كيف تعلمنا

أظن أن للأبجدية التي أبصرت النور على شاطئنا عملًا عظيمًا في العقلية اللبنانية. لقد فصلنا الدهر المستهزئ ببنيه عن ذلك الزمن الحافل بالأمجاد، ولكننا مشينا في ظهور جدودنا نحلم في كل عصر بالقراءة والكتابة. فمنذ قرن وأكثر كان شعار اللبناني المثقف دواة يشكها في زناره، سيان في ذلك من يلبس غنبازًا يجرر أذياله، وهي الصورة الغالبة على هؤلاء كالشيخ ناصيف اليازجي، أو من يلبس سروالًا كالمعلم بطرس البستاني.

كان الكاتب اللبناني يتباهى بتلك الأداة النحاسية؛ ذات الباقول المنقش، والقصبة التي تنام فيها أقلام (الغزار) مطمئنة. فإذا دخلت قصر الأمير اللبناني رأيت فيه رجلين: رجل السيف يزين صدره خنجر ذهبي الغمد، ورجل القلم وحليته الدواة التي جوَّد صنعها آل نفاع في بيت شباب فأصبحت تحفة طريفة بل وسامًا لبنانيًّا بكل ما تتحمل لفظة الوسام من شرف ومجد.

وكانت الكتابة منذ قرن تقريبًا مفخرة يتباهى بها من يحسنها فيمشي الشدياق كابن الرومي مشية يغربل فيها. وقد سمعت في عرس منذ نصف قرن وأكثر واحدة غنت لي (زلغوطة). تلك أول مرة سمعت فيها اسمي يطير في الهواء. ويذكر في محفل.

من عادات اللبنانيين في أعراسهم أن يغنوا، رجالًا ونساء، في تمجيد بعضهم أولًا، وقد لا يحرم من له بعض الشأن من (ترويدة) رجل أو زلغوطة امرأة، وهذا ما ظفرت به أنا في ذلك العرس. غنت لي السيدة ياقوت فقالت:

آووها — أنا ما بغني عالهوا
وبغني لهالجمع كلو سوا
وبخص من بينهن شدياق مارون
ملفان وبيلبقلو شك الدوا

كانت تلك الأغنية كنفخة في فقاعة صابون فهرعت إلى دواة مهجورة كانت عند جدي فجلوتها وشككتها في زناري، ولم أدع زقاقًا من الضيعة إلا عرضت فيه دواتي على الأنظار، فكنت شدياقًا صغيرًا يشك دواة لا يقل وزنها عن نصف أقة.

اللبناني لا يتمنى ثروة وافرة فحسبه القوت. نشأ وهو يردد: هنيئًا لنفس ما عليها ولا لها. إنه خشن كصخوره، إذا حصل على البرغلات والزيتات والتينات عاش عيشة راضية، أما ما يشغل باله هو تعليم ابنه ولو القراءة البسيطة، وتعليق الحرف وكتابة الهندي. أي الأرقام الحسابية.

وإذا قلت لواحد منهم كيف الحال، فلا يشتكي الفقر ولا يتذمر من خشونة العيش. الهم الأكبر هو خوفه من أن يفوته تعليم أولاده.

وإذا عرفنا تاريخ الوقف اللبناني في كل قرية عرفنا أن غاية الواقف، منذ مئات السنين، كانت تعليم الأولاد. ففي ظل الكنيسة تنشأ المدرسة. وإذا تهاون وكيل الوقف قامت قيامة القرية، وكذلك قل عن ديورة الرهبان. فعلى الدير أن يخص راهبًا بتعليم الصغار القراءة والكتابة مجانًا.

أما كيف كانوا يعلمون ويتعلمون فإليك الخبر: يكتب المعلم الألف باء على ورقة يشكلها الولد بخشبة مفروضة لها متكأ، ويأخذ مدلًا وهو عود رفيع يدل به على كل حرف تعلمه. ومتى عرف الألف باء طردًا وعكسًا وانتقاء، كتب له القسيس الأبجد، ثم ينقله إلى (القدُّوس) وغاية الغايات كان مزامير داود. يقرءونه ولا يفهمونه.

هذه المرحلة هي المرحلة الأولى التي يقف عندها الأكثرون وهي تضاهي الشهادة الابتدائية اليوم، وإذا كان الولد ابن بيت ميسور أدخله أبوه مدرسة أعلى. وهذه المدارس الصغيرة كانت منتشرة في لبنان، يقدم على فتحها الكهنة المتبتلون فيعلمون بها أبناء القرى المجاورة. ومن يقدر أبوه على تعليمه فهناك مدارس عالية للتعمق في درس النحو واللغة.

وكانوا في ذلك الزمان يعتمدون على الذاكرة يحشون عقل الطالب محفوظات لا أول لها ولا آخر. شعر ونثر من كل عصر، والويل لمن يلحن أو يخرم حرفًا أو يخطئ في حركة عين المضارع فتقلع عينه وتصلم أذنه. المتقدم من الطلاب يعلم النحو في ابن مالك. شعر منظوم يحفظه التلميذ كالماء الجاري. أما شرح المعلم فهكذا. يقول أولًا بيت ابن مالك بكامله:

كلامنا لفظ مفيد كاستقم
واسم وفعل ثم حرف الكلم

ثم يشرح قائلًا: يعني كلامنا لفظ مفيد مثل استقم. وينتقل إلى الشطر الثاني فيقول: معنى هذا الشطر الكلم اسم وفعل وحرف. فهمتم يا أولادي؟ فنجيب بصوت واحد: نعم يا معلمي.

– طيب، عافاكم، عافاكم.

وينتقل إلى درس آخر فيقول مثلًا:

والاسم منه معرب ومبني
لشبه من الحروف مدني

ويسير في شرحه الدرب الدرب فيقول: يعني الاسم منه معرب ومبني لشبه من الحروف مدني. فهمتم؟ فقلنا: نعم إلا واحدًا اجترأ وقال: لا. ما فهمت يا معلمي.

فرد المعلم ذيل كوفيته الأيمن على كتفه اليسرى وقال: شربل جحش، مهما شرحنا له لا يفهم. فضحكنا وبكى شربل. ومضى المعلم يشرح بتلك البراعة، يقول لنا أشياء وأشياء وقلَّ منا من فهم عنه شيئًا.

ومضت السنة على ذلك النوال، يلقي علينا ألفاظًا يضل في واديها الشنفرى، ويتيه امرؤ القيس.

وفي ذات يوم جاء والد يحمل الزاد لابنه، فقعد يستريح قرب شباك غرفة درسنا، فسمع معلمنا الخوري يترنم بهذا البيت مستشهدًا به على مضارع كان وحذف نونه:

صاح شمر ولا تك ذاكر الموت
فنسيانه ضلال مبين

فصاح ذلك الوالد من الخارج وهو يصفق على فخذه: يه يه يه. استح يا خوري يوسف! لا تعلم أولادنا قلة الهيبة.

ويجي رأس السنة فيفرض علينا أن نكتب إلى آبائنا مكتوب معايدة فنحك رءوسنا فلا يخرج منها شي، فنهرع إلى الكتب المختصة بالمراسلات كالشهاب الثاقب وغيره، حتى إذا وقعنا على المكتوب المطلوب نقلناه بكل أمانة وبعثنا به إلى أهلنا. وإليك واحدة من هذه الرسائل الطريفة التي نقلها رفيق لي عن تلك الكتب، ووجهها إلى والده:

والدي العزيز

بعد لثم يديكم وطلب رضاكم الأبوي على الدوام. أحاول أن أكتب إليكم فيفت في عضدي لأن باعي قصير، ولكن شوقي إلى محياكم يجري قلمي في هذا المضمار.

إلى أن يقول — طبعًا نقلًا عن الكتاب:

(نحن متوجهون نهار الخميس القادم إلى طرابلس الفيحاء).

ثم نقل خاتمة المكتوب بشحمها ولحمها، وبعث برسالته إلى والده فوصلته مساء الأربعاء.

فما قرأه الوالد حتى اضطرب. شغلت باله عبارة: فتَّ في عضدي، وباعي قصير. فخشي أن يكون قد أصاب ولده مكروه فت عضده، وقصر باعه! وازداد اضطرابًا حين علم أن ولده متوجه إلى طرابلس. وقعد الرجل يفكر ولكنه لم يتوصل إلى حل ألغاز مكتوب ابنه، وأخيرًا قال للمكاري: عشِّ البغلة، وبات على سفر. فما انشق فجر الغد حتى كان في البحصاص.

وقضى ذلك النهار يفتش عن المحروس في شوارع طرابلس وأزقتها، ولما أعيا قصد المدرسة فوجد ابنه فيها سالمًا، لا باعه قصر ولا عضده مفتوت، فحمد الله وسأل ابنه: متى رجعت من طرابلس؟ فهز الفتى كتفيه وقال: أية طرابلس؟

– طرابلس. أنت كتبت لي أنكم متوجهون إلى طرابلس، فشغلت بالي ولاقيتك.

فقال الطالب النجيب: هكذا مكتوب في الكتاب.

وكانت دقيقة صمت جزم الوالد فيها أن تعبه غير ضائع، وأن المحروس سيكون من النوابغ إذا عاش.

وحَكَى لي مرة البطرك إلياس قال: دخلنا مدرسة غزير وكتبنا لوالدنا نذكره بالنجاصة التي حد بيتنا، فأرسلوا لي سلة فأكلت وأطعمت.

وفي العام الثاني تعمقت في اللغة، وأخذت عن معلمي أن الجيم والصاد لا يجتمعان في كلمة، فدققت ورميت والدي بمكتوب الكلمة الصغيرة فيه رطل. ولما بلغت ذكر النجاص استعنت بفصاحة معلمي؛ فأرشدني إلى الكلمة الفصيحة. فكتبت: يا والدنا، لا تأكلوا الكمثرى وحدكم: ولا يغرب عن نيرتكم تذكُّر ولدكم الذي يحب ذلك الجني.

فحرمت تلك السنة أكل النجاص؛ لأن والدي لم يفهم ما قصدت.

هكذا كانوا يعلمون في ذلك الزمان، ومع عقم هذا التعليم فقد أنبتت البلاد رجالًا كان لهم شأن مذكور في تاريخنا، استفادوا وأفادوا لأنهم أرادوا، والإرادة أم الإبداع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤