مجلس القرية يلوم الحكومة

لا نعني بمجلس القرية المختار والعضوين المعينين من الحكومة. فمجلسنا هذا لا ينتخب ولا يعين، ولا يتقيد بعدد، وليس له نصاب قانوني؛ قبته سنديانة الكنيسة ودورته دائمة، قبل القداس أو الزياح. نعقده حيث نجتمع؛ في السهرات، في عيادة المرضى، أو السلام على الغائب، فالسلام عندنا يحل على من يغيب عن الضيعة ولو يومين.

من حضر باع واشترى فالأمر شورى بيننا، ولا خلاف على الرئاسة، فما أحد خير من أحد إلا بالصحة والعافية والرأي السديد. فإذا دارت الغربلة والبخل حسبتك في طاحون أنطلياس، لا محاباة ولا شفقة. المجلس دينونة رهيبة، ومن يشهده خال أنه في وادي يوشافاط، والويل لمن ساءت سمعته وقلت هيبته، فالمجلس يشجبه ولو كان رأسه ينطح السحاب.

أما الاجتماع الذي أحدثك عنه، فكان مساء الاثنين ١٦ أيلول، فأكثر القرية ينتظرون صاحب البريد عصر الإثنين أو الجمعة، وهو لا يخرم ولا يخلف الميعاد. استبطأه الناس ذاك النهار فتفرقوا ليتعشوا، وعشاء القروي مع غياب الشمس، فكأنه صائم رمضان أبدًا.

نهق حمار صاحب البريد في سفح القرية عند الدغشة فرددوا: جاء، جاء. وازدردوا لقمتهم ملهوفين، وعادوا إلى الاجتماع على سطح البئر، وإن شئت تعبيرًا جديدًا قلنا لك (الفيرندا) لا السطح والمسطبة.

كانوا فيما مضى يسألون بطرس — البوسطجي — عن المكاتيب المضمونة الحاملة بشائر الفلاح، لأهل الكادحين عبر البحار، ولكنهم صاروا غير مرغوب فيهم حتى في السنغال، أما اليوم فكل بضاعة البريد وطنية؛ بلاغات محاكم، وإنذارات، رسوم مسقفات ومسكرات، وغرامات يجود بها بعض الجنود الخيرين على من يفتح باب بئره، أو لا يعمل السدادة باطونًا أو حديدًا. فباتوا في هذه الأيام الرحراحة يتهافتون على الجرائد. كل يتناول واحدة من الصحف والمجلات التي ترد عليَّ. الجميع يعنون بأخبار الحرب؛ فالملسوع يخاف من جرة الحبل، فحرب الأمس أهلكت نصف سكان القرية، وسكرت حارة برمتها. أستغفر القلم والذاكرة بل فتحت أبوابها وسقوفها، أما اليوم فعادت الضيعة كما كانت من قبل نقدًا وعددًا.

كانوا يتوقعون أن تعلق الحرب بأوروبا فابتدروا سلاحهم؛ من خروب ما كانوا يبالون به، فصح قول المثل المحلي: جاء من يعرفك يا خروب، وثمار لم يكونوا يحرصون عليها لو لم يتذكروا كيف كبرت قيمة التين وابيضَّ وجه الخروب، فصار دبسه سيد المائدة زمنًا، ككافور في مصر.

بشرتهم الصحف بالسلام العالمي، فدعوا للآفال ولجنة الخمسة، وحيوا الأساطيل الإنكليزية الساهرة على السلام بأعين لا تنام، وانصرفوا إلى الأخبار المحلية، فلفتت نظرهم الموازنة فتداولوا حديثها. أما ساعي البريد بطرس فما وعى شيئًا من هذا، انبطح يشخر، وكيف يسهر من يطوف زهاء ثلاثين قرية في الأسبوع مرتين، وفي خرجه مئات الرسائل المضمونة التي تفتقد بها الحكومة رعيتها، وتحصل الغرامات.

وخف عدد الناس فصعدنا إلى (قبة الوادي) لأن الليلة كانت حرة، فقعدنا حلقة على الحصير كأننا في حلقة النظام، أو أحد المحدثين. بضعة عشر شخصًا كل وجريدته، وبينا أنا أفتش في صحف فرنسا عن نبأ الكاتب الشهير هنري بربوس إذا بواحد يشق الحديث قائلًا: هه، صدقوا الميزانية.

فاشرأبت الأعناق وقال واحد: أية جريدة معك.

– صوت الأحرار.

وقال آخر: كم مليونًا.

فأجاب: أربعة ملايين و… و… وكسور.

وسأل أكثرهم: والطريق …

وكان سكوت وتغامز، أما أنا فنمت عن هذا الحديث وتشاغلت بصحيفتي. إن قصتي مع قومي، وكلهم خير مني، كقصة الأرملة وطبختها لبنيها. وهل وعود حكومتنا غير هذا! أما تلك فجاءها عمر وكيس الطحين على ظهره، أما نحن فقدرنا لا تزال منصوبة على الموقدة والطعام لما ينضج، غير أننا ما نمنا ولن ننام؛ فالجوع فضاح.

فنهرني شيخ مجلسنا ونهزني قائلًا: أيش بك، احك. اكتب للدباس.

فضحك فتى منا خفيف، فخفت أن يغضب الشيخ لأنه شوَّاط، فتواضعت له وقلت: يا خال، الدباس مات، وموعد وصول جثته من فرنسا يوم عيد مار روحانا (٢٩ أيلول).

فهمد كالمخجول وقال: أنا ما عرفت! الله يرحمه، عمله مليح مع جيرتنا، من الريس اليوم؟

قلت: حبيب باشا السعد.

فقال: عال عال. إذن اكتب للباشا.

فأجبت: عرضنا له عام أول.

فابتدرني قائلًا: أنت ومن؟

فضحكت، لأن ضمير الجمع معدوم عندنا، وقلت: أنا وأنتم.

فقال: وأيش صار.

قلت: …

فهز رأسه وقال: هيهيء، وأطرق طويلًا.

واستلم الحديث شاب فقال: الطرق تعني مدير النافعة، لماذا لا تحكي معه؟!

فقلت: حكيت. ويشهد لي الصديق كرم ملحم كرم.

فقاطعني قائلًا: صاحب ألف ليلة وليلة.

فقلت: نعم هو بعينه.

فاعترض آخر وقال: عليك بمدير الداخلية.

فقلت: كلمته في بيت صديقي نسيت عازار، في غرزوز. ورأى أحدهم أن المحافظ يقدم ويؤخر، فأجبت: كذلك فعلت في غرزوز، ثم ذكرته في عاليه.

وقال أحدهم: والقائمقام.

فقلت: آخر حديث كان بيننا يوم عيد مار يوحنا (٢٤ حزيران). سألني إذا كان عندنا مشاع فقلت له: الضيعة كلها مشاع. ووعدني بزيارة، وأظنه فزع من الطريق فتأخر.

فقال أحدنا: يا هُو، نسيتم النواب.

فأجابوه: النواب يسألون عنا ويعرفوننا قبل الانتخاب، النواب مساكين ما بيدهم شيء.

أما شيخنا فاحتد وانتخى — هو خائف أن يموت ولا يصلي عليه المطران — وأخذ يشيخ علي: يظهر يا خالي أنك تعرف تخربش على الورق، وتطقطق على الآلة (الآلة الكاتبة) ليل نهار. خبرهم عن طريقنا أنها أهم درب في جبل لبنان، (قادومية) تربط الدنيا ببعضها. ما سمعت حكي الجرائد عن سيدنا البطرك؟ لا تتعجبوا، البطرك ملزوم يمشي! المجمع اللبناني يأمره بزيارة أبرشيته، هكذا قل لهم حتى يعرفوا حالهم.

فعلت ضحكة أحس بها الشيخ — مع أن الفتى أكل ثلاثة أرباعها — فعقد حاجبيه ودار ثم قال لي مشيرًا إلى الشباب: أولاد! الحكي معهم ضائع. يا مارون، ما قلت للحكام إننا دفعنا ربع المجيدي، ونصف المجيدي، والليرة، والربع. منذ سنة الستين إلى اليوم، والحكومة ما صرفت بارة واحدة على دربنا، لو ردوا لنا مالنا بلا فائض عملنا أحسن درب في لبنان كله بلا جميل مخلوق خلقه الله.

فقلت له: قلت لهم كل هذا، وقلت لهم أيضًا: إن الحكومة اعتبرت دربنا فعدتها من (المنافع العامة) بقرار سجل في النافعة تحت رقم ٢١١٦ بتاريخ ٢٢ آيار سنة ١٩٣٢ وقلت لهم: إن شق الباقي — ٦ كيلومترات — يربط الشمال بالجنوب وتنفتح أقرب درب إلى الأرز وقلت …

فكأنه رثى لي فقال: طيب، طيب، يظهر أنك قلت كثيرًا. لماذا ما سمعوا لك؟

فأجبته: لا أعرف! فهز رأسه واحتبى. فقال واحد: كل هذا تعب باطل، ما لها إلا الفرنجي.

وبهتنا محيرين فضحك شاب من عادته قراءة الجريدة من العنوان إلى الإعلان وقال: خبر كويس.

فأصغينا إليه، فقرأ علينا خبرًا أذاعته جريدة الراصد، وهو أن مدير الداخلية طلب من القائمقامين تقديم تقرير عام عن حالة كل قرية ودسكرة، ومبلغ حاجتها إلى الإصلاح من ينابيع شحيحة وملوثة وأمراض.

فهتفوا جميعًا: نشكر الله، لا ينابيع ولا أمراض.

فقال: اسمعوا. وأتم: والطرقات اللازم فتحها وإصلاحها، فصاحوا جميعًا فرحين: جاءت وجاء بها الله.

وخفتت أصواتنا فقال واحد مشئوم: اقرأ تفرح، جرب تحزن.

وقال آخر لعين جدًّا: إذا وعدتكم الحكومة بضريبة صدقوا، أما إذا قالت لكم أعمل الطريق فيا طولها غربة.

فهز الخال رأسه وقال: إذا بقينا على ما نحن كيف يزورنا سيدنا البطرك، أظن الحكومة مهتمة بالطرق لهذا السبب.

فتبسم الكثيرون، فعدا الشيخ طوره، وكاد يخرج من جلده، وصاح بنا: عيب علينا أن يجيئنا البطرك ماشيًا. ثم هدأ لحظة، فصمتنا نكظم الضحك، فقال لنا: بدا لي فكر.

فقالوا جميعًا: هاته يا بو يوسف، فأجابهم: غدًا متى جاء سيدنا احملوه من أول (خراجنا) إلى آخره؛ لئلا تصيبه مصيبة عندنا تصيرنا مثلًا بين الناس. استرنا يا رب.

وتحرك للذهاب، فنهضوا جميعًا كأنهم معلقون بخيط واحد.

أما ما أقره (برلماننا) قبل الانصراف فهو أن نقطع الصفحة السادسة من عدد الأحرار (٢٠ تموز و٢٤ آب) ونرفعها إلى حضرة مدير الداخلية، مع العريضة التي نصوها هم، وإليكها بعد الترجمة:

تطلبون إفادة القائمقام عن قريتنا، فلكي تعجلوا في شق طريقنا — وزاد الشيخ: قبل حضور غبطته — وتحسبوا حسابنا في الميزانية الجديدة، أرسلنا ما كتبه أحدنا مارون عبود عن قريتنا وطرقها، فإذا لذلكم (النحو) قرأتم ما كتب، وإن أعجبتكم البساطة قرأتم عريضتنا هذه، ثم سردوا موقع الطريق وعلاقتها القديمة والجديدة بالجمهور. وغب الفحص والتحقيق إذا لم تصدقونا تتضح لكم حالنا وحاجتنا إلى الطريق، وأننا بقينا وحدنا بلا درب، فإن كنا محسوبين من رعيتكم تشقوها لنا، وإن تتعذروا عن شقها كلها أوصلوها إلى أول خراجنا، ونحن نتكفل لكم بإيصالها إلى ضيعتنا، وتسليمها لجيراننا أهالي صغار، وجربتا، وتولا، والبقيعة، وضهر أبي ياغي، وشويت، وهكذا نربط البلادين: جبيل والبترون، والمحافظتين: الشمال وجبل لبنان، ويصير عندنا طريق تمكننا من بيع العنب والتين والزيتون والإجاص والسفرجل، وإيصال دخاننا إلى مستودع الشركة بالوقت، فلا تغرمنا وتخرب بيوتنا، وحينئذ نقدر على الدفع للجباة ولا نردهم فارغين. كثيرون منا يا أفندي يموتون ولا يلحقهم طبيب ولا دوا، فأطباء البلاد نزحوا، والفرمشيات سكرها أصحابها، فأملنا أن تلبوا طلبنا الزهيد الذي لا يكلفكم إلا خمسمائة ستمائة ورقة، أنتم من خير المولى تنفقون بكرم وجود ألوف ليرات على تقويم حيط، وتصرفون ألوف الليرات تعويضًا لواحد من المأمورين ما خسر شيئًا في حياته بل ربح كثيرًا وضب، فاحسبوا — لا سمح الله بذلك — أنه كان مِنَّا موظف وصرفتم له تعويضًا، فاصرفوا لنا مثل هذا المبلغ وسموه مثلما تريدون: قرضًا، تعويضًا، حسنة لوجه الله، نحن قابلون بذلك وإن كان لا يساوي قيراطًا من أربعة وعشرين مما دفعناه وندفعه إلى الصندوق منذ سنة الستين إلى اليوم، إن الذي يأكل ولا يطعم تذمه الناس، ونحن نعرف الحكومة كالأب، والأب لا يفرق بين أولاده حتى المعاتيه منهم، وفي الختام نشكر مساعيكم المشكورة ودمتم بخير سالمين.

حاشية: إلى مدير الداخلية السيد صبحي بك أبو النصر.

هذه صورة محضر مجلس القرية نقلتها بحروفها، وسأنقل أيضًا شيئًا كثيرًا بكل صراحة، ولولا تعميمكم ما وجهوا خطابكم إليكم، فعسى أن تحيط بها المراجع علمًا فقد أغلينا الورق وما من مجيب.

وأزيد حضرتكم علمًا أن متمشرقًا كبيرًا شاء زيارتي في لبنان فأجبته: إذا جئتنا في عيد الفصح تجدني في عين كفاع، فإذا كنت رياضيًّا كجماعتك الإنكليز، فاستعد للسير على قدميك في طريق قلقة المجاز، تتعثر فيها المعزى. فتعجب الأستاذ كيف يكون هذا في جمهوريتنا السعيدة بطرقها الرئيسية المزفتة العريضة كشوارع لندرة، حتى تنازل وقال: يظهر أنكم توجهون بضاعتكم.

إن هذه الصراحة التي أخاطبكم بها قد خسرتني الكثيرين من أصحابي، عوضني الله من هؤلاء جميعًا بصداقتكم التي أخطبها وأتمنى أن تكون كشهر الصوم في الطول.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤