لقد أكلت البيض كله

بسيطة هي كعادتها، لكن شيئًا ما نضب منها، وكأن سنوات الانتظار أهلكت ما بقي لها من نضارة العمر.

جالسة متكومة في جانب البيت، عيناها حائرة ما بين الباب والنافذة، وجهها جفَّت حُمرتُه، ككل شيء في هذا المنزل، لن تشعر بوجودها إن لم تبدأها بالحديث، تجر كلماتها من فمها كحملٍ ثقيل، وتكتفي بإجابات مقتضبة وعبارات من كثرة ترديدها ألفتها وحفظتها.

زهدت في كلِّ شيء، حتى في أن تهيئ نفسها كما كانت تفعل في السابق بمجرد علمها بوجود بعض الزائرين، وعملها الذي لم تعد تهتم بالمواظبة عليه، حتى إن رؤساءها في العمل تعاطفوا معها؛ فتوقفوا عن سؤالها عن سبب التأخير أو الغياب، واكتفوا بالخصم من راتبها الذي لم تعد تهتم بإحصائه عند أول كل شهر.

لم تعد تتذكَّر كم من السنوات انتظرت، كل ما تتذكره أنه بدأ مع تلك الزيارة التي أعدَّت لها سيدات العائلة منذ سنوات.

زيارة فرضت ترتيبات عدة، اختيار توقيت مناسب تتواجد فيه كل بنات «العيلة»، واستعدَّت أمها بأن أخلت صالة المنزل من أثاثه ليتسع للجميع، أزالت جميع الصور الخاصة بالعائلة أو التي تصوِّر أي كائنات حية كما «أمر» قبل حضوره، فيما أبرزت اللوحات القرآنية.

تعمَّدت أمهات العائلة إخفاء سبب الزيارة الحقيقي عن بناتهن حتى لا «تفتح عيونهن قبل الأوان»، وتحججن بأن الزيارة فقط لرقية البيت والبنات من الحسد والعين، وإدخال البركة، فيما كانت الفتيات تتندَّر على «تغفيل الأمهات لهن»، رغم أن عقولهن الصغيرة باتت كاشفة، وحرصن على إظهار عدم المبالاة للسبب الرئيسي، وادعين أنَّ تواجدهن سيكون فقط من باب الفضول.

هي فقط كان حديثها مقتضبًا، صمتت، وتحمَّست لحماس أمها، وأذعنت لأوامرها، هي كانت تعلم أن «نصيبها» بسيط مثل جمالها وتعليمها ووظيفتها، ورغم ذلك لم تطمع بالمزيد، أرادت هذا البسيط أن يطرق بابها؛ لأنه ما يمكن أن ترضيه، خاصةً وأن عدَّاد العمر بدأ عمله، وساعة الرمل لا يوقفها شيء.

حضر الجميع؛ الأمهات المهتمات بفكِّ نحس البيت، والفتيات المتراوحة أعمارهن ما بين بداية العقد الثاني ومنتصفه.

ثم جاء هو بلحيته الطويلة، وبنطاله الذي لا يبلغ كعبيه، وطلب منهن وهو غاضٌّ بصره الاصطفاف أُفقيًّا، وأطلق لسانه بالدعاء والأذكار وتلاوة القرآن، وطلب منهن أن يبلغنه إذا ما شعرن بأي دُوار، أو بأن هناك ما يدفعهن للخروج من الصف، ورغم النظرات الجانبية والضحكات المستترة التزمت الفتيات بالتعليمات.

كانت هي أولى المترنِّحات؛ فأجلسها على الكرسي، وخصَّها ببعض الأدعية والأذكار، وفي نهاية الجلسة أسرَّ إلى الأمهات، بأن تأكل كل فتاة ثلاث أو خمس أو سبع بيضات مقروءًا عليها بعض الآيات القرآنية الحارسة.

في اليوم التالي وأثناء اجتماع الفتيات مساءً، أخبرنها جميعًا بأنهن لم يهتممن بأكل البيض، فالأمر بالنسبة إليهن كان دعابة. لم تعرف إن كن صادقات أم لا، بينما لم تخجل هي من الاعتراف بأنها أكلت البيض، رغم نظرات السخرية في أعين قريباتها.

بدأ الانتظار، وأعدَّت للتجهيز للزيارة المرتقبة، كانت تحرص على أن تكون في كامل زينتها داخل المنزل وخارجه، اشترت كميات إضافيةً من مساحيق التجميل الرخيصة الثمن التي تناسب ميزانيتها، ووفرت جزءًا من راتبها لشراء ملابس جديدة.

تأخرت الزيارة، فألقت اللوم بدايةً على أمها لأنها لم تتبع التعليمات، وقامت بإعادة الصور العائلية والبورتريهات إلى أماكنها على الحائط والمناضد، وأزالتها رغم اعتراض أمها.

ثم ظنَّت أنه عقاب لها؛ لأنها اكتفت في المرة الأولى بثلاث بيضات فقط؛ فتناولت هذه المرة خمس بيضات، وبعد شهور أكملت السبع، ثم كرَّرت محاولاتها كل بضعة شهور، ثم شكَّت في أن وضوءها لم يكن صحيحًا تمامًا عند قراءة الآيات على البيض، فأعادت محاولاتها، ثم خصَّصت جزءًا من راتبها للتبرع للمساجد والأولياء.

طال الانتظار، وانفضَّ الجمع من حولها، وحضر جمع آخر، أكثر صخبًا؛ ففتيات العائلة لم يعدن يأتين بمفردهن، فكل واحدة عادت بأطفالها. في البداية كنَّ يمزحن معها بعبارات حول عمى الرجال عنها، وأنها «ست البنات»، وأن الأيام تخبِّئ لها الأفضل، ثم تعمدن الشكوى أمامها من المسئولية و«وجع الدماغ» من العيال وتربيتهم، حتى اكتفين أخيرًا بالصمت.

وفي يوم فاجأتها صديقة لها بالعمل بأن زميلًا لها يريد زيارتهم بالمنزل؛ طار العقل، وتردَّد السؤال: هل «وفَّى البيض بوعده؟» نزلت يومها لتشتري ملابس جديدة، وأعادت تنظيف المنزل، واستبدلت المصابيح التي انطفأت أنوارها منذ زمن، وكست وجهها بمساحيقها التي هجرتها.

جاء الزائر، نعم هو سمين بعض الشيء، راتبه لا يكفي لمسئولية بيت، ويسكن مع والدته، لكن لا يهم كل ذلك، المهم أن انتظارها حانت نهايته، ولكن جاءت عباراته بما لا تشتهي أحلامها، نعم جاء طالبًا، ولكن ليد أختها الصغرى المتبقية معها بالبيت، والتي رآها في إحدى زياراتها لها بالعمل، فتعلَّق قلبُه بها.

حينها لم تدرِ بماذا أجابت، وإنما دخلت مسرعةً إلى المطبخ وفتحت باب ثلاجتها، حملت كل ما بها من بيض وألقت به في وجه مرآتها، وحينما رأت وجهها مكسوًّا ببياضه وصفاره، جلست باكية، وارتفع صوتها: «لقد أكلتُ البيض كله! لقد أكلت البيض كله!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤