الهجرة إلى مصر١

إذا كان أصلي من تراب فكلها
بلادي وكل العالمين أقاربي

دحا الله الأرض ليعيش عليها البشر ويتناسلوا فيها فيعمروها ويحيوا مواتها ويسيطروا على المخلوقات كلها، فالأرض هي المنزل العام يجلس أهله في أي ناحية منه أحبوها وراقتهم، ويتنقلون في بقاعها وأصقاعها، ووهادها ونجادها، وسهلها وحزنها، وبحرها وبرها، على حسب ما تقضي أحوال الصحة، وطبائع الأجسام، وخواص النفوس.

فقد هاجر الفينيقيون قديمًا وأقاموا قرطجنة، عمروها وغيرها من شواطئ البحر الرومي، وهاجر الغوط من جرمانيا إلى جنوبي أوروبا وداهموا المملكة الرومانية، وهاجر الروم من بلادهم إلى شواطئ البحر المتوسط وجزره وشواطئ البحر الأسود وبلاده وعمروها، وكثير من الأمم أمثالهم غادروا مساقط رءوسهم، واتخذوا لهم بلادًا ثانية استعمروها.

وهاجرت في العهد الحديث أمم كثيرة، وأهم هجرة وقعت هجرة الأوروبيين إلى أميركا، عمروها بجنسهم الأبيض بعد أن كانت خربة بالجنس الأسود، وكذلك هجرة الهولانديين إلى جنوبي أفريقيا وهجرة الروس إلى سيبيريا، وهجرة القافقاسيين والجراكسة إلى البلاد العثمانية، وهجرة الإسرائيليين من بلاد روسيا، وهجرة المسلمين الروسيين إلى أميركا وغيرهم.

وللعرب حظ وافر من الهجرة والتنقل في الجاهلية والإسلام، بل إن الهجرة من طبيعة جزيرتهم يعمدون إليها طلبًا للكلأ والمراعي أو للاتجار بنتائج مواشيهم وحاصلاتها، وأول هجرة في الإسلام كانت هجرة عشرة من الصحابة وأربع نسوة وقيل أكثر، أمرهم الرسول بالهجرة إلى الحبشة لما رأى ما يصيبهم من البلاء قائلًا: لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن فيها ملكًا لا يُظلم أحد عنده حتى يجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا مما أنتم فيه، فخرجوا ثم عادوا بعد سنين، وهكذا هاجرت العرب إلى فارس ومصر والشام وإفريقية والأندلس والسند وكشغر لما فتحت، ولولا إقدامهم على الهجرة ما رأينا الإسلام منتشرًا في قلب آسيا وأفريقيا.

ولا نزال إلى اليوم نشهد أثرًا من آثار حب العرب للهجرة، وقد زادها اليوم قرب المواصلات وسهولة السفر، نرى أهل حضرموت في جنوبي الجزيرة يهاجرون إلى حيدر آباد الدكن الهندية، فيكون معظم جيش البلاد منهم، ونراهم يهاجرون إلى جاوة فيكثر فيها سوادهم ويغتني بعض أفرادهم، ونرى النجديين يهاجرون إلى الهند في التجارة ثم يستوطنونها ويصبحون فيها أصحاب كلمة ونفوذ، ونشهد السوريين يهاجرون إلى أميركا وأفريقيا فيرتاشون ويتأثلون.

وانهيال السوري على هذا القطر (المصري) خاصة قديم جدًّا يصعب تعيين زمنه لاتصاله ببلاد الشام برًّا وبحرًا، ولم تكن القوافل في الإسلام تنقطع في البر كما أن المراكب لم تكن تنقطع عن السفر في البحر، ولم تبرح بلاد الشام مصيف مصر وإحداهما مكملة لعمران جارتها، وقد وصف ابن فضل الله العمري في التعريف بالمصطلح الشريف طريق القوافل بين القطرين، كما عقد القلقشندي في صبح الأعشى فصلًا في مراكب الثلج الواصل من البلاد الشامية إلى الملوك بالديار المصرية، ومصر ما برحت كما وصفها ابن خلدون في القرن الثامن: «بستان العالم، ومحشر الأمم، ومدرج الذر من البشر.»

نعم هي محشر الأمم ولا سيما الأمم المجاورة لها من البر أو المناوحة لها من سيف البحر؛ وذلك لأن عمرانها طبيعي مستمر في معظم أدوارها، فلا عجب إذا كانت مهاجر الأمم من عرب وعجم، قبل أن تكون نقطة الاتصال بين قارات أوروبا وأفريقيا وآسيا بفتح ترعة السويس، فما بالك بعد أن تم لها ذلك، فمصر والحالة هذه مقصودة من أقطار الأرض أكثر مما يقصد أهلها سائر الأقطار، والأمة التي تكثر في الغالب خيرات بلادها لا يهون عليها مغادرتها، وطلب الحاجيات هو الباعث الأقوى على المهاجرة، فإذا كفيها المرء يصاب بالوفاء وضعف العزائم.

وما فتئ السوريون والروم والترك والمغاربة مذ كانت حكوماتهم تتغلب على مصر ينزلون بلاد النيل، فالروم حكموها زمنًا طويلًا وكذلك الترك والعرب والجراكسة، فكان من هذه العناصر أن نزلتها بكثرة، وأصبح أكثرهم فيها عمالًا وحكامًا وقضاة، ورؤساء جند وعلماء، وأرباب صنائع وتجارة، ولم تكثر هجرة الأوروبيين إليها إلا عقيب الاحتلال الفرنسوي عندما بدأ الفرنسيس والطليان والمجر وغيرهم من أمم الغرب يهبطون إليها، وقد كثر سوادهم على عهد الخديوي إسماعيل لأنه فتح أمامهم طرق الهجرة، وأحسن معاملتهم ووفر لهم المغانم وطرق الكسب.

ولما قبض رجال الاحتلال من الإنكليز على أزمة الأعمال، أخذ الناس يفدون على مصر من كل فج عميق، حتى إنك لتجد فيها الآن من جميع الشعوب واللغات أناسًا أسسوا فيها الأعمال التجارية والزراعية والمالية والعلمية، وكثير منهم اغتنوا من خيراتها بفضل كدهم، وقد قُدرت ثروة السوريين فيها بخمسين مليون جنيه؛ أي بعشر ثروة القطر، وهكذا سائر الأمم، ولا سيما الروم والطليان والفرنسيس، فإن فيها من هذه الأجناس ألوفًا اغتنوا من خيراتها، واتخذوها دار هجرتهم، ووطنًا ثانيًا لهم، وحال مصر اليوم مع المهاجرين إليها يختلف عن حالها مع أمثالهم في القرن الماضي؛ لأن ثقة الأمم تزداد بها الحين بعد الآخر؛ ولأن الأساس الذي قامت عليه حضارتها اليوم أساس مالي زراعي، خصوصًا وقد ظهرت الآن نتائج ما تعب القابضون على أزمة سياستها سنين في تأسيسه، واشتهر ذلك عند الخاص والعام في الأقطار النائية بما يتصل بهم من أخبارها، وأخبار من يغتنون من المهاجرين إليها، ممن توفرت لديهم رءوس أموال، أو كانوا من أرباب العقل والعمل، فكانت مصر ميدانًا لظهور آثارها، وربما لا يذكر الناس إلا من نجحوا، وقلما يذكرون من أخفقوا عادة في البشر، ولعلها من موجبات أقوامهم على الكسب والكدح في هذه الدار.

ولقد ساعد على كثرة الهجرة إليها حال بعض البلاد المجاورة لها من حيث اجتماعها ومادتها، فترى سكان جنوبي إيطاليا القاحلة يهاجرون إليها أكثر من القاطنين في الشمال منها؛ لأن شمالي إيطاليا مخصب، وأهلها مكتفون بما تجود به عليهم أرضهم وسماؤهم، وكذلك تكثر إليها هجرة سكان جزائر البحر الرومي، ولا سيما بلاد اليونان الجديبة وأهل سواحل الشام وجبالها.

هذه مصر من حيث مهاجر الأمم، فهي دولية — كما يقول الساسة — أو مشتركة بين أجناس وأديان شتى، والتاريخ يشهد أنها كانت رحبة الصدر بالوافدين عليها في كل العصور؛ للين عريكة أهلها، ولم يحدث هذا التميز بين سكانها، إلا عندما أراد مهاجرو الإفرنجة أن يستطيلوا على أهلها، فأحدثوا لهم ما يقال له «الامتيازات الأجنبية»، التي تخولهم من الحقوق ما ليس للوطني مثله، ثم كثر توارد الأخلاط عليه، ولم يكن الوافدون إليها على غرار واحد، بل كان منهم المنورون العالمون وهم أفراد، ومنهم المتعلمون المهذبون وهم أكثر، ومنهم العامة الأميون وهم السواد الأعظم، ومعظمهم طلاب رزق وسوقة نازعوا ابن البلاد وربما غلبوه؛ لأن من جاء في طلب غرض يحتال للوصول إليه، والغريب في الغالب يكون أجرأ وأنشط من الأصيل؛ لأن الغربة في ذاتها إمارة من إمارات النشاط:

وطول مقام المرء في الحي مخلق
لديباجتيه فاغترب تتجدد

والأمثلة كثيرة في هذا الباب من القديم والحديث، فليس للوافد ما للقاعد من الخمول والاتكال، ويكفي أن في لندرا لهذا العهد، وهي مهد الصناعات والارتقاء زهاء مائتي ألف رجل من رجال الألمان، استولوا على أعمالها المالية، واستأثروا بها دون ابن البلاد المتعلم المنور، الذي لا يقل عنه في مواهبه، هذا في عاصمة إنكلترا، فما الحال بمصر وأكثر الوافدين إليها هم من الشعوب القوية، ومن أهل البلاد الباردة التي تبعث النشاط في قلوب أبنائها وأجسامهم وعقولهم، فيتخذون عدتهم استعدادهم، وكدهم رأس مالهم، وعتادهم وذخرهم قصدهم واقتصادهم، على حين قد أتت على الوطني أزمان من الفوضى ضعفت بها قواه، فأصبح لا يقوى على العمل إلا إذا عوده زمنًا ولقنه بالتعليم والتربية، وقد فجأته الثروة والحرية مفاجأة بهرته وحيرته، ثم إن ابن البلاد في الغالب لا يسف إلى المكاسب التي يتنازل إليها الغريب، فالأول يدل بأرومته أو يعتز بأمته، والثاني يذل في سد حاجته ونيل بغيته.

ولما رأت الحكومة المصرية على عهد الوزارة الرياضية أن الوطني يكاد يفنى في الدخيل سنَّت لائحة صعَّبت فيها على النازل في مصر أسباب الحصول على حقوق الوطني، إلا بعد مقامه خمس عشرة سنة، وإشعاره الحكومة بعزمه على تغيير جنسيته قبل حلول الوقت المعين بخمس سنين، فكانت هذه اللائحة غريبة في بابها، منعت بعض الطراء على القطر من ولوج باب الاستخدام في دواوين الحكومة، وحظرت عليهم تعاطي الأعمال الإدارية والسياسية، إلا أنها صرفت وجهتهم إلى اتخاذ الأعمال التجارية والزراعية والمالية والعلمية الحرة، فأفلحوا أكثر مما لو كانوا حصروا كدهم في الوظائف الاتكالية، ولم تحق عليهم كلمة «مصر للمصريين»، ومن هنا نشأ بغض كثير من المصريين للغرباء، كان السبب في ذلك أولًا منافسة هؤلاء لأبناء البلاد في احتياز الوظائف، وساعد عليها ما ألفته بعض الجرائد المسموعة الكلمة من عبارات التفرقة، وهناك أسباب أخرى قواها أرباب الأهواء والغايات، فانتقلت بالتقليد إلى العامة، ومن نحا منحاهم من الخاصة.

وليست الشكوى التي يشكوها بعض الوطنيين من الوافدين في محلها كلها؛ لأن من اغتنى بكده أو بطرق غير شريفة، فإنما غنمه له وغرمه عليه، ولو تسنى لابن البلاد أن يعمل عمله ما تأخر، ويا ليت خاصة هذه البلاد يسعون إلى نزع هذه الأوهام من عقول العامة، حتى لا يبغضوا غيرهم بسبب وبلا سبب، ويمتزج بعضهم مع بعض لتحيل بوتقة مصر ذاك الدخيل إلى المعدن الذي تريد أن يكونوا كلهم عليه، فقد ثبت أن هذه البوتقة المصرية أحالت إليها فيما مضى التركي والألباني والجركسي والكردي والحجازي واليماني والعراقي والشامي والمغربي والسوداني والرومي والفارسي، فأتى منهم بعد مقامهم قليلًا في هذا الوادي مصريون يغارون على مصلحة مصر، وكثير منهم نفعوها وخدموها بعقولهم، وأيديهم أكثر من خدمة أبنائها لها تحت اسم مصريين، وما كانت قط بقعة من الأرض معلومة الحدود والمساحة وقفًا على جنس خاص من البشر، لا ينازعها فيه منازع، تسرح وتمرح فيها ما شاءت، فالأرض أرض الله، والناس عباد الله، وما أحلى بيت البحتري في هذا المعنى:

ولا تقل أمم شتى ولا فِرَق
فالأرض من تربة والناس من رجل

وكل من نظر في نهوض الأمم لا يعتم أن يرى أن كل أمة ربيت على كره غيرها وتجافت عن الاختلاط به وحسن الانتفاع منه تجني من الخسارة أكثر من الربح.

ولقد كانت بغداد من أكثر أمثلة التسامح في البلاد الإسلامية، رفعت مقام الغريب، وأحسنت الاستفادة منه، فكان يُعد بغداديًّا كل من دخل بغداد، تساوى في ذلك عجميها وديلميها وعربيها وتركيها، ونسطوريها وروميها ومجوسيها ومسلمها، فجمع العدل من شملهم، وآخت الراحة بينهم، وعد سواء في النسبة إليها من نزلها اليوم ومن نزلها منذ قرن، وقد أعان على تكوين هذا المزيج انتقاء الجنسية في الإسلام ورفق المسلمين بأهل ذمتهم، ولولا ذلك ما قامت تلك الحضارة التي نسبت للمسلمين العرب مع أن أثرهم فيها كأثر غيرهم من الأجناس والأديان، ولكن العمل مشترك وهو منسوب لصاحب البيت، كالجنود يشقون في الحرب، ثم يُنسب النصر لقائدهم.

وإنا لا نزال نقول: إن من حظ مصر أن تكون البلاد المجاورة لها محتاجة إليها، حتى أشبهت فاس في القرون الوسطى لما تواتر عيث الأعراب على القيروان، واضطربت قرطبة باختلاف بني أمية بعد موت محمد بن أبي عامر وابنه، فرحل من قرطبة ومن القيروان من كان فيها من العلماء والفضلاء من كل طبقة، فنزل أكثرهم مدينة فاس، قال صاحب المعجب في الثلث الأول من المائة السابعة: إن فاس اليوم على غاية الحضارة، وأهلها في غاية الكيس ونهاية الظرف، ولغتهم أفصح اللغات في ذاك الإقليم، وما زلت أسمع المشايخ يدعونها بغداد المغرب، وبحق ما قالوا ذلك، وقال: إن القيروان كانت منذ الفتح إلى أن خربها الأعراب دار العلم بالمغرب، إليها يُنسب أكابر علمائه، وإليها كانت رحلة أهله في طلب العلم، فلما استولى عليها الخراب تَفرَّق أهلها في كل وجه، فمنهم من قصد مصر، ومنهم من قصد صقلية والأندلس، وقصدت منهم طائفة عظيمة أقصى المغرب، فنزلوا مدينة فاس.

قصدوا فاس كما قصد الأندلسيون بلاد مراكش والجزائر وتونس وطرابلس ومصر والشام لما أذن الله بانقراض دولتهم فعُدوا من أهلها، بل كما رحل الإيطالي والألماني والإسباني والإنكليزي والفرنسوي إلى أميركا، لما ضاقت سُبُل الرزق في وجوههم، فعُدوا أميركيين وأنشئوا يخدمون أميركا أكثر من خدمتهم لبلادهم، حتى إذا تناسلوا فيها جاء أولادهم أميركيين صرفًا، وكلما ارتقت الأمم تتطال إلى إدماج غيرها في مجموعها، والأمم الإفرنجية اليوم أكثر تسامحًا في هذا المعنى من الأمم الشرقية كما يظهر بالاستقراء.

قال ابن حزم الأندلسي: إن جميع المؤرخين من أئمتنا السالفين والباقين دون محاشاة أحد، بل قد تيقنا إجماعهم على ذلك متفقون على أن ينسبوا الرجل إلى مكان هجرته التي استقر بها، ولم يرحل عنها رحيل ترك لسكانها إلى أن مات، فإن ذكروا الكوفيين من الصحابة — رضي الله عنهم — صدروا بعلي وابن مسعود وحذيفة — رضي الله عنهم — وإنما سكن علي الكوفة خمسة أعوام وأشهرًا (قال ابن حجر: صوابه أربعة أعوام) وقد بقي ٥٨ عامًا وأشهرًا بمكة والمدينة شرفها الله تعالى، وكذلك أيضًا أكثر أعمار من ذكرنا، وإن ذكروا البصريين بدءوا بمران بن حصين، وأنس بن مالك، وهشام بن عامر، وأبي بكرة، وهؤلاء مواليدهم وعامة زمن أكثرهم وأكثر مقامهم بالحجاز وتهامة والطائف، وجمهرة أعمارهم خلت هنالك. وإن ذكروا الشاميين نوهوا بعبادة بن الصامت، وأبي الدرداء، وأبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ، ومعاوية، والأمر في هؤلاء كالأمر فيمن قبلهم، وكذلك في المصريين عمرو بن العاص، وخارجة بن حذافة العدوي، وفي المكيين عبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، والحكم في هؤلاء كالحكم فيمن قصصنا فيمن هاجر إلينا من سائر البلاد، فنحن أحق به وهو منا بحكم جميع أولي الأمر منا الذين إجماعهم فرض اتباعه، وخلافه محرم اقترافه، ومن هاجر منا إلى غيرنا ملاحظ لنا فيه، والمكان الذي اختاره أسعد به.

١  نُشرت في المجلد الثاني من مجلة المقتبس (١٣٢٥ / ١٩٠٧).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤