الفصل الرابع

الْمَعْرَكَةُ الْحاسِمَةُ

(١) ابْنُ الشَّمْسِ

وَلَبِثَ أَبْناءُ «الشَّهِيدِ» فِي مَنْفاهُمْ بِالْغابَةِ ثَلاثَةَ عَشَرَ عامًا كامِلَةً، مَرَّتْ بِهِمْ أَيَّامُها — كَما تَمُرُّ أَيَّامُ الشَّقاءِ — بَطِيئَةَ الْخُطَى، ثَقِيلَةَ الْوَقْعِ، فَلَمَّا طَلَعَ فَجْرُ الْعامِ الْجَدِيدِ أَسْرَعَ «يُدِشْتِ-هِيرا» إِلَى خَتَنهِ (والِدِ زَوْجَتِهِ) فَلَمْ يُقَصِّرْ فِي إِمْدادِ صِهْرِهِ (زَوْجِ ابْنَتِهِ) بِما يَحْتاجُ إِلَيْهِ مِنْ مالٍ وَعَتادٍ وَرِجالِ. وَتَرامَتِ الأَنْباءُ إِلَى «دُرْيُدْهانا» بِما أَعَدَّهُ مَلِكُ «الْبَنْغالِ» لأَبْناءِ عَمِّهِ مِنْ جَيْشٍ وَعتادٍ، فَلَمْ يُفاجَأْ بِالْخَبَرِ. فَقَدْ كانَ يَعْلَمُ عِلْمَ الْيَقِينِ — مُنْذُ غادَرُوا أَرْضَ الْوَطَنِ إِلَى مَنْفاهُمْ — أَنَّهُمْ لَنْ يُقَصِّرُوا فِي الانْتِقامِ، وَلَنْ يَتَوانَوْا عَنِ الْمُطالَبِةِ بِثَأْرِهِمْ. فَلَمْ يُضِعْ شَيْئًا مِنْ وَقْتِهِ، وَراحَ يَحْشُدُ الْجُيُوشَ وَيَعْقِدُ مُحالَفاتِ الصَّداقَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جِيرانِهِ، خِلالَ ثَلاثَةَ عَشَرَ مِنَ الأَعْوامِ فَلَمَّا بَلَغَهُ النَّبَأُ أَسْرَعَ إِلَى صَفِيِّهِ «كَرْنا» يَسْأَلُهُ أَنْ يَتَوَلَّى قِيادَةَ جَيْشِهِ الْعَظِيمِ، لِيَتِمَّ عَلَى يَدَيْهِ النَّصْرُ. فَقالَ لَهُ «كَرْنا»: «هَيْهاتَ ذَلِكَ هَيْهاتَ. فَما تَسْتَطِيعُ يَدِي أَنْ تَمْتَدَّ لأَبْناءِ «الشَّهِيدِ» بِسُوءٍ، وَلَنْ يَتِمَّ نَصْرُكَ بِغَيْرِ قَهْرِهِمْ. كَلا لَنْ أُحارِبَ غَيْرَ «أَرْجُونا» وَحْدَهِ، فَلَيْسَ لِي فِي هَذِهِ الْحَياةِ مُنافِسٌ غَيْرُهُ؛ وَأَحْسَبُ أَنَّ الدَّنْيا قَدْ ضاقَتْ بِنا فَأَصْبَحَتْ لا تَسَعُنِي وَإِياهُ، وَلَوِ اسْتَطَعْتُ لَسَلَلْتُ لِسانَهُ مِنْ قَفاهُ.». وَحاوَلَ ابْنُ «الضَّرِيرِ» أَنْ يُزَحْزِحَ صَفَيَّهُ «كَرْنا» عَنْ رَأْيهِ قَيْدَ أُنْمُلَةٍ، فَلَمْ يَظْفَرْ بِطائِلٍ. فَأَلَحَّ عَلَيْهِ فِي الْيَوْمِ التَّالِي، وَما زالَ بِهِ حَتَّى قَبِلَ «كَرْنا» قِيادَةَ الْجَيْشِ، عَلَى أَلا يَمُدَّ يَدَهُ بِسُوءٍ لإِخْوَةِ «أَرْجُونا»».

وَكانَ لِهَذا الْقائِدِ الْفَتَى قِصَّةٌ يَكْتَنِفُها الْغُمُوضُ. وَقَدْ آنَ لَكَ أَنْ تَعْرِفَها عَلَى وَجْهِها الصَّحِيحِ: فَلَمْ تَكُنْ أَمُّ «كَرْنا» عَلَى الْحَقِيقَةِ غَيْرَ الْمَلِكَةِ «كَنْتِي» زَوْجَةِ الشَّهِيدِ «بَندُو» فَهُوَ أَخٌ لِمُنافِسِهِ «أَرْجُونا» وَإِخْوَتِهِ كَما تَرَى، أَخٌ لَهُمْ مِنْ أُمِّهِمْ وَإِنْ جَهِلُوا ذَلِكَ.

فَمِنْ أَيِّ أَبٍ أَنْجَبَتْهُ أُمُّهُ؟ مِنَ الشَّمْسِ أَنْجَبَتْهُ. فَكَيْفَ كانَ ذَلِكَ؟

كانَ «إِياةُ» — فِيما تُحِدِّثُنا بِهِ الأَساطِيرُ الْهِنْدِيَّةُ — قَدْ تَزَوَّجَها سِرًّا، وَأَنْجَبَ مِنْها «كَرْنا» قَبْلَ أَنْ تَتَزَوَّجَ الشَّهِيدَ «بَندو» وَلَمْ يَكُنْ «إِياةُ» إِنْسانًا، بَلْ كانَ مَلَكًا كَرِيمًا: كانَ «إِياةُ» مَلَكَ الشَّمْسِ. وَسَأَلَتْهُ زَوْجُهُ ضارِعَةً — إِلَيْهِ — أَنْ يَهَبَ لِجَنِينِها ما يَكْفُلُ حِمايَتَهُ مِنْ الإِنْسِ فَما كانَ أَسْرَعَهُ إِلَى تَلْبِيَةِ رَجائِها. وَكَسا جِلْدَهُ دِرْعًا مَعْدَنِيَّةً رَقِيقَةً لا تَنْفُذُ فِيها السِّهامُ، وَلا تَقْطَعُها السُّيُوفُ، وَلا تُمَزِّقُها الرِّماحُ.

figure

فَطَمِعَتْ «كَنْتِي» فِي مَزِيدٍ مِنْ هِباتِ «إِياةَ» لِجَنِينِها. فَوَهَبَ لَهُ حَلَقَتَيْنِ طَبِيعِيَّتَيْنِ نَبَتَتا فِي أُذُنَيْهِ، كَما تَنْبُتُ الأَصابِعُ فِي الرَّاحَتَيْنِ (الْيَدَيْنِ) وَلا سَبِيلَ إِلَى انْتِزاعِ هاتَيْنِ الْحَلَقَتَيْنِ — كَما لا سَبِيلَ إِلَى انْتِزاعِ أَصابِعِ الْيَدَيْنِ — إِلَّا بِقَطْعِهِما وَقَدِ اخْتَصَّ «إِياةُ» وَلَدَهُ «كَرْنا» بِمِنْحَتَيْهِ، لِتَكُونا واقِيَتَيْهِ مِنَ الرَّدَى، وَحامِيَتَيْهِ مِنَ الْعِدَى، وَلِتَكُونا آيَتَيْنِ (دَلِيلَيْنِ) عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَبْناءِ السَّماءِ، وَلَيْسَ مِنْ أَبْناءِ الأَناسِيِّ. فَلَمَّا وُلِدَ «كَرْنا» فَرِحَتْ أُمُّهُ بِما وَهَبَهُ «إِياةُ» لِوَلِيدِها مِنْ مِنْحَةٍ عُلْوِيَّةٍ وَلَكِنَّ فَرَحَها لَمْ يَطُلْ، فَلَمْ تَمُرَّ أَيَّامٌ قَلائِلُ حَتَّى فاجَأَتْها أَحْداثُ الزَّمَنِ بِما بَدَّلَ سُرُورَها حُزْنًا.

figure
figure

وَكادَتِ الْمُفاجَأَةُ تُذْهِلُها حِينَ قَدِمَ عَلَى دارِها رَسُولٌ يُفْضِي إِلَيْها بِرَغْبَةِ «إِياةَ» فِي أَنْ تُسْرِعَ — فِي بُكْرَةِ الْغَدِ — إِلَى ضِفَّةِ نَهْرِ «الْكَنْجِ» وَتَضَعُ وَلِيدَها فِي مائِهِ الطَّهُورِ، بَعْدَ أَنْ تُودِعَهُ سَلَّةً مِنَ الصَّفْصافِ، لِيحْمِلَهُ التَّيارُ إِلَى الْبُقْعَةِ الَّتِي اخْتارَها «إِياةُ» لِوَلِيدِهِ. وَلَمْ تَجْرُؤْ «كَنْتِي» عَلَى مُخالَفَةِ «إِياةَ». وَرَجَعَتْ فِي الْيَوْمِ التَّالِي إِلَى بَيْتِها مَحْزُونَةً — بَعْدَ أَنْ أَوْدَعَتْ وَلِيدَها مِياهَ النَّهْرِ — وَهِيَ لا تَدْرِي إِلَى أَيِّ مَكانٍ يَنْتَهِي بِهِ التَّيَّارُ. وَحَمَلَتِ الأَمْواجُ وَلِيدَها مَسافَةً طَوِيلَةً، ثُمَّ أَسَلَمْتْهُ إِلَى السَّاحِلِ آمِنًا، حَيْثُ يُقِيمُ الْحُوذِيُّ الْكَرِيمُ وَزَوْجُهُ الْحَنُونُ. فَتَبَنَّياهُ (اتَّخَذاهُ لَهُما وَلَدًا) وَبَذَلا جُهْدَيْهِما فِي رِعايَتِهِ، وَلَمْ يُقَصِّرا فِي الْعِنايَةِ بِهِ وَتَهْذِيبِهِ، حَتَّى بَلَغَ سِنَّ النُّضْجِ، فَتَرَكَ دارَهُما الصَّغِيرَةَ، وانْطَلَقَ إِلَى الْغابَةِ، يُؤْثِرُها عَلَى سُكْنَى الْمُدُنِ، مُسْتَهْدِيًا فِي طَرِيقِهِ بِغَرِيزَتِهِ الْعُلْوُيَّةِ. وَلَمْ تَلْبَثِ الْمُصادَفَةُ أَنْ جَمَعَتْهُ بِمُعَلِّمِ الرِّمايَةِ «دُرُونا» وَهُوَ يُدَرِّبُ حَفَدَةَ «بِهِشْما». وَشاءَ الْقَدَرُ الإِلَهِيُّ — الَّذِي لا حِيلَةَ لأَحَدٍ فِي دَفْعِ خَيْرِهِ وَلا أَذاهُ — أَنْ يَتَعادَى الأَخَوانِ، فَيُصْبِحَ «كَرْنا» وَ«أَرْجُونا» — فِي عالَمِنا الأَرْضِيِّ — عَدُوَّيْنِ يَحْتَرِبانِ وَيَصْطَرِعانِ. كَما جَرَتِ الأَقْضِيَةُ أَنْ يَنْتَصِرَ لِلأَخَوَيْنِ الْمُتَعادِيَيْنِ مَلَكانِ كَرِيمانِ؛ فَيَتَحَيَّزَ «إِياةُ»: مَلَكُ النُّورِ لِوَلَدِهِ «كَرْنا»، وَيَتَحَيَّزَ «إِندِرا»: مَلَكُ الْقُوَّةِ، لِمُناصَرِةِ صَفِيِّهِ «أَرْجُونا». وَكانَ أَوَّلَ ما اتَّجَهَ إِلَيْهِ «إندِرا» أَنْ يَبْدَأَ بِتَجْرِيدِ «كَرْنا» مِنْ مَزَيَّتَيْهِ: دِرْعِهِ وَحَلَقَتَيْ أُذُنَيْهِ، لِيَضْمَنَ الْفَوْزَ لِمُنافِسِهِ «أَرْجُونا». وَفِيها — كَما عَلِمْتَ — سِرُّ حِمايَتِهِ، وَمَصْدَرُ قِوَّتِهِ، وَلَنْ يَتِمَّ لِمُنافِسِهِ أَنْ يَتَغَلَّبَ عَلَيْهِ إِلَّا بِانْتِزاعِها مِنْهُ. وَذَهَبَ «إندِرا» فِي بُكْرَةِ الْغَدِ إِلَى «كَرْنا» وَهُوَ يُصَلِّي عَلَى ضِفَّةِ النَّهْرِ، بَعْدَ أَنْ اغْتَسَلَ بِمائِهِ الطَّهُورِ. فاقْتَرَبَ مِنْهُ «إندِرا» مُسْتَخْفِيًا فِي زِيِّ ناسِكٍ بَرْهَمِيٍّ، وَهُوَ يَعْلَمُ مِنْ سَماحَةِ «كَرْنا» وَكَرَمِهِ أَنَّهُ لا يَرُدَّ لِسائِلٍ طَلَبًا. وابْتَدَرَهُ «إندِرا» قائِلًا: «مِنْحَةً يا سَيِّدِي، مِنْحَةً أَسْتَوْهِبُكَ إِيَّاها.» فَأَجابَهُ «كَرْنا»: «لَكَ ما تُرِيدُ يا سَيِّدِي.» فَقالَ «إندِرا»: «دِرْعُكَ وَحَلَقَتا أُذُنَيْكَ هِيَ كُلُّ مَطْلَبِي إِلَيْكَ.» فَأَجابَهُ «كَرْنا»: «لَوْ قَدَرْتُ عَلَى ذَلِكَ لَما تَأَخَّرْتُ فَإِنَّ هاتَيْنِ الْحَلَقَتَيْنِ نَشَأَتا فِي أُذُنَيَّ كَما نَشَأَتِ الأَصابِعُ فِي يَدَيَّ، وَلا سَبِيلَ إِلَى انْتِزاعِهِما مِنْهُما إِلَّا إِذا قَطَعَتَهُما مِنْ جِسْمِي. وَقَدْ أَجَبْتُكَ إِلَى طِلْبَتِكَ، فاصْنَعَ ما بَدا لَكَ. وَلْيَشْهَدْ سُكَّانُ السَّماءِ والأَرْضِ أَنَّ «كَرْنا» لا يُخْلِفُ وَعْدَهُ، وَلا يَنْقِضُ عَهْدَهُ.»

وَلَمَّا هَمَّ بِانْتِزاعِ الدِّرْعِ والْحَلَقَتَيْنِ أَلْهَمَ «إِياةُ» وَلَدَهُ «كَرْنا» بِحَقِيقَةِ زائِرِهِ الْعَظِيمِ، فَلَمْ يُضِعْ «كَرْنا» تِلْكَ الْفُرْصَةَ، واتَّجَهَ إِلَى «إنْدِرا» قائِلًا: «ما دامَ سَيِّدِي «إنْدِرا» هُوَ الَّذِي يَسْتَوْهِبُنِي دِرْعِي وَحَلَقَتَيْ أُذُنَيَّ، فَإِنِّي أَسْأَلُهُ أَنْ يَمْنَحَنِي — مُتَفَضِّلًا — عِوَضًا عَمَّا أَخَذَ.»

فَأَجابَهُ «إنْدِرا»: «لَكَ ما تَشاءُ.» فَقالَ «كَرْنا»: «أَلْتَمِسُ مِنْ مَوْلايَ الْعَظِيمِ أَنْ يَمْنَحَنِي سَهْمًا إِذا لَمَسَ قَتَلَ.»

فَمَنَحَهُ «إنْدِرا» ما طَلَبَ، وانْتَزَعَ مِنْهُ دِرْعَهُ وَحَلَقَتَيْ أُذُنَيْهِ.

ثُمَّ صَعِدَ الْمَلَكُ إِلَى السَّماءِ مَسْرُورًا بِما صَنَعَ.

(٢) نَصِيحَةٌ وَرَجاءُ

وَقَدْ عَرَفَتْ «كَنْتِي» وَلَدَها «كَرْنا» مُنْذُ قَدِمَ عَلَى إِخْوَتِهِ واشْتَرَكَ مَعَهُمْ فِي التَّدَرُّبِ عَلَى الرِّمايَةِ. وَلَمْ تَكُفَّ عَنْ مُلاحَظَتِهِ وَتَتَبُّعِ أَخْبارِهِ، حَتَّى إِذا عَلِمَتْ بِتَفْرِيطِهِ فِيما وَهَبَهُ لَهُ والِدُهُ «إِياةُ»، ساوَرَها الْقَلَقُ. واشْتَدَّ بِها الْحُزْنُ لِفُقْدانِهِ ما كانَ يُمَيِّزُهُ عَنْ أَبْناءِ الأَرْضِ وَيُلْحِقُهُ بِأَبْناءِ السِّماءِ. وَكَتَمَتِ الأُمُّ حُزْنَها، فَلَمْ تُفْضِ بِسْرِّها إِلَى أَحَدٍ، وَهِيَ عَلَى ثِقَةٍ بِأَنَّ «إِياةَ» لَنْ يَتَخَلَّى عَنْ رِعايَةِ وَلَدِهِ وَحِمايَتِهِ، بِرَغْمِ تَفْرِيطِهِ فِي وَدِيعَتِهِ. وَكانَ — فِيما لَقِيَهُ «كَرْنا» مِنْ نَجاحٍ وَنَباهِةِ شَأْنٍ — عَزاءٌ لأُمِّهِ عَمَّا فَقَدَهُ مِنْ هِبَةٍ عُلْوِيَّةٍ وَمِيزَةٍ سَماوِيَّةٍ. وابْيَضَّ شَعْرُ «كَنْتِي» عَلَى مَرِّ السِّنِينَ، وَدَبَّ الْوَهَنُ إِلَى جِسْمِها، وَأَلَحَّ عَلَيْها السَّقَمُ وَأَضْناها. وَأَرَّقَ نَوْمَها ما مُنِيَ بِهِ أَبْناءُ الْعَمِّ مِنْ شِقاقٍ وَنِزاعٍ. فَلَمَّا خَرَجَ أَبْناؤُها مِنْ مَنْفاهُمْ أَيْقَنَتْ أَنْ ساعَةَ انْتِقامِهِمْ مِنْ أَبْناءِ عَمِّهِمْ قَدْ أَقْبَلَتْ. واشْتَدَّ انْزِعاجُها حِينَ عَلِمَتْ أَنَّ أَبْناءَ «الضَّرِيرِ» قَدْ عَهِدُوا إِلَى وَلَدِها «كَرْنا» بِقِيادَةِ جَيْشِهِمْ. فَهالَها الأَمْرُ، وَعَزَّ عَلَيْها الصَّبْرُ، فَأَسْرَعَتْ إِلَى وَلَدِها مُتَسَلِّلَةً لِتُفْضِيَ إِلَيْهِ بِسِرِّها وَتُخْبِرَهُ بِحَقِيقَةِ أَمْرِهِ وَأَمْرِها، لَعَلَّها تَكُفُّهُ عَنْ مُحارَبَةِ إِخْوَتِهِ، وَتَقْوِيضِ دَعائِمِ أُسْرَتِهِ، فَوَجَدَتْهُ مَشْغُولًا بِالصَّلاةِ فَصَبَرَتْ عَلَيْهِ حَتَّى أَتَمَّها وَما إِنْ رَآها حَتَّى ابْتَدَرَها بِالتَّحِيَّةِ وَهَشَّ لِلِقائِها شاكِرًا لَها ما أَوْلَتْهُ مِنْ تَشْرِيفٍ وَتَكْرِيمٍ بِحُضُورِها إِلَيْهِ. ثُمَّ سَأَلَها مُتَلَطِّفًا عَمَّا أَقْدَمَها عَلَيْهِ بِرَغْمِ ما تَعْلَمُ مِنْ صَداقَتِهِ لِعَمِيدِ أُسْرَةِ «الضَّرِيرِ»، الَّذِي لا يَنْعَمُ بِعَطْفِها. فَأَقْبَلَتِ الْمَلِكَةُ عَلَيْهِ مُتَوَدِّدَةً إِلَيْهِ، مُمْسِكَةً بِكِلْتا يَدَيْهِ، تَهُزُّهُما فِي لَهْفَةٍ واشْتِياقٍ، وَتُفْضِي إِلَيْهِ بِدِخْلَتِها فِي حُنُوٍّ وَإِشْفاقٍ، وَكانَ صَوْتُها يَتَهَدَّجُ، وَيَتَعَثَّرُ الْكَلامُ فِي حَلْقِها وَيَتَحَشْرَج، لِفَرْطِ تَأَثُّرِها بِما تَسْتَعِيدُهُ مِنْ ذِكْرياتٍ أَلِيماتٍ، وَما تَقُصُّهُ عَلَى وَلَدِها مِنْ مَآسٍ فاجِعاتٍ. ثُمَّ خَتَمَتْ حَدِيثَها قائِلَةً: «فَأَنا أَمُّكَ كَما تَرَى. وَلَمْ يَكُنِ الْحُوذِيُّ أَباكَ كَما تَوَهَّمْتَ، بَلْ أَنْتَ ابْنُ الشَّمْسِ: ذاتِ النُّورِ والْحَرارَةِ والدِّفْءِ» وَأَرادَتْ «كَنْتِي» أَنْ تُتِمَّ حَدِيثَها، فَقاطَعَها «كَرْنا» وَلَدُها قائِلًا: «لَمْ يَغِبْ عَنِّي شَيْءٌ مِمَّا حَدَّثْتِنِي بِهِ يا أُمَّاهُ. فَقَدْ عَرَفَ «كَرْنا» أُمَّهُ وَأَباهُ، مِمَّا شَهِدَ — مُنْذُ سَنَواتٍ — فِي مَنامِهِ، وَسَمِعَهِ فِي رُؤْياهُ (حُلْمِهِ) فَخَبِّرِي وَلَدَكِ بِما تُرِيدِينَ، وَمُرِيهِ بِما تَشائِينَ، فَلَنْ يُخالِفَ «كَرْنا» لأُمُّهِ رَأْيًا، وَلَنْ يَعْصِيَ لَها أَمْرًا.» فَقالَتْ «كَنْتِي»: «كُلُّ ما أُرِيدُهُ مِنْكَ أَنْ تَتَخَلَّى عَنْ صَداقَةِ أَبْناءِ «الضَّرِيرِ» وَتَكُفَّ عَنْ مُناصَرَتِهِمْ. فَإِذا لَمْ يَكُنْ لَكَ مِنَ الْقِتالِ بُدٌّ، فَحَذارِ أَنْ تَعُقَّ أُسْرَتَكَ، وَإِيَّاكَ أَنْ تُحارِبَ إِخْوَتَكَ، فَهُمْ أَجْدَرُ بِمُناصَرَتِكَ، وَأَحَقُّ بِمُعاوَنَتِكَ.» وَما إِنْ بَلَغَتْ «كَنْتِي» هَذا الْمَدَى مِنْ حَدِيثِها لِوَلَدِها حَتَّى ظَهَرَتْ أَمامَها شُعاعَةٌ جَمِيلَةٌ — مِنْ ضِياءِ الشَّمْسِ — لَمْ تَلْبُثْ أَنْ تَمَثَّلَتْ لَهُما بَشَرًا سَوِيًّا، تَحُوطُ مُحَيَّاهُ (وَجْهَهُ) الْمُشْرِقَ هالَةٌ مِنَ النُّورِ، مُعَلَّقَةٌ فِي أَطْرافِها حَلَقاتٌ ذَهَبِيَةٌ. واسْتَمَعَ «كَرْنا» إِلَى صَوْتِ أَبِيهِ، وَهُوَ يَقُولُ: «ما أَجْدَرَكَ — يا وَلَدِي — أَنْ تَسْتَعِينَ صادِقَ عَزْمِكَ، وَتَسْتَلْهِمَ ثاقِبَ فَهْمِكَ، مُسْتَرْشِدًا بِنَصِيحَةِ أُمِّكَ.»

وَكانَ «كَرْنا» يَرْنُو بِبَصَرِهِ إِلَى السَّماءِ، مُتَّجِهًا إِلَى صُورَةِ «إِياةَ»، وَيَقُولُ لَهُ فِي خَجَلٍ واسْتِحْياءٍ: «ما كانَ لِمِثْلِي أَنْ يَعْصِيَ لِوالِدَيْهِ أَمْرًا. وَلَكِنَّ قَضاءَ اللهِ قَدْ رَبَطَ بَيْنِي وَبَيْنَ «دُرْيُدْهانا» — كَما تَعْلَمانِ — بِرِباطٍ مِنَ الصَّداقَةِ لا انْفِصامَ لَهُ. وَقَدْ أَقْسَمْنا — مُنْذُ تَعارَفْنا — عَلَى الْمَوَدَّةِ، وَحَلَفْنا عَلَى الْوَفاءِ، فَصَدَقُونِي وَعْدَهُمْ، وَما كُنْتُ لأَتَنَكَّرَ لِوُدِّهِمْ، وَأَحْنَثَ فِي يَمِينِي لَهُمْ.» ثُمَّ أَطْرَقَ بِرَأْسِهِ بُرْهَةً، واسْتَأْنَفَ حَدِيثَهُ قائِلًا: «أُقْسِمُ لَكُما — بِما أَسْدَيْتُماهُ إِلَيَّ مِنْ كَرِيمِ عَطْفِكُما، وَبِما طَوَّقْتُما بِهِ عُنْقِي مِنْ سابِغِ فَضْلِكُما — إِنِّي مُلَبٍّ لإِشارَتِكُما، مُسْتَجِيبٌ لأَمْرِكُما، وَلَنْ تَمْتَدَّ يَدِي بِالأَذَى لأَحَدٍ مِنْ إِخْوَتِي، لا أَسْتَثْنِي مِنْهُمْ غَيْرَ «أَرْجُونا»، وَسَأَقْتَصِرُ عَلَى صِراعِهِ وَجْهًا لِوَجْهٍ، وَفَرْدًا لِفَرْدٍ.» وَهَكَذا لَمْ يَظْفَرْ أَبَواهُ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذا الْوَعْدِ، فَقَنِعا بِهِ عَلَى مَضَضٍ، وَبَعْضُ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِنْ بَعْضٍ. وَغابَتْ صُورَةُ «إِياةَ» عَنْ أَنْظارِهِما، واسْتَوْلَى الْحُزْنُ عَلَى «كَنْتِي». وَلَمْ يَكُنْ لَها حِيلَةٌ فِي رَدِّ عادِيَةِ الْقَضاءِ، وَتَجْنِيبِ وَلَدَيْها ما يَسْتَقْبِلانِهِ مِنَ الْبَلاءِ. وَجاءَ يَوْمُ الصِّدامِ، فَقُرِعَتْ طُبُولُ الْحَرْبِ وَدَوَّتْ أَبْواقُها، والْتَقَى الْجَيْشانِ عَلَى مَسافَةٍ غَيْرِ بَعِيدَةٍ مِنْ حاضِرَةِ الْبِلادِ. وَدارَتْ رَحَى الْحَرْبِ، فِي غَيْرِ هَوادَةٍ وَلا رَحْمَةٍ، والْتَحَمَ الْجُنُودُ، واصْطَدَمَتِ الْمَرْكَباتُ الْحَرْبِيَّةُ بَعْضُها بِبَعْضٍ، حَتَّى إِذا حُمِيَ وَطِيسُ الْحَرْبِ والْتَهَبَ أُتُّونُها وَسُعِّرَتْ جَحِيمُها، قَفَزَ سائِقُوها إِلَى أَعْدائِهِمْ مُتَوَثِّبِينَ، مُسْتَمِيتِينَ فِي قِتالِهِمْ مُسْتَقْتِلِينَ، يَدْفَعُهُمْ جُنُونُ الْحِقْدِ وَتُلْهِبُهُمْ نارُ الانْتِقامِ واشْتَبَكَتِ السُّيُوفُ، واشْتَجَرَتِ الرِّماحُ، وَتَرامَتِ السِّهامُ كالْمَطَرِ، وَمُزِّقَتِ الأَعْلامُ، وَتَقَصَّفَتِ الْحِرابُ، واشْتَدَتْ ثائِرَةُ الْفِيَلَةِ وَهِياجُها، فَعَصَفَتْ بِكُلِّ ما لَقِيَتْهُ فِي طَرِيقِها — مِنْ جُنُودٍ وَجِيادٍ وَمَرْكَباتٍ — تَسْحَقُهُ بِأَقْدامِها الْغِلاظِ الثَّقِيلاتِ فَإِذا انْقَضَى النَّهارُ وَحَلَّ الظَّلامُ عادَ الْمُحْتَرِبُونَ إِلَى فِراشِهِمْ مُكْدُودِينَ، خائِرِي الْقُوى مَجْهُودِينَ. وَتَهْدَأُ الْجَلَبَةُ وَيَسْكُنُ الصَّخَبُ، وَيُطِلُّ عَلَيْهِمُ الْقَمَرُ والنُّجُومُ وَهُمْ مُسْتَسْلِمُونَ لِنَوْمِهِمْ كَما يَسْتَسْلِمُ الأَطْفالُ الصِّغارُ.

فَإِذا لاحَ فَجْرُ الْيَوْمِ التَّالِي انْدَفَعَ الْمُحارِبُونَ يَسَتَأْنِفُونَ الْمَعْرَكَةَ مِنْ جَدِيدٍ بَعَزِيمَةٍ تَفُلُّ الْحَدِيدَ. وَمَرَّتْ بِالْجَيْشَيْنِ الْمُتَقاتِلَيْنِ سِتَّةَ عَشَرَ مِنَ الأَيَّامِ دُونَ أَنْ تُدْنِيَ الأَمَلَ فِي انْتِصارِ أَحَدِهِما عَلَى صاحِبِهِ، وَرُجْحانِ كِفَّتِهِ عَلَى مُحارِبِهِ. فَدَبَّ الْيَأْسُ إِلَى الْقُلُوبِ، واسْتَوَلَى الْجَزَعُ والْحَيْرَةُ عَلَى النُّفُوسِ.

(٣) صِراعُ الأَخَوَيْنِ

واسْتَيْقَظَ «كَرْنا» فِي فَجْرِ الْيَوْمِ السَّابِعَ عَشَرَ، وانْطَلَقَ إِلَى «دُرْيُدْهانا» يَقُصُّ عَلَيْهِ ما شَهِدَهُ فِي الْمَنامِ لَيْلَةَ أَمْس، مِنْ عَجِيبِ الرُّؤَى وَغَرِيبِ الأَحْلامِ. وَيُؤَكِّدُ لَهُ أَنَّهُ قَدِ اقْتَنَعَ أَنَّ الْمَعْرَكَةَ لَنْ تَدُومَ أَكْثَرَ مِنْ هَذا النَّهارِ، وَلَنْ يَسْدُلَ اللَّيْلُ أَسْتارَهُ قَبْلَ أَنْ يَنْفُذَ قَضاءُ اللهِ وَيَنْتَهِيَ صِراعُ الأَخَوَيْنِ إِلَى غايَتِهِ، فَيَبْقَى أَحَدُهُما فِي الْعالَمِ الأَرْضِيِّ وَيَصْعَدَ الآخَرُ إِلَى الْعالَمِ السَّماوِيِّ. وَنَشِبَتِ الْمَعْرَكَةُ، فَتَسَلَّلَ «كَرْنا» إِلَى سُرادِقِهِ (خَيْمَتِهِ) وَتَفَقَّدَ سَهْمَهُ الْمَسْحُورَ الَّذِي أَهْداهُ إِلَيْهِ «إنْدِرا» فِيما سَلَفَ مِنَ الأَيَّامِ، وَأَوْدَعَهُ جَعْبَتَهُ، ثُمَّ انْطَلَقَ يَبْحَثُ عَنْ «أَرْجُونا» حَتَّى الْتَقاهُ وَجْهًا لِوَجْهٍ. وَنَشِبَ بَيْنَ الأَخَوَيْنِ صِراعٌ عَنِيفٌ، لَمْ تَشْهَدْ لَهُ بِلادُ الْهِنْدِ مَثِيلًا. وَهالَ الْجَيْشَيْنِ ما تَجَلَّى فِي صِراعِهِما مِنْ ضُرُوبِ الْمُفاجَآتِ. فَكَفُّوا عَنِ الْقِتالِ مَأْخُوذِينَ بِشَجاعَتِهِما وَبَراعَتِهِما مُتَتَبِّعِينَ صِيالَهُما وَهَجَماتِهِما.

وَتَحَدَّثَ بَعْضُ رُواةِ الأُسْطُورَةِ — مِمَّنْ شَهِدُوا صِراعَ الأَخَوَيْنِ — فَزَعَمُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا — فِيما رَأَوْا — أَطْيافًا مِن اللَّهَبِ تَتَخَلَّلُها أَشْباحٌ مِنَ النُّورِ، تَرِفُّ — بَيْنَ حِينٍ وَحِينٍ — فِي أَجْوازِ الْفَضاءِ، مُحَلِّقَةً فِي الْهَواءِ، هابِطَةً مِنَ السَّماءِ، وَهِيَ لا تَكُفُّ عَنْ صَدِّ نِبالِهِما وَتَعْوِيقِ سِهامِهِما — فِي يَقَظَةٍ وانْتِباهٍ — حَتَّى تَتَحَوَّلَ فِي اتِّجاهٍ غَيْرِ ما أَراداهُ، لِتُعَرْقِلَ ما قَصَداهُ. وَكانَتْ سِهامُ «أَرْجُونا» تَنْطَلِقُ طائِرَةً فِي الْجَوِّ كَأَنَّها — لِغَزارَتِها — أَسْرابُ الطَّيْرِ، وَكُلَّما أَوْشَكَ السَّهْمُ أَنْ يُصِيبَ مَرْماهُ، فَوَّتَ عَلَيْهِ «كَرْنا» غَرَضَهُ، وَحَنَى رَأْسَهُ، فَمَرَّ السَّهْمُ بِسَلامٍ. وَأَعَدَّ «كَرْنا» فِي هَذِهِ الأَثْناءِ سَهْمًا نافِذًا سَدَّدَهُ إِلَى قَلْبِ «أَرْجُونا» فَسَمِعَ الْجَيْشانِ زَفِيفَهُ وَهُوَ يَشُقُّ الْهَواءَ فَحادَ «أَرْجُونا» عَنْ طَرِيقِ السَّهْمِ، وَأَرْسَل إِلَى «كَرْنا» سَهْمًا كادَ يَصْرَعُهُ وَيُرْدِيهِ، لَوْلا تَفادِيهِ. وَكانَ الْبَطَلانِ قَدْ بَلَغا فِي صِراعِهِما الْمَدَى، وانْتَهَيا إِلَى آخِرِ الشَّوْطِ، فانْدَفَعا فِي حَماسَةٍ مُلْتَهِبَةٍ يَتَرامَيانِ بِالسَّهْمِ وَيَتَراشَقانِ بِالنِّبالِ، فَتَصْطَدِمُ النِّبالُ بِالنِّبالِ، وَتَتَكَسَّرُ النِّصالُ عَلَى النِّصالِ.

وَما زالَ الْفارِسانِ يَصْطَرِعانِ دُونَ أَنْ يُصِيبَ أَحَدُهُما مِنَ الآخَرِ مَقْتَلًا. وَكِلاهُما يَرْتَقِبُ أَنْ يَتَسَرَّبَ إِلَى صاحِبِهِ السَّأَمُ وَالْمَلَلُ، حَتَّى إِذا أَشْرَفَت شَمْسُ النَّهارِ عَلَى الْغُرُوبِ، أَحَسَّ «كَرْنا» أَنَّ الظَّلامَ يُخَيِّمُ عَلَى عَيْنَيْهِ والرِّعْشَةَ تَنْسابُ إِلَى يَدَيْهِ. فَأَيْقَنَ أَنَّ الْغَلَبَةَ لَنْ تَتِمَّ لَهُ عَلَى مُنافِسِهِ إِلَّا إِذا اسْتَعانَ بِسَهْمِ «إنْدِرا». فَلَمْ يَتَرَدَّدْ فِي إِخْراجِ السَّهْمِ الْمَسْحُورِ مِنْ جَعْبَتِهِ وَتَسْدِيدِهِ إِلَى قَلْبِ «أَرْجُونا». فَكادَ السَّهْمُ يُصْمِيهِ، لَوْ لَمْ يُسْرِعْ «إنْدِرا» السَّاهِرُ عَلَى حِمايَةِ «أَرْجُونا»، إِلَى مَرْكَبَتِهِ، فَيَضْغَطَ عَجَلَتَها بِقَدَمَيْهِ وَهُوَ مُسْتَخْفٍ عَنِ الأَبْصارِ، فَتَغُوصَ الْمَرْكَبَةُ فِي الأَرْضِ عِدَّةَ أَشْبارٍ، وَيَطِيشُ السَّهْمُ بَعْدَ أَنْ يُطِيحَ بِتاجِ الأَمِيرِ، دُونَ أَنْ يُصِيبَ جِسْمَهُ بِأَذًى. وَثَمَّ يَعُودُ السَّهْمُ الْمَسْحُورُ إِلَى يَدِ مُرْسِلِهِ — مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِهِ — بَعْدَ أَنْ أَخْطَأَ الْهَدَفَ، وَيَهْمِسُ فِي أُذُنِ «كَرْنا» قائِلًا: «ارْمِهِ بِي ثانِيَةً، فَلَنْ يُفْلِتَ مِنِّي فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ. ارْمِهِ بِي مَرَّةً أُخْرَى، فَإِنِّي مُلاحِقُهُ أَنَّى ذَهَبَ، وَصارِعُهُ حَيْثُما اتَّجَهَ.» وَهَكَذا سَنَحَتْ لَهُ الْفُرْصَةُ لِلْخَلاصِ مِنْ «أَرْجُونا» وَلَكِنَّ «كَرْنا» الشَّجاعَ النَّبِيلَ أَبَتْ لَهُ مُرُوءَتُهُ، وَنُبْلُ قَلْبِهِ وَطَهارَتُهِ، أَنْ يَعْمِدَ إِلَى قُوَّةٍ غَيْر قُوَّتِهِ، وَيَسْتَعِينَ السَّحْرَ عَلَى إِنْجازِ طِلْبَتِهِ. أَبَى مُتَعَفِّفًا أَنْ يُطْلِقَ السَّهْمَ مَرَّتَيْنِ. وَلَمْ يَكُنْ «أَرْجُونا» عارِفًا بِما يَفِيضُ بِهِ قَلْبُ أَخِيهِ مِنْ طَهارَةٍ وَنُبْلٍ وَلَمْ يَدْرِ أَنَّ شَرَفَ نَفْسِهِ وَكَرَمَ عُنْصُرِهِ، قَدْ أَبَيا عَلَيْهِ أَنْ يَنْتَصِرَ بِسِلاحٍ لا فَضْلَ لَهُ فِيهِ.

figure

وَلَوْ عَلِمَ «أَرْجُونا» ذَلِكَ لَكَفَّ عَنِ الصِّراعِ. وَلَكِنْ هَكَذا شاءَتِ الأَقْدارُ وَجَرَتِ الأَقْضِيَةُ، فَحَجَبَتْ عَنْ «أَرْجُونا» ما تَزْخَرُ بِهِ نَفْسُ أَخِيهِ مِنْ طَهارَةٍ وَشَرَفٍ. فانْتَهَزَ فُرْصَةَ اشْتِغالِ «كَرْنا» بِمُناجاةِ نَفْسِهِ، وَسَدَّدَ إِلَيْهِ سَهْمًا قاتِلًا أَطاحَ بِرَأْسِهِ، وَفَصَلَهُ مِنْ جَسَدِهِ. فَهَوَى الْفارِسُ النَّبِيلُ إِلَى الأَرْضِ صَرِيعًا مُجَدَّلًا، وَصَعِدَ رُوحُهُ إِلَى السَّماءِ، بَيْنَ الأَسَفِ والْبُكاءِ. وَتَوارَى كَوْكَبُ الشَّمْسِ خَلْفَ ما تَجَمَّعَ مِنْ الْغُيُومِ والسُّحُبِ. وَكَفَّ ماءُ النَّهْرِ عَنْ خَرِيرِهِ، وَذابَ الثَّلْجُ عَلَى قِمَمِ الْجِبالِ، وَتَوَقَّفَ الطَّيْرُ عَنْ غِنائِهِ، وَتَناوَحَتِ الرِّياحُ تُعْلِنُ فِي أَرْجاءِ الْهِنْدِ مَصْرَعَ فارِسِها الشُّجاعِ.

وَتَعالَى صُراخُ أَبْناءِ «الضَّرِيرِ» وَعَوِيلُهُمْ، وَدَبَّ الْفَزَعُ والرَّعُبُ إِلَى قُلُوبِهِمْ، فاضْطَرَبَتْ صُفُوفُهُمْ، فَكَرَّ عَلَيْهِمْ «أَرْجُونا» وَجَيْشُهُ كَرَّةً صادِقَةً انْخَلَعَتْ لَها قُلُوبُهُمْ، فَلاذَ الْجَيْشُ بِالْفِرارِ، بَعْدَ أَنْ هَلَكَ قادَتُهُمْ وَدالَتْ دَوْلَتُهُمْ.

(٤) خاتِمَةُ الْمَأْساةِ

figure

وَعادَ أَبْناءُ «الشَّهِيدِ» إِلَى أَهْلِهِمْ فَرِحِينَ مُسْتَبْشِرِينَ بِما ظَفِرُوا بِهِ مِنْ نَصْرٍ مُبِينٍ. وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَلْبَثُوا أَنْ عَرَفُوا مِنْ عَمِّهِمْ «دَرَستراسا» الضَّرِيرِ وَ«جنْدَهارِي» زَوْجَتِهِ وَ«كَنْتِي» أُمِّهِمْ وَ«فِيدورا» خالِهِمْ، تَفْصِيلَ ما جَهِلُوُهُ مِنْ قِصَّةِ أَخِيهِمْ؛ فَقَدْ عَجَزُوا عَنْ كِتْمانِ السِّرِّ، بَعْدَما فُوجِئُوا بِما أَسْفَرَتْ عَنْهُ الْمَأْساةُ الْفاجِعَةُ مِنْ فِقْدِانِ زَهْرَةِ شَبابِ الْوَطَنِ وَحُماتِهِ، وَصَفْوَةِ أَعْيانِهِ وَسَراتِهِ. وَتَجَلَّى لِعَمِّهِمُ «الضَّرِيرِ» ما جَلَبَهُ الْحَسَدُ وَالْجَورُ عَلَيْهِ وَعَلَى أَوْلادِهِ وَعَلَى وَطَنِهِ مِنْ كَوارِثَ وَأَهْوالٍ، فالْتَفَتَ إِلَيْهِمْ دامِعَ الْعَيْنِ مَحْزُونَ الْقَلْبِ، وَقالَ: «إِنَّها إِرادَةٌ عُلْوِيَّةٌ وَمَشِيئَةٌ سَماوِيَّةٌ جَرَى بِها الْقَدَرُ، وَهِيَ — كَما تَرَوْنَ — عِقابٌ رادِعٌ حَلَّ بِي وَبِأَبْنائِي جَزاءَ ما بَنَيْنا مِنْ عَداواتٍ، وَما أَسْلَفَنا مِنْ جَورٍ وَإِساءاتٍ. وَلَمْ يَبْقَ لِي فِي الْحَياةِ — بَعْدَ الْيَوْمِ شَيْءٌ — أَحْرِصُ عَلَيْهِ غَيْرَ الانْصِرافِ إِلَى عِبادَةِ اللهِ، وَقَدْ أَزْمَعْتُ الذَّهابَ إِلَى شَطِّ «الْكَنْجِ» حَيْثُ أَقْضِي ما بَقِيَ مِنْ أَيَّامِيَ الْقَلِيلَةِ فِي النُّسْكِ والاسْتِغْفارِ، والتَّوْبَةِ مِمَّا أَسْلَفْتُ مِنْ ذُنُوبٍ كِبارٍ.» وَأَقَرَّتْهُ زَوْجُهُ «جُنْدُهارِي» عَلَى فِكْرَتِهِ، وَصَحِبَتْهُ إِلَى صَوْمَعَتِهِ، حَيْثُ تَعْبُدُ رَبَّها وَتَقْضِي إِلَى جِوارِ زَوْجِها ما بَقِيَ مِنْ عُمْرِها. وَلَمْ يَدَّخِرْ أَبْناءُ «الشَّهِيدِ» جُهْدًا فِي تَعْزِيَتِهِما، وَعَقَدُوا الْعَزْمَ عَلَى مُصاحَبَتِهِما إِلَى مَقَرِّهِما، حَيْثُ أَقامُوا شَهْرًا كامِلًا فِي صَوْمَعَتِهِما، يَعْبُدُونَ اللهَ عَلَى ضِفَّةِ النَّهْرِ. ثُمَّ وَدَّعُوهُما، بَعْدَ انْقِضاءِ الشَّهْرِ. عائِدِينَ إِلَى وَطَنِهِمْ، حَيْثُ أَقامُوا الْعَدْلَ بَيْنَ النَّاسِ، وَنَشَرُوا بَيْنَهُمْ رُوحَ الصَّفْحِ والرَّحْمَةِ والإِحْسانِ، وَوَقَفُوا عَلَى الإِصْلاحِ جُهُودَهُمْ، فَعَلا شَأْنُهُمْ، وَثَبَتَ مُلْكُهُمْ، وَعَزَّ سُلْطانُهُمْ، وَكَثُرَ أَنْصارُهُمْ، وَخَلا الْجَوُّ لَهُمْ، بَعْدَ أَنِ انْدَحَرَ حُسَّادُهُمْ وَهَلَكَ أَعْداؤُهُمْ. وَصَحِبَتْهُمْ عِنايَةُ اللهِ وَتَوْفِيقُهِ، فَدانَتْ لَهُمُ الأَيَّامُ، وَبَلَغُوا مِنْ دَهْرِهِمْ الْمَرامَ، وَعاشُوا بَيْنَ مُلُوكِ الْهِنْدِ، مُتَفَرِّدِينَ بِالثَّناءِ والْحَمْدِ، مَوْصُوفِينَ بِالْبُطُولَةِ والْمَجْدِ. وَأَصْبَحُوا بَعْدَ مَوْتِهِمْ مَضْرِبَ الأَمْثالِ — عَلَى كَرِّ الْعُصُورِ وَتَوالِي الأَجْيالِ — فِي الإِقْدامِ والشَّجاعَةِ، والتَّفَوُّقِ والْبَراعَةِ: جُنُودًا مُحارِبِينَ، وَهُداةً مُرْشِدِينَ، وَحُكَّامًا مُصْلِحِينَ..

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤