العلم الصحيح١

قالوا: العلم علمان؛ علم الأبدان وعلم الأديان، أو دنيوي وديني، فالدنيوي علم ما فيه صلاح المعاش، وحفظ النظام في عالم الكون والفساد، والديني كل ما له مساس بالمعاد، وتهذيب النفس، والابتعاد عن المنكرات في هذه الفانية؛ للظفر بالباقيات الصالحات في تلك الدار الباقية.

كان العلم الديني لأول أمره، موجزًا مندمجًا، لم ينقد، قواعد مقررة، وأصولًا نافعة، فكان العربي يقصد الرسول — عليه السلام — يعلمه الدين في ساعة، ثم يحيله على القرآن، ويقول له اذهب راشدًا وبشِّر عشيرتك وأهلك، فقد عرفت من الدين جوهره وسره، وما ينبغي له؛ فمن ثم دام الإسلام إلى السذاجة حتى قامت قائمة العصبيات من أجل التنازع على الملك، وتجاذب حبل السلطة، فمزج الدين بالسياسة، ودخل في الإسلام من لا يهمه منه غير المغانم، وراح بعضهم يدسون ما لم يُقَل فيما قيل، وكثر المنافقون ممن سعوا بالدين في سرهم، وهم من أتباعه في جهرهم، وأنشئوا يلبسون ثياب الأصدقاء وهم له أعداء ماكرون.

دسوا عوامل إفسادهم، وفي القوم يومئذ صفوة من الأخيار، توفروا على محاربة البدع والموضوعات بكل لسان وبنان، بكل سيف وسنان، وكانوا على إخلاصهم وتأثيرهم كلما استأصلوا شأفة فاسد نبضَ من الأفسد نابض، ورجال السياسة وأكثرهم لا يرجع في الغالب إلى رأي ومذهب، يدهنون من وراء ذلك لحملة الدين، ويبذلون لهم ما يستغوونهم به؛ لينطقوا بألسنتهم، ولا يفسدوا عليهم أمرهم، إذا رفعوا أصواتهم ونعوا عليهم تبديلهم لما أنزل، وإلصاقهم به ما ليس منه، ولما رأى العقلاء عائث الفساد يدب دبيبه في علوم المعاد، خافوا أن يتدرج من العبث بالأعراض إلى العبث بالجواهر، فلم يروا بدًّا من التدوين والتقييد، والدلالة على مواضع الضعف والسخف ليبدو السليم لا شائبة فيه، وأنت خبير بما يقتضي ذلك من التطويل، دع ما يتخلله بالطبع؛ لأن في القائمين به العالم العامل، وفيهم صاحب البدعة والمقالة.

مضى على هذه الحال ردح من الزمن، وعلوم الدين لم تمتزج بشيء من علوم الدنيا، إلى أن دخلت علوم الحضارة في الملة وسموها علوم الأوائل، ورأت من بعض خلفائنا من أخذ بيدها وهيأ لها أسباب انتشارها، فعندها كثرت المذاهب والآراء، ونشأ العراك الأول بين العلوم الدينية والعلوم الدنيوية؛ أي بين الدين القائم بالتسليم، وبين الفلسفة المبنية على البرهان.

وظلت حال العلم الديني تابعة لمجرى السياسة، إن جاء عاقل من الأمراء والملوك يكل أمره لجهابذة من المحققين ينظرون فيه وهم مؤتمنون مأمونون، وإذا وليَ رقاب الناس جاهل يُنزل نفسه في كل المنازل، فيتولى من الخلق أمور دنياهم ودينهم، ويقرب إليه كل من يتابعه على أهوائه، ولا ينكر عليه مغالاته، والعقلاء بمعزل لا ينطقون إلَّا كارهين، وربما تدرعوا الخمول وآثروا الانقطاع على الدخول في المجتمع لإمحاضه النصح، وتخليصه من المفاسد الطارئة عليه.

نعم، إن التاريخ لم يخلُ من وجود عقلاء في كل دورٍ من أدواره، ولكن قوَّتهم ضئيلة لا تنفع، وصوتهم خريد لا يُسمع، إذا نسبتهم لأولئك المنافقين في خدمة الآمرين والناهين. وقد قل عددهم كثيرًا في هذه الديار، خصوصًا بعد الدولتين النورية والصلاحية، وصار العلم أشبه بتقاليد ورسوم منه بعلم وعمل، ومناطيق ومفاهيم، وما فتئت العادات يتخيلها بعضهم من الدين، ويدسونها فيه، وللجهل الكلمة النافذة في الهيئة الاجتماعية، إلى أن كان القرن التاسع والعاشر وما يليهما من قرون الهجرة، وهي من العصور المظلمة من تاريخ الإسلام حقيقة، فعندئذٍ قلَّ المميز والمفكر، وبطلت علوم الحكمة جملة واحدة، وصار من يتعاطاها في نفسه وبين خاصته كمن يأتي أمرًا إدًّا، ويخون دينه وأمته، وبطل النظر في الأصول، وتحتَّمَ على كل عقل ألا ينظر في غير الفروع مما أملته خواطر المتأخرين، فأصبح بذلك يُعَدُّ العالِمَ كلَّ العالم من يحقق من هذه الفروع أكثر. اعتبر ذلك بما تتلوه في تراجم أعيان العلماء في هذه القرون، فإنك لا تراها تتعدى الأقوال والآراء. وأهل كل جيل يقدسون قول من سلفهم ولو ببضع سنين. نعم إنك لو أنصفت لا تكاد ترى لهم تأليفًا تقرأ فيه نور العقل والخلاص من التقليد البحت. ولقد أتت أيام في معظم الأصقاع الإسلامية حُرِّم النظر فيها حتى في الكتاب والسنة، وعُدَّ الناظر فيهما محاولًا للخروج عن سنن الجماعة. فإذا خالف فردٌ ما ألِفوه أهانوه، ومن قاوم بفكره سجنوه أو نفوه وشردوه، وإذا خافوا بأسه قتلوه، وجعلوه عبرة ومثلًا للآخرين.

تأصلت الأوهام فعدت من أقدس القربات، وسار الناس مع تيار الجهل وتقديس أقوال أدعياء العلم والتقوى، وصدرت الأحكام بعوامل الأوهام، وغدت هذه البلاد كبرج بابل في التبلبل والتشويش؛ اتخذت كل منهما لها أئمة وأولياء، وأنشأت تُكبر أمرهم وتدعي لهم مقامًا ادَّعوه لأنفسهم؛ وراح الفقيه يكفر الصوفي، والصوفي ينقم على تقديسهم، والطعن فيمن عداهم ممن لم يصوروا لهم بالصورة المناسبة لما وقر في نفوسهم وركز في طبائعهم، وعشش في مخيلاتهم.

وهكذا امتزجت علوم الدين بالمشاغبات والمماحكات. لو بُعث الشارع وأصحابه لرأوا الاختلاف بين ما ورد وما صار إليه، مستحكمًا بعيد الأطراف يصعب الجمع بينهما كما يصعب الجمع بين النقيضين. وماذا أصف من تسريب الجهل إلى العبث بالعقول في تلك القرون. وإنك لترى أثرًا من آثاره لهذا العهد عن بعض من فطموا أنفسهم من النظر في المعقولات منا، فترى كلمات التضليل والتكفير والتبديع والتفسيق أسرع إلى أفواههم من الماء إلى الحدور، وتشهد الغرَّ الغمر يتحكم بالجنة فيعطيها لمن يشاء، ويُخرج منها من يشاء. فوا رحمتاه على أناس أضاعوا فضل عقولهم في الجدل، ولكم كان الخير يأتي من جهتها لو اشتغلت بالمفيد، ونبذت الأهواء ظِهريًّا، ولكن إذا أراد الله بقوم سوءًا رزقهم الجدل ومنعهم العمل.

قلت — فيما سلف: إن علوم الدنيا دخلت في الملة لما رأت من يعضدها من رجال السياسة، وكان ذلك في القرن الأول، بيد أنها لم تنتشر الانتشار المطلوب إلَّا في القرن الثاني والثالث. شاعت قرنين ثم أخذت تضعُف إلى أواخر القرن السابع أيام قل المشتغلون، ولو على طريقة نظرية بعلوم العقل التي لا قائمة لأمة بدونها مهما أخلصت في دينها. وإذا استفتيت تواريخهم تجد المتلبسين بشعار العلماء لا يعدُّون في جملتهم ذاك الرياضي والجغرافي، وربما فضَّلوا عليهما المعمار والثرثار. من أجل هذا نرى المدارس، على تفنن القوم في إنشائها بعد القرون الوسطى، منازل خاصَّة بالفقيه والمحدث والقارئ، والرباطات للمجذمين المعدمين والكسالى. ولم نجد مدرسة — اللهم إلَّا بعض مدارس الطب والهندسة — موقوفة على الرياضيين والطبيعيين والفلكيين والمؤرخين؛ كأن علومهم هذه أباطيل لا تصح الإعانة عليها، وحسب الرياضي أن يُغضي الفقيه عنه ما دامت الحالة بين هبوط وصعود، والأجود بها أن تُدعى سقوطًا إلى منتصف القرن الماضي أيام أخذ السلطان عبد المجيد في البلاد العثمانية، ومحمد علي في هذا القطر، يسهِّلان السبل لهذه العلوم، ويعدَّان أهلها في مصاف العلماء، وأنشئت المدارس لتعليمها، وغدا المشتغلون بالعلوم الدنيوية حزبًا، والمتوفرون على تعليم العلوم الدينية حزبًا آخر؛ على أنه لم تُحمد عودة تلك العلوم الدنيوية التي سماها بعضهم عصرية، وبعضهم دعاها حديثة؛ لما نتج عنها من حركة كانت أشبه برد فعل ما، ظلت الأمة معها صائمًا أخذ منه الجوع فلم يجد ما يطعمه، حتى ساقته الأقدار إلى مائدة موسر، وقد حوت ما طاب، وحلا من صنوف الأطعمة والحلواء، فأخذ يلتهم ما وصلت يده إليه بدون تروٍّ؛ يزدرده بلا مضغ، ويمزج بارده بحارَّه، وحلوه بحامضه، ويؤخر ما يقتضي تقديمه ويقدم ما يحسن تأخيره، ونشأت ناشئة لم تدرِ من العلم الحقيقي غير قشوره، شربت مصة من مورده ظنتها غاية ما يرتوي به المرتوون، وراحت تعد المروق غاية النور، والإزراء على النبوَّات من آيات الحكماء، والطعن في الشرائع من عمل الجهابذة النحارير، وإنكار القديم مهما كان نفعه، والتعلق بالحديث مهما ضؤل قائله، من دواعي النهوض والاستنارة؛ وعلى الجملة ينبذون كل ما ليس لهم به علم من تراث أجدادهم، حاسبين الصحيح منه والسقيم في مقام واحد، مماحكين ولو بان لهم الراجح من المرجوح.

يقول فتية اليوم: إنه لا نجاح للأمة إلَّا بنبذ ذاك القديم مباشرة، والأخذ بهذا الحديث على علاته. وفاتهم أن ما يسوغ في الغرب لا يتم في الشرق، وأن لكل أمة طبيعة ومنازع لا بُدَّ من مراعاتها، وأن إقامة مدينة جديدة في بادية أسهل من إصلاح مدينة قديمة لا غنية عن البناء فيها، وأن من العقل ألَّا يُنبذ ذاك القديم، بل يُرجع فيه إلى الأصل القليل، ويؤخذ النافع منه، ويُترك ما عدا ذلك من تخريف المخرفين وضلالات المبتدعين، والأخذ من هذا الحديث بالعلم الصحيح الذي تمس إليه الحاجة، وإطلاق الحُكم للعقل يعمل عمله في طريقه.

العلم الصحيح هو الذي يبعث صاحبه على عمل النافع، ولو كان في ذلك ضياع مصلحته الشخصية، فلا يبالي حامله بغضب الرؤساء والزعماء، ولا يستغويه رضى الغوغاء والدهماء، يتجشم المخاطر في نشر خاطر، ويركب كل صعب وذلول لإنارة مظلمات العقول.

العلم الصحيح هو الذي خلص من ضغط الأهواء السياسية والمذهبية، وسلم من التأثيرات والغايات، فلقنه صاحبه بريئًا من شوائب النزعات والنزغات، وأثر في نفسه تأثيرًا مجردًا، فإذا نطق بعده فلا ينطق إلَّا بما يوحي إليه هاتف الفهم السليم، والعقل الحكيم، فلا يتعصب للآباء والجدود، ومألوفات المحيط، وعادات الأهل والإقليم، ويتحزب لشيخه وأستاذه ولو تجلى له أنهما تنكَّبا عن طريق الحق.

العلم الصحيح هو الذي يحترم صاحبُه به آراء غيره، ولو كانت مباينة لأفكاره كل المباينة، ولا يعدها سخافات وترَّهات فينكر كل ما لا يعلم ويستكثر ما وعى، ولا يعد حِطَّةً عليه أن يتسقَّط الحكمة أنَّى وجدها وفي أي المظاهر ظهرت، فيأخذ نفسه بالتعلم ولو شابَ وجاوز الثمانين.

العلم الصحيح هو الذي تكون نتائجه أكثر من مقدماته، وفروعه خيرًا من أصوله، يأخذ له حامله من نفسه، فلا يتكبر عن إفادة، ولا يستنكف من استفادة، ويسعى إلى بث ما يعرف في كل أفق، ويعد البشر إخوة فلا يقصر في تعليمهم مما علم، يقينه أن صلاح الأفراد سلم للوصول إلى إصلاح الجماعة، والمصلحة العامة هي أبدًا موضوع نظر مَن رُزق حظًّا من هذا العلم.

العلم الصحيح هو الذي يربي الملكات ويهذب النفوس، فلا يستخدم صاحبه علمه أداة للغلبة بالباطل، والإدلال على الأقران، والذهاب بفضل الشهرة والمحمدة الزائلة والتبجح والتنطس، فامنح اللهم بفضلك هذه الديار شيئًا من هذا العلم، وكثِّر فيها سواد أهله بمَنِّك وحسن تسديدك.

١  نُشرت في جريدة الظاهر، سنة ١٣٢٤ﻫ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤