طليق وسجين

هذا عتيق التقط صغيرًا في عشه، ونشأ في هذا القفص الخشبي وتلقن الغناء من أشهر عتيق في الجوار، وكانت الأيام والليالي تنقضي وهو ناعم البال ينظر من خلال قضبان قفصه فيقع بصره على بستان صاحبه، ثم إذا سرح البصر بعيدًا لا يرى من الدنيا غير هذا الجبل القائم هناك في الناحية الثانية على ضفة الوادي.

ولشد ما كان يعجب عندما يسمع من بعيد تجاوب غناء الحساسين في الحقل، أو عندما يرى حسونًا بريًّا يقع من السماء على الشبوق المنتصب في طرف البستان.

أين تعيش هذه الحساسين، ومن أين تأتي بالقنب، ومن ترى يقدم لها قدح الماء؟

وذات صباح بكر صاحب العتيق فعلق القفص ومضى لشأنه.

وما هي إلا أن وقع حسون على رأس الشبوق.

– مرحبًا، عم صباحًا!

– أهلًا وسهلًا! من أين أنت آت؟ لقد سرني كثيرًا أن رأيتك تسقط من أيام على هذا الشبوق فترسل أغنية ثم تذهب عندما ترى صديقي صاحب الدار، قل لي لماذا ذهبت؟

– بل كيف صرت أنت إلى هذه النهاية، ومن وضعك في هذا السجن؟

– في هذا السجن! أين ترى السجن؟

– أين أراه؟ وما هو هذا المكان الذي تعيش فيه، أليس هو سجنًا؟

– من قال لك ذلك؟ هذا هو بيتي لا أذكر إلا أني وُجدت فيه منذ ما وجدت، إنه جميل وأنا فيه أنعم بجميع ما أحتاج إليه من طعام وماء، وأُغنِّي على هواي ساعة ما أشاء، كيف! أفليس لك أنت منزل جميل مثله؟

– كلَّا.

– مسكين أنت! ومن يقدم لك القنب والماء؟

– أنا لست بحاجة أن يقدمهما لي أحد.

– أفليس عندك قدح مثل هذا تشرب منه؟

– كلَّا.

– مسكين أنت! إن قلبي لَينفطر ألمًا على مصيرك! أَوَما لك صديق يملك مثل بستان صديقي؟

– كلَّا.

– ما أتعسك! كيف تشرق عليك إذن هذه الشمس؟

– إنها تشرق …

– عجبًا لها ولك!

– عجبًا!

– إنني حزين من أجلك، أفتحب أن تكون معي، وأن يكون لك منزل مثل منزلي وبستان صديق مثل بستان صديقي؟ دعك عندي.

فارتفع حسون الحقل في الهواء، ورسم في القضاء دائرة كبيرة، ثم عاد فنزل من جديد على أعلى غصن في الشبوق وأرسل أغنية فيها أنين من خرير السواقي، وألوان من شعاع الأصيل، ورائحة من زهور الحقل، وعمق من أغوار السماء.

فبهت حسون القفص وقال: من علمك هذا الغناء؟

– علمنيه الفضاء الرحب والربيع الطلق، علمتنيه الينابيع والسفوح والغابات، وترنمت به على مسمعي أعالي الجبال والسهول والأوداء، علمنيه بيتي أنا.

– وهل يحسن غيرك هذا الغناء؟

– جميع الحساسين.

– وهل لهم كما لك أنت، بيتٌ فيه جبال وسهول وسفوح وينابيع؟ وهل هذه الأشياء التي ذكرتَ تُعلِّمهم هم أيضًا الغناء؟

– إن بيتي هو بيتنا جميعًا، هو بيتك أيضًا.

– إنك لتهزأ مني وتذكر لي أشياء لا وجود لها.

– ماذا! أفلا تعرف الفضاء؟

– كلَّا، فما هو الفضاء؟

– انظر إلى فوق من خلال قضبان سجنك، إن بصرك لَيظل دائم الانطلاق، هذا هو الفضاء، مسرحنا نحن أهل الجناح، ومسرح الطيب والنسيم، مسرح النور، مجال الشمس والقمر والنجوم، نطير حتى نتعب ولا نصل إلى آخر الفضاء، ويسري الطيب حتى يتجاوز الغمام ولا ينتهي إلى حد ويسيل الشعاع ولا يعرف أحد أين ينفذ الشعاع، الفضاء قرار أغانينا وما أبعد وأعمق هذا القرار! أنا لا أعرف أبعد غورًا منه غير فؤادي عندما تقف الحسونة على شمخ البلوطة في أوائل الصيف.

– لا أفهم ما تقول!

– وهل تعرف الينابيع؟ إنك لا تعرف الينابيع، عندما ينظر الجبل إلى السنابل والأزاهير أيام القيظ تنطلق المياه من صدره فتخضوضر السهول، وينبت العشب في السفوح، وتجري المياه مرنمة بيضاء نقية فوق الحصى. ونشرب نحن، نشرب أغنية الماء وهيام الجبل، ونرف نحن فوق الزهور فتعطر أطيابها حناجرنا. ثم نأوي إلى الغابات، إنك لا تعرف ما هي الغابات، ولا ما هي الظلال، ولا ما هو تَمايُل الغصون وحفيفها، الغابات بما فيها من ظلال وحفيف وتمايل هي ألف نغم في نغم، وألف صلاة في صلاة، وراحة جامعة، حركة دائمةٌ وغناءٌ دائم، هي عالمنا في الليالي تنسكب روحها في صدورنا وتنتشر مع أغانينا.

فتعال … تعال معي!

– أُفٍّ لك، ما إخالك إلا محدثي عن عالم لا وجود له إلا في خيالك، إن هو إلا شوق في أعماقك تتصوره حقيقة، ورغبة تحسبها واقعة، ولو أن لك مثل ما لي وكان عندك مثل ما عندي: بيت وقنب وفير، وقدح ماء، وصديق يعتني بك، لَمَا كان لهذه الأشياء التي سميتها فضاء وينابيع وغابات وسهولًا وجودٌ، فأَقِمْ أنت عندي، إني لَأبعدُ بالواقع منك مراسًا.

فأطرق حسون البر ثم نظر إلى صاحب القفص، وقال: أفليس لك عينان وأُذنان؟

– بلى، ولكنك أنت ترى بعينيك ما لا وجود له، وتسمع بأذنيك أصداء ما يختلج بصدرك، إن جوعك وعطشك هو الذي يمثل لك هذه الصور.

فضحك حسون البر طويلًا وانطلق في الفضاء يملأ عينيه بالنور والألوان، وأذنيه بالأغاني المتصاعدة من كل حدب، ويشم مواكب الطيب الهائمة عند الأُفُق.

ومرت الأيامُ والليالي، وأُتيح لعصفور القفص أن ينطلق يومًا، فأمعن طيرانًا في فضاء هاله منه أنه لم يصل فيه إلى حدٍّ، وسقط على غاب ارتاع لعظمته، فلم ينعم منه بظلال ولم يأنس إلى حفيف، ومر بينبوع فما استساغ مذاق مائه، وقفل في المساء راجعًا إلى قفصه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤