صلاح الدين ومدونو سيرته

لو كان تاريخ العرب يُدرَّس في مدارسنا على أصوله لوجب أن تُدرَّس سيرة السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب صاحب مصر والشام واليمن والجزيرة، كما تُدرَّس سيرة الخلفاء الراشدين، فقد مضت القرون بعد الخليفة المأمون العباسي، ولم ينشأ للعرب مَلك كصلاح الدين بعقله وعدله وحلمه وحسن بلائه، وقد دُونت سيرته في عهده، فكان عند المشارقة والمغاربة أنموذج الملك الحازم العاقل، وأحق ما يرجع إليه في سيرته — رحمه الله — من الكتب كتاب النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية لبهاء الدين بن شداد من قضاة الملك الناصر، وكتاب الفتح القسي في الفتح القدسي لعماد الدين الكاتب أحد كتاب ديوانه، ثم يؤخذ عمن كان في عصره أو قريبًا منه أمثال ابن الأثير صاحب الكامل، وأبي الفدا صاحب حماة، أو عن صاحب تاريخ الروضتين في أخبار الدولتين لأبي شامة وذيله له.

أما كتاب النوادر فهو على أسلوب المؤرخ كُتب بعبارة مرسلة لا تَكلُّف فيها، صيغ فيه اللفظ على قدر المعنى بخلاف الفتح القسي، فإنه راعى فيه السجع من أوله إلى آخره، حتى يكاد يمل قارئه، وتشغله الألفاظ والجناسات والترصيع وعويص اللغة عن تدبر المعنى ودخوله الآذان بلا استئذان؛ على أنه من سجعه في الأحيان ما يجيء عفو القريحة، فيكون المعجب المطرب مثل فصل «ذكر حال نساء الفرنج»، فإنه أبدع فيه كل الإبداع، وإن كان على ما يظهر ركب مركب الغلو في تمثيل حالهن.

ولقد تدبرنا سيرة الملك الناصر صلاح الدين منذ وُلد في قلعة تكريت (٥٣٢ﻫ)، وكان والده أيوب بن شاذي واليًا بها إلى أن جاء الموصل مع والده، وقد ترعرع إلى أن انتقل معه إلى الشام، وأعطى والده بعلبك إلى أن اتصل بالملك العادل نور الدين محمود بن زنكي إلى أن ذهب صلاح الدين مع عمه أسد الدين شيركوه إلى مصر إلى أن ملك مصر، وأزال دولة العاضد الفاطمية، وخطب للدولة العباسية إلى أن فتح الشام، واستخلص أكثر بلاد الساحل الشامي والقدس من الإفرنج إلى أن توفاه الله في دمشق بعد جهاد أربع سنين في الصليبيين، تدبرنا كل هذا فلم نحص له زلة ولا شهدنا له إلا ما ينطبق على مكارم الأخلاق والعدل المتناهي والحلم الذي دونه حلم أحنف ومعاوية، ولولا ما دسه الفقهاء عليه من تزيين قتل الشهاب السهروردي الفيلسوف؛ لخرجت صحيفة حياته كلها بيضاء نقية، قال ابن شداد: إن هذا السلطان كان «مبغضًا للفلاسفة والمعطلة ومن يعاند الشريعة. ولقد أمر ولده صاحب حلب الملك الظاهر — أعز الله أنصاره — بقتل شاب نشأ يقال له السهروردي، قيل عنه: إنه كان معاندًا للشرائع معطلًا، وكان قد قبض عليه ولده المذكور لما بلغه من خبره وعرف السلطان به فأمر بقتله، فطلبه أيامًا فقتله.» هذه رواية ابن شداد وهو من الفقهاء أورد هذه القصة في معرض أن السلطان يعظم شعائر الدين وإثبات أنه يقول بالبعث والنشور، ومجازاة المحسن بالجنة والمسيء بالنار.

إلا أن ابن أبي أصيبعة قال في حقيقة قتل الشهاب السهروردي: إنه لما أتى إلى حلب وناظر بها الفقهاء ولم يجاره أحد كثر تشنيعهم عليه، فاستحضره السلطان الملك الظاهر غازي ابن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، واستحضر الأكابر من المدرسين والفقهاء والمتكلمين؛ ليسمع ما يجري بينهم وبينه من المباحث والكلام، فتكلم معهم بكلام كثير، وبان له فضل عظيم وعلم باهر، وحسن موقعه عند الملك الظاهر وقربه، وصار مكينًا عنده مختصًا به، فازداد تشنيع أولئك عليه، وعملوا محاضر بكفره، وسيروها إلى دمشق إلى الملك الناصر صلاح الدين، وقالوا: إن بقي هذا، فإنه يفسد اعتقاد الملك الظاهر، وكذلك إن أُطلق فإنه يُفسد أي ناحية كان بها من البلاد، وزادوا عليه أشياء كثيرة من ذلك، فبعث صلاح الدين إلى ولده الملك الظاهر بحلب كتابًا في حقه بخط القاضي الفاضل وهو يقول فيه: إن هذا الشهاب السهروردي لا بدَّ من قتله، ولا سبيل إلى إطلاقه، ولا يبقى بوجه من الوجوه، ولما بلغ شهاب الدين السهروردي ذلك، وأيقن أنه يقتل، وليس جهة إلى الإفراج عنه اختار أن يُترك في مكان مفرد، ويُمنع من الطعام والشراب إلى أن يلقى الله تعالى، ففُعل به ذلك، وكان في أواخر سنة ست وثمانين وخمسمائة بقلعة حلب، وكان عمره نحو ست وثلاثين سنة، قال صاحب طبقات الأطباء: إن السهروردي صار له شأن عظيم عند الملك الظاهر، وبحث مع الفقهاء في المذاهب وعجزهم، واستطال على أهل حلب، وصار يكلمهم كلام من هو أعلى قدرًا منهم، فتعصبوا عليه، وأفتوا في دمه حتى قُتل، وقيل: إن الملك الظاهر سيَّر إليه من خنقه، ثم إن الملك الظاهر بعد مدة نقم على الذين أفتوا في دمه، وقبض على جماعة منهم واعتقلهم وأهانهم، وأخذ منهم أموالًا عظيمة.

هذه الغلطة الوحيدة هي التي أحصيت لصلاح الدين، وهي في الحقيقة انتقام المتفقهة من المتفلسفة أو النقل من العقل، وهذا الانتقام ما برح على أشده في كل زمان، ولا سيما منذ القرن السادس إلى آخر العاشر، فإنه قُتل في بلاد الإسلام كثير من الأعاظم، أو اضطهدوا، وأوذوا من قِبل أعداء الفلسفة، وما عدا ذلك فإن صلاح الدين لا يُلام على قتل أحد من الصليبيين؛ لأنهم أفحشوا هم في أسراه، وعاهدوا فخانوا، ومثل من قتلهم من المصريين للقضاء على الدولة العبيدية، أو من قاموا يدعون إليهم بعد أن زالت دولتهم، وفي جملتهم عمارة اليمني الشاعر، كل ذلك يُغتفر له؛ لأنه في سبيل تأييد سلطانه، والملك عقيم كما قيل.

ومما ذكره ابن شداد في عدله أنه كان رءوفًا رحيمًا ناصرًا للضعيف على القوي، وكان يجلس للعدل كل يوم اثنين وخميس في مجلس عام يحضره الفقهاء والقضاة والعلماء، ويفتح الباب للمتحاكمين حتى يصل إليه كل أحد من كبير وصغير وعجوز هرمة وشيخ كبير، وكان يفعل ذلك سفرًا وحضرًا على أنه كان في جميع زمانه قابلًا لجميع ما يُعرض عليه من القصص في كل يوم، ويفتح باب العدل، ولم يرد قاصدًا للحوادث والحكومات، وكان يجلس مع الكاتب ساعة إما في الليل أو في النهار، ويوقِّع على كل قصة بما يجريه الله على قلبه، ولم يرد قاصدًا أبدًا ولا متنقلًا ولا طالب حاجة، وما استغاث إليه أحد إلا وقف وسمع قضيته، وكشف ظلامته، واعتنى بقصته. ولقد رأيته واستغاث إليه إنسان من أهل دمشق يقال له ابن زهير على تقي الدين ابن أخيه، فأنفذ إليه ليحضر إلى مجلس الحكم، وكان تقي الدين من أعز الناس عليه وأعظمهم عنده، ولكنه لم يحابه في الحق.

وأعظم من هذه الحكاية مما يدل على عدله قضية جرت له مع إنسان تاجر يُدعى عمر الخلاطي، وذلك أني كنت يومًا في مجلس الحكم بالقدس الشريف، إذ دخل عليَّ شيخ مسن تاجر معروف يسمى عمر الخلاطي معه كتاب حكمي يسأل فتحه، فسألته: من خصمك، فقال: خصمي السلطان، وهذا بساط العدل، وقد سمعت أنك لا تحابي، قلت: وفي أي قضية هو خصمك؟ فقال: إن سنقر الخلاطي كان مملوكي، ولم يزل على ملكي إلى أن مات، وكان في يده أموال عظيمة كلها لي، ومات عنها، واستولى عليها السلطان وأنا مطالبه بها، فقلت له: يا شيخ! وما أقعدك إلى هذه الغاية، فقال: الحقوق لا تبطل بالتأخر، وهذا الكتاب الحكمي ينطق بأنه لم يزل في ملكي إلى أن مات، فأخذت الكتاب منه، وتصفحت مضمونه، فوجدته يتضمن حلية سنقر الخلاطي، وأنه قد اشتراه من فلان التاجر بأرجيش اليوم الفلاني من شهر كذا من سنة كذا، وأنه لم يزل في ملكه إلى أن شذ عن يده في سنة كذا، وما عرف شهود هذا الكتاب خروجه عن ملكه بوجه ما، وتم الشرط إلى آخره، فتعجبت من هذه القضية، وقلت للرجل: لا ينبغي سماع هذا بلا وجود الخصم، وأنا أعرفه وأعرفك ما عنده، فرضي الرجل بذلك واندفع، فلما اتفق المثول بين يديه في بقية ذلك اليوم عرفته القضية، فاستبعد ذلك استبعادًا عظيمًا، وقال: كنت نظرت في الكتاب، فقلت: نظرت فيه ورأيته متصل الورود والقبول إلى دمشق، وقد كُتب عليه كتاب حكمي من دمشق، وشهد به على يد قاضي دمشق شهود معروفون، فقال: مبارك، نحن نحضر الرجل ونحاكمه، ونعمل في القضية ما يقتضيه الشرع.

ثم اتفق بعد ذلك جلوسه معي خلوة، فقلت له: هذا الخصم يتردد ولا بد أن نسمع دعواه فقال: أقم عني وكيلًا يسمع الدعوى، ثم يقيم الشهود شهادتهم، وأخِّر فتح الكتاب إلى حين حضور الرجل ها هنا، ففعلت ذلك، ثم أحضر الرجل واستدناه حتى جلس بين يديه وكنت إلى جانبه، ثم نزل من طراحته حتى ساواه وقال: إن كان لك دعوى فاذكرها، فحرَّر الرجل الدعوى على معنى ما شرح أولًا، فأجابه السلطان: إن سنقر هذا كان مملوكي، ولم يزل على ملكي حتى أعتقته، وتوفي وخلَّف ما خلَّفه لورثته، فقال الرجل: لي بينة تشهد بما ادعيته، ثم سأل فتح كتابه ففتحه فوجدته كما شرحه، فلما سمع السلطان التاريخ: قال عندي من يشهد أن سنقر هذا في هذا التاريخ كان في ملكي وفي يدي بمصر، وإني اشتريته مع ثمانية أنفس في تاريخ متقدم على هذا التاريخ بسنة، وأنه لم يزل في يدي وملكي إلى أن أعتقته، ثم استحضر جماعة من أعيان الأمراء والمجاهدين فشهدوا بذلك، وذكروا القصة كما ذكرها التاريخ كما ادعاه، فأبلس الرجل، فقلت له: يا مولاي! هذا الرجل ما فعل ذلك إلا طلبًا لمراحم السلطان، وقد حضر بين يدي المولى ولا يحسن أن يرجع خائبًا للقصد، فقال: هذا باب آخر، وتقدم له بخلعة ونفقة بالغة قد شذ عني مقدارها، قال ابن شداد: فانظر إلى ما في طي هذه القضية من المعاني الغريبة العجيبة والتواضع، والانقياد إلى الحق، وإرغام النفس، والكرم في موضع المؤاخذة مع القدرة التامة. ا.ﻫ.

مثل هذا الفاتح العظيم مات ولم يحفظ ما تجب عليه به الزكاة، فإن صدقة النفل استرقت جميع ما ملكه من الأموال، فملك ما ملك، ولم يخلف في خزانته من الذهب والفضة إلا سبعة وأربعين درهمًا ناصريًّا وجرمًا واحدًا ذهبًا، ولم يخلف ملكًا ولا دارًا ولا عقارًا ولا بستانًا ولا قرية ولا مزرعة ولا شيئًا من أنواع الأملاك، وكان — رحمه الله — يهب الأقاليم وفتح آمد (ديار بكر) وطلبها منه ابن قره أرسلان، فأعطاه إياها، وهو يعطي في وقت الضيق كما يعطي في حال السعة، وكان نواب خزائنه يخفون عنه شيئًا من المال حذرًا أن يفاجئهم مهم لعلمهم بأنه متى علم به أخرجه، قال ابن شداد: وكان يعطي فوق ما يؤمل الطالب، فما سمعته قط يقول: أعطينا لفلان، وكان يعطي الكثير، ويبسط وجهه للعطاء بسطه لمن لم يعطه شيئًا، وما سمعته قط يقول: قد زدت مرارًا فكم أزيد، وأكثر الرسائل كانت تكون في ذلك على لساني ويدي، وكنت أخجل من كثرة ما يطلبون، ولا أخجل منه من كثرة ما أطلبه لهم؛ لعلمي بعدم مؤاخذته في ذلك، وما خدمه أحد إلا وأغناه عن سؤال غيره، وقد سمعت من صاحب ديوانه يقول لي: قد تجارينا عطاياه، فحصرنا عدد ما وهب من الخيل بمرج عكا، فكان عشرة آلاف فرس، ولم يكد يركب فرسًا إلا وقد وعد بأن يعطيها لأحد طلاب عطاياه، وبالجملة فإن ما ذكره العماد وابن الشداد عن خلال صلاح الدين ومواظبته على القواعد الدينية وملاحظته للأمور الشرعية وعدله وكرمه وشجاعته واهتمامه بأمر الجهاد وصبره واحتسابه وحلمه وعفوه ومحافظته على أسباب المروءة هو العجب العجاب، وقرة عين المسلمين والعرب على مر السنين والأحقاب.

يرى الناظر في كتاب العماد الكاتب الأصفهاني أنه لم يكد يغفل تفاصيل الوقائع الصلاحية، أو يشذ عنه نادرة من النوادر اليوسفية الأيوبية على ضيق عطن النثر والسجع عن قبول هذه المعاني بجملتها، ويعاب على الأصفهاني كثرة تبجحه بكتابته، فقد ذكر غير ما مرة من كتابه أنه كان هو الفرد المقدم في الديوان الصلاحي، مع أن ابن شداد ذَكر عن نفسه شيئًا من ذلك بالعرض، أورده — كما رأيته — في معرض الكلام عن منائح صلاح الدين، ولكن صاحبنا العماد جرى على عادة الفرس في المبالغة سامحه الله.

فقال في فتح بيروت: «وكنت يومئذ في مرض قد أزعجني وأعجزني، ومضض أجفاني، ولعيون العواد أبرزني، وانقطعت عن الحضور عند السلطان، وضعفت عن تحرير كتاب الأمان، فطلب السلطان كل كاتب في ديوانه، وكل من يمسك قلمًا من أفاضل الملك وأعيانه، فلم يرضه ما كتبوه، ولم يكفه ما رتبوه، فجاءني في تلك الحالة مَن استملاه مني، ومرضت أذهان الأصحاء، ولم يمرض ذهني، فتسلم بيروت بخطي، وأصبحوا وأنا الآخذ والمعطي، وكان الناس قد أنسوا بما أسطره وأزبره، وأنسوا سوى ما أذكره وأحبره وألفوا الصحة فيه فألقوه، ولقوا السقم في غيره فأنفوه، فلم يكن في ذلك التوقيع تعويق، بل كله بتوفيق من الله توثيق، فما فُتِح فتح إلا بمفتاحه، ولا رُتِق فتق إلا بإصلاحه، ولا جُلي ظلام إلا بإصباحه، ولا وُري زند إلا باقتداحه.» ا.ﻫ.

وقال من فصل: وكان قد عرض له مرض، فانقلب إلى دمشق يداوي مزاجه، فلما عاد إلى الحضرة سأله السلطان: «أين كنت؟ ولِمَ أبطأت؟ وحيث أصبت في المجيء فما أخطأت، وقد كنا في انتظارك والسؤال عن أخبارك، وهذا أوان إحسانك، فأين إحسان أوانك، فأجر بنانك بجرأة بيانك، وأجز في ميدانك، وما للبشائر (بفتح القدس) إلا واصفها، وللفرائد إلا راصفها، وللفصاحة إلا قسها وللحصافة إلا قيسها، وكان قد جمع أمس كُتاب دواوينه على إنشاء كتبٍ ما ارتضاها واقتضاب معانٍ ما اقتضاها، وكانوا سألوه في كتاب الديوان العزيز فقال: لهذا من هو أقوَم به. وعناني، فلما ساءني ناداني واستدناني، فصرفت إلى امتثال أمره عناني، وسلَّم إليَّ الكتب التي كتبوها بالألفاظ التي رتَّبوها، وقال: غيِّرها ولا تسيِّرها. وغرضه أني أعدل معوجَّها، وأبدل مثبجها، وأفترع المعنى البكر للفتح البكر، وأوشِّح ذكر آياته بآيات الذكر. فاستجديتها فما استجدتها، واستلمحتها فما استملحتها، وشممتها وبها سهك، وكشفتها وسترها هتك، وكانوا قد تعاونوا عليها وفيها لهم شرك، فشرعت في افتضاض الأبكار، واقتضاء الأفكار، واقتراح القريحة، واقتراء رحاب الكلم الفصيحة الفسيحة، وافتتحت في بشرى الفتح بكتاب الديوان العزيز، وأوردت المعنى البليغ في اللفظ الوجيز، ووشحت ووشعت، وشعبت وأشبعت، وأطلت وأطبت، وصبت وأصبت، وأعجزت وأعجبت، وأطريت وأطربت، وأبعدت وأبدعت، ورصعت وصرعت، وطابقت وجانست، ووافقت وأنست …» ا.ﻫ.

وقال في الوقعة العادلية: «ولما عرفت بالواقعة والنصرة الجامعة صدرت ثلثين أربعين كتابًا بالبشارات بأبلغ المعاني وأبرع العبارات، وقلت: إذا نزل السلطان وجد الكتب حاضرة والبشائر شائرة، وركبت أنا والقاضي بهاء الدين بن شداد لمشاهدة ما هناك من أشلاء صرعى وأجساد، فما أعجل ما سلبوا وعروا وفروا وقروا، وقد بُقرت بطونهم وفُقئت عيونهم، ورأينا امرأة مقتولة لكونها قاتلة، وسمعناها وهي خامدة بالعبرة قائلة، وما زلنا نطوف عليهم، ونعبر ونفكر فيهم ونعتبر، حتى ارتدى العشاء بالظلام، فعدنا إلى الخيام، وأخذت الكتب التي نمقتها بالبشائر التي حققتها، وجئت وإذا السلطان قد استبطاني وعدم إجابتي لما دعاني، فما صبر ولا انتظر ولا ترقبني أن أحضر، ولا أمهل أن أعطي البشارة حقها، وأجلو بأنوار المعاني أفقها، وأبلغ بالبلاغة مداها، وأصبغ بتقليص الضلالة ثوب هداها، وأصف بحدود الأقلام ما صنعته حدود السيوف، وأروج نقودي عند السلطان وأغنيه عن الزيوف، فأبصرت عنده مشرفي المطابخ والأبيات ومدوني الجرائد بالإثبات، وقد كتبوا تلك البشارة الثقيلة الجليلة في رقاع خفيفة بعبارات سخيفة، وقد عطلت الحسناء من حليتها، وعرَّوها من بزَّتها، وشوَّهوا جمالها وأحالوا حالها، فذهب بها المبشرون وسار القاصدون، فما كان لتلك الوقعة عند من وقعت عليها وقع، ولا تم لغليل من رام الاطلاع على حقيقتها نقع، وأرادوا بدمشق قراءتها على المنبر فما استحسنوها، ولو وردتهم بزينة عبارتي وبراعتي زينوها، وفي تلك الحال التفت السلطان إلي وقال: اكتب بهذه البشارة إلى بغذاذ، وعجِّل لها الإنفاذ، فقلت في سبيل العتب: أنتم تريدون ما أكتبه، ولا ترغبون فيما أرتبه وأهذبه، فقال: كأنك كتبت البشائر فهاتها حتى تهدي إلى طرقاتها، فقلت: ما فات فات، وهيهات هيهات، وأخرجت له ما بقي من بشارات البلاد التي أنشأتها، بالألفاظ والمعاني التي ابتدعتها وابتدأتها، فسارت فسرت البعيد والقريب، وخصت من جداها بالخصب الجديب، وصدحت بأسجاعها المنابر، وصمت بسماعها المفاخر، وظهرت بعباراتها العبر، وبهرت بزبرها الزبر، وعمرت بمعانيها المغاني، وعمت مباهجها مناهج الأقاصي والأداني.» ا.ﻫ.

وقال من هذا البحر والقافية: «في ذكر لطف من الله في حقي خفي كان السلطان قبل استيلاء الفرنج على عكا بسنة قد عمل ترجمة تفرَّد بها القاضي ابن قريش لمكاتبة الأصحاب؛ ليكتب بها إليهم، ويعود بها الجواب، فلم يُبقِ المكاتبة ابتداء وجوابًا بخطي، وخرج حكم عكا في الكتابة عن شرطي، فقلت لأصحابي: ما صرف الله قلمي عن عكاء، إلا وفي علمه أن الكفر إليها يعود، وأن النحوس تحلها، وترحل عنها السعود، واستعاذني الله من استعادتها، وردها إلى شقاوتها بعد سعادتها. ولقد عصم الله قلمي وكلمي، وعرف شيم مخايل الطاقة من شيمي، وهذا قلم جمعت به أشتات العلوم مدة عمري، وما أجراه الله إلا بأجري، فالحمد لله الذي صانه وعظم شانه، وما ضيع إحسانه، وهو للفقير والفتيا، ومصالح الدين في الدنيا، وما عرف إلا بعرف، فما صرف إلا عن صرف، وما صفارته إلا في نجح، وما أسفاره إلا عن صبح، وما تجارته إلا لربح، فهو يمين الدولة وأمينها، ومعين الملة بل معينها، بمداده يستمد إمدادها، وبسداده للثغور سدادها، ودواته دواء المعضلات، وبعقده حل المشكلات، وبخطه حط عوادي الخطوب، وبقطه قط هوادي القطوب، وببريه برء الأمراض، وبدرئه درء الأعراض، وبدرِّه انتظام عقود العقول، وبداريه ابتسام الإقبال والقبول، وبجريه جري الجياد للجهاد، وبسعيه سعي الأمجاد للأنجاد، وبحركته سكون الدهماء، وببركته ركون الرجاء، فما كان الله ليضيعه في صون ما لا يصونه وعون ما لا يعينه، فخفت على عكاء من وقوف قلمي عنها، وكان قد ألهمني الله، فإنه صانه ولم يصنها، وشكرت الله على هذه اللطيفة والعارفة الطريفة.» ا.ﻫ.

وقال من فصل في وفاة السلطان، وكيف كانت حاله بعده: «وبقيت تلك الأيام لا أفرق بين الدجى والضحى، ولا أجد قلبي من سقم الهم وسكره صح ولا صحا، وحالت حالي، وزال إدلالي، وزاد بلبالي، وبطل حقي، واتسع خرقي، وتنازل جاهي، وتنازق أشباهي، وأعضلت أدواء الدواهي، وبقيت المعارف متنكرة، والمطالع مكفرة، والعيون شاخصة، والظلال قالصة، والأيدي يابسة، والوجوه عابسة، وعادت أبكار خواطري عانسة، ونجوم قرائحي وشواردها الآنسة خانسة كانسة، وبقي باب كل مرتجى مرتجًا، ومنهج كل معروف منهجًا، وظعن الغني عني، واختلف في حسن الأخلاف بي ظني، حتى تولى الملك الأفضل بدمشق مقام أبيه، وقام بالأمر بعزم تأنيه وحزم تأتِّيه وعز تأبِّيه، فعرف افتقاره إلى معرفتي وفقري، وإلى عطل الملك ومحله من غزارة حلب دري ونضارة حلي دري، فكتبت له، وحليت من الملك عطله، ووشيت الكتب ووشعتها، وجليت الرتب ووسعتها، وهززت اليراعة، وأغزرت البراعة، وهجرت الجماعة، ولزمت القناعة.» ا.ﻫ.

هذا هو الإعجاب بالنفس، بل إعجاب الفرس تراه ماثلًا من أول كتابه إلى آخره، فقد قال في مقدمته: «وأودعته من فوائد الكلام، والفرائد الفذ والتؤام، در السحاب، ودر السخاب، وسميته الفتح القدسي تنبيهًا على جلالة قدره وتنويهًا بدلالة فخره، وعرضته على القاضي الأجل الفاضل، وهو الذي في سوق فضله تعرض بضائع الفضائل، فقال لي: سمِّه «الفتح القسي في الفتح القدسي»، فقد فتح الله عليك فيه بفصاحة قس وبلاغته، وصاغت صيغة بيانك فيه ما يعجز ذوو القدرة في البيان عن صياغته.» ا.ﻫ.

وأظن أن القاضي الفاضل على جلالة شأنه ما كان يستحق هذا الإعظام من العماد لو لم يكن نوه له بكتابه، على أن للعماد من المزايا التي يفاخر بها ما قد يغفر له هذا التبجح، ولكن كثيرين يفاخرون، وليس عندهم شيء من المزايا. نشأ العماد بأصبهان، وقدم بغداد في حداثته، وتفقه بالمدرسة النظامية، وأقام بها مدة (ابن خلكان)، ولما تخرج ومهر تعلق بالوزير عون الدين يحيى بن هبيرة ببغداد، فولاه النظر بالبصرة ثم بواسط، فلما توفي أقام العماد مدة في عيش منكد وجفن مسهد، ثم انتقل إلى دمشق (٥٦٢ﻫ) وسلطانها يومئذ الملك العادل نور الدين، وعرفه والد صلاح الدين، فأحسن إليه وأكرمه وميَّزه من الأعيان والأماثل، وعرفه صلاح الدين ومدحه بقصيدة، ثم إن القاضي كمال الدين الشهرزوري نوَّه بذكره عند السلطان نور الدين، وعدَّد عليه فضائله، وأهَّله لكتابة الإنشاء، قال العماد: فبقيت متحيرًا في الدخول فيما ليس من شأني ولا وظيفتي ولا تقدمَتْ لي به دراية. ولقد كانت مواد هذه الصناعة عتيده عنده، لكنه لم يكن قد مارسها، فجبن عنها في الابتداء، فلما باشرها هانت عليه، وأجاد فيها وأتى فيها بالغرائب، وكان ينشئ الرسائل باللغة العجمية أيضًا، وحصل بينه وبين صلاح الدين في تلك المدة مودة أكيدة وامتزاج تام، ولما أخذ صلاح الدين دمشق حضر بين يديه، وأنشده قصيدة أطال نفسه فيها، ثم لزم الباب ينزل لنزول السلطان ويرحل لرحيله، فاستمر على عطلته مديدة، وهو يغشى مجالس السلطان، وينشده في كل وقت مدائح، ويعرض بصحبته القديمة، ولم يزل على ذلك حتى نظمه في سلك جماعته واستكتبه، واعتمد عليه، وقرب منه فصار من جملة الصدور المعدودين والأماثل المشهورين، يضاهي الوزراء ويجري في مضمارهم، وكان القاضي الفاضل في أكثر أوقاته ينقطع عن خدمة السلطان، ويتوفر من مصالح الديار المصرية والعماد ملازم للباب بالشام وغيره وهو صاحب السر المكتوم، وصنَّف التصانيف الفائقة من ذلك كتاب خريدة القصر وجريدة العصر جعله ذيلًا على زينة دمية الدهر تأليف أبي المعالي سعد بن على الوراق الخطيري، والخطيري جعل كتابه ذيلًا على دمية القصر وعصرة أهل العصر للباخرزي، والباخرزي جعل كتابه ذيلًا على يتيمة الدهر للثعالبي، والثعالبي جعل كتابه ذيلًا على كتاب البارع لهارون بن علي المنجم.

وقد ذكر العماد في خريدته الشعراء الذين كانوا بعد المائة الخامسة إلى سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة، وجمع شعراء العراق والعجم والشام والجزيرة ومصر والمغرب، ولم يترك أحدًا إلا النادر الخامل، وأحسن في هذا الكتاب وهو في عشر مجلدات، وصنَّف كتاب البرق الشامي في سبع مجلدات وهو مجموع تاريخ، وبدأ فيه بذكر نفسه وصورة انتقاله من العراق إلى الشام، وما جرى له في خدمة السلطان نور الدين محمود، وكيفية تنقله بخدمة السلطان صلاح الدين، وذكر شيئًا من الفتوحات بالشام، وهو من الكتب الممتعة، وإنما سماه البرق الشامي؛ لأنه شبَّه أوقاته في تلك الأيام بالبرق الخاطف لطيبها وسرعة انقضائها، وصنَّف كتاب الفتح القسي في الفتح القدسي في مجلدين يتضمن كيفية فتح البيت المقدس، وصنَّف كتاب السيل على الزيل جعله ذيلًا على الذيل لابن السمعاني، وهو ذيل على كتاب خريدة القصر، وصنَّف كتاب نصرة الفترة وعصرة القطرة في أخبار الدولة السلجوقية (مطبوع)، وله ديوان رسائل وديوان شعر في أربع مجلدات، ونفسه في قصائده طويل، وله ديوان صغير جميعه دوبيت، وكان بينه وبين القاضي الفاضل مكاتبات ومحاورات لطاف.

ولم يزل العماد الكاتب على مكانته ورفعة منزلته إلى أن توفي السلطان صلاح الدين — رحمه الله تعالى — فاختلت أحواله، وتعطلت أوصاله، ولم يجد في وجهه بابًا مفتوحًا، فلزم بيته، وأقبل على الاشتغال بالتصانيف، وكانت ولادته يوم الاثنين ثاني جمادى الآخرة سنة تسع عشرة وخمسمائة بأصبهان، وتوفي يوم الاثنين مستهل شهر رمضان سنة سبع وتسعين وخمسمائة بدمشق، ودُفن بمقابر الصوفية خارج باب النصر.

أما ابن شداد مؤلف السيرة الصلاحية فقد ولد بالموصل سنة ٥٣٩ وحفظ بها القرآن الكريم في صغره، وتخرَّج بضياء الدين القرطبي وبابن الشيرجي والطوسي الخطيب وغيرهم، قرأ عليهم القراءات والتفسير والحديث والفقه والخلاف والأدب واللغة، وأعاد بالمدرسة النظامية وحجَّ في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، وزار بيت المقدس والخليل، ثم دخل دمشق والسلطان صلاح الدين محاصر قلعة كوكب، فذكر أنه سمع بوصوله فاستدعاه إليه فظن أن يسأله عن كيفية قتل الأمير شمس الدين، وكان أمير الحاج في تلك السنة من جهة صلاح الدين وقُتل على جبل عرفات، فلما دخل عليه ذكر أنه قابله بالإكرام التام وما زاد على السؤال عن الطريق ومن كان فيه من مشايخ العلم والعمل وسأله عن جزء من الحديث ليسمعه عليه، فأخرج له جزءًا جمع فيه أذكار البخاري وأنه قرأه عليه بنفسه، فلما خرج من عنده تبعه عماد الدين الكاتب الأصبهاني وقال له: السلطان يقول لك: إذا عدت من الزيارة وعزمت على العود فعرِّفنا بذلك فلنا إليك مهم، فأجابه بالسمع والطاعة، فلما عاد عرَّفه بوصوله فاستدعاه، وجمع له في تلك المدة كتابًا يشتمل على فضائل الجهاد، وما أعد الله سبحانه وتعالى للمجاهدين، يحتوي على مقدار ثلاثين كراسة، فخرج إليه واجتمع به ببقعة حصن الأكراد وقدَّم له الكتاب الذي جمعه، وقال: إنه كان عزم على الانقطاع في مشهد بظاهر الموصل إذا وصل إليها، ثم إنه اتصل بخدمة صلاح الدين في مستهل جمادى الأولى سنة أربع وثمانين وخمسمائة، ثم ولاه قضاء العسكر والحكم بالقدس الشريف، ولما توفي صلاح الدين كان حاضرًا وتوجه إلى حلب لجمع كلمة الإخوة أولاد صلاح الدين وتحليف بعضهم لبعض، وكتب الملك الظاهر غياث الدين بن صلاح الدين صاحب حلب إلى أخيه الملك الأفضل نور الدين علي بن صلاح الدين صاحب دمشق يطلبه منه فأجابه إلى ذلك، فأرسله الملك الظاهر إلى مصر لاستخلاف أخيه الملك العزيز عماد الدين عثمان بن صلاح الدين، وعرض عليه الظاهر الحكم بحلب، فلم يوافق على ذلك، ثم ولي قضاءها ووقوفها، وكانت حلب في ذلك الزمان قليلة المدارس، وليس بها من العلماء إلا نفر يسير، فاعتنى ابن شداد بترتيب أمورها وجمع الفقهاء بها وعمرت في أيامه المدارس الكثيرة، وكان الملك الظاهر قد قرر له إقطاعًا جيدًا يحصل منه جملة مستكثرة، ولم يكن له خرج كثير فإنه لم يولد له ولا كان له أقارب، فتوفر له شيء كثير فعمر مدرسة للشافعية ودارًا للحديث في حلب، ولما صارت حلب على هذه الصورة قصدها الفقهاء من البلاد، وحصل بها الاشتغال والاستفادة وكثر الجمع بها.

وكان بيد القاضي أبي المحاسن بن شداد حل الأمور وعقدها، ولم يكن لأحد معه في الدولة كلام، وكان سلطانها الملك العزيز أبو المظفر ابن الملك الظاهر ابن السلطان صلاح الدين، وهو صغير السن تحت حجر الطواشي شهاب الدين أبي سعيد طغرل وهو أتابكه، وتولى أمور الدولة بإشارة القاضي أبي المحاسن لا يخرج عنهما شيء من الأمور، وكان للفقهاء في أيامه حرمة تامة ورعاية كبيرة، خصوصًا جماعة مدرسته، فإنهم كانوا يحضرون مجالس السلطان، ويفطرون في شهر رمضان على سماطه.

قال صاحب وفيات الأعيان بعد إيراد ما تقدم تحصيله: وكان القاضي أبو المحاسن المذكور سلك طريق البغاددة في ترتيبهم وأوضاعهم، حتى إنه كان يلبس ملبوسهم والرؤساء يترددون إليه، وكانوا ينزلون عن دوابهم على قدر أقدارهم لكل واحد منهم مكان معين لا يتعداه، ثم إنه تجهز إلى الديار المصرية لإحضار ابنة الملك الكامل ابن الملك العادل للملك العزيز صاحب حلب، وكان قد عقد له عليها، فسار في أول سنة تسع وعشرين وستمائة وعاد وقد جاء بها، ولما وصل كان قد استقل الملك العزيز بنفسه، ورفعوا عنه الحجر، ونزل الأتابك طغرل من القلعة إلى داره تحت القلعة، واستولى على الملك العزيز جماعة من الشباب الذين كانوا يعاشرونه ويجالسونه فاشتغل بهم، ولم ير القاضي أبو المحاسن وجهًا يرتضيه، فلازم داره إلى حين وفاته، وهو باق على الحكم وإقطاعه جار عليه، غاية ما في الباب أنه لم يبق له حديث في الدولة، وكانوا يراجعونه في الأمر، فكان يفتح بابه لأسماع الحديث كل يوم بين الصلاتين، واستمر على ذلك حتى توفي سنة اثنتين وثلاثين وستمائة بحلب، وصُنِّف كتابه ملجأ الحكام عند التباس الأحكام يتعلق بالأقضية في مجلدين، وكتاب دلائل الأحكام تكلَّم فيه على الأحاديث المستنبط منها الأحكام في مجلدين، وكتاب الموجز الباهر في الفقه، وكتاب سيرة صلاح الدين وغير ذلك، وجعل داره خانقاه للصوفية.

هذان هما الرجلان اللذان تعلقا بخدمة صلاح الدين، وحرص عليهما مع إدلالهما عليه، فنفقت بضاعتها في سوقه، والدولة سوق يُحمل إليها ما يروج فيها، ومع ما كانا فيه من السعة لم تلههما الدنيا عن التأليف والتدريس وإحياء معالم العلم والأدب، فأثرا بفضلهما في حياتهما، وبعد موتهما كتب العماد السيرة الصلاحية ممزوجة بالأدب، ومع هذا لم يفته الغرض من التاريخ، حتى إنه قال فيما تم على الأسطول من فصل: «فانشقت مرائر الفرنج، وأزاحت سفنها عن النهج، وقرنصت بزاة البيزانية، وتقلصت جباه الجنوية، وكرثت أدواء الداوية، وكثرت أسواء الإسبتارية، وزادت آلام الألمانية، وعادت أسقام الإفرنسيسية.»

مما دل على أنه كان يعلم أجناس المحاربين، ومما ذكره أيضًا في ذكر ما تجدد لملك الإنكتير (إنكلترا) من المراسلة والرغبة في المواصلة قال: وصلت رسل ملك الإنكتير إلى العادل بالمصافحة على المصافاة، والمواتاة في الموافاة، وموالاة الاستمرار على الموالاة، والأخذ بالمهادات، والترك للمعادات، والمظاهرة بالمصاهرة، وترددت الرسل أيامًا، وقصدت التئامًا، وكادت تحدث انتظامًا، واستقر تزوج الملك العادل بأخت ملك الإنكتير، وأن يعول عليهما من الجانبين في التدبير، على أن يحكم العادل في البلاد، ويجري فيها الأمر على السداد، وتكون المرأة في القدس مقيمة مع زوجها، وشمسها من قبوله في أوجها، ويرضي العادل مقدمي الفرنج والداوية والاستبار ببعض القرى، ولا يمكنهم من الحصون التي في الذرا، ولا يقيم معها في القدس إلا قسيسون ورهبان، ولهم منا أمان وإحسان، واستدعاني العادل والقاضي بهاء الدين بن شداد، وجماعة من الأمراء من أهل الرأي والسداد، وهم علم الدين سليمان بن جندر، وسابق الدين عثمان، وعز الدين بن المقدم، وحسام الدين بشارة، وقال لنا: تمضون إلى السلطان وتخبرونه عن هذا الشأن، وتسألونه أن يحكمني في هذه البلاد، فلما جئنا إلى السلطان عرف الصواب، وما أخر الجواب، وشهدنا عليه بالرضا، وعاد الرسول إلى ملك الإنكتير بفصل أمر الوصلة وإراحة الجملة وإزاحة العلة، واعتقدنا أن هذا أمر قد تم إلى أن قال: وبلغ الخبر إلى مقدميهم ورءوسهم، فقصوه على قسوسهم، وعسروا على عروسهم، فجبهوها بالعذل واللذع، ثم رضيت على شرط الموافقة في الدين، فأنف العادل إلى آخر ما ذكر.

بيد أن الصراحة في كلام ابن شداد أكثر؛ لأنه لم يتقيد بالسجع والترصيع وأنواع البديع المريع، فقال في ذكر ملك الإنكتار: وهذا ملك الإنكتار شديد البأس بينهم، عظيم الشجاعة، قوى الهمة، له وقعات عظيمة، وله جسارة على الحرب، وهو دون الفرنسيس عندهم في الملك والمنزلة، لكنه أكثر مالًا منه، وأشهر في الحرب والشجاعة، وكان من خبره أنه وصل إلى جزيرة قبرص، ولم ير أن يتجاوزها إلا وأن تكون له وفي حكمه، فنازلها وقاتلها فخرج إليه صاحبها، وجمع له خلقًا كثيرًا، وقاتلهم قتالًا شديدًا … ولما كان يوم السبت ثالث عشر الشهر قدم ملك الإنكتار بعد مصالحته لصاحب جزيرة قبرص والاستيلاء عليها، وكان لقدومه روعة عظيمة، ووصل في خمس وعشرين شانية مملوءة بالرجال والسلاح والعدد، وأظهر الإفرنج سرورًا عظيمًا حتى إنهم أوقدوا تلك الليلة نيرانًا عظيمة في خيامهم. ولقد كانت النيران مهولة عظيمة تدل على عدة عظيمة كبيرة، وكان ملوكهم يتواعدوننا به، فكان المستأمنون منهم يخبروننا عنهم أنهم موقنون فيما يريدون أن يفعلوا من مضايقة البلد (عكا) حتى قدومه، فإنه ذو رأي في الحرب مجرب، وأثر قدومه في قلوب المسلمين خشية ورهبة.

وقال من فصل: كنت ذكرت وصول رسول منهم يلتمسون من جانب الإنكتار أن يجتمع بالسلطان، وذكرت عذر السلطان عن ذلك، وانقطع الرسول وعاد معاودًا في المعنى، وكان حديثه مع الملك العادل ثم هو يلقيه إلى السلطان، واستقر أنه رأى أن يأذن له في الخروج، ويكون الاجتماع في المرج والعساكر محيطة بهما ومعهما ترجمان، فلما أذن في ذلك تأخر الرسول أيامًا عنده بسبب مرضه، واستفاض أن ملوكهم اجتمعوا عليه، وأنكروا عليه ذلك، وقالوا: هذه مخاطرة بدين النصرانية، ثم بعد ذلك وصل رسول يقول: لا تظن تأخري بسبب ما قيل، فإن زمام قيادي مفوض إلي، وأنا أحكم ولا يُحكم علي، غير أني في هذه الأيام اعترى مزاجي التياث منعني عن الحركة، فهذا كان العذر في التأخير لا غير، وعادة الملوك إذا تقاربت منازلهم أن يتهادوا، وعندي ما يصلح للسلطان، وأنا أستخرج الإذن في إيصاله إليه، فقال له الملك العادل: قد أذن في ذلك بشرط قبول المجازاة على الهدية، فرضي الرسول بذلك، وقال: الهدية شيء من الجوارح قد جلب من وراء البحر وقد ضعف، فيحسن أن يحمل إلينا طير ودجاجة حتى نطعمها لتقوى ونحملها، فداعبه الملك العادل، وكان فقيهًا فيما يحدثهم به، فقال الملك: قد احتاج إلى فراريج ودجاج، ويريد أن يأخذها منا بهذه الحجة، ثم انفصل حديث الرسالة في الآخر، على أن قال الرسول: ما الذي أردتم منا إن كان لكم حديث، فتحدثوا به حتى نسمع، فقيل له عن ذلك نحن ما طلبناكم أنتم طلبتمونا، فإن كان لكم حديث فتحدثوا به حتى نسمع، وانقطع حديث الرسالة إلى سادس جمادى الأخرى، فخرج رسول الإنكتار إلى السلطان، ومعه إنسان مصري قد أسروه من مدة طويلة، وهو مسلم قد أهداه إلى السلطان فقبله وأحسن إليه، وأعاده مشرفًا مكرمًا إلى صاحبه، وكان غرضه بتكرار الرسائل تعرُّف قوة النفس وضعفها، وكان غرضنا بقبول الرسائل تعرُّف ما عنده من ذلك أيضًا.

وقال في مشورة ضربها في التخيير بين الصلحين بين الإنكتار والمركيس: واصل التعاقد، إن الملك (الإنكتار) قد بذل أخته للملك العادل بطريق التزويج، وأن تكون البلاد الساحلية الإسلامية والإفرنجية لهما، فأما الإفرنجية فلها من جانب أخيها والإسلامية له من جانب السلطان، وكان آخر الرسائل من الملك في المعنى أن قال: إن معاشر دين النصرانية قد أنكروا عليَّ وضع أختي تحت مسلم بدون مشاورة البابا وهو كبير دين النصرانية ومقدمه، وها أنا أسيِّر إليه رسولًا يعود في ستة أشهر، فإن أذن فيها ونعمت، وإلا زوجتك ابنة أخي وما أحتاج إلى إذنه في ذلك، هذا كله وسوق الحرب قائم والقتال عليهم ضربة لازم.

وقال في عود الرسول من قبل ملك الإنكتار: وأدى الرسالة وهي أن الملك يسأل ويخضع لك أن تترك له هذه الأماكن الثلاثة عامرة، وأي قدر لها في ملكك وعظمتك، وما من سبب لإصراره عليها إلا أن الإفرنج لم يسمحوا بها، وقد ترك القدس بالكلية، فلا يطلب أن يكون فيه رهبان ولا قسوس إلا في القمامة وحدها، فأنت تترك له هذه البلاد، ويكون الصلح عامًّا، فيكون لهم كل ما في أيديهم من الدارون إلى أنطاكية، ولكم ما في أيديكم وينتظم الحال ويروج، وإن لم ينتظم الصلح فالإفرنج لا يمكنونه من الرواح ولا يمكن مخالفتهم، فانظر إلى هذه الصناعة في استخلاص الغرض باللين تارة والخشونة أخرى، وكان مضطرًا إلى الرواح، وهذا عمله مع اضطراره، والله الولي في أن يقي المسلمين شره، فما بلونا أعظم حيلة وأشد إقدامًا منه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤