ملكرت

بين الآثار التي اكتشفها العلماء أخيرًا في رأس شمرا مذكرات شاعر نقتطف منها هذه الصفحة، قال:

أشهد أني ما حلمت قبلُ حلمًا كهذا، فقد كنتُ أسير على الشاطئ ميمِّمًا صور، وإذا أمامي فتًى مديد القامة، أسمر الوجه، رقيق العينين، أسود الشعر مسترسلُهُ، عريض الجبين، مفتول العضلات، متناسق التركيب، دقيق المفاصل، صغير القدمين، طويل الأنامل، متمنطق برداء أرجواني، تشع القوة والأناقة والعزم منه، فبُهِتُّ لِمَرْآهُ وأخذتُ أحدق إليه بشيء من الإعجاب والتساؤل: من عساه يكون هذا البطل؟ ألعله ملك من ملوك الساحل أو قائدٌ من قُوَّاد مصر العظام، أو لعلني أحلم …؟ وتقدم الفتى نحوي مبتسمًا، وقال: أنا ملكرت.

– ملكرت إله البحر؟ رب الموج؟ … ملكرت أسطورة جميلة، خلقتها مخيلة أجدادي، ملكرت طيف حلو رائع، لا شيء إلا طيف، فكيف تكون أنت ملكرت؟

– أنا ملكرت معبود أجدادك، أفلا ترى أنهم كانوا على حق في ما يعبدون؟

أنا أسطورة، وأنا جميل ورائع وقوي؛ لأني أسطورة.

أنا حلو أزلي أبدي؛ لأني طيف.

تتراكم الحوادث على مخيلة البشر في هذا الشاطئ الجميل، فتعصف الأيام وتكر فتمحوها، وأبقى أنا طافيًا معتصمًا بشراعي أملأ ذكرياتهم وأترنح في صدورهم وأتردد على أفواههم كلما نظروا إلى هذا البحر، وكلما خفق شراع أو تهادى مركب.

– أنت ملكرت … أنت إذن ملكرت.

وأحسست أن إيمانًا قديمًا يستيقظ في داخلي بعد أن رقد آلاف السنين: وأين أنت اليوم؟ أين أنت؟ … لا يراك أحد ولا يسمع صوتك أحد، لقد تناساك بنو قومي كأنك ما كنت، وكأنك مت مع من مات وفنيت مع من فني، وكأن لم يخفق لك شراع ولم يزحف لك مركب على ماء.

فضحك الفتى حتى هاج البحر وماج واقتحم الرمال وتكسرت أمواجه عند قدميه وقدميَّ.

أنا هنا كل يوم لا أبرح شواطئ بلادي، أحرسها ليل نهار.

أنا هنا في خواطر الناس، في صدرك وصدورهم.

أنا في النور المتدحرج مع الفجر على القنن والأوداء.

أنا في الماء المتدفق من الينابيع، المهرول نحو البحر.

أنا في أغصان الأرز والصنوبر والشربين المرتفعة المتمايلة في الهواء.

أنا في أرج الزهر وفي سنابل السهل.

أنا هنا، عبثًا ينساني أو يتناساني الناس؛ فسأظل الهادي، وسأظل الطريق، وسأظل الخير.

– تباركت من نعمة ومن محبة ومن خير!

ورأيتني أتفهم سبب الشوق الذي يغمرني ويدفع بي نحو النور والينابيع والأغصان والجبال والأوداء، وأسمع الصلاة الصامتة التي تتصاعد من أعماقي في خشوع وإيمان ورهبة كلما نظرت إلى هذا الجبل، أو كلما لمست ترابه وعببت من ينابيعه وأصغيت إلى أنغامه، أو كلما رميت بنفسي في أمواه بحره.

– تباركت ملكرت إله البحر، تباركت طريق المعرفة، تباركت، تباركت.

فابتسم الفتى ورفع يمينه في حركة من يبارك وقال: لقد خلقت لكم البحر أهل بلادي، وأنتم منذ ذلك العهد وعيونكم أبدًا إليه وقلوبكم ممتلئة منه، قد تعتصمون في الجبال وتنفخون الحياة في الصخور، ولكنكم تتطلعون إليه وتنزلونه وترفعون فوقه الأشرعة وتباركونه فكأنكم منه، من قطراته، وكأن نفوسكم مكونة من زرقته.

إن بينكم وبينه لنسبًا؛ أي أثر ترك لكم بعل، وأي مأثرة خلف لكم؟ لقد تناسيتم أدونيس وعشتروت، فهلكا تحت غبار السنين، أما أنا فقد خلقت لكم البحر فدخلت إلى قرارات نفوسكم، وتغلغلت في أعماقها الخفية، وعبثًا تنسون اسمي وتعبدون آلهة غيري، فأنا الحي الذي لا يموت في ضمائركم وضمائر بنيكم ما دام هذا البحر الذي تراه هنا ينسج أحلامكم، ويصقل عقولكم، ويفجِّر عواطفكم، وإنها لحكايةٌ طريفة تلك التي حدتني أن أخلق هذا البحر، فأكون أمة وأميزها من سائر أمم الأرض على كر العصور.

كان رفاقي الآلهة قد اقتسموا ملك الطبيعة، فإذا هنالك إله الخير وإله الشر والحرب، إله السماء وإله الأرض، إله الجحيم وإله الحكمة، إله الرقص والفنون الجميلة، إله البرق والرعد، وإله النجم، وبقيت أنا لا مملكة لي ولا عمل.

أقضي أيامي متنقلًا في ممالك رفاقي وقصورهم وجنائنهم.

أغازل الإلهات وأنعم بجمالهن.

وأحتسي الخمر لاهيًا عابثًا.

وأرى الناس يعبدون رفاقي ويقربون لهم القرابين استدرارًا لخيراتهم أو دفعًا لشرهم …

وأمر فلا يُحسُّني أحد ولا يعبأ بي، وذات يوم بينا كنت أتلقن أصول الحكمة من فم «مينرفا» متنقلين فوق جبال لبنان، هبت من ناحية الصحراء عاصفة واندفعت الرياح تزمجر وتولول ثم عصفت في ردائينا وأخذت تدفع بنا بعنف، وكادت أن ترمي بنا من شاهق لولا أننا تخلينا عن الردائين.

فحملتهما الرياح إلى بعيد ورمت بهما في الوادي السحيق الذي كان ينخفض عند أقدام الجبل الأشم.

ولما هدأت العاصفة كانت فكرة الشراع قد انبعثت في خاطري واكتملت.

ومرت على ذلك عصور طوال وأنا أنظر إلى جهد الإنسان وعنائه، وإلى محاولاته الفاشلة في قطع الهوة العميقة التي تفصل لبنان عن البلدان الغربية النائية، فأشفقت عليه، على ضعفه إلى جانب ما ساورني من إعجاب بعناده وصبره وجلده. وقلت في نفسي: سأبسط هذه الهوة وأسلمه الشراع، وأخذت سوطي ورحت ألهب السحاب فتدفقت قربه، وضربت سفوح الجبال فتفجرت الينابيع وكرت الأنهر وزحفت المياه متساقطة في الوادي العميق.

وأنا أنظر مغتبطًا وأزداد هِمَّةً في حث السحاب واستدرار خزانات الأرض.

figure

فما يسمع إلا قصف صوتي وإلا وقع قدمي وهما تحطمان الصخور وتغوصان في الأرض وتشقان السفوح.

ولقد ظَنَّ الآلهةُ أنني جننت فتجمعوا، وأخذوا ينادونني ويتلطفون إليَّ خشية على الأرض من فيض السيول.

وراح كل واحد يعرض عليَّ أن يتخلى لي عن ملكه.

فما باليت بهم ولا بعروضهم، بل مضيت في عملي إلى أن ملأت الهوة. فأمرت السحاب أن يرتفع فارتفع، والسيل أن ينقطع فانقطع، والينابيع أن تتمهل فتمهلت، وصحا الجو وأشرقت الشمس على البحر الذي أنا ربه.

وظل الآلهة طويلًا يظنون بي مسًّا من جنون، وهم لا يدركون قيمة الزوبعة أحدثتها تلك العاطفة التي جاشت بي، ولا مدى أثرها على مستقبل البشر.

ونظرت بعد أيام إلى البحر، فإذا مياهُهُ تتموج بيضاء صافية، فمددت يدي إلى السماء وأخذتُ قطعة منها وعصرتُها في اليم، فإذا سماءٌ ثانية تكتنفها الأرض، وإذا في قدرة البشر أن يتلمسوها بأيديهم.

وخرجت بعدئذ إلى الناس كواحد منهم، ومضينا إلى غابات الأرز، وأنشأنا أول مركب رفع فوقه أول شراع وركز أول مجذاف، وجريت وإياهم فوق اليم.

منذ ذلك الحين والأشرعة تروح وتجيء فوق بحري بالخير والبركات.

– تباركت ملكرت إله البحر، تباركت ملكرت.

وتوارت الرؤيا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤