار يتوهم الخيال حقيقة ثابتة.
ومع ذلك فمن الثابت أن منو على الرغم مما كان يصوره من أوامر يومية يطلب فيها من جنده الثبات والشجاعة، وعلى الرغم من تلك الأكاذيب التي لم يتورع عن إذاعتها عليهم فحسب بل نجح في إذاعتها في فرنسا كذلك؛ كان في قرارة نفسه لا يثق بأن الفوز في النهاية سوف يكون من نصيبه، وكان يدرك ولا شكَّ جسامة الأخطار التي أحدقت به. وآية ذلك خطابه إلى فريان في ٦ يونيو يتحدث فيه عن ضرورة التمسك بالصبر والاتصاف بالشجاعة والمضي في العمل بكل نشاط وهمة؛ لأن الصبر والشجاعة والنشاط من شأنها جميعًا إتاحة الفرصة للخلاص من الإنجليز ليس في مصر وحدها بل في سائر أنحاء العالم؛ ذلك بأن الرمد والدوسنطاريا والطاعون ومرض فساد الدم والجدري قد بدأت جميعها تضيِّق الخناق عليهم وتفتك بهم. ومع أنه اختتم هذه الرسالة بتمني البقاء للجمهورية! يحاول أن يدفع عن نفسه بذلك ظنة الخور وضعف العزيمة، فقد كان أكثر صراحة في رسالة أخرى إلى أحد خلصائه، فقال أمَّا إذا لم تصله أية نجدات من فرنسا فإن مصير جيش الشرق إلى الفناء لا محالة، وكان من أقواله كذلك: «إن الإنجليز سوف يكون مصيرهم الفناء معنا، وإن على الحكومة أن تتدبر الأمور وتأخذ لكل شيء عدته.»٥٣٢ وفي خطابه إلى القنصل الأول في ١٠ يوليو أوصى بونابرت بزوجه «ستي زبيدة» وبابنه منها سليمان مراد الذي قال منو «إنه لا يعرف شيئًا عنه البتة؛ إذ فرقت ظروف الحرب بينه وبين زوجه وولده منذ مدة طويلة.»٥٣٣
وكان من أسباب الصعوبات التي زادت من حرج مركز منو أنه ظل يجهل نوايا الإنجليز ولا يعلم شيئًا عن خططهم، لحاجته إلى العيون والجواسيس الذين يستطيعون تسقط الأخبار من معسكرات الإنجليز والعثمانيين، وينبئون القائد الفرنسي عن حركات أعدائه. وزاد جهله بما كان يجري حوله أو يحدث في سائر أنحاء القطر، وفي القاهرة على وجه الخصوص، منذ أن وقع كفالييه في أسر العدو؛ ذلك أن منو كان يعتمد في نظام مخابراته على فرقة الهجانة اعتمادًا كاملًا، ولم تفد محاولته استخدام العربان في حمل رسائله أو تكليف ضباطه بحمل أوامره شيئًا في إبلاغ رغباته إلى القاهرة، أو تزويده بالأخبار التي كان في حاجة ظاهرة لمعرفتها. ومع أن منو ما لبث أن عين بدلًا من كفالييه ضابطًا آخر هو سانت جنيس Saint-Geniès، واستطاع أن يحصل على الجمال اللازمة لفرقته الجديدة من عربان أولاد علي؛ فإن سانت جنيس سرعان ما وقع في أسر الإنجليز في ٢ يوليو عند خروجه في طلب المؤن من إقليم البحيرة وبعد أن تقدم قليلًا صوب القاهرة.٥٣٤ وكان من أثر عزلة منو على وجه الخصوص أنه ظل يجهل حوادث القاهرة ويجهل الأسباب التي أفضت إلى تسليمها.
غير أنه سرعان ما انتشرت بعد ذلك في أنحاء الإسكندرية إشاعات خطيرة عن تسليم القاهرة، واستطاع الإنجليز في المخافر الأمامية أن يطلعوا فريقًا من جنود الفرنسيين على بعض التفصيلات المتعلقة بهذا التسليم لم يلبث هؤلاء أن أذاعوها بدورهم حتى بلغت مسامع منو، الذي اشتد به الغضب عند وقوفه عليها وبادر بتكذيبها على أنها من حيل الإنجليز وخدعهم، وادعى أن لديه وحده الخبر اليقين لمن شاء أن يعرفه، وهدد بالإعدام رميًا بالرصاص كل من يعمل على ترويج هذه الإشاعات الكاذبة، وأسرع بكتابة تلك الرسالة التي طالب فيها بليار بالصمود حتى إحراز النصر أو الموت، كما أرسل فيالا Viala أحد ضباطه مزوَّدًا بتعليمات شفوية إلى بليار في القاهرة. بيد أن منو سرعان ما تبين صحة هذه الأنباء، وتأكد لديه أنها لم تكن شائعات كاذبة فحسب، عندما أبلغه اللورد كيث رسميًّا في ٧ يوليو خبر اتفاق تسليم القاهرة، وحضر لمقابلته أحد الضباط الإنجليز يحمل صورة من هذا الاتفاق ويعرض على منو الاستفادة من مادة الاتفاق العشرين التي تركت لمنو وجند الإسكندرية الخيار في قبول التسليم وفق الشروط التي تم الاتفاق عليها بين بليار والإنجليز والعثمانيين في ٢٧ يونيو.
ومع أنه كان من الواضح أن الاستمرار على المقاومة كان لا جدوى منه بعد تسليم القاهرة، وبسبب الصعوبات التي أحاطت بقائد الحملة العام من كل جانب؛ فقد أصر منو على رفض هذه العروض وأخذ الغضب منه كل مأخذ، فأقسم أمام الضابط الإنجليزي أنه لن يأتي عملًا مشينًا كتسليم بليار. وانحاز إلى جانبه في ذلك القواد الذين سألهم منو الرأي، فصمم الجميع على إطالة الدفاع عن الإسكندرية حتى يتمكن القنصل الأول من إرسال النجدات إليهم أو يصل إلى عقد الصلح مع إنجلترا.٥٣٥ ووصل في هذه الأثناء تارير الذي كان قد أرسله بليار بنسخة من اتفاق تسليم القاهرة منذ ٢٩ يونيو حتى يطلع منو على أسباب هذا التسليم، فرفض منو أن يأذن له باجتياز خطوط الدفاع الأمامية، وأرسل أحد ياورانه ليتسلم ما معه من رسائل، واضطر تارير أن يعود إلى القاهرة دون مقابلة منو فبلغها في ١٤ يوليو.٥٣٦
أمَّا منو فقد أصدر أمرًا يوميًّا خاصًّا في ٩ يوليو أبلغ فيه جيشه خبر تسليم بليار المشين، وأكَّد لجنده أن القواد الذين جمعهم لسؤالهم الرأي في هذا التسليم، وهم فريان ورامبون وسونجي وداستان وسانسون؛ قد اتفقت كلمتهم على أن الواجب «يقتضينا أن نسلك هنا مسلك الرجال الذين لا يعرفون سوى الشرف وحب الوطن مبادئ يسترشدون بهديها»، وأمَّا إذا كان هناك جند لا يشعرون في نفوسهم بالقدرة على قتال أعداء الجمهورية، «فأبواب الإسكندرية مفتوحة أمامهم»، ويعد منو بإرسالهم إلى رشيد حيث يجتمعون بعد أيام قليلة بزملائهم الحاضرين من القاهرة.٥٣٧ وفي ١٠ يوليو كتب منو إلى القنصل الأول أنه يحتدم غضبًا إذ ينقل إليه خبر تلك الجريمة الشنيعة، التي بدأت بصورة دسيسة تُحاك خيوطها منذ أن غادر بونابرت مصر من أجل إخلاء البلاد، والتي تحققت الآن بفضل تسليم بليار «دون أن يحارب العدو ودون أن يشن العدو أي هجوم عليه»، وذلك على الرغم من وجود المؤن والذخائر التي تكفيه ثلاثة شهور بتمامها، ناهيك بتحصينات القاهرة المنيعة والمدافع العديدة التي كانت لديه، فضلًا عن الهدوء الشامل الذي كان يسود المدينة، «بل لقد بلغ السفه ببليار حدًّا جعله يشترط في تسليمه أن يكون باستطاعة منو قبول هذه المعاهدة المهينة إذا شاء منو ذلك، كأنما كان في وسع أحد القواد أن يشترط شروطًا لقائده الأعلى دون أن يصدر له أمر بذلك!»٥٣٨
وهكذا تناسى منو — على حدِّ قول أحد مؤرخي الحملة — كل ما ارتكبه هو من أخطاء لعل أظهرها كان بقاءه بالإسكندرية وهو قائد الحملة العام وقت إطباق جيوش العدو على القاهرة، ثم تقسيم الجيش قسمين: أحدهما بالإسكندرية والآخر بالقاهرة ولا مواصلات بينهما، ويجد فريق منهما نفسه مرغمًا على الاشتباك مع العدو دون أن يتحرك الفريق الآخر أو يبذل جهدًا للتدخل في القتال القائم، وأن بليار تصرف تصرفًا لم يفعل منو شيئًا وما كان في وسعه أن يفعل شيئًا لمنعه أو إبداء موافقته عليه.٥٣٩ بل يعزو هذا المؤرخ نفسه تلك الاتهامات التي كالها منو لبليار إلى ما كان يتأجج في صدر منو من كراهية بسبب إغفال شأنه وعدم محاولة بليار أن يسأله رأيه، ثم ما فعله الجند المنسحبون من القاهرة عند إظهار حفاوتهم الكبيرة بجثة قائدهم القديم الجنرال كليبر. ولقد أكد منو في رسالته إلى القنصل الأول أنه لن يسلم الإسكندرية بتاتًا، وأنه سوف يمضي في الدفاع عن المدينة حتى يُدفن تحت أنقاضها، ثم اختتم كتابه بكلمات رنانة عندما أنشأ يقول: «وإني لأعرف كيف أموت ولكني لا أعرف كيف أسلم!» ولكنه مما يبعث على الأسى حقًّا أنه بينما كان منو يصوغ هذه العبارات التي إن دلت على شيء فإنما تدل على صلف صاحبها، كان الجميع — عدا منو طبعًا — يعرفون أنه من المتعذر على الجيش الصمود طويلًا بسبب نقص المؤن والذخائر وقلة المال وتفشي المرض وانتشار المجاعة، ويتوقعون تسليم الإسكندرية بعد وقت قليل.٥٤٠ وفي الواقع لم يكد يمضي شهران على خطاب منو الأخير إلى القنصل الأول حتى كانت الإسكندرية قد فتحت أبوابها للعدو، وسلم منو للإنجليز والعثمانيين على غرار ما فعل بليار في القاهرة.

تسليم منو

في الوقت الذي أذاع فيه الإنجليز خبر تسليم القاهرة بدأت تصل إليهم النجدات تباعًا، فأحضرت الفرقاطة ليدا Leda يوم ٥ يوليو عددًا من الجند ومبلغًا من المال كذلك، ليشتري به الإنجليز حاجتهم من المؤن والأغذية من العرب. وفي ٨ يوليو دخلت الفرقاطة أكتيف Active خليج أبو قير تحمل جندًا ومالًا كثيرًا، وبعد مُضيِّ أسبوع واحد فقط وصلت قافلة من السفن تحمل الجند والعتاد من جزيرة مينورقة. فما انتصف شهر يوليو حتى كان عدد الإنجليز قد بلغ حوالي ستة عشر ألف جندي،٥٤١ ووجد الجنرال كوت قائد الجيش المرابط أمام الإسكندرية أن باستطاعته — وقد زادت قوته كثيرًا — أن يشدد الحصار على الإسكندرية، وبدأ يعد الخطة للهجوم على المدينة من الجانب الغربي، لضعف تحصينات الفرنسيين في هذه الجهة بالقياس إلى تحصيناتهم المنيعة في الجانب الشرقي، فاعتلى الإبريق «بورت ماهون» وذهب يستطلع ذلك القسم من الشاطئ الممتد من مرابط، وأسفر هذا الاستطلاع عن تأكده أن في استطاعة خمسة آلاف مقاتل، إذا أقاموا المتاريس وأنشئوا بعض التحصينات السريعة، أن يحتلوا تلك الأرض الرملية بين بحيرة مريوط والبحر، وهي الأرض التي لم تغمرها المياه بعد كسر السد.
وعلى ذلك لم يكد يرجع كوت من هذا الاستطلاع الهام حتى شرع يتخذ العدة لإرسال حملة إلى الجهة الغربية، ثم سرعان ما وصلته الأخبار بأن الجنرال مور قد غادر إمبابة منذ ١٥ يوليو بقسم من الجيش الإنجليزي الذي جعل تسليم القاهرة الاستغناء عنه ممكنًا. ووصلت هذه القوات الجديدة بعد أيام قليلة، ووصلت معها كذلك القوات العثمانية بقيادة القبطان باشا، بينما بقيت حامية صغيرة بقيادة الصدر الأعظم في القاهرة.٥٤٢ وشرع الإنجليز ينفذون خطتهم، ولم يحُل دون البدء مباشرة في العمليات العسكرية المزمعة سوى انشغال الإنجليز بجمع السفن اللازمة في فرضة أبو قير لنقل جنود بليار إلى الشواطئ الفرنسية، كما أنهم فضَّلوا التريث وإحكام تدابيرهم قبل تنفيذ خطة الهجوم على الإسكندرية من الجهة الغربية؛ لأنهم ظلوا يجهلون حقيقة موقف الفرنسيين بداخل المدينة ومدى استعداداتهم. وكان السبب في ذلك أن منو صمم على قطع كل صلة مع الإنجليز، خوفًا من اتصال هؤلاء بجنوده وتحريضهم على الفرار أو بذر بذور الفتنة بينهم. بل كان منو متشددًا في منع كل صلة مع الإنجليز، حتى إنه رفض مقابلة أستيف الذي طلب عند وصوله إلى أبو قير بعد تسليم القاهرة أن يذهب لزيارة صديقه، وليعرض على قائد الحملة العام «حسابات» الحملة وينال موافقته عليها. فبعث الجنرال كوت في ٧ أغسطس يطلب من منو الإذن لأستيف بالمرور من الخطوط الفرنسية، ولكن منو الذي أصر دائمًا على عدم دخول أي فرد إلى الإسكندرية — سواء من طريق البر أو البحر — رفض أن يحقق أمنية أستيف، حتى اضطُرَّ هذا الأخير إلى مغادرة أبو قير دون مقابلته.٥٤٣ ومع أن منو عاد بعد ذلك فرضي بمقابلته، فإن أستيف كان قد أبحر في طريق عودته إلى فرنسا.٥٤٤ وعلى ذلك فقد اكتفى الإنجليز في أول الأمر بتشديد الحصار على الإسكندرية، وأخذوا يدرسون بإمعان خطتهم الجديدة.
أمَّا هذه الخطة الجديدة فكانت تتلخص في نقل حوالي خمسة آلاف جندي بقيادة الجنرال كوت إلى الناحية الغربية لمحاصرة الإسكندرية من هذا الجانب، ومنع أية مؤن أو إمدادات قد تأتيها من طريق البر، فضلًا عن إرغام الفرنسيين على توزيع قواتهم، ومنعهم من حصر كل انتباههم في ملاحظة خطوط تحصيناتهم الشرقية. ووافق اللورد كيث أمير البحر الإنجليزي على هذه الخطة، بعد أن استطلع مواقع العدو على جانب البحيرة، وتأكد لديه عجز الأسطول الفرنسي الصغير عن المقاومة. واتفقت كلمة سائر القواد الإنجليز على أن الجيش سوف يعجز كذلك عن المقاومة إذا قام الإنجليز بهجوم على الإسكندرية من الناحية الغربية. وكان من رأيهم أن إنزال الجنود إلى البر سوف يتم دون صعوبة تُذكر.٥٤٥ وما إن وصل هتشنسون إلى معسكر الإسكندرية في ١٥ أغسطس حتى وافق هو الآخر على تنفيذ هذه الخطة بعد أن قرر القيام إلى جانب ذلك بعملية عسكرية بسيطة، يخدع بها الفرنسيين ويرغمهم على تركيز نشاطهم في مكان غير المكان الذي أراد الإنجليز أن يهاجموا منه الإسكندرية. وانتظر الإنجليز أن يسفر نجاح هذه العمليات العسكرية عن نتائج طيبة، إذ سوف يمكِّنهم امتداد خطوطهم في الجهة الغربية من الاستيلاء على حصن مرابط الصغير، والسيطرة على مداخل الميناء القديم، وإدخال سفنهم الحربية في ميناء الإسكندرية.٥٤٦ ومما يجدر ذكره أن فيلنوف Villeneuve أمير البحر الفرنسي كان يشعر بعجزه عن مقاومة الإنجليز إذا حاول هؤلاء دخول الميناء؛ لأنه لم يكن لديه بالإسكندرية سوى ثلاث فرقاطات فحسب، هي «جوستيس» و«إيجبسيين» و«ريجنريه»، وكتب منذ ٨ أغسطس يطلب من منو أن يأذن له بالخروج بها من مياه الإسكندرية والذهاب إلى فرنسا؛ لأن الجمهورية سوف تخسر هذه الفرقاطات لا محالة — على حد قوله — إذا بقيت في المياه المصرية.٥٤٧
وبدأ الإنجليز ينفذون خطتهم مساء يوم ١٦ أغسطس، فاستطاعوا أن ينقلوا أربعة آلاف من جنودهم بقيادة الجنرال كفان والجنرال فنش، وذلك عدا رجال المدفعية والمهندسين على سفن المدفعية التركية الصغيرة التي دخلت بحيرة مريوط منذ ١٣ أغسطس، وتولى الجنرال كوت القيادة العامة، واستعد الجنرال هتشنسون في الوقت نفسه للقيام بهجوم كاذب على تحصينات الفرنسيين الشرقية. فما إن بزغت شمس يوم ١٧ أغسطس، حتى كان ألفان من الجند الألبانيين قد بدءوا هجومهم على أحد مخافر الفرنسيين الأمامية وأجْلَوا هؤلاء عنها، ومنعتهم مدفعية الفرنسيين الشديدة من البقاء طويلًا في الأماكن التي احتلوها، فاضطُرُّوا إلى تركها بعد خسائر عظيمة وارتدوا إلى المعسكر الإنجليزي، وظلوا طيلة النهار يناوشون مخافر الفرنسيين الأمامية. والتحم في الوقت نفسه جيش من الإنجليز يبلغ ستة آلاف مقاتل مع الفرنسيين في معركة خيَّل الوهم للجنرال منو أن الإنجليز يبغون منها نتائج حاسمة،٥٤٨ فرفض أن يستمع إلى نصيحة الجنرال سونجي الذي حاول أن يوضح له أن نشاط الإنجليز في هذه المعركة لم يكن سوى خديعة حربية يقصدون بها تحويل أنظار الفرنسيين عن عملياتهم العسكرية الأخرى في الجهة الغربية، واكتفى بإرسال قوة صغيرة من المشاة والفرسان لتتبع حركات الإنجليز في هذه الجهة.٥٤٩ فكان من نتائج ذلك أن نجح الإنجليز في تنفيذ خطتهم واستطاعت إحدى بوارجهم الوقوف قريبًا من رأس التين وبدأت تقذف الإسكندرية بقنابلها.

ولما كانت القوة الصغيرة التي أرسلها منو لمراقبة سير السفن التي نقلت الإنجليز في البحيرة تخشى من أن يحاول هؤلاء إنزال جنودهم إلى البر؛ فقد وجدت من الحكمة وأصالة الرأي أن تكف عن السير حتى لا يستطيع الإنجليز قطع خط مواصلاتهم مع سائر الجيش. وفضلًا عن ذلك فقد عمد الفرنسيون إلى إحراق سفنهم التي كانوا قد أدخلوها إلى البحيرة وذلك خوفًا من سقوطها في قبضة الإنجليز.

وهكذا لم يأتِ المساء حتى كان هؤلاء قد ركزوا قواتهم في مواقعهم الجديدة،٥٥٠ وبدءوا هجومهم على حصن مرابط في اليوم التالي (١٨ أغسطس)، فلم تمضِ أيام ثلاثة حتى سلم إتيين Etienne قومندان الحصن للإنجليز في ليل ٢١، ٢٢ أغسطس،٥٥١ واستطاع الإنجليز بعد ذلك أن يُدْخلوا إلى ميناء الإسكندرية عددًا كبيرًا من السفن والفرقاطات والقراويت والأباريق اتخذت مواقعها جميعًا قبالة الفرقاطات الفرنسية التي اضطُرَّت إلى الاحتماء في داخل الميناء تحت ستار من نيران مدافع حصن لترك Leturcq. واعتقد الفرنسيون عندما شاهدوا هذا العدد الكبير من سفن العدو يدخل الميناء أن غرض الإنجليز كان إنزال الجند عند رأس التين، حيث يستطيعون الهجوم على الإسكندرية من هذه الناحية دون أن يصدهم عائق، فعمدوا إلى إغراق عدد من السفن اتخذوا منها «جسرًا» ووضعوا فوقه بطاريات مدافعهم للدفاع عن رأس التين، ومع أن هذه البطاريات كانت ضعيفة وفي استطاعة الإنجليز تحطيمها بسهولة لو أنهم أدركوا ما كانت تدل عليه حركة الفرنسيين هذه من أنهم يشعرون بعجز مراكزهم في رأس التين عن المقاومة والدفاع، فقد شغلهم إطلاق قنابلهم على حصن «لترك» عن محاولة الهجوم على رأس التين، واستمر تصويب مدافعهم على هذا الحصن حتى يوم ٢٥ أغسطس، حتى إذا كان اليوم التالي بدأ الإنجليز هجومهم على حصن «لترك»، غير أن منو كان قد أذعن في عصر اليوم نفسه لرغبة قواده، وبعث اثنين من ضباطه لطلب هدنة من العدو تمهيدًا للاتفاق على شروط التسليم النهائية.٥٥٢
فقد شاهد الفرنسيون منذ بدأت عمليات العدو الأخيرة بصورة جدية في ١٧ أغسطس أن الإنجليز والعثمانيين يقتربون من خطوطهم رويدًا رويدًا، بينما نقصت قواتهم فلم يعد هناك حسب إحصاء لعدد الجنود في أول سبتمبر سوى ٩٥٠٧ من الرجال، منهم ٧٣٦٢ من الضباط والجند العاملين، بينما كان الباقون من المرضى أو من أولئك المشتغلين بشئون الإدارة. ثم شحَّت المؤن والأقوات فلم يعد بالمخازن يوم ٢٨ أغسطس سوى ٧٢٣٧ ليبرة من القمح أو كيلوجرامًا من القمح يجب أن تكفي لتغذية الجند حتى نهاية الأسبوع الأول من شهر أكتوبر، ولم يوجد من الأرز سوى قدر قليل يكفي لعشرة أيام فقط، بينما لم يعد بخزائن الجيش سوى ١٩١ ألفًا من الجنيهات حسب إحصاء ١٧ سبتمبر.٥٥٣ وفضلًا عن ذلك فقد خلت المخازن من الأنبذة وغيرها، واعتقد الجند في المخافر الأمامية واعتقد زملاؤهم في الأماكن الأخرى وفي داخل الإسكندرية أن من الخير المفاوضة مع الإنجليز وهم ما يزالون بعيدين عن خطوط الفرنسيين المحصنة وأسوار المدينة والاستفادة من رغبتهم في بذل شروط سخية، حتى يمكن الوصول معهم إلى اتفاق يحفظ الشرف الفرنسي، وذلك قبل أن يقتحموا تحصينات الإسكندرية ويرغموا جيش الشرق على أية شروط أخرى قد يرتئونها تنال من شرفه. ولكن أحدًا من هؤلاء الجند ما كان يجرؤ على معارضة القائد العام بذلك كله، ولو أن مسلك منو في هذه الآونة كان يدل على أن الخبل قد أصاب قائد الحملة العام عندما أغرق سفن النقل، ووجه اتهامات شنيعة لأمير البحر فيلنوف ووصمه بالجبن لرغبته في تخليص سفنه من الوقوع في أسر الإنجليز أو تحطيمها على أيديهم، ثم اعتزم منو بدلًا من ذلك إغراق الفرقاطات الثلاث في ميناء الإسكندرية،٥٥٤ فنظر الجند إلى قوادهم الآخرين، وعقدوا آمالهم على فريان ورامبون وسونجي الذين وثقوا بأنهم خير من يستطيعون تخليصهم من هذا المأزق.

وعلى ذلك فقد قرر رامبون أن يأخذ على عاتقه مفاتحة منو في أمر التسليم، وتمكَّن من مقابلته مقابلة طويلة يوم ٢٥ أغسطس، وبذل رامبون قصارى جهده في إقناع منو بأن الوقت حان لقبول التسليم إذا رغب القائد العام في المفاوضة ولمَّا يحدث بعدُ ما يذهب بشرف الجيش الفرنسي، وأخبر رامبون منو أن العمليات العسكرية الأخيرة وحدها قد كلفت حامية الإسكندرية ثمانمائة رجل، وأن من يصلحون للخدمة صاروا لا يزيدون على ثلاثة آلاف فحسب. وثار منو وافتعل الغضب وأخذ يصيح: «لقد تخلى عني الجميع، لقد تخلوا عني ولا يساعدني أحد على إقالة عثرة الجيش الفرنسي والنهوض به، بل يطلبون لهذا الجيش نهاية تدعو إلى الخزي والخجل، ومع ذلك فإني وحدي سوف أظل مصرًّا على القيام بواجبي حتى أنقذ شرف الجيش وأرفع عنه وصمة العار، وأحفظ له ذلك السجل الطويل من أعمال المجد والفخار السابقة!» غير أن هذه العبارات الجوفاء لم تنل شيئًا من عزيمة رامبون الذي أخذ يوضح لقائده الأعلى أن العار سوف يكون لا محالة أعظم إذا دخل الإنجليز الإسكندرية، وأن من العبث الاعتقاد بأنه ما يزال في وسع الجيش المقاومة وصد العدو، وطال النقاش بين الرجلين دون جدوى، وأكثر منو من الصياح والهياج حتى أتعب رامبون فغادره رامبون وهو ينظر إليه كما ينظر إنسان إلى طفل لا يعي ما يقول أو إلى مجنون يهذي.

وما إن عاد رامبون إلى منزله حتى طلب زملاءه للاجتماع به لبحث الموقف، وقرَّ رأي المجتمعين على ضرورة بدء المفاوضة مع الإنجليز بكل سرعة، ثم بعثوا إلى منو الجنرال دارمنياك Darmagnac، وهو أحد الضباط الذين رفعهم منو بنفسه إلى مرتبة القيادة، ليحمل إليه قرار قواده، فأحدث إرسال دارمنياك الأثر المطلوب، وأذعن منو في آخر الأمر وقبل المفاوضة. وأرسل لهذه الغاية في الساعة الرابعة من مساء يوم ٢٦ أغسطس اثنين من ياورانه إلى المعسكر الإنجليزي، ذهب أحدهما من باب رشيد إلى معسكر الجنرال هتشنسون، بينما اجتاز الآخر تحصينات «لترك» في طريقه إلى معسكر الجنرال كوت، وحمل كلاهما خطابًا من منو إلى القائدين الإنجليزيين يطلب فيه هدنة لمدة ثلاثة أيام «يستعد في أثنائها لطلب التسليم.» وناشد منو العدو ألَّا يعتبر طلب الهدنة خديعة يلجأ إليها القائد الفرنسي تمهيدًا لاستئناف القتال مرة أخرى، فأجاب الإنجليز رغبة منو وأُعلنت الهدنة ورُفعت الأعلام البيضاء على المخافر الأمامية في اليوم التالي (٢٧ أغسطس).٥٥٥ وعقد منو مجلسًا حربيًّا برياسته في صباح يوم ٢٨ أغسطس للنظر في شروط التسليم، حضره من القواد وكبار الضباط والموظفين فريان وسونجي وداستان وزايونشك وفوجيير وسانسون وليففر وديليجورج وفولترييه Faultrier وبوسار ودارمنياك وهبلر Heppler   وسارتلون Sartelon   ولوروي Le Roy   وريشر Richer، وانعقد المجلس في وكالة فرنسا التي يقيم فيها فريان قومندان الإسكندرية.
ويتضح من مضبطة هذه الجلسة٥٥٦ أن الجند كانوا في شدة التعب والإجهاد ولا قدرة لهم على المقاومة، ومع أن الذخائر كانت على وجه العموم «كثيرة» ولدى المدفعية كميات من القذائف تكفي لإطالة مدة الدفاع على الرغم مما حدث من نقص؛ فقد تبين بسؤال المختصين من أعضاء المجلس أن الجنود الملحقين بسلاح المدفعية كان أكثرهم من اليونان والبحارة الجدد الذين تعوزهم الخبرة. وزيادة على ذلك فإن الجند الباقين بالإسكندرية كانوا لا يكفون للقيام بالعمليات العسكرية الناجحة؛ لأن الدفاع عن حصون الإسكندرية كان يتطلب وحده ستة آلاف جندي، ناهيك بالجند اللازمين لأعمال الدفاع عن سائر المراكز العامة، وكان هؤلاء لا يقلون في تقدير القواد المجتمعين عن ستة آلاف أخرى، وذلك في وقت كان قد بلغ فيه عدد المرضى بالمستشفيات ألفًا وتسعمائة مريض يشكو أكثرهم من علة فساد الدم بسبب سوء التغذية وانتشار المجاعة، ولم يكن هناك أي أمل في إمكان الحصول على الحبوب واللحوم وسائر أنواع الأغذية، وبات الموجود من الحبوب في المخازن لا يكفي سوى أسابيع معدودة (حتى يوم ٢٣ سبتمبر على وجه التدقيق)، بينما انعدم وجود الزيت والخل والأنبذة وسائر المشروبات الروحية، مع حاجة المستشفيات للأنبذة لاستخدامها على وجه الخصوص في علاج مرض فساد الدم أو «الأسكربوط»، كما صارت المستشفيات تقدم لمرضاها لحوم الخيول إلى جانب لحوم الأغنام، ونقصت كميات اللحوم بها عمومًا. ولما كان عدد المرضى في ازدياد مستمر فقد بات ينقص المستشفيات العتاد والفرش، كما انعدم وجود الدواء اللازم لمعالجة المرضى بالأسكربوط خصوصًا.
وعندما سأل المجلس رأي الطبيب سافرسي Savaresi والجراح لاري Larrey والصيدلي بوبل Pouble الذين استدعاهم ليستوضح الحالة الصحية في المدينة ومبلغ استعداد المستشفيات للمضي في خدمة المرضى؛ أكد هؤلاء عجز المستشفيات عن العناية بالمرضى للأسباب السابقة، كما توقعوا أن تزيد وطأة الوباء شدة على شدتها بسبب رطوبة الجو الناجمة عن دخول المياه إلى بحيرة مريوط بعد أن كسر الإنجليز السد الذي حجز مياه بحيرة المعدية، فأغرقت المياه مساحة من الأرض لا تقل عن مائة وخمسين ميلًا مربعًا، وهي مساحة كانت تقوم عليها حوالي اثنتي عشرة أو خمس عشرة قرية، كما كثرت المستنقعات حول الإسكندرية، ومن شأن مرض الأسكربوط أن يجعل المرضى به أكثر تعرضًا للإصابة بوباء الطاعون. فإذا أُضيف إلى ذلك كله أنه لم يكن لدى الفرنسيين أسطول يصح الاعتماد عليه في الدفاع عن ميناء الإسكندرية أو تعطيل عمليات الإنجليز في البحر، وكانت قوات الإنجليز وحلفائهم العثمانيين تبلغ حوالي خمسة وعشرين ألف جندي من إنجليز وترك وشوام وغيرهم، ويقف أسطول مؤلَّف من أربعين مركبًا على حصار الإسكندرية يوجد منها سبعة عشر مركبًا في داخل ممرات الميناء القديم، وهذا عدا وجود ما يزيد على مائة وعشرين قاربًا مسلحًا من قوارب العدو في بحيرة مريوط تقوم على حصار الإسكندرية من هذه الجهة؛ اتضح أنه لا جدوى من الاستمرار على المقاومة.

وفضلًا عن ذلك فقد بات متعذرًا وصول الماء العذب إلى الإسكندرية بسبب قطع جسر أو سد المعدية، وامتلاء الخليج — أو الترعة التي تمد المدينة بالماء الصالح للشرب — بمياه البحر الملحة، ناهيك بما لحق ذلك العدد القليل من الجند المدافعين عن الإسكندرية من تعب وإجهاد بسبب التحامهم المستمر مع العدو في مناوشات ومعارك عدة منذ إخلاء القاهرة، وذلك بينما أنشأ العدو معسكرين منيعين في شرق المدينة وغربها، واحتل خطًّا يمتد من البحر إلى بحيرة مريوط، واستطاع بفضل ذلك في كل مرة حاول فيها الفرنسيون الهجوم على العدو أن يشترك معهم في معارك من الأمام والخلف وعلى الجانبين بسبب ما لديه من سفن المدفعية الكثيرة، فإذا أخذنا بعين الاعتبار كذلك أن قلعة مرابط قد سقطت «بعد دفاع مجيد» في يد العدو، وأن تسليم القاهرة قد أتاح للعدو الفرصة ليجمع جيوشه أمام الإسكندرية، وأن الإنجليز استطاعوا إغلاق المنافذ التي كان يأتي العربان منها بالأغذية إلى المدينة المحاصرة، وأنه من المستبعد أن تصل من أوروبا النجدات قبل يوم ٢٣ سبتمبر وهو يوم نفاد الأغذية، وأن الجيش الموجود بالإسكندرية لا يستطيع النضال ضد جيش بلغ عدده منذ تسليم القاهرة عشرة أمثال الجند الفرنسيين الذين يصلحون للخدمة في الميدان؛ اتضح عجز الفرنسيين عن الاستمرار في الدفاع عن المدينة.

وعلى ذلك لم تكد تُعرَض كل هذه الحقائق على أعضاء المجلس الحربي حتى اتخذ هؤلاء قرارًا نص على أن يُطلَب إلى قائد الحملة العام الجنرال عبد الله جاك منو أن يبدأ من الآن المفاوضة مع قواد الدول المتحالفة من أجل إخلاء الإسكندرية بشروط مشرفة للجيش الفرنسي وللقوات التي وقفت إلى جانبه فضلًا عن جميع الأفراد الذين التحقوا بخدمته، على أن تكون هذه الشروط في مصلحة التجارة والتجار ومن أثرها المحافظة على أملاك الأفراد وأرواحهم مهما كان هؤلاء من جنسيات مختلفة ومهما كانت عقائدهم ما داموا قد خدموا الجمهورية الفرنسية في مصر. كما طُلب إلى منو الموافقة على تسليم الإسكندرية بشريطة أن يحدث ذلك خلال مدة معينة يتفق أجلها وما لديه من موارد وعند عدم وصول أية نجدات من فرنسا. ثم اتخذ المجلس قرارًا أخيرًا أصبح بمقتضاه لكل عضو من أعضائه مطلق الحرية عند التوقيع على محضر هذه الجلسة أن يسجل رأيه الشخصي حتى إذا خالف ذلك رأي الأكثرية، وقد وقع على هذا المحضر دون تعليق كل من رينيه Réné وريشر وسارتلون وليففر وهبلر ودلزون Delzons ودارمنياك وديليجورج وبوسار وفولترييه وزايونشك وسونجي وفريان ورامبون، أمَّا داستان فقد أبدى رغبته في أن يمتد الأجل المنصوص عليه قبل تنفيذ التسليم حتى يوم ٢٣ سبتمبر لاحتمال وصول نجدات قبل هذا التاريخ، ثم أبدى سانسون نفس الرغبة، وسجل منو رأيه الخاص في قوله: «إن تسليم القاهرة الذي ما كان ينتظر بل ما كان ينبغي أن ينتظر حدوثه الجيش الواقف أمام الإسكندرية، جعل سقوط الإسكندرية أمرًا مفروغًا منه ولا سبيل إلى منعه. وكان يجب أن تصمد القاهرة في الحقيقة على الأقل مدة أخرى نحو شهرين ونصف شهر، فلو أنه حدث ذلك لأمكن تموين الإسكندرية، وإتمام تحصيناتها على الوجه الأكمل، ولفتكت الأمراض كذلك بجيش العدو، ولاستطاع الفرنسيون أن يُبْقُوا مصر في حوزتهم.»٥٥٧
على أن اتخاذ قرار التسليم المشروط والتوقيع على مضبطة الجلسة لم يكن معناه انتهاء الجلسة؛ ذلك أنه بقي على المجلس بعد أن قبل أعضاؤه المفاوضة مع العدو أن يضع هؤلاء قواعدها، فتم الاتفاق في الليلة ذاتها على أن يقوم كل من رامبون وفريان وسونجي وسانسون وديليجورج بإعداد هذه القواعد. وفي صبيحة اليوم التالي (٢٩ أغسطس) كان هؤلاء قد فرغوا من عملهم، ولكنه ما إن عُرضت قواعد المفاوضة على المجلس حتى أبدى أولئك القواد الذين سجلوا «تحفظاتهم» عند التوقيع على مضبطة الجلسة السابقة ينقدونها نقدًا مرًّا، وكان داستان أشدهم عنفًا في معارضته. ومع ذلك فقد لزم منو الصمت في أول الأمر؛ ذلك أنه وقد اتضحت في الجلسة السابقة استحالة الدفاع عن الإسكندرية، فقد صار الآن — على حدِّ قول أحد المؤرخين٥٥٨ — لا يرضى بأن يُدْفن تحت أنقاض الإسكندرية، بل أصبح الآن يرغب رغبة صادقة في المفاوضة أكثر من أي شخص آخر، ومع ذلك فقد كان من المتعذر عليه أن يكشف القناع عن نياته الصحيحة بعد تمسكه السابق بضرورة الدفاع حتى النصر أو الموت، فتدخل في المناقشة وعاد يكيل الاتهامات لبليار، ويعزو سبب قبوله المفاوضة إلى تسليم القاهرة على يد بليار، وافتعل الغضب فأخذ يصيح: «رأسي أو رأس هذا القائد سوف تطيح بها يد الجلاد عند العودة إلى فرنسا»، ولكن منو ما لبث أن هدأ بعد ذلك، وكان لتدخله الحاسم أثر فعال في إنهاء المناقشة وقبول تلك القواعد التي وضعها رامبون وزملاؤه للاسترشاد بها في المفاوضة دون تغيير. وبدأ المجلس يضع مقترحات الصلح في صيغتها الأخيرة قبل إرسالها إلى العدو، وانقضى النهار قبل أن يفرغ منو من صوغها وكتابتها.

ولما كان يوم ٢٩ أغسطس آخر أيام الهدنة فقد قلق هتشنسون وظن أن في الأمر خدعة، وكان على وشك استئناف العمليات العسكرية عندما جاءه أحد ياوران منو في مساء اليوم نفسه يعتذر عن التأخير ويطلب امتداد الهدنة يومًا آخر فرفض هتشنسون وهدد بالهجوم على الإسكندرية عند منتصف الليل ولم يقبل الانتظار حتى صباح اليوم التالي إلَّا بعد إلحاح شديد. وعلى ذلك بادر منو بعد أن عقد اجتماعًا جديدًا بإرسال شروط الصلح التي وافق عليها القواد إلى هتشنسون. ولما كانت قراءتها تحتاج إلى وقت طويل فقد رفض هتشنسون أن يبحثها، وأصرَّ على أن يتم توقيع التسليم يوم ٣١ أغسطس وفق شروط لخصها هتشنسون في مواد أربع: نقل جيش منو بأسلحته وعتاده وأحد عشر مدفعًا فحسب من مدافع الميدان إلى فرنسا، والفراغ من تسليم الإسكندرية خلال عشرة أيام على أن يجري نزول الجند إلى البحر خلال العشرة الأيام التالية حتى يتسنى ترحيلهم بمجرد استعداد السفن للإبحار، أمَّا فيما يتعلق بلجنة العلوم والفنون فإنه يمتنع على أعضائها أن ينقلوا معهم شيئًا من القطع الأثرية القديمة أو المخطوطات العربية أو الرسوم والمصورات أو المذكرات أو المجموعات الفنية والعلمية بل يتركون ذلك كله «تحت تصرف القواد والرؤساء الإنجليز»، وأخيرًا أن تتم تفصيلات التنفيذ وفق ما سبق الاتفاق عليه في معاهدة القاهرة، وحدد هتشنسون الساعة العاشرة من مساء يوم ٣١ أغسطس موعدًا لقبول هذه الشروط أو رفضها.

وعلى ذلك فإنه ما إن وصلت هذه الشروط إلى الفرنسيين وكانت بمثابة إنذار باستئناف القتال، حتى عقد المجلس الحربي — وقد ظل مجتمعًا بصورة دائمة في أثناء ذلك كله — جلسة أخرى ناقش فيها عروض القائد الإنجليزي وتم الاتفاق على شروط التسليم وأُرسلت هذه إلى هتشنسون، وكانت تتألف من اثنتين وعشرين مادة رفض هتشنسون بعضها وأدخل تعديلًا على البعض الآخر وقبل عددًا منها،٥٥٩ ولم يسع الفرنسيون سوى النزول على إرادته.
فقد رفض هتشنسون أن يمد أجل الهدنة ووقف القتال إلى يوم ١٧ سبتمبر سنة ١٨٠١م، وهو اليوم الذي حدده الفرنسيون لقبول إخلاء مواقعهم وتسليم المدينة إذا ظلت لا تصلهم أية نجدات من فرنسا حتى ذلك التاريخ، وأصرَّ هتشنسون على أن يتم إخلاء مراكز الفرنسيين وحصنَي «لترك» ودوفيفييه Duvivier بعد يومين من تاريخ التسليم فحسب أي ظهر ٢ سبتمبر على أن يسلم الفرنسيون كذلك الذخائر والمدافع بهذين الحصنين، ويتم إخلاء مدينة الإسكندرية والقلاع وما إلى ذلك في ظرف عشرة أيام من تاريخ التوقيع على الاتفاق، «أو في اللحظة التي يُنْقَل فيها الفرنسيون على ظهر السفن» لركوب البحر إلى فرنسا. ومع أن هتشنسون وافق على أن ينقل الفرنسيون معهم عتادهم الخاص وما يملكه أفرادهم من أوراق وسلع أو متعلقات شخصية، فقد اشترط ألَّا يُنْقَل شيء مما يعد من ممتلكات حكومة الجمهورية الفرنسية، وأن يُسْمَح فقط للضباط والجنود الفرنسيين وأولئك الذين عاونوهم وكانوا من جنسيات وأديان أخرى سواء في أعمال الحرب أو الإدارة المدنية بأن ينقلوا معهم متعلقاتهم الشخصية ما داموا قد ظلوا في صفوف الجندية أو خدموا جيش الشرق مدة لا تقل عن عشرة أشهر. ووافق هتشنسون على أن يغادر الفرنسيون البلاد محتفظين بكل مظاهر الشرف العسكري فلا يُعَامَلون كأسرى حرب، ولكنه رفض أن يخرجوا بكامل أسلحتهم وأن يحتفظوا بكل ما لديهم من وثائق وأوراق، كما سمح لهم بنقل عشرة مدافع فحسب لا تزيد عدد طلقات كل منها على عشر فقط. ثم رفض أن تخرج السفن الحربية بكامل عدتها وسلاحها والسفن التجارية التي يملكها فرنسيون أو غيرهم مع الجيش المنسحب، وأصر على تسليم جميع هذه السفن «بحالتها الراهنة.» وأُجيب بالرفض كذلك طلب الفرنسيين اعتبار شروط التسليم سارية على سفن الجمهورية الفرنسية أو سفن حلفائها التي قد تدخل ميناء الإسكندرية من تاريخ توقيع الاتفاق إلى يوم ١٧ سبتمبر، وعدم مصادرة سفن الجمهورية أو حلفائها التي تدخل هذا الميناء خلال الأيام العشرين الأولى التي تلي هذا التسليم، بل يُسْمَح لها بدلًا من ذلك بالخروج من الميناء حرة طليقة بعد أن يزودها الإنجليز وحلفاؤهم بجوازات المرور اللازمة.

ومع أن هتشنسون أجاز ذهاب من يشاء من التجار وغيرهم من الأفراد سواء كانوا من الشوام أو القبط أو اليونان أو اليهود أو العرب مع الفرنسيين، وتأمين أولئك الذين خدموا جيش الشرق في مصر على أموالهم وأرواحهم إذا رغبوا البقاء في مصر؛ فقد أصر على أن تظل جميع البضائع الموجودة بمخازن الإسكندرية أو في بطون السفن الراسية بمينائها في حوزة الإنجليز على أن يتم التصرف في هذه البضائع بعد ذلك حسب القوانين والقواعد التي أقرتها الدول المتمدينة. ورفض هتشنسون أن يأخذ معهم أعضاء لجنة العلوم والفنون وأعضاء المجمع العلمي أوراقهم ومذكراتهم ورسومهم ومجموعاتهم العلمية (في التاريخ الطبيعي) والآثار القديمة والقطع الفنية التي جمعوها مدة إقامتهم في مصر، وأجاز لهؤلاء بدلًا من ذلك أن ينقلوا معهم آلاتهم العلمية وأدواتهم التي أحضروها من فرنسا عند مجيئهم إلى هذه البلاد فحسب، وأصر على اعتبار المخطوطات العربية والتماثيل والمجموعات العلمية التي جمعها العلماء باسم الجمهورية الفرنسية من الممتلكات العامة وجَعَل التصرف فيها من حق قواد الجيوش المتحالفة وحدهم، وعلاوة على ذلك فقد اشترط هتشنسون أن يسلم إليه الفرنسيون جميع ما لديهم من رسوم مدينة الإسكندرية وحصونها وكذلك المصوَّرات والخرائط المتعلقة بأقاليم القطر المصري. وفيما عدا ذلك تضمنت مواد التسليم الإجراءات التي يجب اتخاذها لتنفيذ الجلاء ونقل الفرنسيين من أبو قير على نفقة الإنجليز وحلفائهم وفي سفنهم، ثم نقل مرضى الفرنسيين في «سفن المستشفى» المزودة بالمؤن والعقاقير وأدوات الجراحة وما إلى ذلك. وتعهد الحلفاء بتخصيص بعض سفنهم الحربية لحماية الجيش المنسحب في أثناء سفره إلى فرنسا، وإطلاق سراح الأسرى من الجانبين بمجرد تسليم المعسكرات والحصون الفرنسية، والتصريح لسفينة فرنسية «غير مسلحة» بالخروج من الإسكندرية تحمل أنباء «التسليم» إلى حكومة الجمهورية. ونصت المادة الأخيرة من الاتفاق على أن تجري تسوية كل خلاف يحدث بشأن التسليم بالطرق الودية.

وفي يوم ٣١ أغسطس إذنْ وقع عبد الله جاك منو على اتفاق تسليم الإسكندرية، كما وقعه من الجانب الإنجليزي الأميرال اللورد كيث Keith والجنرال هتشنسون، ومن الجانب العثماني القبطان باشا، وفي ٢ سبتمبر بدأ تنفيذ الإخلاء بتسليم حصنَي «لترك» ودوفيفييه ومعسكر نيكوبوليس، ثم سلم الفرنسيون الفرقاطات الثلاث وسائر السفن التي كانت بالميناء إلى الإنجليز، وشرعوا يتخذون الأهبة لمغادرة الأراضي المصرية.

الجلاء عن مصر

وجد منو لزامًا عليه وقد قبل تسليم الإسكندرية بشروطٍ أقل ما يقال عنها إن الفرنسيين قد عُومِلوا بمقتضاها كأسرى حرب وكما يُعامَل المهزومون تمامًا؛ أن يكتب إلى القنصل الأول في ١١ سبتمبر شارحًا الأسباب التي أرغمته على التسليم وتوقيع اتفاق الإسكندرية بعد أن أجاب الإنجليز إلى كل ما تمسكوا به من شرائط في نظير وقف القتال وسماحهم بعودة جيش الشرق إلى فرنسا، فعزا منو فشله في الدفاع عن الإسكندرية إلى الصعوبات العديدة التي سبق الحديث عنها، وأهمها: تسليم القاهرة، وانتشار الأمراض، وقلة المؤن والأغذية، وحدوث المجاعة، واستطاعة الإنجليز والعثمانيين أن يحشدوا جيوشهم الكبيرة أمام الإسكندرية وأن يضيقوا نطاق الحصار الشديد عليها، وغير ذلك من الأسباب التي اعتقد منو أن في ذكرها «تغطية» لموقفه وتهوينًا من شأن أخطائه.٥٦٠ وشُغِل منو وشُغِل جيش الشرق في الأيام التالية بالاستعداد للرحيل، فأخلى الجنود بقية المراكز ونُقل المرضى من المستشفيات، وبلغ عدد الجيش ٩٥٠٧، كان منهم ٧٣٦٢ ضابطًا وجنديًّا في صحة جيدة وكان الباقون من المرضى والجرحى، من هؤلاء الأخيرين نحو الثلاثمائة لم تسمح خطورة حالهم بنقلهم من الإسكندرية فظلوا في مستشفياتها تحت رعاية الدكتور يونج Young كبير أطباء الإنجليز، يساعده ضباط الصحة الفرنسيون الذين بقوا كذلك بالإسكندرية لهذا الغرض. وبين يومَي ١٤، ٣٠ سبتمبر كان قد تم إقلاع السفن التي حملت جيش منو إلى فرنسا من أبو قير،٥٦١ وبلغ عدد السفن التي حملت المصابين بالدوسنطريا والأَسكربوط اثنتي عشرة سفينة مستشفى، بينما حملت بقية المرضى سفينتان أخريان، وكان بعد شهرين من الجلاء أن تم شفاء المرضى الفرنسيين الذين بقوا بالإسكندرية فاستطاعوا العودة إلى أوطانهم.٥٦٢
أمَّا منو — وقد نال منه التعب والإجهاد خلال شهور الحصار الطويلة — فإنه ما لبث أن وقع فريسة للأمراض، وكان من أسباب اشتداد العلة عليه ما أُصيب به من أرق حرمه النوم مدة طويلة بسبب الهواجس التي انتابته وما كان يشعر به من ضخامة مسئولية التسليم الملقاة على عاتقه، وظهرت عليه عوارض مرض الطاعون فشكا من حدوث «جمرات» في رجله اليسرى واستدعى الجراح لاري لعلاجه، فنصحه لاري بالمبادرة بالرحيل لعله يفيد من هواء البحر. وعلى ذلك اعتلى منو الفرقاطة الإنجليزية ديانا Diana في ١٨ أكتوبر وصحبه لاري للعناية به في أثناء الرحلة إلى فرنسا، وتحسنت صحة منو رويدًا رويدًا حتى إذا وصل إلى طولون كان قد شُفِي تمامًا مما أصابه.٥٦٣
وكان منو قد اهتم قبل رحيله بمدة طويلة بتدبير سفر زوجته السيدة زبيدة وابنه سليمان مراد إلى فرنسا، فقد حدث عند استيلاء الإنجليز والعثمانيين على رشيد أن اضطُرَّت زوجة منو وولده إلى الفرار من رشيد وصحبها أخوها السيد علي، فأقامت بعض الوقت في بلدة فوة حيث تعيش أسرتها، ولكن ما إن استولى الأتراك على فوة ثم سقطت الرحمانية في أيدي الإنجليز حتى اضطُرَّت السيدة زبيدة إلى الفرار إلى القاهرة،٥٦٤ فنزلت عند الضابط ألفران Alpheran أحد ياوران منو وكان من رجال الكنيسة القدماء. وحضرت السيدة زبيدة وولدها وأخوها حصار القاهرة، واستبدت المخاوف بالسيد علي، وعجز ألفران عن تهدئة روعه، حتى إذا حدث تسليم القاهرة غادرت زوجة منو القاهرة مع جيش بليار المنسحب منها، وكانت تبغي الذهاب إلى جانب زوجها، ولكن منو الذي أصر على عدم الاعتراف بتسليم القاهرة أو الاستفادة من مواد اتفاق التسليم رفض مقابلة زوجه وولده حتى لا يظن إنسان — كما كتب إلى اللورد كيث في ٢٥ يوليو — أنه يوافق على مادة من مواد تسليم القاهرة،٥٦٥ وبعث في الوقت نفسه برسالة إلى زوجه يوصيها بولده خيرًا ويطلب إليها أن تنشِّئه التنشئة الصالحة، غير أنه كان متعذرًا بقاء السيدة زبيدة برشيد بعد إقلاع جيش القاهرة إلى فرنسا، فقد عرض كلٌّ من بليار وألفران على منو أن يضم زبيدة وسليمان مراد إلى أسرته، وطلب ألفران أوامر صريحة من منو كي يسترشد بها في مسلكه. وعندئذٍ قرر منو في ٢ أغسطس أن يطلب لزوجه وولده من اللورد كيث «جواز مرور» حتى يستطيعا الإبحار من أبو قير، وأجاب كيث رغبة منو دون صعوبة، وأقلعت الأسرة مع جيش بليار العائد إلى فرنسا.٥٦٦
وعندما وصل منو إلى طولون كانت مقدمات الصلح بين فرنسا وإنجلترا قد وُقِّعت في لندن منذ أول أكتوبر ١٨٠١م، وتسير المفاوضات بكل همة من أجل الاتفاق على شروط الصلح النهائية، ولم يشأ القنصل الأول في هذه الظروف تقريع قواده الذين أخفقوا في الدفاع عن «المستعمرة» الجديدة. وأفاد بليار من هذه «الميول الكريمة» وصفح عنه القنصل الأول، ثم أفاد من هذه الميول الكريمة كذلك قائد الحملة العام الذي وصل إلى طولون يوم ١٥ نوفمبر، فإنه لم تمضِ أيام قليلة حتى كتب إليه بونابرت في أول ديسمبر بأنه يعرف تمامًا رغبته الشديدة في الاحتفاظ بمصر وحبه الشديد لهذه البلاد الجميلة وتصميمه على بقاء هذه الفتوح في حوزة فرنسا، ويمتدح إصراره على المقاومة الطويلة في الإسكندرية تلك المقاومة التي ساعدت على تقدم المفاوضات من أجل عقد الصلح ونشر السلام.٥٦٧ غير أن هذا «الرضاء» الظاهر لم يكن معناه أن بونابرت كان يقر في أعماق نفسه هذا التسليم الذي أفضى إلى ضياع الفتوح الفرنسية الجديدة في الشرق وقضى على كل أمل في إنشاء المستعمرة الناجحة التي تمكِّن الفرنسيين من تعويض الخسائر التي تكبدوها في ميادين الاستعمار القديمة، فقد كان من رأيه أن تسليم منو حدث قبل أوانه ولم يكن هناك ما يدعو إلى التعجيل بقبول المفاوضة والاتفاق على الجلاء في آخر شهر أغسطس من عام ١٨٠١م.
فقد جاء في مذكرات نابليون التي أملاها في سانت هيلانه: «إنه كان من الأنسب إذا أخذنا بعين الاعتبار الظروف التي أحاطت بمنو وجيشه في آخر شهر أغسطس أن يطول أمد الدفاع حتى تصل الأمور إلى شدتها القصوى، ولا شكَّ في أن جميع الضباط الذين حضروا المجلس الحربي كانوا يقرون الاستمرار على الدفاع والمقاومة إلى النهاية لو أن أحدًا أكد لهم أن جيشًا سوف يأتي لنجدتهم قبل يوم ١٥ نوفمبر أو بلغهم نبأ مقدمات الصلح تمهيدًا لعقد السلام العام. إن ما حدث ليس سوى واحد من آلاف الأمثلة التي يزخر بها التاريخ، والتي تنهض دليلًا على أن الحاكم في أي مكان لا يجب عليه أن يفكر إلَّا في أمر واحد هو الدفاع حتى النهاية. وعلى ذلك فقد كان الواجب يقتضي منو الاستمرار على المقاومة حتى يقتحم العدو تحصينات برج العرب ويستولى على قلعتَي كريتان Cretin   وكفاريلِّي Cafarelli ويستطيع النفاذ من تلك الثغرة التي أحدثها في خطوط تحصيناته؛ إذ عندئذٍ فقط يمكن القول بأن الشرف قد سلم من الأذى، وعندئذٍ فقط يصبح التسليم مهما كانت شروطه عملًا مجيدًا. ولا تكون شروط التسليم مشرِّفة إلَّا إذا كانت قاسية؛ إذ إنه مما يبعث على إثارة الشكوك ويسبب سوء الظن دائمًا أن تستطيع حامية من الحاميات الخروج بسلام من مكان محاصر على جسر من الذهب.»٥٦٨واعتقد نابليون أنه كان لدى منو ٨٩٢٠ مقاتلًا وأن العدو عند تسليم القاهرة وجد بها ٥٣٥ مدفعًا ومائتي ألف قذيفة وثمانمائة جمل وثلاثمائة حصان، بينما كان بالمخازن كميات كبيرة من الأرز والبن والزيت.٥٦٩
وأثبت أحد الضباط الإنجليز عدد جند حامية الإسكندرية التي سلمت يوم أول سبتمبر، فكان عدد الجنود المشاة والفرسان وضباطهم ٥٩٦٥، وعدد المدفعيين ٧٩٥، والهجانة والأدلَّاء والمدفعيين البحريين والمهندسين (اللغمجية والبلطجية) والبحارة الذين كانوا يعملون في الحصون واليونان ٢٢٦٧، وعدد الجرحى ٢٤٠، والمرضى ١٣٨٧، وبلغ مجموع العسكريين ١٠٥٢٨، أمَّا المدنيون من موظفي قومسييرية الجيش والبحرية والمستشفيات والخزانة، وهذا إلى جانب المهندسين الجغرافيين وأعضاء لجنة العلوم والفنون وسائر المدنيين والتجار الذين ربطوا مصيرهم بمصير الفرنسيين؛ فقد بلغ عددهم ٦٨٥؛ أي إن مجموع من سلَّموا يوم أول سبتمبر ١٨٠١م كان ١١٢١٣.٥٧٠ وسواء كان الرقم الذي ذكره نابليون فيما بعد صحيحًا أو سلمنا بصحة الأرقام التي ذكرها المؤرخون الإنجليز، أو ذكرها المختصون من أعضاء المجلس الحربي الذي انعقد للبحث في شئون التسليم واعتمد عليها منو في تبرير وقف القتال وإخلاء الإسكندرية؛ فإنه لا معدى عن ذكر حقيقة ظاهرة هي أن الرأي الشائع وقتذاك — سواء في فرنسا أو في مصر — كان يميل إلى الاعتقاد بأن منو كان في وسعه إطالة أمد المقاومة، وأنه كان لديه من الجند والعتاد والمؤن والأسلحة والذخائر ما يكفيه زمنًا أطول لو أنه صمم على الدفاع إلى النهاية. وقد عبر نابليون في مذكراته عن هذا الرأي في منفاه بعد ذلك، أمَّا في مصر فقد كتب أحد المعاصرين تعليقًا على تسليم منو ما نصه:٥٧١ «… وتقاسما الدولتان الإنكليزية والعثمانية جميع ما تركوه الفرنساوية لأنهم خرجوا بسلاحهم فقط، وساروا في مراكب الإنكليز إلى بلاد باريز، وخلوا مدافع وجبخانات وأمتعة وذخائر وخيرات. وكان تسليم الجنرال بليار وخروجه أصلح شأنًا من تسليم منو في الذل والهوان، ولكن قد افتخر الجنرال منو على بليار بأنه ما وقَّع التسليم إلَّا بعد الحرب العظيم والجوع الجسيم، فهذا على مقتضى شرايع مشيختهم وأحكام دولتهم.»
لقد أخذت الأخبار تَذيع في فرنسا عن حملة ١٨٠١م الفاصلة بعد معركة كانوب بزمن قصير، فعلمت باريس في ١٥ أبريل بنزول السير رالف أبركرمبي في شاطئ أبو قير والتحاماته الأولى مع جيش الشرق، وفي ٣٠ أبريل ذاعت أنباء هزيمة كانوب وتأيدت أنباء هذه الهزيمة في منتصف مايو عندما أرسل أوتو الذي كان لا يزال يفاوض في لندن أخبارها، ونقل إلى باريس فضلًا عن ذلك خبر وفاة أبركرمبي وانتقال القيادة إلى هتشنسون، ثم لم تلبث أن ذاعت بعد ذلك أنباء سقوط القاهرة وتسليم بليار. فكان لهذه الحوادث أثر بالغ على سير المفاوضات في لندن، حتى اضطُرَّ بونابرت منذ ٢٣ يوليو إلى إعلان عزمه على إرجاع مصر إلى الباب العالي، كما اضطُرَّ إلى التساهل في إجابة مطالب الإنجليز الذين أصروا على احتلال سيلان وترنداد وغير ذلك من المستعمرات الفرنسية والهولندية والإسبانية، وذلك كله قبل أن يزداد الموقف سوءًا في مصر وتنزل بمنو الهزيمة ويُرْغَم إرغامًا على تسليم الإسكندرية، ويزداد عناد الإنجليز وتصلبهم في وقت كان قد أصبح كل ما يهم بونابرت الاحتفاظ بالفتوح الفرنسية في أوروبا ذاتها، ثم الحصول بعد ذلك على شروط تحفظ لجيش الشرق شرفه العسكري وتصون مصالح الجمهورية الفرنسية في مصر، لقاء جلاء الفرنسيين عن هذه البلاد وإرجاعها إلى الباب العالي، فكان من أثر هذا التساهل أن وُقِّعت مقدمات الصلح بين فرنسا وإنجلترا في لندن في أول أكتوبر ١٨٠١م.٥٧٢
وكان بعد أن تم التوقيع على هذه المقدمات بثماني ساعات فحسب أن ذاعت الأنباء في لندن عن استيلاء الإنجليز على مرتفعات الإسكندرية، وإرسال منو مفاوضًا للعدو يطلب الهدنة وإنهاء الحرب على أساس تسليم الإسكندرية.٥٧٣ ولا شكَّ في أنه لو صمد منو قليلًا في مقاومته لاستطاع القنصل الأول وقد تم الاتفاق بينه وبين الإنجليز على مصير هذه البلاد وإرجاعها إلى العثمانيين؛ أن يحصل على شروط أفضل من تلك التي رضي بها منو في ٣١ أغسطس، والتي عُومِل الفرنسيون بمقتضاها وكأنما لم يكن لهم بالبلاد أية صلة ولن تربطهم بها روابط بعد ذلك.
ويقول أحد المؤرخين الفرنسيين ما معناه: إن الحملة الإنجليزية التي انتهت في عام ١٨٠١م بإرغام الفرنسيين على الجلاء عن مصر كانت بمثابة آخر جهد حربي استطاع الإنجليز أن يبذلوه لإخراج الفرنسيين من هذه البلاد قبل أن يُعْقَد الصلح بين فرنسا وإنجلترا في وقت كانت لا تزال المفاوضات فيه دائرة بشأنه ولا يمكن تأجيل عقد السلام مدة طويلة. أمَّا ما يعجز المرء عن التكهن به فهو مبلغ قدرة الفرنسيين على الاحتفاظ بهذه المستعمرة التي خرجت عمارتهم الكبيرة من طولون في شهر مايو من عام ١٧٩٨م لإنشائها في ميدان الشرق الجديد، وعلى قواعد جديدة غير تلك التي أفضى التمسك بها في الماضي إلى فقد إمبراطوريتهم القديمة، وذلك إذا أخذنا بعين الاعتبار أن تحطيم الأسطول الفرنسي في أبو قير على يد نلسن ما لبث أن عزل جيش الشرق في مصر، وفرض نطاقًا من الحصار الشديد على شواطئ هذه المستعمرة الناشئة، ومنع كل اتصال مفيد بينها وبين فرنسا. ومع ذلك فمن الثابت أن حملة ١٨٠١م لو لقيت مقاومة أكثر إحكامًا وشدةً، وأبدى القواد الفرنسيون شيئًا من المهارة في فنون الحرب والقتال؛ لاختلف مصيرها بل ولحَلَّت بها الهزيمة وانتهى أمرها — على حدِّ قول الإنجليز أنفسهم — إلى كارثة محققة، ولما استطاع إنسان أن يصف حملة بونابرت على مصر بأنها «مشروع جنوني.»٥٧٤

على أنه وإن كان الفرنسيون قد عجزوا عن إنشاء المستعمرة التي انتظروا الخير من إنشائها، ثم أُرغموا على الخروج من هذه البلاد «الجميلة» إرغامًا ولم يَطُل مُقامهم بها؛ فقد خلَّفوا وراءهم آثارًا عميقة اهتز لها كيانها، فنفضت عنها غبار الماضي القديم وبدأت حياة جديدة. وكان للبحوث والدراسات التي قام بها علماء الحملة على وجه الخصوص أكبر الفضل في توجيه البلاد إبان نهضتها الطويلة خلال القرن التاسع عشر، منذ أن استقرت بها الأمور وخلص الحكم فيها لمؤسس البيت العلوي الكبير محمد علي.

١  Rigault, 382.
٢  Walsh-App. No. 38 p. 130; Wilson, 208-209.
٣  Bertrand II, 418.
٤  Rigault, 391.
٥  شكري، ٥٦ وما بعدها.
٦  Corresp. No. 2586.
٧  Meurthe, 28-9.
٨  Nelson III, 9-10, 24-5, 37–41, 44-5.
٩  Jurien de La Gravière I, 359.
١٠  Meurthe, 29-30.
١١  Ibid. 33–6.
١٢  Copies of the Original Letters… (1799); Simon (An VII); Meurthe, 44, 46.
١٣  Meurthe, 67.
١٤  شكري، ١٨٤، قُتل في هذه الثورة ديبوي وسلكوسكي.
١٥  Meurthe, 67–9.
١٦  Douin, 27.
١٧  Corresp. No. 3439; Meurthe, 69–72.
١٨  Meurthe, 47-8.
١٩  Corresp. No. 3953; Ibid. 30–3.
٢٠  Meurthe, 77.
٢١  Ibid. 49–53, 78.
٢٢  Ibid. 79-80.
٢٣  Ibid. 84-5.
٢٤  Corresp. Inédite VI, 239.
٢٥  Meurthe, 87-8.
٢٦  Corresp. No. 4382; Jonquière V, 666–8; Ibid. 89.
٢٧  Meurthe, 91–3.
٢٨  Jonquière V, 136 Sq.; Ibid. (Pièce No. 7).
٢٩  Corresp. No. 3952.
٣٠  Barrow I, 265.
٣١  Meurthe, 109.
٣٢  Douin (Campagne de Bruix) 73, 79, 83.
٣٣  Jonquière V, 160.
٣٤  Fortescue IV, 2. 637.
٣٥  Douin, 114.
٣٦  Meurthe, 298 (Pièce No. 9); Jonquière V, 166-7; Ader, 263.
٣٧  شكري، ٢١٠.
٣٨  Charles-Roux, I, 206-7.
٣٩  Douin, 1; Charles-Roux, I, 208-9.
٤٠  Bertrand II, 121.
٤١  انظر أيضًا: شكري، ١٩٣–١٩٧.
٤٢  Jonquière II, 594.
٤٣  Meurthe, 40.
٤٤  Ibid. 42–4.
٤٥  Ibid. No. 12, p. 305–12.
٤٦  Ibid. 189 Sq.
٤٧  Meurthe, 189–94.
٤٨  Ibid. 199, 205.
٤٩  Ibid. No. 16, p. 319–21.
٥٠  Thibaudeau II, 286-7.
٥١  Meurthe (No. 19).
٥٢  Corresp. No. 4383; Pièc. Div. 225–8; Ibid. 204–6.
٥٣  Corresp. Nos. 3259; 3439.
٥٤  شكري، ٢١٠–٢١٥.
٥٥  Meneval (Sur le Retour) 11.
٥٦  شكري، ٢١٦.
٥٧  Meurthe, 329–31 (Pièce No. 20 Rapp. de Reinhardt. 2/11/1799).
٥٨  شكري، ٢١٦، ٢٣٠–٢٣٣.
٥٩  Meurthe, 215–17.
٦٠  Corresp. No. 4411 (2/12/1799).
٦١  Rigault, 214; Meurthe, 218.
٦٢  Meurthe, 217.
٦٣  Aulard I, 230 Sqq.
٦٤  شكري، ٢٥٠–٢٥٨.
٦٥  Rigault, 218.
٦٦  Corresp. No. 4721 (19/4/1800).
٦٧  Pièc. Div. 268-9.
٦٨  Pièc. Off. 60–3.
٦٩  Testa II, 21; Corresp. Nos. 4799, 4800.
٧٠  Corresp. No. 4786.
٧١  Ibid. 4786.
٧٢  Rigault, 221.
٧٣  Meurthe, 68-9; Corresp. No. 3439.
٧٤  Thiers II, 121.
٧٥  Corresp. No. 4411.
٧٦  Ibid. 4393.
٧٧  Dumas III, 92.
٧٨  Corresp. No. 4494.
٧٩  Ibid. 4612.
٨٠  Ibid. 4691, 4701.
٨١  Ibid. 4932.
٨٢  Thiers II, 75.
٨٣  Bertrand II, 370; Ibid. 121–3.
٨٤  Corresp. No. 5237.
٨٥  Thiers II, 76; Ibid. 5234.
٨٦  Rigault, 210, 227-8.
٨٧  Bertrand II, 370.
٨٨  Thiers II, 372.
٨٩  Ibid. 373.
٩٠  Corresp. No. 5234; Ibid. 373.
٩١  Lecestre I, Nos. 29, 32.
٩٢  Rigault, 231.
٩٣  Bertrand II, 372; Reybaud VIII, 113.
٩٤  Rigault, 231; Thiers III, 42-3; Bertrand II, 373.
٩٥  Rigault, 232.
٩٦  Bertrand II, 373-4.
٩٧  Ibid. 376.
٩٨  Reybaud VIII, 114.
٩٩  Corresp. Nos. 5415, 5421, 5430, 5446.
١٠٠  Thiers III, 45.
١٠١  Bertrand II, 375-6; Ibid. 95.
١٠٢  Thiers III, 114.
١٠٣  Reybaud VIII, 237.
١٠٤  Thiers III, 114–7; Ibid. 325–7.
١٠٥  Bertrand II, 377.
١٠٦  Ibid. 371.
١٠٧  Rigault, 226.
١٠٨  Bertrand II, 371-2.
١٠٩  Testa II, 25-6.
١١٠  Rigault, 235.
١١١  Sorel VI, 105.
١١٢  Corresp. No. 5417.
١١٣  Sorel VI, 112–4.
١١٤  Bertrand II, 369.
١١٥  Rigault, 236.
١١٦  شكري، ٣١٦–٣٣٠.
١١٧  Meurthe, 63.
١١٨  Bertrand II, 308.
١١٩  Stanhope III, 234.
١٢٠  Thiers II, 134-5.
١٢١  Rigault, 222.
١٢٢  Reybaud VIII, 116.
١٢٣  Thiers II, 137-8.
١٢٤  Rigault, 224.
١٢٥  Charles-Roux, II, 99.
١٢٦  Rigault, 237.
١٢٧  Driault (Politique), 165.
١٢٨  Rigault, 237.
١٢٩  Driault op. cit. 167-8.
١٣٠  Rigault, 329.
١٣١  Driault, 185-6.
١٣٢  Corresp. No. 5649.
١٣٣  Ibid. 5749.
١٣٤  Rigault, 382.
١٣٥  Bertrand II, 447.
١٣٦  Charles-Roux, II, 225.
١٣٧  ثم انظر شكري، ٣١٦ وما بعدها.
١٣٨  Charles-Roux, II, 83.
١٣٩  Charles-Roux, II, 87.
١٤٠  Letters of Lord St. Vincent, 161.
١٤١  ثم انظر: شكري، ٣٢٩.
١٤٢  Charles-Roux, II, 85, 106.
١٤٣  Fortesque IV. 2. 803.
١٤٤  Charles-Roux, I, 65.
١٤٥  Drompore Papers, V, 480; Barrow I, 314 Sq.
١٤٦  رسالة سدني سمث إلى مورننجتون من يافا في ٩ نوفمبر ١٧٩٩م.
١٤٧  Barrow II, 39.
١٤٨  رسالة ٥ فبراير ١٨٠٠م.
١٤٩  Ghorbal, 116, 295-6.
١٥٠  Charles-Roux, II, 111-2.
١٥١  رسالة من مورننجتون إلى دنداس في ٥ مارس ١٨٠٠م.
١٥٢  Charles-Roux, II, 115.
١٥٣  Ibid. 115.
١٥٤  Fortesque IV. 2. 782, 788.
١٥٥  Bertrand II, 377-8.
١٥٦  Charles-Roux, II, 113–8.
١٥٧  Fortesque IV. 2. 799 Et Sqq.
١٥٨  Charles-Roux, II, 120-1.
١٥٩  Reybaud VIII, 320-1.
١٦٠  Reybaud VIII, 117-8; Walsh, 105; Fortesque IV. 2. 806 Et. Sq.
١٦١  Anderson, 185.
١٦٢  Bertrand II, 379-80.
١٦٣  Walsh, 54-5; Reybaud VIII, 116; Fortesque IV. 2. 802–8.
١٦٤  Bertrand II, 380.
١٦٥  Moore I, 397–9.
١٦٦  Reybaud VIII, 108-9.
١٦٧  Anderson, 192–5.
١٦٨  Walsh, 7; Ibid. App. No. 3 P. 8º 9º.
١٦٩  Anderson, 213-14.
١٧٠  Reybaud VIII, 120.
١٧١  Anderson, 216-7.
١٧٢  Bertrand, 382.
١٧٣  Moore II, 1; Walsh, 73; Fortesque IV. 2. 817 Et Sq.
١٧٤  Charles-Roux, II, 139-40; Anderson, 239-40.
١٧٥  Reybaud VIII, 125.
١٧٦  Richardot, 387–9.
١٧٧  Reynier, 205.
١٧٨  Richardot, 389; Rigault, 295.
١٧٩  Moore II, 2 Et Sq.
١٨٠  Richardot, 392-3; Walsh, 92.
١٨١  Fortesque IV. 2. 817.
١٨٢  Reybaud VIII, 138-9.
١٨٣  Fortesque IV. 2. 825; Wilson, 19.
١٨٤  Reybaud VIII, 141–6; Walsh, 86–92; Wilson, 19–23; Reynier, 213–8.
١٨٥  Fortesque IV. 2. 826–9; Wlash, 86–92; Wilson, 19–23.
١٨٦  Rigault, 297-8.
١٨٧  Bertrand II, 432-3.
١٨٨  Anderson, 239–44.
١٨٩  Anderson, 244–6; Martin II, 183.
١٩٠  Martin II, 182-3.
١٩١  Rigault, 288-9.
١٩٢  Martin II, 168; Reybaud VIII, 107.
١٩٣  Rigault, 288-9.
١٩٤  Reybaud VIII, 107-8; Reynier, 153-4.
١٩٥  Rousseau, 394-5.
١٩٦  Reynier, 155-6.
١٩٧  Reybaud VIII, 109.
١٩٨  Martin II, 167.
١٩٩  Reybaud VIII, 109-10; Ibid. 167–173.
٢٠٠  Reynier, 151-2.
٢٠١  Wilson, 69: Reybaud VIII, 110-11.
٢٠٢  Ibid. VIII, 111.
٢٠٣  الجبرتي ٣: ١٥١، ١٥٢.
٢٠٤  الجبرتي ٣: ١٥٣.
٢٠٥  الجبرتي ٣: ١٤١.
٢٠٦  نقولا التركي، ١٩٣.
٢٠٧  الجبرتي ٣: ١٥٤؛ Galland II, 42-3.
٢٠٨  الجبرتي ٣: ١٥٤-١٥٥.
٢٠٩  Rigault, 289.
٢١٠  Galli, 168.
٢١١  Rigault, 298.
٢١٢  Reybaud VIII, 135-6.
٢١٣  Bertrand II, 162–7.
٢١٤  Martin II, 175; Galli, 168.
٢١٥  Reynier, 190-1.
٢١٦  Ibid. 188.
٢١٧  Rousseau, 399-400.
٢١٨  Rigault, 289, 291.
٢١٩  Rigault, 293.
٢٢٠  Ibid. 294.
٢٢١  Rousseau, 398-9.
٢٢٢  Martin II, 167.
٢٢٣  Rousseau, 398-9.
٢٢٤  Martin II, 174-5.
٢٢٥  Reybaud VIII, 123; Reynier, 190–3; Galland II, 48 Et note.
٢٢٦  Reybaud VIII, 138.
٢٢٧  Rigault, 290-1.
٢٢٨  Martin II, 176.
٢٢٩  Ibid. 176.
٢٣٠  Reybaud VIII, 151-2; Galland II, 44؛ الجبرتي ٣: ١٥٥-١٥٦.
٢٣١  الجبرتي ٣: ١٥٦-١٥٧.
٢٣٢  الجبرتي ٣: ١٥٧؛ Galli, 170.
٢٣٣  الجبرتي ٣: ١٥٧-١٥٨.
٢٣٤  Rigault, 295.
٢٣٥  Rousseau II, 42; Martin II, 172.
٢٣٦  Reybaud VIII, 154.
٢٣٧  Martin II, 182.
٢٣٨  Bertrand II, 393.
٢٣٩  Martin II, 176.
٢٤٠  Reynier, 200-1.
٢٤١  الجبرتي ٣: ١٥٨.
٢٤٢  الجبرتي ٣: ١٥٨.
٢٤٣  الجبرتي ٣: ١٥٨-١٥٩.
٢٤٤  Martin II, 183-4; Reybaud VIII, 154.
٢٤٥  Reybaud VIII, 152-3.
٢٤٦  Galli, 170-1.
٢٤٧  Walsh, 97.
٢٤٨  Charles-Roux II, 168.
٢٤٩  Bertrand II, 444.
٢٥٠  Wilson, 39-40.
٢٥١  Walsh, 97; Ibid. 40.
٢٥٢  Charles-Roux II, 170.
٢٥٣  Reynier, 210.
٢٥٤  Reybaud VIII, 155-6; Wilson. App. 9. 483–5; Anderson, 264–8.
٢٥٥  Wilson, 39–42, 304–6; Anderson, 252 Et Sq.
٢٥٦  Rigault, 300–2; Wilson, 283–5; Anderson, 264–8.
٢٥٧  Bertrand II, 443-4.
٢٥٨  Walsh, 97-8.
٢٥٩  Reynier, 228; Wilson, 40.
٢٦٠  Walsh, 107-8; Wilson, 40.
٢٦١  Fortesque IV. 2. 834.
٢٦٢  Reybaud VIII, 214-5; Martin II, 186.
٢٦٣  Reybaud VIII, 161.
٢٦٤  Ibid. 163.
٢٦٥  Dragon d’Egypte, 154–6; Reybaud VIII, 168-9.
٢٦٦  Wilson, 43.
٢٦٧  Walsh, 109.
٢٦٨  Fortesque IV. 2. 837-8.
٢٦٩  Charles-Roux II, 176.
٢٧٠  Walsh, 103; Anderson, 404.
٢٧١  Fortesque IV. 2. 837.
٢٧٢  Reynier, 221.
٢٧٣  Anderson, 404; Walsh, 104; Wilson, 41-2.
٢٧٤  Moore II, 21.
٢٧٥  Fortesque IV. 2. 839.
٢٧٦  Reybaud VIII, 171-2.
٢٧٧  Charles-Roux, II, 178.
٢٧٨  Fortesque IV. 2. 837-8.
٢٧٩  Reybaud VIII, 173.
٢٨٠  نقولا التركي، ٢٠٧.
٢٨١  Reybaud VIII, 173-4.
٢٨٢  Galland, 49-50.
٢٨٣  Millet, 205-6.
٢٨٤  نقولا التركي، ٢٠٧-٢٠٨.
٢٨٥  Galland, 51.
٢٨٦  Reynier, 342.
٢٨٧  Ibid. 215–8.
٢٨٨  Reybaud VIII, 164; Bertrand II, 388–91, 441–4.
٢٨٩  Richardot, 418.
٢٩٠  Malus, 205-6.
٢٩١  Wilson, 39.
٢٩٢  Anderson, 261.
٢٩٣  الجبرتي ٣: ١٦١.
٢٩٤  Reybaud VIII, 180-1; Reynier, 222-3.
٢٩٥  Thiers III, 85.
٢٩٦  Reynier, 288–91.
٢٩٧  Reybaud VIII, 194-5.
٢٩٨  lbid. 181-2.
٢٩٩  Rigault, 311-2; Ibid. 204.
٣٠٠  Bertrand II, 440.
٣٠١  Charles-Roux II, 187.
٣٠٢  Reybaud VIII, 210-11.
٣٠٣  Ibid. 204.
٣٠٤  Ibid. 181.
٣٠٥  Wilson, 49.
٣٠٦  Fortesque IV. 2. 849.
٣٠٧  Charles-Roux, II, 185.
٣٠٨  Anderson, 269; Wilson, 44-5.
٣٠٩  Charles-Roux II, 186-7.
٣١٠  Fortesque IV. 2. 849.
٣١١  Anderson, 284–6, 413; Reybaud VIII, 184–6; Martin II, 192–8.
٣١٢  Martin II, 198; Rigault, 317-8; Reybaud VIII, 186-7.
٣١٣  Wilson, 54.
٣١٤  Anderson, 282.
٣١٥  Reybaud VIII, 203; Martin II, 198-9; Walsh, 83, 116-7.
٣١٦  Anderson, 287, 414.
٣١٧  Walsh, 128; Reynier, 235.
٣١٨  Bertrand II, 445.
٣١٩  Reynier, 236-7.
٣٢٠  Malus, 208-9.
٣٢١  Rigault, 321-2.
٣٢٢  Fortesque IV. 2. 849-50.
٣٢٣  Martin II, 200-1.
٣٢٤  Anderson, 296.
٣٢٥  Walsh, 122; Wilson, 65-6; Ibid. 292, 412–4.
٣٢٦  Wilson, 70.
٣٢٧  Martin II, 201.
٣٢٨  Anderson, 299-300.
٣٢٩  Walsh, 123; Reybaud VIII, 205–7; Fortesque IV. 2. 859.
٣٣٠  Wilson, 78-9.
٣٣١  Anderson. Official Papers No. XI, 419–23.
٣٣٢  Reybaud VIII, 207–10; Walsh, 129; Ibid. 300–4.
٣٣٣  Rousseau, 404.
٣٣٤  Martin II, 201-2; Reybaud VIII, 209.
٣٣٥  Martin II, 203; Anderson, 420.
٣٣٦  Anderson, 421; Rigault, 323.
٣٣٧  Fortesque IV. 2. 851.
٣٣٨  Anderson, 420.
٣٣٩  Ibid. 313-4.
٣٤٠  Reybaud VIII, 212–4; Walsh, 66-7; Ibid. 314, 419–23.
٣٤١  Reybaud VIII, 215-6.
٣٤٢  Wilson, 107; Bertrand II, 402-3.
٣٤٣  Reybaud VIII, 231-2.
٣٤٤  Anderson, 315, 319, 421; Walsh, 137; Moore II, 42.
٣٤٥  Reybaud VIII, 245–9.
٣٤٦  Anderson, 321-2; Malus, 215; Ibid. 251.
٣٤٧  Rigault, 313.
٣٤٨  Reybaud VIII, 187.
٣٤٩  الجبرتي ٣: ١٥٩.
٣٥٠  Martin II, 188-9.
٣٥١  Galland, 47; Ibid. 190-1.
٣٥٢  الجبرتي ٣: ١٥٩-١٦٠.
٣٥٣  Martin, 191.
٣٥٤  Rigault, 317.
٣٥٥  Reybaud VIII, 191; Martin II, 101-2.
٣٥٦  Rigault, 314-5.
٣٥٧  الجبرتي ٣: ١٦١-١٦٢.
٣٥٨  Rousseau, 401–3.
٣٥٩  الجبرتي ٣: ١٦٢؛ Reybaud VIII, 202.
٣٦٠  Reybaud VIII, 191, 224.
٣٦١  Ibid. 225.
٣٦٢  Rigault, 317.
٣٦٣  الجبرتي ٣: ١٥٩، ١٦٢، ١٦٤، ١٦٦.
٣٦٤  Reynier, 263–5.
٣٦٥  الجبرتي ٣: ١٦٦-١٦٧.
٣٦٦  Anderson, 320.
٣٦٧  Reybaud VIII, 226–8; Charles-Roux II, 184.
٣٦٨  Reybaud VIII, 226.
٣٦٩  Rigault, 322-3.
٣٧٠  Ibid. 331-2.
٣٧١  Malus, 211-2.
٣٧٢  Rigault, 331.
٣٧٣  Anderson, 317.
٣٧٤  Reybaud VIII, 229-30.
٣٧٥  Anderson, 318-9, 415–9.
٣٧٦  Malus, 211-2.
٣٧٧  Reynier, 246.
٣٧٨  Walsh, 151-2.
٣٧٩  Bertrand II, 401-2.
٣٨٠  Fortesque IV. 2. 853.
٣٨١  Reybaud VIII, 231; Rigault, 333.
٣٨٢  الجبرتي ٣: ١٨٦.
٣٨٣  Reybaud VIII, 233-4.
٣٨٤  De Noé, 133-4.
٣٨٥  Bertrand II, 434–8.
٣٨٦  Rigault, 335.
٣٨٧  الجبرتي ٣: ١٧٢ وما بعدها، ثم ١٨٥؛ Galland, 52–6; Reybaud VIII, 242–4.
٣٨٨  Thurman, 208.
٣٨٩  الجبرتي ٣: ١٦٦–١٦٩.
٣٩٠  الجبرتي ٣: ١٧١، ١٨٦-١٨٧.
٣٩١  الجبرتي ٣: ١٦٢.
٣٩٢  الجبرتي ٣: ١٦٤.
٣٩٣  الجبرتي ٣: ١٧٢.
٣٩٤  الجبرتي ٣: ١٩٠.
٣٩٥  الجبرتي ٣: ١٨٦.
٣٩٦  الجبرتي ٣: ١٩١.
٣٩٧  الجبرتي ٣: ١٦٣.
٣٩٨  الجبرتي ٣: ١٦٤.
٣٩٩  الجبرتي ٣: ١٦٥-١٦٦، ١٨٧.
٤٠٠  الجبرتي ٣: ١٧١.
٤٠١  الجبرتي ٣: ١٨٨.
٤٠٢  Reynier, 385.
٤٠٣  Martin II, 190.
٤٠٤  Reybaud VIII, 235; Reynier, 261.
٤٠٥  الجبرتي ٣: ١٨٦.
٤٠٦  الجبرتي ٣: ١٨٦.
٤٠٧  الجبرتي ٣: ١٦٥-١٦٦.
٤٠٨  الجبرتي ٣: ١٦٧.
٤٠٩  الجبرتي ٣: ١٨٨؛ Galland, 63-4.
٤١٠  الجبرتي ٣: ١٨٨.
٤١١  الجبرتي ٣: ١٨٩.
٤١٢  الجبرتي ٣: ١٨٩.
٤١٣  الجبرتي ٣: ١٩٠.
٤١٤  Reynier, 261.
٤١٥  الجبرتي ٣: ١٦٦.
٤١٦  الجبرتي ٣: ١٦٦.
٤١٧  الجبرتي ٣: ١٨٦.
٤١٨  الجبرتي ٣: ١٨٦.
٤١٩  الجبرتي ٣: ١٨٧.
٤٢٠  الجبرتي ٣: ١٨٨-١٨٩.
٤٢١  الجبرتي ٣: ١٨٩.
٤٢٢  الجبرتي ٣: ١٩٠.
٤٢٣  الجبرتي ٣: ١٩٠.
٤٢٤  الجبرتي ٣: ١٩١.
٤٢٥  الجبرتي ٣: ١٩١.
٤٢٦  Reynier, 260.
٤٢٧  Walsh, 144.
٤٢٨  Charles-Roux II, 196.
٤٢٩  Walsh, 198.
٤٣٠  Charles-Roux II, 198-9.
٤٣١  Rigault, 323؛ الجبرتي ٣: ١٦٦.
٤٣٢  Wilson, 123.
٤٣٣  Fortesque IV. 2. 854.
٤٣٤  Charles-Roux II, 197-8; Ibid.
٤٣٥  Anderson, 323.
٤٣٦  Rigault, 337.
٤٣٧  Reybaud VIII, 263.
٤٣٨  Charles-Roux II, 199-200.
٤٣٩  Reybaud VIII, 253-4.
٤٤٠  Ibid. 255.
٤٤١  Ibid. 256.
٤٤٢  Rousseau, 402-3.
٤٤٣  Malus, 218.
٤٤٤  Rigault, 338.
٤٤٥  Reybaud VIII, 259-60.
٤٤٦  Ibid. 260–6.
٤٤٧  Bertrand II, 405-6.
٤٤٨  Rigault, 339.
٤٤٩  Rigault, 340-1.
٤٥٠  Bertrand II, 406.
٤٥١  Reybaud VIII, 262; Ibid. 406.
٤٥٢  Rigault, 339-40.
٤٥٣  Anderson, 324; Bricard, 469-70.
٤٥٤  Wilson, 129.
٤٥٥  نقولا التركي، ٢١٣.
٤٥٦  Reybaud VIII, 264–75; Noradounghian II, 41–45–7; Walsh 70º–76º; Wilson, 320–4; Galli, 175–81; Reynier, 318–26; Martin II, 257–66.
٤٥٧  Rigault, 346 (Note 1).
٤٥٨  Reybaud VIII, 276.
٤٥٩  Reynier, 327–37; Walsh 77º–84º.
٤٦٠  Bricard, 470, 473.
٤٦١  Rigault, 342.
٤٦٢  Bertrand II, 434–40.
٤٦٣  Fortesque IV. 2. 855.
٤٦٤  Bertrand II, 438.
٤٦٥  Rigault, 342.
٤٦٦  Walsh, 202.
٤٦٧  Wilson, 152.
٤٦٨  Moore II, 30-1.
٤٦٩  Ibid. 35.
٤٧٠  Bertrand II, 437.
٤٧١  Anderson, 340.
٤٧٢  Rigault, 343.
٤٧٣  Charles-Roux II, 202.
٤٧٤  Desgenettes I, 224.
٤٧٥  Rigault, 344.
٤٧٦  Reynier, 327–37; Walsh, 77º–84º; Ibid. 345.
٤٧٧  Bertrand II, 440-1.
٤٧٨  الجبرتي ٣: ١٩١.
٤٧٩  Anderson, 337.
٤٨٠  الجبرتي ٣: ١٩١-١٩٢.
٤٨١  الجبرتي ٣: ١٩٢-١٩٣.
٤٨٢  Malus, 218; Galland II, 79-80.
٤٨٣  الجبرتي ٣: ١٩٤–١٩٦.
٤٨٤  Rigault, 348.
٤٨٥  Reybaud VIII, 277.
٤٨٦  Wilson, 143.
٤٨٧  Reybaud VIII, 280; Martin II, 267; Anderson, 356, 427.
٤٨٨  Bricard, 477–83; Galland II, 89-90.
٤٨٩  Bricard, 483.
٤٩٠  Rigault, 348.
٤٩١  الجبرتي ٣: ١٩٦.
٤٩٢  الجبرتي ٣: ١٩٧.
٤٩٣  Reybaud VIII, 331-2.
٤٩٤  Rigault, 351.
٤٩٥  Wilson, 130.
٤٩٦  Charles-Roux II, 203.
٤٩٧  Reybaud VIII, 342.
٤٩٨  Martin II, 271-2; Ibid. 329-30.
٤٩٩  Rousseau, 410.
٥٠٠  Walsh, 261–5.
٥٠١  Bertrand II, 445–7.
٥٠٢  Martin II, 271.
٥٠٣  Rousseau, 407-8.
٥٠٤  Walsh, 188-9.
٥٠٥  Bertrand II, 445–7.
٥٠٦  Rigault, 317-8.
٥٠٧  Ibid. 319-20.
٥٠٨  Ibid. 366.
٥٠٩  Ibid. 325.
٥١٠  Doguereau, 420.
٥١١  Dragon D’Egypte, 159.
٥١٢  Reynier, 375, 378.
٥١٣  Rigault, 327.
٥١٤  Martin II, 207.
٥١٥  Reybaud VIII, 221-2; Ibid. 207-8.
٥١٦  Reynier, 374.
٥١٧  Rigault, 329-30.
٥١٨  Reybaud VIII, 222-3.
٥١٩  Galland II, 52.
٥٢٠  Martin II, 269.
٥٢١  Rigault, 324.
٥٢٢  Rousseau, 404-5.
٥٢٣  Rigault, 352.
٥٢٤  Ibid. 352.
٥٢٥  Guérin III, 632-3.
٥٢٦  Ibid. 642-3, 651–63.
٥٢٧  Reybaud VIII, 328.
٥٢٨  Reynier, 393-4; Rousseau, 415.
٥٢٩  Reybaud VIII, 340-1.
٥٣٠  Ibid. 339.
٥٣١  Reynier, 275.
٥٣٢  Rigault, 353.
٥٣٣  Rousseau, 411-12.
٥٣٤  Reybaud VIII, 332-3; Martin II, 272.
٥٣٥  Rigault, 356-7.
٥٣٦  Reybaud VIII, 376.
٥٣٧  Martin II, 273-4; Galli, 236-7; Ibid. 336-7.
٥٣٨  Rousseau, 413.
٥٣٩  Reybaud VIII, 336–8.
٥٤٠  Ibid. 336–8.
٥٤١  Fortesque IV. 2. 856.
٥٤٢  Reybaud VIII, 331-2.
٥٤٣  Walsh, 208.
٥٤٤  Wilson, 179.
٥٤٥  Anderson, 360-1.
٥٤٦  Martin II, 275.
٥٤٧  Rigault, 365.
٥٤٨  Reybaud VIII, 345–7.
٥٤٩  Reynier, 294.
٥٥٠  Martin II, 276.
٥٥١  Anderson, 365–7; Walsh, 95º-6º; Wilson, 332-4.
٥٥٢  Martin II, 280; Wilson, 327–30.
٥٥٣  Rigault, 375.
٥٥٤  Reybaud VIII, 366-7.
٥٥٥  Walsh, 112º–116º.
٥٥٦  Walsh, 122º–125º; Reybaud VIII, 369-70, 373–6, 377–9.
٥٥٧  Reybaud VIII, 388-9; Walsh, 125º.
٥٥٨  Reybaud VIII, 392.
٥٥٩  Reybaud VIII, 397–414; Anderson, 371–84; Wilson, 336–43.
٥٦٠  Rousseau, 424-5.
٥٦١  Malus, 221.
٥٦٢  Reybaud VIII, 426-7.
٥٦٣  Martin II, 294.
٥٦٤  Wilson, 79.
٥٦٥  Rigault, 361.
٥٦٦  Wilson, 179-80; Walsh, 226.
٥٦٧  Corresp. No. 5887.
٥٦٨  Bertrand II, 446-7.
٥٦٩  Rigault, 374.
٥٧٠  Wilson, 208-9.
٥٧١  نقولا التركي، ٢٢٨-٢٢٩.
٥٧٢  Sorel VI, 143 Et Sq.; Driault (Napoléon Et L’Europe), 183 Et Sq.; Driault I, 165 Et Sq.
٥٧٣  Rigault, 382.
٥٧٤  Charles-Roux II, 225.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥