مدارس الأمس ومدارس اليوم

أليس من حق الطالب أن نعرض عليه شريط ذكريات مدرسية قديمة وحديثة؟ أليس هو اليوم منصبًّا على دروسه حالمًا بشهادته عروس آماله التي يرى السعادة كلها في تزاويقها وحروفها؟

يقول الناس عمومًا وذوو التلاميذ خصوصًا: أين مدارس هذا العصر من مدارس ذلك الزمان؟ وأين تلاميذنا من أولئك التلاميذ؟

إنهم طبعًا يضعون الحق على المدارس: ويبرئون أنفسهم حين يقولون هذا. ولهذا أنا أروي ما مرَّ على رأسي من شئون المدارس وشجونها، فيقابل القارئ بين مربي ذلك الزمان، ومربي اليوم.

دق قلبي دقات عنيفة عندما قال أبي لأمي: دبرنا له مدرسة. والتفت إليَّ وهو يجر كلماته: غدًا تصير الشدياق مارون، فلم أبد ما كان ينتظره من الارتياح فأعرض عني.

ودخلت المدرسة مع من دخلوا فكانت الفاتحة أن أكلت قضيبين سخنين على سفح ظهري، فأرخيت لرجلي العنان فاستقبلني والدي العملاق بأحد قضبانه.

كان غفر الله يعمل بنصيحة ابن سيراخ القائل: إذا أحببت ولدك فهيئ له القضبان حزمًا حزمًا. ثم قادني بأذني كالعنزة الشاردة، وهناك على أعين التلاميذ قال الكلمة المأثورة للمعلم: اللحم لك والجلد والعظم لي. ثم التفت بي وقال: فهمت يا كلب. ومنذ ذلك الحين صرت أطوع من الخاتم في الخنصر، وأنعم من المخمل.

ويوم أحد الوردية الكبيرة خرجنا من الزياح، فإذا بزمارين معهم دب يغنون له ويرقص على وقع الدف والقصب، فعجبت من طواعية الدب واستوائه كالبشر، يعرض العصا بين كتفيه كالناطور، ويمشي مشية الصبايا والعجائز، ينام ويقوم كما يكلفه صاحبه. حتى إنه يدخن بالغليون.

قلت لوالدي: الدب كيف تعلم كل هذا؟! فضحك وقال لي المثل المعروف: العصا تعلم الدب الرقص.

ففهمت تعريضه بي وقلت في نفسي: إذا كانت كقضبانك تعلم أكثر من دب.

هذي واحدة من ذكريات مدرستي الأولى، مدرسة تحت السنديانة، حيث كنا نصطف خطًّا طويلًا حد حيط الكنيسة، الأعلى فالأعلى علمًا. وفي تلك المدارس كانت تسوسنا العصا أستاذة الدب. أما عقاب الجرائم الكبرى فكان (الفلق) ليتك تذوق طعمه. الفلق خشبة تكمش الساقين كالعض، لتعرض القدمين إلى قضيب المعلم فينصب بلا شفقة. إنني لم أذق هذا العلاج، والفضل لحزمة قضبان الوالد التي إذا مات منها سيد قام سيد.

وواحدة ثانية من ذكريات أول مدرسة داخلية، أذكر ولا أنسى أبدًا أنني بكيت أول ليلة بكاءً مرًّا حتى بللت دموعي مخدتي وتعكرت من الغيظ عيناي، كما قال داود بعد فعلته تلك، كنت كالغريب في تلك المدرسة فاستوحشت جدًّا، وعللت النفس بالسلو، فإذا بي في الغد ألتفت صوب بيتنا فأبكي. سخر مني رفاقي وسموني البكَّاء. ولكني فقتهم درسًا حين نسيت ملاعب صبوتي فراح ذلك الاسم.

ومرت الأيام فجاء أحد المرفع فتذكرت الخروف الذي ذبحناه عام أول، وارتمينا بشحمه ولحمه كعذارى امرئ القيس. تذكرت الكبة النيَّة، والهريسة، والكروش المحشوة، وجميع أصناف المآكل اللبنانية، فبكيت حتى درى أحد رفاقي فقال لي: تبكي يا مارون؟ فأجبته: لا. باصر بنومي. فضحك وضحكت.

وسمع حديثنا الراعي أي الناظر العام، فلم يزد على قوله: شر الصباح ولا خير المسا. ناموا.

ما غمضت لي عين تلك الليلة. أحاول النوم ولا قرار على زأر من الأسد. إن شبح القصاص رهيب، أخاف على جلدي، فكل شيء إلا العصا. ولكنها مضت على خير. هاودنا المدير بمناسبة (أوكازيون) المرفع.

ويوم عيد البشارة ٢٥ آذار ساقنا (الراعي) إلى نزهة في وطا عين كفاع، فسرحنا في تلك البطحاء المقفرة نتنافس في جمع الأزهار لدفن الصليب، فكنت كلما قطفت زهرة ألتفت صوب العقبة، ولكنني لا أرى أمي مهرولة فأعود إلى انتقاء زهراتي، ثم أتلفت فلا أراها.

ودق جرس الضيعة معلنًا الظهر فانسلخ قلبي. وقفنا جميعًا لصلاة التبشير ثم قعدنا نتغدى على مرجة عين الوطا. إنها عين بلا ماء، كما يقول المثل: اسمك عروس فلا تحزني. ولما يئست من مجيء الوالدة همست في آذان أصحابي من التلامذة: اطلبوا من الراعي أن يفرجكم على كنيسة ضيعتنا. فصاح بهم: يا قليلي الأدب، قولوا زيارة مار روحانا عليه السلام، وأخذ يسرد لهم عجائبه عن ظهر قلب. كأنه يتلو السنكسار.

فصاحوا: لا تواخذنا يا معلمي. غلطنا، زيارة مار روحانا عليه ألف سلام، فصاح إذ ذاك: اصطفوا. وإياكم أن تتلفتوا في الضيعة يمينًا وشمالًا. لا تردوا على من يسلم عليكم قبل الصلاة، وإعطاء الديو كراسياس.

ودخلنا الضيعة أصنامًا أو كالأصنام، وصلينا في كنيسة مار روحانا صلاة طويلة. ولما خرجنا عرضنا في الساحة، وصلينا أيضًا السلام الملائكي وأعطانا الديو كراسياس.

ورحنا نلعب بالطابة في تلك الساحة وجيران الكنيسة يتفرجون علينا من بعيد، لا يسمح الراعي لأحد أن يخالطنا.

وبينا أنا أغمز ابن عم لي ليذهب ويخبر أمي فإذا بها مقبلة، تحمل على صينية، الفول الأخضر، واللوز الفريك، والتبولة مع ورق العنب. وبعد ألف رجاء سمح الراعي لرفاقي بأكل ذلك.

وطلبت والدتي من حضرته أن يأذنني ربع ساعة لأرى إخوتي الصغار فامتنع، وقال للوالدة: القانون مقدس يا أم مارون.

فأجابت الوالدة: القانون على رأسنا يا محترم، ولكن هذا ولد، وإخوته صغار، والبيت على رمية حجر، فما عليه لو رأى إخوته ربع ساعة؟

فأجابها: هذا لا ينفعه، اتركيه، قسِّي قلبك يا أم مارون.

فأجابت: أهو قلب الأم حديد حتى تقسيه؟

فأجاب وهو يشد على كل كلمة: العلم لا يسع معه شيئًا. رؤية إخوته ربع ساعة تشغل باله جمعة. الله يجبرك يا أم مارون، اتركي ابنك يتعلم، الصبي شاطر، لا تشغلي باله. قال هذا ودق الجرس وعجَّ: أنافان.

لم يعز والدتي إلا بهذه الكلمة، قالها وهو مشمر: تموز قريب، ما بقي إلا ثلاثة أشهر ونصف. وأدارت أمي ظهرها وأظنها بكت، أما أنا فالتفت صوبها، فزجرني الراعي كما يزجر المعاز عنزة خرجت من الصف، فلعنت لحيته في قلبي.

قلت: تموز. تموز، نعم، يا قارئي العزيز، كنا ندخل المدارس في أول تشرين الأول، ثم لا نخرج منها إلا في منتصف تموز، لا فرص ولا أعياد. لا مرفع ولا من يحزنون. قلت هذا لأذكر أنظمة مدارس ذلك الزمان.

أما اليوم فتموز محذوف من تاريخ السنة المدرسية، وتشرين الأول أكلوا ثلثه، والفرص أكثر من الهم على القلب. في كل أسبوع يصبح التلميذ أهله ويمسيهم، ناهيك بمخالطته الناس في المدن، فمن قهوة إلى سينما، ومن مرقص إلى سباق خيل، إلى جهنم الحمرا.

إذا وبخ الأستاذ تلميذًا وقعت السماء على الأرض. وإذا فرك المعلم أذن صبي أقعد والده شاربيه وكشر عن نابيه وشمر عن ساعديه، وجاء المدرسة للمصارعة.

ولا تنس الإضرابات والتظاهرات فهي تذهب بقسم كبير من أوقات الطالب، خصوصًا إذا كان الموسم مقبلًا، وهناك بلية هي شر تلك البلايا؛ إنها بلية الإذن، وقد سهلها التلفون، ففي كل يوم يزعجنا الطلاب وذووهم. وإليك نموذجًا.

دق جرس التلفون.

– نعم هنا المدرسة، من تريد الست؟

– من فضلك مدير المدرسة.

– نعم، أنا المدير، وحضرتك؟

– أنا أم فؤاد يا أستاذ.

– أي فؤاد منهم؟ عندي أكثر من فؤاد يا ست.

– فؤاد، فؤاد عيطو. أرجوك أن تسمح له يوم السبت.

– لا إذن في التلفون.

– كيف؟

– نعم، هذا ممنوع.

– والسبب؟

– السبب بسيط، أنا لا أعرف صوتك. وأحيانًا تكون الأم غير أم.

– شو عمبتقول، بارول دونر أنا أمه.

– أمس كان عندكم يا ست، والإذن بالشهر مرة.

ولما عرفت أن حيلتها لم تجز عليَّ راحت تقهقه وتغني بلا حياء: زروني بالسني مرة.

هذه واحدة وواحدة أخرى أتت من واحد لم تعجبني سيماه. أقبل عليَّ يستأذن لطالب زاعمًا أنه جاء من عند أبيه الذي ينتظره ببيروت.

فبغته بالسؤال: حضرتك أخوه؟

فأجاب: ابن عمه.

قلت: مؤكد؟

فانتفخ وتعالى وقال: نحن لا نكذب يا أستاذ.

قلت: بما أنك لا تحمل رسالة من والده، تفضل وأرني بطاقة هويتك.

فاصفرَّ واحمرَّ واخضرَّ، وذهب متعثرًا، فكلت له التوبيخ بالمد، ولكنه ولىَّ صابرًا عليه صبرًا جميلًا.

إن أحوالًا كهذه تقلقل معاهد العلم وتقف حجر عثرة في سبيل إعداد جيل صالح، ولهذا لا أرى مستقبلًا باسمًا لثقافتنا.

إذا لم يحتل العلم — وحده — ساحة شعور الطالب فهيهات أن يفلح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤