العلاقات السِّياسِيَّة بين مصر والشَّام خلال العصور

لا نعرف قطرين اشتبكت بينهما أواصر الصداقة والتعاون مثل مصر والشام؛١ فإن العلاقات كانت جد قوية بين أهليهما منذ أقدم عصور التاريخ. ولا عجب؛ فمتاخمة الأرض للأرض قد سهَّلت الانتقال بينهما ووحَّدت بين عادات أهليهما وطبائعهما. وقد كانت مصر منذ فجر التاريخ تفتح أبواب دُورها ومؤسساتها لاستقبال الشاميين فتفيد من تجاربهم وذكائهم وحضارتهم، كما كان المصريون يفدون على الديار الشامية فيجدون فيها أهلًا ويحلون سهلًا ويتمتعون بما يتمتعون به في بلادهم.

يقول مسبيرو: إن السوريين قد نزحوا بكثرة إلى الديار المصرية منذ أيام الفراعنة … وقد فتح البلاط الملكي المصري أبوابه لقبول عدد كبير منهم ليقوم بوظائف الوزارة والاستشارة. ويظهر أن الفراعنة المصريين كانوا منذ عهد الأسرة الفرعونية الأولى يطمعون في ضم البلاد الشامية إلى مملكتهم، وقد حاولوا ذلك مرات حتى نجحوا في عهد تحتمس الأول، فهو الذي وحَّد بين القطرين وعاش أهلوهما في عهده عيشًا رغدًا. ثم توالت المحن على القطرين معًا حتى جاء الفرعون رعمسيس الأول فوطد ملك مصر وضم إليه من جديد أكثر بلاد الشام، ثم رعمسيس الثاني المشهور باسم سيزوستريس فوحد القطرين سياسيًّا واقتصاديًّا ونشر على البلاد الشامية لواء الأمن وخلَّد عهده هذا بالنقش الذي حفره على الصخر عند مصب نهر الكلب قرب بيروت. وهكذا خضعت الشام لمصر فترة غير قصيرة، ويظهر أن زعماء مصر ضيَّقوا الخناق على الشاميين فوقعت فتنة طويلة العهد بين البلدين، وانتهت بعقد صلح دائم كُتب باللغة الحثية على صحيفة من الفضة ونُقش بالهيروغليفية على حيطان هيكل الكرنك، وفيه يقول خيتا سارو ملك الحثيين السوريين: «أتعهد منذ هذا النهار أن يستمر السلام والإخاء الدَّائم بين بلادي وبلاد مصر وبين رعاياي ورعايا مصر، فلن تنشأ بعد اليوم عداوة بيننا ألبتة، بل يكون ملك مصر أخًا لي وأكون أخًا له كأن لنا قلبًا واحدًا.»

ومن شروط هذه المعاهدة تسليمُ القتلة والمجرمين وإعادة المهاجرين من الصناع والفنانين، وقد حافظ الطرفان المتعاقدان على نصوص هذه المعاهدة قرابة قرن كامل، وتوطدت أواصر الصداقة والمودة بين البلدين بتزاوج البيتين المالكين فيهما، وعاش الناس في ظل هذا العهد السعيد دهرًا طويلًا، ثم مرت بلاد الشام بفترة كانت فيها مستقلة أو كالمستقلة، ويظهر أن المصريين ظلوا يصطنعون بعض الشاميين ليسيطروا على بلادهم فيجعلوا منها حصنًا منيعًا بينها وبين بلاد الأشوريين والبابليين الذين كانوا يطمعون في السيطرة على مصر ولوبيا والحبشة والبحر الأحمر، فعاد نفوذ مصر على البلاد الشامية، وظلت البلاد فترة طويلة والمصريون يرعونها أحسن رعاية حتى نُكبت بالغزو الفارسي ثم بالغزو اليوناني فانفصل البلدان، ولكن هذا الانفصال لم يدم طويلًا؛ فإن البطالسة المصريين نشروا نفوذهم على أكثر البلاد الشامية، فتوحد القُطران من جديد. ثم جاء العصر الروماني وبسط نفوذه على الشام ومصر معًا، وكان من تاريخهما ما هو معلوم مشهور. ولكن مما ينبغي أن نذكره؛ هو أن البلاد الشامية لما نُكبت بالغزو الفارسي الأخير في سنة «٦١٥م» ولقيت من الفظائع ما يعجز القلم عن تسطيره، لم تجد لها ملجأً إلا في القطر المصري الشقيق، وبخاصة عاصمته الإسكندرية. ويحدثنا بَتْلَرْ عن هذه الحادثة فيقول: «لكن الملجأ الأكبر للهاربين الشاميين المشتتين من المسيحيين كان في القطر المصري، ولا سيما الإسكندرية، وكان عدد سكانها قد تزايد بما كان يرد إليها من اللاجئين الذين كانوا لا ينقطع سيلهم منذ ابتدأت غزوة الفرس في بلاد الشام.»

ونضيف إلى كلامه هذا أن عطف المصريين على الشاميين في نكبتهم هذه لم يقتصر على استقبال اللاجئين، بل كانت مصر ترسل إلى الشام القوت والذهب، وقد ذهب بعض الرهبان المصريين إلى فلسطين يجوبون أرضها ويعملون على إعادة بناء الكنائس المخربة، وقد كان توفيق أحدهم عظيمًا بإعادته بناء كنيسة بيت المقدس وإعادة رونقها إليها، كما تمكَّن من إعادة بناء كنائس أخرى مع كثير من الدور والقصور، وقد أحب أهلُ هذه المدينة المقدسة ذلك الراهب العظيم وأكبروا عمله، فنادوا به — وكان اسمه مودستوس — زعيمًا دينيًّا ودنيويًّا عليهم، وكان من جراء هذه الحادثة العظمى أن اتحدت الكنيسة القبطية والكنيسة الشامية. ولما نُكب المصريون بالغزو الفارسي سنة «٦١٦م» وهُدمت الإسكندرية وكثير من المدن المصرية، قابل الشاميون الإحسان بالإحسان، فأرسلوا الميرة والغذاء إلى إخوانهم المصريين، وحموا من استطاعوا حمايته من القساوسة والرهبان والشيوخ والنساء والأطفال، وحفظوا ما استطاعوا حفظه من الكتب والآثار الدينية والعلمية التي فتك بها الفاتك الفارسي الفاتح فتكًا ذريعًا، وأرسل قسمًا غير قليل منها إلى بلاده. وقد كان حزن الشاميين عظيمًا لما سمعوه من أخبار النكبة الكبرى التي حلَّت بالإسكندرية العظمى، مقر العلم والآداب ومحجَّة الطلاب ومنار الهدى في الشرق من أقصاه إلى أقصاه، ولا غرو؛ فإن جامعة هذه العاصمة كانت قبلة الشاميين يتعلمون فيها العلم ويبعثون إليها بنتاج قرائحهم لنقده ودرسه. وهكذا قويت العلاقات بين القطرين، فانتشرت اللغة السريانية بين علماء مصر، حتى إننا نجد في مصر جماعة من العلماء السوريين كانوا قبل الغزو الفارسي يراجعون الترجمة السريانية للإنجيل، ويترجمون كتاب التوراة السبعينية إلى السريانية من جديد، وكان ذلك في الدير المصري الكبير المعروف باسم «دير الهانطون». وقد كان للسوريين في مصر أديار خاصة بهم، ومنها الدير الذي لا يزال باقيًا إلى عهدنا هذا في وادي النطرون الذي قال بَتْلرْ عنه: «ولعل الدير السرياني الذي لا يزال إلى اليوم في صحراء وادي النطرون قد نشأ في ذلك الوقت عندما جاء إلى مصر كثير من السوريين وعلمائهم هاربين من خطر حرب الفرس.»

هذه لمحة موجزة جدًّا عن الصلات السياسية التي كانت بين البلدين قبل الإسلام، أما الصلات العلمية فسنحدثك عنها فيما بعد، وسترى أنها كانت جد قوية وأن هذين القطرين ما كانا إلا كالقطر الواحد في حياته السياسية والثقافية منذ فجر التاريخ.

•••

ظهر الإسلامُ ومصر والشام تحت النفوذ البيزنطي الذي ضاق القُطران به وأخذ كلُّ واحد منهما يسعى للانفصال عن المملكة البيزنطية، ومما سهل ذلك انشغالُ الإمبراطور البيزنطي «هرقل» بالخلاف الداخلي القوي، وقد كثرت الاضطرابات الدينية والسياسية في مملكته، فضعف نفوذُه في القطرين، ففتحت الشام ومصر أبوابهما للعرب المسلمين، وصارتا قطعةً من جسم المملكة العربية الجديدة. وكان فتح دمشق في سنة «١٤ﻫ» ثم فتح الإسكندرية في سنة «٢٢ﻫ»، وعقبت هذه الفترة فترةُ هدوءٍ طويلة سكن فيها الشعبان السوري والمصري إلى الشعب الفاتح، واستراحا قليلًا من تلك الاضطرابات التي كانت تقع في بلادهما بسبب الاختلافات المذهبية، وعادت الحياة الدينية إلى جو هادئ، وأصبح القبط في مأمن على مذهبهم، وسكن اليهود إلى عقيدتهم في ظل العرب المسلمين، وأضحوا آمنين على أنفسهم وأموالهم، وهدأت البلاد في صدر عصر الخلفاء الراشدين واستراحت. ولكن حدث حادث اضطربت له البلاد الإسلامية جميعًا، وبخاصة مصر، وهو مقتل الخليفة عثمان بن عفان؛ فقد كان للمصريين ضلع كبيرة في هذه القضية، كما استغل الشاميون هذا الحادث وقضت البلاد فترة سيئة لم تستقر إلا بعد أن توطَّد الأمر لمعاوية، فأقام في الشام وأعاد عمرو بن العاص إلى مصر. وظلت مصر طوال العهد الأموي تتمتع بأمراء صالحين ينتقيهم لها بلاط دمشق الأموي، وأول أمير بعثته دمشق إلى مصر هو عمرو بن العاص (٤٣ﻫ) الذي كان فيها من قبل أميرًا وفاتحًا، والذي سار بمصر أحسن سيرة وعدل بين الرعية وأحبه الأقباط والمسلمون، ولا عجب؛ فقد كان من أدهى الناس وأحسنهم رأيًا وتدبيرًا. وممن بعثتهم دمشق إلى مصر من الأمراء عتبةُ بن أبي سفيان (٤٤ﻫ) أخو معاوية، وقد حمِد المصريون سيرته فيهم كما حمدوا عقله وذكاءه وفصاحته. ومنهم عقبة بن عامر الجهني الصحابي القارئ الفرضي الشاعر الكاتب الذي قال عنه ابن تغري بردي: «كان لأهل مصر فيه اعتقادٌ عظيم وله عليهم فضل؛ فهو أول من نشر فيهم الحديث، وقد روى ابن أبي الحكم المؤرخ المصري المشهور أحاديثه التي نقلها المصريون عنه.» ومنهم عبد العزيز بن مروان (٨٦ﻫ) والد الخليفة عمر، وكان من أحسن الأمراء عمرانًا وسياسة، وهو الذي نزل بحلوان فأعجبته وبنى بها الدور والمساجد وعمرها أحسن عمارة وغرس نخلها وكرْمها، وكان جوادًا سيوسًا. ومنهم عبد الملك بن رفاعة الفهري (١٠٩ﻫ) وكان حسن السيرة عفيفًا عن الأموال، فيه دين وعدل بالرعية وثقة وفضل، وقد تولاها مرتين.

هذا ولما اضطرب أمر الخلافة الأموية وقويَ سلطان بني العباس في بلاد الشام وهزموا الخليفة مروان بن محمد في دمشق، لم يجد له ملجأً يعصمه منهم إلا في مصر، فالتجأ إليها ولقي من أهلها عونًا، فجمع جموعًا سار بهم لقتال صالح بن علي بن عبد الله بن عباس، ولكن لم يُكتب له النصر أمامَ جيوش خصومه القوية، فقُتل ودخل صالح الفسطاط في ٨ محرم سنة ١٣٣ﻫ وبعث برأس مروان إلى الشام والعراق، ودَالت دولة بني أمية.

•••

جاء العصر العباسي فزالت معالم الفخامة عن العاصمة الأموية، وأباح الفاتحُ العباسيُّ دمشق ثلاث ساعات وقيل أكثر، ووضع السيف في أهلها، ولم يزل جماعته يجزون الرءوس في الطرق والمنازل، ويأخذون الأموال والأولاد، ويقتلون العلماء والأمراء حتى في المسجد الجامع؛ فقد انتهكوا حرمته فهدموا محاريبه وأحرقوه وخربوا قبابه وجعلوه إصطبلًا لدوابهم، وقتلوا خلقًا من أهل الذمة من اليهود والنصارى لا يُحصَون، كما خربوا معابدهم، ونبشوا قبور الخلائف من أمية، ونقضوا سور المدينة. أما مصر فلم يكن حالها أفضل من حال دمشق، قال ابن تغري بردي: «ولما ولي صالح مصر بعث ببيعة أهل مصر لأمير المؤمنين عبد الله السفاح، ثم أخذ صالح في إصلاح أمر مصر وقبض على جمع كثير من المصريين الأمويين، وقتل كثيرًا من شيعة بني أمية وحمل طائفة منهم إلى العراق وقُتلوا بقلنسوة من أرض فلسطين.» ولم يقم صالح في مصر إلا أشهرًا؛ فإن السفاح بعث به أميرًا على فلسطين وولَّى أبا عون بن زيد على مصر، وقد كان أبو عون هذا باطشًا فاتكًا، ثار عليه أقباط مصر بسمنود فقتل منهم مقتلة عظيمة، واضطربت الشام ومصر لذلك. ولما مات السفاح سنة ١٣٦ﻫ ثارت دمشق وخلعت الخلافة العباسية وتابعت هاشم بن يزيد بن خالد بن يزيد بن معاوية، فتوجه إليهم صالح بن علي من فلسطين وأعمل فيهم سيفه، فهدَءُوا ونفوسهم تتميز من الغيظ. وفي عهد المنصور ولي أبو مسلم الخراساني مصر والشام معًا، فلم يقبل لأنه كان أوسع آمالًا كما ذكر ذلك صاحب النجوم الزاهرة، وقال أبو مسلم في ذلك وهو غاضب: «يوليني مصر والشام وأنا لي خراسان؟!» وعزم على الشر من يومئذٍ ثم كان من أمره ما كان.

وفي أيام المنصور وخلفائه كثر تغيير الأمراء على الشام ومصر ولم يستقر فيهما أميرٌ أكثر من سنة، ولعل السر في ذلك تخوُّف بني العباس من استقلال أمير هذين القطرين بهما، على أن بعض خلفاء بني العباس كانوا كثيرًا ما يجمعون هذين القطرين لأمير واحد، كالذي فعله الرشيد مع أبي مسلم عبد الملك بن صالح العباسي، فقد كان واليًا على مصر والشام. وفي أيام المأمون جُمعت ولاية مصر والشام لطاهر بن الحسين، ويظهر أن المصريين كانوا مثل الشاميين كرهًا لبني العباس. أما الشاميون فكانوا كثيرًا ما يتحينون الفرص للخلاص من بني العباس؛ لأنهم رأوا أن زوال الدولة الأموية كان زوالًا لمجد العرب ورفعًا لشأن العجم، ولهذا لم تخلُ فترة في أيام العباسيين بالشام من ثورات وانتقاضات كثورة حبيب بن مرة الفهري، وثورة أهل حوران، وثورة أبي محمد زياد بن عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية، وثورة أهل حمص، وثورة السفياني علي بن عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية. ومن أعظم هذه الثورات الثورة التي قام بها أهل دمشق على واليهم المنصور بن المهدي، وقد ظلت نار هذه الفتنة ملتهبة حتى أطفأها عبد الله بن طاهر سنة ٢١٠ﻫ. ومنها ثورة الشاميين في عهد المتوكل على واليهم سالم بن حامد لظلمه وقتله الأشراف، وقد قتلوه على باب الخضراء — قصر معاوية ومقر الخلافة الأموية — فغضب الخليفة المتوكل لذلك لما بلغه وقال: «من لدمشق وليكن في صولة الحجاج؟» فقالوا له: «أفريدون التركي»، فجهزه إليها في سبعة آلاف وأحل له فيها القتل والنهب ثلاثة أيام، وهكذا فعل. وفي سنة ٢٢٧ﻫ ثار المبرقع الشامي تميم اللخمي، وخلع الطاعة ودعا إلى نفسه في بلاد الشام، فتبعه خلق كثير من المزارعين وغيرهم وقالوا هذا هو السفياني الذي ينقذ الشام، واستفحل أمره جدًّا حتى صارت جماعته تزيد على مائة ألف. وفي سنة ٢٥٠ﻫ وثب أهل حمص بعاملهم فقتلوه، فوجَّه إليهم الخليفة المستعين من حاربهم، فهزمهم بين حمص والرستن، وافتتح حمص وأحرق المدينة. ثم ثاروا بعد عهد قصير ثانية فأرسل إليهم الخليفة عاملًا آخر فدخل بلدهم عنوة وأباحها ثلاثة أيام وطُرحت النار في منازلها.

وبعد، فلو رحنا نعدِّد لك ثورات الشاميين على الولاة العباسيين لعددنا لك الشيء الكثير، ولا عجب فإن القوم كانوا يحنون إلى العهد الأموي ويكرهون هؤلاء الولاة الأتراك القساة الذين كانت تبعث بهم بغداد.

أما مصر فما كانت أهدأ بالًا، ففي ولاية يزيد بن حاتم المهلبي عليها ظهرت دعوة بني علي فيها، وتكلم الناس بها وبايع كثير منهم لبني الحسن في الباطن، وماجت الناس بمصر وكاد أمر بني علي أن يتم، والبيعة كانت باسم علي بن محمد بن عبد الله. وبينما كان الناس في ذلك إذا بالبريد يقدم برأس إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب سنة ١٤٥ﻫ، فنُصب في المسجد أيامًا وسكن الناس على مضض.

وفي ولاية واضح بن عبد الله المنصوري سنة ١٦٢ﻫ خرج إدريس بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، وكان واضح يميل إلى العلويين، فحمله على البريد إلى المغرب، ولما بلغ هذا الخبر مسامع الخليفة الهادي طلب واضحًا وقتله وصلبه سنة ١٦٩ﻫ. وفي ولاية إبراهيم بن صالح العباسي سنة ١٦٥ﻫ خرج دحية بن المصعب بن الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان الأموي بالصعيد، ودعا لنفسه بالخلافة واستفحل أمره، وكاد أن يتم حتى ولي مصر الفضل بن صالح سنة ١٦٩ﻫ، فأسره وقتله وبعث برأسه إلى الخليفة الهادي. وفي ولاية إسحاق بن يحيى الختلي ثار العلويون بمصر سنة ٢٣٥ﻫ فأُخرجوا من ديارهم. وكان أهل الحوف المصري من عرب قيس وقضاعة واليمن كثيرًا ما يثورون على الأمراء العباسيين في مصر، وربما استنجدوا بإخوانهم الشاميين فأنجدوهم على الأمراء العباسيين، وأخبار أهل الحوف وثوراتهم كثيرة جدًّا في هذه الفترة.

وصفوة الحكم على العصر العباسي في دوره الأول بمصر والشام أن هذين القطرين كانا يعاملان معاملة واحدة ويسيران بسياسة واحدة، ومن يلاحظ خطوط التاريخ في تلك الفترة يجد أن البلاد لم تكن تعامل بالحسنى والخير إلا في عهد خليفتين اثنين: الرشيد وابنه المأمون، فقد كانا يعطفان على هذين القطرين ويخصانهما بأفاضل العمال والرجال، ويوجبان عليهم الرأفة والرحمة والعدل، وفي عهد هذين الخليفتين فقط قلَّت ثورات الشاميين والمصريين على بغداد، وإنه لحق أن نقول إن هذين القطرين لقيَا عنتًا وفوضى في الحكم بعد عصر هذين الخليفتين؛ فما جاء عصر المتوكل حتى اضطرب أمر البلاد ودخل الوهن إلى سياستهما، فبعد أن كان الخلفاء يرسلون إلى دمشق والفسطاط أشرف أهل البيت العباسي للحكم فيهما أخذنا نجد العمال أتراكًا أو مولدين كأفريدون التركي الطاغية، وخاقان التركي الخبيث، ومزاحم بن خاقان، وأرخوز بن أولوع، وغيرهم. وقد لاحظ هذا الأمر مؤرخون قدماء وجُدُد، حتى قال صاحب النجوم الزاهرة في أثناء كلامه على ولاية عنبسة بن إسحاق: «وعنبسة هذا هو آخر من ولي مصر من العرب وآخر أمير صلى في المسجد الجامع.» وقال كرد علي: «وبعد أن كانت بغداد ترسل إلى الشام أولاد الخلفاء وأعاظم قوادها من الأصول، أصبحت ترسل إليها من الفروع أفريدون التركي وخاقان التركي ومحمد المولد من الموالي، فظهر الفرق في صورة الحكم لأن الحكم في الغالب كان فرديًّا لا علاقة للجماعة به إلا إذا أحب صاحب الأمر استشارة صاحب الرأي استشارة خاصة.»

والحق أن بلاد الشام ومصر لقيت من العمال البغداديين الشيء الكثير، وخصوصًا في الفترة التي وليت عصر المتوكل والمعتصم إلى عهد المعتز. وفي عهد المعتز هذا سيطر أحمد بن طولون على مصر والشام سيطرة تامة مدة اثنتي عشرة سنة، ثم جاء أبناؤه وحفدته خمارويه وجيش وهارون وشيبان فسيطروا على البلاد إلى أن انقرضت دولتهم. وباستيلاء الطولونيين على الشام ومصر شعر أهلوهما أنهم مستقلون تمامًا عن بغداد، وأن في استطاعتهم إذا هم هيَّئُوا جيشًا على رأسه أحمد بن طولون أو ابنه جيش، أن يقوموا بأعمال باهرة وأن ينجوا من السلطان التركي الغاشم، وأن يُنشئوا لأنفسهم دولة ذات سيادة، فكان ذلك وكانت الدولة الطولونية ذات «الطابع» الخاص في الحضارة والعمران.

قال كرد علي: «ورأتْ مصر والشام أنهما إذا ألفتا حكومة واحدة تصبحان دولة قوية يُرهب بأسها.» ثم إنه من الواجب أن نقول إنه لولا مجيء جيوش مصر الطولونية إلى الشام لإنقاذها من خطر القرامطة في أواخر القرن الثالث لكانت الشام واقعة تحت شر مستطير، ولكن بفضل الجيوش المصرية خلصت الشام ومصر من القرامطة الباطنيين الأشرار دهرًا طويلًا بعد أن كاد نفوذهم يقوى بممالأة طائفة من غوغاء الشاميين لهم. وهكذا سكنت البلاد واطمأنت بفضل جيوش مصر، ولكن يظهر أن بغداد لم يَرُقْها هذا الأمر، فهي إنما تريد مصر والشام خالصين لها من أي نفوذ آخر، فأخذت تدبر الدسائس وتعمل على القضاء على الدولة الطولونية، حتى توفقت فقضت عليها سنة ٢٩٢ﻫ بعد عمر طوله نحو أربعين سنة لقيت بلاد الشام ومصر فيه كل خير وهناء. وما إن قضي على الدولة الطولونية حتى بعث خليفةُ بغداد المعتضد محمد بن سليمان الكاتب فاستولى على دمشق، ثم سار نحو مصر وقضى على أبناء الطولونيين وقتلهم، وهم نحو عشرين إنسانًا ذبحهم بين يديه كما تُذبح النعاج، وأشخص من استباقهم منهم إلى بغداد. وقد ظنت بغداد أنها قد استصفت ملك الشام ومصر، ولكنها لم تلبث أن فوجئت بدولة أخرى استقلت بأمر الشام ومصر معًا، تلك هي الدولة الإخشيدية، ولا عجب فإن الاضطراب الذي كانت فيه الدولة العباسية كان من مستلزماته أن تنفصل مصر والشام عن بغداد لسوء الإدارة المركزية وفساد رجالها. والدولة الإخشيدية وإن كانت أقل من الدولة الطولونية نشاطًا عمرانيًّا وإتقانًا إداريًّا، فإنها كانت تفضُل بكثير دولة بغداد، وأول من جمع بين الشام ومصر من الإخشيديين هو محمد بن طغج الإخشيد وكان ذلك سنة ٣٢٣ﻫ، ومحمد هذا كان جد بارع في إدارته وسياسته مقدامًا حازمًا حسن التدبير، وكذلك كان ابناه أنوجور وعلي ومولاه كافور، وقد سيطروا جميعًا على القطرين الشامي والمصري، وأصبحت البلاد في عهد كافور على خير حال عيشًا وهناءة وعلمًا، ولا عجب فقد كان كافور — كما قال الذهبي — يدني الشعراء ويجيزهم، وكان تقرأ عنده كل ليلة السير وأخبار الدولة الأموية والعباسية، وكان كريمًا كثير الخِلَع والهبات خبيرًا بالسياسة فطنًا ذكيًّا جيد العقل داهية. وكان يهادي المعز صاحب المغرب ويظهر ميله إليه، وكذا يذعن بالطاعة لبني العباس، وكان وزيره أبو الفضل جعفر بن الفرات راغبًا في الخير وأهله، وممن كان في خدمته من العلماء أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله النجيرميُّ صاحب الزجَّاج، وكان يداوم الجلوس غدوة وعشية لقضاء حوائج الناس …

وصفوة القول أن البلاد كانت في عهده على أحسن حال، ولما توفي اجتمع الأولياء وتعاقدوا وتعاهدوا ألا يختلفوا، وكتبوا بذلكَ كتابًا وعقدوا الولاية لأحمد بن علي الإخشيدي، ودعوا له على منابر الشام ومصر والحجاز، وجعلوا التدبير لأحمد بن عبيد الله بن طغج والوزارة لابن الفرات، وكان ذلك سنة ٣٥٧ﻫ. ولما قويت حركات الباطنية في الشام ذهب الحسن بن عبيد الله بن طغج إلى الشام بنفسه ليقضي على حركاتهم، فهزموه واستولوا على الشام، ثم لما رجع إلى مصر وجد أن الجند الأتراك قد ثاروا على ابن الفرات، وطالبوه بمال لا قدرة له عليه، وقاتلوه ونهبوا داره ودور أهله وحاشيته، وكتب بعضهم إلى المُعز الفاطمي يستدعونه، رأى الحسن بن عبيد الله بن طغج كل أولئك فهدَّأ الأمور، ثم اضطر إلى العودة إلى الشام، وبينما هو فيها بلغه خبر وصول عساكر المعز الفاطمي صحبة جوهر الصقلي واستيلائه على مصر، وهكذا انقضت الدولة الإخشيدية بعد أن حكمت مصر والشام أربعًا وثلاثين سنة. وما لبث الفاطميون قليلًا في مصر ينظمون أمورهم حتى بعثوا بالجيوش إلى الشام لفتحها، وكان على رأسها الأمير جعفر بن فلاح العبيدي، فذهب إلى دمشق وحارب الحسن بن عبيد الله بن طغج وأسره ومهد البلاد. وقد لقيت الشام في هذه الفترات عنتًا كبيرًا من القرامطة، ولكن الخلفاء الفاطميين كانوا دائمًا يطردونهم عن أهلها، ولم يكن القرامطة وحدهم هم الذين يفسدون البلاد، بل كان هناك الروم الذين كانوا يوقعون بشمال البلاد، وكان سيف الدولة بن حمدان يقف أمامهم في حياته، فلما هلك وخلفه ابنه أبو المعالي استخف به نقفور ملك الروم وطمع في السيطرة على الشام كله، ولكن المصريين لم يقفوا مكتوفي الأيدي أمام هذا العدو القوي، فأرسلوا أبا محمود بن جعفر بن فلاح إلى الشام في عسكر يقال إنه عشرون ألفًا، فدخل دمشق وغادر الروم أرض الشام سنة ٣٦٤ﻫ بعد أن كانوا قد سيطروا عليها وعلى بعلبك وصيدا وبيروت وجبيل فخربوها ونهبوها.

وقد قضى الشام فترة في القرن الرابع هي من شر فترات حياته، فقد كان يتنازعه كلٌّ من الفاطميين والعباسيين أو ولاتهم كالحمدانيين والعقيليين، وقد كان الفاطميون شديدي الحرص على استبقاء الشام تابعًا لمصر لما بين البلدين من العلاقات، وقد بذلوا في ذلك شيئًا عظيمًا وجيشوا جيوشًا كثيرة، حتى إن الخليفة العزيز الفاطمي سار مرة بنفسه على رأس سبعين ألفًا لاستخلاص الشام من القرامطة وولاة العباسيين، ولما وصل الرملة من أرض فلسطين قاتله القرامطة وأُفتكين غلام عضد الدولة البويهي وكان يومئذٍ متغلبًا على الشام، فخذلهم العزيز وهرب أفتكين فجعل العزيز لمن أحضره إليه ألف دينار، فأحضره مفرِّج بن دغفل العقيلي إلى العزيز، فكرمه وأنعم عليه وأخذه معه إلى مصر واستبقاه فيها إلى أن مات معززًا. وأما صاحب القرامطة فلاطفه العزيز أيضًا وأعطاه الأموال والرياش وطلب إليه أن ينصرف من الديار الشامية إلى الأحساء، وهكذا كان. ولم يبق أمام الفاطميين خصوم أقوياء يدفعونهم عن الشام إلا الحمدانيين.

ولما مات أبو المعالي بن سيف الدولة وخلفه ابنه أبو الفضائل، رأى العزيز أن الوقت قد حان لاستصفاء الشام وإنقاذه من الاضطراب الذي كان فيه والتذبذب بين الدولتين، فسيَّر جيشًا قويًّا إلى حلب وعليه منجوتكين، ووقع القتال بينه وبين الحمدانيين في أفامية — قلعة المضيق — سنة ٣٨٢ﻫ، فانهزم الحمدانيون، ثم دخل منجوتكين حلب فاستعان أبو الفضائل بباسيل ملك الروم على المصريين، فكتب باسيل إلى نائبه في أنطاكية أن ينصر أبا الفضائل بجيش لجب، فلما علم المصريون بذلك عبروا العاصي وفاجئوا الروم قبل أن يفاجئوهم، وقهر المصريون الروم وهزموهم وأرجعوهم إلى أنطاكية وأكثروا فيهم القتل.

قال الأنطاكي: «قُتل من الروم في هذه الوقعة التي دُعيت «وقعة المخاضة» سنة ٣٨٤ﻫ زهاء خمسة آلاف، وسار المصريون إلى أنطاكية ففتحوها ثم رجعوا إلى حلب.» وكادت الجيوش المصرية أن تسيطر على الشام جميعه لولا أنها أصيبت بمصيبة أزعجتها، ألا وهي طمع منجوتكين وخروجه على الخليفة الفاطمي وإعلانه الاستقلال بالشام لما رأى من فوزه العظيم، فأرسل الخليفة إليه جندًا هزموه وأعادوا الشام إلى الحظيرة الفاطمية كما فصَّل ذلك ابن مسكويه في تاريخه.

ومن الحوادث المزعجة التي جرت في الشام في تلك الفترة ثورة أهل صور سنة ٣٨٧ﻫ بقيادة ملَّاح اسمه عُلاقة، فقد ثار هذا على الفاطميين وضرب السكة باسمه وكتب عليها «عز بعد فاقة للأمير علاقة»، وقد أرسل إليه الخليفة المصري أسطوله لتأديبه، فاستجار علاقة بملك الروم وقد أنفذ إليه هذا عدة مراكب فالتقى الأسطولان المصري والرومي، فهُزم الروم وكُتب النصر للأسطول المصري. فأنت ترى في هذه الحقبة القصيرة من الزمن استنجاد رجلين اثنين بالروم على بني جنسهما ليستمتعا بالملك ونشوته. وفي عهد الحاكم بأمر الله ثار الأعراب سنة ٤٠٤ﻫ بقيادة المفرج بن دغفل بن الجراح على الشام، وفتكوا بأهله وبأميره المصري علم الدولة، وأقاموا متغلبين عليه فأفسدوا البلاد وهرب كثير من أهلها النصارى إلى بلاد الروم واللاذقية وأنطاكية، ولم تسكن البلاد إلا بعد أن عاد إليها المصريون وأعادوا إليها السكينة والطمأنينة.

وفي عهد الحاكم بأمر الله أيضًا سنة ٤٢١ﻫ سار أرمانوس ملك الروم إلى الشام كما يقول ابن المهذب المعري، وقد جاء معه لغزو الشام ملوك الفرنجة جميعًا مثل ملك البلغار وملك الروس والألمان والخزر والأرمن والبلجيك والفرنج في جمع عظيم يزيد على ستمائة ألف مقاتل، فقاتلهم المصريون والشاميون جميعًا وهزموهم وغنموا منهم ما لا يحصى، وأسروا جماعة من أولاد الملوك، ويظهر أن هذه الغزوة هي غزوة صليبية أرادت أوروبا توجيهها على البلاد الشامية. وقد أصاب الشام في عهد الحاكم ما أصاب مصر من العنت والاضطراب، فكما أنه خرب كنائس مصر كذلك خرب كنائس دمشق والقدس، ونقض بعض الكنائس بيده وأمر بأن تعمر مساجد للمسلمين وأمر بالنداء؛ من أراد الإسلام فليسلم ومن أراد الانتقال إلى بلاد الروم كان آمنًا إلى أن يخرج.

وقد خرج كثير من الشاميين إلى بلاد الروم، ثم عاد الحاكم فبنى كنائس النصارى. وفي عهد الحاكم هذا انتشر المذهب الدرزي في البلاد الشامية، وكان دعاة الباطنيين قد ملئُوا البلاد وسيطروا على الشام. وفي عهد الظاهر بن الحاكم ثار المرداسيون وحسان بن الجراح واستولوا على أكثر بلاد الشام، فأرسل إليهم الخليفة جيشًا مصريًّا على رأسه القائد أنوشتكين الدزبري، فأعاد إلى البلاد هدوءها وأدخلها في الحظيرة المصرية من جديد. وقد ظل أنوشتكين إلى عهد المستنصر بن الظاهر أميرًا على الشام إلى أن مات سنة ٤٣٣ﻫ، فعادت البدو إلى الثورات وقضت البلاد عهدًا مشئومًا تملكها فيه البدو والأعراب والروم، ولم تسكن حتى عاد إليها المصريون بقيادة مكين الدولة الحسين بن علي، فهدَّأ الأمور وعقد الاتفاقات مع الروم. وفي سنة ٤٤٦ﻫ نقض الروم عهدهم مع صاحب مصر المستنصر، وكانوا تعهدوا بأن يبعثوا إليه أربعمائة ألف أردب من الغلال بسبب القحط في مصر، فجهز المستنصر جيشًا عظيمًا على رأسه مكين الدولة الحسين بن علي ونودي في مصر وسائر البلاد بالغزو والجهاد إلى بلاد الروم، وكانت وقائع كثيرة كانت الغلبة فيها للمصريين والشاميين. ولما عظم نفوذ مصر في الشام طمعت في السيطرة على بغداد والعراق، فتم لها ذلك وخُطب للمستنصر الفاطمي على منابر بغداد بمعاونة أبي الحارث أرسلان التركي البساسيري (سنة ٤٥١ﻫ)، ثم كان أن قُتل البساسيري وقطعت الخطبة من بغداد وبقي سلطان مصر محصورًا في الشام وما إليه، ولكن ما لبث نفوذ مصر أن أخذ يضعف في الديار الشامية أيضًا لضعف الدولة في مصر نفسها، ووقعت فتن كثيرة بين الجند المصري والشاميين. والحق أن الخلفاء المصريين قد ضعف أمرهم بعد موت الحاكم، ولولا ظهور سيدة القصور — ست الملك — وقيامها بالأمر خير قيام، لدالت الدولة منذ عهد بعيد، ولكنها بحكمتها وسياستها أعادت للملك غضارته بعد أن أصيب في أواخر عهد الحاكم بما هو معروف مشهور. ولما جاء ابنه الظاهر حسنت الأحوال قليلًا لأنه كان مستقيمًا حسن الإدارة، ثم لما جاء ابنه المستنصر عاد الاضطراب من جديد وأخذت البلاد تئن من سوء الإدارة وكثرة تغير العمال وتسلط الروم والمتغلبة بين حين وآخر. والحق أن المُلك الفاطمي أخذ ينحسر ظله عن الديار الشامية بعد عهد المستنصر، والسبب في ذلك ضعف الفاطميين عسكريًّا وإداريًّا؛ فإن جيشهم بعد أن كان في عصر المعز والعزيز يزيد على المائة ألف مقاتل، قوي حتى قيل إن أرض مصر لم يطأها جيش بعد جيوش الإسكندر أكثر من جيوش المعز الفاطمي.

أقول إن هذا الجيش القوي أصبح هزيلًا في عهد المستنصر، فتمزق شمل الملك العظيم الذي سيطر على المغرب ومصر والشام والحجاز في عهد، واكتفى المستعلي بأن يسيطر على مصر وبعض نواحي الشام. قال الذهبي: وفي أيامه وهنت دولتهم وانقضت دعوتهم من أكثر بلاد الشام، واستولى عليها الأتراك والفرنج، ونزل الفرنج على أنطاكية وحصروها ثمانية أشهر سنة ٤٩١ﻫ، وأخذوا المعرة والقدس سنة ٤٩٢ﻫ، ومنذ هذا الحين سيطرت الفرنج على البلاد الشامية وبسطوا نفوذهم عليها، وأخذوا يعملون على السيطرة على مصر نفسها، ولولا ظهور البطل نور الدين محمود بن زنكي وصلاح الدين يوسف بن أيوب لقضى الفرنجة على مصر والشام قضاء مبرمًا. ولمَّا سيطر الفرنجة على كثير من مدن الشام ضاق أهله ذرعًا بهم واستغاثوا بمصر أن تنجدهم، وأنَّى لها بذلك وبلادها هي في الفوضى غارقة. قال القاضي الهروي من قصيدة يستغيث بالمصريين مما حل بالشام:

مزجنا دماءً بالدموع السواجم
فلم يبق منه عرصة للمراحم
وكيف تنام العين ملء جفونها
على هفوات أيقظت كل نائم
وإخوانكم بالشام يضحى مَقِيلهم
ظهور المذاكي أو بطون القشاعم
أرى أمتي لا يشرعون إلى العدا
رماحهمُ والدين واهي الدعائم
وليتهم إذ لم يذودوا حمية
عن الدين ضنوا غيرة بالمحارم
وإذ زهدوا في الأجر إذ حمي الوغى
فهلَّا أتوه رغبة في الغنائم

وفي عهد الحافظ الفاطمي لمع نجم نور الدين محمود، وأخذ ينقذ الشام من أيدي الفرنجة، ففي سنة ٥٤٢ﻫ افتتح نور الدين حصن أرتاح، شمالي حلب، وكان هذا الفتح أول الفتوح الزنكية في البلاد، ثم استمرت الفتوح وتحررت البلاد الشامية واحدة بعد واحدة، ولما عرف الصليبيون تضعضع الأمر في الديار المصرية جهزوا جيشًا سنة ٥٦٢ﻫ يريدون به الاستيلاء على مصر، فأخذوا مدينة بلبيس وقتلوا وأسروا، ثم حاصروا القاهرة من ناحية باب الشعرية — كما يقول السيوطي — فأمر الوزيرُ شاورُ الناسَ أن يحرقوا مصر، فأحرقوا بلدهم بأيديهم وانتقلوا من القاهرة فنهبت العاصمة، وذهبت للناس أموال لا تحصى وبقيت النار تعمل في مصر أربعة وخمسين يومًا، فعند ذلك أرسل الخليفة العاضد آخر خلفاء الفاطميين في مصر يستغيث بنور الدين، وبعث إليه بشعور نسائه مع رسالة يقول فيها: «أدركني واستنقذ نسائي من الفرنج»، فجهَّز نور الدين الجيوش وعليها أسد الدين شيركوه بن شاور مع ابن أخيه صلاح الدين، فدخلوا القاهرة ورجع الفرنجة وعظم أمر الدولة الزنكية في مصر من يومئذٍ، ثم بدا لصلاح أن يقضي على الفاطميين، ففعل وخطب للعباسيين في مصر فالشام.

وهكذا انقرضت الدولة الفاطمية من مصر والشام وحلت محلها الدولة الأيوبية منذ سنة ٥٦٧ﻫ. وفي سنة ٥٨٢ﻫ قسم صلاح الدين المملكة بين أهل بيته، فأعطى مصر لولده العزيز عثمان، والشام لولده الأفضل، وحلب لولده الظاهر، وأعطى أخاه العادل أبا بكر إقطاعات كثيرة بمصر، وجعله أتابك ولده العزيز فيها، وأعطى لابن أخيه المظفر حماة والمعرة ومنبج وميافارقين، وتتابعت الملوك الأيوبيون على الشام ومصر، ولا أدري أكانت الشام في العهد الأيوبي تابعة لمصر أم مصر تابعة للشام، فإن صلاح الدين كان يقيم هنا وهنالك. ولما هلك صلاح الدين سيطر أخوه العادل صاحب مصر على المملكة وبسط نفوذه عليها، وجعل من مصر عاصمة الملك الأيوبي الواسع في حياته، ولما مات سنة ٦١٥ﻫ كان قد قسم الملك بين أولاده كما فعل أخوه؛ فجعل بمصر الكامل محمدًا، وبدمشق والقدس وما إليهما المعظم عيسى، وبالجزيرة وميافارقين الأشرف موسى، وبالرها الشهاب غازيًا، وبقلعة جبر الحافظ أرسلان شاه، وقد ظلوا متآخين بعد موت أبيهم، ولم يطمع أحد منهم في ملك أخيه واتفقوا بشكل حسن، وكانوا كالنفس الواحدة. قال ابن الأثير: «فلا جرم زاد ملكهم ورأوا من نفاذ الأمر والحكم ما لم يره أبوهم، ولعمري إنهم نعم الملوك فيهم الحكم والجهاد والذب عن الإسلام.»

ومن أهم الحوادث في هذه الفترة هجوم الصليبيين المتمكنين في دمياط على المنصورة، وقد وقع قتال عظيم بين الصليبيين والأيوبيين سنة ٦١٨ﻫ، فاستنجد الملك الكامل بأخوته، فبعث كل واحد منهم جيشًا عظيمًا، وقد طالت المعارك، وترددت الرسل بين الفريقين، وانتهى الأمر بأن يسلم الأيوبيون للصليبيين مدينة القدس وعسقلان وطبرية واللاذقية وجبلة وجميع الساحل ما عدا الكرك والشوبك، على أن يلقوا السلاح ويسلموا دمياط للمسلمين، فلم يقبل الفرنجة وطلبوا فوق ذلك ثلاثمائة ألف دينار عوضًا عن تخريب سور القدس كما طلبوا الكرك والشوبك، فلما رأى المصريون تعنت الصليبيين عبَرَ جماعة منهم في بحر «المحلة» الأرض التي عليها الفرنجة من بلاد دمياط وفجروا فجوة عظيمة من بحر النيل وكان ذلك في قوة زيادته، فركب الماء على تلك الأرض وصار حائلًا بين الفرنج وبين دمياط وانقطعت عنهم الميرة والمدد، فبعثوا يطلبون الأمان وقبلوا بالشروط التي شرطها المصريون، ثم نزلوا عن كل شيء وقبلوا تسليم دمياط، فخابت أمانيهم ومزَّقهم المصريون والشاميون شر ممزق، وأسروا مليكهم القديس لويس الفرنساوي مع ثلاثين ألفًا من رجاله، وهكذا نجت الشام ومصر من الخطر المهلك واستراحت من الصليبيين دهرًا طويلًا، ولم يقوَ الصليبيون بعد هذه المرة على مهاجمة البلاد إلى أن ضعف الأيوبيون، اللهم إلا بعض مناوشات قليلة، فلما ضعف الأيوبيون وأخذوا يتقاتلون على السلطان بل ويستعين بعضهم بالصليبيين على بعضهم، تضعضع أمر البلاد وعاد الصليبيون من جديد إلى إثارة القلاقل. وفي عهد الملك الصالح صاحب مصر أخذ ظل الدولة الأيوبية يتقلص من الشام، ولما هلك الصالح سنة ٦٤٧ﻫ، وكان أول من استكثر من المماليك وجاء بعده ابنه تورانشاه فلم تطل مدته أكثر من شهرين إلا قليلًا، سيطرت على البلاد قوة جديدة هي قوة المماليك البحرية، وكان أولهم أيبك التركماني وكان ذا بطش ودهاء، فساس البلاد سياسة قوية، وكان سخي اليد فالتف الأمراء والمماليك من حوله، وقد أكثر من إعطاء الأموال ليقبله الناس أميرًا مع كونه مملوكًا رقيقًا.

قال ابن تغري بردي: «وكان ملكًا شجاعًا كريمًا عاقلًا سيوسًا كثير البذل للأموال، أطلق في مدة سلطنته من الأموال والخيول وغير ذلك ما لا يحصى كثرة حتى رضي الناس بسلطان مسه الرق. وأما أهل مصر فلم يرضوا به إلى أن مات وهم يسمعونه ما يكره حتى في وجهه.» ولما قتل وقعت الاضطرابات في البلاد الشامية والمصرية وخصوصًا والشام لم يستقر بعد للمماليك، فإن بقايا الأيوبيين كانوا ما يزالون فيه، فشمال الشام إلى الفرات كان فيه الناصر صلاح الدين يوسف، وحماة كانت للملك المنصور محمد، والكرك والشوبك كانتا للمغيث، وبلاد صهيون كانت للمظفر عثمان منكورس، وتدمر والرحبة كانت تحت يد الأشرف موسى بن إبراهيم. وفي هذه الفترة المضطربة ظهر التتار سنة ٦٥٦ﻫ، فدمروا بغداد، واتجهوا نحو الديار الشامية سنة ٦٥٧ﻫ وفتكوا بأهالي حلب ثم بأهالي دمشق، وساروا جنوبًا حتى غزة فهزمت الجيوش أمامهم ودخلت إلى مصر وتجمعت جموع قوية منهم قابلت التتار في عين جالوت، فهزموهم ومزقوهم وفاز الجيش المصري-الشامي فوزًا مبينًا، وكان ذلك النصر على يد الملك قطز، ولما ولي السلطنة بيبرس البندقداري بعد قطز كانت البلاد تواجه خطرين: أولهما التتار، فإن هولاكو غضب لهزيمة جيوشه في عين جالوت، وثانيهما الصليبيون، فاستطاع بيبرس القضاء على التتار وأحبط مساعي الصليبيين، وأخذ حصونهم وقلاعهم في الساحل الشامي مثل يافا وصور وعكا وطرابلس، ولم يمت الظاهر بيبرس سنة ٦٧٦ﻫ حتى قضى على الصليبيين قضاء مبرمًا وأنقذ دمشق من أيديهم، وكان ملكًا عادلًا شهمًا سيوسًا سيطر على البلاد الشامية والمصرية خير سيطرة وساسها أفضل سياسة. قال شمس الدين سامي: «عاد للبلاد بهاؤها بسلطنة بيبرس، وصارت السلطنة الإسلامية ذات بهاء وفخامة في عهده.» وفي سنة ٦٨٣ﻫ عاد المغول والصليبيون يريدون الشام من جديد، فدخلوها وأفسدوها، فسارت إليهم جيوش مصر وهزمتهم جميعًا ولحقتهم إلى طرابلس فدمرتها على رءوسهم.

ولما مات قلاوون سنة ٦٨٩ﻫ وتولى ابنه الأشرف خليل رأى الصليبيين قد استفحل أمرهم في الديار الشامية، فنهض من مصر وفتح عكا وكانت حصن الصليبيين المنيع منذ القديم ودكها دكًّا. ولما رأى الصليبيون ذلك رعبوا فأخلوا صيدا، فدخلها الملك الأشرف وهدمها، ثم استولى على بيروت وصور وعتليت وطرطوس وجبيل والبتروت والأسكندرونة، وطرد بقايا الصليبيين من الساحل الشامي، وكانت هذه الحملة هي الحملة الأخيرة التي طهرت البلاد من الصليبيين. وقد رأيت أن الحملة السابقة كانت طهرت الداخل وهذه طهرت الساحل، فاستراحت البلاد الشامية جميعًا منهم، واستطاع الملك لاجين ملك مصر والشام أن يتخذ من الجيوش الشامية والمصرية أداة لفتوحات جديدة بعد أن كانت قبلئذٍ معدة للدفاع فقط.

ففي سنة ٦٩٧ﻫ جرد السلطان جيوشه لفتح بلاد الأرمن في سيس لأنهم كانوا لا يتركون البلاد تستريح، فأخضع ملكهم ثم رجعت الجيوش الظافرة والبلاد في أمن واطمئنان، ولكنها لم تلبث طويلًا حتى فوجئت بزحف جديد للتتار سنة ٦٩٩ﻫ وعلى رأسهم غازان بن أرغون خان بن هولاكو، فدخل حلب وحماة وفتك بأهليهما، ولما بلغت هذه الأخبار مسامع السلطان الناصر بن قلاوون زحف من مصر فالتقى الجيشان قرب حمص وكسر الجيش المصري وانهزم السلطان، ولقيت دمشق وسائر البلاد الشامية أهوالًا جسامًا، ولكن ما لبث السلاطين من أولاد قلاوون أن أعادوا إلى البلاد الهدوء والهناء، وما إن هلك آخر سلطان من البيت القلاووني وهو الأشرف شعبان سنة ٧٧٨ﻫ حتى اضطربت البلاد وأخذ نواب الشام يستقلون عن مصر، فأشرفت البلاد على عهد جديد هو عهد المماليك الأتراك، وقد رأى الأتابك برقوق ضعف حال السلطان وفساد البلاد ومخامرة النواب وفساد العدو والأعراب، وأحس بلزوم تجديد شباب الملك بإسناده إلى سيد كبير، فجمع القضاة والخليفة وطلب إليهم أن يسلطنوه ويخلعوا الملك الصالح، فوافقوا على ذلك وكان هذا في سنة ٧٨٤ﻫ، فهدأت البلاد أول الأمر ثم عادت إليها الاضطرابات كما كانت أيام المماليك البحريين. قال الأستاذ كرد علي: وكانت هذه الدولة عجبًا في ضعف الإدارة وقيام الخوارج لأن الملك على الأكثر كان ضعيفًا ينزله من عرشه كل من عصا عليه واستكثر من المماليك وقدر أن يتسلط على عقول السذج من العربان وأرباب الدعارة والطمع من الناس … والقاهرة لا شأن لها بعد أن يتقاتل المتقاتلون على الملك، أو يقاتل القواد أرباب العصيان والتمرد ويظفر أحد المتنازعين على السلطنة أو الأمير الذي وسد إليه اجتثاث دابر العاصي إلا أن تزين أسواقها سبعة أيام أو ثلاثة أيام على الأقل، تفعل ذلك لأقل حادث يحدث … وكانت دمشق في أيام الشراكسة ثم في أيام الأتراك أخلافهم تزين سبعة أيام لأقل ظفر يقع، فيفرح السلطان وتدق البشائر. وقد عمت الفوضى في عهد المماليك الأتراك وساد الاضطراب وانتشر الخوف في البلاد وخصوصًا حين هاجمها تيمورلنك سنة ٨٠٢ﻫ، فهدم دمشق وحلب وفعل في أهليهما الأعاجيب حتى قال بهاء الدين البهائي يرثي البلاد الشامية، ويصف ما حلَّ بها من جراء أفعالهم:

لهفي على تلك البروج وحسنها
حَفَّت بهن طوارقُ الحدثان
لهفي على وادي دمشق ولطفه
وتبدل الغزلان بالثيران
وشكا الحريقُ فؤادَها لما رأت
نور المنازل أبدلت بدخان

•••

جنَّاتُها في الماء منها أُضرمت
فعجبت للجنات في النيران
كانت معاصمُ نهرها فضيةً
والآن صرن كذائب العقيان
ما ذاك إلا تُركهم ولجت بها
فتخضبت منها بأحمر قاني

•••

لو عاينت عيناك جامع «تنكز»
والبركتين بحسنها الفتان
وتعطش «المرجين» من ورَّادها
وتهدم المحراب والإيوان
لأتت جفونُك بالدموع ملونًا
دمعًا حكى اللولو على المرجان

•••

أبني أُمية أين يمنُ وليدكم
والمُغْل تفتل في ذرى الأركان؟٢
شربوا الخمور بصحنه٣ حتى انتشوا
ألقوا عرابدهم على النسوان
لم يرحموا طفلًا بكى فقلوبهم
في الفتك صخر لا أبو سفيان

•••

لهفي على تلك العلوم ودرسها
صارت مغانيها بغير بيان
أعروسنا لك أسوة «بحماتنا»
في ذا المصاب فأنتما أختان
غابت بدور الحسن عن هالاتها
فاستبدلت من عزها بِهَوَان
ناحت «نواعير» الرياض لفقدها
فكأنها الأفلاك في الدوران

وقال بعض أدباء حلب الشهباء يرثيها ويصف ما حل بها:

يا عين جودي بدمعٍ منك منسكب
طولَ الزمان على ما حلَّ في حلب
من العدو الذي قد أمَّ ساحتها
ناح الغراب على ذاك الحمى الحرب
ويلاهُ ويلاهُ يا شهبا عليك وقد
كسوتني ثوبَ عزٍّ غيرِ منسلب!
من بعد ذاك العلا والعز قد حكمت
بالذل فيك يد الأغيار والنوب
وأصبح المُغْل حكامًا عليك ولم
يرعوا لجارك ذي القربى ولا الجنب
وفَرقوا أهلك الساداتِ وانتشروا
في كل قطر من الأقطار بالحوب
وخربوا ربعك المعمور حين غدوا
يسعون في كل نحو منك بالنكب
وخرَّبوا من بيوت الله معظمها
وحرَّقوا ما بها من أشرف الكتب
لكن مصيبتك الكبرى التي عظمت
سَبْيُ الحريم ذواتِ الستر والحجب
يأتي إليها عدو الدين يفضحها
ويجتليها على لاهٍ ومرتقب

ولما رحل تيمور بعد أن خرب البلاد، عاد إليها نفوذ المماليك وسلطانهم الأخرق ووقعت فتن كثيرة في البلاد، فإن السلطان الملك الناصر كان سخيفًا أخرق سكيرًا سفاكًا، ففعل الأفاعيل حتى قتله أصحابه ثم جعلوا الخليفة سلطانًا، فهدأت البلاد قليلًا ثم عادت إلى الفوضى، واستمرت على ذلك حتى داهمتها طلائع الجيش العثماني.

في أوائل القرن العاشر كان على التخت العثماني سلطان قوي هو السلطان سليم، وقد استطاع بقوته ودهائه القضاء على نفوذ الدولة الصفوية العجمية، وكانت نفسه تطمح إلى السيطرة على الدولة المصرية-الشامية، وكان أبوه وجده من قبله يرجوان ذلك، ولهما حروب ومناوشات كثيرة مع بعض رجال دولة المماليك في بلاد الشام. وفي سنة ٩٢٢ﻫ أرسل السلطان العثماني جيشًا كبيرًا يريد به السيطرة على البلاد الشامية، فبلغ الخبر السلطان قانصوه الغوري ملك مصر والشام، فأرسل إلى السلطان العثماني يعرض عليه الصلح؛ فلم يقبل، واشتبك الجيشان وقُتل قانصوه الغوري، ودخل السلطان العثماني حلب ثم دمشق، وقد تألم الناس لانقضاء عهد المماليك على ما كان فيه من اضطراب حتى قال بعض شعراء الشام:

ليت شعري من على الشَّام دعا
بدعاء خالصٍ قد سُمعا
فكساه ظلمةً مع وحشةٍ
فهي تبكينا ونبكيها معا
قد دعا من مسَّه الضر من اﻟ
ـظُّلم والجور اللذين اجتمعا
فأصاب الشام ما حلَّ بها
سنة الله التي قد أبدعا

ثم سار السلطان العثماني بعد فتح الشام إلى مصر، وقتل الملك طومانباي الذي ولاه المصريون بعد قانصوه الغوري، وبسط نفوذه على مصر، ثم رحل إلى عاصمة ملكه وأخذت البلاد تقاسي الويلات من الجند العثماني الذي كان ينهب البيوت ويقطع الأشجار. وما كانت الحال في الشام بأحسن منها في مصر، فقد أصبح البلدان تحت رحمة باشوات الترك وجندهم، وكيف يكون الجند والباشوات صالحين وسلطانهم كما يصفه المؤرخ المصري ابن إياس: «لا أنصف مظلومًا من ظالم، بل كان مشغوفًا بلذته وسكره، وإقامته في المقياس بين الصبيان المرد ويجعل الحكم لوزرائه بما يختارونه، وكان ابن عثمان لا يظهر إلا عند سفك دماء الشراكسة، وما كان له أمان إذا أعطاه لأحد من الناس، وليس له قول ولا فعل، وكلامه ناقض ومنقوض، لا يثبت على قول واحد كقول الملوك وعادتهم في أفعالهم.» هذا وقد ساق السلطان ابن عثمان من مصر والشام أحمالًا وأحمالًا من الذهب والمتاع والكتب والتحف والرياش والأثاث، ووضع الضرائب والمكوس، وأهلك الناس بما فرضه عليهم من الضرائب. ولما هلك سليم وجاء ابنه سليمان هان أمر مصر والشام؛ فإنه كان مشغولًا عن تنظيم البلاد المفتوحة الخاضعة له بالفتوحات الجديدة التي كان يطمع فيها، وقد خرج هو بنفسه إلى الغزو والفتح أكثر من اثنتي عشرة مرة، وكان يظفر في كل موقعة؛ فوسَّع رقعة المملكة العثمانية، ولم يكن للبلاد المصرية والشامية في عهد سليمان إلا أن تظهر أفراحها بالفتوحات وتعاني الأمرين من الجند الانكشارية والسباهية والدالاتية. ثم خلفه ابنه سليم السكير وكان شر الناس أخلاقًا وسيرة، ثم جاء بعده مراد الثالث وقد لقيت البلاد المصرية والشامية في عهده كل عنت وإرهاق، ولما انتهى القرن العاشر ودخل القرن الحادي عشر، أمَّل الناس تغير النظام القديم المضطرب الذي كان أقل شيء فيه عدم استقرار الولاة واضطراب إدارتهم، فإن الوالي كان لا يقيم في البلدة إلا ريثما يخرب وينهب ويضرب الضرائب، وقد بلغ عدد ولاة دمشق في ذلك القرن واحدًا وثمانين واليًا، وعدد ولاة حلب أكثر من ٥٠ واليًا، والذين تولوا مصر أكثر من ثلاثين، وقد كانت البلاد تقاسي الويلات والشدائد منهم. وكان الوالي الصالح منهم لا يستقر ليتوفر على الإصلاح، وفظائع الولاة العثمانيين في مصر والشام أكثر من أن تحصى، ومن شر الولاة العثمانيين في مصر محمود باشا المقتول وكان فيها سنة ٩٧٣ﻫ، وقد نظم بعض أدباء مصر تاريخ وفاته فقال:

موتُ محمودٍ حياةٌ
فيهِ للعالم رحمه
قَتْلُه بالنارِ نورٌ
وهو في التاريخ (ظُلْمه/٩٧٥)

وقال آخر:

أتى محمود باشا يوم نحس
فساقته منيتُه غَصيبه
تجاه الناصرية خلف حَيْطَ
بقيظٍ جاءه منه مصيبه
ببندقة رماه كف رامٍ
فحرَّرها فجاءته مصيبه

وقد كثر في العصر العثماني الجوع والقحط والضنك في البلاد جميعًا، وخصوصًا في عهد أويس باشا الذي رثاه بعضهم بقوله:

أهلك الله أويسًا إنه
جار في الحكم ولم يَخْشَ الوعيد
مذ أتى مصرَ تَجبَّر واعتدى
وبه السلبُ تبدَّى في مزيد
أهلك الحرثَ وكم من فتنةٍ
أمَّها بالجهل فيما لا يفيد
مذ دهاه الموتُ ما أفلته
لا ولا كان له عنه محيد
خاب سعيًا بوفاةٍ أرَّخو
(ها وخاب كل جبار عنيد/٩٩٩)

ولم يكن الشام أسعد حظًّا بولاته من مصر، فقد وليه طائفة من الولاة القساة الظلمة، ولم يكن قضاة الشرع فيه أفضل من الولاة؛ ففي سنة ٩٣٤ﻫ قتل أهالي حلب قرا قاضي علي بن أحمد الذي جاء لتفتيش أوقاف حلب وأملاكها، وللنظر على الأموال السلطانية، ولرفع ثمن القمح والملح وجعله أغلى من الفلفل، ولمَّا ضيق على الناس انتهزوا فرصة دخوله على المسجد الجامع للصلاة يوم الجمعة وتجمعوا عليه وقتلوه ضربًا بالنعال ورجمًا بالحجارة.

ولم يكن الولاة العثمانيون في القرنين الحادي عشر والثاني عشر أحسن حالًا من الولاة في القرن السابق، فقد كانت الفوضى منتشرة في البلاد، وانتهز بعض أمراء البلاد هذه الفوضى وذلك الضعف فأعلنوا عصيانهم ببلادهم، ومن هؤلاء نفر من المماليك في مصر وطائفة من المتنفذين في الشام، وقد عظم أمر هؤلاء حتى صار الوالي تحت رحمة هؤلاء، يقضي مدته القصيرة وهو كالسجين في القلعة ولا هَم له سوى أن يأخذ جامكيته ويجمع الأموال من كل طرق يستطيعها.

ومن أعظم الأمراء الذين نجموا في هذا العصر بمصر علي بك الكبير الذي كان يرى أن دخول العثمانيين إلى مصر والشام دخول ظالم، وأنه لا بد أن ينقذ البلاد منهم، واتفق مع الشيخ ضاهر العمر أمير عكا على العصيان والثورة، فوجهت الدولة العثمانية إليهما جيشًا عظيمًا استطاعَا أن يتغلبا عليه، ولما ظفر علي بك الكبير بالجيش العثماني طمع في التوسع ففتح اليمن وجدة ومكة وأكثر الجزيرة العربية، ثم في سنة ١١٨٥ﻫ أرسل قائده محمد بك أبا الذهب على رأس حملة إلى بلاد الشام؛ فاستولى على غزة ونابلس والقدس ويافا، ثم حاصر دمشق وتركها دون أن يدخلها؛ لأن الأتراك استطاعوا أن يستميلوا أبا الذهب، فترك الديار الشامية وترك حليفه الشيخ ضاهر العمر يقاوم وحده، فكتب الشيخ ضاهر إلى علي بك يخبره بخيانته بعد أن كاد يملك القطر الشامي، ثم ما لبث أن مات علي بك وسيطر أبو الذهب على مصر وعادت سلطة العثمانيين على مصر من جديد، وظلت مصر تقاسي الويلات في الإدارة والفوضى حتى جاءها الفرنسيون وعلى رأسهم نابليون بونابرت سنة ١٢١٢ﻫ، ولما فتحت مصر رأى نابليون أن البلاد جزء لا يتجزأ من مصر، وأن ملك مصر لا بد له من السيطرة على الشام وعزم على ذلك.

قال الأستاذ كرد علي: ولما شعر نابليون باجتماع الجيوش لمحاربته وأنه إن لم يفاجئ الدولة العلية في بلاد الشام قبل أن تتم استعداداتها الحربية؛ تكون عواقب الأمور وخيمة عليه، وأن من يحتل مصر لا يكون آمنًا عليها إلا إذا احتل القطر السوري، فلهذه الدواعي عزم نابليون على فتح بلاد الشام، وقام من مصر ومعه ثلاثة عشر ألف مقاتل قاصدًا الشام من طريق العريش فاحتل حيفا ويافا، ولما علم أحمد باشا الجزار أمير عكا بذلك حصَّن مدينته وجمع جموعه، فذهب إلى نابليون، وكانت كسرة نابليون الفظيعة، فرجع إلى مصر، ولم يبق فيها طويلًا حتى اضطرته الأحوال في فرنسا إلى العودة، فترك الشرق وهو مؤمن بإخفاقه في محاولته.

ولما غادر نابليون البلاد استاء زميله كليبر من مغادرته، فكتب إلى الحكومة المركزية الفرنسية تقريرًا وصف فيه سوء حال الفرنسيين في الشرق، وطلب موافقته على المفاوضات مع العثمانيين للجلاء عن مصر، ثم فاوض العثمانيين على الانسحاب، ولما كاد الانسحاب يتم وقعت الثورة في مصر وقُتل كليبر في سنة ١٨٠٠م، وخرج الفرنسيون من مصر بعد أن بقوا فيها ثلاث سنوات وثلاثة أشهر، ولم يكن لهذه الحملة الفرنسية أثر يذكر في بلاد الشام. أما في بلاد مصر فقد أثرت آثارًا قيمة، وكان لها نتائج طيبة من الناحية العلمية والأدبية والاقتصادية كما سنرى، ومنذ هذا العهد أخذت مصر تتطور تطورًا عجيبًا قويًّا وسريعًا، فقد تنبهت أذهان أبنائها بعد أن كانوا في سبات عميق بمعزل عن العالم المتمدن، حالهم كحال بقية الولايات العثمانية في التأخر السياسي والاجتماعي والعلمي، وقد كان للفرنسيين الذين صحبوا الحملة الفرنسية — مثل «مونغ» الرياضي، و«له به ر» المهندس، و«كونته» العبقري المخترع — أعظم أثر في تنبيه أذهان الجيل المصري الجديد.

وبعد أن رحل الفرنسيون عن مصر عادت إليها الاضطرابات والفوضى السياسية والإدارية، ولكنَّها مع ذلك أخذت تمتاز عن البلاد الشامية بما رأته من النشاط العلمي والاجتماعي الفرنسي أثناء تلك الفترة القصيرة التي أقامها الفرنسيون في مصر، ولكن لم تنهض البلاد نهضتها الكبرى إلا في عهد محمد علي باشا مؤسس البيت المالك المصري الكريم سنة ١٢٢٠ﻫ، فمنذ هذا التاريخ أخذ الأمن والنظام ينتشران في مصر، ولما استتب الأمر لمحمد علي في مصر رأى ما كان يراه قبله من الأمراء المسيطرين على مصر أنه لا بد له من السيطرة على الديار الشامية، فأمر في سنة ١٢٤٧ﻫ بإعداد جيش عظيم لفتح الشام. وإليك ما يقوله المستشرق الفرنسي الطبيب كلوت بك عن هذه القضية: «إن ضم سورية إلى مصر كان ضروريًّا لصيانة ممتلكات الباشا، فمنذ تقرَّر في الأذهان أن إنشاء دولة مستقلة على ضفاف النيل يفيد المدنية فائدةً عامة، وجب الاعتراف بأنه لا يمكن إدراك هذه الغاية إلَّا بضم سورية إلى مصر، وقد رأينا فعلًا أن موقع البلاد الحربي لا يجعلها في مأمن من الغزوات الخارجية خصوصًا عن طريق برزخ السويس، فإذا استثنينا غزوة الفاطميين المغاربة وغزوة الفرنسيين بقيادة نابليون، نجد أن سائر الغزوات جاءت عن طريق سورية: كغزوة الفرس في عهد قمبيز، وغزوة الإسكندر والفتح الإسلامي، وغزوتي الأيوبيين والأتراك، وعلى ذلك لا يمكن الاطمئنان إلى بقاء مصر مستقلة إلا بإعطائها الحدود السورية؛ لأن حدودها ليست في السويس، بل في طوروس.»

هكذا يقول كلوت بك، ولا شك في أنه ما قال هذا القول إلا بعد إقناع الباشا به، وقد قسم الباشا جيشه إلى قسمين: قسم يذهب إلى الشام برًّا، وقسم يذهب إليها بحرًا، وقد جعل على رأس هذا الجيش ولده إبراهيم باشا، فسار الجيش وفتحت فلسطين من أقصاها إلى أقصاها بعد حصار قليل لمدينة عكا، ثم سارت الجيوش نحو الشمال ففتحت دمشق فحلب، وعمت الأفراح في بلاد الشام بالفتح المصري حتى قال شاعر الشام في وقته الشيخ أمين الجندي في ذلك من قصيدة يمدح بها إبراهيم باشا، ويسرد بعض أحوال الموظفين الأتراك وفظائع الجند العثماني وما كانوا يعاملون به الناس من سوء الخلق:

وقد استبَاحُوا المنكراتِ فلا تَسَلْ
عمَّا توقعَ منهمُو وتحصَّلا
وقضاتُهم للسُّحت قد أكلوا فَهَلْ
أبصرتَ حيًّا عن مَضَرَّتهم خَلَا؟
نَبَذُوا الشَّرِيعَةَ من ورَاءِ ظهورهم
وطَغَوْا وزَادوا في الضلال توغُّلا
ومشايخُ الإسلام أصبح علمهمُ
جهلًا فلم تَرَ قَطُّ منهم أجهلا

•••

هل يغلبُ الأسدَ المجربَ ثعلبٌ
مهما استعان بمكره وتحيَّلا
وإلى حماةِ الشام سارَ وبعدها
لمعَرَّة النُّعمان يَخْترق الفلا
حتى إذا اقتحمَ «المضِيق» ببأسهِ
وعلى الجبال سَمَا وأشرف واعتلا
تركوا الذخائر والخيامَ وكلها
يخشون منه لدى القرار تنقلَّا
من يخبر الأتراكَ أن جيوشهم
كُسرت وأن حُسينهم ولَّى إلى …
والعزُّ بالعَرَب استنار منارُه
بِبزوغ شمسِ مَرَاحم لن تأفلا
يا حبذا جرثومةُ الفَضْلِ الذي
طابتْ فروعًا حسبما قد أصِّلا

فأنت ترى فرح هذا الشاعر السوري بزوال شمس الأتراك وبإشراق شمس العرب على يد إبراهيم، ولا شك في أن الإصلاح الذي قام به محمد علي باشا في مصر قد بلغت أخبارُه مسامع الشاميين، فأخذوا يتمنون لبلادهم مثل ما لقيت مصر. ولما رأى الناس الجيش المصري في بلادهم فرحوا واستبشروا.

قال الأستاذ كرد علي في أثناء فصل عقده للحديث عن أعمال إبراهيم باشا في سورية: إنه قد رتب المجالس العسكرية والملكية وأقام مجلس الشورى وغيره من النظم الحديثة، ورتب المالية وجعل نظامًا لجباية الخراج ومعاملة الرعايا بالمساواة والعدل لا تفاوت في طبقاتهم ومذاهبهم؛ ولذلك لم يلبث الأمراء والمشايخ وأرباب النفوذ أن استثقلوا ظل الدولة المصرية، وتمنوا رجوع العثمانيين ليعيشوا معهم كالحلمة الطفيلية تمتص دماء الضعفاء وينالهم من ذلك مصة الوشل، مع أن البلاد رأت في أيام إبراهيم باشا إبطالَ المصادرات وتقدير حق التملك وتوطد الأمن في ربوعها، وأحييت الزراعة والتجارة والصناعة، وعُمِّمت تربية دود الحرير ودود القز، واستخرجت بعض المعادن … وأكد الكثيرون أنه بعمله هذا استعادت أكثر قرى حوران وعجلون وحماة وحمص وغيرها من أعمال الشام عمرانها القديم، وخرب بعض القلاع التي كان يعتصم فيها الثائرون أحيانًا مثل قلاع جبل اللُّكَّام وقلعة القدموس، وقرَّب العلماء والشعراء.

ولولا خطأ قام به إبراهيم باشا في البلاد لظلت دولته قائمة في الشام؛ وذلك أنه نفذ قانون «الجهادية» الذي سنَّه أبوه في مصر، وكان عليه أن يؤخره إلى حين؛ لأن رجال البلاد وشبانها قد تعودوا الكسل والخمول، وكان ينبغي أن يتريث بعض التريث.

قال الأستاذ كامل الغزي: «وفي سنة ١٢٥٤ﻫ وقع القبض والتفتيش على أولاد المسلمين ليدخلوا في النظام العسكري، ومن لم يوجد منهم قُبض على أبيه أو أمه أو زوجته وعُذِّبوا إلى أن يحضر الرجل المطلوب، ومن هرب منهم أو أحجم عن السفر يجعل هدفًا للرصاص.» وقد رأى أرباب العثمانيين وأنصارهم في بلاد الشام أن الشاميين قد انقلبوا على الدولة المصرية، فأخذوا ينفخون في النار حتى قامت الثورة في الشمال والجنوب، واستغل الترك هذه الثورات فجهز سلطانهم محمود سنة ١٢٥٥ﻫ جيشًا يقارب السبعين ألفًا وعلى رأسه حافظ باشا، فالتقى الجيشان في نصيبين وهزم الجيش العثماني وغنم المصريون مغانم كثيرة، وفي هذه الفترة مات السلطان محمود وخلفه ابنه عبد المجيد، وكان على حداثة سنه ذكيًّا لبقًا، فاتفق مع دول أوروبا ضد الدولة المصرية، ولما رأى محمد علي تكاتف دول أوروبا عليه عزم على محاربتهم جميعًا، ووقعت حروب بين الأسطول الإنكليزي في بيروت وصيدا وعكا، ثم اضطر الجيش المصري أن ينسحب، فانسحب من الديار السورية وأهل العقل والمروءة والوطنية يبكون على فراق هذه الدولة الحكيمة على قصر أيامها.

قال الأستاذ كرد علي: «وكانت حكومة محمد علي من أفضل ما رأت الشام من الحكومات منذ ثلاثة أو أربعة قرون، بل إن الشام في القرون الوسطى والحديثة لم تسعد بما يقرب منها فضلًا عما يماثلها.»

وكتب المستر برانت قنصل بريطانيا في دمشق إلى سفير دولته في الآستانة سنة ١٨٥٨ﻫ ما تعريبه: «ولما كانت الإيالة تحت حكم محمد علي باشا عاد كثير إلى سكنى المدن والقُرى المهجورة الواقعة حوالي حمص وفي كل الجهات الواقعة على حدود البادية، وفي هذه الأماكن أكره العرب على احترام سلطة الحكومة وجعل السكان بمأمن من اعتداءاتهم … ولم يكد المصريون يطردون من البلاد ويتقلص ظل سطوتهم، وقد كانوا أخضعوا الجميع لحكمهم الشديد، حتى عاد القوم إلى نبذ الطاعة، وخلفت الرشوةُ والتبذير في إدارة المالية النزاهة والاقتصاد، ومُنيت المداخيل بالنقص.»

•••

هذه هي الصفحات التي تصور لنا تاريخ هذين القطرين الشقيقين خلال العصور منذ فجر التاريخ إلى أوائل العصر الحديث، وهي صفحات قاسم فيها كل بلد أخاه في آلامه وآماله ومصائبه. واليوم تهفو قلوب كلٍّ من سكان البلدين إلى شقيقه، فالله أسأل أن يحقق هذه الأماني ويجمع الشمل.

وقد يجمع الله الشتيتين بعدما
يظنان كل الظن أن لا تلاقيا
١  نقصد بالشام اصطلاح العرب القدماء، وحدوده من جبال اللكام شمالًا إلى حدود مصر جنوبًا.
٢  المغل هم المغول، وتفتل: تعبير شامي يراد به التنزه والتفرج.
٣  الضمر يرجع إلى جامع بني أمية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤