مقدمة

بقلم  بطرس البستاني

ما أحوج الإنسان إلى معرفة أساطيره؛ ليدرك دخيلة ذاته، ويتبين أصول ما يعيش فيها من عقائد وأوهام لها سلطانٌ خفيٌّ عليه، تقوده — برغمه — إلى عمل شيء أو ترك آخر. وإلى التفاؤل بشيء والإقبال عليه، أو إلى التشاؤم بغيره والفرار منه، وهو في هذا وذاك لا يدري حقيقة ما يقوده إلى أن يجد الخير هنا فيرغب فيه، والشر هناك فينفر منه.

وإنما يعلم أنه تلقى هذه العقائد من ذويه ومجتمعه فتماسكتْ جذورها في نفسه حتى اتصلت بعقائده الدينية فأصبحت معها كلًّا شاملًا لحقائق إيمانه، يستعين بأوهامه التي يرتاح إليها كما يستعين بالدين، ويستعين الدين على ما يخشى منها، كما يستعين عليها أوهامًا من جنسها فيفزع إلى الطلاسم والتعويذات، وربما لا يجهل أنه في استسلامه إلى تلك الأوهام يأتي أعمالًا ينكرها الدين ويحرمها على أبنائه.

ومع ذلك يجد نفسه ضعيفًا أمامها، قصير اليد لا قبل له برد هذه الأرباب التي تَحَدَّرَ عليه سلطانُها من تراث الأجيال المتعاقبة، فأخضعتْه لأحكامها بما فيها من حيوية نابضة بالتقليد والحديث المأثور، بعد أن حضنتها أزمنة بعيدة، وبلورتها مخيلات متفاوتة، قد تعود إلى عهد الشرك والوثنية، أو إلى عصور الأديان المنزَّلة وما نشأ على جنباتها من أساطير أُضيفت إلى القديسين والأخيار والملائك، وإلى الشياطين والجن والعفاريت، وهي على اختلاف ينابيعها جديرةٌ بالحفظ والعناية، فالشعب الذي أضاع أساطيره، جهل دخيلة ذاته، وأضاع جانبًا عظيمًا من تاريخه.

هذا التاريخ الذي نستمع إليه على أبواب الأسطورة، كما يقول فكتور هوغو، يحتل اليوم مقامًا رفيعًا في معرفة أحوال الأمم، واستكشاف بذور الفكر البشري؛ فإن الأساطير منها ما ينشأ في حضن المجتمع فيحمل في تضاعيفه شتى عقائده وآرائه، ومنها ما يهاجر إليه مع الشعوب الغريبة أو مع التجار والسياح والجنود الراجعة من الحرب، فلا يلبث، بمرور الزمن، أن يكتسب حقوق المستوطن فيظهر في حلل جديدة تلونها طبيعة الأرض وعقلية أبنائها.

وقديمًا قيل: إن فلسفة اليونان استنبطت أصولها من أساطيرهم، وإن تكن منابتها الأولى زراعة الشرق في حقول فينيقية وعبرانية ومصرية وآرية وهندية، فلذلك يصح أن تتخذ الأسطورة فكرة فلسفية تقود إلى ما بعد الطبيعة بأبحاثها الإلهية، وإلى محاولة تفسير النظام العالمي لاشتمالها على الأرباب المؤلهة من القوى الطبيعية، وإلى معرفة الخير والجمال بما فيها من تأليه الفضائل الأخلاقية كالحكمة والعدل والجمال.

وكان الرواقيون يقولون بأنهم وجدوا المبادئ العالمية في الأساطير، وذهب الإسكندريون هذا المذهب فأرجعوا أصل الفلسفة إلى تعليم الأسرار الأولى في مصر، وقال أفلاطون في «غورجياس»: إن الأساطير القديمة تتضمن عوامل الحقائق الكبرى، وهو في «الجمهورية» يؤثر أن يبدأ بها قبل غيرها في تعليم الأحداث، على أن مغزاها حقيقي.

والأحداث من غريزتهم يميلون إلى هذا النوع من القصص الوهمي؛ لأنه يغذي مخيلتهم، ويستثير شواعرهم الدقيقة، بيد أن أفلاطون لم يسمح بأن يلقنوا جميع أنواع الأساطير كخرافات هوميروس وهزيود، فإن هذين الشاعرين شَوَّها جمال الأرباب والأبطال بما أضافا إليهم من صفات مذمومة كالمكر والخيانة، والاستهتار بالشهوات، فمثل هذه الأساطير يسيء إلى عقيدة الأحداث في الآلهة وأعاظم الرجال، بخلاف تصور الألوهية خيرًا وسعادة للبشر، وتظهر البطولة بأسمى معانيها.

وكأن صاحب «من أعماق الجبل» وقعت في قلبه تعاليمُ أفلاطون، فجاءت أساطيره، على الجملة، مشبعةً بفكرة الخير والجمال، تزهر منها أنوار لبنان حاملة إلى العالم القديم رسالة الحضارة والروح والحب والسلام، ﻓ «النغم التائه» يرمز إلى الحب الشامل يفيض به قلب لبنان فيزرع الخصب، وينبت العمران، وتنبعث الإنسانية من تلك النفس المنفتحة، على حد ما يسميها «برغسن» ويعبر عنها إبدع تعبير.

فإذا تاه النغم، وتكاثفت المادة على الروح، ذهب الخير من الناس، وساد الشر والتحاسُد والخراب، ولكن النغم يتيه ولا يَبيد فلا بد له من عودة يتجدد فيها الصراعُ بين المادة والروح؛ لأن المادة لا تنتقل من القوة إلى الفعل، من النقص إلى الكمال؛ إلا بمحرك من الروح، فهي لا غنية لها عنه وإن تمردت عليه.

وفي أسطورة «الشاعر والشيطان» نلمس حاجة المادة إلى الروح، حاجة الظلام إلى النور، فقد عاد النغم التائه من غربته وحط قراره في قلب شاعر من لبنان، يغني أغنية النور، ويعرض عن زخارف الشيطان: «فيهن الشكل والتراب وليس فيهن الروح»، ويجد الرمزية والتأثرية والتصوير المكعب من عمل الشيطان، فاجتنبوه! فالمدنية التي تقوم على المادة وحدها هي مدنية جوفاء: «لا زاوية فيها للروح وللحب المتصلين بينبوع النور الأزلي.»

أليس المسيح روحًا محييًا، وحبًّا شاملًا، ونورًا أزليًّا؟ فبالروح يحيا الإنسان لا بالجسم، وبالحب لا بالمادة تخف آلام البشر، وبالنور يهتدي الحائر لا بالظلام، فرسالة لبنان روح وحب ونور.

وإذا كانت المادة ضرورية لتخطيط الجسم وتشكيله، فإن الروح التي تتحد بالجسد وتحييه لا تدعه يربي عليها بجسمانيته، فيقودها إلى الشر ويستخدمها في شهواته، بل تغالب نزعات المادة مستبسلةً حتى تنتصر عليها فتسير بها إلى الخير والفضيلة، كما انتصرت لبنانة في «بعل مرقد» فقمعت ثورة ماديتها بعد جهاد أليم يذكرنا جهاد القديسين حين تساورهم التجارب، وقامت ترقص وبعل مرقد يعزف ويغني لها «أغنية الحب الخالد»، فارتفع بها الرقص عن ظلمة المادة الكثيفة، فإذا هي «خصلة من نور تتعالى إلى ما وراء النجوم»، وكثير من الشعوب القديمة كانوا يؤمنون بقداسة الرقص، وأنه يدب الحياة في الأرض فينمو الزرع ويطيب الحصاد، وكان الهنود خصوصًا يرون فيه فألًا حسنًا لإخصاب العروسين.

فعلى هذا النمط الخير تجري أساطير «من أعماق الجبل» متغنية بحضارة لبنان وجمال أرضه وسمائه، متصلة بقصص الماضين وعقائدهم دون أن تفقد خاصة الاختراع، فقد أعطى صلاح لبكي لنفسه الحرية في إخراجها وتوجيهها، فجاءت صنعًا جديدًا تطفو عليه روعة القديم وجلاله.

وربما حوت الأسطورة أصول أخبار وخرافات مختلفة المجاري، لبنانية ومهاجرة، فيجمع بعضها إلى بعض، ثم يشق لها طريقًا غير طريقها القديم. فأسطورة «بعل مرقد» تذكرنا أوائلها بأسطورة بغماليون، فقد نحت بعل لبنانة بأزميله، ونفخ فيها الروح، وأحبها وتزوجها، كما نحت بغماليون بأزميله تمثالَ فتاةٍ جميلة، فتعشقها ثم تزوجها بعد أن بعثت فينيس فيها الحياة.

على أن أسطورة صلاح لبكي لا تلبث أن تفارق الأسطورة اليونانية لتنتحي وجهة لبنانية، مسيحية لا وثنية، وكذلك أسطورة «النغم التائه»، فإنها تشتمل على خرافة أدونيس وعشتروت، وعلى خبر قاين وهابيل، كلاهما مرتبط بالآخر، وكلاهما يسير في طريق جديد، فنحن نعلم من التوراة أن الرب قبل تقدمة هابيل، وإلى تقدمة قاين لم ينظر، فشق على هذا إعراض الرب عن قربانه، فوثب على أخيه فاغتاله في الصحراء.

ويفصل الطبري هذا الحادث فيخبرنا أن حواء كانت لا تحمل إلا توءمين ذكرًا وأنثى، وكان الذكر يتزوج من شاء من أخواته إلا توءمته، فإنها كانت لا تحل له، فرغب هابيل في توءمة قاين؛ لِمَا هي عليه من الجمال، فضن قاين بتوءمته على أخيه، وأرادها لنفسه، فنهاه آدم فأبى أن يطيعه، فأشار عليه أبوه بأن يُقدِّم قربانًا للرب، وأن يقدم هابيل قربانه، فأيهما قبل الرب تقدمته كان أحق بأخته، فقدم كلاهما تقدمةً للرب، فنزلت نارٌ بيضاء من السماء فأكلت قربان هابيل دلالة على قبوله، وتركت قربان قاين فلم تأكله، فغضب قاين وأمضه أن يتخلى عن توءمته فقتل أخاه.

أما صاحب «من أعماق الجبل» فيجعل من عداء قاين لأخيه صراعًا بين الشر والخير، فقد كان لهابيل صوتٌ رخيمٌ عذب، فإذا قدم قربانًا للرب سبَّح له مرتلًا: «فأصغت الأرض والسماء، وهرعت الطيور والأسود من كل صوب»، وكان صوت قاين كريهًا منكرًا، فإذا قرب للرب وسبح: «غامت السماء وتجهمت الأرض، وأقلعت الطيور وانصرفت الأسود»، فحسد قاين هابيل حتى كاد يموت حسدًا، وزُيِّنَ إليه أن يعض عنق أخيه؛ ليمتص النغم من عنقه، فمات هابيل مختنقًا، ولكن النغم أفلت وتاه حتى استقر في حنجرة آدونيس، يفيض على لبنان عاطفة الحب الشامل، ويبدع مدنية بيبلوس وصيدون وصور.

ثم مات قاين: «فنبذت السماء روحه، ولفظتْها جهنم، فحلت في جسد خنزير غريب لم يكن للبنان عهدٌ بمثله، وبينما آدونيس يؤدِّي رسالة الحضارة ويوحِّد بأنغامه القلوب على الحب وعلى الخير، فاجأه الخنزير وانقض عليه وصرعه»، فتجددت مأساة هابيل بتغلُّب الشر على الخير، وأفلت النغم ثانية وتاه ليجد له مستقرًّا، وإذا تغلب الشر على الخير يتيه النغم، إلا أنه لا يموت.

وهذا النغم جديرٌ بأن يستوقفنا في قصة قاين وهابيل، فأي فكرة تحركت في أعماق ضمير الكاتب، فأوحت إليه أن يبني أسطورته على الغناء مخالفًا فيها ما حدثت به التوراة والأخبار؟ ولعل هذه الفكرة تعيش في باطن كل منا، بل لعلنا نتكلم بها دون أن نأبه لحقيقة معناها، أو نحاول التنقيب عن أصلها ونشوئها، فكثيرًا ما نسمع غناء خشنًا مزعجًا فنتأذى من وقعه في آذاننا فننطق عفوًا: هذا صوت قاييني! نشبه صوتًا بصوت ولا نعلم سبب هذا التشبيه.

وقاين وقايين وقين أسماء لمسمًّى واحدٍ — كما يقول الطبري — فكيف نشأتْ هذه الصورة المعنوية في أذهاننا، وليس في التوراة والأخبار ما يهدينا إليها؟ أتراها متصلة الأسباب بأسطورة قديمة انقطعت عنا، وخلصت إلينا هذه البقية منها؟ ولا يبعد أن تكون التوراة أساسًا لتلك الأسطورة بما فيها من علاقة قاين بالصوت والغناء، فإن الكتاب المقدس يخبرنا أن قاين هو جد الحدادين وجد أصحاب اللهو والعزف والغناء.

فمن سلالته يوبل بن لامك أبو كل عازف بالكنارة والمزمار، وأخوه توبل قاين أول صيقل لجميع المصنوعات النحاسية والحديدية، فنحن أمام صناعات صوتية ترجع بأصلها إلى قاين وهي الحدادة والعزف والغناء، يُضاف إلى ذلك أن اسم قاين نفسه مرتبط المعنى بهذه الصناعات، فلو عدنا إلى مادته في المعاجم العربية لوجدنا أن القين هو العبد والحداد، وأن القينة هي الأَمَة المُغنِّية، ويسمى مقينًا من يزيِّن القيان ويدربهن.

ومعلوم أن العربية والعبرانية شقيقتان لأُمٍّ سامية بائدة، فلا بدع أن يقع بينهما تشابه في الأوضاع اللفظية ومختلف مدلولاتها، أوليس غريبًا أن يكون هابيل المقتول يعني الموت والثكل في مادته العربية؟ يقال: هبلته أمه — أي: ثكلته.

وعلى هذا فقد يجوز أن تكون الأسطورة القديمة متألفة عناصرها من لعنة الله لقاين، ومن أصوات مطارق الحدادين متحدة بأصوات المغنين، فأخرجت لقاين صوتًا منكرًا، ثم ما لبثت أن انقطعت مع العصور، وبقي الصوت المزعج تائهًا متنقلًا حتى بلغ إلينا، فأخذناه إرثًا عن الماضين لا ندري له سببًا، فجاء صلاح لبكي ينبهنا إليه في أسطورته، ولطالما كانت الأساطير مفسرة لكثير من العادات والعقائد والأحكام عند الشعوب.

ونرى أن إضافة الصوت الجميل إلى هابيل لا تقتصر على المقابلة المجردة بينه وبين أخيه، بل تتعداها إلى أبعد من ذلك، فقد كان هابيل راعي غنم، كما تقول التوراة، وكائن تغنِّي الشعراء بصوت الراعي وشبابته وهو يسوق القطعان في الأودية والجبال، وللأدب اللبناني خصوصًا آصرة عريقة على الراعي المغني، فمن الطبيعي أن تحيا بذورها في نفس صاحب «من أعماق الجبل» وهو شاعر من لبنان، فيلقي السحر في حنجرة هابيل، وتغتبط سريرته؛ إذ سقط زرعه في واد غير جديب.

ونحن وإن خصصنا بالذكر ثلاث أساطير: النغم التائه، والشاعر والشيطان، وبعل مرقد؛ فلا لأنها استبدت بالروعة دون سواها، بل لأنها سارت متضافرة في اتجاه بحثنا، مع أن أخواتها الباقيات لا تقل عنها جمالًا وإغراء، وفيها أيضًا لبنان بحضارته وطبيعته، وفيها فكرة الخير والسعادة كما أرادها أفلاطون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤