بمناسبة الدستور والاستقلال

كسائي كسائي إنه الدرب بيننا
فلا تدع النغر المخوف بلا درب

هذا ما قاله ابن الرومي في الدرب، والدرب حديث ابن عين كفاع فهو يتوجع، وإن لم يبك كصاحب امرئ القيس لما رأى الدرب دونه، قالوا للجوعان ثلاثة وأربعة فقال: سبعة أرغفة. وأهالي عين كفاع المحرومون من حق المرور إذا وعظهم الخوري قائلًا لهم بلسان المخلص: أنا هو الطريق، والحق، والحياة، جدفوا في قلوبهم حانقين على من هضموا حقهم في الطريق التي هي الحياة.

طريق عين كفاع مشكلة دولية قد لا تفضها جامعة الأمم، فكلما داويت جرحًا سال جرح، جعلت في ظل جمهورية الإخوان وأبناء الأعمام غاية مبررة لوسائط ساداتنا الأحبار المحترمين، فتمسحوا بنا كتيس الخطيئة، ولما تراءت ظلامتنا بعد حين لفخامة الرئيس السابق «حبيب باشا السعد» أدرك أن الطريق هي العلاج الشافي لجراح القرى والمزارع السبع فأمر بشقها، ولكن مبضع حضرة مدير النافعة تحول عنها، إما لأنه كان يداوي الجرح الأقوى، وإما لأن قلبه رقيق لا يحتمل فظاظة الشق، كان موعدها شهر آذار فنسيها كما قال، وهكذا انقض علينا آذار الهدار أبو الصواعق والأمطار، فترك الدار تنعى من بناها، وعدنا نبني من جديد فتصدى لنا (العجز) وصح بنا قول المثل: لسوء حظ الحزينة سكروا المدينة. أما اليوم فالقرية سكرى بالآمال تحلم بالحياة والمساواة، وإن شاء الله يشرب الكمون.

•••

الليلة مساء الجمعة، واليوم عيد رهبان مار مارون، وهؤلاء قديسون طاروا إلى السماء رفًّا واحدًا، ٣٥٠ شهيدًا، فأحدث وصولهم لبكة في الملكوت، كما يحصل في الفنادق الكبرى عند وصول أفواج السياح، أما مانحهم إكليل الشهادة، أي قاتلهم، فهو أخوهم بالرب الأسقف ساويروس من أتباع أوطاخي وديوسقوروس، قتلهم لتمسكهم بإيمان المجمع الخلكيدوني، وكم قتلت رؤساء المذاهب من أبرياء وأبادت من شعوب وأمم.

لهؤلاء الشهداء إخوة عندنا — الضمير يعود إلى عين كفاع — فالأسطورة تروي أن دير القطين العظيم — راجع آثار لبنان للامنس — كان مأوى رهبان أتقياء قتلوا كإخوتهم رهبان مار مارون، ولم يعصمهم سور الدير الحصين القائم صامتًا كئيبًا في وادينا الرهيب كجبار مقهور. لهذا تغالي عين كفاع في احترام هذا العيد المثنَّى، ويذكر أهلها بحسرة الرهبان الشهداء كلما أطلوا من أبوابهم الشمالية، ووقعت عيونهم على هذا الدير الخرب، الذي لا يشبهه في لبنان غير دير قزحيا، مخرج الشيطان من الممسوسين بعد أن يشبعه الراهب قتلًا بمداسه، أما ديرنا فأروع وأقدم منه، وفي الخراب روعة وعبرة لا تقرؤها في سطور البنى العامرة. أما ماذا ينفع ديرنا المؤمنين، فصاحبته (سيدة البزاز) تغزر حليب الأمهات فيهرُّ من ثديهن هرًّا، أو يجري مثل النهر كما روت لي إحدى العجائز.

إذن علمت — لا شك — أن سماع القداس في هذا النهار لازم، والبطالة عن جميع الأشغال العالمية واجبة، ومن يخالف يأثم، والأفصح — كما يعبر اللاهوتيون — يخطئ خطيئة مميتة تنزل إلى جهنم، ولا يحل منها إلا يمين الخوري الطاهرة، فننجو من الهلاك الأبدي، فالعيد — علم الله — فضيل كما قال محمد محسن عضو مجلس إدارة متصرفية لبنان في عيد مار ساسين الواقع يوم السبت فاقترح تعطيله وقبل اقتراحه بالإجماع، فشم المجلس الهواء ثلاثة أيام، ذكر فيها بالخير إبراهيم صادر صاحب المفكرة التي هدت محمد محسن إلى قديس اسمه ساسين نفزِّع به الأولاد كيلا يتشيطنوا.

وكانت للعيد أروع بهجة هذه السنة؛ لأن المهندس وديع بعقليني أنهى ليلته تخطيط الطريق، فكان القداس وصلواته وتضرعاته وابتهالاته من نصيب فخامة الرئيس، أما فخامة الباشا الحبيب فأخذ نصيبه في حينه، ولا يزال الدعاء له ملء الأفواه.

وليوم الجمعة عندنا ميزة أخرى لا تفارقه، فهو موعد وصول صاحب البريد. فلو مات — مثلًا — عزيز علينا يوم السبت مساء لا يجيئنا نعيه قبل مساء الجمعة أي بعد أسبوع، فيصح بنا قول المثل: يا معزيًا بعد حين يا مجدد الأحزان. يقول المثل اللبناني: إذا كذبت بعِّد شهودك، أما أنا فشاهدي في يدي وهو ختم البريد وخبري فرح — يقطع الموت من الدنيا.

دعتني لجنة دار الأيتام الإسلامية لحضور الاحتفال بالأستاذين أحمد أمين، وعبد الرحمن عزام المصريين، وسماع محاضرة أحدهما أحمد أمين، وأنا ممن يحترمون اجتهاد أحمد الأدبي، فأرسلت كتابها إليَّ يوم السبت ٢٥ تموز فوصلني الجمعة مساء، بعد الحفلة بيومين.

•••

قد أدركت بعد ما قدمت لك أن سهراتنا ستكون حافلة. نعم يا سيدي، وإنها من ليالي الدهر، بحث فيها (مجلس القرية) شئونًا هامة. وقبل تسجيل وقائع جلسته الخطيرة لا بد لي من أن أعرفك تواريخنا، وحدودنا، ومواقيتنا. الحدود والتخوم في عين كفاع كهوف ومغاور، فلو سئل أبو يوسف أين حصدت اليوم؟ أجاب: عند مغارة القطين. ولو سألت المعاز أين سرحت المعزى الليلة؟ قال لك: عند مغارة البابين. ولو سألت الصبيان من أين أكلتم عنبًا وتينًا؟ أجابوك: من عند مغارة الفتاح. ولو قلت للصبايا الحاملات العنب المتلالئ كثغورهن، من أين هذا؟ قلن لك: من عند مغارة طنوس فرنسيس. ولو سألت الناطور: أين رأيت أثر ديك فلان، ودجاجة فليتان؟ قال: عند مغارة القس مرقص أو مغارة القرقفة، ولو قلت لناظر يحملق: ماذا ترى؟ قال لك: رجلًا فوق مغارة شير بنور لعله فلان. ولو خبرك الشيخ عن بطولته في أيام عزه قال لك: كنت معهم عندما كبسنا اللصوص في المغارة السودا، يوم عيد مار إلياس، وسلمناهم لطالب بك — مدير جبيل قبل ولده الشيخ وديع، حاكم بيبلوس.

أما مواقيتنا فصلوات، فهم يقولون جانا الجابي صلاة الظهر، وجا عداد المعزى عند صلاة الرهبان، ووصل المهندس بعقليني عند دقة الصلاة، وكبس مفتش المونوبول الضيعة والناس في الزياح، ورجع المرسال قبل القداس.

أما التواريخ فأعياد، يقولون: ولد حنا يوم عيد مار بطرس، وتزوجت صابات يوم عيد ماريحنا — يوحنا — ووقع البطرك إلياس عن البغلة قبالة عين كفاع يوم عيد جميع القديسين — وعيد جميع القديسين في الكنيسة كالجندي المجهول في الدولة — ووصل جرجس من أميركا ليلة عيد مار روحانا — قديس الضيعة — ومات صباح الميلاد، وكانت زلزلة (سنة ١٩١٨) ثاني عيد مار روحانا، وانتهت الحرب يوم عيد مار شليطا، وماتت بقرة فلان ليلة الغطاس، وهكذا.

والقرويون يعتقدون باختصاص القديسين، فكل قديس مختص بمرض، يشفي منه أو يبلي فيه. فهو يفعل الأمرين، كما يقول الشاعر: إذا أنت لم تنفع فضر … إلخ، وبعض القديسين يخنق أيضًا، ولذلك ينذرون لهم عند وقوع أقل عارض لهم. فسبحان مقسم الرزق على عبيده الصالحين في الحياة والممات. فالقرويون يتوقعون الري يوم عيد مار شليطا (٢٠ تشرين الأول) شفيع البقر والحمير، وينتظرون نزول السماء يوم عيد مار جرجس البطل الصنديد الذي كان شفيع بني تغلب قبل الإنكليز وموعده ٢٣ نيسان، ورية نيسان تسوي السكة والفدان، والخضر أو مار جريس أبو الحربة يخضخض البحر في هذا اليوم مفتشًا عن أولاد التنين الذي قتله وخلص بنت الملك من شره.

•••

أقبل الليل وأقبلوا، وسلموا وسلم عليهم بطرس — موزع البريد — اللطيف الأمين، وجلسوا كل على هواه، وتناول من يقرءون منهم الجرائد بلا إذن ولا دستور. وتحدث الآخرون عن أعمالهم اليومية، عن بيادرهم، عن مصيبة أحدهم بموت بقرته على البيدر وانكسار فدانه، وعن مؤاساة الضيعة له، والمؤاساة أحسن مزايا القرى، وخير ما فيها سلامتها من المن، وكان حديث العنب فأثنوا على كرم (الكساير وشحواتا) لأن عنبهما يحلو قبل الكروم كلها، وكانت المفاضلة بينهما، كما يفاضل بعضهم بين الشاعرين شبلي الملاط وبشارة الخوري، وتحدثوا عن السفرجل، والأجاص، والزيتون، والتين، وعللوا النفس باليسر في العام القادم؛ لأن غلتهم تنفق، فدعوا للأستاذ أده بطول العمر من صميم القلب ثم جاءوا على ذكر الدستور والاستقلال، فقال واحد: نحن على ما نحن، بدستور وبلا دستور.

وقال ثانٍ: خلوا الدستور لطلاب الوظائف الكبيرة، نحن على هذه الحصيرة.

فهز ثالث رأسه وقال: هذا كلام، الدستور مليح، كيفما دارت الحال.

فأجاب رابع: عرفناهم فوق وعرفناهم تحت، العلة من الرجال، هم نوموا الدستور في القبور، وصيروا الاستقلال للاستغلال. الدستور منفعة لناس معلومين، أيش نفعنا الاستقلال وأيش عمل لنا الدستور؟ أين الضيعة مسكين ما له حظ من الحكومة إلا إذا كان له فيها ظهر قوي.

فقال واحد: إذن نحن حظنا أكبر من جبل جاج، أده ابن بلادنا.

فقال واحد بكل هدوء: هيء، أده لكل الناس.

فأجابه ذلك بلهجة القاطعة حجته: عال يا سيدي، رضينا، نحن نطلب أن يساوينا بأقل الناس، بالأرمن يا سيدي.

فأمن جاره على كلامه بقوله: وكثر الله خيره، فأعادها ذاك وقال قارئ الجريدة: كتب أده للبطرك — فتغامز الشيوخ لأنه لم يقل سيدنا — والمطارين والمفتي ومشاريخ العقل وأصحاب الجرائد وأعضاء المجلس ورؤساء الجمعيات يسألهم رأيهم في الدستور والاستقلال.

فقال بو يوسف: غنمت لحاكم. وجر (كم) حتى بلغت قانون المونوبول طولا، وضحك كالساخر، ثم عبس وقال بحدة ونزق: أيش هم الروسا والحكام، البطرك والمطارين يطلبون العشور ويأكلون غلة المفلوح والبور. والحكومة تطلب الضرائب. يا بحر الله خذ عبد الله، كل هذا ما يرد علينا شيئًا.

فقال شاب متعلم: الحق مع الخال، صار أده ريس جمهورية وأخذت الجرايد تطلب وتتمنى، قولوا لي أية جريدة طلبت لنا شيئًا، هل طلبت جريدة شق طريق؟ هذا لا يهمهم؛ لأن الطرقات حولهم وحواليهم، كل هذا باطل، ما يعرف المرض إلا الواقع فيه.

فقال قارئ الجريدة كالمستغرب: اسمعوا يا بشر، البطرك طلب أن يكون للأفوكاتو — المحامي — ثلاثة أصوات، وللطبيب مثله، وﻟﻠ … فأتمها واحد: وللخوري؟ فضحكنا، وأومأ ذاك برأسه أن لا. فقال كثيرون: خسر سيدنا البطرك وما درى بتقليله من قيمتنا، فقال واحد: نعم غلط سيدنا البطرك. فسمعها أبو يوسف فازورَّ ورفع يده قائلًا: يا صبي سد بوزك، فضحك ذاك، وشاءوا أن يتنادروا على إلياس فخبروه أن ليس له في الانتخاب القادم إلا ربع صوت لأنه أمي. فحمي إلياس علينا وعلى أولياء الأوقاف الذين يأكلون أموالها ويتركون الضيع بلا مدارس كما جرى في أيامه. وهوسوه فتهوس كعادته، فشهر الحرب على رجال الدنيا والدين، وسأل إذا كان القاصد الجديد وصل، فعلمنا أن المسألة ستتطور.

أما أبو يوسف فسكت عن حديثنا كأن لم يسمعه. ثم قال: في الزمان الماضي كان أعضاء المجلس من الضياع. الله، الله يا دنيا كيف تقلبت الأحوال، كيف راحت أيام فارس أفندي، وأسعد بك، والزغزغي. أعضا اليوم مساكين ما ينفعونا شيئًا.

كلهم أولاد مدن، وابن المدينة ما عنده شيء من أخبار الضياع. فقال واحد: ما كلفت الحكومة نفسها وسألت أحدًا من الضياع، ضاع حقنا يا ترى من سؤال بسيط.

فجاوبه أبو قصحيا: على حد سوا، سألت أو لم تسأل، الرأي الأخير لمن؟ للفرنجي.

وكانت كلمته فصل الخطاب فعادوا يستعرضون الماضي السعيد فقال كهل: العم أبو يوسف كان يقبض من موسم الشرانق وحده خمسين عسملية، أي عثمانية. من عند المغارة وحدها كان يستغل بأكثر من عشر ليرات، أتتذكر يا خال قبضة عيد ماريحنا (٢٤ حزيران) عدوها لك قدامي على الحصيرة، كانت فوق الستين ليرة وأكثر. فابتسم أبو يوسف لذكراها الحلوة. وأشار المتكلم إلى الجمهور بلباقة: تفضلوا، اسألوه كم قبض السنة.

فتنهد أبو يوسف وأجاب: سبع ليرات، فقال أحدنا متجاهلًا: ذهب أم ورق؟ فصاح أبو يوسف: ذهب يا مجنون! وأين الذهب! ورق ورق، دفعتها مال طريق عني وعن الأولاد، ويا ليتها كانت كافية.

فتنهد أكثرهم عند ذكر الطريق وقال الكهل: وكان أبو يوسف يقبض نحو أربعين ليرة ثمن دخان، كم قبضت يا خال عام أول.

فأجاب ثلاثين ورقة قبض الجابي عني منها ١٧ ليرة، وأعطاني وصلًا بالميرة. فهمس أحدهم في أذن أبي يوسف: يسلم البيدر يا خال، فضحك أبو يوسف وقال: آيه، الحمد لله، السنة طيب، البيدر مليح ولو محل، الجابي لا يجيء صوبه.

فقال واحد: ولكنه يحجز اللحاف والطنجرة. فقال آخر: أيوة، الجابي وقح لا يذكر الخبز والملح. تعشى ونام عند سركيس، وترك له الإنذار تحت المخدة.

فقال أبو يوسف: كله هين متى وجد الخبز (اطلبوا دستور يحمي التنور).

فأعجبتهم كلمته هذه فضحكوا جميعًا، وأبو يوسف كالمرحوم والده الخوري موسى يحب السجع. وهكذا عادوا إلى السياسة من حيث لا يدرون، فقال قارئ الجريدة: يطلب البعض جعل النواب خمسة وأربعين، فقال واحد: إذن زادوا واحدًا على أم أربع وأربعين، وقال آخر: ما الفائدة لو صاروا مائة وخمسة وأربعين، نحن على ما نحن لا نخطر على بال أحد منهم. كل نائب يفتكر بصحابه، ونحن قش رز، أحسن رأي أن تعتمد الضيع على جريدة تطالب بحقوقها.

فقال ناقم: عجيب، كيف تغيرت الأحكام كلها بعد الحرب.

فقال آخر: عندي شرح المجلة، ولكنهم قالوا لي: إنه صار ملغى. فضحك واحد مشهور بالتنكيت فعلمنا أنها جاءت، فسكتنا ننتظرها فتنحنح وقال: أخذت أم سمعان لابنها كتاب لاهوت عتيق من عند خوري الضيعة، فلما رآه معلمه قال لها: رديه معك يا ستي، هذا بطل، فقالت له أم سمعان: يا ترى المسيح العتيق مات.

فقال لبيب: كما في السما كذلك على الأرض. فكمل واحد ضعيف العقل وهو يظننا نصلي: أعطنا خبزنا كفاف يومنا، فجاءت في موضعها وصح فيه قول المثل اللبناني.

وقال مترصن: وزاد الطين بلة قانون المونوبول، من يخرم منه حرفًا خرب بيته، فالسيف مسحوب فوق رءوسنا ويقولون لنا: الاستقلال الاستقلال. وأين الاستقلال لمن لا يزرع حقله بعقله؟ وأين الاستقلال للذي لا يسحب كيسه على عيني وعينك يا تاجر؟ وأين استقلال ابن الضيعة والمزرعة ما دام تحت رحمة المفتش والورديان وبيته معرض للنبش كل ساعة، وغلته في خطر الحرق إذا أرادت الشركة. مصيبة الضياع كبيرة جدًّا جدًّا وخصوصًا ضيعتنا عين كفاع.

فقال أبو ميشال: هذا الصحيح، ثم هز رأسه وصاح: والله والله، وحق جسد الرب، وحياة الله.

فسد أبو يوسف أذنيه كيلا يسمع الحلف بالله بالباطل، أما أبو ميشال فما بالى بل انتخى ووقف وقال: وحقك يا مار روحانا، فشخه — أي خطوة — ثنتين ثلاثة، لو ما كان ديب ناضر مثل السبع وركض إلى عمشيت في الليل وعملوا له تسع حقن كان مات وبليت عظامه، يا هو. لو كانت عقصت الحية عمي مارون من كان حمله إلى عمشيت! كان مات معنا على الدرب، اشكروا الله يا ناس.

فأخذ يشكر الله وأبو يوسف يدق بيده على ظهره استحسانًا لما قال كأنني كنت أنا الملدوغ، مع أنني كنت في عاليه ليلة عضت الأفعى أخانا ديب ناضر. واسترسل أبو ميشال في حديث مؤلم عن الذين ماتوا ولم يسعفهم طبيب، فتنهد الناس جميعًا ودعوا للرئيس بالخير لأنه أمر بشق الطريق، وهندسها البعقليني.

ثم آل الحديث إلى فتى حامل شهادة فقال بلهجة خطابية إنما بدون سيداتي سادتي: لا بطرك ولا حاخام ولا مفتي ولا مطران، ما حك جلدك مثل ظفرك، يجب أن نهتم بأمورنا، كلنا نعرف أن القرى حياة الحكومة والمدن فلماذا تهملها الحكومة؟ قولوا لي. هذا ناتج عن خمولنا نحن أهل القرى، الحكومة لا تعرفنا إلا يوم الانتخاب، وحين تحتاج إلى إمضاءاتنا للشكر والتأييد، فلو كنا رجالًا ما انتخبنا ولا أيدنا إلا من يؤيد مطالبنا العادلة. يا ذوات.

فهز أبو يوسف رأسه وتبسم لكلمة (ذوات)؛ ولكنه التفت صوبه، فقال الفتى: تذكرنا الحكومة في أيام المواسم فترسل الجباة لسؤال خاطرنا، فتهلل أبو يوسف لها وقال: صحيح.

وقال الفتى: تأخذ منا لتعطي غيرنا. فضحك أبو يوسف وقال آية الإنجيل: من له يعطى ويزاد. فقال الفتى المتحمس تتذكرنا الحكومة كما يتذكر المعلم، أي: الملاك، شريكه يوم العيد إذا تأخرت العيدية، أي: الهدية، أما في أيام البيدر فيحاسبه على الحبة.

وتوقف قليلًا فخفنا أن يرتج عليه، ولكنه استأنف كلامه قائلًا: البطوا الذين ركبوا على ظهورنا حتى وصلوا إلى الكراسي، ولما صاروا في السرج ما عادوا ذكرونا ولا عرفونا. فلتعلفنا الحكومة حتى نسمن، الحمار يعلق له صاحبه أقة شعير ليركبه طول النهار.

فصاح أبو طنوس: عشت يا بطل، وتحمس الجمهور فقال واحد: ربما كان بين الذين سألهم الريس من يعرف أحوالنا، فقال الشاب: لا تعيشوا على: ربما ولعله، ارفعوا أصواتكم والرئيس يسمع، أنا أعرف الأستاذ أده.

فناست الرءوس تعجبًا، وتناظروا هامسين: هو، هو، يعرف أده! أما الفتى فلم يبال وأتم حديثه قائلًا: فهموه أنكم تدفعون ولا تقبضون، يأخذون منكم ليعطوا غيركم، خبروه أن الموظف إذا كان بخير قال البلاد بألف خير، والعكس بالعكس. فهموه أنكم تموتون ولا يعلم بكم أحد، لا أطباء ولا صيدليات ولا طرقات ولا مدارس، ولا ماء ولا كهرباء. خبروه أنكم منذ سبعين سنة ما صرف لكم غرش واحد من صندوق الحكومة لإصلاح طرقات القدم والحافر، خبروه كل شيء، دقوا الباب تسمعوا الجواب.

فقال كبير المجلس: لا تخافوا يا ناس، الأرض تنهز ولا تقع، شدوا لحمكم، ثم التفت إلى الفتى وقال له: سماع يا ابني، كن مطمئن البال، ربنا قدير وهو يعرف كل شيء، ثم لا تنس أن الدول تروح والفلاح باقي، راحت تركيا ونحن بقينا، واليوم كلنا نترحم على المير يوسف؛ لأنه كان يحب الفلاحين.

وفتح الفتى فمه ليرد عليه، فسمعنا صراخًا وعويلًا غريبين، فركضنا حفاة ومنتعلين فإذا امرأة تصرخ فوق رأس ابنها الوحيد وهو مصروع أمامها يقاسي غمرات الموت. بلع عجوة مشمش فسدت زلعومة، فركض أبوه إلى شبطين، وعمه إلى جبيل وخاله لا أعلم إلى أين. وأخيرًا تركته أمه بين أيدينا وأسرعت إلى مار روحانا لتضع على مذبحه فسطان العرس وسوارها الذهبي، وحملت عمته إبريق الزيت لتضيء السيدة، وهي كنيسة قديمة خربة لم يبق منها إلا آثار دارسة ليس لها امرؤ قيس يبكي عليها، أما نحن فالتففنا حول الصبي ننتظر الأطباء ولا ندري ماذا نصنع له.

الشقة بعيدة، والطريق عكشة، والقمر غاب، ومن يعلم إذا كان يأتي الترياق من العراق قبل أن يكون العليل فارق، ولكن الله ستر وعمل مار روحانا عجيبة — ومنهم من يقول السيدة عليها أشرف السلام — فبقَّ الولد العجوة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤