رسالة إلى الرياس

إليك يا سيدي الرئيس، أوجه — بعد السلام — أول كلمة تصدر عن عاليه. لا تتعجب أن أسلم عليك بالرئاسة، وقد سقطت من يدك، فنحن الجبليين نقول مع تلميذ لأمنه: من صار كاهنًا مرة كان كاهنًا إلى الأبد. فالخال بو يوسف ظل يحسبك رئيسًا حتى ١٦ أيلول.

أكتب إليك لأبلغك عرفان جميل قرية مهملة تحترم الأموات أحسنوا إليها أم أساءوا. أنت لم تحسن إلينا بيد أنك ما أسأت قط، فلا أدري كيف أصحح فيك قول المتنبي:

أنا لفي زمن ترك القبيح به
من أكثر الناس إحسان وإجمال
فشقكم الطرقات محتجين بإيصالها إلينا، ثم وقفها على أبواب الأديار أفسد معنى البيت، فلا أدري كيف جوزت هذا وأنت وعيت في صدرك قوانين الدول كما قال الدكتور فياض في تأبينك.

سيدي:

ما مشينا في ركابك، ولم نمر أمام نعشك، إلا أننا — علم الله — أسفنا جدًّا على شبابك المتقد، وثقافتك الواسعة العميقة، عذرنا واضح يا سيدي، حاولنا تأليف (وفد) لنظهر بين الناس، وإن كان الظهور يقطع الظهور، فحالت دون رغبتنا وعورة الدرب، لا تظنني مبالغًا، فبالكد كنا ننقل الذين يمضون لسبيلهم من مستشفيات بيروت، نقع ونقوم مرات تحت النعش. يؤيد ما أزعم بيروتيون كرام شيعوا معنا جثمان نسيبتهم، أدال كيرللس عبود، منذ سنة ونصف، ففاضت ألسنتهم بالأدعية الخيرية للحكومة الساهرة على راحتنا!

ستأسفون يوم يبلغكم تأخرنا، عفوًا، بل فقدان بضع حلقات من سلسلة الموكب، وستندمون حين تعلمون ما فعلت القرية الصغيرة التي لم تخطر على بالكم واستهنتم بها.

اجتمعنا — مجلس القرية — بعد ١٦ أيلول مرة واحدة، واتفقت كلمتنا على تعطيل العيد الكبير(عيد مار روحانا ٢٩ أيلول) حدادًا١ عليكم واحترامًا لوصولكم ميناء العاصمة، فلم ندق الجرس إلا بضع ضربات حزن؛ إيذانًا بحلول الصلاة مساء والقداس صباحًا، ولم نحرق القندول والبلان والكاز على سطح الكنيسة، ولم نشعل القناديل، فكانت الضيعة خرساء سوداء، لا دق جرس ولا تنوير، ولا مجال (قول) ولا رقص، ولا زمر، ولا (دبك) حتى القداس كان صغيرًا.

اسأل القرية فأنا (واقعي) في أحاديثها، كل هذا فعلناه بلا دعوة، ومن يدعونا ونحن ما زلنا منسيين كما كنا في عهدك، فعسى أن يفيد هذا الدرس، فلا نهمل ولا ننسى غدًا.

الكلام بيني وبينكم، الظاهر أن الحكومة ما دعت إلى مأتمكم إلا من (قيدت) أسماؤهم في دفتر (القروض) التي ابتدعتموها، فحققتم أحلام كل قرية ودسكرة كما قال صديقي صاحب البيرق، ولكن أظنه يذكر جيدًا أن أحلامنا نحن ظلت أضغاثًا، ما أقرضتمونا؛ لأنه لم يتوسط بيننا وبينكم غير (حقنا). خطيئتي عظيمة يا مولاي، ليتني تركت قومي يتوسلون إليك ببطاقات من يمنحون البركة الرسولية والدعاء الأبوي.

لا أدري إذا كان بلغك أن كثيرين لم يلبوا الدعوة هوِّن عليك لا تتعب يا أستاذ، هذا حالنا. نحن مع الواقف، والمولي ما له صاحب. لقد علمناهم درسًا عميقًا من دروس المروءة والوفاء، فلعلنا لم ننفخ في رماد.

كأنني أراك تحك رأسك وتقول: عين كفاع، عين كفاع تذكَّر جيدًا، تفطن مليًّا، تذكر كتابي الأخير المسجل في بريد جبيل المذيل بكلمة شخصي، ففيه (مصور) الطريق، وفيه وعد صريح بتخليد اسمك في صدر جبل (القطين) الجبار، كالفاتحين المرقومة أسماؤهم عندنا على صخور وادي حربا.٢

وبعدُ، فالماضي مضى، عسى أن يكون الحق حبيب الله في (العالم) الذي صرت إليه، وليس في عالم (الآخرة) قرية مهملة مظلومة كعين كفاع ننقل إليها ونعلق بها إلى الأبد. يعد (المجلس السماوي) طريقها من المنافع العامة لتصل إلى قصر مار بطرس وبولس، وتقف على باب كرسي مار يوحنا فم الذهب، ونبقى نحن بلا درب، حتى في الملكوت، إلى دهر الداهرين.

أنا خائف كثيرًا من هذا، بحياتك تطمئنني والسلام عليك.

١  بلا زينة ولا احتفال.
٢  منقوش في صخورها بالقلم اليوناني: من هنا الطريق … إلخ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤