أوقعت الجيوش المتحالفة الهزيمة بالفرنسيين فاضطر منو إلى تسليم الإسكندرية، وتحطم
كل
رجاء في إمكان تأسيس مستعمرة فرنسية كبيرة في مصر، وكان منو من أعظم المتحمسين الذين
عقدوا آمالًا عظيمة على نجاح أول تجربة استعمارية قام بها الفرنسيون في «ميادين جديدة
وعلى أسس جديدة ووفق مبادئ جديدة» في فاتحة القرن التاسع عشر، وبعد زوال عهد
إمبراطوريتهم الاستعمارية القديمة. ومع أن منو نفسه كان ولا شكَّ مسئولًا عن سرعة
انهيار هذه المستعمرة الفرنسية الناشئة في مصر، بسبب الأخطاء العديدة التي وقع فيها منذ
أن تولى قيادة جيش الشرق العامة، وبخاصة عندما رفض أن يستمع لنصيحة قواده المحنكين في
أثناء العمليات العسكرية التي قام بها الإنجليز والعثمانيون على نطاق واسع في حملة سنة
١٨٠١م؛ فقد تضافرت عوامل عدة جعلت إخفاق تجربة الاستعمار الفرنسي في مصر أمرًا
محتومًا.
وكان أخطر هذه العوامل عجز الفرنسيين عن إرسال النجدات والإمدادات إلى جيش الشرق من
فرنسا منذ أن تحطم أسطولهم في معركة أبو قير البحرية وفرض الإنجليز حصارًا بحريًّا
شديدًا على الشواطئ المصرية، ولم تستطع حكومة الإدارة أو حكومة القنصل الأول أن تفعل
شيئًا من أجل إحياء البحرية الفرنسية، فلم يكن في وسع كليبر أو منو اللذين خلفا بونابرت
في قيادة الحملة العامة في مصر أن يسدَّا ما حدث في صفوف جيش الشرق من ثغرات كبيرة،
بسبب الخسائر الفادحة التي تكبدها هذا الجيش، سواء في معارك سوريا أو في حروبه
ومناوشاته المستمرة في داخل البلاد ذاتها للذود عن حدودها تارة وإخماد المقاومة
الأهلية تارة أخرى. وفضلًا عن ذلك فقد تسبب عن تعذر إرسال المؤن والذخائر والأسلحة إلى
جانب الرجال والمال إلى مصر أن ظل الفرنسيون طوال مدة إقامتهم في هذه البلاد يعتمدون
الاعتماد كله على مواردها المحدودة، ليس في محاولة إنشاء مستعمرتهم الجديدة فحسب، بل
كذلك في محاولة الدفاع عن هذه المستعمرة ضد دولتين كان في وسع إحداهما — تركيا — أن
تحشد جيوشًا كبيرة على حدودها الشرقية، وفي استطاعة الأخرى — إنجلترا — أن تنزل على
شواطئها قوات نظامية تستخدم أسلحة جيدة، وتستند في مؤخرتها على وجود أسطول استأثر بكل
سيطرة في البحر الأبيض، وضمن بفضل هذه السيطرة وصول الإمدادات الكثيرة إلى جيوشها، ثم
ظل من ناحية أخرى طريق البحر الأحمر مفتوحًا أمام قواتها الآتية من الهند للزحف على
معاقل الفرنسيين من الخلف وحصر جيش الشرق من كل الجوانب.
وكان مما ساعد على هزيمة الفرنسيين ولا شكَّ ذلك الانقسام الذي حدث في صفوف الحملة،
وظهرت بوادره منذ أن بدأ جيش بونابرت زحفه الشاق من الإسكندرية إلى القاهرة، ثم استفحل
أمره بعد رحيل بونابرت إلى فرنسا؛ إذ اقتنعت جماعة كبيرة من رجال الحملة وقوادها
وجنودها أن لا خير في البقاء في مصر وأن لا رجاء في إنشاء مستعمرة ناجحة في هذه
البلاد، فعمد كليبر والكليبريون إلى المفاوضة مع العدو للجلاء عن مصر بكل سرعة، وانبرى
منو وأنصار الاستعمار يقاومون هذه الرغبة ويتشبثون بالبقاء في مصر إلى النهاية. وكان
مقتل الجنرال كليبر نكبة عظيمة على الفرنسيين؛ إذ زاد الانقسام خطورة وأخفق قائد
الحملة الجديد في جمع الكلمة، بل إن اختيار منو لهذا المنصب الهام ثم موافقة بونابرت
على تثبيته في منصب القيادة العامة كان من أهم عوامل التفرقة، وانصراف أحزاب الفرنسيين
في مصر إلى تدبير المكائد والمؤامرات بعضها ضد بعض، حتى إن منو ومؤيديه من أنصار
الاستعمار سرعان ما أُرغموا على وقف نشاطهم على مكافحة رينييه وزملائه من الناقمين على
قائد الحملة الجديد، ثم مقاومة سائر «الكليبريين» الذين كانوا لا يزالون يرغبون في
العودة إلى الوطن، كما انعدمت ثقة منو في نخبة من كبار القواد الذين كانوا من أقدر
العسكريين وفي وسعهم إذا تضافرت القوى واطمأن منو إليهم أن يبذلوا الجهد في الدفاع عن
المستعمرة.
وأحدث ذيوع أخبار هذا الانقسام آثارًا سيئةً بين «أهل المستعمرة»، فعلم المصريون به
وتناقلوا خبره وخاضوا في الحديث في أمره، ولم يكن من مصلحة الفرنسيين في شيء أن تنكشف
أمام الأهلين مواطن ضعفهم في وقتٍ أحدقت فيه الأخطار بالفرنسيين من كل جانب وكان يقرع
العثمانيون والإنجليز فيه أبواب «المستعمرة»، وينتظر المصريون بفارغ الصبر مجيء هؤلاء
«المخلِّصين» لإنقاذهم من براثن العدو. فما كان المصريون يرضون عن احتلال الفرنسيين
لبلادهم، وأخفقت سياسة بونابرت ومنو الإسلامية-الوطنية في جلب مودتهم؛ وذلك لأسباب
عدة؛ أهمها: اعتماد الفرنسيين على موارد البلاد فحسب للإنفاق على تجربتهم الاستعمارية
الجديدة، وما ترتب على ذلك من لجوئهم إلى ابتكار مختلِف الأساليب والحيل التي استطاعوا
بها ابتزاز أموال المصريين وتجريدهم من ممتلكاتهم وأقواتهم وأرزاقهم. ثم سخطُ المصريين
ونقمتهم على «المستعمرين» الجدد بسبب تلك الأساليب الجديدة التي حاولوا إدخالها على
حياتهم وعاداتهم وتقاليدهم الموروثة، فصاروا يتدخلون في أخص شئونهم؛ يفتشون مساكنهم،
ويقتحمون «حريمهم»، ويهدمون جوامعهم، ويستولون على بيوتهم، ويهينون نخبة من علمائهم
وأصحاب القول والرأي من كبار القوم، ولا يستطيعون أن يعوضوهم شيئًا عن تلك الخسائر التي
أصابتهم في عقائدهم وأخلاقهم وأموالهم وأنفسهم، فلم يروا في التنظيم الفرنسي الجديد
إلَّا سلسلة من الشرور متصلة الحلقات ولا فكاك منها.
وبلغ إخفاق الفرنسيين في محاولة فهم الخُلُق المصري، أو إدراك حقيقة ما كان لدى المصريين
من مُثل عليا يسترشدون بها في حياتهم العامة والخاصة؛ حدًّا جعل الغزاة المستعمرين يسيرون
في طريق بينما يسير الأهلون في طريق آخر، يعتقد الأولون أنهم إنما يضعون أسس الحكومة
الرشيدة الصالحة في البلاد، ويعتقد المصريون أنهم فريسة طغيان لا نهاية له ولا منجاة
منه إلَّا إذا شاء العلي القدير أن يطوي صفحة الفرنسيين طيًّا ويكتب لأهل مصر الفرج
القريب. ولعل أقسى ما نزل بالمصريين من صنوف الإرهاق والعَنَت، وجَعَلهم يتوقون للخلاص
من
هذا الشر المستطير؛ حاجة الفرنسيين للمال والمال الكثير، وكانت حاجة دائمة وعلة مزمنة
لازمت الفرنسيين منذ جاءوا إلى مصر إلى وقت رحيلهم عنها، وكانت حاجتهم إلى المال وما
مهَّد لها من أسباب وصحبها من حوادث وما ترتب عليها من نتائج هي الصخرة الوعرة التي
تحطمت عليها في آخر الأمر تجربتهم الاستعمارية.
(١-١) الأثر الاقتصادي
فقد كان لإرغام الفرنسيين على أن يعتمدوا في بناء مستعمرتهم الجديدة على موارد
البلاد فحسب آثار خطيرة؛ ذلك أنه ما كان يتسنى بتاتًا إنجاز كل تلك المشروعات التي
عقدوا على نجاحها الأمل في إنشاء مستعمرتهم الغنية دون توافر المال لديهم، ينفقون
منه على المؤسسات والتنظيمات العديدة التي كان لا مندوحة عن وجودها لاستقامة شئون
الإدارة والحكم واستتباب الأمن، وضمان الحياة المستقرة الهادئة لعلمائهم، ودفع
الأذى وغائلة الأمراض الفاتكة عن جنودهم، ودفع رواتب هؤلاء الجنود وتوفير سبل العيش
لهم، وإمدادهم بالأقوات والملابس عدا الأسلحة والذخائر، ناهيك بإجراء الإصلاحات
اللازمة لضبط توزيع المياه وقت الفيضان وفي زمن التحاريق، فضلًا عن تشجيع التجارة
وزيادة ثروة البلاد، سواء بالعمل على إنتاج الغلات الكثيرة وتحسين أنواعها، أو
بمحاولة إحياء الصناعات الوطنية القديمة وتحسين أساليبها، أو إدخال غيرها من
الصناعات الجديدة.
وقد استلزم ذلك كله — أو بالأحرى ما استطاع الفرنسيون في أثناء إقامتهم القصيرة
بهذه البلاد أن ينجزوه منها — أموالًا كثيرة. ولما كان هؤلاء قد بدءوا ينفذون هذه
المشروعات الواسعة منذ أن وطئت أقدامهم أرض مصر، واعتمدوا في تنفيذها على كل ما
يمكن أن يجمعوه من أموال من أهل البلاد، ولجئوا في ذلك إلى أساليب وحيل منوعة؛ فقد
ظلت الحاجة إلى المال والمال دائمًا من أقوى الأسباب التي أبعدت عنهم قلوب
المصريين، وحركت كوامن الحقد ضدهم، وحرمتهم تعاون المصريين معهم ذلك التعاون الذي
كان لا غنى عنه لنجاح مشروعاتهم في النهاية وبقاء هذه المستعمرة الناشئة في
حوزتهم.
وقد حدث الغزو الفرنسي في وقت انخفاض النيل — في شهر يوليو — ولما كانت الضرائب
لا تُجبَى من الأهالي إلَّا عند ثبوت ارتفاع النيل ووقت الفيضان في كل سنة، فقد وجد
الفرنسيون عند دخولهم القاهرة مالًا قليلًا لا يكفي للإنفاق على شئون الحكم
والإدارة العاجلة،
١ فشعروا بضيق شديد، وكان من أهم أسباب هذا الضيق المباشرة أن البكوات
المماليك إبراهيم ومراد وأتباعهما عندما تيقنوا من الهزيمة بعد معركة إمبابة سرعان
ما عمدوا إلى الفرار من القاهرة يحملون معهم أموالهم ونفائسهم إلى جانب «حريمهم»،
وحذا حذوهم عديدون من كبار المصريين وصغارهم الذين كانوا في سعة من العيش تمكنهم
من استئجار دواب الحمل لنقل متاعهم وثرواتهم، كما أسرع أقوام كثيرون من العامة ممن
لا قدرة لهم على استئجار الجمال أو الحمير بالخروج من القاهرة وهم يسيرون على
أقدامهم ويحملون متاعهم فوق رءوسهم، ولم يبقَ في القاهرة إلَّا كل عاجز أو مريض أو
فقير ليس لديه ما يخشى عليه أو رضي بالاستسلام لتصاريف الزمن، فخرج من القاهرة شيء
كثير من المال والمتاع والحلي والنفائس.
على أن طالبي السلامة لم ينجوا من شرور «العربان والفلاحين» الذين ترصَّدوهم «خارج
أبواب البلد … فأخذوا متاعهم ولباسهم وأحمالهم، بحيث لم يتركوا لمن صادفوه ما يستر
به عورته أو يسد جوعته، فكان ما أخذته العرب شيئًا كثيرًا يفوق الحصر، (ذلك بأن)
الأموال والذخائر التي خرجت من مصر (كانت) أضعاف ما بقي فيها»، وانتهز «الجعيدية
وأوباش الناس» هذه الفرصة فانقضوا على البيوت التي تركها أصحابها ينهبون ما بقي
فيها من أمتعة وفرش.
٢
وعلى ذلك فقد كان تدبير المال من أولى المعضلات الشائكة التي واجهت الفرنسيين عند
دخولهم القاهرة، وكان لا مندوحة عن اتخاذ عدد من الإجراءات السريعة للحصول على
المال بكل وسيلة، وقد سبق ذكر الشيء الكثير من هذه الإجراءات في الفصل الثالث من
هذا الكتاب كمصادرة أملاك البكوات المماليك، وفرض القروض الإجبارية، وإنشاء «مصلحة
التسجيلات وإدارة أملاك الحكومة» «ومحكمة القضايا»، ثم ضبط المنهوبات والمسروقات
من دور البكوات المماليك، وإرغام زوجات البكوات على «المصالحة على أنفسهن»، وطلب
الخيول والجمال والأبقار والثيران إلى جانب السلاح وأخذ «المصالحات» على هذه
الحيوانات في نظير تركها لأصحابها، وإرغام أهل «الحرف من التجار بالأسواق» وخلافهم
على دفع مبالغ معينة «على سبيل القرض» وغير ذلك.
٣
وبلغ من اشتطاط بونابرت في جمع الأموال أنه فرض على تجار الإسكندرية ثلاثمائة ألف
فرنك يدفعونها في خلال أربع وعشرين ساعة، وعلى تجار رشيد مائة ألف فرنك يدفعونها في
ثمانٍ وأربعين ساعة، وعلى تجار دمياط مائة وخمسين ألف فرنك يدفعونها في خلال خمسة
أيام، وتجار خان الخليلي بالقاهرة عشرة آلاف ريال يدفعونها في عشرة أيام، وعلى
تجارة وكالة الصابون عشرة آلاف ريال، ونقابة السقائين خمسة عشر ألف ريال، وتجار
الغورية (وهم الذين يتاجرون في المنسوجات الهندية) خمسة عشر ألف ريال، والتجار
الشوام ما قيمته مائة ألف ريال عينًا ونقدًا، وتجار البن مائتي ألف ريال، وعلى القبط
المكلفين بتحصيل الضرائب في الأقاليم مائة ألف ريال، فأُرغم هؤلاء وغيرهم على تقديم
كل هذه الأموال قروضًا تَعِد الحكومة بسدادها إليهم عن طريق استنزالها مما كان يجب
عليهم أن يدفعوه من ضرائب عادية أو بطرائق أخرى.
٤
وغنيٌّ عن البيان أن هذه الأعمال سرعان ما أثارت سخط المصريين وتذمرهم، ليس فقط
لأنهم فقدوا أموالهم التي اغتصبها الفرنسيون منهم اغتصابًا، بل لأن هؤلاء لحرصهم
على جمع كل ما يمكن أن يضعوا أيديهم عليه من أموال اتبعوا في ذلك وسائل عنيفة سببت
استياء المصريين الشديد، فقد عمدوا إلى اقتحام البيوت وتفتيش مساكن «الحريم» بحثًا
وراء المنهوبات التي أرادوا ضبطها، وغالى الفرنسيون في هذا «التفتيش» حتى إن
صنائعهم وأتباعهم وعددًا من أشرار جنودهم سرعان ما انتهزوا هذه الفرصة لإلحاق الأذى
بالأهلين الوادعين المسالمين ونهب دورهم ومصادرة أموالهم، وخشي بونابرت العاقبة
فشدد في منع رجاله من ارتكاب هذه المظالم، وأنشأ لجنة لفحص الشكاوى من الشيخ
السادات وروشتي قنصل النمسا العام وجونو
Junot أحد
قواده، ولكن دون جدوى. وعظم استياء الأهلين عندما ظل الفرنسيون يصادرون محاصيلهم
وأغذيتهم وجمالهم وخيولهم، واستولوا على ما كان لديهم من سروج وطقوم. وفضلًا عن ذلك
فقد تعذر عليهم أن يدركوا قيمة تلك «الإيصالات» التي كانت تُعْطَى لهم ويَعِد فيها
الفرنسيون بدفع تعويض عن الحيوانات أو المحصولات التي اغتصبوها من أصحابها، كما لم
يفقهوا معنى لوجود المحكمة التجارية ومكتب التسجيل، ولم يروا في إنشائهما إلَّا
وسيلة لابتزاز الأموال منهم وذريعة يتذرع بها الفرنسيون لانتهاك حرمة بيوتهم
وإهانة نساء كبرائهم.
٥
ولما كان الإنجليز قد شددوا الحصار على الشواطئ المصرية، وامتنع ورود التجارات أو
تصدير المحاصيل والنتاج المصري إلى الخارج، وذلك في الوقت الذي عمد فيه الفرنسيون
إلى مصادرة أموال المصريين ومقتنياتهم؛ فقد ترتب على ذلك أن كسدت التجارة وانتشر
الضنك والبؤس بين طبقات الشعب، وارتفعت الأسعار وحل الفقر بساحة كثير من «مساتير»
القوم، فافتقر عديدون من الأغنياء وعانى متوسطو الحال آلام الفاقة والجوع، واضطُرَّ
أصحاب المتاجر إلى امتهان الحِرف الدنيئة، ويقول الشيخ الجبرتي: «وأمَّا أرباب
الحرف الدنيئة الكاسدة فأكثرهم عمل حمَّارًا مُكاريًا حتى صارت الأزقَّة خصوصًا جهات
العسكر مزدحمة بالحمير التي تُكْرى للتردد في شوارع مصر»، ووجد الحمَّارون رواجًا
ملحوظًا بسبب إقبال «الفرنسيس» على ركوب الحمير ودفع الأجور الكبيرة، حتى إن
«الكثير منهم يظل طول النهار فوق ظهر الحمار دون حاجة سوى أن يجري به مسرعًا في الشارع.»
٦ أمَّا أولئك الذين لم يشاءوا تأجير الحمير للفرنسيس فقد لجئوا إلى
أعمال اللصوصية وقطع الطريق.
واختل الأمن اختلالًا كبيرًا عندما أكثر العربان من الإغارة على القرى وأطراف
المدن الكبيرة وعظم طغيانهم، حتى اضطر بونابرت ولمَّا يمضِ قليل على وجوده بالقاهرة
إلى تأليف فرقة «من طوائف الأجناد والبطالين» برياسة برتليمي
Barthélemy «برتلميوسيرا
Bartholomeo Sera» أو «برطلمين النصراني الرومي»، (وكانت) تسميه
العامة فرط الرمان، (وقلده بونابرت) كتخدا مستحفظان»،
٧ وكانت مهمته منع اعتداءات العربان ومن يلوذ بهم من العامة وصون الأمن
والسلام حول القاهرة. ولكن برطلمين سرعان ما فهم مهمته على غير وجهها الصحيح،
فإذا خانه الحظ ولم يعثر بعدد من العربان في طريقه، انقضَّ على «الفلاحين» الوادعين
فقطع رءوسهم، وأحضرها إلى السلطات الفرنسية بالقاهرة دليلًا على عنايته بتنفيذ
أوامرهم، وقد حدث ذات مرة عقب عودته من جولة خارج القاهرة أن طلب برطلمين المثول
بين يدَي دبوي
Dupuy قومندان المدينة، وكان دبوي
قد أولم وليمة لبعض كبار القواد والضباط من هيئة أركان حربه، فلما ألح برطلمين
بالدخول أذن له دبوي بذلك، فأفرغ «الرومي» كيسًا مملوءًا بالرءوس التي أطاحها تحت
المائدة وكأنه قد أتى عملًا جليلًا، وغلبته الدهشة العظيمة عندما طرده دبوي شر طردة.
٨ ومع ذلك اعتمد الفرنسيون على برطلمين وجماعته في إرهاب أهل العاصمة،
وتفتيش دور المصريين، ومصادرة أموالهم، وجمع الغرامات التي فرضوها عليهم، ثم في
تنفيذ ما كان يصدره الفرنسيون من أوامر لتنظيم القاهرة، وما يتخذونه من إجراءات
استلزمها على حد قولهم ضرورة حماية جندهم من الأوبئة والأمراض من جهة واعتداء
الأهلين عليهم من جهة أخرى.
٩
(١-٢) الأثر الاجتماعي
وواقع الأمر أن الفرنسيين في مدة إقامتهم بهذه البلاد لم يحاولوا بتاتًا أن
يتعرفوا إلى المصريين أو يتغلغلوا في أوساطهم حتى يقفوا على حقيقة شعورهم وما
كان يجول بأذهانهم، أو ما كانت تحدثه «إصلاحاتهم» العديدة والسريعة التي أرادوا
منها إلى جانب الحصول على المال لسد نفقات «الحملة» أن يخلقوا من عاصمة البلاد
بلدًا أوروبيًّا يضارع عاصمتهم باريس في بهائها وروائها وكثرة ملاهيها وقهاويها
وأنديتها وملاعبها، حتى يكفلوا لجنودهم ورجالهم عيشًا هنيئًا سعيدًا. وفاتهم أنه من
المتعذر على حكومتهم الجديدة أن تغير أخلاق القوم وعاداتهم، وما درجوا عليه من
أساليب العيش القائمة على التمسك بالتقاليد الإسلامية من عصور قديمة بين طرفة عين
وانتباهتها. وفاتهم أن هذه «الإصلاحات» التي نظر إليها المصريون كما ينظرون إلى
«البدع» وكل أمر مستهجَن ممقوت إنما تتعارض مع ما كانوا يدعونه ويذيعونه عن إسلامهم
واحترامهم لشعائر الدين الحنيف، ويحاولون إقناع المصريين بأنهم كانوا من حماته ومن
المنافحين عنه.
ولا جدال في أن بعض هذه الإصلاحات التي تستلزمها عناية الفرنسيين بشئون الصحة
العامة في القاهرة والمدن الكبيرة خصوصًا، حرصًا منهم على عدم انتشار الأوبئة وفتك
الأمراض الخطيرة بجنودهم كالطاعون والزهري والرمد وغير ذلك؛ كانت «إصلاحات»
ضرورية ويصيب المصريون من إجرائها كل فائدة. ولكن تفكير بونابرت وقواده في
المحافظة على سلامة الجنود ورجال الحملة وعلمائها قد طغى على كل تفكير فيما قد ينجم
عن هذه الإصلاحات من نتائج يقع أثرها على القاهريين وأهل المدن عمومًا. ولعل أكبر
ما يؤخذ على الفرنسيين في هذا الشأن أنهم حاولوا أن يفرضوا فرضًا على المصريين
نوعًا من الحضارة الأوروبية كان مقضيًّا عليه بالفشل لسبب بسيط ظاهر، هو أن بونابرت
وأنصار التجربة الاستعمارية في مصر لم يكن في وسعهم أن يُعْنَوْا بغير مظاهر هذه
الحضارة الأوروبية المادية، في وقت كانت بحوث علمائهم لا تزال في مراحلها الأولى
ولمَّا تكتمل بعدُ تلك الدراسات التي كان من المنتظر أن تصبح أساسًا لكل إصلاح يُراد
إدخاله إلى هذه البلاد، حتى يثمر ثمرته المنشودة بفضل اطمئنان المصريين إليه
وقبولهم له.
ولقد كان من مقتضيات تلك السياسة الإسلامية-الوطنية التي وضع بونابرت أصولها
واتبعها خلفاؤه أن يحتفل الفرنسيون بأعياد أهل البلاد الدينية ويحترموا شعائرهم
وعاداتهم، وأن يحاولوا جذب قلوب المصريين إليهم باستمالتهم والتقرب منهم وعقد
أواصر المحبة والصداقة مع كبرائهم ومشايخهم ومحاولة الاختلاط مع عامتهم، حتى يطمئن
إليهم سواد الشعب ويرضى الناس بما قُدِّر عليهم.
١٠
وهذه ولا شكَّ كانت سياسة حكيمة ولا مناص من نجاحها في النهاية في كسب مودة
المصريين والقاهريين منهم على وجه الخصوص لو أن الفرنسيين حاولوا معرفة شيء عن
نفسية ذلك الشعب الذي فرضوا عليه سلطانهم قهرًا، وكانوا غرباء عنه لا يربطهم به دين
أو جنس أو لغة، ولا يزال أفراده متمسكين بتقاليدهم وعاداتهم التي ورثوها عن آبائهم
وأجدادهم، ولم يطرأ عليها أي تغيير من أجيال طويلة. ولكن الفرنسيين الذين كانوا قد
نبذوا ظِهريًّا دينهم منذ اشتعال الثورة الكبرى في بلادهم، لم يكن في وسعهم مهما
حاول رجال من طراز بونابرت أو منو أخذوا على عاتقهم تنفيذ سياسة إسلامية واضحة
المعالم أن يتحرروا من ذلك الإلحاد الذي جعلهم يعيشون في عالم مادي يقيسون فيه
مراتب السعادة بما قد ينالهم في حياتهم من لذة أو ألم حسي، فباتوا ينظرون إلى
المواليد والمواسم المصرية ذات الصبغة الدينية نظرهم إلى احتفالاتهم وأعيادهم
الفرنسية فينتهزونها فرصة للترفيه عن أنفسهم، والاشتراك مع الدَّهْماء وأراذل القوم في
الإقبال على المباذل والأخذ بأسباب المجون والخلاعة.
وفضلًا عن ذلك فإنه ما كان يتسنى أي نجاح لهذه السياسة الإسلامية عندما اعتمد
دعاتها على جيش الشرق فحسب في تشييد صرح تلك المستعمرة التي أرادوا إنشاءها في مصر،
ذلك بأن رجال الحملة من المدنيين والعلماء كانوا قلة وتصرفهم شئون الإدارة والبحث
العلمي عن مخالطة سواد الشعب، ولم تُتَح الفرصة للفرنسيين أن يجلبوا إلى هذه البلاد
جالية مثقفة كبيرة بسبب انقطاع المواصلات بين مصر وفرنسا، فلم يعرف أكثرية المصريين
وسواد القاهريين غير الجنود فحسب، واعترف كثيرون من رجال الحملة أنفسهم أن عديدين
من الأدنياء وأراذل الفرنسيين جاءوا مع جيش الشرق مقاتلين أو ملحقين بخدمة الجيش
والإدارة، وأن هؤلاء ما كانوا يأبهون لتلك الأوامر والتعليمات التي أصدرها بونابرت
وحرص على تنفيذها قواده وسائر جنده، لإظهار احترامهم الكامل لعادات الأهالي ودينهم
وتقاليدهم واحترام نسائهم والمحافظة على حرمة بيوتهم، فارتكب هؤلاء الطغاة
المفسدون جرائم كثيرة، وعمد بونابرت إلى التخلص من أشرارهم كما جند عديدين منهم في
جيشه وفرض عليهم رقابة صارمة.
١١
ومع ذلك وعلى الرغم من عقوبات بونابرت القاسية فقد تعذر على قواد الحملة
استئصال شأفتهم، بل إنهم ما لبثوا أن ألفوا من بينهم عصابات مسلحة جعلت دَيْدَنها
السطو والنهب، واتخذت ميدانًا لنشاطها ضواحي القاهرة وأطرافها خصوصًا، واشتُهر أمر
هذه العصبة المخربة التي سمت نفسها «جماعة القمر»، وزادت شرورها وقوي بأسها حتى إن
منو بعد أن تسلم مقاليد الحكم لم يجد مناصًا من تجريد قوة كبيرة لتعقبها ومطاردتها
وأعدم كثيرين منها رميًا بالرصاص وإنْ لم يقضِ ذلك على كل شرورها؛ إذ ظل القاهريون
وأهل القرى المجاورة معرضين للاعتداء عليهم إلى وقت خروج الحملة وإن قلَّت حوادث
الاعتداء عليهم عن ذي قبل.
١٢
أمَّا جيش الشرق فما كان يصلح لأن يكون نواة للمستعمرة الجديدة، وما كان في
استطاعة الجند مع تظاهرهم باحترام التقاليد والشعائر الدينية وعادات الأهلين أن
ينزعوا عنهم لباس ذلك الجندي، الذي إذا عاد من معركة أو حرب وفتحت له المدن الكبيرة
أبوابها انطلق يعبث في شوارعها وأزقتها وأنديتها العامة والخاصة بل في بيوت أهلها
الوادعين المسالمين، علَّه يجد في هذا العبث منفذًا لعواطفه المكبوتة وراحة
لأعصابه المرهقة. وكيف يستطيع جند جيش الشرق أن يغالبوا سنن الطبيعة وهم الذين
خاضوا غمار المعارك، وقاسوا ألوانًا من المشقة والتعب في أثناء زحفهم على القاهرة،
وأدركوا خطورة مأزقهم في هذه البلاد بعد أن حطم الإنجليز أسطولهم وضربوا حصارًا
شديدًا على الشواطئ المصرية حتى كادوا يقطعون كل صلة بين الفرنسيين في مصر وبين
أرض الوطن، وأنهكت قواهم تلك المقاومة العنيفة التي ما فتئت قائمة بشتى أساليبها؛
تارة في صورة ثورة جامحة وحروب، وأخرى في طيات تذمر عميق لا يدع مجالًا لأي تعاون
قد يطمع الفرنسيون فيه من جانب المصريين، ثم تذوقوا طعم الهزيمة تحت أسوار عكا
المنيعة وارتدوا على أعقابهم مدحورين، وشاهدوا القاهريين يسخرون منهم ويرجون نزول
الكوارث بساحتهم ويهللون ويصفقون كلما نظروا جماعة من رفقائهم آتية من أقاصي
الصعيد وقد أثخنتهم الجراح ونال الإعياء منهم كل منال؟
١٣
فكان لا مناص من أن ينتهز هؤلاء فرصة الاحتفال بالأعياد الدينية والمواسم — إلى
جانب أعيادهم الفرنسية — حتى يخففوا من حدة بلاياهم بالانطلاق وسط صخب الموالد وضجيج
الأعياد والاحتفالات يتشاجرون مع العامة والدهماء بل يتقاتلون معهم، ويزاحمون
أدعياء «الولاية» وغيرهم من الدراويش و«البُلْه» في شرورهم ومفاسدهم؛ يعتدون على
النساء، ويستثيرون بفعالهم أهل النخوة والشهامة من القاهريين فيُقتَل منهم من يُقتَل
ويقتلون من يقتلون، ويتدخل برطلمين بجماعته المرهوبة المكروهة ﻟ «قمع الفتنة»
وإعادة النظام.
١٤
الموالد والأعياد
وأما أعياد المصريين وموالدهم المشهورة التي شهدها الفرنسيون مدة وجود الحملة
بهذه البلاد، وحرصوا على الاحتفال بها، وارتُكبت في أثنائها كل هذه الشرور
والمفاسد؛ فكانت الاحتفال بشهر الصوم، والعيدين الصغير والكبير، وإمارة الحج
والكسوة الشريفة، والمولد النبوي، ومولد السيدة زينب، ومولد السيد علي البكري،
ومولد الحسين، والاحتفال بوفاء النيل. وعلاوة على ذلك احتفل الفرنسيون بعيد
جمهوريتهم، كما أكثروا من إقامة الزينات في كل مناسبة، فاحتفلوا بذكرى واقعة
ريفولي Rivoli، وعند رجوعهم من حملة
الشام، ونظَّموا مهرجانات عدة كلما عمد «مخترعهم» كونتيه Conté إلى إطلاق «بالوناته» في الجو، وعملوا «شنكًا» وضربوا
مدافع كثيرة كلما أتتهم الأخبار بانتصار بونابرت في حملة الشام، أو وصلت إحدى
سفنهم إلى الشواطئ المصرية من فرنسا.
وكان أسبق الأعياد التي أصرَّ الفرنسيون على الاحتفال بها منذ نزولهم في هذه
البلاد إثبات هلال رمضان لعام ١٢١٣ هجريًّا (فبراير ١٧٩٩م)، «فأعرض حسن أغا محرم
المحتسب لساري عسكر «بونابرت» أمر ركوبه المعتاد لإثبات هلال رمضان، فرسم له
بذلك على العادة القديمة، فاحتفل لذلك المحتسب احتفالًا زائدًا وعمل وليمة
عظيمة في بيته أربعة أيام» للعلماء والفقهاء والمشايخ والوجاقلية والتجار
والأعيان، ثم دعا في رابع يوم «أكابر الفرنساوية وأصاغرهم.» وظل أكابر
الفرنسيين «يدعون أعيان الناس والمشايخ والتجار (طوال شهر رمضان) للإفطار
والسحور، ويعملون لهم الولائم ويقدمون لهم الموائد على نظام المسلمين وعادتهم.
ويتولى أمر ذلك الطبَّاخون والفرَّاشون من المسلمين تطمينًا لخواطرهم.» كما صار
الفرنسيون من جانبهم يترددون على المشايخ وكبراء المصريين، «ويحضرون عندهم
الموائد، ويأكلون معهم في وقت الإفطار، ويشاهدون نظامهم وترتيبهم ويحذون حذوهم.»
١٥ وعند انتهاء شهر الصوم احتفل الفرنسيون بالعيد الصغير في أول شوال
(٨ مارس ١٧٩٩م) بأن «ضربوا عدة مدافع لشنك العيد، واجتمع الناس لصلاة العيد في
المساجد والأزهر»، وصلى بالناس الشيخ عبد الله الشرقاوي في الجامع الأزهر وقال
الخطبة. وكان الشيخ محمد المهدي قد أعدَّها له. وقد تحدث الشيخ في هذه الخطبة
عن مناقب بونابرت، وذكر أن ساري عسكر قد قرَّ رأيه على إعلان إسلامه «عاجلًا أو
آجلًا»، وتوعد الشيخ في هذه الخطبة بنزول غضب الله على كل امرئ قد تحدثه نفسه
بمخالفة أوامر قاهر المماليك ونصيرهم أحمد باشا الجزار والي عكا.
١٦
وأحدث احتفال الفرنسيين بشهر الصوم والعيد وما «وقع منهم من المسايرة للناس
وخفض الجانب» دهشة كبيرة، و«تعجب» عقلاء المصريين مما حدث، وإن كان واضحًا أن
اهتمام بونابرت ورجاله بإحياء رمضان ثم طوافهم بعد ذلك «على أعيان البلد»
وتهنئتهم بالعيد؛ ما كان ليقنع المصريين بصدق نواياهم أو يجذب قلوبهم نحو
أولئك الذين أرهقوهم بمطالبهم المالية وبما فرضوه عليهم من «إصلاحات» وتنظيمات
سوف يأتي ذكرها. فأظهر الشيخ الجبرتي عجبه من هذه «المسايرة»، وكان حريصًا على
إثبات شكوكه في نواياهم بقوله تعليقًا على هذه المسايرة وخفض الجانب: «الله
أعلم» أي أعلم بنواياهم الحقيقية ومقاصدهم، كما ذكر أن الناس صاروا يقابلون
تهنئة الفرنسيين لهم في أيام العيد بالمجاملة «وبالمداراة أيضًا». وكان مما عكر
صفو هذا العيد أن انتهز «بعض الحرافيش» فرصة خروج «الرجال والنساء لزيارة
القبور» فأشاعوا أن العرب قد نزلت عليهم، «فهاجت الناس وانزعجت النساء ورمحت
الجعيدية والحرافيش وخطفوا ثياب النساء وأُزُرهن وما صادفوه من عمائم الرجال وغير
ذلك»، حدث ذلك في «نواحي تربة باب النصر … واتصل (كذلك) بتربة المجاورين وباب
الوزير والقرافة، حتى إن بعض النساء مات تحت الأرجل، ولم يكن لهذا الكلام صحة
وإنما ذلك من مخترعات الأوباش لينالوا أغراضهم من الخطف بذلك»، فانقضى العيد
وسط انزعاج العامة من جهة، وعجب الخاصة من فعال الفرنسيين وزيادة شكوكهم في
نواياهم من جهة أخرى.
١٧
ثم لم تمضِ أيام قلائل على هذه الحوادث حتى كان الفرنسيون قد أخذوا أهبتهم
للاحتفال ﺑ «موكب كسوة الكعبة المشرفة»، وكان بونابرت قد احتفل ﺑ «تقليد» مصطفى
بك كتخدا الباشا (أي وكيل سيد أبو بكر باشا حاكم مصر العثماني وقت مجيء
الفرنسيين إلى هذه البلاد) على «إمارة الحاج» منذ أول سبتمبر ١٧٩٨م، «فحضروا إلى
المحكمة عند القاضي، ولبس «مصطفى بك» هناك الخلعة بحضرة مشايخ الديوان، والتزم
بونابرته بتشهيل مهمات الحج وعمل محلًّا جديدًا» لهذا الغرض، وكتب إلى غالب شريف
مكة يخبره بهذا التعيين، ويطلب إليه منع العربان من الاعتداء على الحجاج، ورد
عليه الشريف ردًّا حسنًا.
١٨ ويقول مؤرخو الحملة
١٩ إن العادة قد جرت من أزمان قديمة على أن يحتفل المصريون ﺑ «الكسوة»
في أول يوم سبت يأتي بعد انتهاء شهر الصوم. ولما كان قد انقضى هذا اليوم دون
حدوث موكب الكسوة فقد تطايرت الإشاعات في القاهرة عن سبب هذا التأخير، وقال
الناس إن الفرنسيين إنما يريدون من تعطيل الكسوة منع الحج إلى بيت الله الحرام
في هذه السنة. وعلى ذلك فقد بادر الفرنسيون بدعوة الناس إلى الاحتفال «بموكب
كسوة الكعبة المشرفة، فلما أصبح يوم السبت (٩ شوال و١٦ مارس) اجتمع الناس في
الأسواق وطريق المرور وجلسوا للفرجة»، ثم مرَّ موكب الكسوة. على أن استخدام
الفرنسيين «لعدة كثيرة من نصارى الأروام بالأسلحة»، ثم طلوع برطلمين المكروه
في هذا الموكب بوصفه كتخدا مستحفظان؛ سرعان ما أفقد هذا الاحتفال روعته، فقال
الشيخ الجبرتي: وكانت «هذه الركبة من أغرب المواكب وأعجب العجائب؛ لما اشتملت
عليه من اختلاف الأشكال، وتنوع الأمثال، واجتماع الملل، وارتفاع السفل، وكثرة
الحشرات وعجائب المخلوقات، واجتماع الأضداد، ومخالفة الوضع المعتاد.»
٢٠
ومع أن الفرنسيين كانوا قد صادروا أموال الناس، واغتصبوا مقتنياتهم، وأرغموهم
على دفع مختلِف أنواع الضرائب بفضل تلك الأنظمة المالية والإدارية التي وضعها؛
فقد أصرُّوا كذلك على أن يحتفل الناس بالعيد الكبير عيد النحر، فما إن غربت
شمس يوم الأربعاء (٩ ذي الحجة ١٢١٣ﻫ/١٥ مارس ١٧٩٩م) حتى «ضربوا مدافع من القلعة
إعلامًا بالعيد وكذلك عند الشروق»، ويقول الشيخ الجبرتي: «ولم يقع في ذلك العيد
أضحية على العادة لعدم المواشي، ولكونها محجوزة في الكرنتيلة، والناس في شغل
عن ذلك.» وكان من سوء حظ الفرنسيين أنه كادت تقع فتنة كبيرة في هذا اليوم (أول
أيام العيد) عندما انطلق في سوق الجمالية «غلام مملوك» لأحد التجار (الأزمرلية)
«وسيفه مسلول بيده ويقول: الجهاد يا مسلمين اذبحوا الفرنسيس»، وكان هذا الغلام
يريد قتل سيده ولكن صاحبه كشف أمره، فصادف أثناء مروره بجهة الغورية ثلاثة من
الفرنسيين قتل أحدهم وهرب الآخران، وعلا الصخب والضجيج وترامى إلى أسماع
الفرنسيين أن هذه الفعلة علامة لاشتعال فتنة مدبرة، فأرسلوا برطلمين لقمعها،
«وبادر إلى القلاع … وهاجت العامة ورمحت الصغار وأغلق بعض الناس حوانيتهم، ثم
لم تزل الفرنسيس تسأل عن ذلك المملوك» حتى عثر عليه برطلمين مختبئًا في خان
بالجمالية، فقبضوا عليه واعترف بفعلته وأعدمه الفرنسيون في اليوم التالي.
٢١
وكان المولد النبوي من أهم الأعياد الدينية التي عُنِيَ بونابرت عناية عظيمة
بالاحتفال بها كدعامة من دعامات سياسته الإسلامية، ووسيلة للتقرب من المصريين
وكسب صداقتهم وضمان تعاون علمائهم ومشايخهم مع حكومته. وعلى ذلك ما إن حان
موعد إقامة هذا المولد بعد دخول الفرنسيين إلى القاهرة بأسابيع قليلة، ولمَّا
يبدأ المصريون استعداداتهم للاحتفال به؛ حتى سأل بونابرت عن سبب ذلك «فاعتذر
الشيخ البكري بتعطيل الأمور وتوقف الحال»، فأصرَّ بونابرت على ضرورة الاحتفال
به «وأعطى «الشيخ البكري» ثلاثمائة ريال فرانسة معاونة، وأمر بتعليق تعاليق
وأحبال وقناديل. واجتمع الفرنساوية يوم المولد ولعبوا ميادينهم وضربوا طبولهم
ودبادبهم، وأرسل الطبلخانة الكبيرة إلى بيت الشيخ البكري، واستمروا يضربونها
بطول النهار والليل بالبِركة تحت داره، وهي عبارة عن طبلات كبار مثل طبلات
النَّوْبة التركية وعدة آلات ومزامير مختلفة الأصوات مطربة، وعملوا في الليل
حرَّاقة نفوط مختلفة وسواريخ تصعد في الهواء.»
٢٢
وألبس بونابرت في أول أيام المولد الشيخ البكري «فروة»، وقلَّده نقابة
الأشراف بدلًا من السيد عمر أفندي النقيب السابق، وهو السيد عمر مكرم الذي غادر
البلاد إلى سوريا عقب واقعة إمبابة. وأدب الشيخ البكري مأدبةً عظيمة لبونابرت
وكبار رجال الحملة، وأقام حفلة ذِكْر شهدها بونابرت وصحبه.
٢٣ وطلب بونابرت في الوقت نفسه إلى كليبر بالإسكندرية ومنو برشيد
إحياء المولد النبوي. ولما كان كليبر لا يؤمن في قرارة نفسه بجدوى «هذه
المسرحيات الدينية»، فقد نزل على رغبة القائد العام متضجرًا فأُقيمت الزينات
بالإسكندرية. أمَّا منو — وكان من مؤيدي سياسة بونابرت الدينية ويعتقد بجدواها
في جذب قلوب المصريين — فقد اهتم بالأمر اهتمامًا كبيرًا، ولكنه فوجئ بامتناع
مشايخ رشيد عن الموافقة على الاحتفال بالمولد، واضطُرَّ إلى استخدام الوعيد
والتهديد معهم قبل أن يحصل منهم على فتوى بإجازة الاحتفال بالمولد، فأُقيمت
الزينات في رشيد كذلك.
٢٤
ومع أن بونابرت كان قد قرر الرحيل إلى فرنسا بعد عودته من حملة سوريا، فقد
حرص قبل مغادرة البلاد بأقل من أسبوعين تقريبًا على أن يجري الاحتفال بالمولد
النبوي في شهر (ربيع الأول سنة ١٢١٤ﻫ/أغسطس ١٧٩٩م) كما حدث في العام السابق،
«فعمل المولد النبوي (في ٩ أغسطس) بالأزبكية، ودعا الشيخ خليل البكري ساري عسكر
الكبير مع جماعة من أعيانهم وتعشَّوْا عنده، وضربوا ببركة الأزبكية مدافع وعملوا
حراقة وسواريخ، ونادوا في ذلك اليوم بالزينة وفتح الأسواق والدكاكين ليلًا
وإسراج قناديل واصطناع مهرجان.»
٢٥
وغادر بونابرت البلاد بعد ذلك في مساء يوم ٢٢ أغسطس، وتولى الجنرال كليبر
قيادة الحملة العامة بعده، ولكن الأجل لم يمتد بالقائد الجديد حتى يشهد احتفال
المولد النبوي التالي؛ لأنه لم يلبث أن قُتل في غضون شهر يونيو من عام ١٨٠٠م
وانتقلت القيادة العامة إلى منو. واحتفل منو بالمولد احتفالًا كبيرًا، فأُطلِقت
المدافع في صباح يوم ٢ أغسطس ١٨٠٠م، وأقام الشيخ خليل البكري «من سلالة النبي
الكريم» مأدبة عظيمة بهذه المناسبة للجنرال منو وكبار قواده ورجال الإدارة
الذين وُجدوا بالقاهرة وقتئذٍ، كما حضرها نفر من أعيان المصريين، وأُقيمت الزينات
في جميع أنحاء المدينة في المساء.
٢٦ ومع ذلك فإن الشيخ الجبرتي لم يجد ما يدونه في حوادث هذا الشهر
(ربيع الأول سنة ١٢١٥ﻫ) سوى قوله: «وفيه نادوا على الناس الخارجين من مصر من خوف
الفردة وغيرها بأن من لم يحضر من بعد اثنين وثلاثين يومًا من وقت المناداة نُهبت
داره وأُحيط بموجوده وكان من المذنبين. واشتد الأمر بالناس وضاقت منافسهم،
(وتابع الفرنسيون) نهب الدُّور بأدنى شبهة ولا شفيع تُقْبل شفاعته أو متكلم تُسْمع
كلمته، واحتجب ساري عسكر «منو» عن الناس وامتنع من مقابلة المسلمين وكذلك عظماء
الجنرالات وانحرفت طباعهم عن المسلمين زيادة عن أول واستوحشوا منهم، وكان ذلك
ولا شكَّ بسبب قتل كبيرهم السابق كليبر، ونزل بالرعية الذل والهوان وتطاولت
عليهم الفرنساوية وأعوانهم وأنصارهم من نصارى البلد الأقباط والشوام والأروام
بالإهانة حتى صاروا يأمرونهم بالقيام إليهم عند مرورهم، ثم شددوا في ذلك حتى
كان إذا مر بعض عظمائهم بالشارع ولم يقم إليه بعض الناس على أقدامه رجعت إليه
الأعوان وقبضوا عليه وأصعدوه إلى الحبس بالقلعة، واستمر عدة أيام في الاعتقال
ثم يُطلَق سراحه بشفاعة بعض الأعيان.»
٢٧
ولم يشهد الفرنسيون بعد ذلك احتفالًا بالمولد النبوي في الديار المصرية، ذلك
بأنه لم يجئ وقت الاحتفال به حتى كان بليار قد أخلى القاهرة منذ منتصف يوليو
١٨٠١م. وكان الإنجليز والعثمانيون يشددون الحصار على منو في الإسكندرية التي
انقطعت عنها المؤن وسُدَّت دونها المسالك. وكان العثمانيون والبكوات المماليك قد
عادوا إلى القاهرة، وكان من نصيب هؤلاء إقامة أول احتفال بالمولد النبوي بعد
خروج الفرنسيين من عاصمة البلاد، فنُودِي في يوم ٢ أغسطس ١٨٠١م «بتزيين الأسواق من
الغد تعظيمًا ليوم المولد النبوي الشريف، فلما أصبح يوم الأربعاء كُرِّرت المناداة
والأمر بالكنس والرش، فحصل الاعتناء وبذل الناس جهدهم وزينوا حوانيتهم بالشقق
الحرير والزردخان والتفاصيل الهندية، (وذلك على الرغم) من تخوفهم من تعرض هذه
النفائس لنهب العسكر العثماني. وعند المساء أوقدوا المصابيح والشموع ومنارات
المساجد وحصل الجمع بتكية الكلشني على العادة وتردد الناس ليلًا للفرجة وعملوا
مغاني ومزامير في عدة جهات وقراءة قرآن وضجت الصغار في الأسواق، وعم ذلك سائر
أخطاط المدينة العامرة ومصر وبولاق، وكان من المعتاد القديم ألا يُعتنَى بذلك
إلَّا بجهة الأزبكية حيث سكن الشيخ البكري؛ لأن عمل المولد من وظائفه وبولاق فقط.»
٢٨
فجاء الاحتفال عظيمًا فخمًا، واشترك الناس فيه عن رغبة صادقة؛ ذلك بأن
المصريين الذين أُرغم عقلاؤهم وكبارهم وشيوخهم على الاحتفال بالمولد النبوي أيام
الفرنسيين، ما كانوا يفعلون ذلك في واقع الأمر إلَّا مجاراة ومداراة لهم وهم
الذين أوقعوا بهم صنوف الإرهاق والمغارم، وخيَّل إليهم الوهم أن مجرد إقامة
الموالد كفيل وحده باجتذاب قلوب المصريين. ولعله كان في وسع الفرنسيين أن
يفلحوا فيما أرادوه لو أنهم رفعوا عن الأهلين المظالم والمغارم وترفَّقوا بهم
فلم يسلبوا أموالهم وأرزاقهم، ولعله كان في وسعهم كذلك أن يقنعوا المصريين بحسن
نواياهم وأنهم إنما قصدوا من الاحتفال بالمولد النبوي الشريف تمجيد نبيهم
الكريم والمحافظة على شعائرهم الدينية وتقاليدهم، لو أنهم راعوا قدسية هذا
اليوم ومنعوا جنودهم من الاشتراك مع الدهماء والرعاع في انتهاك حرمته. فقد ثبت
أن عديدين من كل هؤلاء كانوا ينتهزون فرصة المولد في ميدان الأزبكية فيقيمون
حول المولد الزينات ويحتشد المكان بالنساء ومدعي الولاية و«المجاذيب» أو
«البُلْه» — كما يسميهم الشيخ الجبرتي — والدراويش، فيختلط الحابل بالنابل، وتجري
أمور يشمئز منها صاحب كل خلق كريم ولا يقرها شرع أو دين، بل يقع كثير من
المخازي عيانًا جهارًا دون تستر أو احتشام ومما لا يليق ذكره.
٢٩
وما من شكٍّ في أن أحدًا ما كان يجرؤ على ارتكاب هذه الفعال الشنيعة لو أن
كبار الفرنسيين عرفوا كيف يفرضون رقابة صارمة على جنودهم وصغارهم، وأرغموا
أعوانهم من أهل الطوائف غير الإسلامية القاطنة في مصر على عدم التبذل والاحتشام
مسايرةً للفرنسيين ومحاكاةً لهم.
وواقع الأمر أن بونابرت الذي ابتدع «هذه السياسة الإسلامية» — كوسيلة هامة من
وسائل دعم الحكم في المستعمرة الجديدة — لم يكن يُعنَى على ما يبدو بغير ظواهر
الأمور فحسب، ويكفيه من الحرص على شعائر القوم وتقاليدهم أن تجري الاحتفالات
الدينية وتقوم المواسم «الوطنية» في مواسمها المعتادة وبكل أبهة وتفخيم، بل إن
التحمس لإقامة هذه الموالد ما لبث أن بلغ ذروته عندما أصر على ضرورة الاحتفال
بمولد السيدة زينب، فعُلِّقت القناديل في جامعها وأُقِيمت الزينات وأَدَب السيد محمد
السادات مأدبة عظيمة حضرها بونابرت ورجاله.
٣٠ وفضلًا عن ذلك فقد قرر بونابرت إحياء الاحتفال بمولد السيد علي
البكري. وكان الناس قد شُغلوا عن هذا المولد «وأُهمل شأنه في جملة المهملات وتُرِك
مع المتروكات» عند مجيء الفرنسيين إلى هذه البلاد.
وكان السيد علي البكري «رجلًا من البُلْه، وكان يمشي بالأسواق عريانًا مكشوف
الرأس والسوأتين غالبًا» اتخذ أخوه «وكان صاحب دهاء ومكر … من ميل الناس (له)
واعتقادهم فيه كما هي عادة أهل مصر في أمثاله» وسيلة للتكسب، «فحجر عليه ومنعه
من الخروج من البيت وألبسه ثيابًا وأظهر للناس أنه أذن له بذلك وأنه تولى
القبطانية ونحو ذلك، فأقبلت الرجال والنساء على زيارته والتبرك به وسماع ألفاظه
والإنصات إلى تخليطاته وتأويلها بما في نفوسهم»، وعند وفاته دفنه أخوه بجامع
الشرايبي بالأزبكية بالقرب من الرويعي، وبنى له مقصورةً ومقامًا «فهُرِعت لزيارة
قبره النساء والرجال بالنذور والشموع وأنواع المأكولات، وصار ذلك المسجد مجمعًا
وموعدًا.» وكان من أسباب نفور عقلاء القوم من هذه البدعة أن أصحابه رتبوا
«المقرئين والمدَّاحين وأرباب الأشاير والمنشدين يذكرون كرامات السيد علي
البكري وأوصافه في قصائدهم ومدحهم ونحو ذلك، ويتواجدون ويتصارخون ويمرغون
وجوههم على شبَّاكه وأعتابه، ويغرفون بأيديهم من الهواء المحيط به ويضعونه في
أعبابهم وجيوبهم.» تلك صورة ما كان يحدث بهذا المولد الذي أراد بونابرت الآن
إحياءه، الأمر الذي جعل خيار القوم يُلصقون بالقائد الفرنسي تهمة العمل على
إفساد الأخلاق، فكتب الشيخ الجبرتي: «فلما فُتح أمر الموالد والجمعيات ورخص
الفرنساوية ذلك للناس لما رأوا فيه من الخروج على الشرائع واجتماع النساء
واتباع الشهوات والتلاهي وفعل المحرمات؛ أُعيد هذا المولد مع جملة ما أُعيد.»
٣١
وكذلك أصر بونابرت على الاحتفال بالمولد الحسيني. وكان الشيخ محمد السادات
المكلف بعمله قد اعتزم أن يترك الاحتفال به فوشى به الواشون لدى الفرنسيين
وقالوا إن «غرض الشيخ السادات عدم عمله إلَّا إذا حضر المسلمون»، فبادر الشيخ
دفعًا لهذه التهمة عن شخصه إلى الاحتفال بالمولد «وشرع في عمله على سبيل
الاختصار، وحضر ساري عسكر «بونابرت» وشاهد الوقدة ورجع إلى داره بعد العشاء.»
٣٢ على أنه ما لبث القاهريون أن أُرغموا على الاحتفال بمولد الحسين مرة
أخرى في ١٦ يناير ١٧٩٩م، وكان قد «تُرك هذا المولد في جملة المتروكات» فأُعيد
إحياؤه الآن، وحدث في أثنائه مثل ما كان يحدث في المولد النبوي من ارتكاب
«السوقة وأهل الحرف السافلة» للمخازي والمعاصي، بل بلغ من عدم تبصر الفرنسيين
أنهم فتحوا قهوة في «خط المشهد الحسيني» ظنًّا منهم أنهم إنما يكسبون بذلك محبة
القاهريين وصداقتهم، فصار الناس يختلفون إليها للجلوس والسهر حصة من الليل
«والتسلي والخلاعات، وعمَّ ذلك جهات تلك الخطة ووافق ذلك هوى العامة؛ لأن
أكثرهم مطبوع على المجون والخلاعة وتلك هي طبيعة الفرنساوية» على حد قول الشيخ
الجبرتي. ويعزو الشيخ عمل المولد بعد حادث السيد السادات إلى أن زائري هذه
القهوة سرعان ما حسَّنوا لصاحبها — وكان يهوديًّا من عملاء الفرنسيين وتراجمتهم —
إعادة هذا «المولد الشهري (لما) يقع في لياليه من الجمعيات والمهرجان» فكان الاحتفال.
٣٣
وكان الاحتفال بوفاء النيل من أهم الأعياد الوطنية التي عظمت فيها الزينات
و«المهرجانات»، ووقع فيها من حوادث المجون والخلاعة الشيء الكثير، فكانت هذه
الاحتفالات سببًا في زيادة نفور عقلاء المصريين وأهل الطبقة المتوسطة من
القاهريين الذين ساءهم أن يشاهدوا العامة وطوائف الأروام والشوام ومن إليهم
يجارون الفرنسيين في مباذلهم بل ويَبُزُّونهم في أسباب اللهو والمجون مستهترين
بالعادات والتقاليد في بلد إسلامي، على حين يحاول بونابرت وكبار رجال «دولته» في
مصر أن يقنعوا أهل البلاد وأهل الشعوب الإسلامية المجاورة بأنهم يحترمون الدين
الحنيف ويحرصون على عدم إلحاق الأذى بشعور المسلمين ويحافظون على عادات
المصريين وتقاليدهم، وآية ذلك — كما يقولون — تلك الاحتفالات التي يقيمونها في
كل مناسبة من مناسبات الأعياد الدينية والوطنية في مصر، فكان ما يقع من حوادث
مشينة في هذه الأعياد — وخصوصًا في أثناء الاحتفال بوفاء النيل وفتح الخليج — من
العوامل التي فوَّتت على الفرنسيين غايتهم وبصرت المصريين بحقيقة نواياهم،
وجعلتهم لا يصدقون دعاوى هؤلاء الغزاة الأجانب ولا يأبهون ﺑ «تمويهاتهم»
وأباطيلهم.
وحدث أول احتفال بوفاء النيل بعد دخول بونابرت إلى القاهرة بأسابيع قليلة،
فما بزغت شمس يوم ١٨ أغسطس ١٧٩٨م/٥ ربيع الأول ١٢١٣ﻫ حتى خرج بونابرت من
القاهرة يقصد مقياس الروضة، يحف به أركان حربه ويصحبه أعضاء الديوان وأغا
الإنكشارية وأعيان المصريين وكتخدا الباشا والقاضي، واصطفت الجنود على طول
الخليج حتى النهر، وازدحمت في النيل «عدة مراكب وغلايين» مزينة بالأعلام،
واحتشد جمع غفير من الناس على طول الطريق بين الخليج ومصر العتيقة يدفعهم حب
الاستطلاع إلى الخروج لمشاهدة هذه الزينات الجديدة، ثم أُطلِقت المدافع محيية عند
وصول بونابرت وصحبه إلى المقياس، وأعلن شيخ المقياس مقدار الارتفاع الذي سجله
الفيضان في هذا العام — وكان خمسًا وعشرين قدمًا — فشرعوا بعد ذلك «في كسر
الجسر» وجرت مياه النهر في الخليج، وأُلقيت «عروس النيل» في النهر وقت انطلاق
المياه، وألقى بونابرت حفنة من النقود الذهبية في الخليج، كما بدر على الجمع
المحتشد من الأهالي وعامة الناس كميات كبيرة من «الميدي» وهُرِع الناس
لالتقاطها، ثم ألبس نقيب الأشراف الفرو الأبيض والمُلَّا فروًا أسود، ووزع
عددًا من «القفاطين» على الرؤساء وكبار المصريين، وعاد بموكبه إلى داره
بالأزبكية.
ويقول مؤرخو الحملة الفرنسية
٣٤ إن سرور الناس بهذا الاحتفال وحماسهم له كان عظيمًا. وفضلًا عن ذلك
فقد حمد الله كثيرون وأثنوا على رسوله الكريم، وأظهروا الشكر لجيش الفرنسيين
الذي خلصهم من طغيان البكوات المماليك الذين أكثر القوم من استنزال اللعنات
عليهم، وصاروا يقولون: لقد شاءت إرادة المولى أن يأتي بونابرت لتحريرنا من طغيان
المماليك فكُتب له النصر عليهم، وشاءت إرادته تعالى أن يعم الخير فبلغ وفاء
النيل المبارك حدًّا لم يبلغه منذ قرن من الزمان. وانقضى بقية اليوم في مرح
وحبور. وغنيٌّ عن البيان أن هذا القول يحمل في طياته كثيرًا من المغالاة، بل قد
يبعد ما حدث فعلًا عن الحقيقة بعدًا كبيرًا؛ ذلك أن القاهريين الذين خرجوا
لنجدة إبراهيم ومراد متسلحين ﺑ «العصي والنبابيت» وبكل ما وصلت إليه أيديهم أيام
واقعة إمبابة المعروفة، ثم خبروا الشيء الكثير من أساليب الفرنسيين الإدارية،
ووقع عليهم الإرهاق بسبب مطالب هؤلاء المالية وما فرضوه على القاهريين وكبارهم
من مغارم منوعة؛ ما كانوا ليتحمسوا هذا التحمس الذي يدعيه مؤرخو الحملة
الفرنسيون في إبداء حفاوتهم بقائد الفرنسيين، وإظهار الشكر والحمد على ما
ابتُلوا به، ويقول الشيخ الجبرتي في حوادث هذا اليوم: «وأمَّا أهل البلد فلم
يخرج منهم أحد تلك الليلة للتنزه في المراكب على العادة سوى النصارى الشوام
والقبط والإفرنج البلديين ونسائهم وقليل من الناس البطالين حضروا في صبحها.»
٣٥
وكان هؤلاء الشوام والإفرنج البلديون ونساؤهم والناس البطالون هم الذين أحيوا
كذلك الاحتفال بوفاء النيل في العام التالي، ارتكبوا خلال هذا الاحتفال فعالًا
شنيعة. وكان القائم بشئون الاحتفال بوفاء النيل في السنة التالية (١٢١٤ هجرية/١٧٩٩ ميلادية)
الجنرال دوجا حاكم القاهرة؛ ذلك أن بونابرت كان قد غادر البلاد
إلى فرنسا منذ ٢٢ أغسطس، وكان كليبر قائد الحملة العام الجديد متغيبًا عن
القاهرة، فذهب دوجا في صبيحة يوم الاحتفال (٢٤ ربيع الأول/٢٦ أغسطس) مع هيئة
أركان حربه إلى «الكوشك» المنصوب عند مدخل الخليج، يصحبه أعضاء الديوان
والأعيان وعدد كبير من الجند المشاة والفرسان، وصدحت الموسيقى وأحاطت بالعقبة
السفن والقوارب المسلحة والمزينة وأُطلقت المدافع، وبدر دوجا النقود في الخليج
وتسابق الناس لاختطافها، وأُلقيت عروس النيل في النهر، وانقضى اليوم ومساؤه
٣٦ — على حدِّ قول الفرنسيين — في حبور شامل، وانتهز الشوام والإفرنج
البلديون ونساؤهم والناس البطالون هذه الفرصة فخلعوا العذار وشاركوا الفرنسيين
في مجونهم وخلاعتهم، فقال الشيخ الجبرتي: «وخرج النصارى البلدية من القبطة
والشوام والأروام وتأهبوا للخلاعة والقصف والتفرج واللهو والطرب، وذهبوا تلك
الليلة إلى بولاق ومصر العتيقة والروضة، واكْترَوا المراكب ونزلوا فيها وصحبتهم
الآلات والمغاني، وخرجوا في تلك الليلة عن طورهم ورفضوا الحشمة، وسلكوا مسلك
الأمراء (البكوات المماليك) سابقًا من النزول في المراكب الكثيرة المقاديف
وصحبتهم نساؤهم وقحابهم وشرابهم، وتجاهروا بكل قبيح من الضحك والسخرية
والكفريات ومحاكاة المسلمين، وبعضهم تزيَّا بزي أمراء مصر ولبس سلاحًا وتشبه
بهم، وحاكى ألفاظهم على سبيل الاستهزاء والسخرية وغير ذلك. وأجرى الفرنساوية
المراكب المزينة وعليها البيارق وفيها أنواع الطبول والمزامير في البحر، ووقع
في تلك الليلة بالبحر وسواحله من الفواحش والتجاهر بالمعاصي والفسوق ما لا يُكيَّف
ولا يُوصَف، وسلك بعض غوغاء العامة وأسافل العالم ورعاعهم مسالك تسفل الخلاعة
ورذالة الرقاعة بدون أن ينكر أحد على أحد من الحكام أو غيرهم، بل كل إنسان يفعل
ما تشتهيه نفسه وما يخطر بباله وإن لم يكن من أمثاله:
إذا كان ربُّ الدار بالدفِّ ضاربًا
فشيمة أهل الدار كلِّهم الرقصُ
٣٧
وما كان الفرنسيون بمثل هذه الاحتفالات المشينة يستطيعون أن يكسبوا مودة
المصريين وصداقتهم، ولم يكن انضمام السوقة والرعاع إلى أجنادهم وأنصارهم من أهل
الطوائف غير المصرية أو غير الإسلامية مؤذنًا بنجاح سياستهم «الإسلامية-الوطنية»،
بل أحدثت هذه الاحتفالات أذًى بليغًا في نفوس عقلاء القاهريين، وزادت
نفورهم من حاكميهم الجدد. وواقع الأمر أن هؤلاء السوقة والرعاع أنفسهم لم
يلبثوا هم الآخرون أن انصرفوا عن هذه الاحتفالات عندما تذوقوا قسوة ذلك العقاب
الصارم الذي أنزله بهم الفرنسيون عقب ثورة القاهرة الثانية، واشتد الرعب على
أثر مقتل الجنرال كليبر، وتبدل مسلك الفرنسيين عمومًا نحوهم بعد هذه الحوادث
الجسيمة. ولذلك فإنه على الرغم مما كان يبديه الجنرال منو قائد الحملة الجديد
بعد كليبر من عظيم الاهتمام باقتفاء خطوات بونابرت في سياسته الإسلامية
الوطنية، وحرصه على الاحتفال بوفاء النيل في عام ١٨٠٠م/١٢١٥ هجريًّا؛ فإن أحدًا
من القاهريين لم يقدم على المساهمة في هذا الاحتفال سوى مشايخ الديوان
والموظفين الرسميين بحكم مناصبهم وطائفة من الدهماء الذين أغراهم ما يبدره
القائد العام عادة من نقود في مثل هذه المناسبات، ولم يغادروا بيوتهم.
فلم يذكر الشيخ الجبرتي في حوادث شهر ربيع الثاني من عام ١٢١٥ هجريًّا الذي وقع
فيه الاحتفال بوفاء النيل في تلك السنة شيئًا عن هذا المهرجان، بل اقتصر على
ذكر ما وقع على المصريين في أثنائه من مغارم ومظالم وما شاهدوه وأصحاب الوكائل
والخانات من سلب أموالهم ونهب متاجرهم، وذلك إلى جانب هدم الدور وإنشاء القلاع
وما إلى ذلك،
٣٨ ثم اكتفى عند تدوين حوادث شهر جمادى الأولى بالإشارة إلى «زيادة
النيل زيادة مفرطة» في هذا العام «لم يُعْهَد مثلها … حتى انقطعت الطرقات وغرقت
البلدان، وطفَّ الماء من بركة الفيل وسار إلى درب الشمسي وكذلك حارة الناصرية،
وسقطت عدة دور من المطلة على الخليج.»
٣٩
وفضلًا عن ذلك فقد وقع يوم الاحتفال بوفاء النيل في ٢٨ أغسطس ١٨٠٠م/٧ ربيع الثاني
١٢١٥ﻫ
من الحوادث المروعة ما ذهب ببهاء هذا اليوم — إذا كان له بهاء أو رونق — فقد غرق عديدون
عند
محاولتهم العثور على قطع النقود التي ألقاها منو في النهر، وبلغ من شدة التيار بسبب علو
الفيضان وتدفق المياه أن فقدت بعض النسوة أطفالهن عندما دفعن بفلذة أكبادهن إلى الماء
للبركة ولشفاء أطفالهن من الأمراض على نحو ما اعتدن فعله كل عام، ونفذ الماء المتدفق
الشديد
من ثغرة أحدثها في حاجز أقامه الفرنسيون عند مدخل ميدان الأزبكية لمنع المياه من الوصول
إليه، وكانت قد حطت برحالها قافلة كبيرة في هذا الميدان ففوجئ أصحابها بتدفق المياه عليهم،
فساد الهرج والمرج، وعلا الصياح، وعظم رغاء الجمال، وحدثت ضوضاء وجلبة شملت حي الأزبكية
بأجمعه، حتى إذا تبين الناس حقيقة ما حصل سُرِّيَ عنهم.
٤٠ وكان ذلك الحادث «التسلية» الوحيدة التي وجد فيها القاهريون ما يفرِّجون به عن
أنفسهم وسط ما لازمهم من نكد وعسر مقيم باتوا يتوقون إلى الخلاص منه وينتظرون فرج الله
القريب.
وأمَّا الدهماء فقد شاركوا الفرنسيين على عادتهم في الاحتفال بوفاء النيل في
هذه السنة، فوصف الشيخ الجبرتي ما فعله هؤلاء عندما أخذ يلخص حوادث هذا العام،
وكان كل ما عُنِي الشيخ بتدوينه إلى جانب أعمال الهدم «والتخريب» التي قام بها
الفرنسيون ذلك الهبوط الخُلُقي الذي حدث بين العامة ونسائهم، فقال: «ومن حوادث هذه
السنة — أي سنة ١٢١٥ هجرية — تبرج النساء وخروج غالبهن عن الحشمة والحياء، وهو
أنه لما حضر الفرنسيون إلى مصر ومع البعض منهم نساؤهم كانوا يمشون في الشوارع
مع نسائهم وهن حاسرات الوجوه لابسات الفستانات والمناديل الحرير الملونة،
ويسدلن على مناكبهن الطرح الكشميري والمزركشات المصبوغة، ويركبن الخيول والحمير
ويسوقونها سوقًا عنيفًا مع الضحك والقهقهة ومداعبة المكارية معهم وحرافيش
العامة، فمالت إليهم نفوس أهل الأهواء من النساء الأسافل والفواحش فتداخلن معهم
لخضوعهن للنساء وبذل الأموال لهن. وكان ذلك التداخل أولًا مع بعض احتشام وخشية
عار ومبالغة في إخفائه، فلما وقعت الفتنة الأخيرة (ثورة القاهرة الثانية)
وحاربت الفرنسيس بولاق وفتكوا في أهلها وغنموا أموالها وأخذوا ما يستحسنون من
النساء، والبنات صرن مأسورات عندهن فزيوهن بزي نسائهم وأجروهن على طريقتهن في
كامل الأحوال فخلع أكثرهن نقاب الحياء بالكلية، وتداخل مع هؤلاء المأسورات
غيرهن من النساء الفواجر. ولما حل بأهل البلاد من الذل والهوان وسلب الأموال
واجتماع الخيرات في حوزة الفرنسيس ومن والاهم وشدة رغبتهم في النساء وخضوعهم
لهن وموافقة مرادهن وعدم مخالفة هواهن ولو شتمته أو ضربته بتاسومتها، فطرحن
الحشمة والوقار والمبالاة والاعتبار، واستلمن نظراءهن واختلسن عقولهن لميل
النفوس إلى الشهوات وخصوصًا عقول القاصرات. وخطب الكثير منهم بنات الأعيان
وتزوجوهن رغبة في سلطانهم ونوالهم، فيظهر حالة العقد الإسلام وينطق بالشهادتين
لأنه ليس له عقيدة يخشى فسادها، وصار مع حكام الأخطاط منهم النساء المسلمات
متزييات بزيهم ومشوا معهم في الأخطاط للنظر في أمور الرعية والأحكام العادية
والأمر والنهي والمناداة، وتمشي المرأة بنفسها أو معها بعض أترابها وأضيافها
على مثل شكلها وأمامها القواسة والخدم وبأيديهم العصي يفرجون لهن الناس مثل ما
يمر الحاكم ويأمرن وينهين في الأحكام … وأمَّا الجواري السود فإنهن لما علمن
رغبة القوم في مطلق الأنثى ذهبن إليهم أفواجًا فرادى وأزواجًا، فنططن الحيطان
وتسلقن إليهم من الطيقان ودلوهم على مخبآت أسيادهن وخبايا أموالهم ومتاعهم وغير ذلك.
٤١
وكان من هؤلاء النسوة المتبرجات ابنة الشيخ البكري، وقد تبرأ منها أبوها عند
خروج الفرنسيين واقتص منها القوم بأن «كسروا رقبتها»، وكذلك امرأة أخرى اسمها
«هوى» كانت زوجة إسماعيل كاشف المعروف بالشامي أحد الذين خرجوا من مصر مع من
خرج منها حين دخول الفرنسيين، وقد تزوجت هذه المرأة من «نقولا القبطان»،
فاستأذن إسماعيل كاشف الصدر الأعظم عند جلاء الفرنسيين «في قتلها فأذنه، فخنقها
ومعها جاريته البيضاء أم ولده، وقتلوا أيضًا امرأتين من أشباههم.»
٤٢
وأمَّا الاحتفال بوفاء النيل في هذا العام فقد وصفه الشيخ بقوله: «إنه لما
أوفى النيل أزرعه ودخل الماء إلى الخليج وجرت فيه السفن، وقع عند ذلك من تبرج
النساء واختلاطهن بالفرنسيس ومصاحبتهم لهن في المراكب والرقص والغناء والشرب في
النهار والليل في الفوانيس والشموع الموقدة، وعليهن الملابس الفاخرة والحلي
والجواهر المرصعة، وصحبتهم آلات الطرب وملاحو السفن يكثرون من الهزل والمجون
ويتجاوبون برفع الصوت في تحريك المقاديف بسخيف موضوعاتهم وكثائف مطبوعاتهم،
وخصوصًا إذا دبت الحشيشة في رءوسهم وتحكمت في عقولهم فيصرخون ويطبلون ويرقصون
ويزمرون ويتجاوبون بمحاكاة ألفاظ الفرنساوية في غنائهم وتقليد كلامهم؛ شيء كثير.»
٤٣
ولم يُتَح للفرنسيين الاحتفال بوفاء النيل بعد ذلك؛ لأنه ما حل موعد هذا
الاحتفال في العام التالي حتى كان هؤلاء قد ارتحلوا عن القاهرة، فما إن تم وفاء
النيل المبارك — في ٢٨ ربيع الأول ١٢١٦ﻫ، ٨ أغسطس ١٨٠١م — حتى «ركب محمد باشا
المعروف بأبي مرق المرشح لولاية مصر في صبح ذلك اليوم إلى قنطرة السد، وكسروا
جسر الخليج بحضرته وفرق العوائد وخلع الخلع ونثر الفضة والذهب»،
٤٤ ولم يقع شيء من تلك المخازي والمعاصي التي اعتاد القاهريون
مشاهدتها أيام الفرنسيين.
تلك كانت احتفالات الفرنسيين بأعياد المصريين ومواسمهم، وظاهرٌ من التفاصيل
التي ذكرناها أن بونابرت ومؤيدي الاستعمار الفرنسي في هذه البلاد من أصحاب
السياسة الإسلامية الوطنية ودعاتها، قد أخفقوا في كل ما عقدوه على اتِّباعها من
آمال عظيمة لجذب قلوب المصريين نحوهم، واستمالتهم إلى التعاون معهم، أو الرضا
بحكم هؤلاء الأجانب «الملاحدة» لهم. وظاهرٌ أن السبب في إخفاقهم هو أنهم حاولوا
أن يجعلوا من هذه الأعياد والمواسم وسيلة للتسلية والتسرية عن نفوسهم هم لا
إدخال الطمأنينة والسرور على نفوس أهل البلاد. والحقيقة أن الفرنسيين منذ
قدومهم إلى هذه الأقطار ما كانوا يُعنَوْن في حياتهم الاجتماعية إلَّا بشيء واحد،
هو توفير أسباب المسرات لرجالهم المقيمين بالقاهرة وغيرها من المدن الكبيرة،
وإتاحة الفرصة لحامياتهم أو لجنودهم العائدين من مختلف المعارك، سواء ما وقع
منها في داخل القطر في الوجهين البحري والقبلي أو في خارجه في أثناء حملة
الشام أو على حدود البلاد وشواطئها الشمالية والشرقية؛ حتى يجدوا من صنوف اللهو
وأسباب المرح ما يخفف من وطأة ما كانوا فيه من نصب وإعياء، فأجازوا لأنفسهم
الخروج عن واجب اللياقة والاحتشام في أثناء هذه الموالد والأعياد، وشجعوا
نصراءهم من طوائف الشوام والأروام ومن إليهم على مجاراتهم وخلع العذار.
ومع ذلك فإن هذه الأعياد والمواسم كانت قليلة ومتباعدة، ولا يكفل إحياؤها
إقامة المهرجانات المستمرة، وخلق حياة من اللهو واللعب تحمل ذلك الطابع الفرنسي
الذي كان لا مندوحة عنه للتسرية عن نفوس كبار رجالهم وصغارهم وأجنادهم ومن
انضوى تحت لوائهم؛ فعقدوا العزم منذ أن دانت لهم القاهرة أن يقيموا بها نوعًا
من الحياة يجعل من هذه العاصمة الشرقية «باريس» جديدة، لا تختلف فيما حاولوا أن
يضفوا عليها من مظاهر البهجة والسرور — في نظرهم — عن العاصمة الفرنسية ذاتها،
فاتخذوا لذلك وسائل عدة بعضها متعلق بشئون تنظيم «وتنظيف» القاهرة، والآخر
بإنشاء الحانات والقهاوي والأندية، وإعداد مسرح لتمثيل الهزليات والمآسي من
جهة، ثم إحياء أعيادهم القومية والإكثار من المهرجانات «الفرنسية» والحفلات
الراقصة وما إلى ذلك من جهة أخرى.
باريس الصغيرة
ونجم عن شدة اشتياقهم إلى خلق هذه العاصمة المرحة أو «باريس الصغيرة» على حد
قولهم، أو «القاهرة الخليعة» على نحو ما اعتقد الشيخ الجبرتي ونظراؤه ولا شكَّ
من عقلاء المصريين؛ أنه لم يمضِ زمن طويل على وجودهم بالقاهرة حتى كانت القهاوي
والمطاعم ذات الموائد والكراسيِّ على الطراز الفرنسي بدلًا من الجلوس على
المصاطب أو المقاعد الحجرية، ثم مشارب البيرة أو البارات قد أُنشئت في
أحياء القاهرة، وفتحت أبوابها تستقبل الفرنسيين ومن سار سيرتهم من أفراد
الطوائف التي رحبت بهذا النوع الجديد من الحياة. وقد تقدم كيف افتتح أحد صنائع
الفرنسيين «قهوة» في حي المشهد الحسيني يسهر فيها الناس حصة من الليل ويعلو
صياحهم وصخبهم. وفضلًا عن ذلك فقد افتُتح أحد مشارب البيرة في أهم الطرق بين
القاهرة ومصر العتيقة على الرغم من أن الفرنسيين كانوا يشكون من صنف البيرة
الرديء التي أُنشئت بعض الفاوريقات لصنعها من مواد استُعيض بها عن حشيشة الدينار،
٤٥ وأُقيمت في هذه المشارب والمطاعم حفلات رقص المخاصرة وصدحت
الموسيقى. وكان من علامات التحول الجديد التي سُرَّ لها الفرنسيون كثرة اللافتات
التي وضعها أصحاب المحالِّ التجارية وغيرها على محالِّهم وكانت الكتابات التي على
اللافتات باللغة الفرنسية.
٤٦
على أن أهم ما فعله الفرنسيون لإنعاش الحياة الاجتماعية في «باريسهم الصغيرة»
أنهم أنشئوا بالقاهرة في نوفمبر ١٧٩٨م ملهًى كبيرًا يشبه ملهى تيفولي
Tivoli الباريسي وسموه بنفس الاسم، أنشأه
دارجيفل
Dargeavel رفيق بونابرت القديم في
مدرسة بريين
Berienne الحربية، فاختار دارًا
له قريبة من ميدان الأزبكية أحد قصور البكوات المماليك، وكانت تحيط بالدار
حديقة واسعة تظلل طرقاتها أشجار البرتقال والليمون وتنساب الجداول في كل
أنحائها. وكان مبنى التيفولي يضم حجرات عدة يمضي فيها الفرنسيون رجالًا ونساءً
أوقاتهم في الحديث أو القراءة والاستماع إلى البحوث العلمية تارة، أو للعب
البلياردو وغيره من الألعاب وإقامة حفلات الرقص والاستماع للموسيقى تارة أخرى.
كما كان يجتمع الحواة والمهرجون من «أولاد البلد» لتسلية القوم، ويقصد التيفولي
كذلك عدد من المغنيات والراقصات — أو العَلْمات — الوطنيات لإدخال السرور
والبهجة على قلوب أصحابه، وتصدح موسيقى الجيش بأنغامها الشجية والحماسية في
حديقته التي عُنِي الفرنسيون دائمًا بتعليق القناديل على أشجارها وعمل الزينات
الكبيرة في الأعياد والمواسم خصوصًا.
٤٧
وكان من المشكلات التي واجهها منشئو هذا الملهى أنه ما كان يوجد بالقاهرة
وقتئذٍ عدد من النساء الفرنسيات يكفي لإحياء الحفلات الراقصة أو للمساهمة في
أنواع اللهو والتسلية؛ وذلك لأنه لم يكن في استطاعة السيدات الفرنسيات مرافقة
أزواجهن أو أصدقائهن عند خروج جيش الشرق إلى مصر، فاضطر عدد منهن للاندساس بين
الجنود وهن متنكرات في زي الرجال كما فعلت زوجة الجنرال فردييه
Verdier الإيطالية الأصل أو زوجة الضابط
فوريس
Fourès، فلم يزد عدد النساء
الفرنسيات على ثلاثمائة سيدة تقريبًا، بينما بلغ عدد الرجال حوالي أربعة آلاف.
وقد حاول بونابرت علاج هذه المشكلة بالكتابة إلى حكومة الإدارة يطلب منها العمل
على إرسال مائة امرأة، وكذلك زوجات الفرنسيين الذين حضروا إلى هذه البلاد ولم
يحضروا معهم زوجاتهم.
٤٨ ولما كان الإنجليز قد جعلوا بفضل سيطرتهم البحرية كل اتصال بين
فرنسا ومصر متعذرًا، ولمَّا لم يستطع بونابرت تحقيق رغائبه؛ فقد عمد جند الحملة إلى
علاج هذه المشكلة الاجتماعية الخطيرة بأساليبهم الخاصة بهم، فتزوج البعض من
نساء مصريات وإن كانوا قد حرصوا على إبقاء زوجاتهم محجبات في البيوت، وصادق
آخرون عددًا من الوطنيات المستهترات أو عاشروا زنجيات من الرقيق وهكذا.
٤٩ كما عالج بونابرت هذه المشكلة بطرائقه الخاص أيضًا، فوقع اختياره
على «مدام فوريس» وكان قد قابلها في إحدى حفلات التيفولي الراقصة، واشتُهر أمر
السيدة «بليولي» بين الجند فأطلق هؤلاء عليها اسم «قائدتنا بليلوت
Bélilote الصغيرة»، وقد لاحقت هذه السيدة
بونابرت حتى بعد عودته إلى فرنسا ولكنه لم يأبه لها بعد ذلك.
٥٠
وأقام الفرنسيون مسرحًا لتمثيل الروايات «الكوميدية والتراجيدية والأوبرا كوميك»
في الوقت الذي أنشئوا فيه ملهى تيفولي الكبير، وصادفتهم كذلك في مبدأ
الأمر صعوبة العثور على ممثلات فصار الرجال يتزيون بزي النساء ويقومون بأدوار
السيدات في هذه التمثيليات، واستمر الحال على ذلك فترة من الزمن حتى رضيت بعض
الفرنسيات الاشتراك في التمثيل. وقد ظل هذا المسرح قائمًا حتى أواخر عهد الحملة
في مصر.
٥١ وكانت تقوم حفلات التمثيل مرة أو مرتين كل عشرة أيام، فيقصد
«التياترو» إلى جانب الفرنسيين كبار المصريين وكبار النصارى الشوام والأروام
وأهل الطوائف الأخرى. وكان المسيحيون يصطحبون معهم في بعض الأحايين نساءهم.
وأمَّا القواد والضباط الفرنسيون فكانوا يحضرون هذه الحفلات الحفلات ومعهم نساؤهم
وجواريهم الجركسيات والجورجيات الحسان، وهذا عدا كثيرات
من الزنجيات، كما كان يحضر كذلك النساء الفرنسيات. وكان الحسان الجركسيات
والجورجيات يجلسن في مقصورة — أو لوج — مخصص لهن في الناحية المقابلة لألواج
القواد والرؤساء. وكانت الزنجيات أشد افتتانًا من غيرهن برؤية هذه المشاهد،
أمَّا السيدات الروميات والشاميات فكان يسوءهن أن يرين الممثلين يقومون بأدوار
النساء ويتزيون بزيهن، حتى إن إحداهن ما لبثت أن صاحت عند رؤيتهم ومشاهدة مناظر
التمثيلية الغريبة: «إن ما أراه لا يمكن أن يفعله الإله، وإنما ذلك من فعل
الشيطان نفسه.»
٥٢
وأمَّا عقلاء المصريين فقد وجدوا في ذلك كله دليلًا جديدًا على انغماس الفرنسيين
في حياة
اللهو والخلاعة وحرصهم على نشر الفساد في البلاد، فقال الشيخ الجبرتي وهو يدوِّن حوادث
شهر
جمادى الثانية ١٢١٣ﻫ (نوفمبر ١٧٩٨م): «ومنها أنهم (أي الفرنسيين) أحدثوا بغيط النوبي
المجاور
للأزبكية أبنية على هيئة مخصوصة، منتزهة يجتمع بها النساء والرجال للهو والخلاعة في أوقات
مخصوصة، وجعلوا على كل من يدخل إليه قدرًا مخصوصًا يدفعه ويكون مأذونًا وبيده ورقة»،
ثم قال
عند الكلام عن الاحتفال بأول يوم من أيام شهورهم (في ١٥ شوال ١٢١٣ﻫ / ٢٢ مارس ١٧٩٩م)
إنهم
«عملوا ليلة السبت شنكًا وحراقةً وسواريخَ وتجمعوا بدار الخلاعة نساءً ورجالًا، وتراقصوا
وتسابقوا وأوقدوا سراجًا وشموعًا وغير ذلك، وأظهر الأقباط والشوام مزيد الفرح والسرور.»
٥٣
واتخذ الفرنسيون ميدان الأزبكية ومنتزه التيفولي مكانًا لحفلاتهم التي حرصوا
على إقامتها دائمًا في عيد الجمهورية الفرنسية عند بداية أول شهورهم، وكانت هذه
حفلات باذخة عُنُوا عناية فائقة بترتيبها وتنظيمها وتوفير أسباب اللهو والسرور
و«الخلاعة» في أثنائها على نطاق واسع، فطيروا «البالونات» وأكثروا من الزينات
وجلبوا الحواة واللاعبين، وأفسحوا مكانًا للراقصات والمغنيات و«العلمات»
الوطنيات، وأقاموا المراقص وتبذلوا في لهوهم ومجونهم لدرجة كبيرة. ووقع أول
احتفالاتهم في يوم ٢٢ سبتمبر ١٧٩٨م، فاستعدوا له استعدادًا عظيمًا منذ أواخر
الشهر السابق، فقال الشيخ الجبرتي: «وفي أواخره (أي في أواخر شهر ربيع الأول
١٢١٣ﻫ) كان انتقال الشمس لبرج الميزان وهو الاعتدال الخريفي، فشرع الفرنساوية في
عمل عيدهم ببركة الأزبكية، وذلك اليوم كان ابتداء قيام الجمهورية ببلادهم،
فجعلوا ذلك اليوم عيدًا وتاريخًا، فنقلوا أخشابًا وحفروا حفرًا وأقاموا بوسط
بركة الأزبكية صاريًا عظيمًا بآلة وبناء وردموا حوله ترابًا كثيرًا عاليًا
بمقدار قامة، وعملوا في أعلاه قالبًا من الخشب محدد الأعلى مربع الأركان،
ولبَّسوا باقيه على سمت القالب قماشًا ثخينًا طلوه بالحمرة الجزعة، وعملوا أسفله
قاعدة نقشوا عليها تصاوير سواد في بياض، ووضعوا قبالة باب الهواء بالبركة شبه
بوابة كبيرة عالية من خشب مقفص وكسوها بالقماش المدهون مثل لون الصاري، وفي
أعلى القوصرة طلاء أبيض وبه تصاوير بالأسود مصور فيه مثل حرب المماليك المصرية
معهم وهم في شبه المنهزمين بعضهم واقع على بعض وبعضهم ملتفت إلى خلف، وعلى
موازاة ذلك من الجهة الأخرى بناحية قنطرة الدكة التي يدخل منها الماء إلى
البركة مثل بوابة أخرى على شكلها لأجل حراقة البارود، وأقاموا أخشابًا كثيرة
منتصبة مصطفة منها إلى البوابة الأخرى شبه الدائرة متسعة محيطة بمعظم فضاء
البركة بحيث صار عمود الصاري الكبير المنتصف المذكور في المركز، وربطوا بين
تلك الأخشاب حبالًا ممتدة وعلَّقوا بها صفين من القناديل وبين ذلك تماثيل لحراقة
البارود أيضًا، وأقاموا في عمل ذلك عدة أيام.»
٥٤
ثم يمضي الشيخ فيقول: «وفي يوم السبت حادي عشر (١١ ربيع الثاني ١٢١٣ﻫ/٢٢
سبتمبر ١٧٩٨م) كان يوم عيدهم الموعود به، فضربوا في صبيحته مدافع كثيرة، ووضعوا
على كل قائم من الخشب بنديرة من بنديراتهم الملونة، وضربوا طبولهم واجتمعت
عساكرهم بالبركة الخيَّالة والرجَّالة، واصطفُّوا صفوفًا على طرائقهم المعروفة
بينهم، ودعوا المشايخ وأعيان المسلمين والقبطة والشوام، فاجتمعوا ببيت ساري
عسكر بونابرته وجلسوا حصة من النهار، ولبسوا في ذلك اليوم ملابس الافتخار ولبس
المعلم جرجس الجوهري كركه بطرز قصب على أكتافها إلى أكمامها وعلى صدرها شمسات
قصب بأزرار وكذلك فلتيوس، وتعمموا بالعمائم الكشميري، وركبوا البغال الفارهة،
وأظهروا البشر والسرور في ذلك اليوم إلى الغاية. ثم نزل عظماؤهم وصحبتهم
المشايخ والقاضي وكتخدا الباشا، فركبوا وذهبوا عند الصاري الكبير الموضوع بوسط
البركة، وقد كانوا فرشوا في أسفله بسطًا كثيرة. ثم إن العساكر لعبوا ميدانهم
وعملوا هيئة حربهم وضربوا البنادق والمدافع، فلما انقضى ذلك اصطفت العساكر
صفوفًا حول ذلك الصاري، وقرأ عليهم كبير قسوسهم ورقة بلغتهم لا يدري معناها
إلَّا هم وكأنها كالوصية أو النصيحة أو الوعظ. ثم قاموا وانفضَّ الجمع ورجع ساري
عسكر إلى داره، فمد سماطًا عظيمًا للحاضرين، فلما كان عند الغروب أوقدوا جميع
القناديل التي على الحبال والتماثيل والأحمال التي على البيوت، وعند العشاء
عملوا حراقة بارود وسواريخ ونفوط وشبه سواقي ودواليب من قار ومدافع كثيرة نحو
ساعتين من الليل، واستمرت القناديل موقدة حتى طلع النهار. ثم فكوا الحبال
والتعاليق والتماثيل المصنوعة، وبقيت البوابة المقابلة لباب الهواء والصاري
الكبير وتحته جماعة ملازمو الإقامة عنده ليلًا ونهارًا من عساكرهم لأنه
شعارهم وإشارة إلى قيام دولتهم في زعمهم.»
٥٥
وهذا الوصف الذي أتى به الشيخ صحيح في جملته وتفاصيله، فقد اجتمعت حاميات
القاهرة ومصر العتيقة وبولاق بميدان الأزبكية، وقصد بونابرت المكان في الساعة
السابعة من صبيحة ذلك اليوم تحيط به هيئة أركان حربه وقواده ورؤساء الإدارة
الفرنسيون وأعضاء المجمع العلمي والديوان وممثلو دواوين الأقاليم وعدد كبير من
الشيوخ والعلماء والأعيان وأغا الإنكشارية وغيرهم، وما إن اكتمل عقد المحتفلين
بهذا العيد حتى وقف الجنرال بواييه
Boyer عند
قاعدة «الصاري الكبير» يلقي على الجنود «منشور» بونابرت إلى عسكره، يعدد
انتصاراتهم ويثير حماستهم، وقد باتوا منذ مجيئهم إلى هذه البلاد موضع الأنظار
ليس في فرنسا فقط بل في أوروبا بأجمعها، حيث أصبح يتوقف على جهودهم ونشاطهم وما
يبذلونه من تضحية عقد السلام العام، وانتعاش التجارة، وعودة الرخاء والسعادة
إلى العالم، ونشر ألوية الحرية على ربوعه. أمَّا تلك «العظة» التي جاء ذكرها في
كلام الشيخ الجبرتي فكانت «ترتيلًا» أعده لهذه المناسبة بارسيفال دي جرانميزون
Parseval de Grandmaison وريجل
Rigel وكلاهما من أعضاء المجمع العلمي.
٥٦
وقد ألصق الفرنسيون على القماش الذي غطوا به الصاري ورقًا كتبوا عليه أسماء
أولئك الذين قضوا نحبهم من جنودهم ورجالهم منذ نزولهم إلى هذه البلاد، وكانت
الغاية من إقامة هذا الصاري الكبير رغبة الفرنسيين في أن يبقى رمزًا على
«الحرية» التي عمد جنود «الثورة الفرنسية» إلى نشر مبادئها في كل مكان حلُّوا
به. ومع ذلك فقد ذاع الاعتقاد بين المصريين أن الغرض من بنائه لم يكن سوى
تذكيرهم بذلك «الخازوق» الذي توقعوا أن يستخدمه الغزاة دائمًا في الاقتصاص
منهم إذا حدث ما يدعو إلى عقوبتهم.
٥٧ وكان مما فعله الفرنسيون في ذلك اليوم أنهم نصبوا على جمهوريتهم
المثلث الألوان على قمة هرم الجيزة،
٥٨ كما أنهم أجْرَوا في الميدان عصر اليوم نفسه سباقًا للعدائين
ووزعوا الجوائز على الفائزين، ثم أجْرَوا سباقًا آخر للخيل اشتركت فيه الخيول
العربية إلى جانب الخيول الفرنسية التي يملكها فرنسيون كالقواد برثييه
وجونو
Junot.
٥٩
ووقع احتفال الفرنسيين بعيد جمهوريتهم الثاني في سبتمبر ١٧٩٩م، فاستعرض كليبر
قائد الحملة الجديد العسكر الفرنسية في الفضاء الواقع بين القاهرة والروضة على
شاطئ النيل الشرقي، ويمتد بين قلعة المجمع العلمي والمستشفى الذي أقامه
الفرنسيون عند «عزبة» إبراهيم بك — وكان هذا الفضاء لذلك يُعرَف باسم سهل أو
ميدان إبراهيم بك — وخطب كليبر في جنوده، وأُقيمت الزينات. ومع ذلك فإن
الاحتفال في هذا اليوم لم يبلغ في الروعة والكمال احتفال العام السابق،
٦٠ ويقول الشيخ الجبرتي في حوادث (أول جمادى الأولى ١٢١٤ﻫ/أول أكتوبر
١٧٩٩م): «وفيه اهتم الفرنسيس بعمل عيدهم المعتاد، وهو عند الاعتدال الخريفي
وانتقال الشمس لبرج الميزان، فنادوا بفتح الأسواق والدكاكين ووقود القناديل
وشددوا في ذلك، وعملوا عزائم وولائم وأطعمة ثلاثة أيام … ولم يعملوه على هيئة
العام الماضي من الاجتماع بالأزبكية عند الصاري العظيم المنتصب والكيفية
المذكورة؛ لأن ذلك الصاري سقط وامتلأت البركة بالماء، (فنبَّهوا) على الأمراء
والأعيان بالبكور إلى بيت ساري عسكر، فاجتمع الجميع صبح يوم الاثنين (٤
أكتوبر)، فركب ساري عسكر معهم في موكب كبير وذهبوا إلى القصر العيني، فمكثوا
هناك حصة وعُرضت عليهم العساكر جميعها على اختلاف أنواعها من خيَّالة ورجَّالة وهم
بأسلحتهم وزينتهم ولعبوا لعبهم في ميدان الحرب، وخلع ساري عسكر على الشيخ
الشرقاوي والقاضي وأغات الينكرجية خلع سمور ثم رجعوا إلى منازلهم، ثم نُودِي في
جميع الأسواق بوقود أربع قناديل على كل دكان في تلك الليلة ومن لم يفعل ذلك
عُوقِب، ثم عملوا بالأزبكية حراقة نفوط ومدافع وسواريخ ولعبوا في المراكب طول ليلهم.»
٦١
وكان مما فعله الفرنسيون في ذلك اليوم أنهم طيَّروا بالونًا في ميدان
الأزبكية لم يستطع التحليق في الجو كثيرًا، فسقط وسبب ذعرًا شديدًا بين الأهلين
بدلًا من استثارة إعجابهم أو دهشتهم.
٦٢
وأمَّا آخر احتفالاتهم بعيد الجمهورية في هذه البلاد، فكان في عهد منو الذي
تسلم قيادة الحملة بعد مقتل كليبر، وصار الاحتفال به يوم ٢٢ سبتمبر ١٨٠٠م، وكان
مهرجانًا فاق في بهجته احتفال العام السابق، نثر منو في أثنائه الزهور
والرياحين على قبري كليبر وديزيه وخطب خطبة كبيرة،
٦٣ ولكن هذا الاحتفال على الرغم مما بذله منو من جهد في سبيل إحيائه
على نطاق واسع، لم يبلغ في رونقه احتفال بونابرت بهذا العيد في عام ١٧٩٨م، ولعل
السبب في ذلك أن الفرنسيين كانوا مشغولين بتلك الخلافات التي استفحل أمرها بين
جماعة الكليبريين وأنصار الاستعمار وتغير أكثر رجال الحملة من ناحية منو.
وفضلًا عن ذلك فقد كان القاهريون أنفسهم مشغولين بأسباب معاشهم وتدبير الأموال
اللازمة لدفع المغارم التي فُرضت عليهم، كما أنهم ما عادوا يهتمون بأمر هذه
الاحتفالات والزينات التي أكثر الفرنسيون من إقامتها ليس في عيد جمهوريتهم
فحسب بل في كل مناسبة طارئة.
فيكتفي الشيخ الجبرتي بتسجيل حوادث هذا العيد في عبارات قليلة فيقول: «وفي ٥ جمادى
الأولى ١٢١٥ﻫ/٢٢ سبتمبر ١٨٠٠م كان عيد الصليب، وهو انتقال الشمس لبرج الميزان والاعتدال
الخريفي، وهو أول سنة الفرنسيس، وهي السنة التاسعة من تاريخ قيامهم، ويسمى عندهم هذا
الشهر
وندميير، وذلك يوم عيدهم السنوي، فنادوا بالزينة بالنهار والوقدة بالليل، وعملوا شنكًا
ومدافعَ وحراقاتٍ ووقداتٍ بالأزبكية والقلاع، وخرجوا صبح ذلك اليوم بمواكبهم وعساكرهم
وطبولهم وزمورهم إلى خارج باب النصر وعملوا مصافهم، فقرئ عليهم كلام بلغتهم على عادتهم
وكأنه موعظة حربية ثم رجعوا بعد الظهر.»
٦٤ ولعل أهم ما كان يسترعي النظر في هذا أن «الكليبريين» اتخذوا من هذا الاحتفال
وسيلة لإظهار استيائهم من منو وعدم رضائهم عنه، فإنه ما انتهى استعراض الجنود في سهل
القبة
وألقى منو خطبته، وبدأ الجنود والقواد سمرهم ولهوهم المعتاد، وركبوا الزوارق المزينة
في
النيل؛ حتى شوهد الجنرال داماس أصدق أصدقاء الجنرال كليبر ومن أعداء منو الظاهرين يتوسط
النهر في مركب وقد زين صدره بالنياشين والتف حوله جماعة كبيرة من الكليبريين، بينما ظل
منو
قائد الحملة وحده في قاربه لا يحف به أحد. ثم ظهرت آثار الانقسام واضحة عندما أقام منو
حفلة
الرقص العامة في المساء، فلم يحضره غير قليلين من السيدات الفرنسيات اللواتي فضلن إحياء
هذا
العيد بمراقصة داماس ورينييه ولانوس وغيرهم من القواد الذين ناصبوا منو العداء السافر.
٦٥
ومن الوسائل التي حاول بها الفرنسيون أن يدخلوا البهجة على نفوسهم من جهة،
واسترعاء انتباه القاهريين وإثارة العجب والدهشة في نفوسهم، ثم إقامة الدليل
على مبلغ ما وصل إليه علماؤهم من قدرة ومهارة؛ كان إطلاق «البالونات» الهوائية
والمناطيد في سماء القاهرة، سواء في أثناء الاحتفال بالأعياد العامة أو في
حفلات أقاموها لهذا الغرض الخاص فحسب، فأجرى كونتيه
Conté مخترعهم أولى تجارب بالوناته هذه في أواخر شهر نوفمبر
١٧٩٨م، فبدءوا يوم ٢٩ نوفمبر بالاستعداد لذلك استعدادًا كبيرًا، «فكتبوا عدة
أوراق مطبوعة وألصقوها بالأسواق مضمونها أنهم يريدون في اليوم التالي أن
يطيِّروا مركبًا ببركة الأزبكية في الهواء بحيلة فرنساوية، فكثر لغط الناس في
هذا كعادتهم. فلما كان ذلك اليوم (٣٠ نوفمبر) قبل العصر تجمع الناس والكثير من
الإفرنج ليروا تلك العجيبة.» وطير كونتيه البالون. ولما كان لم يمضِ على حوادث
القاهرة المعروفة في الشهر السابق سوى أسابيع قليلة، فقد أسقط الفرنسيون من هذا
البالون عند ارتفاعه في الهواء آلاف المنشورات المكتوبة باللغة العربية،
٦٦ ولكن البالون لم يستمر في الجو طويلًا فسقط وسط ازدراء القاهريين
واستخفافهم.
ويصف الشيخ الجبرتي، الذي حضر المهرجان مع من حضر، ذلك البالون ثم ما حدث من
وقائع في أثناء المهرجان فيقول: «وكنت بجملتهم فرأيت قماشًا على هيئة الأوية على
عمود قائم وهو ملون أحمر وأبيض وأزرق على مثل دائرة الغربال، وفي وسطه مسرجة
بها فتيلة مغموسة ببعض الأدهان، وتلك المسرجة مصلوبة بسلوك من حديد منها إلى
الدائرة وهي مشدودة ببكر وأحبال وأطراف الأحبال بأيدي أناس قائمين بأسطحة
البيوت القريبة منها. فلما كان بعد العصر بنحو ساعة أوقدوا تلك الفتيلة فصعد
دخانها إلى ذلك القماش وملأه فانتفخ وصار مثل الكرة، وطلب الدخان الصعود إلى
مركزه فلم يجد منفذًا فجذبها معه إلى العلو فجذبوها بتلك الأحبال مساعدة لها
حتى ارتفعت عن الأرض، فقطعوا تلك الأحبال فصعدت إلى الجو مع الهواء ومشت هنيهة
لطيفة ثم سقطت طارتها بالفتيلة وسقط أيضًا ذلك القماش وتناثر منها أوراق كثيرة
من نسخ الأوراق المبصومة، فلما حصل لها ذلك انكسف طبعهم لسقوطها ولم يتبين صحة
ما قالوه من أنها على هيئة مركب تسير في الهواء بحكمة مصنوعة ويجلس فيها أنفار
من الناس ويسافرون فيها إلى البلاد البعيدة لكشف الأخبار وإرسال المراسلات، بل
ظهر أنها مثل الطيارة التي يعملها الفراشون بالمواسم والأفراح.»
٦٧ فكان هذا الحكم الأخير أقسى ما يمكن صدوره من أحكام على ناحية هامة
من نواحي نشاط علمائهم.
وكان من الطبيعي أن يحاول كونتيه استئناف تجاربه، فعمل تجربة جديدة بميدان
الأزبكية بعد فشله السابق بزمن قليل (٢٩ ديسمبر ١٧٩٨م)، واحتفل الفرنسيون لذلك
احتفالًا كبيرًا ولكن أحدًا من المصريين لم يظهر أي اهتمام بما كانوا يفعلون،
حتى إذا أخفق كونتيه في هذه المرة أيضًا واحترق المنطاد في الجو وسقطت بقاياه
على رءوس المتفرجين ذُعِر القاهريون ذعرًا شديدًا، ورسخ في أذهانهم أن الفرنسيين
إنما يحاولون صنع آلات حرب مدمرة كي يحرقوا بها مدن أعدائهم.
٦٨
وانتهز كونتيه بعد ذلك فرصة الاحتفال بإحياء ذكرى موقعة ريفولي
Rivoli المشهورة إبان الحملة الإيطالية، فاستعد
يوم هذه الذكرى (١٤ يناير ١٧٩٩م) بإطلاق منطاد آخر في الجو،
٦٩ وأعلن الفرنسيون عن هذا الحادث كعادتهم، «فكتبوا أوراقًا بتطيير
طيارة ببركة الأزبكية مثل التي سبق ذكرها وفسدت، فاجتمعت الناس لذلك وقت الظهر
وطيروها وصعدت إلى الأعلى ومرت إلى أن وصلت تلال البرقية وسقطت، ولو ساعدها
الريح وغابت عن الأعين لتمت الحيلة وقالوا إنها سافرت إلى البلاد البعيدة بزعمهم.»
٧٠
وهكذا لم يفلح الفرنسيون في استرعاء انتباه القاهريين أو إثارة إعجابهم
بجهودهم العلمية، بل نجحوا في إزعاجهم وتحريك مخاوفهم من جهة، وزيادة استخفافهم
بهم وازدرائهم ﻟ «حيلهم وتمويهاتهم» من جهة أخرى.
على أن أخطر ما كان المصريون يأخذونه عليهم ولا شكَّ أنهم تسببوا بما كانوا
يظهرونه من أنواع المجون والخلاعة في مهرجانات أعيادهم وفي مراقصهم و«دار
خلاعتهم»؛ في إفساد أخلاق أهل البلاد وتشجيع العامة على إتيان المخازي
والمعاصي ومشاركتهم في ارتكاب الآثام، فقد أثار سخط المصريين رؤيتهم القواد
وكبار رجال الإدارة الفرنسيين يعاشرون الجواري والزنجيات، والجنود يقصدون بيوت
الدعارة والمواخير التي زادت في أنحاء المدينة زيادة كبيرة، ويشاهدون السيدات
الفرنسيات غير محجبات ويراقصن الرجال في الشوارع وميدان الأزبكية في أثناء
الاحتفالات والمهرجانات التي سبق وصفها بل ويحضضن القاهريين على الغواية،
يدفعهن إلى ذلك — على حدِّ قول المعاصرين الفرنسيين أنفسهم — حب الاستطلاع أو
«عرض آخر»، فكثر تردد بعض فاسدي الأخلاق على هؤلاء الفرنسيات المتبذلات.
٧١
ولعل أظهر ما يمكن ملاحظته في هذه الناحية الخُلُقية سرعة انتشار المفاسد،
وانحطاط مستوى الأخلاق لدى طبقة معينة من طبقات المجتمع القاهري على أيام
الفرنسيين خصوصًا، وإن كان أهل الطبقات الوطنية الوسطى والعليا قد ظلوا
بتقاليدهم وعاداتهم لا تؤثر فيها أساليب عيش الفرنسيين المطبوعة على الخلاعة
والمجون، بل ازداد بغضهم لما يشاهدونه كل يوم من آثار هذه الخلاعة وهذا المجون.
وكأنما شعر الفرنسيون بجريرة آثامهم، فحرصت طائفة منهم على تشويه الخُلُق المصري،
ورسم بعضهم صورة قبيحة لتلك الحمامات العامة التي كان يختلف إليها الرجال
والنساء في أوقات معينة، كما بالغوا في وصف ما كان يفعله «البله» والمجاذيب
ومدَّعُو الولاية والدراويش
٧٢ وذلك حتى يخففوا من أوزارهم. غير أنه سرعان ما انبرى فريق آخر منهم
يدفع تلك الاتهامات المعيبة التي ألصقها مغرضو الفرنسيين بالمختلفين إلى
الحمامات العامة، ويصف مظاهر الاحترام التي كان المصريون يبدونها لأصحاب
الولاية وأدعيائها تبركًا بهم وصفًا مجردًا عن الهوى.
٧٣ حقيقة كان هذا الاحترام يخرج ببعض النسوة عن جادة الاعتدال في
إظهاره، ويدفعهن إلى محاولة التبرك بهؤلاء بوسائل وطرائق لا يقرها عقل أو شرع
أو دين، ولكن العسكر الفرنسيين من المستهترين المطبوعين على حب المفاسد
والمخازي سرعان ما صاروا يقصدون الأزقَّة والحارات والدروب التي يكثر فيها وجود
هؤلاء الأولياء والبله والمجاذيب ويتربصون بالنساء، حتى إذا مرت إحداهن
وشاهدوها تطلب البركة بما جرت عليه عادات النسوة من الدهماء في ذلك العصر بادر
الفرنسيون بارتكاب فعالهم الذميمة.
وكان مما ساعد على انتشار هذه المفاسد تجوُّل الراقصات والمغنيات «العلمات» من
الطبقة الوضيعة في الطرقات والشوارع يعرضن بضاعتهن المرذولة، وقد وجدن جميعًا
في ذلك الانحلال الخُلُقي الذي صحب مجيء الفرنسيين إلى هذه البلاد فرصة مواتية
لنبذ التقاليد والإمعان في الضلالة حتى عظم الخطب وعم البلاء ووقعت على
الفرنسيين أنفسهم مغبة ذلك كله، فكثر عدد جنودهم المرضى بالأمراض الجلدية
والزهرية، واضطروا إلى فرض رقابة صارمة لمنع جنودهم من الاختلاط بالنساء
الساقطات، وأصدروا أوامرهم لعزل هاته النسوة ممن يثبت أن لهن علاقات
بالفرنسيين، وانتهز أغا الإنكشارية هذه الفرصة فقبض على حوالي أربعمائة منهن ما
لبث أن وضعهن في أكياس وقذف بهن في النيل.
٧٤ وانتهى الأمر بأن اضطر منو بعد ذلك إلى مخاطبة أعضاء الديوان في
ضرورة اتخاذ إجراءات حاسمة لمعالجة هذه الفوضى الأخلاقية،
ولما كان هؤلاء يتوقون لإزالة هذه المساوئ والشرور التي لا يقرها دين أو عرف،
فقد كتبوا إليه أن الدين الحنيف يمنع هذه المعاصي ورجوه أن يعجل باستصدار
الأوامر الحازمة لوقفها وإبطالها، وفعل منو ذلك.
٧٥
البدع الجديدة
على أن اهتمام السلطات الفرنسية ما كان يستهدف في الحقيقة، عندما عزمت على
مطاردة الساقطات ومنع الجنود من معاشرتهن، سوى المحافظة على صحة هؤلاء الجنود
ورجال الحملة عمومًا وقبل أي اعتبار آخر، وآية ذلك أن هذا الإجراء «الحكيم» كان
أحد تلك الإجراءات العديدة التي لجأ إليها أطباء الحملة ورؤساؤها لمنع انتشار
العدوى ومكافحة الأمراض، وكان أشد ما يخشاه هؤلاء وباء الطاعون فبذلوا جهودًا
صادقةً في سبيل المحافظة على الصحة العامة في البلاد، ولازمهم التوفيق في بعض
مساعيهم ولا شكَّ عندما أدرك المصريون — سواء في القاهرة أم في سائر المدن
الكبيرة والأقاليم — مبلغ ما يجنونه من فائدة استشارة الأطباء الفرنسيين وقبول
المعالجة على أيديهم، ولكن التوفيق سرعان ما خان الفرنسيين عندما صاروا يتحسمون
في مكافحة وباء الطاعون، ويتخذون من الإجراءات اللازمة للحيطة من هذا الوباء ما
نفَّر منهم قلوب المصريين وسبب سخطهم عليهم.
بدأ الفرنسيون في مشاريعهم الطبية بدءًا حسنًا، فكان أول ما عُنِي به بونابرت
بعد انتصار إمبابة إنشاء المستشفيات العسكرية في الجيزة وبولاق ومصر العتيقة
والقاهرة، كما أنشأ كليبر في الإسكندرية ومنو في دمياط عددًا من المستشفيات
كذلك، ثم لم يمضِ زمن طويل حتى كانت قد أُنشئت المستشفيات العسكرية في مراكز
الحاميات جميعًا. وفضلًا عن ذلك قام أطباء الحملة بدراسة مختلف الأمراض
والأوبئة المنتشرة في مصر، فدرس كارييه Carrié حالة الصحة العامة في منوف، وحذا حذوه سافرسي Savaresi في دمياط والصالحية، وريناتي Renati في مصر العتيقة، وسيريسول Ceresole في الجهات التي زارها في أثناء
رحلة قام بها من القاهرة إلى أسيوط. كما أتم بروانت Bruant بحوثًا مفيدةً في أمراض الرمد والدوسنطاريا، وأعد
باربيز Barbés مذكرة مسهبة عن الأمراض
المتفشية بين مرضى مستشفى مصر العتيقة. وحدث ذلك كله تحت إشراف ديجنت Desgenettes كبير أطباء الحملة الذي أوصى
معاونيه بفحص المرضى من الفرنسيين والمصريين على السواء قبل تدوين
ملاحظاتهم.
ثم أنشأ بونابرت غداة وصوله إلى الإسكندرية معزلًا صحيًّا لمراقبة الوافدين
على البلاد، وما إن دخل القاهرة حتى أمر بتأليف «لجنة صحية» عهد إليها بتطبيق
قواعد الحجر الصحي السارية في معازل موانئ البحر الأبيض المتوسط، كما أنشأ بعد
قليل مكتبًا للصحة والنظافة للقاهرة ومصر العتيقة وبولاق كلف فرانك
Franke
أحد
أطباء الجيش بالإشراف عليه، وساهم ديجنت في ذلك كله بنصيب وافر. ثم أُنشئت
ثلاثة معازل جديدة — أو «كرنتيلة» — أحدها في القاهرة والآخر في رشيد والثالث
في دمياط.
٧٦ وزار ديجنت بصحبة الشيخ عبد الله الشرقاوي «مارستان» القاهرة
وكان الشيخ من القائمين على إدارته، فوجد به ديجنت عددًا من الأسرَّة المصنوعة
من الخشب لا يزيد على خمسة وعشرين تعلوها الفرش القذرة الرديئة أو الحصر وذلك
عدا خمسين سريرًا منحوتة من الحجارة، ويؤوي المارستان سبعة وعشرين مريضًا
وأربعة عشر مجنونًا نساءً ورجالًا، يعيشون جميعًا على جرايات من الخبز والأرز
والعدس، ولا يُعنَى بعلاجهم أحد، ولا يوجد بهذا المستشفى العتيق دواء ولا يعالج
مرضاه، بينما تربط المجانين السلاسل بالحائط وينتظر الجميع الموت للخلاص من
أدوائهم، فعُني ديجنت بإصلاح ذلك كله.
٧٧
ومما يجدر ذكره أن المصريين لم ينفروا من هذه المستشفيات التي أنشأها
الفرنسيون، ولم يجدوا غضاضة في عرض أنفسهم على أطبائها وتناول ما يُعطَى لهم من
دواء، بل إن سيريسول استطاع أن يفحص عديدين من المرضى في أثناء وجوده
بالصعيد، ولم تحجم النساء عن عرض أنفسهن كذلك على هذا الطبيب مع ما عُرِف عن شدة
تمسك أهل الصعيد بعاداتهم وتقاليدهم الصارمة.
ولكن ما كاد يبدأ الفرنسيون إجراءات مكافحة الطاعون والمحافظة على الصحة
العامة في المدن خصوصًا، كإرغام الأهلين على نشر متاعهم وملابسهم على أسطحة
المنازل وفي أفنائها حتى تقتل الشمس جراثيم المرض، وتطهير المنازل وتنظيفها
ورشها، ثم ما يترتب على ذلك من اقتحام بيوت الناس لتفتيشها ومراقبة تنفيذ
أصحابها لإرشاداتهم وتعليماتهم الصحية؛
٧٨ حتى عظمت شكوى الأهلين وعظم نفورهم من إجراءات الفرنسيين الصارمة
وسخطهم عليها، وبخاصة عندما مضى هؤلاء ينفذون إجراءاتهم دون مبالاة بشعور
الأهالي، ويستخفون بعاداتهم وتقاليد بيوتهم، ويحطمون أمتعتهم ويمزقون ملابسهم،
ويفرضون عليهم غرامات مالية مرهقة إذا امتنع أحدهم عن تبليغ السلطات بوجود مريض
لديه أو نزول ضيف وفد عليه من بلد بعيد واستطاع دخول القاهرة دون أن يفحصه
أطباء المعازل أو يمضي المدة القانونية بالمعازل، بل إن الفرنسيين ما لبثوا أن
أصدروا تعليمات فيما ينبغي اتخاذه عند دفن الموتى، وشددوا على الأهلين بضرورة
تنفيذها وإلَّا تعرضوا للعقوبات الصارمة.
ويذكر الشيخ الجبرتي شيئًا كثيرًا مما نال القاهريين من عنت وإرهاق بسبب هذه
الإجراءات التي أراد الفرنسيون من اتخاذها مكافحة وباء الطاعون، فيقول الشيخ في
حوادث ١٦ ربيع الثاني ١٢١٣ﻫ/٢٧ سبتمبر ١٧٩٨م: «وفيه نبهوا على الناس بالمنع من
دفن الموتى بالتُّرب القريبة من المساكن كتربة الأزبكية والرويعي ولا يدفنون
الموتى إلَّا في القرافات البعيدة، والذي ليس له تربة بالقرافة يدفن ميته في ترب
المماليك وإذا دفنوا يبالغون في تسفيل الحفر، ونادوا أيضًا بنشر الثياب
والأمتعة والفرش بالأسطحة عدة أيام وتبخير البيوت بالبخورات المذهبة للعفونة.
كل ذلك للخوف من حصول الطاعون وعدواه، ويقولون إن العفونة تنحبس بأغوار الأرض
فإذا دخل الشتاء وبردت الأغوار بسريان النيل والأمطار والرطوبات خرج ما كان
منحبسًا بالأرض من الأبخرة الفاسدة، فيتعفن الهواء فيحصل الوباء
والطاعون.
ومن قولهم أيضًا إن مرض مريض لا بدَّ من الإخبار عنه فيرسلون من جهتهم
حكيمًا للكشف عليه إن كان مرضه بالطاعون أو بغيره ثم يرون رأيهم فيه.»
وقال الشيخ في حوادث (أول جمادى الأولى ١٢١٣ﻫ / ١١ أكتوبر ١٧٩٨م): «وفي ذلك اليوم
نُودِي في
الأسواق بنشر الثياب والأمتعة خمسة عشر يومًا، وقيدوا على مشايخ الأخطاط والحارات والقلقات
بالفحص والتفتيش، فعيَّنوا لكل حارة امرأة ورجلين يدخلون البيوت للكشف عن ذلك، فتصعد
المرأة
إلى أعلى الدار وتخبرهم عن صحة نشرهم الثياب ثم يذهبون بعد التأكيد على أهل المنزل والتحذير
من ترك الفعل وكل ذلك لذهاب العفونة الموجبة للطاعون، وكتبوا بذلك أوراقًا ألصقوها بحيطان
الأسواق على عادتهم في ذلك.»
وفي ٢٤ مارس ١٧٩٩م «رتبوا أوامر وكتبوها في أوراق مبصومة وألصقوها بالأسواق
إحداها بسبب مرض الطاعون وأخرى بسبب الضيوف الأغراب. ومضمون الأولى بتقاسيمه
ومقالاته خطابًا لأهل مصر وبولاق ومصر القديمة ونواحيها: إنكم تمتثلون هذه
الأوامر وتحافظون عليها ولا تخالفوها، وكل من خالفها وقع له مزيد الانتقام
والعقاب الأليم والقصاص العظيم، وهي المحافظة من تشويش الكبة. وكل من تيقنتم أو
ظننتم أو توهمتم أو شككتم فيه ذلك في محل من المحلات أو بيت أو وكالة أو ربع
يلزمكم ويتحتم عليكم أن تعملوا كرنتيلة، ويجب قفل ذلك المكان ويلزم شيخ الحارة
أو السوق الذي فيه ذلك أن يخبر حالًا قلق الفرنساوية حاكم ذلك الخط، والقلق
يخبر شيخ البلد قائمقام مصر وأقاليمها ويكون ذلك فورًا، وكذلك كل ملة من سكان
مصر وأقاليمها وجوانبها. والأطباء إذا تحققوا وعلموا حصول ذلك المرض يتوجه كل
طبيب إلى قائمقام ويخبره ليأمره بما هو مناسب للصيانة والحفظ من التشويش. وكل
من كان عنده خبر من كبار الأخطاط أو مشايخ الحارات وقلقات الجهات ولم يخبر بهذا
المرض يُعاقب بما يراه قائمقام ويُجازَى مشايخ الحارات بمائة كرباج جزاءً للتقصير.
وملزوم أيضًا من أصابه هذا التشويش أو حصل في بيته لغيره من عائلته أو عشيرته
وانتقل من بيته إلى آخر، يكون قصاصه الموت وهو الجاني على نفسه بسبب انتقاله.
وكل رئيس ملة في خط إذا لم يخبر بالكبة الواقعة في خطه أو بمن مات بها أيضًا
حالًا فوريًّا كان عقاب ذلك الرئيس وقصاصه الموت، والمغسل إن كان رجلًا أو
امرأة إذا رأى الميت أنه مات بالكبة أو شكَّ في موته ولم يخبر قبل مضيِّ أربع
وعشرين ساعة كان جزاؤه وقصاصه الموت …
(ومضمون الثانية) … أنه يتحتم ويلزم كل صاحب خمارة أو وكالة أو بيت الذي يدخل
في محله ضيف أو مسافر أو قادم من بلدة أو إقليم؛ أن يعرف عنه حالًا حاكم البلد
ولا يتأخر عن الإخبار إلَّا مدة أربعة وعشرين ساعة، يعرفه عن مكانه الذي قدم منه
وعن سبب قدومه وعن مدة سفره ومن أي طائفة أو ضيفًا أو تاجرًا أو زائرًا أو
غريمًا مخاصمًا، لا بدَّ لصاحب المكان من إيضاح البيان والحذر أتم الحذر من
التلبيس والخيانة، وإذا لم يقع تعريف عن كامل ما ذُكر في شأن القادم بعد الأربعة
وعشرين ساعة بإظهار اسمه وبلده وسبب قدومه يكون صاحب المكان معتديًا ومذنبًا
وخائنًا وموالسًا مع المماليك. (وقد فُرضت غرامة على) معاشر الرعايا وأرباب
الخمامير والوكائل عشرين ريالًا فرانسة في المرة الأولى، وأمَّا في المرة
الثانية فإن الغرامة تُضاعف ثلاث مرات. وأخبروا هؤلاء أن الأمر بهذه الأحكام
مشترك بينهم وبين الفرنسيس الفاتحين للخمامير والبيوت والوكائل.»
٧٩
ولا شكَّ في أن هذه كانت أوامر صارمة وأن الفرنسيين لم يحجموا عن تنفيذها بكل
شدة، وذلك في حين أن القاهريين — بل وأهل البلاد عمومًا — ما كان في استطاعتهم
عدا قلة ضئيلة منهم أن يدركوا أغراض الفرنسيين من اتخاذ كل هذه الإجراءات
وفرض العقوبات القاسية على مخالفي تعليماتهم وإرشاداتهم، بل عدَّ القاهريون هذا
العمل وسيلة لإرهاقهم والحد من حرياتهم وتدخلًا من جانب «الإدارة» وسلطات
الاحتلال في أخص شئونهم.
٨٠
قال الشيخ الجبرتي تعليقًا على أوامر جديدة تشبه سابقتها وأصدرها الفرنسيون
في غضون شهر سبتمبر ١٧٩٩م إن الناس كانوا «يأنفون» من إرغامهم على «نشر الحوائج
وتشدد الفرنسيين في ذلك بالتفتيش والنظر يقوم به جماعة من طرف مشايخ
الحارات ومع كل منهم عسكري من طرف الفرنساوية وامرأة أيضًا للكشف على أماكن
النساء … ويستثقلونه ويستعظمونه، وتحدِّثهم أوهامهم بأمور يتخيلونها كقولهم
إنما يريدون بذلك الاطِّلاع على أماكن الناس ومتاعهم، مع أنه لم يكن شيء سوى
التخوف من العفونة والوباء.»
٨١ وقد تقدم في مواضع عدة من هذا الكتاب كيف اشتد تذمر القاهريين على
وجه الخصوص عندما اشتدت وطأة وباء الطاعون إبان حصار مدينتهم في أواخر أيام الحملة
(فبراير–مايو ١٨٠١م)، واضطر بليار إلى اتخاذ إجراءات صارمة في سبيل
مكافحته.
وكان من الوسائل التي لجأ إليها الفرنسيون من أجل المحافظة على الصحة العامة
في القاهرة ومكافحة الوباء، أنهم صاروا يرغمون الأهالي على كنس الشوارع
والحارات والدروب ورشها، ويوقعون عقوبات صارمة على كل من يقصر في ذلك. وقد شكا
الفرنسيون عند دخولهم القاهرة أن شوارعها كانت ضيقة قذرة وتنبعث منها الروائح
العفنة الكريهة، بل وتتراكم الأقذار بالشوارع لدرجة أن لا يأمن السائر بها من
الانزلاق في أوحالها. لم يكن السبب في ذلك على خلاف ما اعتقد كثيرون منهم أن
القاهريين كانوا لا يُعْنَوْن بنظافة شوارعهم وبيوتهم، وإنما كان سبب تراكم هذه
الأقذار أن القاهريين شُغِلوا عن العناية بكنس الشوارع ورشها بما كان في نظرهم
أهم من ذلك وأولى بعنايتهم؛ عندما زحف بونابرت وجيشه على عاصمة بلادهم وبات
على مسافة قريبة من القاهرة، وأخذ البكوات إبراهيم ومراد وأتباعهما العدة
لمقابلة العدو ودحره، وتقاطرت جموع الفلاحين وأهل القرى والبلدان المجاورة على
العاصمة ليشتركوا مع أهلها في الدفاع عنها، ودأب القاهريون على الخروج كل صباح
إلى بولاق حيث كان إبراهيم بك قد عسكر بجيشه، فلا يعودون إلى بيوتهم إلَّا بعد
انقضاء النهار ودخول الليل وهم في تعب وإعياء شديدين، ولم يكن لدى القوم متسع
من الوقت لكنس الشوارع ورشها أو حتى العناية ببيوتهم، فغدت «الأسواق مصفرة
والطرق مجفرة من عدم الكنس والرش.»
ووصف الشيخ الجبرتي حال القاهرة قبيل الهزيمة الحاسمة في إمبابة فقال: «ومحصل
الأمر أن جميع من بمصر من الرجال تحول إلى بولاق وأقام بها من حين نصب إبراهيم
بك العرضى هناك إلى وقت الهزيمة، سوى القليل من الناس الذين لا يجدون لهم مكانًا
ولا مأوى، فيرجعون إلى بيوتهم يبيتون بها ثم يصبحون إلى بولاق، وأرسل إبراهيم بك
إلى العربان المجاورة لمصر ورسم لهم أن يكونوا في المقدمة بنواحي شبرا وما
والاها، وكذلك اجتمع عند مراد بك الكثير من عرب البحيرة والجيزة والصعيد
والخبيرية والقيعان وأولاد علي والهنادي وغيرهم. وفي كل يوم يتزايد الجمع ويعظم
الهول ويضيق الحال بالفقراء الذين يحصِّلون أقواتهم يومًا فيومًا، لتعطل الأسباب
واجتماع الناس كلهم في صعيد واحد.»
٨٢
وعاصمة هذه حالها ما كان يُنتظر من أهلها وقد دهمتهم الخطوب ووُضع مصيرهم في
الميزان أن يجدوا متسعًا من الوقت لتنظيف الشوارع وكنسها، ولا عجب إذا وجد
الفرنسيون عند دخولهم القاهرة أن شوارعها كانت قذرة وفي حاجة ملحة للكنس
والرش. ومع أنه كان من المنتظر عند استقرار الأمور أن يعمد القاهريون إلى تنظيف
عاصمتهم، فقد تعجل الحكام الجدد الأمر خوفًا من انتشار الأمراض ولا شك، ورغبة
منهم في المحافظة على سلامة جنودهم ورجالهم، فأصدروا أوامرهم المشددة بضرورة
كنس الشوارع ورشها وتنظيف المنازل مرتين كل يوم. وكان من الطبيعي أن ينفر
القاهريون من هذه الأوامر التي لم يدركوا لها غاية سوى رغبة هؤلاء الحكام الجدد
في التدخل في شئونهم، وما أعطاهم النصر من قوة وسلطان يبغون بهما الحد من حريات
الأفراد الشخصية أو أنهم كانوا يضمرون أغراضًا خفية، فتذمروا من هذا الإرغام.
٨٣ وقد ظلت «مشكلة الكنس والرش» قائمة إلى وقت رحيل الفرنسيين من
القاهرة، حتى إذا دخلها العثمانيون والبكوات أقبل القاهريون على تنظيف شوارع
القاهرة «وحصل الاعتناء وبذل الناس جهودهم»، وانتهزوا فرصة الاحتفال بالمولد
النبوي الشريف — على نحو ما قدمنا — «فزيَّنوا حوانيتهم بالشقق والحرير
والزردخان والتفاصيل الهندية»،
٨٤ وما كانوا يفعلون شيئًا من ذلك أيام الاحتلال الفرنسي.
وكما تذمر القاهريون من أوامر الكنس والرش، فقد اشتد سخطهم عندما أرغمهم
الفرنسيون كذلك على إضاءة الشوارع والحارات والأسواق بالقناديل، ووقعوا
العقوبات على المقصرين في ذلك، «فنادوا بوقود قناديل سهاري بالطرق والأسواق،
وطلبوا أن يكون على كل دار قنديل وعلى كل ثلاثة دكاكين قنديل.»
٨٥ ثم ما لبثوا أن «نادوا بإبطال القناديل التي تُوقَد في الليل على
البيوت والدكاكين، وأن يوقدوا عوضها في وسط الطريق مجامع في كل مجمع أربعة
قناديل بين كل مجمع ثلاثون ذراعًا، ويقوم بذلك الأغنياء دون الفقراء ولا
علاقة للقلقات (وهم حكام الأخطاط) في ذلك، ففرح بذلك فقراء الناس وانفرجت عنهم
هذه الكربة.»
٨٦ وقد كان إرغامهم على إضاءة هذه القناديل «كربة» حقيقية؛ ذلك أن
الحراس كانوا يطوفون في أثناء الليل لملاحظة القناديل المعلقة على البيوت، فإذا
وجدوا أن الريح قد عبث بها أو فرغ الوقود فانطفأت طرقوا أبواب بيوت أصحابها في
أي وقت من الليل وأخرجوهم من فراشهم لإضاءتها من جديد، وقد يحدث ذلك أكثر من
مرة مما سبب انزعاجًا شديدًا.
قال الجبرتي: وكثر «تعدي القلقات وتشديدهم على وقود القناديل بالأزقَّة وهم (أي
القلقات) من أهل البلد، وإذا مروا بالليل ووجدوا قنديلًا أطفأه الهواء أو فرغ
زيته سمروا الحانوت أو الدار التي هو عليها ولا يقلعون المسمار حتى يصالحهم
صاحبها على ما أحبوه من الدراهم وربما تعمدوا كسر القناديل لأجل ذلك. واتفق أن
المطر أطفأ عدة قناديل بسوق أمير الجيوش بسبب كونها في ظروف من الورق والجريد
فابتل الورق وسال الماء فأطفأ القناديل، فسمروا حوانيت السوق وأصبح أهلها
صالحوا عليها. ووقع مثل ذلك في طرق عديدة فجمعوا في ذلك اليوم جملة من الدراهم،
وأمثال ذلك حتى في الأزقَّة والعُطَف غير النافذة حتى كان الناس ليس لهم شغل
إلَّا القناديل وتفقد حالها وخصوصًا في ليل الشتاء الطويل.»
٨٧ وكان الغرض من إرغام القاهريين على إضاءة شوارع مدينتهم حرص
الفرنسيين على سلامة جنودهم الذين قد يتأخر أحدهم في السهر، فلا يأمن على نفسه
من الاعتداء في شوارع القاهرة المظلمة عند عودته إلى معسكره.
٨٨
وكان من أثر حرص الفرنسيين على سلامة جنودهم من جهة ثم خوفهم المستمر من أن
يجنح القاهريون إلى الثورة ضدهم، وبخاصة بعد حوادث ثورتهم الأولى في أكتوبر
١٧٩٨م؛ أنهم أصروا على هدم أبواب الحارات والدروب، وكانت هذه الأبواب مصنوعة من
الخشب الثقيل، وفي استطاعة الأهلين إذا أغلقوها أن يتحصنوا في داخل أحيائهم عند
حدوث الفتنة ونشوب الثورة، وأن يعرقلوا عمل الحراس والشُّرَطة في الأوقات العادية
ويمنعوهم من الجولة في أحيائهم. ومع أن الفرنسيين عند دخولهم القاهرة كانوا قد
أمروا بإزالة هذه الأبواب وعهدوا بذلك إلى «القلقات»، فقد استطاع عديدون
«المصالحة عليها» ورشَوا «القلقات والوسايط على إبقائها» فتُرِكت «وسومح
أصحابها»، حتى إذا وقعت الثورة نشط الفرنسيون في إزالة الأبواب التي تُرِكت
وخصوصًا أبواب الدروب في الحسينية، «فقلعوها ونقلوها إلى ما جمعوه من البوابات
بالأزبكية، ثم كسروا جميعها وفصلوا أخشابها ورفعوا بعضها على العربات إلى حيث
أعمالهم بالنواحي والجهات وباعوا بعضها حطبًا للوقود، وكذلك ما بها من الحديد وغيره»،
٨٩ فأزعج هذا العمل القاهريين إزعاجًا شديدًا.
وكانت قد تطايرت الإشاعات عندما بدأ الفرنسيون عقب دخولهم القاهرة يهدمون
أبواب الحارات والدروب عن أغراض الفرنسيين من هدم هذه الأبواب التي شعر
المصريون أن في وجودها باعثًا على الطمأنينة والهدوء، فكان مما أشيع وقتئذٍ أن
الفرنسيين إنما فعلوا ذلك لغرض واحد هو مفاجأة المسلمين وقت صلاة الجمعة
وذبحهم. وكان مما أثار تذمرهم أن الفرنسيين عمدوا كذلك إلى جمع ما كان معهم من
أسلحة اعتادوا الاحتفاظ بها لاستخدامها في الدفاع عن أنفسهم وأموالهم، فاعتقد
القاهريون أن الغرض من نزع سلاحهم هو رغبة الفرنسيين في الاعتداء على حياتهم
وممتلكاتهم وعقائدهم، دون أن يكون بأيديهم ما يدفعون به عن أنفسهم ذلك الأذى البليغ.
٩٠
وحدث وسط هذا الاضطراب أن طلب بونابرت من المشايخ والعلماء أن يضعوا على صدورهم
شارة الثورة
Cocarde، أو «الجوكار» كما يسميها الشيخ
الجبرتي الذي وصف هذه الواقعة فقال: وفي يوم ٢٠ ربيع الأول ١٢١٣ﻫ (وأول سبتمبر ١٧٩٨م):
«طلب
ساري عسكر بونابرته المشايخ، فلما استقروا عنده نهض بونابرته من المجلس ورجع وبيده طيلسانات
ملونة بثلاثة ألوان كل طيلسان ثلاثة عروض أبيض وأحمر وكحلي، فوضع منها واحدًا على كتف
الشيخ
الشرقاوي فرمى به إلى الأرض واستعفى وتغير مزاجه وامتُقع لونه واحتد طبعه، فقال الترجمان:
يا
مشايخ أنتم صرتم أحبابًا لساري عسكر وهو يقصد تعظيمكم وتشريفكم بزيه وعلامته، فإن تميزتم
بذلك عظمتكم العساكر والناس وصار لكم منزلة في قلوبهم. فقالوا له: لكن قدرنا يضيع عند
الله
وعند إخواننا من المسلمين. فاغتاظ لذلك وتكلم بلسانه وبلَّغ عنه بعض المترجمين أنه قال
عن
الشيخ الشرقاوي إنه لا يصلح للرياسة ونحو ذلك، فلاطفه بقية الجماعة واستعفوه من ذلك،
فقال: إن
لم يكن ذلك فلازم وضعكم الجوكار في صدوركم، وهي العلامة التي يقال لها الوردة، فقالوا:
أمهلونا حتى نتروى في ذلك. واتفقوا على اثني عشر يومًا، وفي ذلك الوقت حضر الشيخ السادات
باستدعاء فصادفهم منصرفين، فلما استقر به الجلوس بشَّ له وضاحكه ساري عسكر ولاطفه في
القول
الذي يعربه الترجمان، وأهدى له خاتم ألماس وكلفه الحضور في الغد عنده، وأحضر له جوكار
أوثقه
بفراجته فسكت وسايره وقام وانصرف، فلما خرج من عنده رفعه على أن ذلك لا يخل بالدين.»
٩١
وعلى الرغم مما بدا من تذمر المشايخ وسخطهم وهم القادة وأصحاب الرأي بين
المصريين، فقد عمد الحكام الفرنسيون في المدن والمديريات إلى استخدام القوة
لإرغام الأهالي على حمل هذه الشارة، كما أنهم ما لبثوا أن رفعوا العلم الفرنسي
المثلث الألوان على مآذن الجوامع في القاهرة والأقاليم وعلى الأبراج والقلاع
وعلى المراكب والجُرُوم التي تسير في النيل. فلما اشتد السخط وشعر الفرنسيون
بوجود ذلك التذمر الذي سببه على الخصوص مضيهم في إجراءاتهم وتنظيماتهم المالية،
وخشوا من انفجار بركان الغضب؛ خفَّ تشددهم في ضرورة حمل هذه الشارة رويدًا
رويدًا، حتى صدر الأمر أخيرًا بإنهاء المطالبة بحملها وأُنزلت الأعلام من على
المآذن، وظلت الراية المثلثة الألوان ترفرف فقط على دور الحكومة ومبانيها الرسمية،
٩٢ وإن لم يحدث ذلك إلَّا بعد فوات الفرصة وبعد أن تضافرت كل تلك
العوامل — وكانت مسألة «الجوكار» من بينها — التي أفضت إلى تحريك الثورة في
القاهرة.
وكان من أسباب التذمر والسخط أن طوائف الأروام والنصارى والشوام واليهود
كانوا قد انتهزوا فرصة مجيء الفرنسيين إلى هذه البلاد، فأرادوا أن يقضوا على كل
تلك التقاليد والعادات التي حتمت عليهم احترام شعائر المسلمين وميزت هؤلاء
منهم، ولم يجدوا في محاولاتهم زاجرًا أو رادعًا من الفرنسيين، فقد امتنع على
المسيحيين واليهود قبل الغزو الفرنسي بحكم هذه التقاليد لبس العمامة الخضراء أو
الحمراء أو البيضاء أو التدثر بالشيلان الفاخرة أو انتعال «المراكيب» الحمراء
أو الصفراء، كما جرت التقاليد بأن يترك المسيحيون واليهود الجانب الأيمن من
الشارع لسير المسلمين، وأن يترجلوا عن ركائبهم إذا مروا بجامع من الجوامع
تعظيمًا وتقديسًا، وامتنع عليهم ركوب الخيل والبغال، وما كان أحدٌ منهم يجرؤ
على تناول الطعام والشراب علنًا وفي الأسواق أو الشوارع طوال شهر الصوم أو
التدخين بحال من الأحوال،
٩٣ ولكن ما إن حضر الفرنسيون حتى تغير ذلك كله.
فقد ذكر الشيخ الجبرتي من حوادث شهر شعبان ١٢١٣ﻫ (يناير ١٧٩٩م): «ترفُّع أسافل
النصارى من القبط والشوام والأروام واليهود وركوبهم الخيل وتقلدهم بالسيوف بسبب
خدمتهم للفرنسيس ومشيهم الخيلاء وتجاهرهم بفاحش القول واستذلالهم المسلمين، كل
ذلك بما كسبت أيديهم وما ربك بظلَّام للعبيد، والحال الحال والمركوز في الطبع ما
زال، والبعض استهوته الشياطين ومرق والعياذ بالله من الدين، ولا حول ولا قوة
إلَّا بالله العلي العظيم.»
٩٤ وواقع الأمر أن بعض هؤلاء لم «يمرقوا من الدين» مجاراة للفرنسيين
الذين جاءوا ملاحدة إلى هذه البلاد وبعد أن نبذوا الدين ظِهريًّا فحسب، بل إنهم
سرعان ما ركبوا رءوسهم وصاروا لا يقنعون بإزالة ما كان يفصلهم من فوارق عن أهل
الدين الحنيف بل أرادوا الاستعلاء على المسلمين، وانتهزوا استخدام الفرنسيين
لهم في جباية الضرائب واعتمادهم عليهم في تحصيل المغارم، فاشتطوا في طلب
الأموال وأوقعوا بإخوانهم المسلمين صنوفًا شتى من المظالم — باعتراف مؤرخي
الحملة أنفسهم — وكانوا يسخرون منهم ويَهْزَءون بهم.
ومع أن القاهريين كانوا يجأرون بالشكوى من هذه المظالم، فإن شيئًا من شكاواهم
ما كان يبلغ سلطات الاحتلال البغيض، ثم زاد الحال سوءًا عندما تعمد الأروام
والشوام واليهود جرح شعور المسلمين وتحطيم العادات والتقاليد، فصاروا يرتكبون
المعاصي والمخازي جهرة ودون احتشام، ويأكلون ويشربون ويدخنون خلال شهر الصوم
وعلى مرأى من المسلمين، ولم يستطع المسلمون الذين ساءتهم هذه الفعال أن يكتموا
غيظهم فكانت المعارك التي سالت فيها الدماء واختل بسببها حبل الأمن، وأخفق
برطلمين على قسوته وصرامته في منع هذه المعارك الحامية، وعجز القاضي وأغا
الإنكشارية عن فض الخصومات وإعادة الأمور إلى نصابها. وبلغ من جرأة هؤلاء
«النصارى» أنهم صاروا يسعون لإثارة الفتنة بين القاهريين والفرنسيس، فأبلغوا
الأخيرين (فبراير ١٧٩٩م) أن المسلمين ينتوون «الوثوب على الفرنسيس»، وكانت هذه
تهمة خطيرة وبخاصة بعدما وقع من حوادث القاهرة الأولى، غير أنه سرعان ما تبين
للفرنسيين كذبهم، ولم يسعهم إزاء ذلك كله إلَّا أن يصدروا أوامرهم القاطعة
بإرغام المسيحيين واليهود على اتباع العادات والتقاليد السابقة، وإلزامهم بلبس
العمامة الزرقاء أو الكحلية القاتمة أو السوداء، ومنعهم من الأكل والشرب جهرة
طوال شهر رمضان.
٩٥
(١-٣) الأثر السياسي
تضافرت كل هذه العوامل إذن لإثارة غضب القاهريين وسخطهم، فكان لا مناص من اشتعال
الثورة ضد الفرنسيين في النهاية بسبب سياستهم المالية من جهة، ثم بسبب تلك التدابير
التي اتخذوها لمكافحة وباء الطاعون، وإرغام المصريين على حمل شارة «الجوكار»، وما
حدث من استعلاء «النصارى واليهود» على المسلمين واستهتارهم بالعادات والتقاليد، ثم
بفضل تلك المساعي التي كان يبذلها الباب العالي والبكوات المماليك لإشعال نار
الثورة في مصر، فضلًا عما كان يرتكبه الفرنسيون وأعوانهم وطبقات العامة التي
جاراهم أفرادها من المعاصي والمخازي. وليس من شكٍّ في أن الفرنسيين لو ترفقوا في
مشاريعهم وأساليبهم المالية والإدارية وحرصوا على احترام تقاليد أهل البلاد
وعاداتهم حقيقة، بدلًا من استصدار الأوامر وإذاعة المنشورات وإلقاء الخطب في
الديوان والكلام الكثير الذي لا طائل تحته ولا جدوى منه لإقناع القاهريين بحسن
نواياهم، ثم حاولوا فهم نفسية أو «سيكولوجية» تلك الشعوب التي رغبوا في استعمارها،
نقول لو أنهم فعلوا ذلك لاستطاعوا أن يكسروا من حدة بغض المصريين عليهم،
ولاستمالوهم رويدًا رويدًا إلى تأييدهم، ولامتنع حدوث تلك الاضطرابات والثورات
العديدة التي لم تشتعل نارها في القاهرة فحسب بل امتد لهيبها حتى شمل البلاد
بأجمعها، ولم يستطع الفرنسيون يومًا أن يخلدوا إلى السكون والراحة، أو يطمئنوا إلى
المضي بسلام في تنفيذ تلك المشروعات التي أرادوا بها تحقيق هدف حملتهم الأول وهو
إنشاء «مستعمرتهم الجميلة».
ولقد أكَّد كثيرون من رجال الحملة أن المصريين رحبوا ببونابرت واطمأنوا إليه،
وكان دليلهم على ذلك أنهم ما دخلوا القاهرة حتى انبرى عين من الأعيان يرحب بمقدمهم،
ويهدي بونابرت قصيدة طويلة من ثلاثين بيتًا يتغنى فيها بفضائله ويشيد بذكر مناقبه.
كما أن كبار العلماء والشيوخ أنِسوا بهم وأولموا لهم الولائم، كما فعل الشيخ المهدي
عندما أقام عرسًا لزواج أحد أولاده، وفعل غيره في كل تلك المناسبات التي سبق ذكرها.
كما لقي بوسيلج «مدير الحدود» أو «الروزنامجي» ودوجا «وكيل ساري عسكر» كل معاملة
جميلة عندما أخذا يكثران من زيارة المشايخ والأعيان في بيوتهم، ويبذلان كل ما
وسعهما من جهد وحيلة لاستمالة الشيخ السادات والشيخ المهدي وأعضاء الديوان والسيد
أحمد المحروقي كبير التجار،
٩٦ ثم ذاع في أنحاء القاهرة خبر «رؤيا» غريبة في صالح الفرنسيين ولدعم
أركان دولتهم وكان ذلك عقب دخولهم القاهرة واستقرارهم بها. وفضلًا عن ذلك فقد توهم
بونابرت وصحبه أن السبب في جذب قلوب المصريين اتباع تلك السياسة الإسلامية الوطنية
التي وضع أصولها.
على أن هذا الاعتقاد لم يكن في واقع الأمر إلَّا ضربًا من الأوهام والخيالات التي
سيطرت على عقول بعض رجال الحملة، وعاونت في أحايين كثيرة على إفساد خطط رؤساء
الحملة وقوادها؛ ذلك أن تلك القصيدة «العصماء» التي رحب فيها صاحبها بقدوم
الفرنسيين وانتصار بونابرت على البكوات المماليك في معركة الأهرام أو إمبابة
المشهورة؛ لم تكن من صنع أحد المصريين أو أدباء القاهريين بل كان صاحبها المعلم
نقولا التركي من أسرة نشأت في إستانبول، وُلد في بيروت أو دير القمر، والتحق بخدمة
الأمير بشير الشهابي، ثم حضر إلى مصر وشهد وقائع الحملة، وكتب قصيدته في مدح
بونابرت والجيش الفرنسي، والإشادة بذكر انتصارات إمبابة، وقد مهَّد لهذه القصيدة
بالعبارة الآتية: «ناظم هذه القصيدة نقولا الترك ولد يوسف الترك، إستانبولي الأصل،
وذلك في مدينة مصر المحروسة، مادحًا بها مشيخة فرنسا وشجاعة عزيزها أمير الجيوش
الأمير بونابرته، في اصطباح سنة ١٢١٣ﻫ»، ومطلعها:
للَّه عصرٌ قد زها
فلكُ السعادة فيه دارْ
وجمال كواكب دولة الـ
ـجيش الفرنساوي أنار
يا حسنها من دولة
بالإفتخار لها اشتهار
مقدامها ذو سطوة
تُهدي الملوك له الوقار
الشهم بونابرتة
أسد الوغى ذو الاقتدار
وقد اختتم نقولا التركي هذه القصيدة ببيت من الشعر أشار فيه إلى واقعة الأهرام،
ثم «أرَّخ» لهذه الواقعة التي انتصر فيها بونابرت في يوم السبت (٧ صفر ١٢١٣ﻫ/٢١ يوليو
١٧٩٨م) فقال:
أمَّا المصريون وقد ذكر الشيخ الجبرتي عددًا من أدبائهم وعلمائهم الذين قرضوا
الشعر كالشيخ حسن العطار، ويبدو أنه كان أجودهم ومن أعلام أدباء عصره، والشيخ
خليل المنير، والشيخ محمد الأمير، والسيد علي الصيرفي الرشيدي الذي استقر به المقام
في عكا؛ فإن أحدًا منهم لم ينظم شعرًا — أو يكتب نثرًا — في مدح بونابرت
والفرنسيين، بل على العكس من ذلك تهكَّم الشيخ حسن العطار بالفرنسيين وسخر من عاداتهم
وانطباعهم على حب اللهو والمجون، فقال:
إن الفرنسيين قد ضاعت دراهمهم
في مصرنا بين حمَّار وخمَّار
وعن قريبٍ لهم في الشام مَهلكةٌ
يضيع لهم فيها آجال أعمار
ويشير الشيخ في البيت الأخير إلى حملة الشام التي اعتزم بونابرت وقتئذٍ الخروج
فيها وكان نصيبه الاندحار والهزيمة تحت أسوار عكا.
وقد وصف السيد علي الصيرفي الرشيدي «نزيل عكا» هذا الحادث فقال:
وأراهمْ قبيحَهم حُسنَ قصدٍ
نحو عكا ذاتِ السُّعود البادي
فاستعَدُّوا لها بآلات حرب
ورجالٍ كثيرةٍ كالجراد
ومنها:
حاصروها وشدَّدوا في حصار
واستمدُّوا بكل نوع مراد
ثم دارت رحى الحروب لدينا
بضروبٍ مدامة التَّرْداد
إلى آخر ذلك، وهي قصيدة طويلة. وأمَّا الشيخ خليل المنير فقد رثا «الأمير أيوب بك
الدفتردار، وهو من مماليك محمد بك» وكان قد اشترك في واقعة الأهرام ولم يتبع مراد
بك الذي نجا بنفسه، فهلك وهو يقاتل الفرنسيين. قال الشيخ خليل:
لم يبرَ منهم سوى أيوب من ألم
مُجالسٍ داء خصمٍ قادم حنِقِ
بانت له من حِسانِ الحور قائلة
اركض برجلك للخيرات واستبِقِ
واترك مرادًا إلى الدنيا ولمَّ بنا
إنَّا الحياة فملِّ الروح واعتنق
ومنها:
مضى شهيدًا وحيدًا طاهرًا سمحًا
مغسَّلًا بدم الهيجاء لا غرق
٩٨
ولما كان غرض بونابرت من إنشاء الديوان الاستعانة بأعضائه على دعم أركان مستعمرته
الجديدة، ولم تطابق أفعاله أقواله وادعاءاته الكثيرة أو تلك «التمويهات» على حدِّ
قول الشيخ الجبرتي؛ فقد أخفق بونابرت وقواده في جلب مودة المشايخ الذين اكتفوا
ﺑ «مداراة» الفرنسيين ومجاراتهم دفعًا للأذى والشر ولم يطمئنوا إليهم، ناهيك
بامتداحهم والإشادة بذكر مناقبهم. فلم تكن وسائل الحمد والشكر التي طُلب إليهم في
الديوان أن يكتبوها إلى بونابرت أو إلى الجنرال منو خصوصًا إلَّا مظهرًا من مظاهر
هذه «المداراة»، ولا تنهض دليلًا على ودهم لهذين القائدين أو أنهم كانوا يعتقدون
الخير في هؤلاء الأجانب الذين ملكوا بلادهم. ومع أن بعض مؤرخي الحملة من الفرنسيين
في أيامنا هذه قد بذلوا قصارى جهدهم لبيان أن بونابرت إنما كان يهدف من إنشاء
الديوان وتعيين أعضائه من بين المصريين إلى إقامة إدارة وطنية بحتة في البلاد، وذلك
باستبعاد العنصر العثماني وشغل الوظائف الهامة بالمصريين فحسب، ويذكرون دليلًا على
ذلك إلى جانب اختيار مشايخ مصريين أعضاء للديوان أن بونابرت عهد بمنصب قاضي البلاد
إلى الشيخ أحمد العريشي بدلًا من القاضي العثماني؛
٩٩ فإن تلك ولا شك دعوى كبيرة ولا سبيل إلى تأييدها لأسباب عدة، منها أن
بونابرت ضم إلى ديوانه الأول قبل ثورة القاهرة المعروفة في أكتوبر نفرًا من
العثمانيين كان من بينهم القاضي التركي نفسه ثم ثلاثة من الأوروبيين هم:
ولمار
Wolmar وكان طبيبًا سويديًّا،
وكاف
Caffe وبوديف
Baudeuf وكانا من تجار مرسيليا، ويمثلون جميعًا جالية الإفرنج
بهذه البلاد، وعندما أُعيد تنظيم الديوان بعد الثورة كان من بين أعضاء الديوان
الخصوصي أو الديمومي على نحو ما يذكر الشيخ الجبرتي «من الشوام يوسف فرحات ومخاييل
كحيل ورواحة الإنكليزي وبودني وموسى كافر الفرنساوي»، عدا الوكلاء والمباشرين «من
الفرنسيس» والمترجمين.
١٠٠ ولعل رواحة الإنجليزي وبودني وموسى كافر الفرنساوي هم أولئك الذين
كانوا يمثلون جالية «الإفرنج» في الديوان السابق ولمار وكاف وبوديف.
وفضلًا عن ذلك فقد كان سبب استبعاد القاضي العثماني خروجه من مصر إلى الشام
وإصراره على عدم العودة إلى مصر ما دام الفرنسيون بها، وقد انتقم بونابرت من القاضي
بأن قبض على ابنه «ملَّا زاده» ولم يخرجه من الحبس إلَّا بعد أن أثار بفعله هذا
غضبًا شديدًا، وكثر توسط المشايخ لديه في أمر الإفراج عنه. ومع أن بونابرت عمد
ساعتئذٍ فقط إلى الادعاء بأنه ما قصد من عزل القاضي وحبس ابنه إلَّا اختيار أحد
الشيوخ العلماء المصريين ومن المولودين في أرض مصر حتى «يتولى القضاء ويقضي
بالأحكام الشرعية كما كان الملوك المصرية يولون القضاة برأي العلماء للعلماء»؛
فإن هذا القول لم يقنع أحدًا من المشايخ، وألحُّوا في ضرورة الإفراج عن «ملَّا زاده ابن
قاضي العسكر» لأنه ما كان يصح أن يؤخذ الابن بجريرة أبيه، بل قال الشيخ السادات:
«وأيضًا إنكم تقولون دائمًا إن الفرنساوية أحباب العثمانية، وهذا ابن القاضي من طرف
العثمانلي، فهذا الفعل مما يسيء الظن بالفرنساوية ويكذب قولهم وخصوصًا عند العامة»،
فاشترط بونابرت للإفراج عنه أن يختار المشايخ قاضيًا منهم، واختاروا الشيخ أحمد
العريشي.
ومما يدل على أن «تمصير» الإدارة وجعلها «وطنية» بحتة لم يدر في خَلَد بونابرت أنه
ما تم الإفراج عن ابن القاضي العثماني حتى أذاع بونابرت «أوراقًا» أو منشورات على
الأهلين، حاول أن يبرر فيها فعلته بصورة لا تدع مجالًا للشك في الأسباب الحقيقية
التي جعلته يختار قاضيًا مصريًّا بدلًا من القاضي العثماني، فقال: «إن القاضي لم
أعزله وإنما هو هرب من إقليم مصر وترك أهله وأولاده، وخان صحبتنا من المعروف
والإحسان الذي فعلناه معه، وكنت استحسنت أن ابنه يكون عوضًا عنه في محل الحكم في
مدة غيبته ويحكم بدله، ولم يكن ابنه قاضيًا متولِّيًا للأحكام على الدوام لأنه صغير
السن ليس هو أهلًا للقضاء، فعلمتم أن محل حكم الشريعة خالٍ الآن من قاضٍ شرعي يحكم
بالشريعة، واعلموا أني لا أحب مصر خالية من حاكم شرعي يحكم بين المؤمنين، فاستحسنت
أن يجتمع علماء المسلمين ويختاروا باتفاقهم قاضيًا شرعيًّا من علماء مصر وعقلائهم
لأجل موافقة القرآن العظيم باتباع سبيل المؤمنين.»
١٠١
ولقد كان قيام القاهريين بثوراتهم المعروفة من أكبر الأدلة على فشل هذه السياسة
الإسلامية الوطنية، وقد عزا الكتاب الفرنسيون الذين امتدحوها ذلك الفشل إلى «تعصب»
المصريين، وعجزهم عن إدراك نوايا بونابرت، وما كانت تنطوي عليه سياسته «المصرية»
على زعمهم من فوائد جمة، كما أنهم عابوا على بونابرت وقواده أنهم أخفقوا في «عدم
فهم» نفسية تلك الشعوب الإسلامية التي تسلموا زمامها.
١٠٢ ولا جدال في أن «عدم الفهم» هذا كان من أكبر الأسباب في فشل التجربة
الاستعمارية في هذه البلاد على نحو ما سبق بيانه في مواضع عدة.
المقاومة في القاهرة والأقاليم
ومع ذلك فإن أحدًا من رجال الحملة ما كان يفطن إلى حقيقة تلك الأسباب العميقة
التي قضت على تجربتهم الاستعمارية في النهاية، بل اكتفى هؤلاء بأن صاروا يأخذون
الأمور بظواهرها وعلى علَّاتها، فتوهموا أن منشوراتهم التي أذاعوها في طول البلاد
وعرضها عند مجيئهم يَعِدون المصريين بتحريرهم من نِير البكوات المماليك، ويُمَنُّونهم
بإقامة نوع من الحكومة العادلة تهتدي بهدي القرآن الكريم وتسترشد بتعاليمه؛ كانت
كافية لاستمالة المصريين إلى تأييدهم. حتى إذا «فوجئوا» بالثورة في القاهرة، ثم
تكرر نشوبها، وظلت المقاومة في الأقاليم شديدة قاسية، صاروا يتلمسون لفشلهم
أسبابًا ومعاذير عدة، أهمها في نظرهم استياء المصريين من إدارتهم المالية، ثم
تعصبهم واستماعهم لتحريضات السلطان العثماني والبكوات المماليك. واسترشد
الفرنسيون في سياستهم «العملية» نحو هؤلاء المصريين الثائرين عليهم بمبدأ واحد
أخذ به بونابرت وأخذ به قواده وحكام الأقاليم، هو أن «القوة» وحدها وما يترتب
على استخدامها من أعمال البطش والقوة كفيلةٌ بردع المصريين وزجرهم والقضاء على
ثوراتهم وقلاقلهم.
ثم استنام الفرنسيون مطمئنين إلى أن النجاح لا محالة نصيبهم عندما فشا
الاعتقاد بينهم بأن المصريين وهم الذين درجوا على الإيمان بأحكام القضاء والقدر
والتسليم بكل ما هو «مكتوب» على الجبين، سوف يرضون بما رضي الله به واختاره
لهم و«كتبه» القدر عليهم. فكان من أثر ذلك كله أنهم بدءوا تجربتهم الاستعمارية
في هذه البلاد وهم يصدقون كل ما يبلغهم من ترَّهات تتفق وما وطَّدوا النفس على
تصديقه، ثم انتهى الأمر بهم إلى العنف بالمصريين والاقتصاص منهم اقتصاصًا
صارمًا قاسيًا عندما تبين لهم خطأ زعمهم وأفاقوا من غفلتهم. أمَّا آية هذه
«الغفلة» فهي أنه ما حلَّ ركابهم بهذه البلاد حتى بادروا بتصديق ما بلغهم عن
«رؤيا» ذاع خبرها — على حدِّ قول مؤرخيهم — بين المصريين الذين «رحَّبوا»
بقدومهم، ومدارها أن أحد أولياء الله رأى فيما رأى في منامه رسول الله
ﷺ
يتجاذب أطراف الحديث مع «القدر» عندما شهد عمارة الفرنسيين تقترب من الشواطئ
المصرية، فشرع رسول الله يقول له: «أيها القدر الجاحد، كيف طاب لك وقد جعلتك
المتصرف المطلق في شئون العالم قاطبة أن تعطي أجمل البلاد التي عمل أهلها
بشريعتي واعتنقوا الإسلام دينًا؟ فأجاب القدر: لقد كُتب ذلك من الأزل ولا مناص
من حدوثه، فالفرنسيون سوف يصلون إلى هذه البلاد وسوف يفتحونها ويتعذر عليَّ أن
أمنع ذلك. ولكن لا تبتئس يا محمد، فقد شاء القضاء أن يعتنق هؤلاء الفرنسيون
الإسلام»، ثم أتم صاحب الرؤيا قصته فقال: إن الرسول ما عَتَم بعد ذلك أن ترك
«القدر» وهو قرير العين جذلان مطمئن.
١٠٣
قد يكون صاحب هذه «الرؤيا» صادقًا في رؤياه وقد يكون ناقلها صادقًا في
روايته، ومع ذلك فإن الشيخ الجبرتي وقد زخر تاريخه بأمثال هذا القصص وهذه
الوقائع لم يذكر شيئًا من ذلك. ومهما كان من شيء، فإنه سرعان ما اختفت قصة هذه
الرؤيا وضاع أثرها — إن كانت قد أحدثت أثرًا اللهم إلَّا في أذهان الفرنسيين
لإشباع خيالهم فحسب — عندما فوجئ هؤلاء بأئمة المساجد يلجئون في خطبهم إلى ضرب
الأمثال يخفون في طياتها دعوتهم إلى الثورة ضد الفرنسيين ويحرضون القاهريين
عليها، بل ويعلن المؤذنون من فوق المآذن الدعوة إلى «الجهاد» وإشعالها حربًا
دينية مقدسة ضد هؤلاء الكفار الظالمين، واجتمع طائفة من المشايخ والعلماء
يدبرون في الجامع الأزهر أمر هذه الفتنة، فكانت ثورة القاهرة الأولى (٢١–٢٣
أكتوبر ١٧٩٨م).
١٠٤ وما كان هناك ما يدعو إلى أن يؤخذ الفرنسيون على غرة لو أنهم
تحرروا من غفلتهم وهم الذين اضطُرُّوا قبل انفجار بركان الثورة إلى التنبيه «على
العامة بترك الفضول والكلام في أمور الدولة»، ولمسوا شيئًا من حقيقة ترحيب
القاهريين بهم وسرورهم بمقدمهم عندما صار هؤلاء — كما سبق القول — لا يبالون
بإظهار شماتتهم بجرحى الفرنسيين ويهزءون بهم حتى شدد كبيرهم في ضرورة منع ذلك،
وطاف المنادون في شوارع القاهرة وأزقتها يحذرون الأهالي من السخرية بهؤلاء
«المجروحين أو المنهزمين، والتصفيق عليهم كما هي عاداتهم.»
١٠٥
وأفاق الفرنسيون من غفلتهم بعد حادث هذه الثورة، وذهبت منذ ذلك الحين كل ثقة
من نفوسهم، وساءت علاقتهم بالمصريين لدرجة بعيدة، حتى بات مقضيًّا بعد ذلك على
كل أمل في إمكان التعاون بينهم وبين أهل البلاد. وانبرى كثيرون من الكتَّاب
ينحون باللائمة على الفرنسيين بسبب ما طرأ على سياستهم وأساليبهم من تغيير
صبغها بصبغة القسوة والصرامة، كأنما كان مردُّ ما نُسِب من ثورة لاحقة في القاهرة
ثم ما كان يحدث من ضروب المقاومة في طول البلاد وعرضها إلى هذا التغير الطارئ
في سياستهم فحسب، في حين أن سبب كل هذه الاضطرابات والثورات لم يكن سوى تصميم
المصريين على مناصبة العداء هؤلاء الغرباء الذين جاءوا يملكون بلادهم. ولم تفلح
قسوة الفرنسيين وصرامتهم في ردع القاهريين أو كبت شعورهم بل ظلوا يتربصون بهم
الدوائر، وسنحت الفرصة عندما اضطر بونابرت إلى الوقوف أمام أسوار عكا منذ أن
أحرز انتصارات عدة سريعة بعد خروجه من القاهرة إلى بدء حصار عكا، وبلغ
القاهريين ما صار يصادفه بونابرت وجنوده من مشقات ويتكبدونه من خسائر تحت
أسوارها المنيعة.
وكان مما عجب له الفرنسيون دائمًا أن المصريين كانوا في أحايين كثيرة أسبق
منهم إلى معرفة الأخبار الصحيحة، ولا سبيل إلى إخفاء شيء عنهم مما جرى أو
يرغب الفرنسيون في عدم إذاعته وإفشائه،
١٠٦ فكثر حديث الناس في أمر هذه الحملة الشامية، وصاروا لا يبالون
بإظهار شماتتهم بأعدائهم وتناقل أخبار ما حاق بالفرنسيين من فشلٍ أمام عكا، وما
أبداه أحمد باشا الجزار من بطولة عظيمة في الدفاع عنها، حتى إن السلطات
الحكومية في القاهرة ما لبثت أن عمدت إلى تحذير القاهريين من الخوض في هذه
الموضوعات وتهديدهم بإنزال العقوبات الصارمة بهم، «فشقَّ جماعة من أتباع الشرطة
يوم ١٥ شوال ١٢١٣ﻫ/٢٢ مارس ١٧٩٩م في الأسواق والحمامات والقهاوي، ونبهوا على
الناس بترك الفضول والكلام واللغط في حق الفرنسيس، ويقولون لهم: من كان يؤمن
بالله ورسوله واليوم الآخر فلينته ويترك الكلام في ذلك، فإن ذلك مما يهيج
العداوة. وعرفوهم أنه إن بلغ الحاكم من المتجسسين عن أحد تكلم في ذلك عُوقِب أو
قُتِل.» وبث الفرنسيون العيون والأرصاد، وأرشد جواسيسهم إلى عدد من القاهريين
الذين استمروا يخوضون في حق الفرنسيين، فعاقبوهم ﺑ «الضرب والتغريم.» ومع ذلك
فقد ظل القاهريون يتحدثون ما طاب لهم الحديث، ويلغطون ما شاءوا أن يلغطوا «في
حق الفرنسيس … ولم ينتهوا.»
١٠٧
وعندما انقطعت أخبار بونابرت وجنده الواقفين على حصار عكا، زاد كلام القاهريين
«وأكثر الناس من اللغط»، وكانت قد تطايرت الإشاعات كذلك عن انتصار الشيخ
الكيلاني ومجاهدي الحجاز الذين ركبوا البحر مع جماعة من ينبع إلى القصير للجهاد
ضد الفرنسيين والانضمام إلى البكوات المماليك في الصعيد. وكان الشيخ الكيلاني
مغربيًّا مجاورًا بمكة والمدينة والطائف، نفر إلى الجهاد مع حوالي الستمائة من
العرب «لنصرة الحق والدين» وطرد الفرنسيين من مصر.
فلما كثر لغط الناس في ذلك كله جمع الفرنسيون الديوان في أوائل مايو ١٧٩٩م،
وقرءوا عليهم طومارًا، «وطبعوا منه عدة نسخ وألصقوها بالأسواق على العادة»،
يؤكدون فيها انهزام الشيخ الكيلاني من جهة، وأنهم سوف يقتحمون أسوار عكا في
القريب العاجل من جهة أخرى، ويأمرون «الرعايا من أهل مصر والأرياف أن يلزموا
الأدب والإنصاف ويتركوا الكذب والخراف، فإن كلام الحشاشين يوقع الضرر للناس
المعتبرين … فأنتم يا أهل مصر ويا أهل الأرياف اتركوا الأمور التي توقعكم في
الهلاك والتلف، وأمسكوا أدبكم قبل أن يحل بكم الدمار ويلحقكم الندم والعار،
والأولى للعامل اشتغاله بأمر دينه ودنياه وأن يترك الكذب وأن يسلم لأحكام الله
وقضاه، فإن العاقل يقرأ العواقب وعلى نفسه يُحاسَب، هذا شأن أهل الكمال يتركون
القيل والقال ويشتغلون بإصلاح الأحوال ويرجعون إلى الكبير المتعال، والسلام.»
١٠٨
غير أن هذه التحذيرات ذهبت جميعها سدًى، ووجد الناس في أخبار فشل الفرنسيين
أمام عكا فرصة مواتية للتفريج عن كربتهم بتناقل أنباء هذا الانهزام، وكثر
اللغط فجمع الفرنسيون الديوان (في ٦ يونيو سنة ١٧٩٩م) وقرءوا على أعضائه
«مكتوبًا مترجمًا» بعث به بونابرت من عكا إلى «محفل ديوان مصر»، يشرح فيه
الأسباب التي حالت دون سقوط حصن عكا في قبضته، وبلغت هذه على نحو ما جاء في
رسالة بونابرت خمسة عشر سببًا.
١٠٩ ثم رغب بونابرت في ستر ما لحقه من هزيمة، وأراد الدخول إلى القاهرة
في موكب عظيم، فاستعد «دوجا الوكيل ونبه على الناس بالخروج لملاقاته»، وفي ١٤
يونيو أُقيم احتفال كبير بالأزبكية أشرف عليه «دوجا وداستان»، وخرج لاستقباله في
سهل القبة جمع حافل من كبار الفرنسيين وأعضاء الديوان والتجار وأرباب الحرف
والصناعات وعلى رأسهم دوجا وداستان وبوسيلج، وهنَّأ المشايخ والعلماء بونابرت
وأهداه الشيخ البكري حصانًا عربيًّا أسودَ مسرجًا بالذهب والأحجار الكريمة
واللؤلؤ ومملوكًا يرعى هذا الحصان هو «روستان
Roustin» الذي حُكيت حول شخصيته الأساطير، وقد ظل في خدمة
نابليون في قصر التويلري بعد ذلك حتى سقطت الإمبراطورية، فتركه عندما خان الحظ
نابليون وانفضَّ الناس من حوله، وكذلك أهدى المعلم جرجس الجوهري في هذه المناسبة
جملين تكسوهما الكساوي الثمينة. وامتطى بونابرت صهوة الحصان المُهدَى إليه، وسار
في مقدمة الموكب الذي دخل القاهرة عن طريق باب النصر، واستمر في سيره إلى ميدان
الأزبكية، وازدحمت الناس — على حدِّ قول مؤرخي الحملة — لمشاهدة هذا الموكب، ثم
استمر العيد ثلاثة أيام بلياليها، وأُقيمت الزينات في ميدان الأزبكية، وأَعدَّ
دارجيفل
Dargeavelle صاحب التيفولي
مهرجانًا عظيمًا في حديقته.
١١٠
ومع ذلك فقد كان كل ما استرعى انتباه الناظرين يوم الاحتفال بعودة بونابرت
وجيشه من الحرب الشامية «أنه قد تغيرت ألوان العسكر القادمين واصفرت ألوانهم،
وقاسوا مشقة عظيمة من الحر والتعب، بعد أن أقاموا على حصار عكا أربعة وستين
يومًا حربًا مستقيمة ليلًا ونهارًا، أبلى في أثنائها أحمد باشا الجزار
وعسكره بلاءً حسنًا وشهد له الخصم.» وفضلًا عن ذلك فإن الذين اشتركوا في إحياء
هذه المهرجانات لم يكونوا سوى عامة القوم من «أرباب الملاهي والبهالوين وطوائف
اللاعبين والحواة والقرادين والنساء الراقصات والخلابيص، الذين أعطاهم ساري
عسكر دراهم وبقاشيش» مكافأةً لهم وأجرًا على مساهمتهم في إحياء هذا العيد.
١١١
وكان واضحًا على الرغم من ذلك كله أن القاهريين ما كانوا يصدقون شيئًا من تلك
الأقوال التي أصر بونابرت ورجال حكومته على إذاعتها يفسرون بها هزيمتهم أمام
عكا ويحاولون إخفاء خسائرهم، فأذاعوا بعد مضيِّ أيام معدودة على احتفالاتهم
منشورات «طبعوها وألصقوها بالأسواق»، يحضون الناس فيها على اجتناب الفتن
والشرور وعدم تصديق أقوال المنافقين المفسدين، الذين بلغ من جرأتهم أنهم
أشاعوا موت بونابرت نفسه أمام عكا، ويتوعدون محركي الفتنة بالويل والثبور
وعظائم الأمور.
١١٢ غير أن القاهريين الذين ما كان يردعهم رادع أو يمنعهم عن الخوض «في
حق الفرنسيس» مانع، سرعان ما وجدوا الفرصة مواتية للتسرية عن نفوسهم وإظهار ما
يكنونه من بغض وكراهية للفرنسيين واشتياق لعودة ذلك النوع من الحياة التي
ألفوها قبل مجيء هؤلاء إلى بلادهم، وإعادة الأمور إلى نصابها عندما تواترت
الأخبار يوم ١١ يوليو ١٧٩٩م عن وصول «مراكب عثمانية» إلى أبو قير.
وعقد القاهريون آمالًا عظيمة على انتصار العثمانيين، «فكثر اللغط في الناس،
وأظهروا البشر وتجاهروا بلعن النصارى» واعتدوا عليهم، ثم «وردت الأخبار وعدة
مكاتيب (٢٢ يوليو) لكثير من الأعيان والتجار وكلها على نسق واحد تزيد عن
المائة، مضمونها بأن المسلمين وعسكر العثمانيين ومن معهم ملكوا الإسكندرية»،
فكثر القيل والقال وعظم اللغط، وكادت تقع فتنة كبيرة لولا أن بادر الفرنسيون
بإذاعة أخبار انتصار بونابرت في موقعة أبو قير البرية المعروفة، «وضربوا مدافع
كثيرة من قلعة الجبل وباقي القلاع المحيطة وبصحن الأزبكية، وعملوا في ليلتها
حراقة بالأزبكية من نفوط وبارود وسواريخ تصعد في الهواء.»
وما إن رجع بونابرت إلى القاهرة وذهب المشايخ وأعضاء الديوان للسلام عليه حتى
أخذ يقرعهم تقريعًا شديدًا، فقال لهم «إنه لما سافر إلى الشام كانت حالتكم طيبة
في غيابه وأمَّا في هذه المرة فليس كذلك؛ لأنكم كنتم تظنون أن الفرنسيس لا
يرجعون بل يموتون عن آخرهم، فكنتم فرحانين ومستبشرين، وكنتم تعارضون الأغا في
أحكامه، وأن المهدي والصاوي ما هم بونو؛ أي ليسوا بطيبين ونحو ذلك.»
١١٣
وتلك عبارات تظهر بوضوح وجلاء حقيقة شعور المصريين، ومبلغ ودهم وصداقتهم
المزعومة لهؤلاء السادة الذين فرضوا سلطانهم عليهم ولم يحاولوا «فهم» نفسية
الشعوب التي دانت لهم ورغبوا في استعمار بلادهم. ويعترف مؤرخو الحملة أنفسهم
بأن أعضاء الديوان وهم قادة القاهريين وزعماؤهم قد ظلوا «جامدين» ويحزنهم
انهزام العثمانيين، ولم يؤثر فيهم شيئًا تقريع بونابرت أو إطلاق المدافع
الكثيرة التي أعلنت نصر الفرنسيين، وهم — أي أعضاء الديوان — الذين كانوا قد
شاركوا الأهلين في إظهار الفرح والسرور عندما تطايرت الإشاعات عن انتصار
العثمانيين، وانطوت قلوبهم كقلوب سائر المصريين على كل كراهية وحقد لحكامهم الفرنسيين.
١١٤
وواقع الأمر أن أعضاء الديوان وأعيان المصريين ظلوا على الرغم من اشتراكهم في
المهرجانات التي أُقيمت للاحتفال بعودة بونابرت من سوريا يُحكِمون صلتهم بالرؤساء
العثمانيين، ويراسلون قائد الجيش العثماني حسين سيد مصطفى باشا، كما كان
لإبراهيم بك أعوان وعمال كثيرون في القاهرة. وأراد أعضاء الديوان من إحكام
علاقاتهم بالصدر الأعظم أن يدفعوا عن أنفسهم في عينَي السلطان العثماني وخليفة
المسلمين تهمة التعاون مع الفرنسيين وشد أزرهم. ولم يفت الفرنسيين الموجودين
بالقاهرة ملاحظة هذا الاتجاه الذي استمرت تؤيده القرائن، حتى إن بوسيلج ما لبث
أن كتب إلى بونابرت في أثناء حملة هذا الأخير السريعة في أبو قير أنه إذا
استثنى الشيخ السادات والسيد عمر مكرم والشيخ البكري — وهم الثلاثة الذين ارتاح
إليهم بوسيلج بدرجات متفاوتة — فإن سائر المشايخ وأعضاء الديوان من المتعصبين
الذين لا يمكن الاطمئنان إليهم. ومن أشد هؤلاء انحرافًا عن الفرنسيين الشيخ
المهدي الذين كان يهدف على حدِّ قول بوسيلج إلى جذب قلوب الجماهير إليه
وكسب الشهرة، ولا يبالي بتضحية الفرنسيين جميعهم لقاء الاحتفاظ بهذه الشهرة بين مواطنيه،
١١٥ وإن كان الشيخ المهدي قد حاول بعد ذلك «مداراة» الفرنسيين والتودد
إليهم حتى يدفع الأذى عن نفسه وعن سائر مواطنيه، ثم حبسه الفرنسيون في القلعة
عند اشتداد الحصار على القاهرة في أواخر أيامهم فلم يفرجوا عنه إلَّا عند
تسليمهم على يد بليار.
وسنحت للمصريين الفرصة لإظهار شعورهم من جديد عندما تواترت الأخبار عن «تقرير
الصلح» بين كليبر والعثمانيين، وعقد اتفاق العريش (٢٤ يناير ١٨٠٠م) على أساس
جلاء جيش الشرق عن مصر، «ففرح الناس بذلك فرحًا شديدًا.» وما إن بدأ تنفيذ هذا
الاتفاق ودخل أحد رجال الدولة العثمانية — ويسمى محمد أغا — إلى القاهرة في
موكب كبير (في ٢٨ يناير)، حتى «حصل للناس ضجة عظيمة وازدحموا على مشاهدتهم له
والفرجة عليه، وارتفعت أصواتهم وعلا ضجيجهم، وركبوا على مصاطب الدكاكين
والسقائف، وانطلقت النساء بالزغاريد من الطيقان … وازدحم الناس والأعيان للسلام
عليه ولمشاهدته بالمشاعل والفوانيس.» وكان الأغا قد أحضر معه فرمانًا من الصدر
الأعظم بتحصيل «الثلاثة آلاف كيس المعينة لترحيل الفرنساوية، على أن يقوم السيد
أحمد المحروقي بجمعها»، فاجتهد السيد أحمد «في توزيع ذلك وجمعه في أيام
قليلة»؛ ذلك أن القاهريين بادروا بإخراج المال «عن طيب قلب وانشراح خاطر … ومن
غير تأخير لعلمهم أن ذلك لترحيل الفرنساوية.»
وصار القاهريون لا يبالون بإظهار شعورهم نحو الفرنسيين جهرًا وعلانيةً، فكان
كل واحد منهم يدفع ما عليه من مال وهو «يقول سنة مباركة ويوم سعيد بذهاب
الكلاب الكفرة، وحدث كل ذلك بمشاهدة الفرنسيين ومسمعهم وهم يحقدون عليهم.»
وحدث مثل ذلك في الإقليم «وجُمع المال والغلال ومطلوبات الذخيرة»، ونظر «أهل مصر
للفرنسيس بعين الاحتقار وأنزلوهم عن درجة الاعتبار، وكشف الرعايا وهمج
الناس نقاب الحياء معهم بالكلية، وتطاولوا عليهم بالسب واللعن السخرية، ولم
يفكروا في عواقب الأمور، ولم يتركوا معهم للصلح مكانًا. حتى إن فقهاء المكاتب
كانوا يجمعون الأطفال ويمشون بهم فرقًا وطوائف حسبةً، وهم يجهرون ويقولون كلامًا
مقفًّى بأعلى أصواتهم بلعن النصارى وأفراد رؤسائهم، كقولهم: الله ينصر السلطان
ويهلك فرط الرطمان (أو برطلمين)، ونحو ذلك. وظنوا فروغ القضية، ولم يملكوا
لأنفسهم صبرًا حتى تنقضي الأيام المشروطة.»
١١٦ واستمر الحال على ذلك فترة من الزمن، حتى إذا صار نقض اتفاق العريش
في الظروف التي سبق ذكرها واشتبك كليبر مع العثمانيين في معركة هليوبوليس خرج
القاهريون إلى ناحية القبة يرقبون سير المعركة، بينما عمد من بقي منهم بداخل
القاهرة إلى القيام بالثورة، فكانت ثورة القاهرة الثانية التي استمرت مدة شهر
تقريبًا من ٢٠ مارس إلى ٢٠ أبريل سنة ١٨٠٠م.
وكانت ثورة شديدة هاجم القاهريون والعثمانيون في أثنائها بقيادة حسن بك
الجداوي دار المعلم يعقوب الذي «كرنك في داره بالدرب الواسع جهة الرويعي، وكان
قد استعد استعدادًا كبيرًا بالسلاح والعسكر المحاربين، وتحصن بقلعته التي كان
شيدها بعد ثورة القاهرة الأولى.» وضرب الفرنسيون بولاق بالمدافع واندلعت ألسنة
النيران في كل مكان، فالتهمت الحرائق عددًا كبيرًا من الوكائل والخانات وهلكت
أُسَرٌ بأكملها، وكانت معركة حقيقية اشترك فيها من قواد كليبر «الشجعان» كل من
لاجرانج
Legrange وفريان
Friant وبليار
Belliard ودونزيلو
Donzelot وديرانتو
Duranteau ورينييه
Reynier وروبان
Robin، فاستطاع الفرنسيون بعد جهد وعناء إخماد الثورة بعد
أن فقدوا عديدين من ضباطهم، وكان من بين الجرحى ديجنت
Desgenettes كبير أطبائهم والمستشرق مارسيل
Marcel مدير المطبعة الأهلية.
١١٧
وكان اقتصاص الفرنسيين من المصريين بعد هذه الواقعة رهيبًا شديدًا، وفرضوا
غرامات فادحة على كثير من العلماء والأعيان، وأحلوا بهم من صنوف المذلة والهوان
شيئًا عظيمًا. وانبث «المعينون والعسكر في طلب الناس وهجم الدور، وجرجرة الناس
حتى النساء من أكابر وأصاغر وبهدلتهم وحبسهم وضربهم … وتطاولت النصارى من القبط
والنصارى الشوام على المسلمين بالسب والضرب ونالوا منهم أغراضهم وأظهروا
حقدهم ولم يبقوا للصلح مكانًا، وصرَّحوا بانقضاء ملة المسلمين وأيام الموحدين.»
١١٨ وكان من أثر أساليب القمع الشديدة التي استخدمها الفرنسيون في
إخماد هذه الثورة، حدوث رد فعل كبير عندما تبين للمصريين عبث المقاومة أمام جيوش
الفرنسيين المسلحة بأنواع الأسلحة من الطراز الحديث ولديهم من المدافع ما
يستطيعون به تخريب القاهرة بأكملها لو أرادوا، وأنه لا جدوى من الاعتماد على
العثمانيين أو البكوات المماليك في مناضلة الفرنسيين أو انتظار هزيمة هؤلاء على
أيديهم. وقد لاذ حسن بك الجداوي بالفرار إلى الصعيد عند اشتداد الخطب، وتبعه
إبراهيم بك بعد أن اضطر مع ناصف باشا إلى عقد الصلح مع العدو في ٢١ أبريل.
وكان كليبر قد نجح قبل ذلك في عقد معاهدة مع مراد بك زعيم المقاومة في الصعيد،
فانكشف الغبار — على حد قول الشيخ الجبرتي — «عن تعسة المسلمين وخيبة أمل
الذاهبين والمتخلفين، وما استفاد الناس من هذه العمارة وما جرى من الغارة إلَّا
الخراب والسخام والهباب، فكانت مدة الحصر بما فيها من الثلاثة أيام الهدنة سبعة
وثلاثين يومًا، وقع بها من الحروب والكروب والانزعاج والشقاق والهياج وخراب
الدور وعظائم الأمور وقتل الرجال ونهب الأموال وتسلط الأشرار وهتك الأحرار
الشيء الكثير.»
١١٩
تلك كانت قصة القاهريين الذين ظلوا على الرغم مما أصابهم واضطرارهم إلى
التزام الهدوء والسكينة بعد ذلك حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا، يكنُّون
البغض والكراهية للفرنسيين ويتوقون إلى التحرر والخلاص من نِيرهم.
على أن القاهرة لم تكن وحدها ميدان هذه الاضطرابات والثورات التي امتاز بها
عهد الاحتلال الفرنسي في مصر؛ ذلك أن أهل الوجهين البحري والقبلي كانوا لا
يقلون عن القاهريين كراهية للحكم الجديد، فاشتعلت الثورات في الدلتا واشتدت
المقاومة في الصعيد. ومنذ أن بدأ زحف الفرنسيين من الإسكندرية إلى القاهرة
(يوليو ١٧٩٨م) بدأت المقاومة ضدهم على نطاق واسع في القطا وعلقام وقد أحرقها
الفرنسيون، ثم امتدت إلى منوف وطنطا والمنصورة ودمياط ودمنهور وعدد كبير من
المدن والقرى، اشترك في إخضاعها نخبة من قواد الفرنسيين كالجنرالات زايونشك
وفيال ودوجا وفوجيير وداستان ولانوس ومورا وفردييه وداماس ورامبون
وأندريوسي وغيرهم. وأصدر بونابرت التعليمات المشددة إلى هؤلاء القواد بالتجرد
من كل رحمة وشفقة في إخماد هذه الثورات، وقذف الرعب في قلوب الأهلين وإرهابهم.
١٢٠ ونفذ هؤلاء تعليمات بونابرت الصارمة، فأحرق جنودهم قرى مطوبس
والسالمية وغمرين وتتار
Tétar القريبة من
منوف، وميت سليل وقرية الشعراء والقرى الواقعة بين المنصورة ودمياط وقرية شباس
عمير، انتقامًا لمقتل الرسام جولي
Joly، وذلك
عدا نهب القرى والمدن العديدة.
١٢١
واشتُهر من زعماء هذه المقاومة الأهلية: أبو قورة في المنصورة، وابن شعير في
قرية عشما، وحسن طوبار في المنزلة، والإمام المهدي في دمنهور وكان رجلًا
مغربيًّا «يدعي المهدوية ويدعو الناس ويحرضهم على الجهاد … فاجتمع عليه أهل
البحيرة وغيرهم، وحضروا إلى دمنهور وقاتلوا من بها من الفرنساوية.»
١٢٢ ولما كانت الاضطرابات قد ظلت مستمرة في الإسكندرية، فقد قبض كليبر
على السيد محمد كريم ونقله إلى البارجة أوريان، ثم بعث به برويس إلى
القاهرة بناء على طلبه قبيل واقعة أبو قير بيومين فقط، ثم أعدمه نابليون عندما
رفض السيد كريم أن يدفع ما فرضه عليه من غرامة كبيرة لقاء العفو عنه في ٦
سبتمبر ١٧٩٨م.
١٢٣
وصادفت الفرنسيين صعوبات جمة عندما خرجت قواتهم لإخضاع الصعيد، بعد أن قرر
مراد المقاومة عقب هزيمته في موقعة الأهرام ورفض الاتفاق مع الفرنسيين. وكان
بونابرت قد أوفد إليه روشتي Rossetti
للمفاوضة معه، فاضطر بونابرت إلى إرسال ديزيه Desaix لمطاردته وإخضاع الصعيد. وكان إخضاع الصعيد عملًا
شاقًّا متعبًا بسبب إقبال الأهلين على مساعدة مراد وإمداده بالنجدات والاشتراك
معه في كثير من العمليات العسكرية الكبيرة، ثم اشتعال الثورة في الأقاليم التي
ظن الفرنسيون أنهم أخضعوها. وفضلًا عن ذلك فقد لقي مراد في أثناء هذه المعارك
التي استمرت أربعة عشر شهرًا معونة صادقة من جانب «أشراف» الحجاز وأتباع الشيخ
الكيلاني الذي سبق الحديث عنه، وإن كان الفرنسيون قد استطاعوا التغلب على هؤلاء
في النهاية. أضف إلى ذلك كله انتشار الأمراض بين جند ديزيه وخصوصًا الرمد، وقد
فقد عديدون من جنده قوة الإبصار بسببه.
وبدأت عمليات ديزيه العسكرية عندما غادر القاهرة في ٢٥ أغسطس ١٧٩٨م يقصد بني
سويف لمطاردة المماليك الذين انتشرت قواتهم على طول بحر يوسف، ولكن ما بلغ بني
سويف في آخر أغسطس حتى كان المماليك قد غادروها، ورابط مراد بالبهنسا بينما
اتخذ محمد بك الألفي موقعه بين البهنسا واللاهون، بيد أن مرادًا ما لبث أن أخلى
البهنسا منسحبًا إلى اللاهون عند وصول ديزيه، فاحتل القائد الفرنسي البهنسا
وتابع زحفه إلى المنيا ثم إلى ملوي حتى وصل أسيوط في ١٤ سبتمبر، وهناك علم
بعودة مراد عن طريق الصحراء إلى الفيوم، فاضطر ديزيه إلى النزول في بحر يوسف
لمطاردة مراد في الفيوم، وفي ٧ أكتوبر سنة ١٧٩٨م انتصر ديزيه على مراد في واقعة
سدمنت المشهورة
١٢٤ بعد مقاومة عنيفة كاد يُكتب النصر فيها لمراد، بفضل ما كان لديه من
مدفعية أحدثت خسائر فادحة في صفوف الفرنسيين، لولا هجوم الجنرال فريان الحاسم
بفرسانه في اللحظة الأخيرة. وقد شُغل ديزيه بعد هذه الواقعة بإخماد ثورة خطيرة
نشبت في الفيوم، وهددت بالفناء حاميتها التي تركها ديزيه بقيادة الجنرال روبان
في مدينة الفيوم. ثم قاد ديزيه جنده إلى بني سويف، وفي هذا المكان وصلته نجدات
من حوالي ألف من الفرسان بقيادة الجنرالين دافو
Dovoust وبليار كان ديزيه نفسه قد طلب إرسالها من القاهرة. ولما
كان بونابرت قد أزمع الرحيل إلى الشام فقد غادر ديزيه الصعيد لمقابلة قائد
الحملة العام وتلقي تعليماته.
وفي ١٦ ديسمبر استأنف ديزيه وقواده فريان وبليار ودافو ودونزيلو العمليات
العسكرية ضد مراد، الذي عمد وقتذاك إلى حرب المناوشات وظل يتجنب الاشتباك مع
الفرنسيين في معارك فاصلة، فزحف ديزيه إلى المنيا وأسيوط (٢٥ ديسمبر) ثم إلى
جرجا فبلغها بعد أربعة أيام وأقام بها حتى يوم ٢١ يناير سنة ١٧٩٩م. وكان في هذه
الأثناء أن جاء إلى الصعيد الشيخ الكيلاني وصحبه واستطاع مراد أن يجمع فلول
جيشه، واندلع لهيب الثورة بين أسيوط وجرجا، واتفق مراد مع حسن بك الجداوي على
ضم الصفوف، واضطر دافو إلى الاشتباك مع الثوار المصريين في سوهاج وطهطا.
١٢٥ وفي أواخر يناير كانت النجدات قد وصلت إلى ديزيه وإلى مراد، فاستعد
الفريقان للالتحام هذه المرة في معركة حاسمة، فكانت واقعة سمهود في ٢٢ يناير
سنة ١٧٩٩م
١٢٦ وانهزم مراد في هذه الواقعة، ووصل ديزيه في مطاردته إلى دندرة
وطيبة وأرمنت وإسنا وإدفو وأخيرًا إلى أسوان (في أول فبراير). واستطاع بليار أن
يقضي على مناوشات المماليك في دراو ويرغمهم على التقهقر إلى النوبة، ويحتل
فيلة وغيرها من جزر النيل الصغيرة (في ٢٠، ٢١ فبراير). وفي ١٦ مايو أحرز ديزيه
نصرًا جديدًا في أسوان، وبادر بإعلان خضوع الصعيد لقائده الأعلى بونابرت. وكانت
الخطوة التالية الاستيلاء على القصير، فغادر بليار ودونزيلو قنا لهذه الغاية في
٢٦ مايو، وبعد ثلاثة أيام كانت القصير قد سلمت لجيشهما دون مقاومة.
١٢٧
ومع ذلك وعلى الرغم من هذه الانتصارات فقد ظلت الاضطرابات في الصعيد، وكان من
الواضح أنه ما دام مراد حرًّا طليقًا ويلزم جانب الحيطة والحذر فلا يلتحم مرة
أخرى في معارك كبيرة مع الفرنسيين، فإن هؤلاء لن يستطيعوا إخماد المقاومة
الأهلية في الصعيد. وما إن عظمت صعوبات كليبر بعد فشل اتفاق العريش واشتعال
الثورة في القاهرة، حتى وجد من الخير أن يصل إلى اتفاق مع مراد، الذي شعر من
جانبه هو الآخر أن من المتعذر عليه الاستمرار على مقاومة الفرنسيين بصورة جدية،
فعقد الاثنان معاهدة ٥ أبريل سنة ١٨٠٠م المعروفة، وساعد مراد الفرنسيين في أثناء
ثورة القاهرة وكان لتوسطه أثر في إنهاء هذه الثورة.
على أن إخماد ثورة القاهرة وحرق القرى في الوجه البحري والصعيد وإدخال الرعب
على قلوب أهل الإسكندرية، لم يكن معناه أن البلاد قد دانت لسلطان الفرنسيين
وأسلمت لهم قيادها، وفي وسع هؤلاء أن يطمئنوا إلى استتباب حكومتهم في
«المستعمرة الجديدة»، أو أن يتفرغوا لمناجزة العدو فحسب عندما تلبد الجو
بالسحب وقامت الاستعدادات على قدم وساق لإرسال حملة أبركرمبي إلى مصر، واحتشدت
جيوش الصدر الأعظم تهدد بالزحف على حدود مصر الشرقية، وغادرت في آخر العام نفسه
(ديسمبر سنة ١٨٠٠م) حملة الجنرال بيرد Baird
خليج البنغال تقصد إلى جزيرة سيلان ثم إلى بمباي في طريقها إلى مياه البحر
الأحمر. فقد ظل القاهريون بسبب تلك الكوارث التي حلت بساحتهم عقب ثورتهم
الثانية لا يجسرون على التمرد والعصيان، وإن كان قد زاد في حفيظتهم وسخطهم على
الفرنسيين ما أوقعه هؤلاء بهم من عقوبات صارمة وفرضوه عليهم من مغارم فادحة،
فشُغل القاهريون بتدبير المال اللازم لدفع هذه الغرامات، ثم عظم انزعاجهم واشتدت
كربتهم عندما ذاع فجأة خبر مقتل كبير الفرنسيين وزعيمهم، وتوقع أهل القاهرة أن
ينتقم هؤلاء لاغتيال الجنرال كليبر انتقامًا عظيمًا.
ولكن سرعان ما سُرِّي عنهم عندما شاهدوا الفرنسيين يجرون تحقيقًا دقيقًا ولا
يدينون الجناة إلَّا بعد محاكمة جدية، فيعدمون من ثبتت عليه التهمة ويطلقون
سراح من وضحت براءته، حتى إن الشيخ الجبرتي — ولم يكن في يوم من الأيام مؤيدًا
للحكم الفرنسي — وجد لزامًا عليه أن يُثبت «ترجمة أوراق» التحقيقات التي أذاعها
الفرنسيون «لتضمنها خبر الواقعة وكيفية الحكومة، ولما فيها من الاعتبار وضبط
الأحكام من هؤلاء الطائفة الذين يحكِّمون العقل ولا يتدينون بدين، «فلم يعجلوا
بقتل الجاني» وقتل من أُخبر عنهم بمجرد الإقرار بعد أن عثروا عليه ووجدوا معه
آلة القتل مضمَّخة بدم ساري عسكرهم وأميرهم، بل رتبوا حكومة ومحاكمة … ثم نفذوا
الحكومة «في أولئك الذين ثبتت إدانتهم» بما اقتضاه التحكيم، وأطلقوا سراح من
ثبتت براءته.»
١٢٨
وقد استمر القاهريون على هدوئهم، ثم شُغلوا بأمر ذلك المليون وتلك المشروعات
التي ابتكرها ذهن منو الخصب أو خياله والتي سبق الحديث عنها، حتى إذا نزل
الإنجليز على الشواطئ المصرية وزحف العثمانيون على حدود البلاد الشرقية بدأت
تنتعش آمال القاهريين من جديد في التحرر مما كانوا فيه من عنت وإرهاق، وإن
كانوا ما يزالون بعيدين عن التفكير في تحريك الثورة بعد تجاربهم الأخيرة. ومع
ذلك فقد ظلت الشكوك تساور الفرنسيين من جانبهم، واعتقدوا أن هذا الهدوء هدوء
ظاهري وهو الهدوء الذي يسبق العاصفة، وأن العاصفة لا محالة آتية إذا قُدِّر لهم
الانهزام أمام جيوش الإنجليز والعثمانيين.
واتخذ منو وبليار إجراءات كثيرة أملتها الحيطة واقتضاها الحذر في زعمهم، كأخذ
الرهائن وحبس الشيوخ في القلعة وغير ذلك مما سبق ذكره في موضعه. واستبد بهم
الخوف من انتقاض القاهريين عليهم واشتعال ثورة خطيرة ضدهم عندما ذاع في القاهرة
يوم ٢٥ مارس سنة ١٨٠١م خبر انهزام منو وجيش الشرق في موقعة كانوب الحاسمة، كما
ذاع خبر زحف العثمانيين صوب بلبيس والقاهرة، فشلَّ الخوف والرعب تفكير
الفرنسيين في القاهرة، وأسرعوا يتحصنون في القلعة وفي سائر حصون القاهرة.
١٢٩ ومع أن القاهريين تجمعوا فعلًا بالقرب من الجامع الأزهر على أثر
ذيوع هذه الأنباء، فقد انفضت هذه الاجتماعات دون حدوث ثورة أو شغب،
١٣٠ ليس فقط لأنهم كانوا لا يريدون التعرض لاقتصاص الفرنسيين منهم على
ثورتهم، بل لأنهم على ما يبدو كانوا يتوقعون عجز بليار وصحبه عن المقاومة،
واضطراره إلى التسليم السريع عندما يتم إطباق تلك الجيوش الزاحفة على القاهرة.
على أن خوف بليار من أن يقوم القاهريون بالثورة ظل مسيطرًا على كل تفكيره، وكان
هذا الخوف — على نحو ما شهدنا — أحد العوامل الحاسمة التي عجَّلت بتسليم
القاهرة.
وفضلًا عن ذلك فقد فتح المصريون طريق الصعيد للحملة الإنجليزية التي غادرت
القصير إلى قنا في ٢١ يونيو ١٨٠١م ثم وصلت الجيزة في ٧ أغسطس بعد تسليم بليار،
ثم استأنفت السير في الوجه البحري فنزلت النيل في ٢٨ أغسطس ووصلت رشيد وقت
تسليم الإسكندرية.
١٣١ وكان من الأسباب التي عجَّلت بتسليم منو في الإسكندرية وقف القتال في
القاهرة من جهة، وأن العثمانيين في زحفهم في الدلتا ما كانوا يلقون مقاومة تُذكر
من تلك الحاميات الفرنسية المبعثرة، والتي باتت من مدة طويلة في شبه عزلة تامة
بسبب عداء الأهلين لها وإحجامهم عن إمدادها بالمؤن والأغذية.
وهكذا قضى على تجربة الفرنسيين الاستعمارية في مصر إخفاق هؤلاء في «فهم» تلك
الشعوب التي جاءوا لحكمها، واستهتارهم من الناحية الأخلاقية بعادات القوم
وتقاليدهم، ثم اعتمادهم على القوة والعنف في إخماد كل مقاومة لحكمهم، وتوهمهم
أن سياسة الحفلات والأعياد وإنشاء الدواوين كانت كافية لاستمالة المصريين وفصم
علاقاتهم التاريخية الوطيدة بدولة الخلافة الإسلامية.
وهكذا عجزت الحملة عن بلوغ غاياتها وتنفيذ أغراض أصحابها، فلا هي استطاعت أن
تشيد صرح تلك «المستعمرة الجميلة» التي شاء الفرنسيون أن يتخذوا منها نواة
لإمبراطوريتهم الاستعمارية الجديدة، ولا هي حققت شيئًا من مشروعات حكومة
الإدارة العسكرية والسياسية، فقضى انهزم جيش الشرق على كل أمل في غزو الهند
والاقتصاص من الإنجليز أو الزحف عن طريق القسطنطينية ونهر الدانوب في قلب
أوروبا وإرغام حلفاء الإنجليز على الانفضاض من حولهم ثم تحطيم أعداء «الثورة»
تحطيمًا لا قيامة لهم من بعده، وإتاحة الفرصة للقنصل الأول حتى يتخذ من ضرورة
البت في مصير هذه البلاد أداة للمساومة المربحة عند عقد السلام العام. ولا هي
مهَّدت لبونابرت طريق الشهرة والخلود، فلا يظفر القائد الشاب بأكاليل الغار
التي توهم أن في وسعه أن يظفر بها في ميادين الشرق البعيد الذي كان ما يزال
ذكره يوقظ الأطماع في النفوس، ويبعث التفكير في أمره صورًا شتى من الخيالات
والأحلام الجميلة، ويضفي على «قاهره» ضوءًا ساطعًا من المجد والفخار.
ومع ذلك فإن نصيب الحملة لم يكن الإخفاق كله ولا شيء غير الفشل، فإن أولئك
الرجال الذين اختاروا لمرافقة الحملة نخبة من علماء فرنسا وزوَّدوهم بكل ما
يحتاج إليه الغزو العلمي من كتب وآلات علمية وأدوات، وحرص بونابرت وكليبر على
أن تستمر بحوث علماء الحملة ودراستهم لكشف النقاب عن تاريخ وآثار هذه البلاد
التي جاءوا ليستعمروها، ودراسة مناخها وطبيعة أرضها وحيوانها ونباتها وأجناسها
وعادات شعوبها وغير ذلك، ثم شعور منو نفسه — على الرغم من تأرجحه تارة بين
تأييد جهود هؤلاء العلماء، وتارة أخرى بين تعطيل أعمالهم — بأنه من الجبن في حق
نفسه وسمعته أن يُوصَما بتهمة الإساءة إلى العلم والعلماء؛ نقول إن أولئك الرجال
جميعًا سرعان ما جنوا ثمرة غرسهم بفضل نشاط علماء الحملة الذين حفظوا هذا
المشروع الكبير بسبب ما قاموا به من بحوث ودراسات واسعة عميقة من السقوط في
وهدة تلك «المغامرات الجنونية» التي لا يخلو منها زمان، نتيجة لأطماع أصحابها
وانسياقهم وراء الشهرة المزيفة وسراب المجد الكاذب.
(١-٤) الأثر العلمي
وعاش العلماء في مصر عيشة دأب وبحث وتنقيب، وانتشر أفرادهم وجماعاتهم في طول
البلاد وعرضها يفحصون ويكشفون، ولا يمنعهم تفشي الأوبئة والأمراض وخصوصًا الرمد
والطاعون، ولا يصدهم الخوف من تلك الاضطرابات والثورات التي اقتضى إخمادها قيام
الفرنسيين بالعمليات العسكرية العنيفة في الوجهين البحري والقبلي، بل صار هؤلاء
العلماء وزملاؤهم من الرسامين وسائر الفنيين يخرجون مع الحملات المرسلة لإخضاع
المدن والقرى أو مطاردة المماليك، فيقومون بدراساتهم وينقبون عن الآثار ويفحصونها
ويرسمونها، ويحاولون إماطة اللثام عن تاريخ هذه البلاد القديمة وحياة شعوبها، بينما
يشتبك الجنود مع الثوار أو البكوات المماليك في مناوشات دامية أو معارك طاحنة.
وكثيرًا ما أُصيب بعض هؤلاء العلماء بجراح خطيرة أو لقوا حتفهم بسبب هذه العمليات
العسكرية، وكثيرًا ما سقط آخرون فريسة لوباء الطاعون أو لغيره من الأمراض
المستعصية، حتى إذا انقضت أيام الاحتلال الفرنسي في مصر كان قد بلغ عدد هؤلاء
ثلاثين عالمًا من علماء النبات والكيميائيين والمهندسين والجغرافيين والرسامين
والجراحين والمستشرقين والأدباء والفنانين والميكانيكيين والاقتصاديين وكبار القواد
العسكريين من أعضاء المجمع العلمي المصري، وذلك عدا ثلاثة ماتوا في الطريق في أثناء
العودة إلى فرنسا.
١٣٢ وكان كل هؤلاء من أعضاء لجنة العلوم والفنون أو المجمع العلمي الذي
أنشأه بونابرت في القاهرة.
وإلى جانب ما قاسوه من عناء الاضطرابات والثورات والعمليات العسكرية المستمرة
وانتشار الأوبئة والأمراض، واجه العلماء صعوبات عدة في أثناء بحوثهم ودراساتهم، نشأ
بعضها من تلف جزء هام من آلاتهم العلمية وأدواتهم في أثناء العبور إلى مصر أو بسبب
الثورات التي قامت في القاهرة، فقد غرقت السفينة لاباتريوت
La Patriote التي كانت تحمل جزءًا كبيرًا منها، كما أنه صار من
المتعذر عليهم أن يجلبوا من فرنسا بدلًا من هذه الآلات والأدوات عندما كادت تنقطع
كل صلة بين مصر وفرنسا بعد انتصار الإنجليز في موقعة أبو قير البحرية،
١٣٣ فصار كل اعتماد العلماء على جهود نوت
Nouet العالم الفلكي ومساعده ميشان
Méchain في «اختراع» بعض الآلات الفلكية،
١٣٤ كما اعتمدوا على مهارة كونتيه
Conté
زميلهم «المخترع» الذي استطاع بفضل مهارته الفنية أن ينشئ عددًا من المعامل
و«الورش»، التي صنعت الآلات والأدوات التي استعان بها العلماء في إنجاز بحوثهم.
١٣٥
وفضلًا عن ذلك فقد كان سوء ظن الأهلين بهم وعدم استطاعتهم أن «يفهموا» أو يدركوا
ما كان لبحوث هؤلاء العلماء من أهمية عظيمة، منشأ متاعب ومشقات جمة؛ إذ بات من واجب
العلماء الفرنسيين أن يستميلوا إليهم المشايخ وكبار المصريين من جهة، وأن يطلعوهم
على ما حوته أبنية «المجمع العلمي» وغيره من مجموعات نباتية وحيوانية وجيولوجية
وآلات ميكانيكية وفلكية ومواد كيميائية وما إلى ذلك، ويفسِّرون لهم ما استغلق على
هؤلاء المشايخ وأعضاء الديوان من الأعيان فهمه، كما بات عليهم من ناحية أخرى أن
يوقظوا في العامة شيئًا من حب الاستطلاع والاشتياق لمعرفة قصة جهودهم العلمية بصورة
تساعد على إزالة ما كان يخامر هؤلاء — والقاهريين على الخصوص — من شكوك في نوايا
العلماء الفرنسيين وحقيقة أغراضهم العلمية، «فكانوا إذا حضر إليهم بعض المسلمين
ممن يريد الفرجة لا يمنعونه من الدخول إلى أعز أماكنهم ويتلقَّوْنه بالبشاشة والضحك
وإظهار السرور بمجيئه إليهم، وخصوصًا إذا رأوا فيه قابليةً أو معرفةً أو تطلعًا
للنظر في المعارف بذلوا له مودتهم ومحبتهم، ويحضرون له أنواع الكتب المطبوع بها
أنواع التصاوير وكرات البلاد والأقاليم والحيوانات والطيور والنباتات وتواريخ
القدماء وسير الأمم وقصص الأنبياء بتصاويرهم وآياتهم ومعجزاتهم وحوادث أممهم مما
يحير الأفكار.»
وكان الشيخ الجبرتي من أولئك الذين زاروا المجمع العلمي وتكررت زياراته،
١٣٦ كما زار المشايخ البكري والمهدي والفيومي والصاوي وغيرهم من أعضاء
الديوان وسائر القاهريين المطبعة الأهلية.
١٣٧ وكانت «الطواحين» التي «تدور في الهواء» والتي بناها كونتيه في القاهرة
ثم أُنشئ عدد منها في المدن الأخرى كرشيد ودمياط وبلبيس والصالحية موضع عجب المصريين.
١٣٨ وطيَّر الفرنسيون المناطيد (البالونات) كوسيلة من وسائل استرعاء انتباه
القاهريين والعامة إلى مهارتهم العلمية وإثارة إعجابهم ﺑ «مخترعاتهم» وجهودهم. غير
أن فشلهم في هذه الناحية كان فشلًا كبيرًا للأسباب التي سبق ذكرها. وظل سواد
القاهريين يسيئون الظن بالعلماء ويشكُّون في نواياهم ولا يفرقون بينهم وبين سائر
الفرنسيين، وكان من أسباب إثارة الشكوك في نوايا العلماء الفرنسيين تلك الأوهام
والخرافات التي ظلت متسلطة على عقول العامة، فقد حدث أن رغب ريجو
Rigo أحد الرسَّامين أن يرسم صورة نصفية لرجل نوبي،
فما إن شرع في تلوين الرأس والصدر حتى هبَّ النوبي مذعورًا يطلب من ريجو أن «يعيد
إليه رأسه وصدره»، وأُرغم نوبي آخر كان في خدمة أحد الفرنسيين على الرضوخ لتصويره،
فاشتد السخط وساد الذعر لاعتقاد هؤلاء النوبيين أن أجزاء الجسم المصورة لا تلبث أن
تيبس ولا مفر من موت أصحابها، وتطايرت الإشاعات بأن ريجو كان يحفظ في معمله
«رءوسًا وأعضاءً مبتورة.» وذاع الاعتقاد في أوساط القاهريين بأن أعضاء المجمع
العلمي ما هم إلَّا جماعة من السحرة أحضرهم بونابرت معه ليساعدوا على نجاح عملياته
العسكرية، وأنهم قد قاموا وما زالوا يقومون بهذه المهمة على خير وجه.
١٣٩
وعلى ذلك فقد ظلت الشكوك تساور القاهريين من ناحية هؤلاء العلماء، ولقي العلماء
بسبب ذلك عنتًا وإرهاقًا في أعمالهم وبحوثهم، بل ذهب نفر منهم ضحية هذه الوساوس
والشكوك. وآية ذلك ما كان يقع لهم في الأقاليم، حيث أكثر العربان والفلاحون من
الغارة عليهم وقتل كل من وقع بأيديهم، ثم ما كان يحدث في القاهرة ذاتها فقد لقي
عدد من هؤلاء العلماء حتفهم في أثناء ثورة القاهرة الأولى خصوصًا، نذكر منهم
تستفويد
Testevuide رئيس المهندسين
الجغرافيين، والرسام دو بريس
Duperrés، والمهندسَيْن
ثيفينو
Thévenot وديفال
Duval. كما جُرِح المهندس دي
لاروش
de la Roche، وقد هاجم الثوار مبنى المستشفى فقتلوا اثنين من الجراحين
هما روسيل
Roussel ومونجان
Mongin. كما سقط في أثناء هذه الثورة القائد كفاريلِّي
Caffarelli وكان من أعضاء المجمع العلمي، ونجا
العالم مونج
Monge بوجه الصدفة. وهاجم الثوار مبنى
المجمع العلمي وسراي قاسم بك مقر لجنة العلوم والفنون، وضيَّقوا الحصار على المجمع خصوصًا.
١٤٠ وفضلًا عن ذلك فإنه ما كان يستطيع أحد من العلماء إجراء أية بحوث في
الوجه البحري أو البحث عن الآثار ورسم نقوشها والتماثيل العديدة في الوجه القبلي،
لولا حماية الجيوش التي خرجت لإخماد الثورات في الدلتا وإخضاع الصعيد.
لجنة العلوم والفنون
ومما يجدر ذكره أن هؤلاء العلماء الذين وفدوا إلى مصر، كانوا ينتمون إلى
هيئتين منفصلتين كان لكل منهما قوامها الخاص بها ولا يربط بينهما سوى صلة
العلم وتضافر الجهود العلمية فحسب، هما «لجنة العلوم والفنون» و«المجمع العلمي
المصري»؛ أمَّا الأولى فكانت تلك التي تألفت في فرنسا كجزء من الحملة الذاهبة
إلى مصر، وأمَّا الثانية «هيئة المجمع العلمي» فكانت تلك التي تم تشكيلها في
مصر بعد أن دخل بونابرت القاهرة،
١٤١ فقد صدر قرار من حكومة الإدارة في ١٦ مارس ١٧٩٨م يطلب إلى وزير
الداخلية أن يضع تحت تصرف الجنرال بونابرت المهندسين والفنانين وغيرهم من أعضاء
الهيئات التي تخضع لإشراف وزارة الداخلية وكذلك مختلف الأشياء التي يريدها
بونابرت لحملته. وكان بونابرت قبل ذلك قد اختار مونج لرئاسة هيئة العلماء
الذاهبة إلى مصر والتي عمد بونابرت إلى اختيار أهم أعضائها، ثم اشتمل قرار ١٦
مارس على أسمائهم، وكان هؤلاء: بوشامب
Beauchamp ودانجوس
Dangos
ودوك-لاشابل
Duc-Lachapelle وميشان الابن
Méchain fils ونوت
Nouet وكزنو
Quesnot، وكانوا
من علماء الفلك.
ثم أندريوسي Andréossy وبونابرت نفسه
وبرنجويه Bringuier وشاربو
Charbaud وكوستاز
Costaz وكورانسيز
Corancez وديفلِّييه دي تيراج
De Villiers du Terrage وفورييه
Fourier وفوسو دي سانت كلمنت
Fusseau de Saint-Clément ولوروي
Le Roy ومالوس
Malus وموريه سانت أماند
Moret Saint-Amand وفنسنت
Vincint وفيار
Viard، وكانوا من علماء الرياضة.
وصمويل برنار وبرتوليه وشامبي الأب ونيقولا شامبي Nicolas Champy
وكوليه ديكوتيل Collet-Descotils
ورينو Regnault
وبيكيه Picquet
وبوتيه Pottier،
وكانوا من علماء الكيمياء والطبيعة.
وأنديس الأب والابن Andés وإيميه
Aimé وبرجويه الابن
Bréguet وكسارد
Cassard وسيسيل
Cécile وسيروت
Cirot وكولان
Colin وكونتيه
Conté وكوتيل
Coutelle وكوفرور
Couvreur وديبوا
Dubois وفافييه
Favier وفوكيه
Fouquet وهسنفراتز
Hessenfratz وهيرو
Hérault وهوشي
Hochu ولومتر
Lemaitre ولنوار الابن
Lenoir ولومون
Laumont وميزيير
Maizières ومولار
Mollard ومونج
Monge وبلازانيه
Plazanet وتوماس، من العلماء
الميكانيكيين.
وبلزاك ودمولان Demoulin
ولوبير J. B. Lepére
ونوري Norry
وبروتان Protain، من المعماريين.
وأليبير Alibert
وأرنولِّيه Arnollet
وبودار Bodard
وكاريستي Caristie
ودي فولفيك شابرول de Volvic Chabrol
ودبودر Debaudre
وديفال Duval (المهندس) وفاي Faye
وفيفر Févre
وجيرار Girard
وإسنار Isnard
وجولوا Jollois
ولانكريه Lancret ولوبير وأخوه
جرتيان لوبير Gratien Le Père
ومارتان Martin
ومولين Moline
ورافينو Raffeneau
وسانت جنيس Saint-Genis
وثيفينو Thévenot، وكانوا من العلماء المهندسين، مهندسي الطرق والكباري.
وقد انضم إلى جماعتهم من علماء الأقسام الأخرى كل من دي فلِّيه، دي بوا،
إيميه، دو شانوي، فافييه، بوتيه، رينو، فيار، ثم بنازيه Bénazet
وبرتر Bertre
وبورجوا Bourgeois
وكورابوف Coraboeuf
وديليون Dilion
وفوبي Faubie
وجاكوتان Jacotin
وجومار Jomard
وجومار الأصغر Jeune
ولافويلاد Lafeuillade
ولاروش Larouche
ولاتويل Lathuile
وليسين Lecesne
وليدوك Leduc
وليفزك Lévesque
ورولان بوتيه وشواني Schouani
وسيمونل Simonel وتستفويد، وكانوا من المهندسين
الجغرافيين.
ثم بوشيه Boucher
وشومو Chaumont
وجرزليه Greslé
وج. ب فنسنت J. B.
وبونجان Bonjean، وكانوا من مهندسي
السفن.
ثم دو شانوي Duchanoy
وجيوفري سانت هيلير Geoffroy Saint-Hilaire
وإسكندرجيرا Gérar
وردوتيه Redouté
وسافيني Savigny، من علماء الحيوان.
ثم كوكبير دي مونتبير Coquebert de Montbert
ورافينو دليل R. Delile
وماري Marie
وميلبير Milbert
ونكتو Nectoux
وثوان Thouin، وكانوا من علماء النبات.
ثم كوردييه Cordier
ودولوميو Dolomieu
وفيكتور ديبوي Dupuy
ونبفو Nepveau
وروزيير Rozière، وكانوا من علماء المعادن.
ثم بسيير Bessières
وبيدو Bidou
ودبيرون Daburon وديجنت
وديفزفر Devaisvres وأنتوان دبوا ودبوا الابن
ولابات Labatte
ولاسبيير Lascipière
ولاري Larrey
وبوكفيل Pouqueville
وريال Réal، وكانوا من الأطباء الجراحين.
ثم بوديه Boudet
ورجوان Roguin
وروييرس Rouhierès، من الكيميائيين.
ثم بودان Boudoin
وكاكيه Caquet
وكاستيكس Casteix
ودينون Denon
وديتارتر Dutertre
وث. فوكيه C. Fouquet
وجولي Joly
وبورتال Portal
وبريه Peré
وريجل Rigel
وريجو Rigo
وفيلوتو Villoteau، وكانوا من الفنانين
الرسامين والموسيقيين.
وقد انضم إليهم سيسيل وريدوتيه، ثم
أرنو Arnault
وبنابن Benaben
وبوريين Bourienne وكفاريلِّي
دوفالكا Dufalca
وديزيه Desaix ودوجا وأستيف (أو أستوف على ما سمَّاه الجبرتي)،
وجلوتيه Gloutier
ولبلون Leblond
وليروج Lerouge
وبرسيفال دي جرانميزون Parseval de Grandmaison
وبورلييه Pourlier وبوسيلج
ورينو دي سانت جان دانجلي D’Angely
ورينييه Reynier
وريبولت Ripault
وتاليان Tallien
وسان سيمون Saint-Simon وسلكوسكي
وسوسي Sucy،
وهم من الأدباء وعلماء الآثار والاقتصاد.
ثم مارسيل Marcel
وبسون Besson
وبودوان Beauduin
وجالان Galland
ولابورت Laporte
وبنتيس Puntis، وقد عُهِد إليهم بأعمال الطباعة.
ثم بلتت Belletête
وبراكيفتش Bracevich
وديشيزي De Chésy
وديلابورت Delaporte
وجوبير Jaubert
ولوماقا Lomaca ومجالون
وبنهوسن Panhusen
وريج Raige
ودون روفائيل Raphael De Monachis
وفنتور Venture، وكانوا من المستشرقين (وقد انضم إليهم مارسيل).
وعلاوة على ذلك فقد كان من بين لجنة العلوم والفنون أعضاء توزع نشاطهم ولم
يلتحقوا بقسم معين من أقسام اللجنة، وهم:
برج
Berge
وبوشار
Bouchard
وبرونيه دينون
Brunet-Denon
وروبل
Rubel
وجوليان
Jullien وكليبر
ولاسي
Lacy
ولافون
Lafond
وهيسنث لوبير
Hyacinthe Le Pére وليدوك (من الملحقين
بهيئة أركان الحرب وغير سميِّه المهندس الجغرافي)
وجنتيل
Gentil
ولوميتر
Lemaitre
(غير سميِّه من العلماء الميكانيكيين)
ومايُّو
Maillot
وثيري
Thierry.
١٤٢
وقد حالت ظروف عدة دون حضور كل أعضاء لجنة العلوم والفنون الذين ذكرهم قرار
حكومة الإدارة (١٦ مارس ١٧٩٨م) إلى مصر، سواء أكان ذلك لعدم مغادرتهم فرنسا
أصلًا مع الحملة أم تخلفوا في مالطا، فكان من المتغيبين: أرنو، بودوان، بنابن،
بنازيه، برجويه الابن، ديشيزي، دانجوس، دبودر، ديبوا، دوك لاشابل، ميزبير،
مولار، توماس، دمولان، أسنار، رولان بوتييه، ثوان، نبفو، بورتال، بريه، لبلون،
رينو دي سانت جان دانجلي، وهكذا يكون عدد العلماء الذين حضروا إلى مصر ١٧٥ عالمًا.
١٤٣
وقضى اثنان وثلاثون عالمًا نحبهم في أثناء قيامهم ببحوثهم في مصر وسوريا،
ففتك الطاعون بنيقولا شامبي وهيرو وبودار وكوكبير وليروج في مصر، وبرنجويه
وسان سيمون في يافا، وقُتل في أثناء الاضطرابات في شباس عمير جولي، وفي القاهرة
سلكوسكي وتستفويد وثيفينو، واغتيل كليبر، كما قُتِل في مصر تيري
Thierry وديفال، وقضى نحبه بيكيه في العريش،
وكولان في دمياط، وبنهوسن في الإسكندرية، وغرق كورابوف وديليون، وتُوفِّي
بورجوا وكاكيه وسيروت وفوري
Faurie
ولودوك
Leduc وديفزفر وجلوتيه ولابورت،
وتُوفِّي فنتور في عكا، وقُتِل في أثناء حصارها كل من شاربو وفوسودي سانت كلمنت
وساي وكفاريلِّي. وفضلًا عن ذلك فقد قضى من العلماء في أثناء العودة إلى فرنسا
ثلاثة، هم: بوشامب وسوسي الذي قُتِل في صقلية، ودولومبو الذي حبسه ملك نابلي
وتُوفِّي عقب عودته إلى فرنسا.
١٤٤
وقُسِّمت لجنة العلوم والفنون عند وصولها إلى مصر ثلاثة أقسام: الأول في
القاهرة، وكان مونج وبرتوليه أول من حضر من العلماء إليها ثم تبعهما الآخرون.
والثاني في الإسكندرية، وكانوا حوالي خمسة عشر عالمًا، أوجد لهم كليبر مكانًا
مريحًا في منزل قنصل البندقية. والثالث في رشيد، وكانوا حوالي عشرين عالمًا،
أقاموا في بيت فارسي Varsy أحد التجار
الفرنسيين بالمدينة، وكان منهم الرسام جولي الذي قُتِل في حادث شباس
عمير.
غير أنه ما استقر الأمر لبونابرت في القاهرة حتى أرسل منذ ٢١ أغسطس ١٧٩٨م يطلب
حضور جميع العلماء إلى القاهرة، فأمر برتييه Berthier رئيس هيئة أركان حربه بأن يجمع كل العلماء والفنانين
والمهندسين في القاهرة ما عدا المهندسين الذين كان كليبر ومنو قد عهدا إليهم
بخدمات معينة في الإسكندرية ورشيد. ومع أن منو اضطر مكرهًا إلى إرسال العلماء
الموجودين في رشيد، فقد استطاع كليبر أن يستبقي لديه المهندسين الجغرافيين
ومهندسي الطرق والكباري بدعوى اشتغالهم في وضع خريطة أو رسم للإسكندرية. وبدأ
العلماء سيرهم إلى القاهرة بطريق النيل في ٧ سبتمبر ١٧٩٨م واكتمل عقدهم في غضون
الشهر نفسه، وبدأت من ثَمَّ إعادة تنظيم لجنة العلوم والفنون ووُزِّعت الأعمال على
أعضائها، فعُيِّن لوبير الأب رئيسًا لهيئة مهندسي الطرق والكباري على أن يساعده
جيرار، وعُيِّن تستفويد رئيسًا للمهندسين الجغرافيين وجاكوتان معاونًا له، وترأَّس
كونتيه الصناع يساعده سيسيل، وأشرف شامبي الأب على معامل البارود، وعُيِّن
برنار Bernard للإشراف على «الضربخانة» أو
مكان سك العملة، ثم أُنشِئت حظيرة للحيوانات وأُعدَّ مكان للطيور لمساعدة علماء
التاريخ الطبيعي في أعمالهم تحت إشراف رافينو ودليل Delille.
وقبل بداية شهر أكتوبر سنة ١٧٩٨م كان قد تم ترتيب مكتبة للعلوم الطبيعية ومعمل
للكيمياء ومكتبة للتاريخ الطبيعي، وطلب بونابرت إنشاء مرصد فعهد العلماء
الفلكيون إلى كفاريلِّي والمعماري نوري
Norry
باختيار موضعه. وأخيرًا نظَّم كونتيه «الورش» الميكانيكية التي زودت العلماء
بالآلات والأدوات التي احتاجوا إليها في بحوثهم.
١٤٥ وبدأ العلماء نشاطهم دون إبطاء فأنشئوا مصانع لدبغ الجلود وصناعة
السروج والأحذية وما إلى ذلك، كما بنوا غيرها لعمل الكحول والمشروبات والبيرة
والقبعات والمطرزات وقد بذَّ المصريون في هذه الصناعة الفرنسيين. وأنشئوا
ورشًا للنجارة لعمل الموائد والكراسي والأسرَّة وغير ذلك مما احتاج الفرنسيون
إليه في بيوتهم.
١٤٦ وفضلًا عن ذلك استطاع دينون أن يصحب جيش ديزيه الذاهب لإخضاع
الصعيد؛ وذلك لكي يرسم آثارها ومعابدها والنقوش الهيروغليفية، كما ذهب جومار
كمهندس وجغرافي للغرض نفسه إلى الصعيد، وأراد ديبوا إيميه اللحاق به وقصد إلى
القصير.
ولما كان العلماء من قسم لجنة العلوم والفنون بالقاهرة يريدون إجراء بحوثهم
في الصعيد للتنقيب عن الآثار ورسم النقوش الهيروغليفية ودراسة الوجه القبلي
دراسة شاملة؛ فقد أصدر بونابرت أمره منذ ١٤ أغسطس ١٧٩٩م بتأليف لجنتين: إحداهما
برئاسة كوستاز
Costaz، ومن أعضائها نوت
وميشان وكوتيل وكوكبير وسافيني وريبولت وبلزاك وكورابوف ولنوار ولابات ولوبير
المهندس المعماري وسانت جنيس وفيار، على أن تغادر القاهرة في ١٥ أغسطس إلى
الوجه القبلي لزيارة الآثار القديمة. والثانية برئاسة فورييه، ومن أعضائها
بارسيفال دي جرانميزون وفيلوتو ودليل ولوبير (المهندس) وردوتيه ولاسبيير
وشابرول وأرنولِّيه وفنسنت، على أن تغادر إلى الصعيد كذلك في ١٨ أغسطس،
١٤٧ وقد غادر كل هؤلاء العلماء القاهرة فعلًا إلى الصعيد في ٢٠ أغسطس.
وكانت خطة العمل التقدم في الصعيد حتى الشلال الأول، ثم العودة إلى القاهرة في
مراحل صغيرة، حتى يستطيع العلماء رسم هذا الطريق النهري وكل ما يوجد من آثار
على جانبَي النيل.
١٤٨ ووصل العلماء من أعضاء لجنة كوستاز إلى أسوان وفيلة، فزاروا آثار
الصعيد في طيبة ووادي الملوك والكرنك ومدينة آبو ومعابد إدفو وغيرها، وحققوا
مواقع بعض المدن القديمة.
١٤٩
وما إن خلف كليبر بونابرت حتى لقيت لجنة العلوم والفنون كل تشجيع من القائد
الجديد؛ ذلك بأن كليبر من ناحية الاهتمام بالبحوث والدراسات العلمية كان على
اتفاق تام مع بونابرت على الرغم من اختلافهما في أشياء كثيرة أخرى، فأراد أن
يتم ما بدأه بونابرت بأن ينظم جهود العلماء ويحدد وجوه نشاطهم، ويعيِّن لأعضاء
لجنة العلوم والفنون الموضوعات التي يجب أن تتوفر كل جماعة منهم على بحثها.
ولما كانت اللجنتان اللتان تألَّفتا منذ أغسطس ١٧٩٩م وسافرتا إلى الصعيد، قد اختص
أعضاؤهما بالتنقيب عن الآثار القديمة ودرسها، فقد رغب كليبر في أن يدرس العلماء
عادات أهل البلاد وأساليب عيشهم ودياناتهم وتقاليدهم والقوانين السارية بينهم
ونوع حكومتهم، كما أراد أن يدرس العلماء شئون التعليم والتجارة، علاوة على صنع
الخرائط وعمل المصوَّرات وجمع الوثائق الهامة المتعلقة بكل هذه الموضوعات، ثم
كتابة تاريخ البلاد من وقت مجيء حملة القبطان حسن باشا (١٧٨٦م) إلى وقت وصول
العمارة الفرنسية إلى الشواطئ المصرية، على أن يُعنَى العلماء كذلك بدراسة ما كان
لمصر من علاقات مع داخل أفريقيا.
١٥٠
وعلى ذلك فقد أصدر كليبر قرارًا بتأليف لجنة ثالثة (أو مكتب) إلى جانب لجنتي
كوستاز وفورييه السابقتين في ٢٠ نوفمبر ١٨٩٩م، أعضاؤها: ديجنت كبير أطباء
الحملة، وجلوتييه Gloutier القومسيير الفرنسي
في الديوان، وفورييه وليفرون وتاليان وروشتي قنصل النمسا العام وبودوت (أو
بوضوط كما سمَّاه الجبرتي) ياور كليبر ودوجا وبروتان، ثم لم يلبث أن انضم إلى
أعضائها كل من جيرار وكونتيه ودوترتر Dutertre ولوبير
الأكبر Le Père Ainé مدير الأشغال العمومية ورئيس المهندسين وجاكوتان رئيس
المهندسين الجغرافيين ومارسيل المستشرق ومدير المطبعة الأهلية. ونص قرار تأليف
هذه اللجنة على ضرورة اجتماعها بعد يومين حتى تضع خطة لتوزيع الأعمال والبحوث
على المختصين، وقد تم ذلك على الوجه التالي:
(١) التشريع والعادات الأهلية والدينية: جلوتييه وفورييه. (٢) الإدارة: تاليان
وجلوتييه. (٣) البوليس: فورييه ودوجا. (٤) الحكومة والتاريخ: روشتي ومارسيل.
(٥) الشئون العسكرية: بوضوط ودوجا. (٦) التجارة والصناعة: ليفرون وروشتي
وكونتيه. (٧) الزراعة: جيرار وتاليان. (٨) السكان: ديجنت. (٩) الآثار والنقوش
وما إليها: بروتان ومارسيل ودوترتر. (١٠) الجغرافيا والهيدروليكا: لوبير
وجاكوتان. وقد استطاعت هذه اللجنة أن تعقد جلسات عدة وبذل أعضاؤها نشاطًا عظيمًا.
١٥١
المجمع العلمي
ولم تكد تنقضي أيام معدودة على دخول بونابرت القاهرة ظافرًا حتى أصدر أمرًا
في ٢ أغسطس ١٧٩٨م باختيار بيت يتسع لإعداد مكان ﻟ «مطبعة جيش مصر»، وإنشاء معمل
كيميائي ومكتب للعلوم الطبيعية، وإقامة مرصد إذا كان ذلك ممكنًا، وطلب إلى كل
من مونج العالم الرياضي وبرتوليه الكيميائي والجنرال كفاريلِّي من أعضاء لجنة
العلوم والفنون أن يعملوا على تنفيذ هذه الرغبة، كما طلب بونابرت في هذا الأمر
إنشاء «صالة للمجمع العلمي».
١٥٢ ومما تجدر ملاحظته أن بونابرت اختار مكانًا واسعًا يضم كل المؤسسات
العلمية التي قرر إنشاءها، كما أنه اعتمد على أعضاء لجنة العلوم والفنون في
اختيار هذا المكان، وكان ظاهرًا أن أعضاء المجمع العلمي سوف يُختارون كذلك من
بين أعضاء لجنة العلوم والفنون ولو أن الهيئتين استمرتا منفصلتين في
تكوينهما.
ووقع الاختيار على مكان للمجمع العلمي ولجنة العلوم والفنون في حيٍّ — على حد
قول جومار — لا يبعد عن السيدة زينب والخليج، هو قصر حسن كاشف بالناصرية وبعض
القصور والبيوت المجاورة له كقصري قاسم بك وإبراهيم كتخدا السناري وغيرهما من
مساكن البكوات المماليك وأعيان المصريين. وبُدئ في تهيئة مكان لعقد جلسات
المجمع وللمكتبة والمعامل الكيميائية والطبيعية ولحظيرة الحيوان وحديقة النبات
والورش الميكانيكية والمرصد، وإعداد أمكنة لمجموعات التاريخ الطبيعي والمجموعات
الأركيولوجية وغير ذلك. وعندما تم اختيار المكان وابتداء العمل أقدم بونابرت
مطمئنًّا على تأسيس المجمع العلمي، فأصدر أمرًا في ٢٠ أغسطس ١٧٩٨م إلى مونج
وبرتوليه وكفاريلِّي وجيوفري سانت هيلير وكوستاز وديجنت والجنرال أندريوسي
بالاجتماع الساعة السابعة من صباح اليوم التالي للبحث في تنظيم «المجمع العلمي
في القاهرة» واختيار أعضائه،
١٥٣ واجتمع هؤلاء في الموعد المحدد ووضعوا المواد التي يتألف منها قرار
إنشاء المجمع العلمي.
١٥٤
وفي ٢٢ أغسطس صدر أمر بونابرت بتأسيس المجمع،
١٥٥ على أن يكون من أغراضه: «أولًا» العمل على إشاعة نور العلم
والعرفان في مصر. «ثانيًا» دراسة المسائل والأبحاث الطبيعية والصناعية
والتاريخية الخاصة بمصر ونشر هذه الدراسات. (ثالثًا) إبداء الرأي فيما قد تعرضه
الحكومة على المجمع من مسائل تبغي استشارته فيها. وقد قُسِّم المجمع إلى أربعة
أقسام: للرياضيات، والطبيعيات، والاقتصاد السياسي، والآداب، والفنون، على أن
يتألف كل قسم منها من اثني عشر عضوًا، فيعقد الأعضاء جلستين كل شهر وينتخبون
من بينهم هيئة مكتب المجمع، ويكون للمجمع سكرتير دائم ومهمته إعداد البحوث
والمذكرات العلمية ثم التقارير التي تطلبها الحكومة ونشر بحوث الأعضاء
ومذكراتهم، وخُصِّصت جائزتان لأفضل ما يُقدَّم من دراسات في موضوعي تقدم الحضارة
عمومًا في مصر ثم تقدم الصناعة.
وواضح من قرار إنشاء المجمع العلمي أن بونابرت كان يهدف إلى وضع الأسس
العلمية الصحيحة، التي لا يتسنى دونها تشييد صرح المستعمرة الناجحة، كما أن
تسابق العلماء المنتظر من أجل الحصول على الجوائز العلمية من شأنه أن يحفِّز
إلى التفكير في أهم الوسائل التي تكفل تقدم هذه المستعمرة الناشئة في ناحيتين
من النواحي التي شعر بونابرت وشعر معاصروه الفرنسيون أن مصر وقتئذٍ كانت في
حاجة ملحة إلى استكمالها، حتى تغدو بلدًا متحضرًا وفق الأساليب الفرنسية ولا
شكَّ، وحتى ترقى الصناعة فيها بصورة تسد حاجة جيش الشرق على وجه الخصوص من
المنتجات الصناعية التي لم يعد هناك أي أمل في جلبها من الخارج منذ أن تحطم
أسطول برويس في خليج أبو قير وانقطعت الصلات بين الحملة في مصر وأرض الوطن،
ولو أن ذلك ما كان يعني أن البلاد ذاتها لن تستفيد شيئًا من هذا النشاط
العلمي والصناعي في آخر الأمر إذا قُدِّر للحملة البقاء في مصر مدة طويلة، وساد
التفاهم بين الفرنسيين وأهل البلاد وأقبل المصريون على تأييد جهودها.
وكان في أثناء الاجتماع الذي عُقِد لتنظيم أعمال المجمع العلمي أن تم اختيار
أعضائه، وصدر أمر بونابرت في ٢٢ أغسطس
١٥٦ كذلك بتعيين هؤلاء الأعضاء، وكانوا في أول الأمر ستة وثلاثين حسب
قرار ٢٢ أغسطس، ثم ضُمَّ إليهم عشرة بعد ذلك فأصبحوا ستة وأربعين عضوًا،
١٥٧ وهذا عدا أعضاء المكتبة وكانوا اثنين فحسب، وأعضاء لجنة الزراعة
وكانوا ثلاثة. وعلى ذلك فقد جرى توزيع أعضاء المجمع العلمي على أقسامه المختلفة
على النحو التالي: (١) الرياضيات: أندريوسي وفورييه سكرتير المجمع الدائم،
وكوستاز وجيرار ومونج ولوبير وبونابرت ولوروي ونوت وساي ومالوس وكزنو
ولانكريه. (٢) الطبيعيات والتاريخ الطبيعي: كونتيه وديكوتيل ودولوميو وبرتوليه
وجيوفري سانت هيلير وشامبي الأب ودليل وديجنت وديبوا وسافيني وبوشامب وبوديه
ولاري. (٣) الاقتصاد السياسي: كفاريلِّي وجلوتيه وبوسيلج وسوسي وتاليان
وكورانسيز ودوجا وبوريين (فوفليه) وجاكوتان ورينييه. (٤) الآداب والفنون: دينون
وبرسيفال دي جرانميزون وريجل ونوري وريدوتيه وفنتور ودون روفائيل وبروتان وريجو
وريبولت، وأمَّا عضوا المكتبة فكانا كوكبير وميشان، وعُيِّن شامبي الأب ودليل
ونكتو أعضاء في لجنة الزراعة.
١٥٨
وعلاوة على ذلك كان من أعضاء المجمع العلمي كل من فكتور ديبوي مهندس المناجم
والجنرالين كليبر وديزيه. ويُلاحظ أن هذه القائمة اشتملت على أسماء أعضاء من
لجنة العلوم والفنون، وكانت جميع الهيئات ممثلة في المجمع خير تمثيل، فقد مُثِّل
عدد كبير من العلماء الرياضيين، وكان بونابرت وكفاريلِّي وأندريوسي وساي وسلكوسكي
ثم كليبر وديزيه يمثلون الجيش، بينما حضر ديجنت وديبوا عن الأطباء. ومثَّل رجال
الإدارة سوسي وبوسيلج وجلوتيه، ورجال السياسة تاليان، والمسيحيين الشرقيين دون
روفائيل.
ومع أن ثلث الأعضاء لم يكونوا بالقاهرة وأمر بونابرت باستدعائهم من
الإسكندرية ورشيد بكل سرعة،
١٥٩ فقد عقد المجمع العلمي أولى جلساته في ٢٣ أغسطس ١٧٩٨م، ووقع
الاختيار على مونج رئيسًا وبونابرت نائبًا للرئيس وفورييه سكرتيرًا دائمًا
وكوستاز مساعدًا للسكرتير. وتحدث مونج عن الغرض الذي أنشئ المجمع من أجله
والبحوث التي يجب على أعضائه القيام بها وهي تتعلق بدراسة الآثار القديمة
وكشف النقوش والكتابات التي على الجرانيت ثم الوقوف على أحوال البلاد في عهدها
الحاضر، فأوصى بصنع خريطة دقيقة وعمل بحوث مفيدة في الفلك والتاريخ الطبيعي،
وألح في ضرورة التفكير في كل ما من شأنه أن يعود بالفائدة كذلك على أهل البلاد
نتيجة لإدخال الإصلاحات الهامة التي لا غنى عنها لضمان تقدمهم، كما تناول مسألة
زراعة الأراضي وإصلاح وسائل الري وطرق توزيع ماء النيل. وبعد أن فرغ من حديثه
تكلم بونابرت فعرض على المجمع مسائل أربع تتناول: توفير مواد الوقود اللازمة
لأفران الجيش، والاستعاضة عن حشيشة الدينار بغيرها من نبات البلاد أو المواد
الكيميائية في صنع البيرة، وترشيح مياه النيل وتبريدها والمقارنة بين مزايا
طواحين الماء التي اعتاد الأهالي استخدامها وبين طواحين الهواء، ثم النظام
القضائي القائم بالبلاد وحالة التعليم بها. وفضلًا عن ذلك فقد طُرِحت على بساط
البحث مسائل أخرى ترتبط بزراعة الكروم في الأراضي الصالحة لزراعتها وجلب المياه
من النيل إلى القلعة وحفر الآبار في الصحراء، والاستفادة من الخرائب والأكوام
الموجودة حول مدينة القاهرة وسائر المدن والقرى المصرية في إنتاج ملح البارود
وصنع البارود. وقد تألفت في التو والساعة اللجان اللازمة لفحص هذه المسائل
جميعها ووضع برنامج شامل لتنظيم نشاط المجمع العلمي.
١٦٠
وعقد المجمع جلسات عدة ابتداء من أواخر أغسطس لغاية أوائل أكتوبر ١٧٩٨م، وفي
جلسة ١٢ أكتوبر أشار بونابرت من جديد إلى ضرورة العناية بفحص المسائل الخاصة
بمصر ووسائل ترقية أحوال أهلها من الناحيتين الخُلُقية والجسمانية وذلك للنهوض
بالبلاد. واستطاع العلماء وأعضاء اللجان التي توفرت على بحث المسائل التي أُثِيرت
في جلسة المجمع الأولى أن يعدُّوا مذكرات عديدة بنتائج فحصهم ودراساتهم، وأن
يعرضوا بحوثهم على المجمع، وأن يناقش أعضاؤه هذه البحوث. وحضر بونابرت جلسات
المجمع، وكثيرًا ما كان يتدخل فيما يحدث من مناقشات علمية بين الأعضاء خصوصًا
في موضوعات الاقتصاد السياسي. وسارت الأعمال بهمة عظيمة، فشرح مونج ظاهرة السراب،
وأوضح برتوليه نظريات كيميائية عدة، وألقى بونابرت وسلكوسكي وساسي وفورييه
وبوسيلج وديترتر وجيوفري سانت هيلير ولوبير ومالوس وكوستاز وبوشامب وبرسيفال دي
جرانميزون وغيرهم بحوثًا متنوعة، كما أُلقيت القصائد وتحدث المستشرق مارسيل في
أوزان الشعر العربي والقوافي وترجم آياتٍ من القرآن الكريم إلى اللغة الفرنسية
نظمًا، كما ترجم قصيدة نقولا التركي عن الفتح الفرنسي من العربية إلى الفرنسية،
وتحدث أندريوسي عن صنع ملح البارود، وألقى نوري بحثًا عن عمود بومبي، وتكلم
دولوميو عن موضع الإسكندرية القديم وديجنت عن الرمد ثم عن موافقة المناخ في
مصر للصحة العامة وهكذا.
١٦١
ومع أن نشاط المجمع فتر مدة قصيرة بسبب خروج بونابرت في غزوته المعروفة إلى
الشام، فقد اهتم بمجرد عودته بإحياء نشاط المجمع فعقد المجمع جلسة هامة اقترح
بونابرت في أثنائها أن يؤلف المجمع لجنة لبحث مسألة الطاعون تقوم بجمع كل ما
تيسر من معلومات عن حقيقة هذا الوباء الذي فتك بجنوده في أثناء حملة الشام.
وكان الواضح أن بونابرت — إذا تركنا جانبًا ناحية الموضوع العلمية — إنما يريد
أن يعزو فشله أمام أسوار عكا إلى انتشار هذا الوباء بصورة مفاجئة. ويقول مؤرخو
الحملة إن مونج اقترح أن يكون ضمن أعضاء هذه اللجنة ديجنت ولكن هذا رفض خوفًا
من «الوقوع في الفخ»، فاحتدمت المناقشة بينه وبين بونابرت بسبب ذلك.
١٦٢
ووصف الشيخ الجبرتي ما شاهده من ضروب النشاط خلال تردده الكثير على سراي
المجمع العلمي ولجنة العلوم والفنون، فقال: «فمن جملة ما رأيته كتاب كبير يشتمل
على سيرة النبي
ﷺ، ومصورون به صورته الشريفة على قدر مبلغ علمهم
واجتهادهم وهو قائم على قدميه ناظر إلى السماء كالمرهب للخليقة، وبيده اليمنى
السيف وفي اليسرى الكتاب وحوله الصحابة رضي الله عنهم بأيديهم السيوف، وفي
صفحة أخرى صورة الخلفاء الراشدين، وفي الأخرى صورة المعراج والبراق وهو صلى الله
عليه وسلم راكب عليه من صخرة بيت المقدس والحرم المكي والمدني، وكذلك صورة
الأئمة المجتهدين وبقية الخلفاء والسلاطين، ومثال إسلامبول وما بها من المساجد
العظام كآيا صوفيه وجامع السلطان محمد وهيئة المولد النبوي … وصورة البلدان
والسواحل والبحار والأهرام وبرابي الصعيد والصور والأشكال والأقلام المرسومة
بها وما يختص بكل بلد من أجناس الحيوان والطيور والنبات والأعشاب وعلوم الطب
والتشريح والهندسيات وجر الأثقال، وكثير من الكتب الإسلامية مترجم بلغتهم،
ورأيت عندهم كتاب الشفاء للقاضي عياض ويعبِّرون عنه بقولهم «شفاء شريف»، والبردة
للبوصيري ويحفظون جملة من أبياتها وترجموها بلغتهم، ورأيت بعضهم يحفظ سورًا من
القرآن، ولهم تطلُّع زائد للعلوم وأكثرها الرياضة ومعرفة اللغات واجتهاد كبير في
معرفة اللغة والمنطق ويدأبون في ذلك الليل والنهار، وعندهم كتب مفردة لأنواع
اللغات وتصاريفها واشتقاقاتها بحيث يسهل عليهم نقل ما يرون من أي لغة كانت إلى
لغتهم في أقرب وقت. وعند نوت Nouet الفلكي
وتلامذته في مكانهم المختص بهم الآلات الفلكية الغريبة المتقنة الصنعة وآلات
الارتفاعات البعيدة العجيبة التركيب الغالية الثمن … وكذلك نظارات للنظر في
الكواكب وأرصادها ومعرفة مقاديرها وأجرامها وارتفاعاتها واتصالاتها ومناظراتها،
وأنواع المنكبات والساعات التي تسير بثواني الدقائق …
وأفردوا لجماعة منهم بيت إبراهيم كتخدا السناري وهم المصورون ومنهم
أريجو
Rigo المصور، وهو يصور الآدميين
تصويرًا يظن من يراه أنه بارز في الفراغ مجسَّم يكاد ينطق، حتى إنه صوَّر صورة
المشايخ كل واحد على حدته في دائرة وكذلك غيرهم من الأعيان، وعلَّقوا ذلك في
بعض مجالس ساري عسكر. وآخر في مكان آخر يصوِّر الحيوانات والحشرات، وآخر يصوِّر
الأسماك والحيتان بأنواعها وأسمائها. ويأخذون الحيوان أو الحوت الغريب الذي لا
يوجد ببلادهم فيضعون جسمه بذاته في ماء مصنوع حافظ للجسم فيبقى على حالته
وهيئته لا يتغير ولا يبلى ولو بقي زمنًا طويلًا. وكذلك أفردوا أماكن للمهندسين
وصناع الدقائق. وسكن الحكيم رويا
Royer من
كيميائيي جيش الحملة
١٦٣ ببيت ذي الفقار كتخدا بجوار ذلك، ووضع آلاته ومساحقه وأهوانه في
ناحية وركَّب له تنانير وكوانين لتقطير المياه والأدهان واستخراج الأملاح
وقدورًا عظيمة وبرامات، وجعل له مكانًا أسفل وأعلى وبهما رفوف عليها القدور
المملوءة بالتراكيب والمعاجين والزجاجات المتنوعة، وبها كذلك عدة من الأطباء
والجرايحية. وأفردوا مكانًا في بيت حسن كاشف جركس لصناعة الحكمة والطب الكيماوي
… وأفردوا مكانًا أيضًا للنجارين وصناع الآلات والأخشاب وطواحين الهواء
والعربات واللوازم لهم في أشغالهم وهندساتهم وأرباب صنائعهم، ومكانًا آخر
للحدادين … وبأعلى هذه الأمكنة صناع الأمور الدقيقة مثل البركارات وآلات
الساعات والآلات الهندسية المتقنة وغير ذلك.»
١٦٤
وقد ذكر الشيخ ذلك في حوادث شهر جمادى الثانية ١٢١٣ﻫ — أي في غضون نوفمبر
وديسمبر ١٧٩٨م — وذلك بعد انقضاء أقل من ثلاثة شهور فقط على صدور قرار بونابرت
باختيار مكان لجنة العلوم والفنون والمجمع العلمي وتأسيس المجمع. ومع أن أعمال
المجمع تعطلت فترة من الزمن بسبب طغيان الاهتمام بالاستعدادات الحربية عند خروج
بونابرت في حملته إلى سوريا، فقد استأنف المجمع نشاطه بعد ذلك.
١٦٥
نشاط العلماء
وواقع الأمر أن ميادين نشاط هؤلاء العلماء كانت متعددة، وطفقوا يدرسون آثار
البلاد القديمة وتاريخها، وطبيعة أرضها وأجناسها، وحيوانها وطيورها، وغلاتها
الزراعية، وصناعاتها وتجارتها، وعادات أهلها، وغير ذلك من الموضوعات الاجتماعية
والسياسية والاقتصادية والجغرافية والجيولوجية، وكل ما يتعلق بماضي البلاد
وحاضرها. فقام نوت وميشان بتحقيق موقع الإسكندرية الجغرافي، واستطاع
لوبير (الأكبر)
Le Pére Ainé ومساعدوه أن
يضعوا خريطة دقيقة لها، وكذلك حقق نوت وكورابوف مواضع أهم جوامع القاهرة
وضواحيها، وتمكن الفلكيون الذين زاروا الأقاليم الشرقية من الوجه البحري أن
يحققوا مواقع دمياط وبلبيس والسويس والصالحية، ورسم الضابط سوهيت
Souhait مجرى النيل من القاهرة إلى العطف،
واستكشف جيوفري سانت هيلير الطريق بين القاهرة والصالحية وجزءًا من الطريق بعد
الصالحية إلى الشام، كما استطاع أن يجمع في أثناء رحلاته العديدة مجموعة من
الحيوانات والطيور، واهتم فضلًا عن ذلك بدراسة الحيوانات التي حنَّطها قدماء
المصريين كالتمساح والثعابين والطيور، وذلك عدا الأجسام البشرية التي عثر عليها
في طيبة وسقارة.
١٦٦
واستكشف كريبان
Crépin بعض الترع والقنوات
في منطقة بحر مويس، وزار كل من شواني
Schoauni
وفيفان دينون الصعيد، ولاتويل
Lathuille
المنوفية والغربية، وجومار وبرتر
Bertre
الفيوم، وبوريل
Burel الجيزة، واستكشف
كازال
Cazals وثيفيوت
Théviotte وبوتييه
Pottier بحيرة البرلس، ولانكريه وشابرول ترعة الإسكندرية،
ومالوس وفيفر
Févre بحر مويس ووقفا على آثار
بوبسطة، وكان من رأي العلماء أن بحر مويس هو الفرع التيتيني أحد فروع النيل القديمة،
١٦٧ واستكشف جيرار ترع الصعيد، وانهمك جاكوتان في صنع خريطة لمصر، وفحص
جيوفري سانت هيلير أسماك النيل والحيوان في منطقة بحيرة المنزلة، واستكشف
أندريوسي الجزء الواقع بين مصب الديبه والمطرية كما زار جميع المراكز الواقعة
في منطقة البحيرة مثل أم فرج والتينة وبيلوز أو الفرما، ثم اتجه بعد ذلك صوب
مديرية الشرقية فسار في بحر مويس وزار الصالحية، ثم عاد إلى دمياط بعد أن أتم
قياس أعماق بحيرة المنزلة ووضع خريطة لها، وقد استغرقت هذه الرحلة سبعة عشر
يومًا (١١ أكتوبر إلى ٢٨ أكتوبر ١٧٩٨م).
١٦٨
ودرس دليل النبات في الدلتا، وشامبي الابن وأرنولِّيه المعادن في منطقة البحر
الأحمر، وأشرف كونتيه على المصانع الميكانيكية وإنشاء طواحين الهواء، وعمل نوت
وبوشامب تقويمًا يشتمل على تقويم الكنائس الرومانية واليونانية والقبطية إلى
جانب التاريخ الهجري ثم تاريخ الجمهورية الفرنسية، وأعد سافيني مجموعة من
حشرات الصحراء، وحلل رينو طمي النيل، كما فعل ذلك برتوليه وديكوتيل فيما يتعلق
بالنبات للوقوف على خصائصه في الصناعة، وقام الأطباء تحت إشراف ديجنت ببحوث
واسعة بصدد الأمراض المنتشرة في مصر، وعُنِي لاري بدراسة الرمد، واهتم كل من
بروانت
Bruant وسيريسول
Ceresole وفرانك
Franke وريناتي
Renati وفوتييه
Vautier وغيرهم بدراسة شئون الصحة
العامة، واكتشف سافرسي
Savaresi معالم بركان
قديم في أرض عزبة البرج، وفحص كوستاز رمال الصحراء، وقام ريبولت ببحوث وافية في الواحات،
١٦٩ وألقى فرانك بحثًا «طيِّبًا» عن التمساح، كما أعد الصيدلي
رويير
Rouyères بحثًا طبِّيًّا عن الصعيد،
وتكلم جيرار عن مقياس النيل القديم الذي استكشفه في جزيرة إلفنتين، وجارو
Garo عن الاحتفالات التي يقيمها المصريون عند
ولادة أحد أطفالهم.
١٧٠
ومع أنه من المتعذر الإلمام بوجوه نشاط هؤلاء العلماء إلمامًا تامًّا دقيقًا
فقد يكفي أن نجتزئ بذكر بعض وجوه هذا النشاط، لبيان مدى ما كان يبذله هؤلاء من
جهد وهمة في دراساتهم وبحوثهم، فإنه ما حل ركابهم في القاهرة حتى قامت طائفة من
المختصين بالطبيعيات ودراسة المعادن والصخور والمتحجرات وما إليها، فزار
العلماء جبل المقطم، كما زار جيرار آثار هليوبوليس ولحق به دوجا وقام الاثنان
بفحص مسلة عين شمس، ورسم جاكوتان مواقع هذه الآثار وحققها من الناحية
الجغرافية، كما قاس ارتفاع المسلة وأبعادها كل من لانكريه وليففر
Lefebvre. وزار جماعة أخرى منهم نوت وشامبي الأب
والابن وديكوتيل وعديدون غيرهم من أعضاء لجنة العلوم والفنون أهرام الجيزة
وصحبهم بونابرت. ولما كانت زيارتهم في وقت الفيضان والبلاد مغرقة بالمياه فقد
انتقلوا في جروم حتى سفح الأهرام تقريبًا، وركب مع بونابرت كل من كفاريلِّي
وبرتييه ودومارتان ومونج وبرتوليه وكوستاز وفورييه وجيوفري سانت هيلير وجلوتيه
وبرسيفال دي جرانميزون، وركب الآخرون جرومًا أخرى، وصعد كثيرون الهرم حتى وصلوا
إلى القمة. وكان من الذين ذهبوا في هذه الزيارة دوجا ورينييه ولوكليرك
Leclerc، وقضوا هناك يومين استطاع في
أثنائهما نوت أن يستكشف أن كل زاوية من زوايا الهرم الأكبر تتجه إلى جهة من
الجهات الأربع الأصلية، ووصف الأهرامات ورسمها كما رسم أبو الهول كل من كونتيه
ودوترتر، وقد زار العلماء بعد ذلك آثار سقارة ومنف، ورسم جاكوتان خريطة لهذه الأماكن.
١٧١
واهتم العلماء بإصلاح مقياس الروضة وتم ذلك بإشراف المهندس شابرول، وقدم
لوبير رئيس المهندسين بنتيجة ذلك مذكرة إلى فورييه حسب طلب الديوان حتى يمكن
حفظها في «سلسلة التاريخ» أو سجلات القاهرة، فحقق ارتفاع عمود المقياس «بحضور
مصطفى شيخ المقياس، وبحضور السقاباشي»، «ورفعوا قاعدة العمود العليا ذراعًا،
وجعلوا تلك الزيادة من قطعة رخام مربعة ورسموا عليها من جهاتها الأربع قراريط
الذراع»، فبلغ ارتفاع العمود الكلي ثماني عشرة ذراعًا وستة قراريط، وأزالوا ما
تراكم من أوساخ في القاعة التي بها عمود المقياس وبنوا حجرتين لشيخ المقياس.
١٧٢
ولما كان خليج (أو ترعة) الإسكندرية يربط بين هذه المدينة وفرع النيل بالقرب
من الرحمانية، فقد كان من المنتظر أن تصبح الترعة طريقًا هامًّا للمواصلات
النهرية بين الإسكندرية والقاهرة، لو أن الملاحة في هذه الترعة كانت متيسرة على
مدار السنة أو في أكثر فصولها، على خلاف ما كان يحدث فعلًا عندما كانت ترعة
الإسكندرية لأسباب عدة لا تصلح للملاحة إلَّا فترة قصيرة من الزمن حوالي عشرين
أو خمسة وعشرين يومًا فحسب،
١٧٣ وعلى ذلك فقد رأى بونابرت تسهيلًا للمواصلات بين القاهرة
والإسكندرية أن يعهد إلى المهندس بودار
Bodard
باستكشاف هذه الترعة القديمة والنظر في وسائل إصلاحها حتى يمكن الاستفادة منها
في الملاحة النهرية، فقام بودار باستكشافها وأعد مشروعًا بالأعمال اللازمة لجعل
الترعة صالحة للملاحة في كل فصول السنة دون تكبد نفقات طائلة،
١٧٤ ولكنه سرعان ما وقع من الحوادث ما عطل هذه البحوث. ومع أن منو
عندما تسلم قيادة الحملة العامة كان يرغب في إصلاح الترعة وجعلها صالحة
للملاحة، فإن هذه الرغبة لم تتحقق كذلك، فقد أصدر منو أمره في ٢٧ يوليو ١٨٠٠م
إلى فيلِّيه دي تيراج بالذهاب إلى الرحمانية لهذه الغاية، وصدع دي تيراج بالأمر
فعلًا فوجد عند وصوله (في ٥ أغسطس ١٨٠٠م) زميليه لانكريه وفيار، ولكن الجنرال
داستان في الرحمانية رفض أن يخصص جنودًا لحراستهم، ثم ما لبثت مياه النيل أن
دخلت الترعة قبل أن تصل أوامر جديدة فتعطل العمل.
١٧٥
وكلف بونابرت الجنرال أندريوسي بزيارة الصحراء الغربية لاستكشاف بحيرات
النطرون ومعرفة شيء عن الأديرة القبطية القريبة من هذه البحيرات والوادي الذي
يعرفه الأهالي باسم «بحر بلا ماء» وتحدث عنه الرحالون والكاشفون القدماء
كثيرًا. وكان لهذا الاستكشاف إلى جانب قيمته العلمية أهمية تجارية واضحة، إذ
إنه كان يُجلب من هذه الجهات النوشادر
Alcaline
الذي كانت تصدره مصر بكميات كبيرة. وعلى ذلك فقد اصطحب أندريوسي معه في هذه
الرحلة الهامة برتوليه وفورييه وريدوتيه (الصغير) ودوشانوي ورينو، وبدأت الرحلة
في ٢٣ يناير ١٧٩٩م ووصلوا إلى بحيرات النطرون فوجدوا أنها تغطي مساحة من الأرض
طولها سبعة فراسخ في اتساع ثمانمائة متر، وعددها سبع بحيرات تفصلها الرمال بعضها
عن بعض، وينخفض أو يرتفع مستوى المياه حسب ارتفاع مياه النيل وانخفاضها، ووجدوا
أن هذه المياه تشتمل على أنواع مختلفة من الأملاح المعدنية. وكان «يلتزم» أهل
طرانة أو يحتكرون الاتجار في النطرون المستخرج من هذه المنطقة، فتخرج منها
قوافل الجمال والحمير محملة بحوالي ستمائة قنطار من النطرون، فتصدر طرانة هذا
النطرون إلى رشيد والإسكندرية ثم تحمله السفن من هذين الميناءين إلى أوروبا.
وعثر أندريوسي وجماعته على أربعة أديرة يرجع تأسيسها إلى القرن الرابع الميلادي،
هي دير البراموس أو الدير اليوناني، ودير أمبابشاي، ودير أبو مقار» (القديس
مقار)، ودير السرياني (أو دير الشوام أو دير صيدا).
١٧٦
فحص برزخ في السويس
وكان مما اهتم به بونابرت وذكرته تعليمات حكومة الإدارة وأوامرها شق قناة في
برزخ السويس تربط بين البحرين الأبيض والأحمر، ومع أن قدماء المؤرخين اتفقوا
على وجود قناة قديمة تربط بين هذين البحرين فقد اختلف الجغرافيون في تحديد
موضع هذه القناة؛ ولذلك فقد رغب بونابرت في الوقوف على حقيقة موضع هذه القناة
لحل هذا اللغز الجغرافي من جهة، وحتى يستعين بذلك على شق القناة التي اعتزم
حفرها في البرزخ لفائدة التجارة الفرنسية. وفضلًا عن ذلك فإن تحقيق هذا المشروع
يقتضي الاستيلاء على السويس، ويطهِّر هذه المنطقة من العربان الذين ظلوا يعتدون
على قوافل التجار والحجاج الذين يستخدمون طريق السويس البري، حتى إن الجنرال
رينييه كثيرًا ما كان يرسل الجنود وراء العربان لمطاردتهم وصون الأمن عمومًا في
مديرية الشرقية. وعلى ذلك فقد كلف بونابرت الجنرال بون Bon باحتلال مدينة السويس ومينائها، فغادر بون القاهرة في
٢ نوفمبر سنة ١٧٩٨م يصحبه أوجين بوهارنيه (ياور بونابرت) وضابطان من المهندسين
ورسام في قافلة من الجمال، فوصل الجميع إلى العجرود بعد خمسة أيام، وبادر بون
بإعلان أهل السويس بضرورة الخضوع والتسليم فأرسل هؤلاء وفدًا منهم إلى المعسكر
الفرنسي (٨ نوفمبر)، وفي نفس اليوم استولى بوهارنيه على المدينة بعد أن كان
قد غادرها أكثر أهلها.
ولما كان بونابرت قد صمم على القيام باستكشاف البرزخ بنفسه، فقد غادر القاهرة
في ٢٤ ديسمبر ١٧٩٨م مع هيئة أركان حربه وجماعة من أعضاء المجمع العلمي، فخرج معه
في هذه الرحلة مونج وبرتوليه وبوريين وكوستاز ولوبير وبرتييه وكفاريلِّي
والكونترأميرال غانتوم، كما صحبه عددٌ من المصريين من بينهم السيد أحمد
المحروقي فبلغ الركب بركة الحاج في مساء اليوم نفسه، وبين ٢٥ ديسمبر ١٧٩٨م و٣
يناير من العام التالي استطاع بونابرت أن يعثر على معالم القناة القديمة في
جهات عدة، كما زار في أثناء ذلك قلعة العجرود وزار السويس وعيون موسى (٢٨
ديسمبر). وكان بونابرت قد اضطر لكي يزور هذه العيون إلى الخوض في بقعة قليلة
الغور من خليج السويس وقت انحسار المياه، ولكن الجماعة عند عودتها وجدت الماء
يعلو مع المد فأشار المرشدون إلى السير في مكان ظنُّوا أن الماء لا يعلو فيه
إلى درجة خطيرة، ولكن ما إن توسطت الجماعة هذه البقعة حتى وجد بونابرت وصحبه
الماء يكاد يصل إلى صدورهم، فاشتد الخوف وساد الهرج والمرج وكاد يقع ما لا
تُحمد عقباه لولا ما أظهره بونابرت والقواد المحيطون به من صبر وحزم، وخشي
كفاريلِّي وبرتييه وقد وقفا بجانبه أن يلحق قائد الحملة أذى، غير أن بونابرت
سرعان ما تولى قيادة الجمع الذي احتشد حوله، وأشار بذهاب جملة أفراد في اتجاهات
مختلفة لسبر غور المياه حتى إذا عثروا على طريق قليل الغور قصدته القافلة، فتم
ذلك واستطاع الجميع أن يعودوا بسلام إلى السويس.
وفي ٣٠ أغسطس غادرت القافلة السويس لاستكشاف القناة فوصلت إلى البحيرات
المرة ثم رجعت معظم القافلة إلى العجرود، بينما قصد بونابرت وبعض الفرسان إلى
الشمال وتتبع معالم القناة مسافة خمسة فراسخ، ثم قصد بعد ذلك إلى العجرود ومنها
إلى بلبيس فوصلها في ٤ يناير ١٧٩٩م، ثم أراد أن يفحص طرف القناة الآخر فتوغل
مسافة عشرة فراسخ في وادي الطميلات حيث عثر على بعض معالمها، ثم ألَّف لجنة
لقياس سطح البرزخ وعاد إلى القاهرة. ولما كان ينقص هؤلاء الآلات العلمية
اللازمة فقد اقتضى جلب هذه الآلات العودة إلى القاهرة. وفي ١٦ يناير غادر لوبير
وأخوه جرتيان لوبير ومعهما سانت
جنيس
Saint-Genis القاهرة بحراسة جونو
Junot، فوصلوا إلى السويس وانضم إليهم المهندس ديبوا، وفي آخر
يناير غادروا السويس فاستكشفوا ثانية ذلك الجزء من البرزخ الذي سبق استكشافه
حتى وصلوا إلى وادي البحيرات المرة وهناك فقدوا معالم القناة القديمة، ثم
اضطروا بسبب قلة ما كان لديهم من ماء إلى وقف استكشافاتهم في هذه المنطقة
واتجهوا بدلًا من ذلك صوب وادي الطميلات، فعثروا في جانبه الشمالي على آثار
القناة القديمة وتتبعوا هذه الآثار مسافة خمس ساعات حتى بلدة العباسة الواقعة
عند مدخل الوادي ثم وجدوا بعدها بقليل عدة ترع، وتعذر عليهم تتبع الأثر
فعادوا من بلبيس إلى القاهرة ووصلوها في ٩ فبراير ١٧٩٩م. ولما كان بونابرت قد
خرج في حملته إلى سوريا فقد طغى الاهتمام بهذه الحملة على كل ما عداه وتوقفت
أعمال اللجنة. على أن هذه البحوث لم تذهب سدًى، فقد ثبت بفضلها أن القدماء
حفروا في الزمن الماضي طريقًا بحريًّا في برزخ السويس يصل بين البحرين الأبيض والأحمر.
١٧٧
ولكن ما إن عاد بونابرت من حملته السورية حتى شُغِل بمناجزة العثمانيين في
موقعة أبو قير البرية، ثم غادر البلاد إلى فرنسا. وعلى ذلك لم تُستأنف الأعمال
في برزخ السويس إلَّا في عهد الجنرال كليبر الذي ألَّف لهذا الغرض لجنة جديدة
برئاسة لوبير، وكان من أعضائها أخوه جرتيان لوبير وسانت جنيس
Saint-Genis وفيفر
Févre ودي فلِّييهدي تيراج ودوشانوي وأليبير؛ وذلك لاستئناف
عمليات قياس سطح البرزخ في نقطة «السبع أبيار»، على أن تنقسم قسمين: أحدهما يسير
إلى التينة بالقرب من خرائب بيلوز القديمة، والآخر يضرب في الوادي الذي يمر
بالعباسة وبلبيس، وذلك كي يمكن التحقق بصورة قاطعة من وجود القناة القديمة
والنظر في إمكان شق قناة في البرزخ تصل البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط.
وعلى ذلك فقد غادر هؤلاء القاهرة في ١٦ نوفمبر ١٧٩٩م بحراسة الجنرال رينييه، حتى
إذا وصلوا إلى المكان الذي انتهت عنده الأعمال السابقة اتجه فريق منهم صوب
البحر الأبيض، بينما سار الفريق الآخر في طريق قناة أبو منجة» صوب القاهرة،
وكان دي فلِّييهدي تيراج وفيفر وأليبير ودوشانوي من هذا الفريق، وقد استمروا في
رحلتهم حتى وصلوا مقياس الروضة. وقد أسفرت التحقيقات التي قام بها أعضاء اللجنة
بقسميها — سواء في جهة السويس أم البحيرات المرة أم التينة وغيرها — عن
الاعتقاد بأن سطح البحر الأحمر يعلو بمقدار تسعة أمتار وعشرة سنتيمترات عن سطح
البحر الأبيض. وقدم هؤلاء العلماء مذكراتهم وبحوثهم إلى لوبير الذي قام بمساعدة
أخيه جرتيان لوبير باستخراج النتائج النهائية منها، وأعدَّ بذلك بحثًا ما لبث
أن قدَّمه إلى القنصل الأول عند عودته إلى فرنسا. وكان من رأي لوبير أن التحقق
من وجود هذا الفرق الناشئ من اختلاف ارتفاع سطحَي البحرين الأبيض والأحمر يتفق
مع الحقائق العلمية وما أجمع «التواتر» على صحته.
١٧٨
آثار الدلتا (حجر رشيد)
واهتم علماء الحملة بالكشف عن الآثار القديمة في الوجهين البحري والقبلي،
وإلى هذا الاهتمام وما وُفِّقوا في زيارته من معابد ومقابر وأهرامات وخرائب (أو
آثار) المدن القديمة، ثم ما رسمه الفنانون من تماثيل وهياكل ونقوش الكتابات
القديمة؛ يرجع الفضل في ظهور «الإيجبتولوجي» أو دراسة الآثار المصرية القديمة
دراسة علمية منسقة، والوقوف على الشيء الكثير من تاريخ قدماء المصريين وآرائهم
ومعتقداتهم وعاداتهم وأساليب حياتهم ووجوه نشاطهم. وقد تضمن كتاب «وصف مصر»
الشيء الكثير عن أخبار هؤلاء العلماء وثمرة جهودهم في هذه الناحية، وسوف يأتي
ذكر ذلك كله في موضعه. على أن أهم ما يعنينا الآن من ذكر ما عثر عليه رجال
الحملة من آثار في الوجه البحري هو اكتشاف حجر رشيد.
فقد أمر بونابرت بعمل تحصينات في رشيد وبناء قلعة على شاطئ النيل الأيسر في
منطقة البوغاز، فذهب الضباط المهندسون لكشف شبه الجزيرة الصغيرة المحصورة بين
النيل والبحر الأبيض وبحيرة المعدية، وجرت الاستكشافات تحت إشراف دوتبول D’Hautpoul الضابط المهندس والكابتن
بوشار Bouchard، وقد اقتنع كلاهما بأن خير
مكان لإنشاء هذه التحصينات هو موضع تلك القلعة القديمة التي بناها سلاطين مصر
في الزمن القديم، والتي ظلت بقاياها تُعرَف باسم «برج رشيد». وما إن تقرر ذلك حتى
بدأ الحفر لإقامة القلعة، فعثروا على بقايا أبنية مصرية قديمة كان السلاطين قد
شيَّدوا عليها قلعتهم، وكان بين خرائب هذه الأبنية المصرية القديمة أن عثر
بوشار على «حجر رشيد» حوالي منتصف شهر يوليو ١٧٩٩م، وهو حجر من الجرانيت الأسود
ارتفاعه ٩٧٥ ملِّيمتر (أو ثلاث أقدام تقريبًا) وعرضه ٧٣٢ ملِّيمتر وسمكه
حوالي ٢٥٠ ملِّيمترًا. وقد وجدوا نقوشًا على وجه واحد منه فقط عبارة عن ثلاث
مجموعات من النقوش منفصلة بعضها عن بعض؛ أمَّا النقوش العليا فكانت أربعة عشر
سطرًا بالهيروغليفية، يليها اثنان وثلاثون سطرًا لم يعرف المكتشفون عنها شيئًا،
ظنُّوا أولًا أنها كتابة سريانية ثم أُعلِن بعد ذلك أنها بلغة «مجهولة» ولو
أنهم رجَّحوا أن تكون باللغة العامية المصرية القديمة، أمَّا النقوش التي تليها
فكانت في أربع وخمسين سطرًا باللغة اليونانية القديمة. وقد أُرسِل هذا الحجر في
النيل من رشيد إلى القاهرة في أواسط أغسطس من العام نفسه حتى يفحصه المجمع
العلمي وأُنزِل في بولاق. وقضى العلماء الموجودون بالقاهرة حول هذا الحجر
أسابيع طويلة يحاولون حل رموزه، وأعلن مارسيل وريج Raige أن النقوش التي أُعلِن أنها سريانية أو «مجهولة» ما هي
إلَّا «حروف» مصرية قديمة كتبت بعجلة.
وشرع الرسامون يرسمون الحجر وما عليه من نقوش مصرية بدقة عظيمة فقضوا في هذا
العمل أسابيع عدة، وحاول مارسيل بوصفه مدير المطبعة الأهلية أن يطبع من النقوش
الموجودة على هذا الحجر عدة صور ونجح في غرضه؛ وذلك بأن غسل الحجر بمحلول من
الملح المخفف ثم تركه يجف، ثم صب عليه حبر الطباعة ووضع عليه الورق وحصل على
«بروفات» ناجحة في ٢٤ يناير ١٨٠٠م، وعندما تبين كونتيه
Conté نجاح هذه العملية أراد أن يستخدم الطريقة المتبعة في
طبع الصور والحروف المحفورة على المعادن (طريقة الكالكوجراف
Chalcographie) ونجحت هذه التجربة كذلك.
وكُلِّف مارسيل وريج
Raige بنقل وترجمة الكتابة
اليونانية، وتبيَّن أنها نُقِشت في عهد البطالسة أيام بطليموس إبيفان، وعمد
مارسيل وريج إلى الاستعانة بما ورد من أسماء في النقوش اليونانية على حل رموز
النقوش الأخرى، على اعتبار أن هذه الأسماء قد تكرر ذكرها كذلك في الكتابة
«الهيروغليفية» والأخرى «المجهولة»، فبدأت من ثَمَّ تلك الجهود التي تكللت أخيرًا
بالنجاح على يد شامبليون
Champollion (في عام
١٨٢٢م). وقد أُرسِلت صور من «البروفات» التي أخرجتها المطبعة الأهلية وحصل عليها
كونتيه إلى باريس، وحملها دوجا إلى المجمع العلمي الفرنسي.
١٧٩ أمَّا الحجر نفسه فقد ظل في مصر حتى وقت جلاء الحملة، وبذل منو
جهدًا كبيرًا لمنع الإنجليز من الاستيلاء على حجر رشيد بدعوى أن هذا الحجر كان
من ممتلكاته الخاصة، ولكن الإنجليز أصرُّوا على أخذه
١٨٠ فنقلوه إلى المتحف البريطاني، وهناك نجح شامبليون كما تقدم في فك
رموزه، وقد تبين أن النقوش «المجهولة» كانت كتابة ديموطيقية.
آثار الصعيد (رحلة دينون)
على أن الصعيد بفضل ما زخر به من آثار سرعان ما أصبح ميدانًا واسعًا لنشاط
علماء الحملة، الذين رغبوا في زيارة المعابد والتماثيل وبقايا المدن القديمة
ودراسة آثارها. وكان فيفان
دينون Vivant Denon (١٧٤٧–١٨٢٥م) أسبق «العلماء» الذين تجولوا في أنحاء
الصعيد ورسموا آثاره، وكان فنَّانًا رسَّامًا حضر مع الحملة ضمن أعضاء لجنة
العلوم والفنون، ولم يجد في الإسكندرية من الآثار ما يثير الدهشة أو يسترعي
الاهتمام، وصحب منو إلى رشيد وقضى الوقت في الدلتا بينما كان بونابرت يزحف
بجيشه صوب القاهرة، فشهد دينون تحطيم أسطول برويس في أبو قير، وصحب تلك الحملات
التي أُرسِلت لإخضاع القرى والمدن الثائرة ورسم مناظر وصورًا عدة، ولكنه لم
يجد في آثار «سايس» أو صان الحجر أو في آثار كانوب ما يرضي به فنه، وساءه أن
يفقد زميله الرسام جولي Joly الذي قتله الثوار
في قرية شباس عمير، وأُتيحت له الفرصة للحضور إلى القاهرة عندما طلب بونابرت
العلماء الموجودين بالدلتا حين تأسيس المجمع العلمي، فجاء إلى القاهرة في ٢٢
سبتمبر ١٧٨٩م، وشهد أول أعياد الجمهورية الفرنسية في مصر، وزار أهرامات الجيزة
مع العلماء والقواد الذين اصطحبهم بونابرت في هذه الزيارة، وكان دينون منهمكًا
في رسم آثار القاهرة وقبور السلاطين عندما قامت القاهرة بثورتها الأولى.
ورغب دينون في الذهاب إلى سيناء مع قافلة من العربان، ولكنه لم يذهب لامتناع
شيخ القافلة عن تحمل مسئولية المحافظة على سلامته، فرغب في الرحلة إلى الصعيد
لزيارة آثاره التي ذاع صيتها فأذن له بونابرت بذلك، وانتهز دينون خروج قافلة
محملة بالمؤن والذخائر إلى الجنرال ديزيه فذهب معها وصعد في النيل حتى التقى
بقوات الجنرال بليار، وظل في صحبة هذا القائد طوال المدة التي قضاها في الصعيد
حوالي ثمانية شهور يتمتع بحماية الجيش ويرسم ما يشاهده من معابد وتماثيل
وآثار. وما إن استأنف الجنرال ديزيه عملياته العسكرية لمطاردة مراد بعد عودته
من مقابلة بونابرت في القاهرة قبل ذهاب الأخير في حملته إلى سوريا، حتى أُتيحت
لدينون الفرصة في صحبة جيش بليار دائمًا للتوغل في الصعيد حتى أسوان وفيلة،
فزار المنيا وملوي وهرموبوليس (الأشمونين) ومنفلوط وأسيوط وسوهاج ثم جرجا، وقد
رسم دينون آثار هرموبوليس والأديرة القبطية في سوهاج. ولما كان ديزيه قد قرر
البقاء في جرجا حوالي ثلاثة أسابيع فقد عقد دينون آمالًا كبيرة على رسم آثار
هذه المنطقة، ولكنه لم يستطع ذلك لأن ديزيه كان يخشى من انقضاض مراد بك على جيشه،
١٨١ بيد أن دينون سرعان ما وجد ما عوَّضه عن ذلك عندما ذهب مع بليار
إلى دندرة وطيبة وأرمنت وإسنا وإدفو وأسوان وفيلة، فرسم معبد دندرة ولازمه
بليار حتى فرغ من رسمه. واكتشف دينون في معبد دندرة فلك أو منطقة البروج وهو
مجرى الشمس الظاهري الذي نقشه قدماء المصريين وقد نقل دينون الصورة، وكان هذا
اكتشافًا عظيمًا ففحص أعضاء المجمع العلمي بالقاهرة الرسوم ثم أُرسل الرسم إلى
اللوفر في باريس لدراسته.
ومما يجدر ذكره أن دي فلِّييهدي تيراج وجولوا
Jollois قد أعادا هذا الرسم بدقة أكثر مما فعل دينون، وكان من
رأي دبوي
Dupuis وريج
Raige أن تاريخ النقش يرجع إلى اثني عشر ألف سنة قبل الميلاد،
واعتقد فورييه
Fourier أنه يرجع إلى ألفين
وثلاثمائة سنة فحسب.
١٨٢ أمَّا دينون فقد استطاع في طريق عودته من فيلة وأسوان (في ٢١
فبراير ١٧٩٩م) إلى القاهرة أن يزور آثار كوم امبو وإدفو والأقصر والكرنك وطيبة،
ويرسم آثارها جميعًا خصوصًا مدينة هابو والرمسيوم ووادي الملوك، ثم صحب بليار
ودونزيلو من قنا إلى القصير (٢٦ مايو)، وعند عودته قابل في قنا جيرار وبعض
العلماء من لجنة العلوم والفنون الذين اعتلوا النيل لفحص مجراه، ثم ودَّع بليار
في قنا وبدأ العودة إلى القاهرة فوصلها في يوليو ١٧٩٩م. وكان من أثر خروج دينون
مع جيش بليار في العمليات العسكرية المتعددة أنه تمكَّن من زيارة بعض الأماكن
الأثرية مرات كثيرة، فزار آثار طيبة سبع مرات ودندرة عشرًا وإدفو وفيلة
أربعًا، كما أقام في أسوان شهرًا تقريبًا استطاع في أثنائه أن يرسم جميع آثارها تقريبًا.
١٨٣ وعلى ذلك فقد أحضر دينون معه إلى القاهرة حوالي مائتي رسم تشتمل إلى
جانب صور التماثيل والمعابد وما إلى ذلك على رسوم نقوش هيروغليفية، كما أحضر
معه بعض أوراق البردي التي عثر عليها في أثناء هذه الرحلة.
١٨٤ وأثارت هذه الرسوم اهتمام زملائه من أعضاء المجمع العلمي في
القاهرة وأمطروه وابلًا من الأسئلة، وعزم دينون على إلقاء بحث عن نتائج رحلته
في المجمع العلمي ولكن بونابرت ما لبث أن اصطحبه إلى الدلتا حتى يرسم معركة
أبو قير البرية التي انتصر فيها بونابرت على العثمانيين، ثم طلب إليه أن يصحبه
إلى فرنسا فغادر دينون واثنان من زملائه أعضاء المجمع العلمي هما مونج
وبرتوليه الإسكندرية مع بونابرت في ٢٣ أغسطس في طريقهم جميعًا إلى فرنسا.
١٨٥ على أنه قبيل إقلاعهم من الإسكندرية بثلاثة أيام فحسب كان قد قام
إلى الصعيد أعضاء هاتين اللجنتين اللتين صدر قرار بونابرت بتأليفهما لزيارة
الآثار في الوجه القبلي بعد عودة دينون من رحلته الناجحة.
وعظم نشاط العلماء والفنانين من أعضاء هاتين اللجنتين في البحث عن الآثار
وزيارتها ورسم المعابد والنقوش الهيروغليفية والتماثيل وما إلى ذلك.
١٨٦ ووصف العلماء الآثار التي زاروها وصفًا دقيقًا، وكان بفضل جهودهم
أن أمكن الوقوف على حقائق عدة عن معتقدات قدماء المصريين وعاداتهم وأساليب
معيشتهم ومدى معارفهم في علوم الطب والفلك وفنون الهندسة والعمارة. ورسم
ريدوتيه
Redouté من أعضاء لجنة فورييه ما
صادفه من آثار وشاهده من مناظر في جزيرة فيلة وجزيرة إلفنتين وفي كوم امبو
وإدفو وإسنا وأرمنت والأقصر والكرنك ووادي الملوك في طيبة ومدينة هابو ودندرة.
كما رسم بلزاك
Balzac من أعضاء لجنة كوستاز
الآثار في فيلة وإلفنتين وكوم امبو وإدفو وإسنا والأقصر والكرنك ومدينة هابو
ووادي الملوك ودندرة وأسيوط ثم المناظر الطبيعية على شاطئ النيل في إسنا
والمنيا وبني سويف.
١٨٧
وقد ظل هؤلاء العلماء في الصعيد إلى وقت اتفاق العريش حينما استدعاهم الجنرال
كليبر بكل سرعة إلى القاهرة انتظارًا للجلاء عن هذه البلاد والعودة إلى فرنسا.
١٨٨
خريطة جاكوتان
على أن هؤلاء العلماء الذين انتشروا في طول البلاد وعرضها من منف إلى فيلة في
الجنوب، ومن القاهرة إلى السويس ودمياط ورشيد والإسكندرية في الشرق والغرب
والشمال؛ لم يَقْصروا عنايتهم على دراسة الآثار القديمة أو رسمها أو ثروة البلاد
النباتية والحيوانية والمعدنية إلى جانب دراسة شعوبها ومناخها فحسب، بل عُنُوا
إلى جانب ذلك بجمع المعلومات الجغرافية والطبوغرافية الدقيقة التي تساعد على
وضع خريطة مفصَّلة للقطر المصري. وكان الاهتمام بإعداد هذا المصوَّر الجغرافي
العظيم أحد آثار ذلك المشروع الذي أراد به بونابرت أن ينشئ في مصر مستعمرة
ناجحة تكون بمثابة النواة لإمبراطورية فرنسا الاستعمارية الجديدة؛ ذلك أن
بونابرت كان يرى لزامًا عليه أن يدخل ضروب الإصلاح «المادية» العديدة في مرافق
البلاد، وينهض بأهلها الذين أخضعهم بحد السيف لسلطانه حتى يتسنى نجاح مشروعه
الاستعماري، واعتقد بونابرت أنه لا غنى عن وضع خريطة مفصلة دقيقة للبلاد حتى
يتمكن من المضي في إصلاحاته المالية والاقتصادية والإدارية بصورة منظمة ناجعة.
١٨٩
وعلى ذلك فقد كلف غداة وصوله إلى القاهرة نخبة من علماء الحملة بقياس
المسطحات ووضع الرسوم، وانتشر هؤلاء في أول الأمر في أقاليم الدلتا وبدءوا
أعمالهم بإشراف تستفويد
Testeviude الذي عُهِد
إليه بجمع بحوث وتقارير هؤلاء العلماء ورسومهم وفحصها حتى يتسنى تنظيمها
تنظيمًا علميًّا دقيقًا. فتوفر ديليون
Dulion
وليسين
Lecesne على رسم طبوغرافيات الجهات
الواقعة حول الإسكندرية (وقد غرق ديليون في أثناء هذه الأعمال)، واختص شواني
بالعمل في مديرية المنوفية، ورسم سيمونل
Simonel مجرى النيل بين مصر القديمة وبولاق، وتوغل برتر
Bertre في مديرية الغربية ولكنه لم يستطع
زيارة كل أقاليمها. وقد حدث وقتئذٍ أن قُتِل تستفويد في أثناء ثورة القاهرة،
ولما كانت قد قطعت الأعمال شوطًا ملحوظًا، فقد وجد بونابرت أن يسرع المختصون
بتنظيم المعلومات والرسوم التي أسفرت عنها هذه الأعمال، فأصدر أمرًا في ٢٨
يونيو ١٧٩٩م باجتماع العلماء المهندسين الجغرافيين لهذه الغاية في مقر هيئة
أركان الحرب، وعين جاكوتان ليخلف عمه المتوفَّى تستفويد رئيسًا عليهم، وعهد
بونابرت في هذا الأمر نفسه إلى رئيس هيئة أركان الحرب بمهمة الإشراف على إنجاز
صنع خريطة عامة للقطر المصري.
١٩٠
ولما كان كثيرون من العلماء — غير أولئك المهندسين الجغرافيين — قد قدموا
لجاكوتان نتيجة بحوثهم وما لديهم من رسوم ومصوَّرات، فقد اجتمع لهذا المهندس عدد
كبير من الرسوم. وعمد جاكوتان إلى إعداد مصوَّر شامل (مقياس الرسم ١ :١٠٠٠٠٠
ملم)، ولكنه ما بدأ يفحص هذه الرسوم ويمحِّص الأرصاد الفلكية التي يستعين بها على
تحقيق المواقع المختلفة، حتى تبين له أن أكثر ما قُدِّم له من وثائق ورسوم لم
يكن كاملًا، وهذا يدل على أن أصحابها لم يتريثوا في صنعها أو جمع المعلومات
اللازمة بل كانت العجلة رائدهم، ولا يسعه لذلك الاعتماد على ما لديه في صنع
خريطة تامة دقيقة. وعلى ذلك فقد ترك جاكوتان صنع الخريطة جانبًا، واعتزم أن يعد
برنامجًا مفصَّلًا لتنظيم جهود المهندسين الجغرافيين وتوحيد عملهم، غير أن هذا
العزم الجديد سرعان ما تعطل عندما نزل العثمانيون في أبو قير واضطر بونابرت
إلى حشد قواته لمنازلتهم، فحُرِم المهندسون الجغرافيون من حماية الجند وما كان
في وسعهم أن يعملوا دون حراسة كافية. حتى إذا انهزم العدو في موقعة أبو قير
البرية استُؤنف النشاط، ثم اتسعت دائرته كثيرًا بفضل تلك الرسوم العديدة
والمعلومات المفيدة التي جاء بها دينون من رحلته في الصعيد.
ويعود الفضل في زيادة نشاط البحوث اللازمة لصنع خريطة مصر إلى الجنرال كليبر،
فقد أصدر بونابرت أمره على نحو ما تقدم بإنشاء لجنتين برياسة كوستاز وفورييه
للذهاب إلى الصعيد، فأيَّد كليبر تأسيسهما في ٣ نوفمبر سنة ١٧٩٩م ولكنه لم يشأ
أن يقصر هؤلاء العلماء جهودهم على زيارة الآثار ودراستها ورسمها فحسب، بل أراد
أن يضع برنامجًا لتنظيم وجوه نشاطهم وذلك بأن تشمل دراسة العلماء البحث في
شئون التشريع وعادات أهل البلاد وتقاليدهم الدينية والإدارة والبوليس
والحكومة والتاريخ المصري والشئون العسكرية والتجارة والصناعة والزراعة
والآثار والجغرافيا والهيدروليكا، وقد اشتمل هذا القسم الأخير على دراسة
السكان وأجناسهم ودياناتهم وطبوغرافية البلاد ومساحة الأراضي الزراعية وأنواع
الزراعات والنباتات والري وأوقات الجفاف، فكان تأسيس تلك اللجنة أو ذلك المكتب
الذي سبقت الإشارة إليه وصدر به قرار كليبر في ٢٠ نوفمبر سنة ١٧٩٩م. وقد عهد
كليبر إلى لوبير وجاكوتان بوضع تفاصيل قسم البرنامج الأخير أي المتعلق
بالجغرافيا والهيدروليكا فتم ذلك. واتفق الرأي على كتابة أسماء المدن والقرى
باللغتين الفرنسية والعربية، وبيان المديريات التي تقع بها هذه المدن والقرى
مع توضيح المسافات التي تفصل بين المراكز الهامة والنيل، على أن يكون قياس
المسافات بقدر عدد الساعات التي يقطعها السائر.
١٩١
وحالت ظروف مفاوضات العريش والاستعداد لإخلاء البلاد دون تنفيذ هذا المشروع،
ولكن العمل سرعان ما استُؤنف بهمة ونشاط عظيمين بعد معركة هليوبوليس، فرسم
سيمونل Simonel طبوغرافية بحيرة البرلس
وفرعَي رشيد ودمياط وفتحات القنوات التي تصب في هذين الفرعين، كما رسم الآثار
التي عثر بها في نفس المنطقة. واستمر شواني في رسم أقاليم الدلتا الداخلية
التي كان قد بدأ يضع خريطتها، ثم ذهب بعد ذلك إلى الصعيد حتى يرسم خريطة الجهات
المجاورة لطيبة والقصير. ورسم جنتيل بحيرة المنزلة والبلاد الواقعة بين هذه
البحيرة وفرع دمياط وترعة أشمون، كما امتد نشاطه إلى الصعيد فأوضح مواقع الجهات
حول إسنا وكوم امبو وإدفو وأسوان. وعمل كل من كوتيل Coutelle وروزيير Roziére في
جبل سينا، وقام دي فلِّييهدي تيراج وفيار باستكشاف ورسم المنطقة الواقعة بين
ترعة أبو منجة» والصحراء من القاهرة إلى بلبيس، ورسم مهندسو الطرق والكباري
وادي البحيرات المرة، واستكشف مارتان Martin
جزءًا من مديرية بني سويف والمنطقة الواقعة شمال بحيرة الفيوم، ورسم
كاريستي Caristie بحر يوسف، ورسم
دليل Delile الصحراء بين النيل عند أسيوط
ومنفلوط إلى شاطئ البحر الأحمر، ورسم جومار خريطة القليوبية وبدأ في رسم خريطة
الغربية. وعلاوة على ذلك فقد أمدَّ آخرون جاكوتان بمعلومات كثيرة، نذكر منهم
الجنرال أندريوسي والضباط المهندسين بوشار ولازوسكي Lazouski ومالوس وبيكو وساي وتاسكان Taskin وفيناش Vinache،
ومن المهندسين شابرول وديبوا إيميه وفافييه وفيفر وجولوا ولانكريه
ولاتويل.
على الرغم من تردد منو في كل ما كان يتعلق بنشاط العلماء وبحوثهم تقريبًا
وتغيره على كثيرين منهم، فقد ظل قائد الحملة الجديد بعد مقتل كليبر يشجع بقدر
طاقته وبما كان يتفق مع غاياته بعض هذه الجهود العلمية الهامة التي بدأها
بونابرت وكليبر، فأصدر أمرًا في ٤ مارس ١٨٠١م بإنشاء لجنة من مهندسي الطرق
والكباري للقيام بمساحة الأراضي المصرية، واستمر العمل بفضل ذلك لإتمام
الخريطة. وهكذا عندما حان وقت الجلاء بعد ذلك بشهور قليلة كان العلماء أكملوا
جمع المعلومات والرسوم اللازمة، ثم ناضلوا بشدة ضد الإنجليز الذين أرادوا وقت
الجلاء الاستيلاء على أوراق ورسوم علماء الحملة ومذكراتهم وآلاتهم وأدواتهم
العلمية، فاستطاع العلماء الفرنسيون أن يحضروا معهم إلى فرنسا هذه الوثائق
والمعلومات الثمينة التي اعتمدوا عليها في إنجاز خريطة مصر، ففرغوا من صنع هذه
الخريطة نهائيًّا في ١٣ أكتوبر ١٨٠٣م.
١٩٢
كتاب وصف مصر
وكما كان كليبر صاحب الفضل في تنظيم جهود العلماء بالصورة التي أسفرت عن
نجاحهم في إنجاز «خريطة مصر» في النهاية، فقد كان صاحب الفضل كذلك في ظهور كتاب
«وصف مصر» بعد وفاته بسنوات عدة، ومردُّ ذلك كله إلى الأمر الذي أصدره كليبر في
٢٠ نوفمبر ١٧٩٩م بتأسيس تلك اللجنة الثالثة أو «المكتب» الذي ضم عددًا من علماء
الحملة وُزِّعت عليهم الدراسات والبحوث المتعلقة بتاريخ مصر الحديثة وجغرافيتها
وأحوال أهلها وعاداتهم وثروتها الطبيعية وغير ذلك من الشئون التي تقدم
ذكرها.
حقيقة كان لبونابرت فضل السبق في تأسيس هاتين اللجنتين العلميتين اللتين اهتم
أعضاؤهما بدراسة آثار الصعيد تحت إشراف كوستاز وفورييه، وكان ظاهر الرغبة في أن
تُنظَّم نتائج بحوثهم في بحث علمي مفصل، وقام فورييه على ما يبدو بهذا العمل
ونشرت صحيفة «الكورييه» في عددها السابع والأربعين بحثًا تناول بالربط والتنسيق
أعمال هاتين اللجنتين بعد عودتهما إلى القاهرة؛ ولكن كليبر على نحو ما أوضحنا
في مواضع عدة من هذه الدراسة كان صاحب اليد الطُّولَى في توجيه نظر العلماء إلى
ضرورة عدم إغفال دراسة أحوال البلاد الراهنة إلى جانب دراسة آثارها القديمة،
ثم بيان مزايا تنظيم جهودهم بتوزيع هذه الدراسات «الحديثة» على أعضاء المجمع
العلمي — الهيئة التي غدت هيئة علمية مستديمة — وأعضاء «لجنة العلوم والفنون»
التي احتفظت بكيانها بصورة مؤقتة حتى يفرغ أعضاؤها من بحوثهم فيعودوا إلى
أوطانهم أو يضمهم المجمع إليه.
١٩٣ فكان من أثر صدور هذا القرار كما تقدم إنجاز تلك البحوث التي اعتمد
عليها جاكوتان وزملاؤه في رسم خريطتهم «خريطة مصر»، كما كان من أثر صدور هذا
القرار وضع كتاب «وصف مصر» على نحو ما يأتي ذكره.
فقد بعث كليبر غداة عودة لجنتَي كوستاز وفورييه من الصعيد برسالة في ٢٢ نوفمبر
سنة ١٧٩٩م إلى المجمع العلمي تلاها فورييه على أعضائه، جاء فيها: «إن المرء لا
يسعه إلَّا أن يبدي إعجابه بذلك النشاط العظيم، وذلك التساند الذي ظهر بين
أعضاء هاتين اللجنتين لتبادل ثمار البحوث العديدة التي قاموا بها، ولا مراء في
أن من دواعي هذا الإعجاب الكبير ذيوع تلك الفكرة التي ترمي إلى جمع كل تلك
الآثار الجميلة في كتاب عظيم واحد وإيداع البحوث والمواد التي اعتمد عليها
العلماء في إنجاز دراساتهم ضمن المحفوظات الأهلية؛ وذلك لأن هذه الفكرة إنما
يدل ذيوعها على وطنية العلماء وكرم أخلاقهم. وأمَّا أولئك الفرنسيون الذين
زاروا الصعيد قبل تأسيس اللجنتين (لجنتَي كوستاز وفورييه) أو زاروا هذا الإقليم
في أثناء بحوثهم العلمية ودراساتهم الفنية أو عُنُوا بهذه الدراسات في أثناء
قيامهم بوظائف أو أعمال أخرى؛ فإن الواجب يقتضي انضمامهم كذلك إلى أعضاء هاتين
اللجنتين لأن الغرض واحد ولا يتغير، ألا وهو البحث عن الحقائق لنشر نور
العلم والعرفان والتعاون والتساند من أجل رفعة اسم فرنسا. وعلى ذلك فإن ما
أرجوه هو أن يتم بوجه السرعة اتخاذ ما يُكْفل من أسباب لتصنيف تلك البحوث
المختلفة بتوزيع موادها واختيار من يُعهد إليه بتنسيق ثمارها في كتاب عظيم يجمع
بين دفتيه شتاتها. ولا شكَّ في أن المجمع العلمي سوف يشعر بالحاجة إلى وضع
مقدمة عامة لهذا الكتاب تستمد بهاءها من بهائه.» وعلى هذا النحو لم يكتفِ كليبر
برسم منهاج العمل فحسب، بل نصح أيضًا بكتابة تلك «المقدمة العامة» التي دبَّجها
يراع فورييه فيما بعد وراجعها بونابرت نفسه.
١٩٤
وعلى ذلك فقد دعا المجمع العلمي للاجتماع لجنتَي كوستاز وفورييه في ٢٤ نوفمبر
١٧٩٩م، وتقرر في هذه الجلسة أن يدعو فورييه جميع أعضاء لجنة العلوم والفنون
وأصحاب البحوث والمذكرات العلمية الآخرين؛ وذلك حتى يمكن التفاهم في شأن
الكتاب المزمع تصنيفه بصورة تضمن تنسيق هذه الآثار العلمية ونشرها
كاملة.
واختار المجتمعون فورييه للإشراف على هذا العمل. وقد نبتت في ذلك الحين
فكرتان؛ أولاهما أن يعود أكثر أعضاء لجنتَي كوستاز وفورييه إلى فرنسا، والأخرى
أن يتضامن العلماء الذين سوف يضم الكتاب بحوثهم في تحمل نفقات النشر عند
الفراغ من إعداده. وكان منشأ الفكرة الثانية أنه كان قد حدث اتفاق بصدد النشر
بين أعضاء لجنة العلوم والفنون وبين هاملان
Hamelin أحد رجال الأعمال الفرنسيين، ووافق كليبر على هذا
الاتفاق. غير أن هاتين الفكرتين لم تتحققا لأنه كان من المتعذر على العلماء أن
يغادروا مصر بسبب انقطاع المواصلات بين مصر وفرنسا. وفضلًا عن ذلك فقد رفض
الجنرال منو عندما تسلم قيادة الحملة العامة أن يستمر الاتفاق مع هاملان
قائمًا بدعوى أن بحوث العلماء ملك للجمهورية، وأن من واجب حكومتها أن تضطلع
بمهمة النشر وأن تكافئ المؤلفين على بحوثهم صونًا لكرامتها.
١٩٥
ولقي مشروع وضع كتاب شامل يضم بين دفتيه بحوث العلماء ويشتمل على مقدمة عامة
كل تأييد من بونابرت القنصل الأول، وبلغ من عنايته بنشر بحث موجز يعرض نتائج
دراسة الآثار المصرية القديمة أنه طلب من ريبولت
Ripault أحد أعضاء لجنة كوستاز التي ذهبت لزيارة آثار الصعيد
أن يكتب تقريرًا عن هذه الآثار، وكان ريبولت قد عاد إلى فرنسا بسبب سوء صحته
فصدع بالأمر وإن حاول أن يصرف بونابرت عن نشر هذا التقرير؛ لأن ريبولت على حد
قوله ما كان يرغب في الاعتداء على «آراء» زملائه وحرمانهم من ثمرة جهودهم. ولكن
التقرير ما لبث أن ظهر في عدد من أعداد المونيتور
Moniteur الجريدة الرسمية.
١٩٦ ثم انتظر القنصل الأول حتى عاد جيش الشرق إلى فرنسا، وقرر أن تقوم
الحكومة بنشر الكتاب المزمع تصنيفه وأن تتكفل الخزانة العامة بجميع نفقاته،
وأن يجري صرف تلك المرتبات التي كان ينالها العلماء وهم في مصر، فضلًا عن
إعطائهم الحق في الحصول على الربح المتحصل من طبع الكتاب، وصدر بذلك قرار في ٦
فبراير سنة ١٨٠٢م.
١٩٧ وبدأ العمل فجمع المهندسون الجغرافيون كل الخرائط التي نجح جاكوتان
في منع الإنجليز من الاستيلاء عليها وكانت ذات فائدة عظيمة ولا غنى عنها في
وضع خريطة مصر، وحضر فولني
Volney نفسه لفحص
أعمال العلماء وليشرح لهم طريقته في رسم الكلمات العربية بالحروف اللاتينية.
وكُلِّف فورييه بوضع قائمة بالأعضاء الذين تألفت منهم اللجان والهيئات العلمية في
مصر، ثم عُهِد إلى لجنة من ثمانية انتخبهم العلماء للإشراف على تبويب الكتاب
وإنجاز العمل وتقدير نفقاته كما كُلِّفوا بتأليف «المقدمة التمهيدية»، وكان هؤلاء
الثمانية: برتوليه، كونتيه، كوستاز، ديجنت، فورييه، جيرار، لانكريه، مونج، وقد
حلَّ محل لانكريه وكونتيه أولًا جومار وجولوا
Jollois، كما ضُمَّ دليل ودي فلِّييه دي تراج إلى هذه اللجنة في
بداية عام ١٨١٠م.
١٩٨
وكان أعضاء هذه اللجنة قد وقع اختيارهم قبل ذلك على فورييه ليكتب مقدمة
المؤلَّف الذي سماه العلماء «كتاب وصف مصر»،
١٩٩ وما إن فرغ فورييه من كتابتها حتى ذهب إلى باريس في خريف ١٨٠٩م
لمقابلة الإمبراطور، ووافق نابليون الأول على المقدمة وطلب صورة منها، ثم أبدى
بعض ملاحظات لم يلبث فورييه أن عمل بها عند إعادة كتابة المقدمة. وظهر أول
أجزاء الكتاب في عام ١٨٠٩م وكُتِب الإهداء باسم الإمبراطور نابليون، ثم حالت
الظروف السياسية دون نشر بقية أجزائه في عهد الإمبراطورية، فظهر آخر أجزاء هذه
الطبعة الأولى في عام ١٨٢٢م وتتألف من تسعة مجلدات تشتمل على بحوث العلماء
ومذكراتهم وما إلى ذلك، ثم أحد عشر مجلدًا أخرى تحوي الرسوم. وكان قد بُدِئ في
إخراج طبعة ثانية (طبعة بانكوك
Panckoucke) في
عهد الملك لويس الثامن عشر في عام ١٨٢١م، وتم الفراغ من طبع أجزائها في عام
١٨٢٩م، وهذه تتألف من ستة وعشرين مجلدًا تحوي البحوث والدراسات ومثلها تحوي الرسوم.
٢٠٠
وجرى تبويب هذا الكتاب على أساس تقسيم موضوعاته إلى ثلاثة أقسام: (الأول)
التاريخ القديم، (الثاني) التاريخ الحديث، (الثالث) التاريخ الطبيعي. ثم اتُّبع
في القسمين الأولين وصف الآثار وتخطيط الأماكن المختلفة ابتداءً من الجنوب عند
جزيرة فيلة إلى الشمال حتى بيلوز والإسكندرية، واتُّبعت نفس الطريقة في وصف ثروة
البلاد المعدنية، بينما اتُّبع عند الحديث عن ثروة مصر الحيوانية والنباتية وما
إلى ذلك توزيع هذه في مجموعات مستقلة. وشمل الكلام في قسم التاريخ القديم وصف
جميع الآثار المصرية وأماكنها قبل عهد العرب (أو الإسلام). بينما اختص القسم
الحديث بذكر ما يلي ذلك من حوادث، إلى جانب وصف البلاد في حالتها الراهنة أيام
الحملة الفرنسية. وقد اشتمل كل قسم من هذه الأقسام الثلاثة على عدة مجلدات من
الرسوم والمتون.
واشتملت مقدمة فورييه على ذكر ما كانت عليه البلاد من الفتح العثماني إلى وقت
مجيء الحملة الفرنسية، كما أن فورييه تحدث عن المماليك وخصوصًا علي بك الكبير
ومحمد بك أبو الذهب، وتناول علاقات مصر التجارية بغيرها من البلدان وأوضح ما
تتمتع به مصر من أهمية تجارية بحكم موقعها، ثم انتقل من ذلك إلى ذكر تاريخ
الحملة الفرنسية بصورة موجزة حتى عهد منو وخروج الحملة، وانتهى بالحديث عن
الكتاب نفسه «كتاب وصف مصر».
٢٠١ أمَّا الأجزاء التي تناولت الكلام عن العهد أو التاريخ القديم
فكانت تسعة، إلى جانب جزء عاشر لتوضيح الرسوم الخاصة بهذا العهد، ثم يأتي
الكلام عن العهد أو التاريخ الحديث ابتداءً من الجزء الحادي عشر.
وعلاوة على ذلك ضم كتاب «وصف مصر» مجموعة كبيرة من الصور والرسوم عدا أطلس
جغرافي لمصر (خريطة جاكوتان) وسوريا. وتتألف خريطة مصر من سبع وأربعين قطعة،
أمَّا خريطة الشام فتتألف من خمس قطع تتناول: غزة وبيت المقدس ويافا وعكا
والأردن وصيدا وغيرها.
٢٠٢ وقد تعاون في تقديم الرسوم والبحوث التي اعتمد عليها جاكوتان في
وضع خريطة مصر عددٌ من المهندسين الجغرافيين نذكر منهم: الجنرال أندريوسي،
برتر، بوشار، كاريستي، شابرول، دي فلِّييه، ديبوا إيميه، فافيه، فيفر، جولوا،
جومار، لانكريه، لاتويل، لازوسكي، ليسين، لوجنتيل، جرتيان لوبير، مالوس،
مارتان، بيكو، رافينو، دليل، ساي، شواني، سيمونل، تاسكان، فيناش.
وأمَّا أولئك الذين ساهموا في وصف الآثار المصرية القديمة فكانوا: جومار،
لانكريه، ديبوا إيميه، شابرول، سانت جينس، جولوا، دي فلِّييه، روزيير، كاريستي،
كوردييه، نوري. ووصف جومار وحده آثار القاهرة وطيبة وأبيدوس وأرمنت
وأنتنوي وأشمونين وإدفو وأسوان والفشن وغيرها ومنف وغيرها، واشترك مع كاريستي
في وصف آثار الفيوم، بينما وصف دي فلِّييه الآثار في برزخ السويس ونفس البرزخ.
٢٠٣ وفي الأجزاء المخصصة لتاريخ البلاد القديمة وجغرافيتها وعادات
المصريين القدماء وعلومهم وفنونهم وصناعاتهم وغير ذلك، كتب جيرار مذكرة عن مقياس
النيل القديم في جزيرة إلفنتين، وكوستاز عن الزراعة والفنون لدى قدماء المصريين
وعاداتهم ودياناتهم، وجومار عن بحيرة قارون وعن معارف قدماء المصريين في الفلك
والرياضيات والنقوش القديمة عمومًا وعن الهيروغليفية خصوصًا وعن سكان مصر في
العصور القديمة والحديثة وعن الأهرامات. وكتب روزيير عن جغرافية شواطئ البحر
الأحمر القديمة وتجارة المصريين القدماء وبعض الآثار التي وُجِدت في منطقة
برزخ السويس. وبحث ريمي ريج
Remi Raige موضوع بروج
الشمس عند قدماء المصريين، وتناول فيلوتو
Villoteau الموسيقى وآلاتها. وتحدث لانكريه عن الفرع الكانوبي
(مع إضافات من صنع جومار)، وديبوا إيميه عن فروع النيل القديمة ومصباتها
والإسرائيليين وخروجهم من مصر، وتناول جولوا ودي فلِّييه موضوع بروج الشمس. وتكلم
فورييه عن الحكومة والعلوم والآثار الفلكية في مصر، ووضع بوديه مذكرة تاريخية
عن صناعة الزجاج، وكوتيل عن أهرامات الجيزة.
٢٠٤
وأمَّا الرسامون الذين رسموا الآثار القديمة فكانوا: بلزاك، سيسيل، شابرول،
كورابوف، دي فلِّييه، دوترتر، جيرار، جولوا، جومار، لانكريه، لوجنتيل، لنوار، لوبير،
ديدونيه، روزيير، سانت جنيس، فيار، كوتيل، دليل، بروتان، كاريستي، كاستكس
Castex، كونتيه، ديبوا إيميه، فاي، فيفر،
جاكوتان، جرتيان لوبير، مارتان. وقد اشتمل الجزء العاشر من الكتاب على وصف كامل
لهذه الرسوم.
٢٠٥
وأسهم في تقديم البحوث التي اشتملت عليها أجزاء الكتاب التي تناولت دراسة مصر
الحديثة عدد كبير من علماء الحملة، فدوَّن نوت عدة ملاحظات فلكية جُمِعت في أثناء
سنوات ١٧٩٨–١٨٠٠م في مصر، وكتب لوبير عن طرق المواصلات بين المحيط الهندي والبحر
الأبيض عبر برزخ السويس وعن مقياس الروضة ووصَف وادي النيل، وجرتيان لوبير عن
الجزء الغربي من مديرية البحيرة وعن مريوط وبحيرات وصحراوات مصر السفلى
ومدينة الإسكندرية وفوائد رسم مسطح وادي النيل بين مقياس الروضة وهرم الجيزة
الأكبر. ودرس ديبوا إيميه حدود البحر الأحمر القديمة، وبلدة القصير ونواحيها
والبدو الذين يقطنون حولها وكذلك القبائل العربية الضاربة في الصحراوات
المصرية، كما تحدث عن رحلته في الدلتا ووصَف عادات المصريين في الأزمنة
الحديثة ووضَع مذكرة عن مقياس الروضة ووادي النيل. وتحدث روييه Rouyer بالاشتراك مع روزيير عن صناعة تفريخ
الدجاج، ثم عن الأدوية التي يستخدمها المصريون عادة في علاج مرضاهم. وتناول
لانكريه النظام الإداري والمالي في مصر في آخر سنوات المماليك، كما وضع
بالاشتراك مع شابرول مذكرة عن ترعة الإسكندرية ووصفًا طبوغرافيًّا للمنطقة
الواقعة بين الرحمانية والإسكندرية وكذلك حول بحيرة مريوط.
وتكلم شابرول نفسه عن عادات المصريين في الزمن الحديث، وكتب الجنرال أندريوسي
عن بحيرة المنزلة ووادي النطرون، ووضع كوستاز مذكرة عن النوبة والبرابرة، وشرح
ديكوتيل صناعة ملح الأمونيا. وأسهب لاري في الحديث عن الأمراض التي فتكت بجيش
الشرق في مصر والشام كما تحدث عن الأجناس في مصر، ووضع ديجنت إحصاءً عن
الوفيات التي حدثت في القاهرة بين عامَي ١٧٩٨م، ١٨٠١م. وتكلم فيلوتو عن الموسيقى
المصرية الحديثة وتاريخ الموسيقى عند الشرقيين عمومًا ووصَف آلاتها. وبحث
مارسيل النقوش الكوفية وغيرها الموجودة على الآثار العربية وتكلم عن جامع ابن
طولون وتاريخ الدولة الطولونية كما تحدث عن مقياس الروضة، ودوَّن جومار
ملاحظاته عن العرب القاطنين في مصر الوسطى ووصف قلعة القاهرة ومدينة القاهرة
وسكَّانها وآثارها وصناعات أهلها وعاداتهم، ووضع جاكوتان مذكرة عن صنع خريطة
مصر. وتكلم بوديه عن صناعة الجلود، وصمويل برنار عن الأوزان والمثاقيل
العربية القديمة والحديثة وكذلك عن النقود المتداولة في مصر. ووصف مارتان
مديريتي الفيوم وبني سويف وصفًا هيدروغرافيًّا، وتحدث جيرار عن الزراعة
والصناعة والتجارة. ودوَّن كوتيل
Coutelle
ملاحظات طبوغرافية عن شبه جزيرة سيناء وتكلم عن أهلها وعاداتهم وصناعاتهم
وتجارتهم، وذكر جوبير
Jaubert أسماء القبائل
العربية بين مصر الوسطى وفلسطين. ووصف لازوسكي خط سير جزء من الجيش الفرنسي من
العريش إلى فلسطين في أثناء العودة من الشام، ووضع مالوس
Malus مذكرة عن مديريات الوجه البحري قديمًا وحديثًا، وتحدث
جولوا عن مدينة رشيد والرحلة بحرًا من الإسكندرية إليها وفي النيل من رشيد إلى
القاهرة. ثم أثبت دلابورت
Delaporte تاريخًا
موجزًا للمماليك من نشأتهم إلى الفتح الفرنسي، ووضع أستيف
Estève مذكرة مشهورة عن مالية مصر من أيام
السلطان سليم الأول إلى مجيء بونابرت. وفضلًا عن ذلك فقد شملت الأجزاء المخصصة
لدراسة مصر الحديثة بحوثًا عن عيون موسى وآلات الري (الشادوف مثلًا) عدا فهرس
جغرافي بأسماء المدن وما إليها في المديريات المختلفة، كما اشتمل الجزء الثاني
عشر على شرح وافٍ للرسوم المتعلقة بالفنون والصناعات في مصر.
٢٠٦
وأسهم في وضع قسم التاريخ الطبيعي من كتاب وصف مصر نخبة من العلماء، فتحدث
جيوفري سانت هيلير عن الأسماك في نهر النيل والبحرين الأبيض والأحمر، ووصف
التمساح كما وصف الحيوانات الثديية، واشترك معه أودوان
Audouin في جزء من هذا البحث الأخير. وتحدث سافيني عن طائفة من
الحيوان والطير والزواحف في مصر وفي الشواطئ الشامية والمصرية وصوَّرها في
رسوم كثيرة، كما أسهب في الحديث عن العجل أبيس من ناحية التاريخ الطبيعي
والناحية الميثولوجية وتكلم كذلك عن الثدييات، وقد قام فكتور أودوان بشرح
الرسوم التي أنجزها سافيني ودوَّن عليها ملاحظات عدة. ووصف دليل شجر الدوم
في الصعيد ووضع مذكرة مسهبة عن النباتات والزهور في مصر. وعقد كوكبير
مقارنة بين النبات في مصر وفرنسا. ووصف جيرار وادي التيه واستكشافاته
الجيولوجية في هذا الوادي كما وصف آثاره، كما تكلم عن التربة في مصر وفيضانات
النيل وأسباب اختلاف الفيضان عمومًا. وحلل رينو
Regnault طمي النيل. وعقد روزيير فصولًا تناول فيها الحديث عن
الصخور المصرية والعربية وعن المعادن في وادي القصير، ووضع مذكرة مطولة عن
وصف مصر الطبيعي (أو الفيزيقي) وعلاقة ذلك بالأنظمة المصرية القديمة فتكلم عن
حدود البلاد وجبالها وتربتها وسكانها وصلاحية أرضها للزراعة وطمي النيل
والدلتا والفيضان ومقياس الروضة والمقاييس المصرية (الذراع خصوصًا) ومعادنها
وصحراواتها ووادي التيه إلى غير ذلك، وأنجز رسومًا عدة. ثم دوَّن كوتيل
Coutelle ملاحظات مترولوجية أُخِذت في القاهرة، ثم
أخرى بارومترية، وحذا حذوه نوت
Nouet فدوَّن
عدة ملاحظات مترولوجية وهيجروماتيكية أُخذت في مدن مصرية مختلفة.
٢٠٧
وأمَّا مجموعة الرسوم والمصوَّرات فكانت تضم صورًا ورسومًا عدة، تبدأ بخريطة
مصر القديمة التي رسمها دانفيل D’Anville ثم
تشتمل على آثار الصعيد والفيوم والوجه البحري، فكانت هناك رسوم لجزيرة فيلة
وآثارها وكذلك لجزيرة إلفنتين ثم كوم امبو وجبل السلسلة لبيان المحاجر
القديمة، وإدفو والكاب وإسنا وأرمنت وطيبة (مدينة هابو، تمثالَي ممنون، بيبان
الملوك، الأقصر، الكرنك)، وكذلك رسوم أوراق البردي والنقوش الهيروغليفية، وقد
رسم هذه الأوراق جومار، كما رسم مومياء الطيور والتماسيح سافيني وجيوفري سانت
هيلير، ثم رسوم قوص وقفط ودندرة وأبيدوس والأشمونين وأنتنوي وبني حسن وملوي
والدر والفيوم ومنف وبحيرة مريوط وحصن بابليون وهليوبوليس وصان الحجر وبوبسطة
وتانيس وبرزخ السويس والدلتا والإسكندرية والنقود القديمة والنقوش الهيروغليفية
ومجموعات الأواني والتمائم وغيرها.
واشتملت الخرائط على خريطة لأسوان وأخرى لإسنا ثم قنا والقصير وأسيوط
والمنيا ومصر الوسطى، وخريطة هيدروغرافية للوجه البحري وبرزخ السويس وميناء
السويس والقاهرة (بولاق، جزيرة الروضة، الجيزة)، ثم رسم حديقة مراد بك في
الجيزة، ثم مصر القديمة والخليج والقبة وسفح الأهرام ومقياس الروضة وجوامع
القاهرة (ابن طولون، السلطان حسن … إلخ) وباب النصر وباب الفتوح وبركة الفيل
والأزبكية وحديقة وسراي قاسم بك وسراي حسن كاشف (مقر المجمع العلمي) وبيت
إبراهيم كتخدا السناري والرميلة والقلعة وبير يوسف وبركة الحاج وبلبيس ودمياط
وأم دينار وفوة ورشيد وقلعة أبو قير والإسكندرية بميناءيها القديم والحديث
وجوامعها وحماماتها ومقابرها ومنازلها وبرج العرب والصحراوات والوكايل
بالإسكندرية ورشيد ودمياط والمحاجر القديمة في جبل السلسلة والأديرة في سيناء
ووادي النطرون.
وعدا ذلك ضم المجلد الثاني عشر شرحًا لرسوم الصناعات والحرف المصرية، كصناعة
الزيوت وتفريخ الدجاج والفخار والزجاج والسواقي والشادوف والمحراث والنورج
وطواحين الأرز والنسيج والجلود والصباغة والبناء وصناعة الحصر والنجارة
والحدادة والخراطة وصناعة الزجاج … إلخ. واشترك في تفسير هذه الرسوم كل من
دي فلِّييه وجومار وجولوا وسيسيل ودليل وكوتيل ولوبير (المهندس) وهوميلو Humelot وبوديه وديكوتيل Descotils.
ثم كانت هناك عدة رسوم تشرح أزياء وملابس الأفراد في مختلف الطبقات، وأثاث
البيوت وآلات الموسيقى، عدا صور بعض الشخصيات كأمير الحاج ومراد بك والشيخ
السادات وسيد مصطفى باشا الذي أُسِر في واقعة أبو قير البرية، وبعض علماء
القاهرة والآستانة والراقصات (أو العَلْمات) والسقَّاء والسيدات المصريات
والإفرنجيات وغير ذلك.
٢٠٨
واشترك في وضع رسوم القسم الخاص بالتاريخ الطبيعي وتفسيرها كل من سافيني
وجيوفري سانت هيلير وبيسا
Bessa وبرابو
Barrabaud وبريتر
Prêtre ومونييه
Meunier
وهويه
Huet وديويلي
Dewailly وتيربان
Turpin:
الحيوانات والزواحف وما إليها. دليل وبرتو
Bertaux وبيسا وبواتو
Poiteau
وسافيني وتيربان: النبات. وروزيير وكلوكيه
Cloquet وديفرين
Defraine
وليشانديه
Lechandé ورينجويه
Ringuet وسافيني: الحيوانات عادمة الفقار،
سافيني: الفقارية. واختص ديدونيه برسم النبات وروزيير برسم المعادن.
٢٠٩
ذلك كان كتاب «وصف مصر» الذي يُعتبر بحقٍّ من أكبر الموسوعات التي وُضِعت في
تاريخ مصر وجغرافيتها ووصف أرضها وتربتها ونيلها وتُرَعها وآثارها وموارد ثروتها
الحيوانية والنباتية والمعدنية ومناخها وأجناس شعوبها وعادات أهلها وأساليب
معاشهم وصناعاتهم وتجاراتهم. ولا شكَّ في أن هذا الأثر العلمي كان أعظم آثار
الحملة الفرنسية وأبقاها خلودًا على مرِّ الأيام والدهور.
بيد أن هؤلاء العلماء الذين حضروا مع بونابرت إلى مصر لم يحفظوا بحوثهم
ودراساتهم حتى يعودوا إلى بلادهم، بل بادروا بنشر كل ما تيسر إنجازه منها وهم
في هذه البلاد، وقرأوه على إخوانهم من أعضاء المجمع العلمي وناقشهم زملاؤهم من
أعضاء لجنة العلوم والفنون في محتوياته بحثًا وراء الحقيقة وإرواءً لظمئهم
العلمي، ثم اختصت إحدى الصحف التي أنشأها الفرنسيون في هذه البلاد بنشره بعد
ذلك حتى يفيد من قراءته سائر مواطنين وكل من رغب في الاشتراك في هذه الصحف
وقراءتها، وكانت لاديكاد
إجبسيين Decade Egyptienne هي الصحيفة التي اختصت بنشر بحوث العلماء وما يلقونه
من دراسات في قاعة المجمع العلمي. على أن الحديث عن هذه الناحية من جهود
العلماء والمجمع إنما يتناول الكلام عن أثر من آثار الحملة في مصر، هو إدخال
الطباعة إلى هذه البلاد وظهور الصحف بها لأول مرة في تاريخها.
المطبعة الأهلية
اهتم بونابرت واهتمت حكومة الإدارة باختيار نخبة من المختصين بشئون الطباعة،
كما اهتمت باختيار ذلك العدد الكبير من العلماء المبرَّزين الذين صحبوا الحملة
إلى مصر. ولم يمنع إشراف بونابرت على الاستعدادات التي جرت على نطاق واسع من
أجل تجهيز واستكمال معدات الحملة العسكرية من تخصيص بعض وجوه نشاطه لاختيار
«العلماء» والطبَّاعين الحاذقين الذين كانوا يعملون في دار المطبعة الأهلية
بفرنسا أو في أماكن أخرى للعمل في المطابع التي قرر إحضارها معه إلى مصر. وكانت
هذه مطابع إفرنجية وشرقية أمدتها المطبعة الأهلية بالأدوات والحروف التي تكفي
ثلاث مطابع فرنسية، واستطاع الجنرال كفاريلِّي بناءً على أمر من بونابرت أن
يبتاع لهذه المطبعة (مطبعة الحملة الفرنسية) أدوات كثيرة.
٢١٠ ولما كان يعتمد على «المطبعة» كأداة صالحة للدعاية تمكِّنه من
إذاعة نياته وأغراضه أو تلك المنشورات التي أراد من إصدارها جلب مودة
المصريين واطمئنانهم إلى الحكومة التي أزمع إنشاءها في بلادهم؛ فقد فاق
اهتمامه بالمطبعة العربية على سواها من المطابع، وعهد إلى مونج صاحب الصيت
العلمي الذائع باختيار «المستشرقين» أو الذين يحذقون فنون الطباعة العربية
والشرقية، فصدع مونج بالأمر واختار موظفي المطبعة الشرقية من بين المتخصصين
في شئون الطباعة الشرقية أو الذين كانوا يعرفون اللغة العربية في باريس أو روما
أو الفاتيكان.
وقد نجم عن تضافر جهود بونابرت ومونج وحكومة الإدارة عمومًا أن صارت لجنة
العلوم والفنون تضم عند الفراغ من تأليفها عددًا من المستشرقين والطبَّاعين
والمصححين الفنيين المختصين بشئون الطباعة الذين كان مهمتهم العمل في مطبعة
الحملة الرسمية. فأمَّا الطبَّاعون والمصححون ومن إليهم الذين اختصوا بالعمل في
المطبعة الإفرنجية وضمَّتهم إليها لجنة العلوم والفنون، فكانوا: بيسون
Beson وبودوان
Beaudiun وجالان
Galland
وبولانجيه
Boulanger ولابورت
Laporte وبنتيس
Puntis
وبارييه
Barrier وماركوي
Marquoy وبونيسلو
Ponicelot وبواييه
Boyer
وجاردان
Jardin ونيفيه
Nivet وفيري
Véry
وديبوا
Dubois وجرانسار
Gransart ومارييه
Mariet ولتيون
Lithions
وكاستيرا
Castera،
٢١١ وكان رئيسهم مارسيل العالم المستشرق.
وأمَّا موظفو المطبعة الشرقية — وهؤلاء لم تضمهم لجنة العلوم والفنون إليها —
فكانوا عشرة، أهمهم على ما يبدو أحد المترجمين من ديار بكر وهو إليا فاتالا
Elia Fatalla، وقد وُضِعت تحت إدارته
المباشرة المطبعة الشرقية.
٢١٢ وكانت هذه المطبعة الرسمية التي أحضرتها الحملة معها إلى مصر تتألف
من ثلاث مطابع فرنسية واثنتين عربيتين وواحدة يونانية، وتنقسم إلى قسمين:
المطبعة الشرقية والمطبعة الفرنسية، وتُعْرَف جميعها باسم «المطبعة الشرقية
والفرنسية»، وكان مارسيل المدير الذي أشرف عليها جميعًا، وقد حملت بارجة
القيادة أوريان هذه المطبعة.
وقد أحضرت الحملة معها إلى جانب هذه المطبعة الرسمية مطبعة أخرى خصوصية
كان صاحبها مارك أوريل Marc Aurel، وكانت قد
نشأت صداقة متينة بين والده بيير مارك أوريل — وكان صاحب مطبعة ومكتبة في مدينة
فالنس — وبين بونابرت الذي عرفه منذ أن كان في حامية هذه المدينة. وقد حضر مارك
أوريل الابن بمطبعته مع الحملة بوصفه طابعًا حرًّا ودون أن تكون له صفة
رسمية، ولم يكن لدى مطبعة أوريل التي حملتها السفينة سان كيلوت Sans-Culotte أية حروف عربية.
وبدأت المطبعتان الرسمية والخصوصية عملهما وهما ما تزالان في عرض البحر في
أثناء العبور من فرنسا إلى مصر، فأخرجت مطبعة مارسيل الرسمية بعض المطبوعات
الفرنسية منها نداء بونابرت إلى جيشه في ٢١ يونيو وأمره اليومي في ٢٢ يونيو
سنة ١٧٩٨م، كما طبعت بالعربية منشور أو نداء بونابرت المشهور إلى أهل مصر وهو
«المرسوم الذي طبعوه وأرسلوا منه نسخًا حين حلولهم بالإسكندرية إلى البلاد
التي قدموا إليها تطمينًا لهم»
٢١٣ بتاريخ ١٣ مسيدور أو ٣٠ يونيو ١٧٩٨م، وأُذيع غداة استيلائهم على
الإسكندرية؛ أي في ٢ يوليو من العام نفسه.
٢١٤ ومن المحتمل أن تكون مطبعة مارك أوريل قد أخرجت هي الأخرى بعض
المطبوعات الفرنسية في أثناء العبور كذلك.
وقبل مغادرته الإسكندرية أصدر بونابرت أمره في ٧ يوليو بإنزال المطابع
الفرنسية والعربية واليونانية إلى البر؛ أي تلك المطابع التي كانت تحت إشراف
مارسيل، وترك أحد الضباط من هيئة أركان حربه للإشراف على هذه العملية، كما أمر
بأن تُنقل المطابع إلى منزل قنصل البندقية، على أن يتم إعداد المطابع الفرنسية
والعربية في خلال يومين فقط لطبع كل ما يمكن إرساله لها من أوامر ومنشورات
تصدرها القيادة العامة في أثناء الزحف على القاهرة، كما كلف بونابرت المطبعة
العربية بطبع أربعمائة نسخة من منشوره أو ندائه العربي.
٢١٥ ولما كان برويس قائد الأسطول قد غادر ببارجته أوريان ميناء
الإسكندرية إلى أبو قير في صبيحة يوم ٧ يوليو،
٢١٦ فمن المرجح أن مطبعة مارسيل كانت قد أُنزِلت إلى البر قبل يوم ٧
يوليو بل بدأت عملها قبل هذا التاريخ، والدليل على ذلك أنه لم يلبث أن ظهرت
بالإسكندرية قائمة (أو تعريفة) بقيمة العملة المتداولة تحمل تاريخ الإسكندرية
في ٦ يوليو ١٧٩٨م، فتكون المطبعة الرسمية إذن قد بدأت عملها بعد أقل من أسبوع
واحد من الاستيلاء على الإسكندرية، وفي مكان غير منزل قنصل البندقية الذي ذكره
أمر بونابرت وقت رحيل قائد الحملة العام من الإسكندرية وبداية زحفه صوب القاهرة.
٢١٧ ولا ينهض صدور أمر بونابرت في ٧ يوليو بطبع عدد من ندائه المعروف
إلى «أهالي مصر» دليلًا على أن المطبعة الرسمية بإشراف مارسيل قد بدأت عملها في
مدينة الإسكندرية في يوم ٨ يوليو؛ أي في اليوم التالي لظهور هذا الأمر كما
يعتقد بعض الكتَّاب.
ولما كانت المطبعة الرسمية (مطبعة مارسيل) تتألف من مطابع عدة، ومن المتعذر
نقلها بسلام إلى القاهرة مع الجيش في أثناء زحف بونابرت الشاق على العاصمة؛ فقد
فضَّل القائد العام إبقاء هذه المطبعة بالإسكندرية، واختار لها بيت القنصل
البندقي مكانًا كما أسلفنا، واكتفى بإرسال المطبعة الخصوصية (مطبعة مارك أوريل)
إلى القاهرة، فتبع أوريل ومطبعته الجيش الزاحف، واعتمد بونابرت على هذه المطبعة
الخصوصية في طبع أوامره باللغة الفرنسية، كما عهد إليها بطبع الصحيفتين
اللتين أنشأهما بونابرت في القاهرة، وهما: لوكورييه دوليجبت
Le Courrier de L’Egypte،
لاديكاد إجبسيين
La Decade Egyptienne.
وسمَّى أوريل نفسه طابع (مطبعجي) الجيش، وقد ظل محتفظًا بهذا اللقب حتى وقت
رحيله من مصر، وقد طبع أوريل أول أمر يومي من أوامر بونابرت في ١٦ أغسطس ١٧٩٨م.
وهذا بينما ظلت مطبعة مارسيل الرسمية تعمل بالإسكندرية تحت عنوان «المطبعة
الشرقية والفرنسية»، ويستخدمها الجنرال كليبر حاكم الإسكندرية في طبع ما تصدره
قيادته من أوامر وتعليمات، كما كانت تُرسَل إليها أصول النداءات وغيرها المكتوبة
باللغة العربية لطبعها. وفضلًا عن ذلك فقد أخرجت مطبعة مارسيل بالإسكندرية إلى
جانب «قانون العقوبات العسكري لجميع جنود الجمهورية» مصنَّفَيْن صغيرين؛ أحدهما
«حروف الهجاء العربية والتركية والفارسية» والآخر «تمارين للقراءة العربية
مستخرجة من القرآن (الكريم) لمساعدة أولئك الذين يريدون معرفة هذه اللغة»، وكان
هذا أول ما طُبع إطلاقًا في مصر من الكتب.
٢١٨
وما إن دخل بونابرت القاهرة ظافرًا حتى بادر بإصدار أمره إلى الجنرال برتييه
في ٢٧ يوليو سنة ١٧٩٨م أن يطلب إحضار المطابع الفرنسية والعربية — أي المطبعة
الرسمية — إلى القاهرة بكل سرعة وصدع برتييه بالأمر في اليوم نفسه، ولكنه لما
كان يجهل مكان هذه المطبعة على وجه التدقيق فقد كتب إلى منو حاكم رشيد ليرسل
هذه المطابع إذا كانت في رشيد.
٢١٩ وكتب بونابرت كذلك في ٢٧ يوليو إلى كليبر أن يرسل المطبعة الرسمية
إلى القاهرة، وكان ذلك قبل أن يبدأ مارك أوريل في طبع أو إعداد «لوكورييه
دوليجبت». وعندما شرع بونابرت ينظم جهود علماء الحملة عهد في أمره الذي أصدره
في ٢ أغسطس ١٧٩٨م — وقد سبق ذكره — إلى مونج وبرتوليه وكفاريلِّي باختيار مكان يتسع
لإيواء المجمع العلمي والمنشآت العلمية الأخرى التي قرر تأسيسها ثم المطبعة الرسمية.
٢٢٠ وفي الوقت الذي استدعى فيه بونابرت علماء الحملة إلى القاهرة طلب
من جديد حضور المطبعة الرسمية. وعلى ذلك فقد كتب برتييه إلى كليبر في أواخر
أغسطس يطلب منه إرسال إحدى المطبعتين العربيتين إلى القاهرة نظرًا للحاجة
الشديدة إليها، فقد كان يستغرق إرسال الأصول العربية إلى مطبعة مارسيل
بالإسكندرية ثم عودتها إلى القاهرة زمنًا طويلًا إذ يفصل بين الإسكندرية
والقاهرة مسافة ثلاثمائة كيلو متر تقريبًا بطريق النيل. ومع ذلك فقد تأخر وصول
المطبعة الرسمية واضطر بونابرت أن يعهد إلى مارك أوريل بطبع صحيفتي الحملة،
فظهر أول أعداد «لوكورييه» في ٢٩ أغسطس وأول أعداد «لاديكاد» في أول أكتوبر سنة
١٧٩٨م، ولم ينل العددان عند ظهورهما رضاء بونابرت بسبب ما كان بهما من أخطاء
مطبعية كثيرة.
٢٢١
وأخيرًا وصلت المطبعة الرسمية إلى القاهرة بحروفها الفرنسية والعربية
واليونانية عقب ثورة القاهرة الأولى مباشرة، وحضر معها مارسيل وسائر الموظفين،
فاستقرت المطبعة في نفس المكان الذي أقام فيه المجمع العلمي ولكنها ما لبثت أن
نُقِلت إلى منزل عثمان بك أشقر بميدان الأزبكية، بينما ظلت سراي حسن كاشف مقر
المجمع العلمي، وعُرِفت باسم «المطبعة الأهلية» وبقيت تحت إشراف المستشرق
مارسيل. وبادر بونابرت بتنظيمها فأصدر أمرًا في ١٤ يناير ١٧٩٩م من ست مواد يرسم
خطة العمل، ويعهد بالإشراف على قسم المطبعة العربية إلى فانتور
Venture، وعلى قسم المطبعة الفرنسية إلى
فوفليه دي بوريين
Bourienne، وذلك تحت
إدارة مارسيل نفسه مدير المطبعة الأهلية. وقامت المطبعة الأهلية
٢٢٢ بطبع الأوامر اليومية للجيش والنداءات أو المنشورات العربية، كما
أخرجت مطبوعات باللغة اليونانية وأخرى رسمية باللغة التركية، وعُهِد إليها كذلك بطبع
صحيفتَي الحملة «لوكورييه» و«لاديكاد».
٢٢٣
ومما يجدر ذكره أنه كان لا يزال يوجد بالإسكندرية بعض أدوات المطبعة وحروفها
بمقدار يسمح بطبع بعض الأوامر والمنشورات تحت إشراف «بيسون». وعلى ذلك فقد
انتفت الحاجة تمامًا لمطبعة مارك أوريل الخصوصية، ورغب مارك أوريل في العودة
إلى فرنسا فعرض على بونابرت أن يشتري مطبعته، وعهد القائد العام إلى ديجنت
واثنين آخرين بتقدير الثمن المناسب لها. ولما كان بونابرت يريد معاملة مارك
أوريل بسخاء فقد قدَّرت اللجنة ثمنًا لها أربعة آلاف وخمسمائة فرنك،
٢٢٤ ولكن أوريل لم يستطع قبض المبلغ قبل مغادرة بونابرت إلى فرنسا.
وعندما تولى الجنرال كليبر قيادة الحملة أُعيد تقدير قيمة المطبعة بثمن يقل
بمبلغ ألف وخمسمائة فرنك عن سابقه، وصدر أمر كليبر إلى الصرَّاف العام بشراء
مطبعة مارك أوريل بثلاثة آلاف فرنك وكان ذلك في ٧ سبتمبر ١٧٩٩م،
٢٢٥ وعاد أوريل إلى فرنسا.
أمَّا المطبعة الأهلية (الرسمية) فقد ظلت في مكانها بمنزل عثمان بك أشقر، حتى
إذا كانت ثورة القاهرة الثانية أيام كليبر وكانت ثورة عنيفة هاجم الثوار في
أثنائها المجمع العلمي ومكان المطبعة؛ نُقِلَت المطبعة إلى الجيزة في أبريل سنة
١٨٠٠م، ثم أُعيدت إلى مكانها الأول بعد أن هدأت الأمور. على أنه ما انتشر ذعر
الفرنسيين بالقاهرة عند زحف الجيوش الإنجليزية والعثمانية على العاصمة في أثناء
حملة ١٨٠١م المعروفة، وحاصر الأعداء مدينة القاهرة؛ حتى نقل الفرنسيون مع ما
نقلوه إلى القلعة المطبعة، وعند جلاء الفرنسيين من البلاد نُقِلت المطبعة إلى فرنسا.
٢٢٦
وأخرجت المطبعة الأهلية — ومطبعة مارك أوريل كذلك — إلى جانب الأوامر
والمنشورات وصحيفتي الحملة «دليلًا سنويًّا» يشمل طائفة من البحوث العلمية
والأدبية من عمل أعضاء المجمع العلمي، كما أخرجت بعض الكتب في النحو والهجاء
باللغتين العربية والفرنسية لفائدة رجال الحملة والمصريين أنفسهم الذين يريدون
معرفة اللغة الفرنسية، وطبعت كتابًا بالعربية عن سقوط القسطنطينية، وأصدر
مارسيل طبعة من وصايا لقمان الحكيم. كما طبعت أسماء مديريات القطر المصري
باللغة العربية،
٢٢٧ ثم كتاب ديجنت في مرض الجدري، ووصف مرض الرمد في مصر لأنطوان
سافرسي باللغتين العربية والإيطالية، وموجزًا للحوادث التي وقعت في أوروبا خلال
الأربعة شهور الأولى من العام السابع للجمهورية، ودستور السنة الثالثة
للجمهورية الفرنسية، وبعض آيات قرآنية من اختيار وترجمة مارسيل، ثم الأوراق
الخاصة بمحاكمة سليمان الحلبي وصورة الحكم الصادر بإعدامه وإعدام «كل من له
جرة في غدر وقتل ساري عسكر العام كلهبر» — وقد نشر الشيخ الجبرتي هذه المستندات
في تاريخه — وغير ذلك.
٢٢٨
وحازت المطبعة الأهلية إعجاب الكثيرين من المشايخ أعضاء الديوان وغيرهم من
المصريين المثقفين الذين زاروا مطبعة مارسيل، وقد تقدم كيف زار المشايخ المهدي
والفيومي والصاوي وغيرهم المطبعة مرات كثيرة وأُعْجِبوا بطرق الطبع لإخراج
المطبوعات العربية والفرنسية. وكان ممن زاروا المطبعة كذلك الشيخ محمد الفاسي،
وكان قد شاهد مطبعة القسطنطينية ثم «مطبعة الشوام» بالدير الماروني في لبنان،
فاستطاع الشيخ الفاسي أن يؤكد تفوق المطبعة الأهلية على المطبعتين التركية
والسورية وقال إنها تفضلهما كثيرًا. وكان الشيخ البكري ممن زاروا المطبعة
وسأل أسئلة عدة عن تأثير الطباعة على الحضارة، وقال إنه يعرف كتبًا عربية كثيرة
يودُّ لو أن المطبعة طبعتها. ونشأت بين الشيخ المهدي ومارسيل صداقة عظيمة،
فترجم مارسيل قصص الشيخ إلى الفرنسية ونشرها في باريس ١٨٣٦م.
٢٢٩
صحيفة «لوكورييه دوليجبت»
وكانت صحيفة لوكورييه
دوليجبت
Le Courrier de L’Egypte أول الصحف التي أخرجتها المطابع الفرنسية في
القاهرة، قام بطبع أول أعدادها مارك أوريل في مطبعته، فقد رغب بونابرت أن ينشئ
صحيفتين مستقلتين؛ إحداهما سياسية تنشر الأخبار التي كان يهم جيش الشرق
معرفتها، والأخرى أدبية تضم طائفة من بحوث علماء الحملة وموجزًا لما كانوا
يقومون به من دراسات وما وصلوا إليه من نتائج علمية هامة، فأسس للغرض الأول
صحيفة «لوكورييه دوليجبت» وكان المقرر أن تصدر مرة كل خمسة أيام، وأصدر
لتحقيق الغرض الثاني صحيفة لاديكاد
إيجبسيين
La Decade Egyptienne على أن تصدر مرة كل عشرة أيام. فكانت مهمة الصحيفة
الأولى أن تنشر أخبار أوروبا إلى جانب الأخبار المحلية؛ وذلك حتى يقف جيش الشرق
على مجريات الحوادث في داخل المستعمرة الناشئة وخارجها، وحتى تحمل هذه الصحيفة
«لوكورييه» صورة صحيحة إلى عاصمة البلاد عن الحياة العامة في المديريات
والأقاليم، ثم تحمل إلى المدن في مختلف أنحاء البلاد صورة الحياة في العاصمة.
٢٣٠
وكان بونابرت يهدف من ذلك إلى توجيه رأي قارئي هذه الصحيفة إلى ناحية معينة
تتفق وما كان يعقده من آمال عظيمة على نجاح تجربة الاستعمار الفرنسي في هذه
البلاد الشرقية. وعلى ذلك فقد عُنِي بونابرت باختيار المشرفين على صحيفة
«لوكورييه» بنفسه، فعرض في بادئ الأمر رياسة التحرير على برسيفال جرانميزون أحد
أعضاء المجمع العلمي ولكنه رفض، فاختار بونابرت العالم الرياضي فورييه Fourier. ولما كان فورييه لا يزال وقتئذٍ في
رشيد فقد عهد بونابرت إلى كوستاز بالإشراف على إصدار الجريدة، فصدرت أعداد
«لوكورييه» الأربعة الأولى تحت إشرافه، ثم تسلم فورييه العمل عند وصوله إلى
القاهرة بعد ذلك بخمسة عشر يومًا. وقد ظلت مطبعة مارك أوريل تصدر «الكورييه»
حتى العدد الثلاثين في ١٩ جرمينال من السنة السابعة للجمهورية (٨ أبريل ١٧٩٩م)،
ثم تولى مارسيل طبع الجريدة في المطبعة الأهلية ابتداء من العدد الواحد
والثلاثين في ١٩ مسيدور من العام نفسه (٦ يوليو ١٧٩٩م).
وقد أرسل بونابرت أول أعداد «لوكورييه» إلى كليبر بالإسكندرية، وكان هذا
العدد يشتمل على مقال خاص بالمولد النبوي، طلب بونابرت من كليبر أن يطبع منه
بالمطبعة العربية لديه نسخًا عديدة لإذاعته في الليفانت ووعد كليبر بإرسال
أربعمائة نسخة من الجريدة. وغرض بونابرت من ذلك ولا شكَّ هو الترويج لسياسته
الإسلامية–الوطنية بين شعوب الليفانت الإسلامية. على أن كليبر لم يجد في عدد
«لوكورييه» ذلك الكمال الذي كان ينشده بسبب ما به من أخطاء مطبعية كثيرة، ولم
يكتم استياءه بل كان يتوقع امتناع كثيرين عن الاشتراك في «لوكورييه» بسبب ضعف
لغة الجريدة.
٢٣١
وقد ظل فورييه يشرف على الصحيفة حتى إذا تولى كليبر القيادة العامة عهد
إلى ديجنت كبير أطباء الحملة برياسة التحرير ابتداءً من العدد السابع
والثلاثين في ١٥ سبتمبر ١٧٩٩م. ثم استمر صدور الجريدة في عهد كليبر ومنو حتى بلغ
عدد أعدادها ستة عشر ومائة، ظهر آخرها في ٢٠ بريريال من السنة التاسعة للجمهورية
(٩ يونيو ١٨٠١م)، وكان يشتمل على أخبار تسليم بليار كما نُشِرَت شروط هذا التسليم
كملحق للصحيفة، وكان هذا الملحق آخر ما أخرجته المطبعة الأهلية.
٢٣٢
ونشرت «لوكورييه» الأوامر الرسمية وأخبار الجيش وحوادث القاهرة والأقاليم
وأمهات الأخبار المحلية كأنباء الاحتفالات والأعياد مثل الاحتفال بوفاء النيل
والمولد النبوي وأعياد الجمهورية، ثم المآدب وأخبار التمثيليات وحفلات الموسيقى
والرقص التي كانت تقام في ملهى «التيفولي» وقصائد من نظم جالان وبنابن Benaben
وغيرهما،
وهذا عدا إعلانات النوادي والقهاوي والبارات في الأزبكية ومصر القديمة
وفاوريقات المكرونة وما إلى ذلك، ثم وصف الاستعراضات العسكرية بحضور بونابرت.
وعُنِيت الجريدة بنشر حوادث الديوان وملخصات جلساته، واهتمت على وجه الخصوص بنشر
رسائل الديوان ونداءاته إلى الأهلين التي يحثهم فيها على الهدوء والسكينة وطاعة
أولي الأمر. وفضلًا عن ذلك فقد نشرت «لوكورييه» أخبار الشام وأوروبا التي أمكن
أن تحملها بعض السفن التي استطاعت اختراق نطاق الحصار البحري الذي ضربه
الإنجليز على الشواطئ المصرية وأجازت نشره الرقابة العسكرية الفرنسية.
ونشرت الجريدة كذلك بعض النوادر والقصص الصغيرة التي تساعد الفرنسيين على فهم
شيء من عادات وتقاليد المصريين، من ذلك قصة ذلك النوبي الذي صوَّره ريجو وقد
سبق ذكرها، ولعل من أهم ما نشرته «لوكورييه» موجز لرحلة فولني المشهورة وضعه
صاحب الرحلة نفسه. وفضلًا عن ذلك فقد نشرت «لوكورييه» من وقت لآخر شيئًا من
أخبار المجمع العلمي وجلساته وموجزًا لبعض بحوث أعضائه، كوصف قصر قارون وبركة
قارون ومدينة النمروذ وبحيرات النطرون و«بحر بلا ماء» الذي يقع غرب هذه
البحيرات ثم بحر مويس ومدينة بوبسطة، ورحلة لوبير وجراتيان لوبير وسانت جنيس
وديبوا في برزخ السويس ورحلة دينون في الصعيد واستكشافات لوبير ولانكريه
وشابرول في برج العرب، ومقال لجيرار عن برزخ السويس ووصف لمجموعة جيوفري سانت
هيلير العلمية في التاريخ الطبيعي.
٢٣٣
ومع ذلك فإن نشر بحوث الحملة لم يكن في واقع الأمر مهمة «لوكورييه» بتاتًا،
لأن الصحيفة الأخرى «لاديكاد إيجيبسيين» هي التي اختصت بذلك.
صحيفة «لاديكاد إيجبسيين»
فقد حدث في أولى الجلسات التي عقدها المجمع العلمي في ٦ فريكتيدور من السنة
السادسة للجمهورية الفرنسية (٢٣ أغسطس ١٧٩٨م) أن تم الاتفاق على إنشاء صحيفة
أدبية تكون بمثابة لسان المجمع فتتحدث عن نشاط علمائه وتنشر بحوثهم، كما اختار
الأعضاء بونابرت وتاليان وديجنت مشرفين على إصدارها، ثم اقترح كفاريلِّي
العشرية
الفلسفية
La Decade Philosophique اسمًا لهذه الصحيفة ولكن الأعضاء ما لبثوا أن
اختاروا العشرية المصرية – جريدة للأدب وللاقتصاد السياسي
La Decade Egyptienne-Journal Literraire et d’Economie Politique اسمًا
لها. ثم كُلِّف تاليان بوضع برنامج الصحيفة، بينما عُهِد إلى ديجنت بالإشراف
على طبعها، أمَّا بونابرت فلم يتدخل في أمرها.
٢٣٤ وكان تحت إشراف ديجنت أن ظهر عدد الصحيفة الأول في بداية
أكتوبر ١٧٩٨م، حتى إذا غادر ديجنت القاهرة مع بونابرت في حملته إلى سوريا أشرف
فورييه على طبع الأعداد الرابع والخامس والسادس من الجريدة. وتولت مطبعة مارك
أوريل طبع «لاديكاد إجبسيين» فأصدرت الأعداد الثلاثة الأولى فقط، ولم تنل
طريقة طبعها رضاء بونابرت فطلب إلى ديجنت في ٢٤ نوفمبر ١٧٩٨م أن تقوم المطبعة
الأهلية بإشراف مارسيل بطبع الصحيفة وأن تُعْنَى بظهورها في مواعيد منظمة مرة كل
عشرة أيام.
وقد أعادت المطبعة الأهلية طبع الأعداد الثلاثة التي أخرجتها مطبعة مارك
أوريل. ولما كانت المطبعة الرسمية قد وصلت بحروفها الفرنسية والعربية إلى
القاهرة عقب ثورة القاهرة الأولى مباشرة، وحضر كذلك مارسيل وجالان وسائر
موظفيها؛ أي في أواخر شهر أكتوبر ١٧٩٨م؛ فقد أمكن طبع الأعداد التالية من
«لاديكاد إجبسيين» في القاهرة ابتداءً من العدد الرابع الذي ظهر في ٢٤ نوفمبر
١٧٩٨م. ولا يعني صدور أمر بونابرت في ١٤ يناير ١٧٩٩م بتنظيم المطبعة الأهلية
نهائيًّا أن هذه المطبعة كانت متعطلة عن العمل كما يعتقد بعض الكتَّاب.
وأعد تاليان «برنامج» الجريدة الذي نشرته صحيفة «لاديكاد» كمقالها الافتتاحي،
ومع أن بونابرت لم يرتح تمامًا لهذا البرنامج فقد نجح تاليان في إظهار الغرض
من نشر هذه الصحيفة، وهو أن تصبح «لاديكاد» خير واسطة يتمكن بفضلها الفرنسيون
سواء في مصر أم في فرنسا ثم أوروبا بأكملها من معرفة هذه البلاد «مصر» معرفة
صحيحة، فقال: «لا ينبغي أن يظل ما تفيده فرنسا من فتح مصر قاصرًا على الناحية
السياسية أو الشئون التجارية، بل يجب أن تفيد من ذلك الفتح أيضًا العلوم
والمعارف … إن غرضنا الذي نهدف إليه هو أن نعرف بمصر ليس فقط أولئك الفرنسيين
الموجودين بهذه البلاد، بل نريد أيضًا أن نحمل هذه المعرفة إلى فرنسا وإلى
أوروبا، فقد ظلت حتى وقتنا الحاضر لا تعرف موارد هذه البلاد التي ذاع صيتها
وثروتها وموقعها ووصفها الطبوغرافي نفسه معرفة كاملة صحيحة.»
ثم أخذ تاليان يوضح الصعوبات التي عطلت بحوث الرحالين الأوروبيين الذين زاروا
مصر قبل الاحتلال الفرنسي، وهي صعوبات نشأت من تخوف أهل البلاد وعدم ثقتهم
بالرحالين الذين لا يفهمون لغتهم، ثم انصراف الحكام المستبدين عن تشجيع الأجانب
الذين يريدون الرحلة في بلادهم، «وقد تغير ذلك كله الآن منذ أن دانت مصر
لسلطان الفرنسيين فصار من السهل على هؤلاء أن يبحثوا عادات أهلها، وأن
يعرفوا على وجه الدقة حال مناخها ونوع منتجات أرضها وما عليه زراعتها وما
يمكن إدخاله من تحسينات على هذه الزراعة، بل في وسعنا مطمئنين أن نزور آثارها
القديمة وأن نرقب بدقة وعناية تلك العجائب التي تبسطها الطبيعة أمام أنظارنا،
وبذلك يتسنى تصحيح تلك الأخطاء التي هي نتيجة الجهل بأحوال هذه البلاد، أو كان
منشؤها حماس المعجبين بها ومغالاتهم.»
وهكذا كانت مهمة هذه الصحيفة — كما وعد برنامجها الذي أعدَّه تاليان — كشف
القناع عن هذه البلاد وإبراز صورة صحيحة لها تُمكِّن العالم الغربي من التعرف
إليها، وإدراك قيمة ما بها من موارد غنية وما كانت تضمه بين جوانبها من آثار
قديمة. وقد أكَّد تاليان هذا الغرض العلمي من إنشاء «لاديكاد» فقال: «وسوف يكون
لكل إنسان الحق في أن ينشر في هذه الصحيفة كل ما يأتي بفائدة من الناحية
العلمية»، ولا شكَّ في أن بحث المسائل العلمية وتبادل الرأي بين العلماء في
أمرها من شأنه أن يساعد على معرفة الحقائق العلمية وإذاعتها، ولن تنشر الجريدة
شيئًا من البحوث المقدمة للنشر إذا خرجت عن هذه الموضوعات العلمية؛ ذلك بأن
صحيفة «لاديكاد» ليست سوى «قاعة للمناظرات الحبية» ولا يبغي أصحابها أن يجعلوا
من صفحاتها ميدانًا للتراشق والخصومة، «فالفنون الجميلة حبيبة للحرية، كما أنها
من ألدِّ أعداء الفوضى الخُلُقية.»
٢٣٥
وعلى ذلك فقد كان من المنتظر أن تعمل الصحيفة بهذا البرنامج الذي نشرته، فتضم
صفحاتها كثيرًا من البحوث العلمية «المستقلة» وطائفة من المسائل التي يتصدى
العلماء لمناقشتها، ولكنها اقتصرت على نشر جلسات المجمع العلمي إلى جانب مذكرات
أعضائه، أو موجز لبعض المذكرات والبحوث التي يلقيها الأعضاء في جلسات المجمع
إذا كانت هذه المذكرات والبحوث مهمة. ومع ذلك فقد ظلت جريدة «لاديكاد» ذات قيمة
تاريخية وعلمية فريدة؛ وذلك لأن «أصول» المذكرات والبحوث التي أُلقِيت في المجمع
العلمي ونشرتها الجريدة سرعان ما اختفت من الوجود وأصبح العثور عليها متعذرًا،
فكانت «الديكاد» وما تزال من أهم المصادر — إلى جانب أربعة مجلدات أخرى نُشِرت
على حدة تحت عنوان «مذكرات عن مصر نُشِرت في أثناء حملة بونابرت»
٢٣٦ — التي يمكن استقاء كل ما يتعلق بنشاط المجمع العلمي وما أُلقِي من
بحوث في جلساته منها، وتشاركها في هذه الأهمية صحيفة «لوكورييه دوليجبت» بفضل
ذلك القدر اليسير الذي نشرته عن نشاط المجمع وبحوث أعضائه على نحو ما بيَّنا.
٢٣٧
وكانت «لاديكاد» تظهر في كراسات صغيرة، ولم يمكن إصدارها مرة كل عشرة أيام
كما كان العزم بل انتهى الأمر بأنها صارت تصدر مرة كل شهر فحسب. وقد جُمِعت هذه
الكراسات في ثلاثة مجلدات ظهر الأول منها في ٢٩ فريكتيدور السنة السابعة (١٥
سبتمبر ١٧٩٩م) وأُهْدِي إلى بونابرت، وظهر المجلد الثاني في ٢٧ فلوريال السنة
الثامنة (١٦ مايو ١٨٠٠م) وأُهدِي إلى كليبر، أمَّا الثالث فقد ظهر في ١٠ جرمينال
السنة التاسعة (٣٠ مارس ١٨٠١م) وأُهدِي إلى الجنرال منو، وهؤلاء كانوا قوَّاد
الحملة الثلاثة.
٢٣٨
ولا يسعنا ونحن بصدد الحديث عن الصحف التي ظهرت في عهد الحملة إلَّا أن ننوه
بصحيفة التنبيه Tambyeh-L’Avertissement، تلك
الجريدة التي عزم منو في نوفمبر سنة ١٨٠٠م على إصدارها كوسيلة للترويج لحكومته
وكسب صداقة المصريين واستمالتهم إلى تأييد حكومته ولكنه لم يفعل فظل مشروعها
حبرًا على ورق ولم تصدر الجريدة، وقد سبق الحديث عن «التنبيه» عند الكلام عن
منو وحكمه.
تلك كانت قصة الطباعة والصحف أحد مظاهر ذلك النشاط العلمي الواسع الذي حفظ
التجربة الاستعمارية في مصر من أن تصبح مغامرة عسكرية وسياسية فاشلة فحسب،
وأكسبها ذلك الطابع العلمي الذي خلَّد بعض آثارها. ولا جدالَ في أن العلماء
الذين حضروا إلى مصر وجابوا أنحاءها منقِّبين باحثين لا يبغون من دراساتهم
العلمية سوى استكشاف هذه البلاد التي ظلت مغلقة دون العالم الغربي أجيالًا
عديدة؛ قد تركوا آثارًا أبقى على مرِّ الزمن من انتصارات بونابرت أو
«ابتكاراته» السياسية أو «مشروعات» منو أكبر دعاة الاستعمار الفرنسي في مصر.
وقد أدرك بونابرت — كما فعل كليبر من بعده — أن إنشاء المستعمرة الناجحة أمرٌ
لا يكفي لتحقيقه إحراز النصر في المعارك ضد البكوات المماليك وإخماد مقاومة أهل
البلاد ودفع هجوم العدو عن حدودها، واعتقد كلاهما أن كل تنظيم إداري واقتصادي
ومالي لا يعتمد على معرفة البلاد التي جاء الفرنسيون ليحكموها لن يأتي بثمرة
طيبة ولا يمكن أن يُضمَن له البقاء.
وكان هذا الإدراك الصحيح سبب إقبالهما على تأييد جهود العلماء وتشجيعهم على
المضي في بحوثهم، حتى سار الغزو العسكري والفتح العلمي جنبًا إلى جنب منذ أن
وَطِئت قدما بونابرت أرض مصر إلى أن قضى كليبر نحبه. وقد تقدم كيف كان للقائدين
اليد الطُّولَى في تنظيم نشاط العلماء وتوجيه أعمالهم بصورة مكَّنتهم من إنجاز قدر
عظيم من البحوث والاستكشافات العلمية خلال العامين الأولين من الاحتلال
الفرنسي، ولكن قصة هذا النشاط العلمي سرعان ما تغيرت عندما تسلم منو قيادة
الحملة العامة. ومع أن منو كان من أكبر أنصار مشروعات بونابرت الاستعمارية في
الشرق، ومن أشد الفرنسيين تمسكًا بضرورة بقاء مستعمرة مصر الجميلة في حوزة
فرنسا؛ فقد فاته أن العلماء هم كالجيش سواءً بسواء الدعامة التي يستند عليها
صرح هذه المستعمرة الناشئة، فكانت الأيام التي قضاها العلماء في مصر بعد أن
أصبح منو قائد الحملة العام أيامًا قاحلة حَجَر في أثنائها لأسباب عدة على نشاط
العلماء العلمي، ولقي هؤلاء على يد منو كل عنت وإرهاق حتى أُتيحت لهم الفرصة
بعد لأي وعناء للعودة إلى أوطانهم مع فلول جيش الشرق المنهزم.
وقصة هؤلاء العلماء مع منو صفحة حالكة السواد في تاريخ هذا القائد، الذي اعتقد
في نفسه الكفاية الحربية وهو الذي لم يشهد معركة كبيرة قط غير تلك التي لقي
فيها الهزيمة على أيدي الإنجليز في كانوب، وصوَّر له الخيال أنه رجل الإدارة
والحكم وهو الذي كان يحلو له أن يكدِّس أوراق المشروعات على مكتبه فيغرق بين
أكداسها حتى أذنيه، ثم تسفر دراساته عن إصدار عدد عظيم من الأوامر والتعليمات
التافهة ولا يدري الطريق إلى تنفيذ شيء من هذه المشروعات «المجيدة النافعة»
بصورة جدية أو هو لا ينفِّذ شيئًا منها. وأقضَّ مضجعه تغلب الوسواس على ذهنه
فساورته الشكوك في نوايا معظم زملائه القواد وسائر مواطنيه ولم ينجُ العلماء من
شرور وساوسه ومخاوفه، واعتقد أنه مشجع العلم وناشر لواء الحضارة والمعرفة،
بينما دعاه تردده وعدم إدراكه لقيمة ما يفعله العلماء إلى إبداء الرغبة في
مساعدة هؤلاء على المضي في بحوثهم في أول الأمر، ثم اعتبارهم من «الأفواه
العاطلة» التي يجب التخلص منها والإمعان في امتهانهم وإساءة معاملتهم بعد ذلك،
حتى إنه هددهم بإطلاق القنابل عليهم إذا حاولوا دخول الإسكندرية دون إذنه كما
سيأتي ذكره عند الكلام عن آخر مظهر من مظاهر نشاط العلماء قبل رحيلهم ورحيل
الحملة الفرنسية من الديار المصرية.
منو ورحيل العلماء
فقد رغب العلماء الذين استدعاهم كليبر إلى القاهرة وقت إبرام اتفاق العريش،
ثم شاهدوا نقض هذا الاتفاق من جانب الإنجليز، وحضروا انتصار كليبر على
العثمانيين في معركة هليوبوليس؛ أن يستأنفوا بحوثهم العلمية، واقترح أعضاء لجنة
العلوم والفنون القيام ﺑ «حملة علمية» من الطيبائيد إلى النوبة وهضبات الحبشة،
للتنقيب عن الآثار وزيارة المعابد القديمة التي اعتقدوا أن هذه الجهات تضم منها
عددًا يفوق كثيرًا ما يوجد من آثار ومعابد في الصعيد المصري، وعقدوا آمالًا
عظيمة على حماية مراد بك لهم في أثناء رحلتهم بالصعيد بعد أن عقد مراد مع
كبيرهم كليبر معاهدة التحالف والصداقة المعروفة. غير أن وفاة كليبر ما لبثت أن
عطَّلت قيامهم، حتى إذا تسلم منو القيادة تجدد النشاط، وأظهر منو كل استعداد
لإجابة رغائبهم وأصدر أوامره فعلًا بقيام هذه «الحملة»، ولكنه سرعان ما نقض
أوامره، ثم ظل خلال ثلاثة شهور بأكملها يصدر تارة الأمر برحيلها ويلغي تارة
أخرى هذا الأمر، وهكذا دوالَيْك حتى أيقن العلماء أن لا أمل في الرحيل فتفرقوا.
وهكذا أخفق مشروع علمي عظيم النفع والأثر؛ لأن منو — على حدِّ قول مؤرخي الحملة
— لم يكن الرجل الذي يسعه التفكير في مثل هذه المشروعات الجليلة أو يستطيع
إدراك قيمتها.
٢٣٩
على أن هؤلاء العلماء الذين أبطل تردد منو وعجزه مشروعهم ما لبثوا أن قرروا
متابعة نشاطهم العلمي في ميادين أخرى، فحصل روزيير وكوتيل على إذن بالذهاب
مع «قافلة الطور» إلى شبه جزيرة سيناء لكشف جبل سيناء ووصفه، واعتزم لوبير
(المهندس) وكوتيل كذلك وشامبي وفورييه وجيوفري سانت هيلير زيارة آثار منف،
ووضعوا تقريرًا مسهبًا عن أعمالهم في هذه المنطقة الأثرية.
٢٤٠ وكان من ضروب النشاط القليل الذي تم في هذه الآونة قيام مارتان
بعمل استكشاف في بحيرة «موريس» بالفيوم،
٢٤١ كما وضع روزيير بحثًا عن القُصير، وديبوا إيميه عن العبابدة،
ومارسيل عن الجغرافيين العرب، وجيرار عن مدينة طنطا وسكانها، وقد نشرت هذا
البحث الأخير جريدة «لوكورييه دوليجبت».
٢٤٢ وقام فريان
Friant برحلة إلى برج
العرب وأمكنه أن يعثر على بعض الآثار، فنشط منو في فترة من فترات حماسه
القليلة النادرة وقرر إيفاد لجنة من العلماء لزيارة هذه الآثار ووقع اختياره
على المهندسين لوبير وشابرول ولانكريه لهذه الغاية وكان هؤلاء قد عادوا من
جولة في رشيد والبحيرة، فغادروا الإسكندرية في ٢٣ يناير ١٨٠١م بحراسة الضابط
مارتينيه
Martinet وسلكوا طريقًا يمر
بحذاء منخفض مريوط الشمالي إلى مرتفعات مريوط ورسموا خريطة لهذا الطريق، وكان
في نيتهم السير حول منخفض مريوط نفسه ولكنهم لم يفعلوا ذلك.
٢٤٣
وكان ذلك كل ما حدث من نشاط علمي في عهد منو بطوله، وهو نشاط ولا شكَّ ضئيل
إذا قيس بما تم من بحوث علمية عظيمة في عهد سلفيه في القيادة. وفضلًا عن ذلك
فإن مبعث هذا النشاط الضئيل كان حماس العلماء أنفسهم، ولم يبد منو أي اهتمام
بهذه الناحية العلمية بل كانت شئون الإدارة والحكم شغله الشاغل خلال هذه
الشهور الأولى القليلة، والتي امتازت بالهدوء قبل تحرج الموقف وإطباق جيوش
الإنجليز والعثمانيين على البلاد من كل جهة تقريبًا.
٢٤٤ بل إن بعض العلماء الذين كانوا يريدون القيام ببحوث أخرى في
الواحات كرافينو دليل
Raffeneau-Delile، أو
التنقيب عن المخطوطات القديمة في الأديرة كما أراد أن يفعل مارسيل؛ لم يستطيعوا
ذلك لانصراف منو عن تأييدهم. ولعل أكبر مشروعات منو العلمية في تلك الفترة كان
رغبته في تأسيس «مكتبة أهلية» في القاهرة تجمع شتات الكتب الموجودة في دار
المجمع العلمي وتلك التي تركها بونابرت نفسه، فأصدر قرارًا بذلك في ١٦ يوليو
١٨٠٠م وعهد إلى فورييه بعمل قائمة بهذه الكتب وأنجز فورييه هذه المهمة، وكان
ذلك كل ما أسفر عنه عمليًّا مشروع تأسيس المكتبة الأهلية.
٢٤٥
وواقع الأمر أن استيلاء منو على منصب قيادة الحملة العامة في مصر كان مؤذنًا
بتعطل جهود العلماء ووقفها، وعندما نزل الإنجليز على الشواطئ المصرية وهزموا
منو وجيش الشرق في موقعة كانوب (٢١ مارس ١٨٠١م) قُضِي تمامًا على كل أمل لدى
العلماء في إمكان مواصلة جهودهم العلمية، ومن ذلك الحين بدأ عهد التراخي
والانتظار وبطل كل نشاط، فأوقف المجمع العلمي بالقاهرة جلساته، وعكف قليلون من
العلماء في أثناء حصار القاهرة على إنجاز ما كان لديهم من بحوث كانوا قد بدءوا
في إعدادها، كما ظلت المطبعة الأهلية التي نُقِلت إلى القلعة تصدر بعض الأوامر
والمنشورات. وكان من الطبيعي في هذه الظروف أن يرغب العلماء في مغادرة القاهرة
والذهاب إلى الإسكندرية استعدادًا للرحيل إلى فرنسا، فكانت هذه الرغبة في
الذهاب إلى الإسكندرية مثار كل ما نشأ بينهم وبين منو من خلافات ومشاكل تألفت
منها عناصر تلك المأساة التي دمغت أواخر أيام منو في مصر بطابع المهانة
والضعة.
فقد خشي العلماء مغبة البقاء في القاهرة وسط الاضطرابات السائدة بها، وعندما
كان بليار نفسه وسائر القواد يتوقعون قيام القاهريين بالثورة في أي وقت، وأراد
العلماء أن يحفظوا ثمرات جهودهم من التلف وهم الذين شاهدوا هجوم القاهريين على
المجمع العلمي والمطبعة الأهلية إبان الثورة السابقة خصوصًا «ثورة القاهرة
الثانية»، كما أنهم وقد تعطلت أعمالهم بسبب حرج الموقف في مصر؛ كانوا يريدون
انتهاز الفرصة للعودة إلى أرض الوطن على أول سفينة يمكنها اختراق نطاق الحصار
المضروب على الإسكندرية حتى يتسنى لهم نشر بحوثهم العلمية في أمان وطمأنينة،
فصمموا على مغادرة القاهرة. ولكن منو لم يشأ أن يقدِّر هذه الاعتبارات حق
قدرها فاشتد غضبه؛ لأنه لا يريد — كما قال — أن يدخل الإسكندرية أناس لا يفيد
وجودهم في الدفاع عنها بل يزيد من صعوبات الحكومة المحاصرة لاضطرارها إلى
إطعام هذه «الأفواه العاطلة»، فأمر أن يُوضَع جميع العلماء في قلعة القاهرة،
وبادر بالقبض على نفر قليل من زملائهم الذين كانوا وقتئذٍ بالإسكندرية يقومون
ببعض البحوث التي كلفهم بها منو نفسه وأرسلهم إلى الرحمانية.
وعلى ذلك فقد ظل علماء القاهرة مسجونين بقلعتها، حتى إذا اشتدت وطأة وباء
الطاعون أُصِيب كثيرون بالطاعن وهلك عدد منهم، وعندئذٍ أعاد العلماء الكرة يطلبون
الذهاب إلى الإسكندرية، ولم يسع بليار إزاء إلحاحهم الشديد إلَّا الموافقة على
خروجهم من المدينة الموبوءة، فغادروا القاهرة بطريق النيل في ٦ أبريل ١٨٠١م
ووصلوا الرحمانية بعد خمسة أيام، ولكن لاكروا
Lacroix قومندان الرحمانية منعهم من الرحلة إلى الإسكندرية
وكان عنيفًا في معاملتهم وأهانهم، واستعد العلماء للعودة إلى القاهرة ولكن
ظهور كفالييه
Cavalier والهجانة أمام حصن
الرحمانية لم يلبث أن أنقذهم، فاستطاع العلماء الخروج من الرحمانية وتولى
كفالييه حراستهم حتى وصلوا سالمين إلى الإسكندرية مساء يوم ١٤ أبريل، بعد أن
تلفت بعض «مجموعات التاريخ الطبيعي» التي أحضرها العلماء معهم.
٢٤٦
وما إن علم منو بوصولهم حتى غضب غضبًا عظيمًا وصمم على عدم دخولهم
الإسكندرية، وأمر بأن يقضوا أربعين يومًا في «الحجر الصحي»، وقضى ليروج Lerouge أحد أعضاء لجنة العلوم والفنون نحبه
مصابًا بالطاعون أثناء الحجر الصحي، وسُمح للعلماء بعد انقضاء مدة هذا الحجر
بالدخول إلى الإسكندرية، وألح هؤلاء على منو أن يعمل على إرسالهم إلى فرنسا
فوافق منو بعد صعوبات كثيرة على ذلك في ١٣ مايو، ولكنه اشترط على العلماء أن
يتركوا بين يديه قبل رحيلهم كل ما كان لديهم من مذكرات ومخطوطات ورسوم ومجموعات
علمية، ولما عارض العلماء في ذلك اكتفى منو بأن يتركوا الخرائط والمذكرات
والبحوث المتعلقة بمساحة الأراضي وقياس سطوحها. ولما كان منو قد عمد منذ
تسلمه قيادة الحملة العامة إلى بذر بذور الانقسام بين العلماء، جريًا على
عادته خوفًا من حدوث أي اتفاق أو تكتل ضده، ونجح في استمالة العلماء المهندسين
إليه، وصار هؤلاء أكثر خضوعًا واستسلامًا له من زملائهم؛ فقد وافق العلماء
المهندسون على طلب منو الأخير. ثم لم يكتفِ هو بذلك بل طلب من العلماء، وكان عدد
هؤلاء من أعضاء لجنة العلوم والفنون ثمانية وأربعين عالمًا؛ أن يعلنوا كتابة
أنهم لا يحملون ضمن متاعهم أشياء تتعلق بالموقف العسكري والسياسي بمصر، كما
جعلهم يوقِّعون على محضر ببيان كل ما كانوا يحملونه.
وفي ٥ يونيو ١٨٠١م أذن لهم بمغادرة الإسكندرية وأعطاهم جوازًا للمرور، وخصص
الإبريق لوازو L’Oiseau لنقلهم إلى فرنسا،
فانتقل العلماء في مساء اليوم نفسه إلى السفينة المعدة لهم، وكانت ذات حمولة
بسيطة وتحمل أربعة مدافع فحسب بقيادة الكابتن مورا Murat. ولما كان العلماء يخشون من أن يمنع الإنجليز عبورهم
فقد طلبوا إلى منو أن يوفد معهم «مفاوضًا» إلى أمير البحر الإنجليزي للاتفاق
معه على عبور العلماء بسلام إلى فرنسا، ولكن منو غضب من هذا الرجاء وأصرَّ على
عدم الحديث معه في هذه المسألة. ومع أن مورا أقلع بسفينته مرتين محاولًا
الخروج من الميناء، فقد اضطر إلى العودة والانتظار بناءً على أوامر منو المشددة
إليه بعدم الرحيل حتى يأذن له، وهكذا أُرغم العلماء على الانتظار على ظهر
سفينتهم الضيقة في الميناء خمسة وثلاثين يومًا.
وكان في أثناء انتظارهم الطويل في الميناء أن ذاع خبر تسليم بليار في
القاهرة وعُرفت شروط هذا التسليم، ومنها تلك المادة الحادية عشرة التي تنص على
أنه في وسع أعضاء لجنة العلوم والفنون أن ينالوا شروطًا مماثلة لما جاء في صلب
اتفاق التسليم متعلقًا برحيل جنود حامية القاهرة إلى أوطانهم، وعقدوا آمالًا
عظيمة على إمكان الاستفادة من هذا الاتفاق لتسهيل مسألة عبورهم بسلام وعدم
تعرض الأسطول الإنجليزي لهم، فاختاروا من بين زملائهم العلماء كورانسيز Corancez ودليل Delille وجيوفري سانت هيلير لمقابلة منو حتى يأذن لهم بالسفر
ويرسل «مفاوضًا» إلى الإنجليز، وقابل هؤلاء منو مرات ثلاثًا وتظاهر منو
بالموافقة بل سلَّم جيوفري سانت هيلير خاتمًا هدية منه إلى مدام
بونابرت.
ولكنه لم يرسل مفاوضًا للإنجليز واكتفى بعد لأي وعناء بإصدار أمره إلى
لوروي Le Roy مدير البحرية في ١١ يوليو
بأن يسمح للإبريق «لوازو» بمغادرة الميناء في الوقت الذي يراه قبطانها مناسبًا،
على شريطة أن تُخطَر القيادة العامة بخروج «لوازو» فلا يكون خروجها مفاجئًا، وذلك
بسبب حالة الحصار القائمة. ولكن هذا الشرط الأخير ما لبث أن أثار مخاوف
العلماء، فقابل فورييه والكابتن مورا الضابط ريشيه Richer قومندان الأسلحة يستفسران منه عن موعد خروج السفينة
الذي يصح الاتفاق عليه، فطمأنهم ريشيه إلى أن في وسع «لوازو» أن تخرج من
الميناء في أي وقت تشاء وفي وضح النهار، وذلك حسب ما لديه من أوامر صريحة في
هذا الشأن، فأعلماه أن «لوازو» سوف تغادر الميناء يوم ١٢ يوليو. وفي مساء ١١
يوليو بدأت الاستعدادات فعلًا للرحيل في صباح اليوم التالي، وعرف بذلك أيضًا
لوروي مدير البحرية، ولكن الرياح الشديدة عطلت خروج السفينة فلم تستطع
الإقلاع إلَّا في يوم ١٥ يوليو، وما إن اجتازت «لوازو» ممرات الميناء حتى طلب
قائدها من العلماء أن يتخلصوا من خطاباتهم الخاصة خوفًا من وقوعها في يد العدو
فيعرف الإنجليز حقيقة الموقف في الإسكندرية وشدة وطأة الحصار عليها، فأُلقيت
الرسائل في البحر.
غير أن إحدى قراويت الإنجليز (القرويت
سينثيا Cinthia) سرعان ما اعترضت «لوازو» في سيرها وأطلقت عليها
قنابلها فاضطرت إلى التوقف، ثم اتفق قائدا المركبين مورا والكابتن ديجز Diggs قائد سينثيا على عرض مسألة عبور العلماء
على اللورد كيث Keith أمير البحر الإنجليزي،
فأبحرت السفينتان إلى أبو قير وقابل فورييه اللورد كيث على ظهر البارجة
«فودريانت Foudrayant»، وبسط وجهة نظر
العلماء بصدد المادة الحادية عشرة من شروط تسليم القاهرة وانطباقها عليهم، فرفض
كيث أن يأخذ بهذه النظرية بدعوى أن هذه المادة لا يمكن انطباقها على العلماء
وحدهم دون حامية الإسكندرية، وأن الإسكندرية في حالة حصار ولا يستطيع لذلك أن
يأذن لأحد بالخروج منها. وفضلًا عن ذلك فإن منو قائد الجيش العام لم يخبر
الإنجليز بعزم العلماء على الخروج من الإسكندرية. ومع أن كيث أكرم وفادة
فورييه ودعاه إلى الغداء معه إلَّا أنه صمم على عودة «لوازو» إلى الإسكندرية،
ولم يفد شيئًا تدخل السير سدني سمث وبعض الضباط الإنجليز الآخرين الذين رغبوا
في مساعدة العلماء وإقناع اللورد كيث بالموافقة على عبورهم.
وأراد سدني سمث أن يخفف من وقع هذه الأنباء غير السارة على العلماء، فانتقل
مع فورييه وقابل العلماء، وكان من أحاديثه معهم أنه لو حدث خروجهم وقت قيادته
في العام الماضي لما تردد سدني سمث في السماح لهم بالمرور بسلام. ثم عادت
«لوازو» بصحبة القرويت الإنجليزي إلى الإسكندرية وبدأت في اجتياز ممرات (أو
مداخل) الميناء في ١٦ يوليو، ولكنه ما اجتازت «لوازو» نصف المسافة بين مرابط
وخط الفرقاطات الفرنسية الداخلي حتى منعت الفرقاطة الفرنسية «جوستيس Justice» سفينة العلماء من التقدم، وأمرت
«لوازو» بالوقوف بصورة تمكِّن «جوستيس» من تصويب مدافعها عليها، ثم طلب قائدها
من الكابتن مورا الإبحار والخروج من الميناء في مدة ربع ساعة وإلَّا أغرق
المركب، ورفض القائد أن يتسلم رسالة من اللورد كيث كان فورييه قد أحضرها إلى
منو من أمير البحر الإنجليزي. ولقيت «لوازو» صعوبات عدة عند محاولتها الخروج من
الميناء لعدم وجود أدلَّاء يرشدونها إلى الطريق الذي تستطيع أن تسلكه حتى تجتاز
ممرات الميناء، وانقضت المهلة ثم أُعطيت «لوازو» مهلة عشر دقائق أخرى، وشاهد
العلماء من على جسر المركب الجنرال منو يتجول على الشاطئ. ثم استطاعت «لوازو»
بعد متاعب كثيرة وعند حضور «الدليل» اجتياز الممرات والخروج إلى عرض
البحر.
وعندئذٍ أحضر أحد الضباط خطابًا من منو إلى العلماء على ظهر السفينة «لوازو»
بتاريخ ١٦ يوليو ١٨٠١م
٢٤٧ يوبخهم فيه على خروج سفينتهم في وضح النهار بدلًا من الخروج تحت
جناح الظلام وعلى رفعهم الراية الإنجليزية العمل الذي يستحق من أجله مورا
قائد «لوازو» الإعدام شنقًا، بدلًا من رفع العلم الفرنسي أو دون رفع أي علم على
سفينتهم، ويؤنبهم على عدم الدفاع عن شرف فرنسا بدلًا من الارتماء في أحضان
العدو، ويقول لو أنهم لم يفعلوا ذلك لأمكنه أن يستقبلهم كفرنسيين شرفاء عند
عجزهم عن الإفلات من قبضة العدو واضطرارهم إلى العودة إلى ميناء الإسكندرية.
وإزاء هذه الإهانة الجديدة لم يجد العلماء مناصًا من أن يردوا على قائد الحملة
العام ردًّا قاسيًا في اليوم نفسه،
٢٤٨ يذكِّرونه بأوامره السابقة وإذنه لهم بالخروج، ويهددون بكتابة تقرير
مطول عن كل تلك الإهانات التي تعرضوا لها ورفْض منو إرسال مفاوض للإنجليز
أولًا، ثم إرغامهم بعد تهديدهم بإلقاء القنابل على سفينتهم على الخروج إلى عرض
البحر والوقوع في قبضة العدو.
ولم يكن العلماء أسعد حظًّا في هذه المرة عن سابقتها، فقد اعترضهم القرويت
الإنجليزي سينثيا مرة ثانية، واضطر فورييه وثيفنان Thevenin والكابتن مورا إلى مقابلة الكونترأميرال
بيكرتون Bikerton على ظهر البارجة
أجاكز Ajax ثم تقرر إحالة المسألة على
اللورد كيث، وزارهم السير سدني سمث وأعطاهم كتاب توصية إلى اللورد كيث، وذهبت
«لوازو» إلى أبو قير وتكررت المأساة، وعنف كيث في هذه المرة في مقابلة فورييه
وثيفنان وأصرَّ على عودة «لوازو» إلى الإسكندرية، وساء كيث أن يحاول منو — على
حسب اعتقاد أمير البحر الإنجليزي — إرغامه على فعل شيء لا يريده، ووعد بكتابة
خطاب إلى منو، وصرف فورييه وزميله على أن يقابلاه في موعد آخر، ولكنه رفض
مقابلة فورييه وثيفنان ومورا عندما حضر الثلاثة حسب الموعد، واكتفى بأن أعطاهم
رسالة إلى منو ثم أحالهم على بيكرتون للتفاهم معه بدعوى أن لدى بيكرتون
تعليمات مفصلة فيما ينبغي عليه فعله معهم.
وأمَّا هذه التعليمات التي عُرِفت في اليوم التالي (١٩ يوليو) فكانت تقضي
بإنزال العلماء إلى البر في أقرب مكان من الإسكندرية إذا أصرَّ منو على عدم
دخولهم إلى الإسكندرية، ثم إحراق مركبهم «لوازو» وإغراقها، وعهد إلى القرويت
«سينثيا» بالذهاب إلى الإسكندرية للمفاوضة. وفي ٢٠ يوليو حاول قائدها ديجز
إقناع السلطات الفرنسية بالميناء بالسماح للإبريق الفرنسي بالدخول إلى
الإسكندرية. وعُرِفت نتيجة المفاوضة في اليوم التالي وهي أن منو أصدر أوامره —
على حد قوله — بدخول الإبريق إلى الميناء، بيد أن العلماء الذين خبروا تردد منو
وشاهدوا مدافع الفرقاطة «جوستيس» مسلطة على سفينتهم خشوا من أن يكون هذا الجواب
«المبهم» شَرَكًا نصبه منو لإلحاق الأذى بهم، فطلبوا من بيكرتون أن يستأنف
المفاوضة مرة أخرى للحصول على جواب قاطع، ولكن بيكرتون رفض إجابة ملتمسهم وطلب
إلى ديجز تنفيذ ما لديه من تعليمات، أو بقول آخر إنزال العلماء إلى البر وإشعال
النار في سفينتهم، فأحدث هذا القرار هرجًا ومرجًا شديدين بين العلماء على ظهر
«لوازو»، واستبد اليأس بالكابتن مورا وكان أكثر ما يخشاه أن تمتنع الحكومة
الفرنسية التي ضمنت سفينته من أن تعوضه أو تعوض أصحابها شيئًا عن فقدها إذا
أحرقها الإنجليز، وهدد في أول الأمر بالذهاب بسفينته إلى الإنجليز ثم وعد بعد
ذلك بأن يسمح لأحد ضباطه بقيادة السفينة والإبحار إلى الإسكندرية، على شريطة أن
يتعهد العلماء متضامنين بدفع قيمة التأمين لأصحابها إذا رفضت الحكومة الفرنسية
دفع هذا التأمين، فوافق العلماء على ذلك بعد نقاش حاد طويل.
وبينما كان العلماء ما يزالون في هرجهم ومرجهم حضر لزيارتهم السير سدني سمث
وأخذ في تهدئتهم، وعرض عليهم مقابلة اللورد كيث مرة ثالثة على أن يذهب بنفسه
معهم لعله يستطيع أن يثنيه عن عزمه، وذلك إذا أصر العلماء على عدم العودة إلى
الإسكندرية، غير أن الكابتن مورا وثيفنان كان من رأيهما العودة إلى
الإسكندرية. وإزاء هذا الانقسام قرر العلماء أن يخاطروا جميعًا بالعودة، وأن
يمنعوا كل من تحدِّثه نفسه بترك السفينة من فعل ذلك، وحاول ثيفنان مغادرة
«لوازو» وحاول فورييه منعه، وألقى عديدون من ملاحي السفينة بأنفسهم إلى البحر
وساد الهرج والمرج، ثم اشتدت الجلبة والضوضاء عندما ارتفع الصياح من كل جانب
«أن المركب يحترق». واعتقد السير سدني سمث الذي شهد هذه الحوادث أن هناك من
ينتوي حقيقة إغراق المركب وغادر «لوازو»، وكان في هذه اللحظة أن أحضرت القرويت
سينثيا رسالة من منو يبدي فيها ضجره من عدم عودة «لوازو» إلى الإسكندرية على
الرغم من انتظاره لها فهدَّأت هذه الرسالة من روع العلماء. ولكنه لما كان سدني
سمث قد ذهب كي يتفاوض بشأنهم مع اللورد كيث، فقد فضَّل العلماء انتظار نتيجة
مسعاه وظلوا أربعة أيام في حراسة القرويت الإنجليزي، ولكن كيث ظل مصممًا على
عودة «لوازو» إلى الإسكندرية، وعندئذٍ عرض سدني سمث على العلماء أن يقبل في
ضيافته كل من يرفض العودة منهم، وقبل هذه الدعوة كاستيكس
Casteix وبيلون
Pelon
وثيفنان. وفي ٢٧ يوليو دخلت «لوازو» ميناء الإسكندرية ورحَّب منو هذه المرة
بقدومهم، ونزل العلماء إلى البر بعد خمسة أيام في الحجر الصحي، وضمَّهم منو إلى
صفوف فرقة من الحرس الوطني كان قد انتهى من إنشائها وتنظيمها وقتئذٍ.
٢٤٩
وبقي العلماء بالإسكندرية إلى وقت تسليمها، وكان لهم موقف محمود في الدفاع عن
ثمرة جهودهم العلمية عندما طلب الإنجليز في المادة السادسة عشرة من الشروط التي
عرضوها على منو أن يسلِّم أعضاء المجمع العلمي المصري ولجنة العلوم والفنون كل
ما لديهم من أوراق ومذكرات ورسوم ومجموعات علمية في التاريخ الطبيعي إلى ما
جمعوه من آثار بما في ذلك حجر رشيد؛ فقد عارض العلماء في ذلك وكتبوا إلى منو
خطابًا شديد اللهجة قالوا فيه إن القائد العام الفرنسي إذا كان يحق له أن يبت
في مصير الجيش والمستعمرة ويتصرف في مهمات الجيش وعتاده، فإنه ولا شكَّ يتجاوز
سلطاته إذا اعتقد أن من حقه كذلك أن يفصل في ثمرة جهود العلماء التي هي ملكهم
الخاص.
ومما يُذكر لمنو بالثناء أنه أقر العلماء على وجهة نظرهم على الرغم من كبريائه
وغروره ووعد بأن يطلب من الإنجليز تعديل هذه المادة، ولكنه فشل في مسعاه وأصر
الإنجليز على التوقيع على شروط التسليم بأكملها بما فيها المادة السادسة عشرة.
وعندئذٍ أوفد العلماء ثلاثة من زملائهم لمقابلة السير هيلي هتشنسون للتفاهم
معه، وكان هؤلاء جيوفري سانت هيلير وسافيني ودليل، فقوبلوا في المعسكر الإنجليزي
ببرود. ولمَّا لم يقتنع الإنجليز بوجهة نظرهم واعتبار ما لديهم من مذكرات ورسوم
وغير ذلك من ممتلكاتهم الخاصة، أعلن هؤلاء عزمهم على إتلافها وإشهاد أوروبا بل
العالم أجمع على أفعال الإنجليز الذين اضطروهم بسبب قسوتهم التي لا مسوِّغ لها
إلى إتلاف هذه الآثار العلمية الثمينة، فوعد هتشنسون بالنظر من جديد في هذه
المسألة، كما وعد بإرسال رده إليهم مع هاملتون Hamilton أحد رجاله.
وكانت الفكرة الذائعة أن هاملتون كان المسئول عن إصرار هتشنسون على سلب
العلماء ثمرة جهودهم، لرغبته في الاستيلاء على ما لديهم من مذكرات وبحوث علمية.
وضم منو صوته إلى صوت العلماء الفرنسيين فاحتج في رسالة بعث بها إلى القائد
الإنجليزي في أول سبتمبر ١٨٠١م قال فيها إن تلك البحوث والمجموعات العلمية لا
تملكها حكومة الجمهورية الفرنسية وإنما هي من ممتلكات العلماء الخاصة، بل في
اعتقاده أن حكومة الجمهورية لا تملك من هذه الأشياء سوى تابوتين كان قد أصدر
أوامره بإرسالهما إلى فرنسا، وأمَّا فيما يتعلق بالتماثيل فإن فريان يمتلك
اثنين منها كان قد عثر عليهما في أثناء تنقيبه عن الآثار بالإسكندرية على نفقته
الخاصة، وهذا بينما اشترى العلماء ما لديهم من مخطوطات عربية وقبطية بأموالهم الخاصة.
٢٥٠ وناضل منو طويلًا في سبيل الاحتفاظ بحجر رشيد ولكن دون طائل،
وعندئذٍ قرر منو تسليم الحجر إلى الإنجليز «حيث إن هؤلاء أكثر قوة وأشد
بأسًا، ويصر قائدهم على أخذه.»
٢٥١
وأمَّا العلماء فقد أصروا على عدم تسليم ما كانوا «يملكون»، بل انبرى جيوفري
سانت هيلير يقول عندما جاء هاملتون يعلن إلى العلماء تشبث هتشنسون بتنفيذ المادة
السادسة عشرة من شروط التسليم: «كلا! نحن نرفض أن نطيع هذه الأوامر، إن جيشكم
لن يدخل الإسكندرية إلَّا بعد يومين وهذه مدة كافية ولا شكَّ لأن نتوج جهادنا
ببذل هذه التضحية الأخيرة، وعندئذٍ يمكنكم أن تفعلوا بأشخاصنا ما تشاءون. كلا!
إني أكرر لك القول بالرفض، ولن يقول أحد بعد ذلك إننا سلمنا بهذه التضحية عن
طيب خاطر، فنحن سوف نحرق بأنفسنا ما معنا من كنوز. إنكم تنشدون الشهرة والمجد،
إذن فعليكم أن تتدبروا ما سوف يسجله التاريخ من ذكريات عندما يقول إنكم أيضًا
قد أحرقتم مكتبة أخرى بالإسكندرية.»
٢٥٢ وكان جيوفري سانت هيلير يشير في عبارته الأخيرة إلى أقصوصة حريق
مكتبة الإسكندرية القديمة على أيدي العرب، وكانت هذه الإشارة وحدها كافية لردع
الإنجليز ومندوبهم، فأكَّد هاملتون للعلماء صدق نياته في الوساطة لهم لدى
هتشنسون، وأفلحت وساطة هاملتون ووافق هتشنسون بعد عناد لم يطل أمده على أن
يترك للعلماء ثمرة جهودهم. وفي ٢٧ سبتمبر ١٨٠١م غادر أعضاء لجنة العلوم والفنون
أرض مصر إلى فرنسا، ينقلون معهم مذكراتهم وبحوثهم ورسومهم ومجموعاتهم العلمية والأثرية
٢٥٣ وكل تلك الدراسات التي ساعدت فيما بعد على صنع «خريطة مصر» وإصدار
«كتاب وصف مصر» تلك الموسوعة الخالدة.