ارتقاء العرب وانحطاطهم١

بحثت الأمم المتحضرة منذ الزمن الأطول في الأخلاق، وكان لمؤلفي العرب حظ وافر في هذا الموضوع، شأنهم في أكثر العلوم التي عالجوها ونجحوا في الخوض فيها.

وأكثر العلماء على أن الأخلاق تصلح بالتعليم والتربية، ولا سيما ما كان منها مستفادًا بالعادة والتدرب، وليس من الغريزة في شيء، فإن من غلبت عليه السويداء أو الحدة مثلًا، لا يطمع في استصلاحه إلَّا بطول الزمن والتوفر على المعالجة، والمرء ينتقل بالتأديب والمواعظ إمَّا سريعًا أو بطيئًا، ومن قال: إن الخلق طبيعي لا يخرج الإنسان عن أحكامه، فقد قال على رأي ابن مسكويه بإبطال قوى التمييز والعقل، وبرفض السياسات كلها، وترك الناس همجًا مهملين، وبترك الأحداث والصبيان على ما يتفق أن يكونوا عليه بغير سياسة ولا تعليم.

لا جرم أن للإقليم — كالحرارة والبرودة والاعتدال والخصب والقلة — تأثيرًا كبيرًا في الطباع، وهي من جملة العوامل في ارتفاع الأمم وتدليها، ولكن ما ينقص بتأثير المحيط والبيئة والهواء قد تجبره التربية.

فقد رأينا العرب قاموا من جزيرتهم وهي في غاية الحرارة وكانوا نصف متمدنين، فانثالوا على الشرق والشمال، ففتحوا فارس والشام ومصر وغيرها، ولم يعقهم عائق من إقليمهم وحرارته وأوغلوا عليهم، رأيناهم وقد طهر الإسلام من أخلاقهم، وهذبهم وعلمهم الصبر والمضاء والرفق والتسامح، والترفع عن الدنايا، فنشروا في البلاد المغلوبة في سنين قليلة دينهم ولسانهم على صورة لم يكد يسبق لها مثيل في العالم، ولا نذكر أنه كتب لأمة أن غلبت ونمت بمثل هذه السرعة، فقلبت وجه الأرض وأطاعتها العناصر والأديان المختلفة في آسيا وأفريقيا وأوروبا، فلو كان للحرارة في قيام الأمة أو الفرد كل ما يدعيه بعضهم من التأثيرات، لما أنشأت العرب مدنيتها، ولا ارتفعت في الأرض قرونًا كلمتها. قال بنتام صاحب روح الشرائع: الظاهر كل الظهور أن سكان البلاد الحارة أقل قوة ونشاطًا من سكان البلاد الباردة، وحاجتهم للعمل أقل لخصب أرضهم، وهم أميل إلى العشق واللذات تبادرهم مظاهرها.

وهذا القول لا يصح على إطلاقه؛ لأن التاريخ قد أتى بأمثلة كثيرة قديمًا وحديثًا على نقض هذا الرأي، فالعرب في القدماء واليابان في المحدثين أكبر دليل على نقض قول بنتام، وإذا كان للهواء بعض التأثير في النشاط، فإن للبرودة تأثيرات أخرى تعوق العقل الإنساني عن كل ما يُنتظر منه، وإذا قيل: إن شمالي كل مملكة في أوروبا وأميركا أرقى مدنية من جنوبها في العادة، فلذلك عوامل أخرى تاريخية وسياسية فيما نرى، وإذا كان شمال فرنسا يتقدم جنوبهما من حيث الارتقاء وشمال ألمانيا وشمال إيطاليا، أرسخ في المدنية من جنوبها، وأميركا الشمالية أعلى كعبًا في هذا المعنى من أميركا الجنوبية، فقد رأينا جنوب أوروبا على عهد الرومان والعرب يتقدم شمالها، بل رأينا جنوب بلاد العرب أرقى من شمالها على عهد عز الأمة العربية، وهذا يرجع إلى الحكومة في أغلب الحالات، واتخاذ البلد الفلاني مركزًا لتتوفر العناية به وبأهله، فتتناول المدنية الأقرب فالأقرب من نقطة دائرتها.

فالقول بأن شعوب البلاد الحارة يحكم عليها إقليمها، فلا تفوز بكبير أمر في المجتمع الإنساني قول فيه نظر؛ لأن العقل والتهذيب اللذين بهما حياة الممالك وسقوطها ينشآن من البلاد الحارة كما ينشآن من البلاد الباردة.

ولو اقتضى أن يكون سكان كل بلاد باردة راقين في مناحيهم وحضارتهم، لاستلزم أن يكون سكان سيبيريا أرقى من سكان إنكلترا، ولو كان أهل كل بلاد حارة منحطين لما شاهدنا المصريين اليوم أصبحوا بالتربية في أربعين سنة يشبهون الراقين من أهل أوروبا وأميركا، بل ولترتب على ذلك أن يكون سكان جنوبي أفريقيا، وأكثرهم من جالية هولاندة منحطين مثل جيرانهم السودان؛ لغلبة الإقليم على طباعهم بعد بطون وأجيال.

قال فوليه الفيلسوف الفرنساوي: لقد خرج كثير من الشعوب الفاتحة من البلاد الحارة مثل العرب على عهد عمر وعثمان، وكذلك الموحدون والمرابطون، أمَّا القول بأن البلاد الحارة تولد القسوة على رأي مونتسكيو، فقد شوهدت القسوة ماثلة للعيان في تاريخ عامة بني الإنسان، رأيناها متجلية في اليونان، ورومية، وإيطاليا، وإسبانيا، وإنكلترا، وروسيا كما ظهرت في مصر وآشور وفارس. ولقد سكن الإسكيمو في بلاد باردة، فكانوا أكثر توحشًا من الذئاب والدببة التي ملأت صحاريهم. ا.ﻫ.

بغداد من البلاد الحارة نشأت فيها مدنية عربية مدهشة، ولما انتظمت حكومتها وحسنت تربية سكانها، أفاضت النور على الأرض كلها، فعُد عصر المأمون فيها من العصور الزاهرة بكل العلوم والصناعات، كما عُد عصر بركليسي في أتينة، وعصر أغسطس في رومية. وتعد القسطنطينية من الأقاليم الباردة المعتدلة، حاول محمد الفاتح أن ينشئ لها مدنية مع ما كان فيها من أثر لا يستهان به من بقايا عز قديم، فلم يوفَّق إلى ذلك، فغلبت طباع الترك طباع الإقليم. والترك أمة صربية لم تعهد للترقي الحقيقي عصرًا، وكانت قرائح أبنائها محصورة على الدوام في الحرب فقط، فلما كانت الغلبة لهم والفتوح مواتية والعيش رخاء، لم يتأدبوا بأدب النفس، ولم يدخلوا في التربية الصحيحة من أبوابها؛ فلذلك لم تستقم لهم حضارة ثابتة، وقضى الترك على آخر آثار مدنية البيزنطيين يوم حلوا محلهم، واستولوا على تراثهم، كما قضوا على البقية الباقية من مدنية العرب، وغيرهم من الأمم ذات المجد المعتبر، ولم يتيسر لهم ويا للأسف إقامة شيء جديد، وليس الذنب في ذلك كله على طباع رسخت فيهم، بل العيب كل العيب على نظام حكومتهم، وغلوهم في تكبير رقعة مملكتهم مع سوء إدارتهم، فقد رأينا شعوبًا أحط منهم جنسًا أنشئوا لهم مدنية، وأحسنوا لمن انضووا تحت رايتهم على الأغلب، أمَّا الترك فكان رائدهم في فتوحاتهم الغزو واستجلاب الغنائم، ففتحوا بلادًا يستحيل عليهم أن يخضعوها لسلطانهم أبد الدهر؛ لأن أهلها أرقى منهم مدنية وعنصرًا، ولا يرجى أن يكونوا منحطين عنهم أبدًا، وفي تاريخ استيلاء الترك على المجريين، واليونانيين، والرومانيين، والصربيين، والبلغاريين، وفي حالة هذه الأمم على عهد الترك وحالتها بعدهم، أكبر دليل على أن العبرة في الفتوح بالأخلاق الفاضلة، والطباع اللينة، واقتباس النافع من أسباب النشوء والارتقاء بالقوس والنشاب والمدافع والحراب.

حكى لي أحد قناصل فرنسا على عهد العثمانيين في هذه الحاضرة أنه كان قنصلًا في طرابلس الغرب، وكان صديقًا لأحد كبار عمال الأتراك هناك، وكان هذا لا يفتأ يطعن في العرب، ويبدي الاشمئزاز من حالهم، فلما عيل صبر القنصل الفرنساوي، وكان محبًّا للعرب يعرف لسانهم وتاريخهم ومدنيتهم فاتح صاحبه ذات يوم بالأمر، وسأله عن سر كراهيته للعرب، فأجابه العامل التركي: إني لا أعرف لذلك سببًا إلَّا ما أراه من انحطاطهم، فقال له: سامحك الله إن العرب استولوا قرونًا على كثير من البلاد التي استوليتم أنتم معاشر الترك عليها، كما استولوا على غيرها، وها هي آثار مدنيتهم ظاهرة إلى اليوم من بلاد إسبانيا إلى بلاد الصين، وأنتم قد حكمتم قرونًا أيضًا، فأين مدنيتكم إن لم تكونوا قضيتم على حضارة من سبقوكم وخربتم العامر منها؟! فإذا انحط العرب فبسياستكم أنفسكم، فدهش العامل التركي ولم ينبس ببنت شفة، ورجع عن النَّيْل من العرب.

وعندي أن ذاك العامل لو درس ولو قليلًا لغة العرب وتاريخهم، لما بدا منه هذا السخف في إسقاط أمة عظيمة جديرة بالتجلة، وهيهات أن يلبسها غير صورتها الحقيقية بمجرد ثرثرات يلوكها وترهات يدلي بها.

ومثل هذا العامل إذا تولى ولاية وكان ذا إرادة قوية يؤخر من تحت يده، ولا سيما إذا كانوا عربًا عقودًا من السنين إلى الوراء، وبهذه المناسبة أذكر لكم قصة وقعت لي بالذات مع والٍ من ولاة دمشق على عهد العثمانيين، وكان ثرثارًا مثل أكثر عمالهم تظنه لأول وهلة على شيء من العلم والفهم، حتى إذا ما درست أخلاقه وجدته قاسيًا جاهلًا ليس عنده شفقة، ولم تتشبع روحه بالتربية الفاضلة وعلمه طلاء، كالقصب الذي يعلقه على صدره؛ ليتراءى لك لأول أمره ذهبًا إبريزًا، كتب إلي قائم مقام عجلون مرة يقول لي: إن أهل قضائه عزموا على أن ينشئوا ستين مكتبًا أهليًّا لتعليم أحداثهم، وأنهم جمعوا لذلك المال فهو يرجو أن أنتخب له ستين معلمًا، فشرعت أبحث مدة ثلاثة أشهر عن كفاة يليقون للتعليم، فلم أجد سوى ثلاثة عشر، ولما عزمت على تسفيرهم من الغد أخذتهم إلى الوالي، وذكرت له قضيتهم؛ ليطلع على الأمر قبل أن يطلعه عليه جواسيسه، فكان أول سؤال سألهم إياه هل تعرفون التركية، فلما أجابوا بغير الإيجاب امتقع لونه، والتفت إليَّ قائلًا: وكيف ذلك فقلت له: أرجو أن يتعلموا، ومهمتهم الآن تعليم أبناء الفلاحين مبادئ القراءة والكتابة والحساب، والأمور الدينية فقط فسكت وانصرفنا، وبعد ساعتين أتتني برقية من قائم مقام عجلون يتوسل إليَّ ألَّا أرسل المعلمين بعد أن كان يلح في إرسالهم، فعلمت عقيب ذلك أن الوالي أبرق لعامله في جبل عجلون بعد خروجي من عنده، يلومه على اعتماده عليَّ في انتقاء معلمين لمدارس أهلية، ولما عاتبت الوالي في إحدى العشايا قال لي: وهل أنت كنت تظن أن الدولة تعطيكم سلاحًا تقاتلونها به، إن من سياستنا ألَّا تتعلموا، فتألمت نفسي وأقسمت في سري أن هذه الدولة لا تدوم، وكل دولة تعد جهل الأمة سلاحها في التحكم برقاب من تحكمه تهلك وإياهم، والعدو العاقل خير من الصديق الجاهل.

رجع إلى العرب ومدنيتهم، وأن أخلاقهم كانت سببًا في علوهم، فلما فسدت فسدوا وتراجع سلطانهم، فقد ذكر المؤرخون أن العرب أسسوا أيام جاهليتهم ممالك صغرى في العراق والشام، وانتشروا خلف شبه جزيرتهم، ومنهم من سكن بوادي مصر، وملكوا بالإرث جميع صحارى أفريقيا، منفصلين من أعلى شمال آسيا برمال كالبحار أمنوا بها هجمات الفاتحين، وانفردوا بحريتهم وعظمتهم؛ لجلالة أصولهم وشهامتهم، وفصاحة لغتهم الباقية على نقائها، واتجروا مع من يأتي إلى مراكزهم من تجار الجنوب والمشرق، واكتسوا معارف مَن جاورهم من الأمم، فكانت الأمة العربية متغلبة على من جاورها مدة أربعة آلاف سنة.

قال سيد يلبسو صاحب تاريخ العرب: وبما انفردت به الأمة العربية من جميل الأخلاق والعادات، كانت منذ نشأة أقدم الدول مدبرة لأمورها، متأهبة للإغارة على مجاوريها، فقد استولت على مملكتي مصر وبابل قبل الميلاد بتسعة عشر قرنًا، ثم أخذ منها ما ملكته من البلاد الأجنبية، وانحصرت سلطاتها في مملكتها الأصلية، فأخذت تحارب الفراعنة وملوك العراق، ونجت من تسلط قورش ملك الفرس والإسكندر المقدوني، وبقيت على استقلالها زمن أخذ الرومان العالم القديم، ثم جاء النبي — عليه الصلاة والسلام — فربط علائق المودة بين قبائل جزيرة العرب، ووجه أفكارهم إلى مقصد واحد، فعلا شأنهم حتى امتدت سلطنتهم من نهر التاج — المار بإسبانيا والبرتغال — إلى نهر الكنج — أعظم أنهار الهند — وانتشر نور المعارف والتمدن في المشرق والمغرب، وأهل أوروبا إذ ذاك في جهل القرون الوسطى، وكأنهم نسوا ما وصل إليهم من أحاديث اليونان والرومان.

وقد عني العباسيون ببغداد، والأمويون بقرطبة، والفاطميون في القاهرة بنشر العلوم والفنون، ثم تمزقت ممالكهم وفقدوا شوكتهم السياسية، ولم تبقَ لهم إلَّا السلطة الدينية التي استمرت لهم في سائر أرجاء ممالكهم، وكان لهم من العلوم والصناعات والاكتشافات ما استفاده منهم نصارى إسبانيا حين طردوهم منها، فقدَ العرب في أواخر القرن الثامن بعد الميلاد حماستهم الحربية، وشغفوا بالمعارف، فما لبثت قرطبة، وطليطلة، والقاهرة، وفاس، ومراكش، والرقة، وأصفهان، وسمرقند تناظر بغداد في الأخذ بأسباب العلوم والمعارف، وقرئ ما تُرجم إلى العربية من كتب اليونان في المدارس الإسلامية، وبذل العرب همتهم في الاشتغال بجمع ما ابتكرته العقول البشرية من العلوم والفنون، وأُعرفوا في معظم البلاد خصوصًا في الأصقاع المسيحية من أوروبا بابتكارات تدل على أنهم أئمة المعارف، وقد مارسوا العلوم الصحيحة على غاية النشاط من القرن التاسع إلى القرن الخامس عشر (من سنة ٢٨٨–٩٠٧ﻫ).

وقال جيون في كلامه على حماية المسلمين للعالم في الشرق وفي الغرب: إن ولاة الأقاليم والوزراء كانوا ينافسون الخلفاء في إعلاء مقام العلم والعلماء، وبسط اليد في الإنفاق على إقامة بيوت العلم، ومساعدة الفقراء على طلبه، وكان من ذلك أن ذوق العلم ووجدان اللذة في تحصيله قد انتشرا في نفوس الناس من سمرقند وبخارى إلى فاس وقرطبة، وقد أنفق وزير واحد لأحد السلاطين — هو نظام الملك — مائتي ألف دينار على بناء مدرسة في بغداد — المدرسة النظامية — وجعل لها من الريع ليصرف في شئونها خمسة عشر ألف دينار في السنة، وكان الذين يغذون بالمعارف فيها ستة آلاف تلميذ، فيهم ابن أعظم العظماء في المملكة، وابن أفقر الصناع فيها، غير أن الفقير ينفَق عليه من الريع المخصص للمدرسة، وابن الغني يكتفي بمال أبيه، وكان المعلمون يُنقدون رواتب وافرة.

ذاك رأي سيديليو في العرب وأخلاقهم وما نشأ عنها، وهذا رأي جيون وإعجابه بمدنيتهم، فماذا وقع لتلك النفوس الأبية وذاك العمران المستمر؟ لا جرم أن لانحطاط الشعوب عوامل كثيرة طبيعية وأخلاقية، وبهذه العوامل أصيبت الأمة العربية كما أصيبت الأمة الإسبانية، فالعرب والإسبان يتشابهون من وجوه كثيرة، نشأ العرب كالإسبان من شبه جزيرتهم في الجنوب الغربي من أوروبا، وأولئك نشئوا من شبه جزيرتهم في الجنوب الغربي من آسيا، العرب فتحوا بلادًا كثيرة، ومنها البعيد الذي وزعوا قواهم في استصفائه وإدارته، وكان يفصلهم عنها البحر، ففتحوا الأندلس وصقلية، بل وجميع الجزر الكبرى في جنوبي أوروبا، كما توسع الإسبان في فتوحهم على عهد شارلكان، فحكموا جزءًا مهمًّا من أوروبا، ثم ركبوا البحر، فاستعمروا معظم بلاد أميركا الجنوبية، ولو تأملنا عوامل الانحطاط التي فعلت في الإسبان لأثبتنا لها مثالًا في مجتمعنا، فقد ذكر نوليه أن العنصر الإسباني أصيب بما استنزف دمه، وصرف من قواه كل طاهر وحي، وكثيرًا ما أتت عليه أدوار هلكت في خلالها عناصره الحية وطبقاته العالية، فإن ديوان التفتيش الديني قضى على كل ما كان من إيمان، ومعتقد خاص، وفكر مستقل، وإرادة لا تقف أمام ما فيه المصلحة، ووجدان لا يلتوي ولا يتحول، وعلى ذلك العهد وبسوء هذه السياسة تداعت كثير من البيوت والأسر، ومنها ما كان بنوه من أهل الطبقة الممتازة بقرائحها وعقولها، فدعا فقدها إلى انقراض الصناعة والعلوم والآداب.

ولقد استعملت إسبانيا أقصى الشدة في قصاص من خالف دينها الذي تعتقد به، ثم أخذت تختار ممن تعدهم مؤمنين أناسًا هم من أذكيائها، وتقضي عليهم بالتبتل والترهب، فلم يولد لهم، واندثرت أنسالهم وذراريهم، وما من زمن جاء على إسبانيا كان فيه السعد والرغد، والحياة والنماء على حصة موفورة أكثر من أيام الرومان ومن غيرها على عهد الحضارة العربية في القرون الوسطى، فكان إذ ذاك في إسبانيا أربعون مليونًا من النفوس أرباب صنائع وأهل عمل، وفي تلك الأيام قامت فيها المدن الكبرى الجميلة التي لم نبرح نعجب بحسن هندستها وندهش بخرائبها، وعلى ذاك العهد كانت زراعتها ناجحة، وبفضل هندسة العرب كان الماء يجري إلى كل مكان في فلوات إسبانيا وقفارها.

ثم نشبت حروب شارلكان التي جن بها، وأهلك من الإسبانيين كل قوى الشكيمة في سبيلها، وكذلك ما تذرعت به إسبانيا من فتوحاتها في أميركا، وهي فتوحات فُقد منها المحاربون الأشداء أصحاب العزائم والإرادات القوية، ثم أن طرد اليهود من إسبانيا (سنة ١٤٩٢) وطرد العرب أجمع (سنة ١٦٠٩-١٦١٠) قد حرم إسبانيا من شعب عامل نشيط، وفي أساطير الشعب الإسباني أن إسبانيا طلبت إلى الخالق منذ البدء سماء جميلة فنالتها، وطلبت بحرًا جميلًا فرزقته، وأنمارًا طيبة ونساء حسانًا ففازت بهما، ولما طلبت حكومة صالحة رُد قولها؛ لأنها إذا تم لها ما تريد تصبح جنة أرضية لا محالة. قلنا: وهكذا كان شأن الشعب العربي، تفرق في جنوبي أوروبا وشمالي أفريقيا وغيرها، وجاءت عليه سبعة قرون، وهو السائد في العالم بسياسته وعلمه وصناعاته وآثاره، فكان قوله الفصل، وسياسته هي الرشيدة، فلما أخذ بعض ملوكه يحاربون العقل ويعادون الفلسفة، بل يقتلون أهلها، وجمدوا بأن أوصدوا باب الاجتهاد في كل شيء، وزهدوا في الصنائع النفيسة مدعين أنها مما يحظره الشرع، مع أن الشرع مرن يليق لكل عصر ومصر، تسربت إليهم الخرافات فأنشئوا يعتقدون بالقضاء والقدر على خلاف ما كان يعتقده أهل الصدر الأول، فقل فيهم أرباب البصيرة وضعفت فيهم الأسر الزكية، ثم إن الحروب والفتن الأهلية والخارجية تنازعتهم قرونًا قد هلك فيها أناس من أهل الطبقة النبيلة فيهم، ومنهم من لم يعقب، والغني الذي خلف أولادًا فُطروا على الترف والرفاهية، فأسرفوا في أموالهم وقواهم في الموبقات، فدثروا ودثرت أنسالهم. ومما عاق مجتمعنا في ميدان الترقي تسلط رجال الدين على جمهور الشعب، وعلى أكثر الحكومات زمنًا طويلًا، فساقوها إلى دركات التأخر بحسب أهوائهم، وضعف مداركهم، وعلمهم الناقص، ومن رجال الدين والقضاء من ليس لهم من العلم إلَّا العمائم، ومن الأخلاق إلَّا اختراع الطرف السافلة؛ لأخذ الأموال بالباطل، وما برحت الحكومات التي تسلطت على العرب تقرب عن قصد الجاهل من أهل تلك الطبقة على العالم، فيعبث الجاهل بالمقدسات، ويستحل المحرمات عن علم وعن غير علم، حتى جاء زمن على الأمة كانت فيه جاهلة متعصبة، فقيرة ذليلة، متسفلة في أخلاقها وعاداتها.

ومن عيوب الحكومات التي استولت علينا وكان أثرها ظاهرًا في الأخلاق، اعتماد الناس على الشفاعات والمصانعات والرشوات، حتى كان الملك نفسه إذا لم يهد إليه عامله هدية يريدها يعزله أو يقتله، فكانت الأمة من أرقى رجل يحكم في أرواحها إلى أدنى الطبقات فيها بين راش ومرتش، وسارق ومسروق؛ فضعفت ملكة الشمم، وعزة النفس، والمفاداة والأمل، وحل مكانها الذل والكسل واليأس، ثم إن تلك الحكومات المشئومة لم تنظم شئونها، ولم يكن لها تسلسل في أفكارها، فما كانت تقرره وتعتمد عليه من القوانين زمن الحاكم الفلاني، يأتي خلفه فينقضه من أساسه ويبتدع غيره؛ ولذلك لم يقم لها عمل يذكر من أعمال العمران؛ لأن حكامها يحكمون بأذواقهم، فهم أبدًا ما بين مبرم وناقض يعبث الخلف بما تعب فيه السلف.

ومن جملة الأمور التي عمت بها البلوى فساد نظام البيوت بتعدد الزوجات، والإكثار من التسري على غير داع، ففسد كثير من الأسر، ونغلت نيات الأولاد، وقل تبادل الحب بين أبناء الأب الواحد، وانحطت التربية، ولم تنتقل ثروة قرونًا من الأجداد إلى الأحفاد، حتى ولو وقفها صاحبها الأول إذ يجيء أناس من بعده يستحلون أكلها وتغيير شرطها، ثم إن التربية الاتكالية تأصلت في الأمة حتى لا ترى فيها على الأكثر إلَّا رجلًا يفكر في الطرق القريبة للإثراء والراحة، فإن كان ابن ذي نعمة ينتظر منذ وعيه على نفسه أباه أو أمه أو مورثه حتى يموت، فيستمتع على هواه بالمال من دون تعب، ويطلق لشهواته العنان، والغالب أن ابن الموسر لا يعمل، ولذلك قلَّما دامت ثروة هنا ثلاثة بطون، وقلَّما رأينا شبانًا يعتمدون على أنفسهم في تحصيل الثروة ويعدون الماهر، فيهم من يساعده التوفيق فيتزوج من فتاة عندها مال، غير ناظرين إلى شروط الزواج بين المتزوجين. ولحفظ الثروة رأت بعض الأسر أن تتساهل في تزويج الأقارب، فتزوِّج شبانها من بناتها حتى ضعف النسل، وكثر البله والزمنى والمرضى فيهم، وربما عضل كثير من الناس بناتهم ومنعهن عن الزواج؛ استبقاء للإرث في الذكور دون الإناث، وكثير من الأسر تحرم الإناث إرثهن، وتعاملهن معاملة البهائم، ولذلك تعطل جانب عظيم من الأمة وهم النساء، وظلمهن الرجال أي ظلم، فلم يفكروا في تعليمهن حق التفكير، ولا في سعادتهم الحقيقية، كأن المرأة خلقت بلا نفس كما كانوا يعتقدون في القديم في بعض بلاد الإفرنج.

ومن دواعي الانحطاط أن الهمة في الفرد عندنا لا تنبعث إلى أقصى حدودها، فإذا تذوق المتعلم لماظة من العلم يظن من نفسه الغناء في كل علم، ويكتفي بما لقنه في صغره فلا يعمد إلى البحث والنظر، وتنمية معلوماته، وإيجاد الجديد واختراع المفيد، بل يعتقد أن العمل كله في المدرسة، فإذا انتهت أيامها فليس له إلَّا الراحة واستثمار ما تعلم، فجاء متعلمونا وسطًا في كل شيء، والوسط لا يعمل عملًا في هذا المجتمع البشري، وكذلك الحال في الصانع والماهن والزارع، فأصبحنا أمة لا ترى فينا ماليًّا متفننًا، ولا زارعًا من النمط الأول، ولا رسامًا نابغة، ولا نقَّاشًا، ولا كيماويًّا، ولا ميكانيكيًّا، ولا غير ذلك ممن تشتد حاجة العمران إلى تكثير سواد العاملين فيه؛ ولذلك ندر فينا النوابغ، وانقطع سند هذه العلوم من الأمة، فجاءت عليها قرون وهي تحسب أن العلم كله محصور في بعض العلوم الدينية واللسانية، وعندهم أن من روى حديثًا نبويًّا، أو شارك في مسألة من فروع الفقه، أو قرض بيتين من الشعر عُد محدثًا أو فقيهًا أو أديبًا.

ومن بواعث تدلينا في سلم الاجتماع أننا لا نحسن العشرة، ولا نحسن الاجتماع؛ وذلك لاختلافنا في طرق التربية؛ لأن أبناء الوطن الواحد لا يرمون في تعاليمهم إلى مقصد معين، فإذا حللنا تحليلًا كيماويًّا دقيقًا نجد الأمراء المتعلمين منا لا بأس بهم بالنسبة للمجموع هنا، بل بالنسبة للمتعلمين من الغربيين، ولكن إذا جئت تنظر فينا مجتمعين تكبِّر علينا أربع تكبيرات؛ ولذلك جاء كل عمل يقدم بعناية الجماعة عندنا منحطًا أكثر من عمل الفرد على خلاف سنة الأمم، من أجل هذا لم تنشأ لنا حتى اليوم جمعيات، ولا مجامع، ولا مجالس، ولا شركات تجمع من القليل كثيرًا، وتضم متفرق القوى، ومشتت القرائح والأفكار، فتحيي المعالم، وتفيد البلاد في اقتصادياتها ومعنوياتها، هذا القول في الرجال فما الحال بربات الحجال اللاتي ضاهين في الغرب الرجل في علمه وعمله إلَّا قليلًا، وانحططن عندنا أي انحطاط بعد أن كان منهن عندنا المفسرة، والمحدثة، والراوية، والشاعرة، والأديبة، والطبيبة، والواعظة، والخطيبة المؤثرة.

قال صاحب روح الشرائع: إذا أردت أن تعرف ملكات أمة من الأمم مادية كانت أو أدبية، فارجع إلى إدارة التربية فيها، وتوزيع الخدم، ونشر المكافأة وتوقيع العقوبات تعلم ما تريد. وقال: انظر إلى بلد كثرت فيها المظالم، وامتد بقاؤها، وارتفعت ثقة المالك فيما ملكت يمينها، ترى الزارع تسقط همته وتنحل قوته، وإن استمر على الزراعة فلكيلا لا يموت جوعًا، كأنما يطلب من الكسل مسليًا على آلامه ومصائبه، وكذلك تسقط الصناعة؛ لسقوط الأمل في النجاح، وينبت الشوك في أجود الأراضي.

وقال فوليه: لنشوء الشعوب على ما أبانه الدروينيون طريقان: الجماعة والانتخاب الطبيعي، فالشعب في الحالة الأولى خاضع لتأثيرات متشابهة من المحيط والإقليم، وفي الحالة الثانية يعيش فيه بعض أفراد فقط، يكون نظامهم الخاص عونًا لهم على التمثل والاحتذاء، فيعيشون ويتركون لهم أنسالًا، وهكذا يتحول المجتمع باطراح بعض الأسرات وبعض العناصر الخاصَّة، ويعمل الانتخاب الطبيعي على كل سرعة أكثر من المحيط والإقليم، ولكن يهلك في سبيله كثير من الخلق، فلا يتوهم متوهم أن شعبًا ينتقل بمجموعه من الشباب إلى سن الرشد ثم إلى الشيخوخة، بل إن الشعب يرتقي بواسطة الانتخاب الطبيعي وتحكيم الصفات التي تحمي الأفراد، ومتى ظهر الهرم والسقوط تصبح أحسن مقوماته، وقد داهمتها عناصر أصغر منها ونزلت منازلها.

قال: وعوامل الانتخاب الطبيعي التي تجري بين الشعوب المختلفة هي الحرب والاستعمار، ونمو السكان، والمنافسة في التفوق الاقتصادي والسياسي والعلمي.

أمَّا عوامل الانتخاب الطبيعي التي تفعل في نفس الأمة فهي الحرب والخدمة العسكريَّة، وتنقل الأفراد في ربوع الوطن الواحد، ونحو سكان المدن وعقوبة المجرمين ومعاونة الفقراء، والمحاويج وتشريد المسيئين للدين أو لغيره واضطهادهم، وانتشار الشفاعات السياسية، كأن لا يحمي صاحب الشأن غير جماعته وجملة حاشيته، والنفور السياسي والفردية والشرائع والعادات والأفكار الاجتماعية والدينية بشأن الزواج، واجتماع الجنسيين الذكر والأنثى وإرادة النهوض، هذه أهم العوامل التي تنمي أمة أو تقرضها، وتحسن سيرها أو تسيئه.

وبعد، فإن الناظر في ماضي الأمة العربية وحاضرها يدهش للفروق الكثيرة المحسوسة، وعندما يشاهد جراثيم النهضة وعوامل الحياة تنشر وتدب في جسمها اليوم، يعتقد بأن الحاضر سيكون على مثال الغابر أو أجمل منه، وعلى طريق نافع، والأمل معقود في هذا الشأن على المعلم والمعلمة، فقد قيل: لولا المربى ما عرفت ربي.

لا جرم أن الغيور على قوم يفادي بكل نفيس؛ ليحمل إليهم الخير، والكامل من سعى إلى تكميل غيره وإن كان ناقصًا، والجاهل في ذمة العالم له عليه حق التعليم والاشتراك في النعمة.

أنتم أطباء أرواح، والأرواح تفضل الأشباح، فهل عهد طبيب لا يعالج حتى عدوه بما يصلحه وينفعه في صحته دع صديقه وأخاه وابنه وابنته، بأيديكم إصلاح هذه النفوس الضعيفة المنحطة في معارفها وتربيتها وترقية مستوى البيوت، وثقوا أن فتى واحدًا وفتاة واحدة إذا تعلم وتهذب يُدخل على أسرة كبيرة النظام، وفي الجملة يلقنها الشعور بالحاجة إلى التعلم؛ أي إنه يسوق آله إلى أول مراتب الكمال، وكل هذا العمل الجليل هو عمل المعلم والمعلمة لا محالة.

وربما كان واجب المعلمة في هذا الشأن أعظم من واجب المعلم؛ لأن مجموع النساء عندنا في الغاية من الانحطاط، ولا عبرة بالقليلات المتعلمات منهن وأكثر ما تعلمن، حتى الآن القشور، ولم ينفذن فيه إلى اللباب على ما يجب، وأي وطني لا يبكي لجهل المرأة المسلمة علة العلل في انحطاط المجتمع الإسلامي، ومن منا ينكر تأثير المرأة في كل نهضة، وهذه المرأة المصرية والمرأة التركية قد أتتا في الحوادث الأخيرة ما دل على أن القوم في القاهرة والآستانة أخذوا بحظ وافر من العناية بالمرأة، وما أحرانا في الشام أن نحتذي مثالهم، وهذا قريب الحصول إذا قام المعلم والمعلمة بواجبهما حق القيام والسلام.

١  محاضرة ألقيناها بدمشق على جماعة المعلمين والمعلمات في مدارس الحكومة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤