رحيل

أخيرًا أعلنَت المضيفة عن ضرورة ربط أحزمة الأمان، وبدء إقلاع الطائرة، أحاول جاهدةً أن أغمض عينَيَّ لأنال قسطًا من الراحة التي خاصمتني طوال الأسبوعين الماضيين، وسط النوم المضطرب والأحداث المتسارعة.

ينازعني النوم، فيأبى إطاعة أوامري؛ فأفتح النافذة وأتطلَّع بعيون نصف زائغة، فيما يطن في أذني صوت محركات الطائرة. أُودِّع المدينة التي عاشتني بتفاصيلها، ولهجاتها المتعددة، ووجوه ساكنيها، ومبانيها الزجاجية، وناطحاتها، والتي جاء قرار الترحيل منها مفاجئًا، ونصف سارٍّ في الوقت ذاته.

ما زالت تفاصيل ذلك اليوم حاضرةً في ذهني، أُعيدها عشرات المرات، أحاول جاهدةً أن أُغيِّر بعض تفاصيله، ولكن تفاجئني النهاية ذاتها مع كل محاولة.

حينما جاء زوجي من عمله في موعده المعتاد، ولكن عينيه الزائغتين نبأتاني بأن يومه لم يكن عاديًّا، سألته، فطلب تأجيل الحديث لما بعد الغداء، ولكنه أمام إلحاحي أخبرني بأن مديره أبلغه بقرار إنهاء عمله، وضرورة ترحيلنا خلال عشرة أيام، دون أية تفاصيل؛ لأنه هو ذاته لم يكن لديه سوى خطاب إنهاء الخدمة فقط.

في تلك اللحظة شعرت بأنني السبب، وألحَّت عليَّ تحذيرات طالما سمعتها من زوجي وزملاء العمل، بالكف عن التطرُّق إلى الكتابة في السياسة ومجاوزة الخطوط الحمراء، والاكتفاء بالتقارير الثقافية أو الاقتصادية الاعتيادية، ولكنني في كلِّ مرة كنت أتهمهم بالمبالغة في المخاوف، وأكرِّر أن ما أكتبه ليس على هذه الدرجة من الأهمية.

ثم تذكرت ذلك التقرير الذي نشرته قبل بضعة أيام، والذي تلقَّيت بمجرد نشره تعليقات حاميةً من أصدقائي وأفراد عائلتي، ولومًا مستورًا من زوجي.

أخبرته بهواجسي، فأجابني بأنه لا داعي لاستباق الأحداث، ولكن عندما عاد لعمله في اليوم التالي، عرف بشكل سري أن تقريري هو السبب وراء قرار الجهة الأمنية بإنهاء وجودنا بالبلد.

تلك الليلة طلب مني ولأول مرة منذ سنوات أن أترك ابنتي مع أمي التي تزورنا منذ أسبوع، والخروج معه، فظننت أنه يريد أن يلقي على مسامعي لومه ومسئوليتي، خرجت معه متحفزة، فقد سمعت من الأهل والأصدقاء طوال اليوم ما يكفي من اتهامات.

شعر باضطرابي، فاحتضنت يده يدي، وأشعرني بدفء مفقود في تلك الليلة الشتوية، فطمأنتني لمساته وكلماته، وأخبرني بأن تقريري أهم عنده من مؤسسة خدمها تسع سنوات فلم تحفظ موظفيها ولم تدافع عنهم.

وتوالت الأحداث سريعًا، بين إجراءات تسليم لعهدته، وإنهاء لإجراءات سفرنا، وشحن ما تيسر لنا، والبحث عن مشترٍ لما بقي لنا من أثاث وأجهزة، وسط سقوط لأقنعة من حولنا، وأصدقاء ادَّعوا يومًا تلك الصداقة، فمنهم من رفض الرد على اتصالاتنا، والبعض اكتفى بكلمات الوداع الروتينية، وآخرون أجابوا عن رسائلي بطلب البحث عن فرص أخرى بالعمل بحجج واهية كسياسة التوطين التي تنفِّذها مؤسساتهم، وصعوبة توظيف جنسيات معيَّنة بفعل الأحداث السياسية في بلدانهم.

تطاردني المخاوف في وطني؛ فلا عمل، وبيت نصف مُجهَّز، وعائلة تتربَّص بلومها، وطفلة لم يتعدَّ عمرها سنوات أربع، فرِحة بعودتها لأحضان عائلتها، ومتخوِّفة من مستقبل لها لم نخطط له بعد. ينتفض جسدي قلقًا، فيلاحظ اضطرابي، فيحمل يدي مرةً أخرى يهدهدها بين يديه، وهو نصف نائم ونصف مستيقظ، ويستمر الأزيز يطن في أذني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤