مركز ثقافي

جلست متململًا في كرسيي، أحاول أن أواري سوءة خجلي، أُسائل نفسي كيف طاوعت شيطاني للمجيء، يجيبني عقلي ببراءة مصطنعة: «إنه الفضول.» فأردُّه بسخرية: «اعترف، ولا ترمِ صديقك بحجر التحريض.» ثم أبدأ شماتتي، وأُعدِّد له خطاياه؛ فلطالما ضبطت شياطينه وهي تحيك الحواديت بمجرد المرور بهذا البناء.

يختلق ذهني الضحكات المستترة والآهات التي تعصف بها الرغبات، والشائعات التي رسمت في خيالاتي صورةً لساكنيه بجرأتهم وألوانهم الصاخبة. وتلك اللافتة بحروفها اللاتينية المتراقصة، وهذا الهدوء النهاري الذي يعوِّض الصخب الليلي متفردًا عمَّا حوله من مؤسسات حكومية. كلها أسباب دفعتني لترضية فضولي بالاطلاع على ما وراء هذا العالم الخلفي الذي يقبع ساكنًا «هائجًا» في قاع المدينة، رغم بنائه في أحد أشهر شوارعها.

كان المكان هادئًا على غير توقُّعي، لا ضحكات خليعة متناثرة، ولا أشباه عراة على جوانب الغرف، فقط أبواب مغلقة، راسمةً جدرانًا خرسانيةً عازلةً للصوت والغرائز، هدوء هدم تلك الخيالات والقصص في رأسي.

استقبلتنا امرأة في منتصف الثلاثينيات تبدو وكأنها تدير المكان، هادئة الملامح، تولَّى صديقي التفاوض معها، وحينما دعاني، كان خجلي قد أنهى جولة عنتريتي المصطنعة لصالحه، فاكتفيت بجلستي المتململة لحين عودة صديقي من جولته.

خوفًا من جولة أخرى، وهزيمة متجددة؛ شغلت بصري بملاحقة المكان، وجلساته المستديرة، الموضوعة بشكل يحفظ بعض خصوصيتها، وبعض المناضد العالية التي تُسمَّى «البار» للزائرين الفرادى، وُضعت بحيث تقابل ظهورهم تلك الجلسات المستديرة.

على إحدى الأرائك لمحتها، بفستانها الذي بالكاد يغطي ركبتيها، والمنحسر عن أكمامها، مظهرها لا يتناسب مع سيجارتها التي تمسكها بأطراف أصابعها وتنفثها بعصبية، وجهها باهت من الألوان، ولكنه لا يخلو من حلاوة طبيعية، دخل أناسٌ عدة ألقَوا إليها نظرةً سريعةً ثم ما لبثوا أن بلعتهم الأبواب المغلقة بعنفوانها.

انتبهَتْ إلى نظراتي؛ فأشارت إليَّ بنصف ابتسامة، تاه ردُّها على فمي، فأجبتها بمزيد من البحلقة، ترجمتها هي تجاوبًا، فتبعتها بدعوة صريحة بإيماءة من رأسها.

عاد الصراع خفقانًا في القلب وارتعاشةً في اليد، حاولت أن أدير وجهي لإيقاف تطلُّعاتها، وحينما ظهر إشعاع جرأة آخر؛ عدت بنظري إليها فوجدتها ما زالت على موقفها.

عرفَتْ نوعي، توقعت ذلك حينما وجدتها تبادر بالقيام من مجلسها، وتقترب من مكاني، ألحَّ عليَّ هذا اللعين لصيق حياتي بالهروب. كم أكرهه! كم من تجربة أضاعها عليَّ! كم من جولات فتَّتني فيها! لم تكن تعنيني مغامرة ليلية، ولكنني تمنيت فقط مغالبة غريمي، الذي جعلني مَضحكةً بين أصدقائي.

قرَّرت فضَّ طُهري بأكثر الطرق صخبًا؛ حملت لها ابتسامةً عريضةً بدت بلهاء، شجَّعتها على الحضور بخطوات متسارعة، ثم جلست بجانبي، وحينما مدت يدها لتلمسني؛ انتبهت إلى غريمي وقد أعلن انتهاء الجولة. صفقت الباب ورائي وسط نظرات دهشتها المعجونة بخيبتها.

•••

تردَّدتُ لحظةً ولحظتين قبل أن أعيد الطرق، حتى انتبهت إلى أن الباب مفتوح، دخلت متردِّدًا، لمحتها تجلس في ركن، بفستانها الذي يشبه بساطتها وجمالها الطبيعي. ما إن لمحتني حتى باركتني بنصف ابتسامة، ثم عادت لتصفُّح هذا الكتاب بين يديها.

فحصت المكان بنظرات مضطربة؛ المنضدة ذاتها في استقبال الداخل، وهدوء تلك الجالسة وراءه التي انشغلت بمتابعة بعض الملفات الورقية.

فوقها تمامًا تتوسَّط الحائط لافتة تبدو جديدةً بإطاراتها المُذهبة، وبخط نسخ جميل كُتب عليها:

في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، تمَّ افتتاح المركز القومي للتنمية الثقافية.

وكأنها انتبهت فجأةً لوجودي، سألتني: «أيوة يا فندم؟» فأجبتها: «من فضلك، أريد الاستفسار حول ورشة كتابة القصة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤