العلاقات العلميَّة والأدبيَّة بين القطرين

رأيت في الفصل السابق قوة العلاقات السياسية بين البلدين على مرور الأحقاب والدهور، وطبيعي أن تكون العلاقات العلمية والأدبية أقوى؛ فإن السياسة قد تنقطع عراها بين بلدين، ولكن من العسير جدًّا أن تفصم عُرَى العلم بين بلدين بانقطاع العلاقات السياسية بينهما، ومهما فعلت السياسة في التفريق بين بلدين فإنها لا تستطيع أن تمنع علماءهما وأدباءهما من التزاور والبحث والمناقشة. والحق أن العلاقات العلمية بين الشام ومصر عريقة جدًّا في القدم، وأكاد أقول إنها موجودة بينهما منذ أن وجد العلم والأدب والفن في هذين القطرين. ولعل أقدم العلاقات العلمية القوية بينهما ترجع إلى زمن الفينيقيين، فقد ذهب شامبوليون إلى أن الكتابة الفينيقية هي وليدة الكتابة الهيروغليفية، وأثبت دي روجة أن خمسة عشر حرفًا من الاثنين والعشرين حرفًا — وهي الأبجدية الفينيقية — تتشابه تمام التشابه مع مثيلاتها في الخط الهيروغليفي، وأن السبعة الباقية لا يبتعد الشبه بينها وبين مثيلاتها الهيروغليفيات. وكذلك كان الأمر بين اللغتين فإن التشابه بينهما كبير، قال كوستاف لبون في كتابه عن الحضارة المصرية: «إن لغات سورية وبلاد العرب وشمال إفريقية تنقسم كأهاليها إلى فرعين: الفرع السامي أو الفرع السوري العربي، والفرع الحامي أو الفرع المصري المتبربر، وبين هذه اللغات جميعًا قرابة كالتي بين المتكلمين بها، واشتقاقها ولهجاتها المختلفة ترجع إلى أصل واحد أوليٍّ ضاع اليوم، ولكن هذه اللغات لم تبتعد عنه كل البعد.»

وقد رأيت في الفصل الذي عقدناه للعلاقات السياسية في زمن الفراعنة كثرة العلاقات والمحالفات بين البلدين، ولا شك في أن هذه العلاقات السياسة كان لها أثرها في العلاقات الاجتماعية واللغوية والأدبية.

•••

وفي العصر اليوناني كانت العلاقات بين القطرين قوية أيضًا، فإن اليونان لما احتلوا هذين القطرين نشروا فيهما كليهما لغتهم وآدابهم وعلومهم وعقائدهم، وصارت مدرسة الإسكندرية كعبة الطلاب السوريين يقصدونها من أنحاء بلادهم، كما كان كثير من العلماء السريانيين يقصدون البلاد المصرية وبخاصة الإسكندرية ليتعلموا ويُعلموا. ولما غزا الفرس سورية هاجر قسم كبير من العلماء السريانيين إلى البلاد المصرية ونشروا فيها لغتهم حتى صارت لغة العلم والطب. وقد كان تزاور العلماء بين القطرين كثيرًا جدًّا، ومن أشهر من زار مصر من السوريين وكان لهم فيها أثر كبير «حنا مسكوس»، وقد كان راهبًا ألمعيًّا يجيد اللسان اليوناني، وقد رحل إلى مصر من الشام وأقام فيها طويلًا هو ورفيقه «صفرونيوس» الدمشقي، وكان ذلك في نهاية القرن السادس للميلاد، وقد طافا أكثر بلدان مصر وأديرتها، ووصفا في مؤلفاتهما ما رأياه من آثار البلاد العجيبة. وقد اتصلا بالبطريق «حنا المرحوم» بطريق الإسكندرية وعظيمها، فكان يفيد من علمهما، ولما اضطر إلى الهرب من الإسكندرية وقت الغزو الفارسي هربَا معه ورحلا إلى رومة، وهناك أعاد «حنا مسكوس» النظر في كتابه «مسارح الروح» الذي ما تزال قطعة حسنة منه باقية إلى أيامنا هذه، وهو من الكتب الطريفة الجامعة بين الأدب والدين والأخبار والمعجزات والأمثال والأحلام والتاريخ. ولصفرونيوس أيضًا آثار ضخمة في الأدب والدين لا تقل عن كتاب أستاذه وصديقه «حنا مسكوس»، وصفرونيوس هذا هو الذي نشر كتاب أستاذه وحققه.

وقد استمرت مدرسة الإسكندرية مرجعًا للطلاب السوريين من المسيحيين حتى بعد الفتح الإسلامي، ففي عام ٦٨٠م قدم إليها يعقوب الرهاوي ليكمل دراسته عن آداب اللغة اليونانية واللغة السريانية. وفي أيام بني أمية كانت مدرسة الإسكندرية المعهد الوحيد الذي كان يغذي البلاد السورية بالطب والفلسفة والحكمة والصنعة والعلوم المسيحية، فهذا اصطفان الإسكندري يترجم بعض كتب الفلسفة والصنعة لخالد بن يزيد بن معاوية عالم بني أمية وفيلسوفها، وهذا الطبيب ابن أبجر الإسكندري يعتمد عليه عمر بن عبد العزيز في ترجمة بعض كتب الطب والحكمة.

أما معاهد الديار الشامية التي كان يقصدها المصريون قبل الإسلام فهي مدرسة بيروت الرومانية ومدرسة أنطاكية، أما مدرسة بيروت فقد أسسها أحد أباطرة الرومان لتعليم الفقه والأدب وجعل لغة التعليم فيها اللغة اللاتينية، وقد كان الطلاب يقصدونها من أنحاء البلاد جميعها حتى من القسطنطينية نفسها، قال المسعودي: «وقد خربت مدرسة بيروت قبل الإسلام بالزلازل ثم بحريق بيروت سنة ٥٦٠م.» وأما مدرسة أنطاكية فقد كانت من آثار خلفاء الإسكندر الكبير، وكانت دار علم وحكمة، وممن تخرج بها من الأعلام القديس يوحنا فم الذهب والقديس لوقا، وقد كان لهذين القديسين فضل كبير في نشر المسيحية وآدابها في الشام ومصر.

ولما جاء الإسلام ووحَّد بين الأقطار الشرقية قويت الصلات العلمية بينها جميعًا وبخاصة مصر والشام، فإن الصحابة الذين نقلوا الدين والحديث والأدب الجاهلي من الحجاز كانوا ينتقلون به بين الشام ومصر، ومن أشهر المعلمين الصحابة الذين تخرج بهم المصريون والشاميون عبد الله بن عمرو بن العاص، وقد كان على جانب عظيم من معرفة الحديث النبوي، كما كان من أوائل من دوَّنوا الحديث، وكان له اطلاع حسن على علوم الأوائل وديانتهم، فقد قرأ التوراة وتعرف السريانية وكان يحج ويعتمر ويأتي الشام ثم يرجع إلى مصر، وقد روى عنه العلم والحديث كثير من الصحابة والتابعين في المدينة ودمشق والفسطاط، وعبد الله هذا هو مؤسس المدرسة المصرية في الدين. ومن كبار رجال مصر الذين رحلوا إلى الشام وتعلموا فيه وعلَّموا أهله الإمام الليث بن سعد (سنة ١٧٥ﻫ)، وقد زار مكة والقدس وبغداد ولقي جماعة من التابعين فروى عنهم الحديث، وكان على اتصال دائم بالإمام مالك بن أنس يكاتبه في مسائل التشريع والفقه ويناقشه فيهما، وله في الديار المصرية أثر، وكان الشافعي يقول: «الليث أَفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به.» ومن كبار رجال الشام الذين رحلوا إلى مصر وتعلموا فيها وعلَّموا الإمام محمد بن إدريس الشافعي الغزي (سنة ٢٠٤ﻫ)، وكان رحل إلى بغداد ونشر فيها مذهبه ثم رجع إلى الشام فمصر، وفيها استقر وجدد مذهبه ونشره في المصريين بعد أن كانوا قبله مالكيين. وقد كان لذهاب الشافعي إلى مصر تأثير كبير في الحركة العقلية والدينية، فقد كان الناس قبله يركنون إلى مذهب مالك كما ينقله إليهم تلاميذه في الحجاز، وهو — كما نعلم — مذهب يعتمد على الرواية والنقل أكثر من اعتماده على البحث والرأي، فلما جاء الشافعي — وكان شديد التأثر بمذهب أبي حنيفة العقلي وتلاميذه — نشر مذهبه وأخذ المصريون يناقشون ما بين أيديهم من المذاهب ولا يتقبلون شيئًا دونما بحث أو تمحيص، كما كانوا من قبل. وإنك إذا قرأت «الرسالة» للإمام الشافعي وجدت أن الشافعي قد ملأها كثيرًا من ضروب المناقشة وأصول المجادلة العلمية، وهذا أمر لم تعرفه مصر قبل رحيل الشافعي إليها. وقد كان من نتيجة هذه الحركة الشافعية أن ظهرت في مصر مدرسة مصرية جديدة على رأسها عالمان جليلان: أحدهما إبراهيم بن إسماعيل المعروف بابن عُلَيَّة المصري المتكلم، وعيسى بن أبان الفقيه، وقد ألَّف كل منهما رسائل في الرد على كتب الشافعي ومناقشتها، كما رد عليهما داود بن علي الأصبهاني.

ولم يكن تأثير الشافعي مقصورًا على الناحية الفقهية، بل تعداها إلى الناحية الأدبية، فقد كان الشافعي — كما هو معروف — أديبًا راويةً للشعر والأخبار، قوي الاطلاع على كتب اللغة ومفرداتها، بارعًا في الكتابة وله أسلوب خلاب، وقد تأثر به تلاميذه المصريون في أسلوبه، ومن مشاهيرهم: يوسف بن يحيى البويطي (سنة ٢٣١ﻫ)، والربيع الجيزي (سنة ٢٥٦ﻫ). ولم تقتصر حركة الشافعي هذه على مصر وحدها، بل تعدتها إلى الشام، وأول من نقل مذهب الشافعي إلى الشام أبو زرعة الدمشقي محمد بن عثمان، وهو أول من تولى قضاء الشافعية بمصر، ثم عزل ورجع إلى دمشق وكان الغالب على أهلها مذهب الأوزاعي فنشر المذهب الشافعي فيهم.

هذا من الناحية الدينية، أما من الناحية العلمية فقد تبادلت مصر والشام منذ فجر الإسلام العلماء، فقد رأيت أن خالد بن يزيد الأموي كان يطلب من مصر علماءها ليترجموا له، ومنهم عبد الملك بن أبجر الكناني الطبيب العالم، وكان في أول أمره يقيم بالإسكندرية، ولما ملك المسلمون البلدة أسلم على يد عمر بن عبد العزيز فجعله صاحبه واعتمد عليه في صناعة الطب وترجمة بعض آثار الأقدمين في الطب لنشرها بين المسلمين.

وأما الناحية الأدبية فقد كان كثير من شعراء بلاد الشام يقصدون أمراء مصر الأمويين ويمدحونهم، مثل أيمن بن خريم الأسدي الذي قدم على عبد العزيز بن مروان وهو أميرها، وقد أقام عنده وأكثر من مدحه حتى قدم عليه الشاعر نصيب بن رباح فتركه. ومنهم الحزين الكناني وكان من شعراء عبد الله بن عبد الملك بن مروان أمير مصر. ومنهم عبد الله بن الحجاج وكان يفد على عبد العزيز بن مروان أيضًا، وقد مدحه وأقام عنده مدة ثم رجع إلى الكوفة. ومن الشعراء العراقيين الذين وفدوا على الشام ومصر وكان لهم في أدبائهما تأثير عميق؛ أبو نواس، فقد زار القطرين واجتمع بأدبائهما وشعرائهما وأسمعهم شعره فعجبوا له وأكبروه مثل ديك الجن الحمصي وابن الداية المصري، قال السيوطي: إن أدباء مصر وشعراءها تسابقوا لمصاحبة أبي نواس وكتابة شعره، وروى ديك الجن أنه قد زار مصر بعد رحلة أبي نواس عنها فوجد له أشعارًا كثيرة لا يعرفها غير المصريين. وروى حمزة الأصفهاني أنه وجد رسالة في شعر أبي نواس سقط منها الشعر الذي قاله في الشام ومصر، قال: وقدم علينا رجل من حمص حافظ لشعر أبي نواس، وزعم أن أباه كان لقي أبا نواس بحمص فكتب عنه قصائد أنشدها في مصر.

ومن هؤلاء الشعراء أيضًا دعبل بن علي الخزاعي، وكان قدم من العراق إلى مصر والشام، وفي مصر اتصل بأميرها المُطَّلب الخزاعي فأكرم المطلب وفادته وولاه إقليم أسوان وأقام فيه مدة ثم تركه، وله مدائح وأهاجٍ في المطلب.

ومنهم أبو تمام، فقد رحل إلى مصر طفلًا ودرس فيها وقال فيها أول شعره، وقد افتخر المصريون بنسبته إليهم وعدَّه الكندي — المؤرخ المصري — في كتابه أحد فضائل مصر. ولأبي تمام وهو في مصر شعرٌ مَدَح فيه أميرها عبد الله بن طاهر سنة ٢٢١ﻫ، وله فيها شعر يصف فيه الوقائع التي كانت في الحوف والتي قتل بسببها عمير بن الوليد. ولما رجع أبو تمام الشام كان كثيرًا ما يذكر أيامه وإخوانه في مصر ويقول:

بالشام أهلي وبغداد الهوى وأنا
بالرقمتين وبالفسطاط إخواني

وقد كان لأبي تمام تأثير كبير في الشعر المصري، فقد كان شعر المصريين قبله ضعيفًا، فخلقه خلقًا آخر وقلده الشعراء المصريون في كثير من شعره، نذكر منهم أحمد بن محمد الحبيشي الذي مدح القائد محمد بن سليمان بقصيدة بائية تكاد تكون في ألفاظها ومعانيها كقصيدة أبي تمام.

السيف أصدق أنباءً من الكتب
في حده الحدُّ بين الجدِّ واللعب

وإليك بعض مقاطع من قصيدة الحبيشي:

الحمد لله إقرارًا بما وهبا
قد لمَّ بالأمن شعب الحق فانشعبا
اللهُ أصدقُ هذا الفتح لا كذب
فسوء عاقبة المثوى لمن كذبا
فتح به فتح الدنيا محمَّدها
وفرَّج الظلم والإظلام والكُربا

ومن الشعراء المصريين الذين زاروا الشام وأكبرهم أهله الحسن بن عبد السلام الجمل (سنة ٢٥٨ﻫ)، وقد كان بارعًا في شعره، قدم دمشق على الحسن بن المدبر الذي كان يقصده الشعراء ويمدحونه، وقد حكى ابن عساكر عن الجمل هذا قصة طريفة خلاصتها أن ابن المدبر كان إذا مدحه شاعر بشعر جيد أثابه، وإذا مدحه بشعر قبيح وجه به مع خادم له إلى الجامع فلم يفارقه حتى يصلي مائة ركعة ثم ينصرف، وقد دخل الجمل مرة على ابن المدبر فأنشده:

أردنا في أبي حسن مديحًا
كما بالمدح تُنتجعُ الولاةُ
وقالوا أكرمُ الثقلين طُرًّا
ومن جَدْواهُ دجلةُ والفراتُ
وقالوا يقبلُ المدحاتِ لكنْ
جوائزهُ عليهن الصَّلاةُ
فقلتُ لهم وما يُغني عيالي
صَلاتي إنما الشأنُ الزكاة
فيأمر لي بكسر الصَّادِ منها
فتضحى لي الصَّلاة هي الصِّلات

قال: فقال لي ابن المدبر أخذت هذا من أبي تمام:

هنَّ الحمام فإن كسرتَ عيافة
من حائهن فإنهن حمام

فقلت: نعم، وأعطاني وأجزل.

ومن الشعراء الشاميين ذوي الأثر في مصر أبو الطيب المتنبي، وقد ظهر أثر هذه الزيارة في شعره وفي مدائحه لكافور وأهاجيه فيه، وقد كان لشعر المتنبي تأثير كبير في الشعراء المصريين كابن أبي العفير الأنصاري، وأبي بكر محمد بن موسى الكندي، وعبد الله بن أبي الجوع، وصالح بن رشدين، وغيرهم من الشعراء الذين انقسموا ما بين حاسد يضع من شعره، وصديق يرفع من قدره.

ومن الشعراء الشاميين الذين زاروا مصر واتصلوا بها اتصالًا قويًّا وكان لمصر تأثير في شعرهم؛ كشاجم الرملي الفلسطيني، وكان كثيرًا ما يزور مصر ويحن إليها إذا ما تغيب، ومن شعره الذي يذكر فيه مجالي لهوه فيها قوله:

قد كان شوقي إلى مصرٍ يؤرِّقني
فاليوم عُدت وعَادَتْ مصرُ لي دَارَا
أعدو إلى الجيزة الفيحاء مصطبحًا
طورًا وطورًا أرجِّي السير أطوارَا
أما الشبابُ فقد صاحَبْتُ شَرَّهُمُ
وقد قضيت لُباناتٍ وأوطارَا
من شادنٍ من بني الأقباطِ يعقدُ ما
بين الكثيبِ وبين الخصر زِنَّارَا

وقال يصفُ دير القُصير وحلوان ويذكر أيامه فيهما:

سلام على دير القصير وسجنه
فجناتِ حلوانٍ إلى النخلاتِ
هنالك تصفو لي مشاربُ لذَّتي
وتصحب أيام السرور حياتي

وقد كانت لكشاجم جولات في وصف دور القاهرة وأحوال أمرائها، كما كانت له جولات في وصف دور حلب ودمشق وبلاط سيف الدولة، وكانت له مواقف مع كافور الإخشيدي والقاضي عبد الله بن محمد بن الخطيب، فقد هجاهما وله معهما مواقف وفصول مضحكة.

ومن الشعراء المصريين الذين وفدوا على الشام ونشروا فيه شعرهم أبو الحسن محمد بن سلمى المعروف بالمغنَّم الشيباني، وفد على سيف الدولة — كما يحدثنا ابن النديم — فأكرمه وعظَّم قدره. ومنهم الشاعر المصري الفحل ابن جدار جعفر بن محمد، وكان أكبر شعراء مصر، وكان كاتبًا للعباس بن أحمد بن طولون، ولشعره أثر كبير في إثارة العباس على أبيه أحمد بن طولون. ومن شعراء مصر الذين جاءوا بلاط سيف الدولة ابنُ أبي الجوع وابنُ رشدين، وكان سيف الدولة يغدق عليهما عطاياه.

ومن الشعراء البغداديين الذين كانوا ينتقلون بين الشام ومصر فيفيدون من القطرين وينقلون إليهما ما كانت تنتجه قرائح البغداديين؛ جمهرة كثيرة نذكر منهم الناشئ الأصغر علي بن عبد الله (٣٦٦ﻫ)، كان شاعرًا لسيف الدولة ولكافور، ومنهم ابن طباطبا الشريف العلوي (٣٤٥ﻫ)، ومنهم أبو الفيض سوار بن شراعة، وكان صديقًا لابن الداية الكاتب المصري الكبير، وهو الذي نشر شعر ابن الداية في العراق والشام.

هذا طرف من أخبار الشعراء الذين قوَّوا العلاقات الشعرية بين البلدين. أما العلماء فأكثر وأخبارهم جد موفورة، وقد كانت مصر للعلماء الشاميين خير ملجأ يلجَئُون إليه ويتفيَّئُون ظله، فمنهم المنجم الصابئ البعلبكي، قصد مصر وصار من رجال الإخشيد محمد بن طغج.

ومنهم عبد الله بن يوسف الدمشقي (٢١٨ﻫ) راوي الموطأ بمصر وكان يقيم بتنيس، قال الإمام البخاري عنه: «كان من أثبت الشاميين.»

ومنهم مكحول أبو عبد الرحمن محمد البيروتي الحافظ (٣٢١ﻫ) وكان من القضاة العالمين بالحديث، وله تلاميذ كثيرون في الشام ومصر، وله فضل عظيم على القطرين، وهو معدود من كبار مَن أنجبهم الشام.

ومنهم أبو زُرعة محمد بن عثمان الدمشقي قاضي مصر (٣٠٢ﻫ)، أقام في مصر ثماني سنين، ثم تولى قضاء دمشق فأدخل فيها المذهب الشافعي كما تقدم، وولده الحسين (٣٢٧ﻫ) كان من القضاة الذين جُمِع لهم بين قضاء مصر والشام.

ومنهم محمد التميمي المقدسي، وكان مختصًّا بالحسن بن عبد الله بن طغج، وكان ذا أدب وعلم وفضل.

ومنهم الحسن بن القاسم بن جعفر بن دحية الدمشقي المؤرخ (٣٢٧ﻫ)، أقام بمصر وأفاد، وله من المؤلفات شيء كثير، وكان محدثًا أخباريًّا.

أما المصريون الذين رحلوا إلى الشام وكان لهم فيه أثر علمي ملموس فكثيرون، نذكر منهم الحسين بن أحمد بن رستم المعروف بابن زنيور المارداني، كان أحد كتاب الطولونيين، قدم دمشق بصحبة أبي الجيش بن طولون، وحدَّث بدمشق وكان من نبلاء الكتاب العلماء.

ومنهم أبو بكر عبد الله بن محمد الخبيصي (٣٤٨ﻫ)، وكان من أفاضل القضاة والفقهاء، تولى قضاء مصر والشام وحسنت سيرته.

ومنهم أبو طاهر محمد بن عبد العزيز الإسكندراني الشافعي (٣٥٩ﻫ)، وقد ذهب إلى دمشق وحدَّث بها وأفاد، وكان من أئمة الشافعية بها.

ومن البغداديين المتمصرين الذين وفدوا على الشام وكان لهم فيه أثر؛ أبو علي خادم الخليفة المنتصر بن المتوكل، قال الذهبي: «وكان من أئمة المذهب الشافعي، فلما قُتل مولاه خرج إلى مصر، ثم ذهب إلى الشام وأقام بها يقرئ بجامع دمشق.»

ومنهم أبو الطاهر محمد بن عبد الله البغدادي المالكي (٣٦٧ﻫ)، كان شاعرًا أخباريًّا أديبًا، وليَ قضاء واسط وبغداد، ثم وليَ قضاء مصر ودمشق واستناب على بغداد.

هذه هي لمحات موجزة عن الصلات العلمية والأدبية التي كانت بين البلدين في القرون الأربعة الأولى، فلما جاء العصر الفاطمي قويت العلاقات وتلوَّنت بلون جديد؛ لأن الفاطمية وإن كانت دولة سياسية فإنها كانت تعتمد على فكرة وعقيدة دينية ومبادئ علمية خاصة، وطبيعي جدًّا أن هذه الدولة كانت تسعى إلى نشر فكرتها وعقيدتها التي جاءت بها من مقرها، وطبيعي أيضًا أن يعمد الفاطميون إلى نشر الدعوة الشيعية التي ينضوون تحت لوائها، وقد كان أول الخلفاء الفاطميين في مصر المعز لدين الله يتسم بسمة الإمامة أكثر من اتسامه بسمة الملك والسلطنة، فكان يعظ الناس بنفسه ويخطبهم ويلقنهم المبادئ الفاطمية، وكان فصيحًا ذكيًّا قوي العارضة، وما إن استقر أمر الدعوة رسميًّا في مصر حتى سعى الفاطميون إلى نشر الدعوة في غير مصر من البلدان المجاورة، والشام أقرب تلك البلاد إلى مقر الدعوة.

كان يسيطر على الشام أيامئذٍ طائفة من غلاة الشيعة هم القرامطة، وقد كانوا قبل دخول الفاطميين إلى مصر والشام دعاتهم في تلك البلاد، فلما احتل الفاطميون البلاد تنكر لهم القرامطة في الشام وثاروا عليهم وخافوا أن يسيطروا على الشام كما سيطروا على مصر، فكانت بين الفريقين وقائع، والتقى الطرفان في الشام حتى دُحِر القرامطة وثبت أمر الفاطميين فيه، فأخذوا يبثون دعاتهم لينشروا مذهبهم وعقيدتهم، وكان الأزهر — الذي قد أُسِّس وتم بناؤه في سابع رمضان سنة ٣٦١ﻫ — ودار الحكمة — التي تم بناؤها في عاشر جمادى الأولى سنة ٣٩٥ﻫ — هما المقرين الرئيسيين لدعاة المذهب، ومنهما كانوا يخرجون إلى الشام فينشرون الدعوة ويعودون ليتلقوا التعليمات الجديدة والدروس. وقد قوي أمر هذين المقرين الثقافيين وانتشر صيتهما في العالم الإسلامي وقصدهما الناس من أقصى الأرض، فهذا الرحالة الفارسي الشاعر المؤرخ ناصر خسرو يقصد دار الحكمة من بلاد فارس ويصل إليها في سنة ٤٣٩ﻫ، ويدرس فيها ويتلقى التعاليم من داعي الدعاة ثم يعود إلى بلاده لينشر المذهب، وطبيعي أنه كان في طريقه على الشام ينشر فيها مذهبه. وممن قصدها أيضًا من بلاد فارس الحسن بن الصباح مؤسس المذهب الإسماعيلي الباطني، ومنهم العالم الأندلسي عبد العزيز بن أبي الصلت، وكانت زيارته في القرن السادس، ومنهم عبد اللطيف البغدادي وكانت زيارته في القرن السادس أيضًا.

ولم يكن هذان المعهدان هما الوحيدين من نوعهما في مصر، فقد حول المسجد العتيق — أعني مسجد عمرو ومسجد ابن طولون — إلى مراكز تذكر فيها الدعوة، أضف إلى ذلك مسجد الحاكم وغيره من المساجد، وقد صارت هذه المساجد كلها دور دعوة ونشاط فاطمي، ولكن دار الحكمة كانت أعظم هذه المراكز نشاطًا، وفيها كانت تدرس علوم الفلسفة والحكمة والعقائد. أما الأزهر فقد كانت المذاهب الشيعية والفقه الشيعي أغلب عليه، وكذلك الأمر في المسجد الحاكمي.

أما المسجد العتيق ومسجد ابن طولون فقد ظل فيهما أثر من علوم أهل السنة، وفي دار الحكمة والأزهر وقصر الخلافة — في بعض الأحيان — كانت تعقد مجالس الحكمة ويشترك فيها كثير من كبراء الدولة ووزرائها وداعي الدعاة، وكانت هذه المجالس متعددة مختلفة بحسب طبقات الناس من رجال ونساء، وكان داعي الدعاة هو الذي يشرف على تنظيمها وترتيبها. وقد كانت المجالس في أول أمرها حرة علنية يلتحق بها من يشاء ويدرس فيها المرء ما يريد من المذاهب الفلسفية والدينية، ولكن هذا لم يلبث طويلًا، فتحولت هذه المجالس — وبخاصة مجالس دار الحكمة — إلى مجالس سرية يعمل فيها الدعاة على نشر المذهب الفاطمي بطريقة عملية يمزج فيها بين الفلسفة والإلحاد والفقه الشيعي. ولهذه الدعوة مراتب ودرجات كالماسونية لا يتوصل الإنسان فيها إلى مرتبة أعلى من مرتبته إلا بعد الفحص والتجربة.

وقد اعتمد الفاطميون على هذه الدعوة في نشر سلطانهم السياسي في الشام، فقد انتشر المذهب فيه انتشارًا قويًّا وعظم أنصاره، وخصوصًا في عهد الحاكم وفي عهد آل عمار أصحاب مكتبة دار الحكمة في طرابلس، فقد أنشأها علي بن محمد بن أحمد بن عمار جلال الملك سنة ٤٧٢ﻫ وجعلها مقرًّا لنشر المذهب، وغذاها بالرجال والكتب والأموال، فأصبحت طرابلس مركزًا من أعظم المراكز الشيعية في بلاد الشام. ويجب أن يعرف أن المذهب السني لم ينقرض في هذه الفترة، فقد ظل في الشام، بل في مصر نفسها، جماهير من رجال السنة نذكر منهم أبا نصر السجزي الحافظ المحدث (٤٤٤ﻫ)، وقد كان يتنقل لنشر الحديث ومذهب أهل السنة بين الشام والعراق ومصر، وقد أقام في مصر طويلًا وبها مات، وله فيها وفي الشام تلاميذ كُثر. ومنهم محدث مصر أبو إسحاق إبراهيم بن سعيد الحبَّال (٤٨٢ﻫ) وكان ثقة صالحًا تلقى العلم عن شيوخ الشام ثم رحل إلى مصر وأقام فيها ينشر الحديث.

وهؤلاء كما ترى كلهم من كبار أئمة الحديث في العالم الإسلامي، أما الفقه السني فقد كان له في مصر أيامئذٍ شيوخ رحل إليهم كثير من الشاميين أمثال أبي الحسن عبد الملك بن مسكين المعروف بالزجَّاج الفقيه (٤٤٧ﻫ)، وأبي عبد الله محمد بن سلامة القضاعي الأديب الفقيه (٤٥٤ﻫ)، وكان إمامًا تولى قضاء السنة في الديار المصرية ورحل إليه العلماء من جميع الأقطار، ومن تلاميذه محدث بغداد الأشهر الخطيب البغدادي. ومنهم أبو القاسم علي بن محمد المصيصي (٤٨٧ﻫ) روى عنه الحديث جماعة بمصر والشام والعراق، ومن أعظمهم الإمام المحدث أبو الحسن علي بن الحسين الخلعي المصري (٤٩٢ﻫ)، وكان أعلى أهل مصر إسنادًا، وله كتاب الخلعيات في الحديث وهو من الكتب الموثوقة. ومن فقهاء المالكية الذين كانوا في مصر في العصر الفاطمي رجاء بن عيسى الأنصاري (٤٩٠ﻫ)، وغير هؤلاء كثير.

فأنت ترى أن الفاطميين على الرغم من محاولتهم القضاء على الفقه السني والمذاهب السنية في الشام ومصر لم يستطيعوا ذلك، فقد ظل في الشاميين والمصريين رجال يحفظون مذهب السنة ويعملون على محاربة البدعة الفاطمية.

ولما انتهى الدور الفاطمي في بلاد الشام أخذت البلاد تستقل ثقافيًّا وعقليًّا ومذهبيًّا عن مصر، فإن الأمراء الذين امتلكوه أخذوا يؤسسون المدارس الجديدة، ففي سنة ٥١٥ﻫ أُنشئت أول مدرسة في حلب، بناها الأمير بدر الدولة سليمان بن أرتق لأهل السنة، ثم جاء بعده الأمير نور الدين محمود بن زنكي فأنشأ مدرسة ثانية في حلب سنة ٥٤٨ﻫ وجعلها للقاضي ابن عصرون لنشر المذهب الشافعي، كما بنى للقاضي نفسه مدارس في دمشق وحماة والقدس، وفي دمشق أنشأ أول دار للحديث في الإسلام، ثم جاء من بعده صلاح الدين فأكثر من إنشاء المدارس السنية في العواصم الشامية كحلب ودمشق وحماة وحمص والقدس.

وفي هذه الفترة ازدهر في الشام نوع من العلم والثقافة، وهو ما كان من تأثير الصليبيين في الشاميين وتأثير الشاميين في الصليبيين، وقد نتج عن ذلك نبوغ جمهرة من العلماء فازدهرت العلوم المسيحية وارتقت طبقات من المسيحيين علميًّا، ففي طرابلس مثلًا ازدهرت مدرسة اليعاقبة التي بلغ العلم فيها أوجًا عاليًا، ولم تزدهر العلوم المسيحية وما إليها من الفلسفة والحكمة والآداب النصرانية في عصر مثل ارتقائها في هذه الفترة، ولم تقتصر هذه الحركة على الآداب المسيحية والفلسفة، فقد ارتقت العلوم العربية الأدبية والتاريخية بين النصارى، ونبغ فيهم أمثال أبي الفرج بن العبري المؤرخ العظيم، وغيره كثير من نبهاء النصارى الشاميين.

ولم تقتصر هذه الحركة على النصارى الشاميين، فإن المسلمين أيضًا استفادوا مما جاءهم به الصليبيون من العلوم والحضارة فنشطت الثقافة الشامية، ولا شك عندنا في أن مصر قد استفادت من هذا النشاط الشامي، فإنها كانت قد انحدرت علميًّا من مكانتها في أواخر العصر الفاطمي لانصراف رجال الحل والعقد فيها عن العناية بالعلم وأهله إلى سفساف الأمور وحقائرها، وهكذا وفت بلاد الشام بعض ما لمصر في عنقها منذ القديم.

ولما دخلت مصر تحت النفوذ الأيوبي قضى صلاح الدين على المعاهد الفاطمية تمامًا، وفعل هو ورجاله أفعالًا ما كان ينبغي أن تصدر عنهم، قال ابن أبي طي يذكر ما فعله رجال صلاح الدين بعد الاستيلاء على مصر: «ومن جملة ما باعوه خزانة الكتب، وكانت عجيبة من عجائب الدنيا، ويقال إنه لم يكن في جميع بلاد الإسلام دار كتب أعظم من التي كانت بالقاهرة.» وقال السيوطي: «ووجدَ خزانة كتب ليس في الإسلام لها نظير تشتمل على ألفي ألف مجلد، منها بالخطوط المنسوبة مائة ألف مجلد، فأعطاها القاضي الفاضل.» وسواء أبيعت هذه المكتبة العُظمَى أم أخذها القاضي الفاضل وتصرف فيها فإنه انتثر عقدها وأصيبت مصر بها مصيبة عظمى لا تقل عن مصيبة الإسكندرية في مكتبتها.

ومما فعله صلاح الدين أيضًا أنه قضى على جميع المؤسسات والآثار الفاطمية الشيعية، وأحل محلها المؤسسات الشافعية ونشر المذهب الشافعي، وقد استمر الأزهر مهملًا نحوًا من مائة سنة لا تقام فيه صلاة الجمعة، ولا تُلقى فيه الدروس منذ سنة ٥٦٧ﻫ إلى سنة ٦٦٥ﻫ، وفي هذه السنة (٦٦٥ﻫ) سعى الأمير عز الدين أيدمر الحلي نائب السلطنة في إعادة بناء الجامع وإقامة الصلاة فيه، فجدد عمارته وأثثه وأنشأ فيه مقصورة ومنبرًا جديدين، ورتب فيه دروسًا لقراءة الفقه الشافعي. وقد عوض صلاح الدين المصريين عن أزهرهم ومكتبتهم بالمدارس التي أسسها في مصر على نمط مدارسه في الشام، فمما بناه فيها المدرسة الصلاحية بجوار الإمام الشافعي، وقد جعلها لتدريس المذهب الشافعي.

قال السيوطي: «هي أعظم مدارس الدنيا، ويقال لها تاج المدارس.» وقال ابن خلكان: «لما ملك صلاح الدين بن أيوب الديار المصرية لم يكن بها شيء من المدارس، فإن الدولة العبيدية كان مذهبها مذهب الرافضة والشيعية، فلم يكونوا يقولون بهذه الأشياء، فبنى صلاح الدين بالقرافة الصغرى المدرسة المجاورة للإمام الشافعي، وبنى مدرسة مجاورة للمسجد الحسيني بالقاهرة، وجعل دار سعيد السعداء خادم الخلفاء المصريين خانقاه، وجعل دار عباس الوزير العبيدي مدرسة للحنفية وهي المعروفة الآن بالسيوفية، وبنى المدرسة التي بمصر المعروفة بزين التجار للشافعية وتعرف الآن بالشريفية، وبنى بمصر مدرسة أخرى للمالكية وهي المعروفة بالقمحية.» وبعد عصر صلاح الدين كثرت المدارس في مصر والشام، وقد كانت هذه المدارس جميعًا تتنافس وتتسابق، وقد قوي الاتصال العلمي في عصر هذه الدولة لا بين الشام ومصر فحسب، بل بين العالم الإسلامي جميعه، فكنت ترى العالم أو المتعلم المصري في مدارس حلب أو دمشق أو القدس أو الحجاز أو بغداد، كما كنت ترى العالم أو الطالب الشامي في مدارس القاهرة أو الإسكندرية أو دمياط، فابن العديم الحلبي المؤرخ الشهير كان كثيرًا ما يقصد مصر ويلقى فيها مكانًا وأهلًا، والوزير ابن القفطي المصري (٦٤٦ﻫ) كان إذا قصد حلب موضع إكبار أهلها وعلمائها ورجالها، والعلَّامة عبد العظيم بن أبي الإصبع المصري الأديب (٦٥٤ﻫ) كان رفيع القدر في الديار الشامية، والمؤرخ سبط ابن الجوزي (٦٥٤ﻫ) قدم دمشق من بغداد واستوطنها، ثم رحل إلى مصر، وله في معاهدها ومدارسها آثار حسان، وابن أبي أصيبعة الحكيم المصري (٦٦٨ﻫ) أقام في الشام وأكبره علماؤها ورجالاتها، وعماد الدين عبد الرحيم بن العجمي الحلبي (٦٧٠ﻫ) كان نائب القاضي في الفيوم ثم في دمشق، والمحدث المؤرخ الدمشقي بن القلانسي أسعد بن المظفر (٦٧٢ﻫ) كانت له حلقات حديث وتاريخ في دمشق ومصر، والإمام النووي يحيى بن شرف (٦٧٦ﻫ) كان من كبار الأئمة الشاميين الذين أفاد المصريون من علمهم وفضلهم ودينهم، وكان من أعظم الشاميين أثرًا في تقوية الصلات العلمية بين البلدين الإمام تقي الدين بن تيمية (٧٢٨ﻫ)، فهو الذي جدد الإسلام بعد دثوره وأحيا التفكير الصحيح بين علماء مصر والشام، ودافع عن ذلك دفاع الأبطال بعد أن كانت الفوضى العلمية منتشرة في القطرين — كما قال محمد عبده — تحت حماية الجهلة من الساسة، فجاء قوم ظنوا في أنفسهم ما لم يعترف به العلم لهم، فوضعوا ما لم يعد للإسلام قِبَل باحتماله، غير أنهم وجدوا من نقص المعارف أنصارًا ومن البعد عن ينابيع الدين أعوانًا، فشردوا بالعقول عن مواطنها وتحكموا في التضليل والتفكير وغلوا في ذلك حتى قلدوا من سبق من الأمم في دعوى العداوة بين العلم والدين، وقالوا لما تصف ألسنتهم الكذب هذا حلال وهذا حرام.

والحق أن ابن تيمية هو الذي أيقظ العقول النائمة في الشام ومصر بل في العالم الإسلامي، وهو الذي ناقش علماء مصر والشام وناظرهم وأراهم الحق وكشف عن عيونهم أستار الجهل، وقد هاجم ابن تيمية المتصوفة الجهال كأصحاب الطريقة الأحمدية الذين كانوا قد ملَئُوا الشام ومصر وكانوا جواسيس التتار وعيونهم ينقلون إليهم أخبار البلاد وأحوالها، وقد ثار عليهم الشيخ فعقدت له المجالس في مصر والشام وناقشهم فأبان لهم ضلالاتهم وأنهم قوم دجالون مخالفون للشريعة، وقد انتصب بعض العلماء للدفاع عنهم في الشام فغضب الشيخ وهاجر إلى مصر لعله يجد فيها مخرجًا من ضيقه وأنصارًا على الحق، فلما وصل إليها عُقد له مجلس في القلعة حضره العلماء والقضاة وأكابر رجال الدولة فأراد أن يتكلم على عادته ويناقشهم فلم يمكنوه، وقام الشيخ نصر المنبجي فهاجمه، وكذلك فعل المشايخ ابن مخلوف وابن عدنان، واتهموه في عقيدته وانتهى به المجلس أن نقل منه إلى السجن في الجب بالقلعة، وبعد عهد خرج منه فعكف على دروسه طائفة من عقلاء المصريين، ويظهر أن خصومه قد أحسوا خطأهم وأرادوا الاعتذار، ولكن الشيطان سوَّل لهم أن يستمروا في ضلالهم لما رأوه من مكانة الشيخ في قلوب العامة والخاصة، فعزموا على الاحتيال لنفيه من الديار المصرية وسعوا لدى السلطان بذلك، فنفاه إلى الإسكندرية وأسكنوه البرج من دار السلطان، ولكن أبيح له التدريس فكان الناس يدخلون عليه زرافات زرافات ويشتغلون بالعلم والحكمة وسائر العلوم، وكان يحضر الجمعات ويعمل المواعيد في الجامع على عادته، ولما بلغ هذا الخبر أهل دمشق خافوا عليه الغائلة حتى قال مؤرخهم تلميذه ابن كثير يصف هذه الحادثة: وسيروه إلى الإسكندرية كهيئة المنفي لعل أحدًا من أهلها يتجاسر عليه فيقتله غيلة، فما زاد ذلك الناس إلا محبة له وقربًا منه وانتفاعًا به واشتغالًا عليه، واتفق أنه وجد في الإسكندرية أن طائفة من جماعة ابن عربي وابن سبعين القائلين بوحدة الوجود قد انتشروا هناك، فحاربهم وهتك أستارهم وفضح عقيدتهم واستتاب كثيرًا منهم، ثم لما زالت دولة الملك المظفر أبي شنكير بيبرس الذي كان مريدًا للشيخ نصر المنبجي عدو ابن تيمية، وعاد المُلك إلى السلطان محمد بن قلاوون، أطلق سراحه من البرج فقدم القاهرة وتلقاه السلطان في محفل عظيم مشى فيه معه القضاة المصريون والشاميون، ثم سكن الشيخ بالقرب من المشهد الحسيني وأخذ الناس يترددون عليه والقضاة منهم من يعتذر إليه ومنهم من يتنصل. ثم لما رجع إلى دمشق أقام مدة يفتي ويحارب البدع والضلالات، وفي سنة «٧٢٦ﻫ» جاء مرسوم من السلطان باعتقاله من جديد في قلعة دمشق لأنه أفتى في السفر إلى قبور الأنبياء فتوى لم تَرُق خصومه من علماء الشام ومصر، فسعوا في اعتقاله فجاء المرسوم واعتُقل، وفي سنة «٧٢٨ﻫ» أُخرج ما عنده من الكتب والأوراق والأقلام ومُنع من المطالعة والكتابة، وحُمِلت كتبه إلى خزانة المدرسة العادلية، وكانت نحوًا من ستين مجلدًا وأربع عشرة ربطة كراريس، فنظر القضاة فيها وتفرقوها بينهم، وكان سبب ذلك أنه لما أفتى فتواه في زيارة القبور وقام عليه الشيخ الإخنائي الدمشقي استجهله ابن تيمية واتهمه بقلة البضاعة في العلم، فطلع الإخنائي إلى السلطان بمصر وشكاه إليه، فرسم السلطان عند ذلك بإخراج ما عنده من الكتب والأوراق، وفي هذه السنة مات ابن تيمية بعد أن أحيا ما درس من العلم والتفكير.

وما مناظرات ابن تيمية وأحواله إلا صورة من صور كثيرة كانت تقع في العالم الإسلامي عامة وهذين القطرين خاصة، وأمثال ابن تيمية كثيرون في القرن الثامن والتاسع، نذكر منهم الإمام إبراهيم بن خلف العسالي الدمشقي السنهوري الذي قال عنه السلامي إنه دخل إلى بلاد المشرق مرارًا، وإلى بغداد ونيسابور وأصبهان وشيراز وحلب والأندلس والمغرب، وكان ينتحل مذهب ابن حزم الظاهري، وقد دخل مصر وعُذب فيها وضُرب وأُخرج منها.

ومنهم الشيخ الأبرقوهي أحمد بن إسحاق المصري المالكي (٧٠١ﻫ)، تلقى العلم في شيراز وواسط وبغداد والموصل ودمشق والقدس والقاهرة، وانتهت إليه علوم الحديث في وقته، ورحل إليه الناس من أقاصي البلاد، وسكن مصر واستقر بها طويلًا ثم رحل إلى مكة ليموت فيها.

ومنهم شمس الدين البُروجردي إسحاق بن محمود (٦٦٩ﻫ)، تلقى العلم ببغداد ثم رحل إلى مصر وتعلم على ابن البناء المحدِّث والأمير أبي الفوارس مرهف بن أسامة بن منقذ، ثم استقر بمصر والإسكندرية يحدث الناس ويعلمهم، وتولى خانقاه سعيد السعداء إلى أن مات بمصر.

ومنهم ضياء الدين دانيال بن منكلي الكركي (٦٩٦ﻫ)، وأصله من كرك الشام وبها تعلم، ثم رحل إلى بغداد وحلب ودمشق وسافر إلى مصر والحجاز وحدَّث بهما، ورجع إلى البيت المقدَّس وتولى قضاء الشوبك.

ومنهم عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام الدمشقي (٦٦٠ﻫ)، سمع من ابن عساكر وغيره من علماء دمشق وصار رئيس فقهاء بلده وخطب في الجامع الأعظم بها، ثم خرج إلى مصر فتلقاه الملك الصالح وأنزله وولاه خطابة جامع مصر وقضاءها، واستفاد منه المصريون كثيرًا فقد كان واسع العلم بالأصول والفروع والعربية وبلغ رتبة الاجتهاد.

ومنهم عبد العزيز بن محمد بن الرفاء الدمشقي (؟) رحل إلى العلم في البلاد فسُمع بمصر وبغداد وتتلمذ عليه طائفة من الكبار مثل الحافظ البرزالي وعبد المؤمن الدمياطي وأبو الفداء الحموي وبدر الدين بن جماعة، وكان أصحاب دمشق كثيرًا ما يرسلونه إلى دار الخلافة وملوك مصر.

ومنهم شمس الدين محمد بن محمد الصوفي المحدث (٦٨٢ﻫ)، تعلم ببغداد والعراق والشام والمشرق والحجاز وجاور بيت المقدس طويلًا، وأقام بمصر يعلم، وله تلاميذ في جميع الأقطار.

ومنهم محمد بن يوسف الجزري المصري (؟)، تعلم ببغداد ومصر وكان عارفًا بالفقه والتفسير والعقائد والعربية والمنطق، عُرض عليه قضاء مصر ودمشق فأبى.

وهناك مئات ومئات من العلماء المصريين الذين كانوا يعلِّمون في الشام أو العراق، كما أن هناك مئات من العلماء الشاميين الذين كانوا يعلِّمون في مصر أو يقومون ببعض وظائف الدولة فيها، ولا شك في أن هؤلاء كانوا يُمتِّنون الصلات بين البلدين، ولا عجب فإن عصر المماليك قد ربط هاتين المملكتين برباط قوي سواء في السياسة أو في العلم والاجتماع، ثم إنه لا شك أيضًا عندنا في أن للأزهر اليد الطولى في شد هذا الرباط، فإنه أصبح في عصر المماليك محجة المسلمين من شتى أقطار الأرض، وقد بلغ عدد طلابه في أوائل القرن التاسع زهاء سبعمائة وخمسين رجلًا ما بين عجمي وزيلعي وريفي ومغربي وشامي، كما يحدثنا بذلك المقريزي.

تلك هي صورة عن الحركة العلمية والدينية بين القطرين منذ القرن السابع إلى نهاية القرن التاسع، أما الحركة الأدبية فما كانت أقل نشاطًا، فقد نبغ في القطرين فحول مثل ابن نباتة المصري (٧٦٨ﻫ)، وابن أبي حجلة (٧٧٦ﻫ)، وشمس الدين الهواري (٧٨٠ﻫ)، وهؤلاء شعراء مجيدون خلفوا آثارًا تدل على سمو كعبهم في الأدب المصري الإسلامي. ومن الأدباء المصريين الفحول في هذه الفترة الشهاب القلقشندي (٨٢١ﻫ)، والبدر الدماميني (٨٢٧ﻫ)، والشمس النواجي (٨٥٩ﻫ)، والمؤرخ بيبرس المنصوري (٧٢٥ﻫ)، وابن دقماق (٨٠٩ﻫ)، والمقريزي (٨٤٥ﻫ)، وابن تغري بردي (٨٧٤ﻫ)، وابن منظور (٧١١ﻫ)، والشهاب النويري (٧٣٢ﻫ)، وغيرهم. وقد كان لهؤلاء الأئمة تلاميذ من الشاميين قصدوهم إلى ديار مصر وتعلموا عليهم في الأزهر أو في غيره من المعاهد المصرية، ولو رحنا نستقصي أسماء هؤلاء الطلاب لجئناك بسِفر ضخم.

كما أن الشام في هذه العصور قد زخر بطائفة من الأعلام في الشعر والأدب مثل ابن مكانس الدمشقي (٧٩٤ﻫ)، وابن حجة الحموي (٨٣٧ﻫ)، وعلاء الدين الغزولي (٨١٥ﻫ)، وابن فضل الله العمري (٧٤٨ﻫ)، وأبي الفداء (٧٣٢ﻫ)، والبرزالي الدمشقي (٧٣٩ﻫ)، وابن الوردي (٧٤٩ﻫ)، والذهبي (٧٤٨ﻫ)، وابن كثير الدمشقي (٧٧٤ﻫ)، وابن شاكر الكتبي الحلبي (٧٦٤ﻫ)، والصلاح الصفدي (٧٦٤ﻫ)، وابن عربشاه (٨٥٤ﻫ)، والبرهان البقاعي (٨٨٥ﻫ)، وابن حبيب الحلبي (٧٧٩ﻫ)، وابن الشحنة الحلبي (٨١٥ﻫ)، وابن قاضي شهبة (٨٥١ﻫ)، وبدر الدين العيني (٨٥٥ﻫ)، وغيرهم كثير.

وقد كان لهؤلاء الشيوخ طلاب يفدون عليهم من مصر كما أن كثيرًا من هؤلاء من درس بمعاهد مصر، وإنه لمن النادر جدًّا ألَّا تجد في ترجمة عالم من علماء هذين القطرين في تلك العصور أنه لم يرحل إلى مصر أو إلى الشام، أو أنه أقام في إحداهما ودرس وتخرج على يديه الطلاب الكثيرون. وفي أخريات القرن التاسع وأوائل القرن العاشر بدأ مشعل العلم يخبو نوره في الشام وفي مصر أيضًا، وذلك لاضمحلال أمر الدولة في الشام وفي مصر؛ فاضطرب أمر الأزهر في مصر وجامع بني أمية في دمشق وحلب ومدرسة المسجد الأقصى في القدس، ولما دخل الأتراك العثمانيون هذه الديار سنة ٩٢٢ﻫ هبط المستوى العلمي هبوطًا سريعًا كما يقول الأستاذ عنان: «… وكما قضى ديوان التحقيق الإسباني على حضارة الأندلس وعلومها وفنونها وفقًا لخطة منظمة، فكذلك عمل الغزاة الأتراك على تقويض صرح المدنية الإسلامية في مصر عقب الفتح مباشرة، وقضى السلطان سليم فاتح مصر في القاهرة زهاء ثمانية أشهر يجمع من تراث مصر وثروتها الفنية كل ما استطاع، ويخرب المساجد والآثار الخالدة لينتزع منها نفائسها ويبعث بها إلى قسطنطينية، ويقبض على أكابر مصر وزعمائها وعلمائها ورجال المهن والفنون فيها ومهرة الصناع والعمال، ويرسلهم جموعًا حاشدة في السفن إلى قسطنطينية، وينتزع الكتب من المساجد والمدارس والمجموعات الخاصة ليودعها مكاتب العاصمة التركية وما زالت منها إلى اليوم بقية كثيرة في مكاتب إسطنبول، ومنها مؤلفات خطية لكثير من أعلام القرن التاسع الهجري المصريين مثل المقريزي والسيوطي والسخاوي وابن إياس مما يندر وجوده بمصر صاحبة هذا التراث العلمي، وهكذا انهار صرح الحركة الفكرية في مصر الإسلامية عقب الفتح التركي كما انهارت عناصر القوة والحياة في المجتمع المصري … وأصاب الأزهر ما أصاب الحركة الفكرية كلها من الانحلال والتدهور، واختفى من حلقاته كثير من العلوم التي كانت زاهرة من قبل، حتى إن العلوم الرياضية لم تكن تدرس به في أواخر القرن الثاني عشر … على أن الجامع الأزهر كان يقوم يومئذٍ بأعظم وأسمى مهمة أتيح له أن يقوم بها، فقد استطاع خلال المحنة الشاملة أن يستبقي شيئًا من مكانته … فيغدو ملاذًا أخيرًا لعلوم الدين واللغة ويغدو بنوع خاص معقلًا حصينًا للغة العربية تحتفظ في أروقته بكثير من قوتها وحيويتها، ويدرأ عنها التدهور النهائي ويمكنها من مغالبة لغة الفاتحين ومقاومتها … وربما كانت هذه المهمة السامية التي ألقى القدر زمامها إلى الجامع الأزهر في تلك الأوقات العصيبة من حياة الأمة المصرية والعالم الإسلامي بأسره، هي أعظم ما أدى الأزهر من رسالته، وأعظم ما وُفِّق لإسدائه لعلوم الدين واللغة خلال تاريخه الطويل الحافل.»

أقول وإن ما أصاب مصر من الغزو العثماني أصاب الشام، فقد قوَّض العثمانيون معالم دور العلم وخزائن الكتب بما نقلوه إلى عاصمتهم من الكتب والذخائر والتحف، وفي هذه الفترة انصرف الناس عن علوم الأدب والدين الصحيحة إلى القشور، فانحط العلم والأدب وهزل الشعر وأقفرت مدارس الشام من رجالها، واضمحلت دور كتبها من الكتب والآلات، وتقرب متولوها بإهداء ما فيها من النفائس إلى خزائن الوزراء والأمراء والسلاطين، وكانت دمشق وحلب والقدس أعظم مدن الشام مصابًا بهذا الغزو الجائر، وفي هذا العصر كثرت الطرق الصوفية وانتشر التصوف في الطبقات عامة، ولولا الأزهر في مصر لانطفأت شعلة العلم في الشام.

على أن هذا كله لم يمنع من ظهور بعض الشعراء والأدباء والعلماء الذين كان لهم صوت مسموع، كعائشة الباعونية الدمشقية التي ماتت في أواسط القرن العاشر، وماماية الدمشقي الرومي، ودرويش الطالوي (١٠١٤ﻫ)، ومنجك الدمشقي (١٠٨٠ﻫ)، وابن عبد الجواد الشربيني المصري (؟)، وعبد الله الشبراوي (١١٧١ﻫ)، ويوسف الحفني (١١٧٨ﻫ). وقد خلف كل واحد من هؤلاء ديوان شعر أو أثرًا علميًّا آخر يصور لنا الصلة العلمية بين القطرين كما يصور لنا الضعف العلمي الواضح الذي كانت عليه البلاد جميعًا.

وهناك بعض علماء نبغوا في القطرين وكان لهم فضل في إعادة بعض الصلات العلمية في إبان تلك العصور المظلمة، نذكر منهم ابن إياس المصري (٩٣٠ﻫ)، وشمس الدين الصالحي (٩٤٢ﻫ)، وابن طولون الصالحي (٩٥٥ﻫ)، والحسن البوريني (١٠٢٤ﻫ)، ومرعي الكرمي (١٠٣٣ﻫ)، والشهاب الخفاجي (١٠٦٩ﻫ)، ويوسف البديعي (١٠٧٣ﻫ)، وعبد القادر البغدادي (١٠٩٣ﻫ)، والسيد المرتضى (١٢٠٥ﻫ)، ولكلٍّ من هؤلاء آثار علمية قَيِّمة تشهد بعلو كعبه، وقد كان لهذه الآثار الفضل العظيم في بقاء اللغة العربية حية تنتج.

هذه هي الصفحة الوحيدة المشرقة من كتاب الحركة العلمية والعقلية في العصر العثماني ببلاد الشام ومصر، أما بقية صفحات الكتاب فسود قاتمة لا ترى فيها أثرًا للنور والعقل والهدى، فقد أصبحت جماهير المسلمين يقرءون القرآن وهم لا يفهمونه، وأضحى علماء البيان والنحو والحديث منهم لا يستطيعون كتابة سطرين اثنين بعبارة صحيحة بليغة، وصار خطباء الجمعة والعيدين يرددون خطبًا مكتوبة في عصور سالفة، هذا كان حال المسلمين، أما النصارى فقد كانت حالهم أفضل بكثير؛ فإن مدارس الإرساليات التبشيرية في بلاد الشام كانت تُعنَى بتعليمهم اللغة العربية تعليمًا صحيحًا، وتحرص على إحياء الأدب العربي، وكان لمطارنة الموارنة والأرثوذكس وأساقفتهم الفضل المشكور، ومن عظماء النصارى الذين كان لهم أثر حميد في المحافظة على اللغة العربية في هذا العصر البطريرك مكاريوس الحلبي الأرثوذكسي الذي خلف آثارًا علمية قيمة، ومن أعظمها رحلته إلى القسطنطينية، ومنهم المطران جرمانوس فرحات الحلبي (١٧٣٢م)، وقد كان عارفًا بالعربية والسريانية واللاتينية والإيطالية والتاريخ والفلسفة، وقد اشتغل بالتأليف، وله آثار قيمة وتلاميذ فحول. ومنهم الشماس عبد الله زاخر الكاثوليكي الحلبي (١٧٤٨م)، وكان على جانب واسع من علم الأدب واللغة، وهو صاحب الفضل الأكبر في نشر الطباعة العربية بسورية لأنه مؤسس أول مطبعة في لبنان، وهي مطبعة الشوير.

هذه هي نظرة إلى ما كانت عليه البلاد الشامية، أما مصر فلم يكن حظها من العلم كذلك، ولم يسعدها إلا دخول نابليون مصحوبًا بجيش من رجال العلم، وقد كون نابليون المعهد الفرنسي بالقاهرة، وجعل فيه لجنة علمية تنظم أعماله، وقد كان للمعهد فروع عشرة، وإليك بيانها:
  • (١)

    فرع التشريع والديانات والتقاليد.

  • (٢)

    فرع الإدارة والسياسة.

  • (٣)

    فرع الشرطة والأمن.

  • (٤)

    فرع التاريخ ونظام الحكم.

  • (٥)

    فرع العسكرية.

  • (٦)

    فرع التجارة والصناعة.

  • (٧)

    فرع الزراعة.

  • (٨)

    فرع التاريخ الطبيعي.

  • (٩)

    الآثار القديمة.

  • (١٠)

    فرع النيل وفيضانه.

وقد جعل لكل فرع أعضاء يعملون فيه ويطوفون البلاد ويجتمعون بأعيانها وشبانها ويناقشونهم ويباحثونهم في موضوعاتهم، وقد دهش المصريون لهذا الجيش العلمي وأعجبوا به، ولا عجب فإن المصري مفطور على حب التطلع إلى العلم والسعي إليه، وقد حدثنا مؤرخ ذلك العصر (الجبرتي) عن إعجاب المصريين بالحركة العلمية الفرنسية في مصر حديثًا ممتعًا في كتابه، فقد اطلع المصريون عن كثب على مظاهر الرقي الفكري الحديث الذي وصلت إليه أوروبا، كما اطلعوا على مناهج في التفكير لم يعرفوها، وعلى آلات وأوائل حديثة لم يسمعوا بأخبارها، ومن أمتع فصول كتاب الجبرتي فصله الذي كتبه عن دار الكتب التي أنشأها الفرنسيون في درب الناصرية، وما فيها من الكتب والمخطوطات والمخططات والخرائط والصور الممتعة، ولا يقل إعجابه بها عن إعجابه بدار الكيمياء والمختبرات العلمية وما شاهده فيها من العجائب والغرائب، ولا شك في أن أمثال الجبرتي كانوا كثيرين، فقد فتح الفرنسيون مؤسساتهم هذه للمصريين عامة، وأسسوا في القاهرة معاهد أخرى تنشر الحضارة الجديدة، ومن أعظم هذه المعاهد المدرستان اللتان أوجدوهما لتعليم أطفال الفرنسيين المولودين في القاهرة، كما أنشَئُوا في مصر جريدة عربية وأخرى فرنسية ومصانع للورق وأخرى للأقمشة وغير ذلك، ويحدثنا الجبرتي أن الفرنسيين كانوا يرحبون بالزوار المصريين ويقومون بالتجارب العلمية الكيماوية أمامهم، وأن المصريين كانوا مدهوشين لتلك الأعمال العجيبة. ولا شك عندنا أيضًا في أن الجيل الجديد كان ينظر إلى العلوم القديمة نظرة استخفاف بعد أن شاهد ما شاهد من مظاهر العلم الحديث، ولكن خروج الفرنسيين من مصر (سنة ١٨٠١م) قضى على كل ما كان يؤمل من مصر فيما لو بقي فيها الفرنسيون؛ فبخروجهم تقهقر كل شيء وأخذ المستوى العلمي ينحط، وكاد أن يعود إلى ما كان عليه قبل دخول الحملة الفرنسية، لولا أن قيض الله لمصر من أخذ بيدها من جديد وسار بها في سبيل التقدم، أعني بذلك محمد علي باشا، فإنه أدرك أن التعليم الأزهري وحده لم يعد كافيًا لمجاراة الأمم القوية الحية، ولذلك بدَّل نظم التعليم في مصر وعمد إلى إنشاء المدارس الابتدائية والثانوية والعالية كمدارس الطب والهندسة والحربية والفنون والصنائع واللغات، ثم رأى أن هذا وحده ليس كافيًا لتوجيه الثقافة في مصر، فأرسل بعوثًا علمية إلى أوروبا اختار أفرادهم من الأزهر وغيره من المعاهد، وقد بلغ عدد هذه البعوث في زمنه نحوًا من ٣٢٠ طالبًا، وقد كان لهذه البعوث صدى كبير في أوروبا والشرق، ولم تكن حركة محمد علي مقصورة على مصر، فقد تعدت إلى الشام حينما انضم الشام إلى الدولة المصرية، ومن آثار محمد علي في الشام إنشاؤه فرعًا لمدرسة طب القصر العيني في حلب.

وقد رأى عقلاء الشاميين الثمرة الصالحة التي جنتها مصر من هذه البعوث والأعمال العلمية والإصلاحية التي قام بها محمد علي في مصر، فأخذوا يقلدون مصر، وأول حركة تقليدية قامت بها سورية هي حركة تأسيس المعاهد على غرار معاهد محمد علي وأعقابه في مصر؛ ففي سنة ١٨٣٤م أنشأ الآباء العازريون مدرسة نظامية في عين طورا، فلما رأى الأوروبيون والأميركان ميل الشاميين إلى العلم والحضارة الأدبية التي رأوا ثمرتها في مصر أخذوا يتهافتون على تأسيس المعاهد في سورية، ففي سنة ١٨٣٥م أسس الأميركان في بيروت مدرستهم الكبرى، كما أسسوا مدرسة أخرى في عبية لبنان سنة ١٨٤٧م، وفي هذه السنة أسس اليسوعيون مدرستهم في لبنان وهي التي صارت فيما بعد جامعة عظيمة، وفي سنة ١٨٦٠م أُسست المدرسة الإنكليزية بعناية المسز طمسن، وفي سنة ١٨٦١م أُسست المدرسة الإنجيلية الأميركانية للبنات، وجعلت فروع كثيرة لهذين المعهدين في جميع أنحاء لبنان، وفي سنة ١٨٦٣م أسس العبقري اللبناني المعلم بطرس البستاني مدرسته الوطنية التي خرج منها جمهور كبير من علماء الديار الشامية، وفي سنة ١٨٦٤م أنشأ البطريرك غور يغوريوس يوسف الكاثوليكي مدرسة كبيرة.

ومن أسباب الحركة العلمية في مصر ظهور الطباعة العربية فيها، فقد أسست أول مطبعة فيها أيام نابليون سنة ١٧٩٨، وقد كان في هذه المطبعة عدد من العمال الفرنسيين مع عدد من العمال السوريين الذين كانوا تعلموا هذه الصنعة في رومية، ومن كبارهم إلياس فتح الله ويوسف مسابكي، وقد ظلت هذه المطبعة عامرة نحو أربع سنوات، ولما خرج الفرنساويون سنة ١٨٠١م أخذوها معهم، وظلت مصر نحوًا من عشرين سنة بلا مطبعة، فلما نهض محمد علي أنشأ مطبعته الأهلية سنة «١٨٢١م» في بولاق وعهد في إدارتها إلى نقولا المسابكي، فقام بعمله خير قيام وظل فيها إلى أن مات سنة «١٨٣٠م»، وكان يدرب طائفة من الطلاب الأزهريين على الصناعة. ولم تكن هذه المطبعة هي الوحيدة في مصر، فإن الأنبا كيراس الرابع بطريرك الأقباط كلف في سنة «١٨٦٠م» روفائيل عبيد السوري أن يقوم على إدارة مطبعته التي استحضرها من أوروبا.

وقد نشأ عن ظهور الطباعة في مصر أن ظهرت الصحافة فيها، ففي أيام محمد علي وجدت مجلة الوقائع المصرية وقد استمر ظهورها حتى نهاية عصر محمد علي، وفي أيام عباس الأول وسعيد الأول (١٨٤٩–١٨٦٣م) أهمل شأنها، وقد رأى السوريون فائدة الصحافة فأوجدوها في بلادهم، وأقدم الصحف السورية مجلة مرآة الأحوال التي أوجدها رزق الله حسون الحلبي في الآستانة سنة «١٨٥٥م»، وفي سنة «١٨٥٨م» وجدت جريدة حديقة الأخبار في بيروت، ثم تتابع إنشاء الصحف والمطابع في سورية. أما في مصر فقد رأيت أن العزيزين اللذين خلفا محمد علي كانا لا يهتمان بهذا النوع من الأدب، فلما جاء إسماعيل (١٨٦٣–١٨٨٢م) وكان يحب الأدب وأهله، نشط الصحافة ورعاها، فسمع بعض السوريين بذلك فتوافدوا عليه، وفي عهده أنشأ سليم وبشارة تقلا جريدة الأهرام في الإسكندرية سنة ١٨٧٦م، وفي سنة ١٨٨٠م أسس الأديبان السوريان الشهيران أديب إسحاق وسليم النقاش جريدة المحروسة فلقيت كل رواج، وهناك آخرون أنشَئُوا صحفًا في مصر، ولكن لم يستمر منها إلا الأهرام والمحروسة، والحق أن لإسماعيل يدًا كبيرة على الصحافة السورية في مصر، فلولاه لما عاشت هذا العمر الطويل، ولولاه لما ارتقى أسلوبها رقيًّا جعلها أفضل مئات الدرجات من الصحافة القديمة، والحق أن أكثر الفضل في ذلك يعود إلى سليم النقاش وأديب إسحاق، فإنهما كانا ذوَيْ قلم سيال وأسلوب متين.

وكما ازدهرت الجرائد اليومية في مصر بفضل السوريين ازدهرت المجلات فيها، وأول المجلات السورية العلمية ظهورًا في مصر مجلة روضة المدارس التي أسست سنة ١٨٧٠، وكانت مجلة علمية تاريخية طبية، ثم أنشئ المقتطف سنة ١٨٧١ وكان أول أمره يصدر في بيروت ثم انتقل إلى مصر سنة ١٨٨٦م، وفي سنة ١٨٧٧م صدرت مجلة الشفاء في مصر للدكتور شبلي شميل، ومجلة الحقوق لأخيه أمين شميل، ثم توالت المجلات.

فأنت ترى قوة الصلات بين القطرين، وما ينبغي لنا أن ننسى أن للأزهر يدًا قوية في إحكام هذه الصلات، فهو الذي كان يخرج رجال الأدب والدين عند المسلمين، وهو الملجأ الوحيد الذي كان يلجأ إليه الشاميون ليتفقهوا في الدين وليدرسوا لغتهم، وقد كان المصريون يرحبون بهم كل ترحيب ويغدقون عليهم العطايا والجرايات ولا يقفون في سبيل من أوتي نصيبًا من العلم والنشاط أن يتولى الوظائف الكبيرة في مصر كمشيخة الأزهر ومشيخة أروقته وإفتاء مصر والتدريس في المعاهد. وفي عصر إسماعيل ارتقى الأزهر رقيًّا محسوسًا، فقد كان يدرس فيه — فضلًا عن علوم الدين واللغة — العلوم الحكمية والفلسفية والرياضية والتاريخية، وهذه علوم كانت جد نادرة في الشام في تلك الفترة، فبفضل الأزهر عادت هذه العلوم إلى الشام.

وما ينبغي أن ننسى فضل السيد جمال الدين وتلميذه محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي في إحياء الثقافة الجديدة وبعث الثقافة العربية القديمة الصحيحة، ولم تكن حركة الأفغاني مقصورة على العلم وحده بل تعدته إلى السياسة؛ ففي مصر أُسست أول جمعية سياسية اشترك فيها نفر من رجالات مصر والشام، وهي جمعية مصر الفتاة، ومن أعضائها المؤسسين جمال الدين، وأديب إسحاق، وسليم النقاش، وعبد الله نديم، ونقولا توما، وغيرهم من حملة الأقلام السوريين المقيمين في مصر، وقد أصدروا لهم جريدة باسم «مصر الفتاة» وكان ذلك في أواخر عهد إسماعيل، وكان لهذه الجمعية أثر كبير في تطور السياسة المصرية والسياسة الشرقية. والحق أن حركة السيد جمال الدين كانت حركة قوية امتدت إلى الشام وغيره من أقطار الإمبراطورية العثمانية؛ لأن دروس الشيخ جمال الدين كانت عامة يحضرها المصريون والأتراك والشاميون والحجازيون، ولم تكن تلك الدروس كدروس غيره من شيوخ الأزهر، فقد كان الشيخ يتخذ الكتب الأزهرية وسيلة إلى نشر أفكاره وتنمية عقول تلاميذه، وقد اعتمد الشيخ على الفلسفة في تنبيه أفكار تلاميذه واعتزازهم بنفسهم، فقد كان الشيوخ قبله يمنعون تلاميذهم من الاعتزاز بآرائهم ويمنعونهم من مناقشة كلام المؤلفين ويعتبرونه كأنه كلام رب العالمين، فإذا هو يقول لتلاميذه: «ناقشوا كل كلام فاقبلوا الصواب واطرحوا الخطأ.» ولم تكن دروس الشيخ مقصورة على دروسه في الأزهر، فقد كانت له مجامع في المقاهي والبيوت، وكان يجتمع إليه فيها طائفة من الفضلاء كسعد زغلول، وسليم نقاش، وأديب إسحاق، وعلي مظهر، وغيرهم من أدباء الشام ومصر. وفي هذه المجالس أيضًا وجَّه الأفغاني الأدب العربي توجيهًا جديدًا، فقد كان الأدباء والكتاب قبله لا يتخطون سور القديم، أما الشيخ فقد دعا إلى تحطيم هذه الأسوار وتحكيم العقل والذوق، وكان الأدب قبله أدب ألفاظ وزخرفة، فحاربه الشيخ ودعا إلى أدب يعبر عن نفسية الشعب، وكان الدين قبله دين تقليد وخرافات، فحطم الشيخ هذه التقاليد وتلك الخرافات، وأرجع الدين إلى ما كان عليه السلف الصالح، وكانت السياسة قبل الشيخ خنوعًا للأجنبي الدخيل، فدعا إلى الثورة وإلى أن يعيش الناس أحرارًا في بلادهم.

هذه هي الخطوط الأولية لحركة الشيخ في بيته وفي مقهاه وفي مدرسته، وقد استفاد منها طلابه فنبغ منهم من المصريين سعد زغلول ومحمد عبده، ومن الشاميين أديب إسحاق وسليم عنخوري.

وقد انتقلت دعوة الشيخ إلى الشام، فاستجاب لها فيه السيد عبد الرحمن الكواكبي الحلبي صاحب كتابَيْ «طبائع الاستبداد» و«أم القرى» اللذين ضمَّنهما وصف ما كانت عليه البلاد إذ ذاك من اضطراب وفوضى في السياسة والاجتماع، ودعا إلى ما دعا إليه الأفغاني من تحطيم تلك القيود التي قيدت البلاد بها. ولما اضطرت الظروف الشيخ محمد عبده إلى أن يجيء إلى الشام ويقيم في بيروت، وجد في البلاد مرعى خصبًا لآراء الشيخ الأفغاني فعمل على إحيائها، وقد التف السوريون حوله سنة ١٨٨٥م يتلقون عنه دروس العلم والحكمة والخير.

ولما طلب الوالي مدحت باشا إلى الشيخ الإمام تنظيم شئون المدرسة التي كان أسسها في بيروت، وضع لها الشيخ منهجًا صحيحًا معتمدًا على مبادئ أستاذه الأفغاني، فانقلبت المدرسة انقلابًا جديدًا، وأخذ الشيخ يقضي كل نهاره في المدرسة، وفي أثناء إقامته فيها ألف «رسالته» القيمة في التوحيد وشرح لطلابه «نهج البلاغة» و«ديوان الحماسة» و«مقامات البديع»، وقرأ طائفة من الكتب القيمة على النابغين من تلاميذه مثل كتاب «الإشارات» لابن سينا وكتاب «التهذيب» في المنطق.

وقد كانت دروس الشيخ في بيروت تغص بالتلاميذ والناس يتقاطرون عليها من شتى الأنحاء، وقد أحدثت إقامة الشيخ في بيروت انقلابًا عظيمًا، فقد كان الشيوخ قبله يدرسون تدريسًا آليًّا ولا يفتشون عن فائدة الطلاب ولا همَّ لهم إلا قبض المرتبات، فلما رأوا نشاطه وغيرته حاولوا أن يقلدوه ويعملوا عمله، فمنهم من نجح ومنهم من أخفق، ومهما يكن من شيء فإن الجميع بدلوا خطتهم السابقة وبذلوا جهودًا لم يكونوا باذليها لولا وجود الشيخ.

وبوجود الشيخ في ديار الشام أصبحت تلك الديار منارًا يشع نوره، فقد كان الشيخ لا يقصر جهده على تثقيف التلاميذ، بل كان يتصل بالرجال ويوجههم توجيهًا صحيحًا، ويبحث لهم عن علة تأخر الشرق، فيقول في بعض كلماته: «أما العلم الذي نحس بحاجتنا إليه، فيظن قوم أنه علم الصناعة، وما به إصلاح مادة العمل في الزراعة والتجارة مثلًا، وهذا ظن باطل، فإننا لو رجعنا إلى ما يشكوه كلٌّ منا نجد أمرًا وراء الجهل بالصناعات وما يتبعها، إن الصناعة لو وجدت بأيدينا نجد فيها عجزًا عن حفظها، وإن المنفعة تتهيأ لنا ثم تنفلت؛ فالشيء في نفوسنا، فنحن نشكو ضعف الهمم وتخاذل الأيدي وتفرُّق الأهواء والغفلة عن المصلحة الثابتة، وعلوم الصناعات لا تفيدنا دفعًا لما نشتكيه، فمطلوبنا وراء هذه العلوم ألا وهو العلم الذي يمس النفس؛ وهو علم الحياة البشرية، والعلم المحيي للنفوس؛ هو علم أدب النفس، وكل أدب لها فهو الدين، فما فقدناه هو التبحر في آداب الدين، وما يحسن من أنفسنا طلبه هو التفقه في الدين، ولا أريد أن نطلب علمًا محفوظًا ولكنا نطلب علمًا مرعيًّا ملحوظًا، وما أودعته الديانة من الآداب النفسية والكمالات الروحية لم يختلف في صحته أحد من البشر حتى من يظن نفسه غير آخذ بالدين. فإذا استكملت النفس بآدابها عرفت مقامها من الوجود وأدركت منزلة الحق في صلاح العالم، فانتصبت لنصره وأيقنت بحاجتها إلى مشاركتها في الموطن والملة، فأخذت بالفضيلة الجامعة للفضائل، وهي ما يعبر عنها بحب الوطن والدولة والملة، ولا نريد من الحب ميلًا خياليًّا، ولكنا نريد منه ميلًا يبعث على العمل كما يرشد إليه الدين والأدب. فمتى تحلت النفوس بهذه الفضيلة أبصرت مواقع حاجاتها فاندفعت إلى طلبها وطرقت لها كل باب لا ترجع حتى تظفر أو يدركها الأجل.»

فأنت ترى أن السيد الإمام لم يقصر عمله على تهذيب الناشئة البيروتية، بل كان يدعو الرجال إلى طريق الفلاح الذي كان يدعو إليه أستاذه، ومن يعرف حال سورية قبل مجيء الإمام إليها من الجهل والفساد ثم يعرف الحركة الوطنية التي قام بها أحرار سورية لتحرير بلادهم من النير التركي؛ يتحقق له أن تلك الثورة التحريرية ما كانت إلا استجابة لدعوة الشيخ الإمام رحمه الله، وهذا أثر جديد من آثار مصر على الشام لن تنساه أبد الدهر، وقد كان للشيخ الإمام حلقات في بيته كان يؤمها طلابُ الحق من جميع الفرق والنِّحل، وقد كان يخاطب كلًّا على قدر عقله ويعمل على توحيد الصفوف ولمِّ الشمل بعد أن فرقتهم السياسة التركية الظالمة.

قال فيه شكيب أرسلان: «كنت ترى جميع الفرق والنِّحَل والطوائف بدون استثناء تزدحم حول ذلك المنهل المعذب، وكان هو لسعة عقله وعلو إدراكه وإحاطة نظره يتفاهم مع كل قبيل منهم كأنه نشأ فيهم، وكان يحضر مجلسه علماء السنة ومجتهدو الشيعة وعقلاء الدروز ونبهاء المسيحيين واليهود، وكان كل أولئك لا يجدون غضاضةً في التردد عليه، بل إن مجلسه لم يكن يخلو من الملاحدة الذين كانوا يقصدون إليه ليسمعوا آراءه في الإلهيات والأديان، فكان الأستاذ يناظرهم بكل تؤدة ويحل لهم المشكلاتِ التي كانوا إذا سألوا عنها غَيرَه من العلماء أعجزهم الجوابُ عنها، فكنت تراهم منصتين إليه حَيَارى أَمامه لا يدرون ماذا يقولون، مع أنهم قبل حضورهم في مجلسه قد آلوا أنهم يعجزونه كما أعجزوا غيره.»

ولما عزم الشيخ على ترك الشام حزنت عليه البلاد وودعته بقلوب حزينة، كما ودعها هو بحزن كثير لأنه كان يرغب أن يطول مكثه حتى يرى ثمرة غرسه بعينه. ولم يترك الشيخ الديار الشامية حتى خلف فيها تلاميذ فحولًا نشروا مبادئه وعملوا على تحقيقها، نذكر منهم السيد الكواكبي والشيخ بدر الدين النعساني والسيد نعوم اللبكي، ولكل واحد من هؤلاء كلمة في الشيخ تدل على مكانته عنده، وها نحن أولاء نسوق إليه هذه الكلمات.

قال المغفور له بدر الدين النعساني: «إن الإسلام لم ينجب بعد ابن تيمية غير محمد عبده، وإن لمحمد عبده فضلًا على الإسلام في الديار الشامية هو أجلُّ بكثير من فضله على مصر، إن الله حبا مصر بجمال الدين الأفغاني وأحمد عرابي، فأما جمال الدين فقد بث فيها العقل الصحيح، وأما عرابي فقد دعاها إلى الثورة على الظلم. والشام لولا محمد عبده وإقامته القصيرة فيها لكانت تتخبط في الجهل والضلال والعبودية، فبفضل الشيخ وبفضل دروسه تفتحت عيون أهلها.»

وقال السيد عبد الرحمن الكواكبي وقد سأله الخديوي عباس حلمي عن الإمام: «إن أفريقية أخرجت كثيرًا من العلماء في العلوم والفنون المختلفة دون الفلسفة، ولكنها أخرجت فيلسوفًا واحدًا بذَّ جميع الفلاسفة وهو ابن خلدون، وكذلك مصر أخرجت من لا يحصى من العلماء دون الفلاسفة والحكماء، ثم أخرجت أخيرًا حكيمًا فاق جميع الحكماء، وهو الشيخ محمد عبده.»

وقال السيد نعوم اللبكي في كلمة يرثي الإمام بها: «إن مصاب النصارى بالإمام ليس لأنه كاتب وليس لأنه خطيب وليس لأنه لغوي، بل لأنه هو الذي استخدم كل ما وضعت الطبيعة فيه من القدرة في سبيل إصلاح الإسلام، فهو مصلح الإسلام، ومن أصلح الإسلام فقد أصلح الشرق، فمحمد عبده هو مصلح الشرق.»

رأيت مما سبق قوة الصلات العلمية والعقلية بين القطرين في عصر النهضة منذ أيام محمد علي حتى العصر الأخير، ورأيت الأثر الكبير الذي أحدثته زيارة محمد عبده لسورية، على أن هناك أناسًا آخرين كان لهم الفضل في تقوية الصلات بين القطرين، نذكر منهم:
  • الدكتور بشارة زلزل اللبناني: وكان من رجال العلم والطب، أنشأ في مصر مع إبراهيم اليازجي مجلة البيان سنة ١٨٩٧.
  • والسيد أحمد البربير البيروتي (١٨١١م): كان شاعرًا فاضلًا أقام في دمياط طويلًا.
  • والسيد جبرائل مخلع الدمشقي (١٨٥١م): كان أديبًا بالعربية والفارسية والتركية، رحل إلى مصر وتقلب في وظائفها.
  • والمعلم بطرس البستاني الكبير (١٨٨٣م): صاحب محيط المحيط ودائرة المعارف، رحل إلى مصر وعظم قدره فيها.
  • والشيخ خليل اليازجي (١٨٨٩م): العالم الأديب الأشهر، أقام في مصر، ولما ثار عرابي اشترك معه فأقفلت مجلته «مرآة الشرق»، وقد كان لشعره وأدبه تأثير عميق في الكُتَّاب المصريين والشاميين.
  • وأحمد فارس الشدياق (١٨٨٧م): العالم اللغوي، رحل إلى مصر وكثر طلابه فيها وأحبه رجالاتها، وله فيهم أثر حسن.
  • والشيخ عبد الغني الرافعي (١٨٩١م): العالم الفقيه الأديب، رحل إلى مصر وأخذ عن شيوخها فأفاد واستفاد.
  • وشاكر شقير اللبناني (١٨٩٦م): الشاعر البارع الكاتب، رحل إلى مصر وأنشأ مجلة الكنانة وترجم كثيرًا من الكتب الفرنسية، ومن أهمها كتاب ڨولني عن مصر.
  • والشيخ نجيب الحداد (١٨٩٩م): الشاعر البارع الكاتب، محرر الأهرام وصاحب «لسان العرب» التي أنشأها في الإسكندرية.
  • والسيد سليمان الصولا (١٨٩٩م): الشاعر الرقيق، رحل إلى مصر وتقرب من إبراهيم باشا وكان من أعوانه في الحملة السورية.

وهناك مئات من العلماء والكتاب الصحفيين وأرباب المطابع والمصانع من السوريين الذين رحلوا إلى مصر وكان لهم فيها أثر مشكور كآل زيدان، وآل متري، وآل اليازجي، وغيرهم ممن يضيق المقام بتعدادهم.

أما الصلات في الأيام الأخيرة فهي الصلات القديمة نفسها، فالأزهر لا يزال المحجة التي يحج إليها الشاميون لطلب الدين، والرحلاتُ العلمية لا تزال قوية بين البلدين، ولكن الشيء الجديد الذي حدث في الأيام الأخيرة هو ظهور الجامعة المصرية، ورقي الطباعة المصرية، وانتشار الكتاب المصري في الديار الشامية انتشارًا عجيبًا. أما الجامعة فقد كان لها فضل عظيم في نشر الثقافة الأوروبية والعربية في الديار الشامية، وفي الجامعتين المصرية والإسكندرية اليوم أكثر من مائة شاب سوري، وفيهما أكثر من مائتي طالب لبناني وفلسطيني وأردني، وكل واحد من هؤلاء الطلاب سيعود إلى بلاده ناشرًا العلم الذي تلقاه في الجامعتين شاكرًا فضلهما. وأما الطباعة المصرية على اختلاف دورها وتعدد مذاهبها فإنها ذات فضل عظيم على القارئين في الشام من أقصاه إلى أقصاه، ولولا كتب مصر ومجلاتها ونشراتها لكان للأدب في الديار الشامية شأن آخر، على أن هناك شيئًا يجب أن يلتفت إليه القائمون على الثقافة في مصر؛ وهو طبع كتب الأدب الرخيص المفسد للذوق والملكات الصحيحة، فقد طغت موجة هذه الكتب على بعض المطابع فأخذت تكثر منها، والناس يلتهمون كل شيء تقع عينهم عليه ويجيئهم من مصر.

وهذا وما ينبغي لنا أن ننسى ما للشعر والشعراء في الأيام الأخيرة من أثر في تقوية الصلات بين البلدين، فقد لعب الشعر دورًا عظيمًا في تقوية هذه الروابط، وقد تكانف شعراء مصر والشام كما تكانف أدباؤهما تكانفًا عجيبًا، ولا عجب فإن الآلام التي مر بها كلٌّ من القطرين في أيامه الأخيرة قد وحَّدت بين القطرين، ولا غَرْوَ فالآلام كانت شديدة، ولم تكن تقع حادثة في الشام حتى كنت تجد صداها في نثر المصريين أو في شعرهم، كما أنك كنت لا تسمع بحادثة تجري في وادي النيل حتى تجد صداها في شعر الشاميين أو في نثرهم. ومن أكثر شعراء المصريين تأثرًا بحوادث الشاميين حافظ إبراهيم، وأحمد شوقي.

أما حافظ فقد تفطرت نفسه على حوادث بيروت لما رشقها الطليان، وقال في ذلك قطعة تمثيلية رائعة تصور ثورته على الظالمين الذين خربوا المدينة الآمنة، وقد صور فيها جريحًا يلفظ أنفاسه الأخيرة وهو يتحرق على بلاده لا خوفًا من الموت بل لأنه لم يستطع القيام بحق وطنه، فيقول:

لم أقضِ حق بلادي
وها أنا قد قضيت

•••

يا ليتني لم أعاجَلْ
بالموت قبل الأوان
حتى أرى الشرقَ يسمو
رُغم اعتداءِ الزمان
وليعلم الغَرْب أنَّا
كأمة اليابان
لا نرتضي العيش يجري
في ذلة وهوان

ولما حلت الحرب العالمية الماضية بويلاتها وانقطعت العلاقات بين مصر والشام وأضحى طلاب العلم في مصر من السوريين لا مورد لهم، هاجت عاطفة حافظ النبيلة، فتألم لهم ودعا كرام المصريين ووجوههم إلى حفلة في دار الأوبرا الملكية ليتبرعوا لهؤلاء البائسين، وقال في ذلك قصيدة من أروع الشعر وصف فيها نكبات الحرب، ودعا إلى مواساة هؤلاء الطلاب، وفيها يقول:

أيها الوسميُّ زُر نبتَ الرُّبا
واسبق الفجرَ إلى روض الزهر
حيِّه وانثر على أكمامه
من نِطاف الماء أشباه الدرر
أيها الزهرُ أفق من سِنَةٍ
واصطبح من خمرة لم تُعتصر
من رحيقٍ أمُّه غاديةٌ
ساقها تحت الدجى روحُ السَّحر
وانفح الروض بنشر طيب
علَّه يوقظ سكان الشجر

•••

كلَّ يوم نبأةٌ تطرقُنا
بعجيب من أعاجيب العبر
أمم تفنى وأركان تَهِي
وعروش تتهادى وسرُرُ
وجيوش بجيوش تلتقي
كسيول دفقت في منحدر
ورجال تتبارى للردى
لا تبالي غاب عنها أم حضر
وحروب طاحنات كلما
أُطفِئت شبَّ لظاها واستَعَر
ضجت الأفلاك من أهوالها
واستعاذ الشمس منها والقمر
في الثرى في الجو في شُمِّ الذُّرَى
في عباب البحر في مجرى النهر
أسرفت في الخلق حتى أوشكوا
أن يبيدوا قبل ميعاد البشر
فاصمدوا ثم احمدوا الله على
نعمة الأمن وطيب المستقر
نعمة الأمن وما أدراك ما
نعمة الأمن إذا الخطب اكفهر

•••

إن في الأزهر قومًا نالهم
من لظى نيرانها بعض الشرر
أصبحوا — لا قدر الله لنا —
في عناء وشقاء وضجر
نزلاء بيننا إن يرهقوا
أو يُضَاموا إنَّها إحدى الكبر
فأعينوهم فهم إخوانكم
مسهم ضر ونابتهم غِيَر
أقرضوا الله يضاعف أجركم
إن خير الأجر أجر مدَّخر

ومن أروع شعر حافظ الذي يصور لك شدة اتصال القطرين، قصيدته التي قالها في الحفل الذي أقامه السوريون لتكريمه في مصر، وفيها يقول:

لمصر أم لربوع الشام تنتسب
هنا العلا وهناك المجد والحسب
ركنان للشرق لا زالت ربوعهما
قلب الهلال عليها خافق يجب
خدران للضاد لم تهتك ستورهما
ولا تحوَّل عن مغناهما الأدب
أم اللغات غداة الفخر أمهما
وإن سألت عن الآباء فالعرب

•••

إذا ألمَّت بوادي النيل نازلة
باتت لها راسيات الشام تضطرب
وإن دعا في ثرى الأهرام ذو ألم
أجابه في ذرا لبنان منتحب
لو أخلص النيل والأُردُنُّ وُدَّهما
تصافحت منهما الأمواه والعشب
بالواديين تمشَّى الفخر مشيته
يحف ناحيتيه الجود والدأب
فسال هذا سخاء دونه ديم
وسال هذا مضاء دونه القضب
نسيم لبنان كم جادتك عاطرة
من الرياض وكم حياك منسكب
في الشرق والغرب أنفاس معطرة
تهفو إليك وأكباد بها لهب
لولا طِلابُ العلا لم يبتغوا بدلًا
من طيب رَيَّاك لكنَّ العلا تعب
سعوا إلى الكسب محمودًا وما فتئت
أم اللغات بذاك السعي تكتسب
فأين كان الشَّآميون كان لها
عيش جديد وفضل ليس يحتجب
هذي يدي عن بني مصرٍ تصافحُكم
فصافحوها تصافح بعضها العرب

وكان حافظ كثيرًا ما يذكر في شعره الصلات التي تربط البلدين منذ الزمان الغابر، ويتمنى لو اجتمعا واتحدا اتحادًا قويًّا.

إنما الشام والكنانة صنوا
ن برغم الخطوب عاشًا لزاما
أمكم أمنا وقد أرضعتنا
من هواها ونحن نأبى الفطاما

وانظر إليه يدعو إلى التوحيد بين القطرين، فيقول:

نحن في حاجة إلى ما يُنْـ
ـمِي قوانا ويربط الأرحاما

وقد أكبر الشاميون هذه العواطف النبيلة التي وجدوها عند شاعر النيل، وليس أدل على ذلك من قول الأستاذ شفيق جبري يحييه لما زار دمشق:

أنشدت شعرك في أفناء لبنان
فرحت أغمز وسواسي وشيطاني
بالأمس شوقي على أفناننا غرد
واليوم حافظ ميَّاد بأفنان
وبنت مروان توحي من أباطحها
وشي القرائح عاشت بنت مروان

•••

يا طاوي اليم في دجناء زاحفة
على صفيح من الأمواج مرنان
يهفو به الشوق والأجفان تكتمه
إلى أراهط من فهر وغسان
خلَّى ضفاف الحمى والنيل وانقلبت
به المطى إلى أهل وجيران
من عهد عدنان ما أبلى عروبتهم
وطء الهزاهز في أبناء عدنان
سر في دمشق ونادم إن نزلتَ بها
عصابة نادمتهم روح حسان
هذا الرحيق وفي أظلاله بردى
يجري بروض على الفيحاء رنان
تحية يا ضفاف النيل طيبة
تجري بها الريح في شيح وحوذان
الشام من ودك الريان في صلة
محبوكة الوشي في قرن وإمعان
من عهد عمرو فما رثت ولا بليت
قد أتقنتها الليالي أي إتقان
إذا بكت جنبات النيل من ألم
بكت دمشق بدمع منه هتَّان
أواصر ببيان العرب محكمة
النيل والشام في الآلام صنوان
هما النجيبان في تصوير جرحهما
تصويرُ جرحهما همس بآذاني

•••

لكنَّ مصر وإن هشَّت وإن عبست
ركن العروبة للقاصي وللداني
يأوي إليها من الفيحاء متهم
فيستظل بظل العاطف الحاني
أملت على الشرق من آيات نهضتها
ما أنقذ الشرق من ذل وإذعان

ولما مات حافظ بكاه أدباء الشام وتفطرت قلوبهم عليه، وإليك أقوال بعضهم.

قال شفيق جبري:

ستون عامًا على كره تعانيها
هدأت عنها ولم تهدأ لياليها
ما زلت منها على يأس تغالبه
حتى طواك على الأشجان طاويها
فاطرح شدائدها عن كاهل هدمت
من جانبيه ولم تهدم عواديها
يا وقفة لك في أفيائها انحدرت
عن العواطف مضنيها ومشجيها١
ناجيت منها صِبًا ولَّت نواعمه
بُدِّلتَ شيخوخة منه تناجيها
فتوة ملئت بؤسًا نضارتها
وكبرة أنعمت سقمًا حواشيها

•••

لكن روحك إن جدت وإن هزلت
لم تنسَ مصر ولم تهمل مغانيها
غنت بوادي الحمى في فجر نهضته
وخاضت النهضة المحمر واديها
قد كنت بلبلها الغريد هيَّجه
غول على مصر محتل روابيها

وقال عادل الغضبان:

شقوا الجيوب ونكسوا الأعلاما
فقدت بإبراهيم مصر إماما
أودى إمام الشعر من محرابه
فالناس حيرى والصحاب يتامى
وطوى ملاك الموت صفحة شاعر
يسبي القلوب ويسحر الأحلاما
جزع الشآم وأسخنت نفحاته
ورنا يشارك في الأسى الأهراما
وتأوَّهت دول الحجاز وشاطرت
لبنان فيه ودجلة الآلاما
دول مفرقة أهاب بشملها
جرح ثخين عزَّ أن يلتاما
في كل قُطر للبلاغة مأتم
يبكون فيه يراعةً وحساما

أما شوقي فقد فُتِن الشاميون بشعره وأجلُّوه إجلالًا ما بعده إجلال، ولا عجب فإنه فوق مكانته الشعرية الشامية التي أحلته إمارة الشعر كثير الذكر لبلاد الشام وشعره سجل لكبار حوادثه، فلما رشق الطليان بيروت، بكاها بقطعة من أروع الشعر قال فيها:

يا رب أمرك في الممالك نافذ
والحكم حكمك في الدم المسفوك
إن شئت أهرقه وإن شئت احمه
هو لم يكن لسواك بالمملوك
بيروت مات الأُسْد حتف أنوفهم
لم يشهروا سيفًا ولم يحموك
سبعون ليثًا أُحرقوا أو أُغرقوا
يا ليتهم قتلوا على (طبروك)
كل يصيد الليث وهو مقيد
ويعز صيد الضيغم المفكوك

•••

بيروت يا راح النزيل وأنسه
يمضي الزمان عليَّ لا أسلوك
الحسن لفظ في المدائن كلها
ووجدته لفظًا ومعنًى فيك
نادمت يومًا في ظلالك فتية
وسموا الملائك في جلال ملوك
ينسون حسانًا عصابة جِلَّقٍ
حتى يكاد بجلق يفديك

•••

إن يجهلوك فإن أمك سوريا
والأبلق الفرد الأشم أبوك
والسابقين إلى المفاخر والعلا
بَلْهَ المكارم والندى أهلوك
سالت دماء فيك حول مساجد
وكنائس ومدارس و«بنوك»
لك في رُبى النيل المبارك جيرة
لو يقدرون بدمعهم غسلوك

ولما نكبت سورية سنة ١٩٢٥ دعا إلى حفلة في تياترو الأزبكية لمساعدة المنكوبين السوريين، وفيها أنشد قصيدته الرائعة التي لا تجد شاميًّا مثقفًا لا يحفظها، وإليك بعض مقاطع منها:

سلام من صبَا بَرَدى أرقُّ
ودمع لا يكفكف يا دمشق
ومعذرة اليراعة والقوافي
جلال الرزء عن وصف يَدِقُّ
وذكرى عن خواطرها بقلبي
إليك تلفُّتٌ أبدًا وخَفْقُ
وبي مما رمتك به الليالي
جراحات لها في القلب عمق
دخلتك والأصيل له ائتلاق
ووجهك ضاحك القسمات طلق
وتحت جنانك الأنهار تجري
وملء رباك أوراق وورق
وحولي فتية غر صباح
لهم في الفضل غايات وسبق
رواة قصائدي فاعجب لشعر
بكل محلة يرويه خلق

•••

لحاها الله أنباء توالت
على سمع الوليِّ بما يشق
تكاد لروعة الأحداث فيها
تُخالُ من الخرافة وهي صدق
وقيل معالم التاريخ دُكَّت
وقيل أصابها تلف وحرق
ألستِ دمشقُ للإسلام ظئرًا
ومرضعة الأبوة لا تُعَقُّ
وكل حضارة في الأرض طالت
لها من سرحك العلوي عرق

•••

نصحت ونحن مختلفون دارًا
ولكن كلنا في الهم شرق
ويجمعنا إذا اختلفت بلاد
بيان غير مختلف ونطق
وقفتم بين موت أو حياة
فإن رمتم نعيم الدهر فاشقوا
وللأوطان في دم كل حر
يد سلفت ودين مستحق

وقال بمناسبة الاحتفال بذكرى شهداء سورية واستقلالها:

بني سوريَّة التئموا كيومٍ
خرجتم تطلبون به النزالا
سلُوا الحرية الزهراء عنا
وعنكم: هل أذاقتنا الوصالا؟
وهل نلنا كلانا اليوم إلا
عراقيب المواعد والمطالا؟!
عرفتم مهرها فمهرتموها
دمًا صبغ السباسب والدغالا
وقمتم دونها حتى خضبتم
هوادجها الشريفة والحجالا
دعوا في الناس مفتونًا جبانًا
يقول: الحرب قد كانت وبالا

•••

سأطلب ما حييت جدار قبر
بظاهر جلَّقٍ ركب الرمالا
مقيم ما أقامت ميسلون
يذكر مصرع الأسد الشبالا
لقد أوحى إليَّ بما شجاني
كما توحي القبور إلى الثكالى
تغيب «عظمة» العظمات فيه
وأول سيد لقي النبالا
ترى نور العقيدة في ثراه
وتنشق من جوانبه الخلالا
مشى ومشت فيالق من فرنسا
تجر مطارف الظفر اختيالا
ملأن الجو أسلحة خفافًا
ووجه الأرض أسلحة ثقالا
وأرسلن الرياح عليه نارًا
فما حفل الجنوب ولا الشمالا

•••

فكُفِّن بالصوارم والعوالي
وغيب حيث جال وحيث صالا
إذا مرت به الأجيال تترى
سمعت لها أزيزًا وابتهالا
تعلَّق في ضمائرهم صليبًا
وحلَّق في سرائرهم هلالا

وقصائد شوقي في مغاني الشام ولبنان وزحلة كثيرة جدًّا تدل على تعلقه الشديد بالشام وأهله.

ولما مات شوقي بكاه الشام قاطبة، وإليك بعض ما قالوا.

قال خليل مردم بك:

شوقي وهل أرثيه يوم خلوده
فالسيف يبغي شاهرًا لا غامدا
دعني أُشِد بالعبقرية إنها
كالشمس إن غربت أرتكَ فراقدا
العبقرية نفحة قدسية
تحيي الرميم وتستثير الخامدا

•••

شوقي وأنت رسالة علوية
مرت على سمع الزمان نشائدا
روح من الله الكريم ورحمة
أحيا بها ميتًا وأيقظ هاجدا
فرفعت للفصحى بمصرٍ دولة
كانت تطالع فيك نظمًا صاعدًا
توجت مصر وشدت عرش فخارها
وعقدت في جيد الشآم قلائدا
للعرب والإسلام في آلامهم
كنت اللسان مترجمًا والساعدا
أضحى بيانك جامعًا أهواءهم
ومن الخمول إلى النباهة رائدا

•••

كم موقف لك في دمشق وأهلها
قد هز يقظانًا ونبَّه راقدا
غنيتها لحنًا يفيض صبابة
فتمايلت فيها الغصون تواجدا
وشركتها في بؤسها ونعيمها
يا من رأى ولدًا يشاطر والدا
في الجامع الأموي قمت مكبرًا
وذكرت مجد بني أمية ساجدا
خلفت في الزهراء دمعك جاريًا
وتركت في الفيحاء قلبك واجدا
واسيت جِلَّقَ في عظيم مصابها
ونضحت عنها بالبيان مجاهدا
صعَّدت أنفاسًا وجُدتَ بأدمع
في يوم محنتها فكُنَّ قصائدا

وقال بشارة الخوري:

قف في ربى الخلد واهتف باسم شاعره
فسدرة المنتهى أدنى منابره
وامسح جبينك بالركن الذي انبلجت
أشعة الوحي شعرًا من منائره
إلهة الشعر قامت في ميامنه
وربة النثر قامت عن مياسره
ما للملاعب في لبنان مقفرة
وللمناهل عطلًا من حرائره
وللمآذن في الفيحاء كاسفة
كخاشع السر في داجي مقابره
وللأصائل والأسحار أثخنها
عاتٍ من الريح إرهاقًا بحافره
أودى القريض فللأحزان ما لبست
على سرير الدراري من عباقره
لبنان يا مصر مصر في مآتمه
كما علمت ومصر في بشائره
هل كان قلبك إلا في جوانحه
أو كان دمعك إلا في محاجره
أو كان منبت مصر غير منبته
أو كان شاعر مصر غير شاعره

وقال إسعاف النشاشيبي في قصيدته ذات القوافي والبحور:

شاعر العرب قضى
فالبِسي ثوب السواد
وابرزي بين الملا
واندبيه حاسرة
زحزحي هذا النقاب
لنرى وجه الحزين
أعرضي عن خفر عودتِه
فعيون القوم غرقى في الدموع
واحشدي كل بنات العرب
واندبيه نائحات سافرات
وذري الترب يبيسًا
يرتوي من عبرات
اذكريه أندبيه أبِّنيه
بمراثٍ مشجيات خالدات

أما بعد، فهاتان صفحتان مشرقتان أشد الإشراق من تاريخ هذين القطرين العزيزين السياسي والأدبي، وقد أريناك شدة تماسك هذين القطرين وإخلاص كل واحد منهما لأهل الآخر، ومشاطرته آلامه وآماله، ولن يستطيع أحد أن يفرق ما وحَّدته الطبيعة واللغة والتقاليد، وما فرعونية مصر وفينقية لبنان إلا خديعة اخترعها المخترعون للتفريق بين الأخوين الحبيبين والصديقين العتيقين.

رحم الله شاعر النيل حافظًا القائل:

إنما الشام والكنانة صنوا
ن برغم الخطوب عاشًا لزاما
أمكم أمنا وقد أرضعتنا
من هواها ونحن نأبى الفطاما
١  إشارة إلى قول حافظ:
وقد وقفت على الستين أسألها
أسوَّفَتْ أم أعدَّتْ حر أكفاني

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤