العرعار

كان ما كان في قديم الزمان، وفي ما كان صبية من الجن تعيش بين التلال القائمة هنالك فوق قريتي في مخبأ جعله القدر جوف جدة السنديانة الجبارة التي تظل اليوم بقاع الحقلة، وتُروى عن قدمها الأحاديث، وتذكر أبواب السرايات التي اصطنعها الأمراء من خشب جذوعها، وتعقد حلقات الصبايا والشباب تحتها كلما خرجوا لنزهة أيام القطاف، ويرتجحون على أغصانها، ولأهل القرية شغف بهذه السنديانة وانعطاف إليها، فإذا ذكرت لهم ترنحوا وساورتهم خيلاء لا تقل عن خيلائهم عندما يذكرون البرج القديم الذي صنعت من حجارته كنيستهم، أو عندما تحكى حكايات أمواتهم وما كانوا عليه — يرحمهم الله — من فطنة وشجاعة وإيناس.

يقال إن صبية الجن تلك كانت من الجمال على جانب يبهر الأبصار ويأخذ بالقلوب، لا يصلح الفجر أن يكون خادمًا لها ولا يشرف الطيب إلا عالقًا بأطراف أردانها، أما أناقتها فقد حفظت لنا التقاليد الموروثة عنها ما يفتن العقل، تظهر كلما ظهرت برداء جديد يلفها لفًّا لا يضيع معه شيء من جمال التكوين ولا يقلق الحشمة في شيء.

وكأن الفصول كانت مؤتمرة لما تتخير هي من ألوان: فإذا خرجت في المعطف الأزرق، صفت السماء ومسحت وجهها بالأزرق الناعم، وإذا أقبلت بالأخضر، ترنحت الغصون ولمع الأخضر في جنبات الغاب واعشوشبت السفوح، وتمر الغمامات البيضاء حالمة كلما لوحت لشيء بمنديلها الأبيض، ويجيء الخريف ويعلو الاصفرارُ إذا ما بدا لها أن تطل على التلال بثوبها الأصفر، وما كانت الورود لتفتح شفتيها لندى الفجر ولا لترتفع أعناق الشقائق إلا عندما تقبل الصبية بالأحمر اللاهب، بالأرجوان الذي علمت صنعه أهل الساحل إرضاء لترفها.

ولقد كان أجدادُنا القدماء يرجعون سراعًا إلى بيوتهم يحصنون أبوابها ونوافذها، ويعدون الوقيد عندما يلمح واحدهم الصبية تتمايل بالأسود البراق، يقينًا منهم أن السماء ستقطب وتكفهر جوانبها، وتتفلت الأعاصير من مكامنها في الجبال وتهوي من أعالي صنين والزعرور وجبال الباروك مولولة، صاخبة، عاصفة، مكتسحة.

ولكن الصبية كانت دائمًا نعمة تلك البقاع وخصبها وحياتها، فلقد كان يكفي أن يمر ظلها الرضي مرة في السنة على وجه الأرض حتى تتدفق خيراتها بين يدي أجدادنا، وتحل البركة على الكروم، وتشقر العناقيد، ويقطر التين عسله، ويحلو الإجَّاص، وتثقل أغصان التفاح، بعد أن تمتلئ الأهراء بشتى الحبوب.

تلك كانت حياة أجدادنا في عهد صبية الجن: عيش مطمئن وترف دائم، لا حسد على نعمة، ولا تنازع في ملك، ولا تنافس في جاه، ولا صبوة إلى شيء يقتنيه واحد بالاستقلال عن الآخرين، بل ثروة موزعة بالسواء، وخيراتٌ مقسمةٌ بالسواء، وغبطة شائعة بينهم بالسواء، يزيد نصيب الواحد منها عما تقتضيه الحاجة وتتطلبه الرغبة.

عكف أجدادنا في ذلك الزمان على مشاغل الفكر، وعمروا مكاتبهم ودورهم بآثاره، لا فاتتهم فلسفة ولا افتقروا إلى فن من فنون الموسيقى والتصوير والنحت والبناء. ولولا زلازل درست معها آثارهم لكان اليوم بين أيدينا منها ما لا تذكر عنده اليونان، ولكن تلك البراكين التي تفجرت على مقربة من القرية والتي لا نزال نشاهد حممها في «حقلة السودا» أجبرت حفداء جبابرة الفكر أولئك على الفرار لا يلوون على أثر، ولَمَّا عادوا بعد أن هدأت ثورة الأرض لم يجدوا من آثار آبائهم شيئًا.

وظل أجدادنا في نعيمهم هذا زمنًا طويلًا، إلى أن حدث ما لم يكن في حسبان أحد وما جهلوا هم أسبابه، وذهبوا عن وجه البسيطة وهم يجهلون، وهو أن صبية الجن اختفت يومًا على أثر زوابع زعزعت عمد السماء وروعت رواسي الأرض.

وما لاحظ أجدادنا إلا أن نبعًا تدفق بعد عند سفح جدة سنديانة الحقلة في مطرح يقال له العرعار.

وخبر كل ذلك أن أميرين فتيين من أمراء الجن وقعا في حب الصبية، فرأت أن لا يحظى عندها إلا من هو منهما أبسل وأشد ساعدًا وأكثر خبرة في فنون القتال، فنشب بينهما براز عنيف دام أيامًا وليالي، تقاذفا خلاله بجذوع العتاق من أشجار الصنوبر والسنديان والأرز، وتراشقا بالنجوم، وامتدت أيديهما إلى قنن لبنان فأوجف عليه القدر ورمى بالخصمين في ظلمات ما خلف الشمس، حيث ما يزالان يقتتلان، ونظر إلى الصبية فإذا هي تغرق عند السنديانة الجبارة في جوف الأرض وتنساب من هنالك، ثم تنطلق في العرعار ماء زلالًا صافيًا أنقى من دموع الفجر وأبهى من أحلام العذارى.

figure

تبدلت الحال بعد ذلك على أجدادنا فبخلت عليهم الحقول بخيراتها، وجفت ضلوع العرائش، وفرغت الأهراء، ولولا ذلك النبع الجديد الذي كانوا يتملقون به الأرض فيمرع منها ما يلامسه الماء ويعود حينًا إلى سالف سخائه، يوم كان ظل الصبية يمر عليه؛ لَمَاتَ أجدادنا جوعًا، غير أنه كان لا بد لهم من العناء والعمل والكد والجد، وكان لا بد لهم من أن يتنازعوا في تملُّك الصالح من الأرض لقربها من النبع وتسلُّطه عليها، وكان لا بد أن يظهر عندهم شغف به وحرص عليه، واحترام يكاد لا يفرق عن التقديس إلا قليلًا، وكانت الصبايا يتعبدن في سبيله فيصعدْن كل سنة موكبًا طويلًا أبيض يرقصن حياله ويغنينه ويتبركن به، ومن هنا أن القرية عرفت بين أهل الجوار باسم «بيت العابدات».

وظل نبع العرعار منذ ذلك الحين مطمح الأنظار حتى من غير أهله، ومحط ركاب حتى الغرباء عن البلاد، ولقد خطر ذات مرة لقوم من عمال قياصرة روما أن يحرزوه، وأن يقدموه قربانًا لواحد من آلهتهم شيدوا له هيكلًا فوق أطلال هيكل بعل مرقد، فأقاموا للنبع قبوًا معقودًا بالحجارة الضخمة، وعمدوا إلى الصخور فأفرغوها، ونحتوا منها قساطل لجر المياه، فعرف أجدادنا آنذاك أتعس عهد من عهودهم. غير أن العرعار ما عتم أن حطم قيوده، ومزق قساطل الحجر، وعاد إلى بقاعه يحمل الخير والبركات.

وها نحن اليوم نعيش في كنفه ونتبرك بوجهه سواء في ذلك فقيرنا وغنينا، فقد يولد واحدنا معدمًا ويعيش معدمًا لا يملك حجرًا يُسند إليه رأسه، غير أنه لمجرد ما هو حفيد من حفدة أجدادنا الأولين، سيظل له حقٌّ بأنْ يتملك وحده، ساعة من الزمن كل أسبوع، جميع مياه النبع، يغتسل بها وأهله ويروي بها ما يستأجر من أرض، ويمتع بصره برقراقها، ولعل هذه المساواة في الحقوق حيال العرعار هي كل ما بقي لنا من عهد صبية الجن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤