الطابور

الساعة السادسة صباحًا، يأتي الصوت صاخبًا من خلف نافذتنا الزجاجية، ألمح تلك الأجساد المتراصَّة، أتعجب، وأسأل نفسي: «متى يبدأ هؤلاء يومهم؟» أتابع الصفوف التي تقوم بتمارين صباحية ككتيبة عسكرية، ثم انتباههم الشديد لرئيسهم وهو يُلقي عليهم تعليمات اليوم.

في طريقي تلفت انتباهي تلك الوجوه المحترقة بفعل العمل ساعات طويلةً تحت أشعة الشمس والحرارة التي تتعدَّى درجاتها الخمسين، والرطوبة التي تقترب نسبتها من الثمانين بالمائة، فجعلت الجميع في هذا الزي الموحَّد، كدمًى متراصَّة من مصنع واحد.

تزعجني تلك النظرات التي تلاحقني من بعضهم في فترات تناولهم الطعام، لا يهم ماذا أرتدي، وكيف أسير، وحدي أم برفقة أحد؛ فالنظرات الجائعة تلاحق النساء المارات جميعًا.

في بداية إقامتي بتلك المدينة كنت أضيق بتلك النظرات، فأردُّها احتقارًا، ولكن بعد حين التمست لهم ألف عذر حينما خبرت المزيد من الصحف وحكايات الأصدقاء عن هؤلاء الرجال وأمثالهم، وكيف أنهم يعيشون على بضع مئات من الدراهم شهريًّا، يتجمَّع العشرات منهم في بيوت خالية من التهوية، محرومين من صحبة الأهل، ومن الزواج، يتقاسمون حتى الطعام ليستطيعوا إرسال ما تيسَّر لهم إلى أهاليهم.

مؤخرًا فاجأني العمل بتلك المنطقة المواجهة لمسكني، فبتُّ قريبةً من بؤسهم، ألحظ طوابيرهم الصباحية، وعملهم المستمر طوال اليوم، لا يهم صباحًا أو مساءً، شتاءً أو تحت الشمس الحارقة، متلفِّحين بالملابس الرسمية، والخوذات، والأحذية ذات الرقاب المرتفعة، التي تضيف ثقلًا آخر إليهم فوق ثقل العمل وثقل الفقر.

وفي فترات راحتهم تكتفي الأجساد بالتمدُّد متلاصقةً تتظلل بالجدران الحديدية المبنية حول منطقة العمل، أو أرضية الحدائق الرطبة، وفي أيام عطلتهم يكتفون بتجمُّعاتهم وافتراش الأرصفة جلوسًا.

في ذلك اليوم لم أسمع أصواتهم الصباحية الصاخبة، وفي طريق عودتي لاحظت الوجوه متجهمة، ممتنعةً عن العمل، بعضهم يجلس القرفصاء، والآخر يشوِّح بيديه بانفعال في أحاديث جانبية.

استمرَّ الامتناع عن العمل أيامًا، وبعدها بدأت اللافتات تظهر في موقع العمل، بداية على استحياء، حتى ملأت المكان، صور لأشخاص بالسحنة نفسها تغطِّيها الدماء، سقطوا أثناء العمل بفعل الإعياء الحراري، مذيَّلة بعبارات محتجة بلغات عدة، مطالبة بامتيازات إضافية: زيادة ساعات الراحة، خاصةً فترة الظهيرة بالصيف، ومساكن أكثر آدمية، وسائل تنقُّل تليق بالبشر، ورواتب تفي بالحاجة.

تابعت الصحف المحلية الخبر بتغطيتها الخاصة، فوصفت الحادث بأنه أعمال شغب من قبل عمال، منتقدةً تلك الاحتجاجات بأنها نكران لجميل بلد آوتهم من الموت فقرًا ببلدانهم، وأذاعت مختلِف وسائل الإعلام الأرقام الرسمية عن ملايين الدراهم التي تُحوَّل كل عام من «خير البلد» بسبب أولئك الوافدين.

أُخلي الموقع، واكفهرَّت المنطقة، وتوقَّف البناء، وبتُّ أسمع بديلًا من أصوات الطوابير الصباحية، أصوات أزيز الآلات الضخمة والروافع الحديدية بفعل الرياح، وبعد أسابيع انتبهتُ على صخب، نظرت من نافذتي، كانت هناك حافلات تحمل وجوهًا أخرى أكثر نضارة، تحمل في عيونها بعض الأمل، تتبع أوامر بتنظيف المكان من النفايات، ثم توالت التمرينات الصباحية كل يوم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤