على الطريق

على جانب الرصيف يجلس منزويًا يختفي أيامًا، ثم يظهر على حاله نفسها، ملتصقًا بالزاوية ذاتها من الطريق، دون أن يعلم أحدٌ أو يهتم أين يذهب أو كيف يعرف طريق عودته، يبدو وكأنه جزء من هذا الشارع، بملابسه التي اهترأت تشبُّعًا لكثرة ما ارتوت من قسوة سنوات التيه على جوانب الطرقات، وشعره الأشعث الذي لا تعلم إن كانت رماديته لشيبة أم بفعل مُجالسة الطريق.

يمضي غير عابئ بالنظرات المتسائلة أو بالخطوات التي ما إن تلمح مجلسه حتى تغيِّر مسارها، يتلفَّت يمينًا ويسارًا، باحثًا حينًا بين صناديق فضلات ساكني الحي، وأحيانًا تراه جالسًا مزهُوًّا، ينفث بقايا سيجارة ألقاها أحد المارين بالقرب من مجلسه.

لا يتحدَّث عادة، كل ما يُسمع منه مجرد همسات لا تستطيع فهمها، تفسرها حينًا بأنها سباب للأطفال المشاكسين الذين يعبثون بوجبته، أو كدفاعٍ عن نفسه حينما يلقون الحجارة عليه أثناء نومه، أو تترجم إشاراته تسوُّلًا حينما يجيبها بعض المارة أو أصحاب السيارات بقليلٍ من الجنيهات أو أكياس بقايا الطعام.

لغة خاصة بينه وبين بائعي أكشاك البضائع تجعلهم يحتفون بمروره، تحية حارة منهم، يقابلها بردود مقتضبة لا تزيد أحيانًا عن بضع إشارات باليد أو هزَّات بالرأس.

لم يعد يتساءل الناس عن عمره، أو حاله الذي جعله أحد معالم هذا الشارع؛ فقد قضَوا الكثير من الوقت بحثًا عن إجابات لأسئلتهم: من هو؟ ومن أين جاء؟ ومتى استوطن هذا الشارع، حتى أصبح جزءًا منه؟

تناثرت الأحاديث؛ فالبعض يقول إن زوجته هجرته لقلة الرزق، فهام على وجهه بحثًا عنها، والبعض أكَّد أنه انتظر خطاب تعيين الحكومة سنوات طوالًا، فهرب من نظرات التحسُّر، وآخرون يقولون إنه وُلد «مجذوبًا» فألقى به أهله بالمستشفى العام، حتى ضاق بها وبمعاملة الأطباء له كحيوان اختبار، وجشع الممرضين واستهزاء الطلبة به، فتركها واحتمى بالشارع. اجتهد كثيرون، ولما خابت إجاباتهم، انشغلوا بحالهم وقبلوه على حاله.

اليوم يبدو مختلفًا؛ يلتفُّ حوله أصحاب الأكشاك، وبعض الباعة الجائلين، حتى الصبية المشاكسون، يصفِّقون له تشجيعًا، تتَّسع الدائرة مُرحِّبةً بالمشهد الجديد، تتعدَّد التعليقات: «نعم متسعة قليلة لكنها مختلفة، أكثر نظافة، أثقل بعض الشيء مما يحتمل الطقس، لكن لا يهم، يمكنه خلعها ليلًا لافتراشها، أو أن يهش بها ذباب الطريق.» يقف مَزهُوًّا بنفسه، مرتديًا سترةً نصف مهترئة، وجدها في صندوق القمامة القريب، ما زالت تحمل بقايا ألوانها، يرد على تحيات الملتفِّين ببعض الابتسامات، ثم يعود لزاويته، وينفضُّ الجمع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤