التنظير بين المدنيتين وأهلهما

عرضنا في المحاضرات الأربع السالفة لاختلاط الغربيين بالعرب في الأندلس وصقلية، وفي الحروب الصليبية وعهد الاستعمار الغربي، وذكرنا ما أنتجته عقول العرب من العلوم والفنون فأخذته أوروبا عنها، ثم تحدثنا إِليكم فيما اقتبسه العرب بعد انحطاطهم من مدنية الغرب الحديثة، والآن ننهي هذه السلسلة ببيان الفرق بين الحضارتين والقائمين بهما، وهو موضوع منتشر الأطراف لا تتسع له عدة محاضرات، ولكن ما لا يُدرك كله لا يُترك جُلُّه، فنقول: لكل مدنية قامت في الأَرض روح تتجلى فيه؛ ذلك لأن المدنية ابنة عوامل كثيرة، فالعامل الذي له الشأن الأول في قيامها هو البارز فيها المتسلط عليها، فالمدنيتان اليونانية والرومانية أقرب إِلى المدنيات المادية، ومدنية الرومان هي المادة بعينها، وفي المدنية اليونانية شيءٌ من المعنويات من شعر وفلسفة وعلم، والمدنية الهندية روح كلها فنيت فيها المادة في الروح، وجاءت المدنية العربية تنهج طريقًا وسطًا؛ فأخذت بقدر كبير من المعنويات، ولم تغفل عن الماديات، فكانت في ذلك معتدلة، فما كثُر الشقاء في أرضها، ولا أفرطت السعادة، ولعلنا لا نبعد عن الحق كثيرًا إِذا عرَّفنا المدنية الغربية الحديثة بأنها مدنية مادية والمعنويات تابعة لها، والمدنية العربية مدنية روحية والماديات تبع لها.

وإِذا جئنا نَحُلُّ المدنية الغربية اليوم، نجدها تحت سلطتين؛ سلطة الممولين خزنة الأموال، وسلطة أَرباب القوة من رجال الجندية، وكل ما هناك من حسنات تلك الحضارة من علم وصناعة خادم لتينك السلطتين، وهكذا كانت الحال منذ انبعثت الشعلة الأولى من النهضة في إِيطاليا، وتحررت العقول من قيودها، والألسن والقلوب من عقالها، والظاهر أن مدنية الغرب منذ تخلصت من سلطة الدينيين أزهرت وأثمرت، ومدنية العرب منذ ضعف جوهر الدين في نفوس القائمين بها، ووقعت في سلطة الزعماء على الدين تراجعت وتضاءلت؛ أي إن الباباوات لما كانوا المتحكمين بمعظم أهل الغرب كانت المدنية هناك على حالة ابتدائية يصعب أن تسير إِلى الأمام، فلما قام الإِصلاح الديني ونزلت الكنيسة عن تسلطها على كل شيءٍ، ورأى الناس عاقبة التنازع على الدين بما أُصيبوا به من النكبات ظهرت تباشير المدنية ناجية من تلك القيود الثقيلة.

أما في الشرق، فإِن المدنية العربية قامت بروح الدين أولًا، وكانت سلطة رجال الدين ضئيلة لا تتعدى دائرة معينة؛ لأن الرياسة الروحية مفقودة في الإِسلام، خلافًا للسلطة النصرانية في القرون الوسطى، فإِنها كانت منظمة مرتبة، ولها السلطان كل السلطان على أرواح المؤمنين، تدبرهم في عامة شئون الحياة، وتسيطر على الدقيق والجليل من حركاتهم وسكناتهم. وكأن الكنيسة كانت حاكمة مطلقة والملوك عُمالها، ينفذِّون أمرها ويأتمرون برأيها، فلما ارتخت تلك القوة، خَلصَت المدنية من المؤثرات التي طالما عاقتها، والأمر عند العرب على خلاف ذلك من بعض النواحي.

ويشهد الناظر في تاريخ الغرب أن الكنيسة بما كان لها من الحَوْل والطَّوْل في كل أدوارها، وبما تمتعت به من السلطان على النفوس، تختط لها طريق سلامتها في الأرض والسماء؛ قد خدمت المدنية بعض الشيءِ على عهد نوابغ من رؤسائها، حتى إِذا استمتع الملوك بحرياتهم تناولوا أعمال المدنية فخدموها زمنًا؛ فالمدنية انبعثت من الكنيسة أولًا، ثم وصلت إِلى الملوك، وجاءت الشعوب بعد ذلك تأخذ بطرائقها، فتم للمدنية ما يتوقف عليه إِنهاضها، أما في الأقطار التي خفق عليها عَلم العرب، وأمدوها بروحهم وتعاليمهم، فكانت المدنية يرعاها الرعاة والرعايا معًا منذ خُلقت، يعمل العلماء فلا ينازعهم عقلاء الملوك، ويحمونهم من اعتداءِ المتعصبين، ويرعونهم كل الرعاية، ويولونهم صنوف الكرامة، فما عُرفت في الإِسلام طبقات ولا امتيازات، ولا دعا إِلى التسلط على نحو ما دعت الكنيسة قبل عهد الإِصلاح، وكان السلطان الأول في الدول العربية للقائمين بالدولة من الملوك والأمراء فقط.

ومن أجمل ما كان في المدنية العربية تجلِّي روح التسامح فيها مع من كان يدين بغير دين الدولة القائمة، ورأينا المدنية الغربية لا تحتمل إِلى عهد قريب طائفة تخالف رأيها؛ فقتلت من بَنيها وغيرهم خلائق لا يأخذهم العد في معظم أدوارها، حتى أدخلتهم طوعًا أو كَرهًا في دين السواد الأعظم، وما رضي الغربيون حتى بعد عصر النهضة من بلد رُفِع عنه عَلَم العرب إِلا أن يتنصر أهله، على نحو ما فعلوا في الأندلس وصقلية وجزيرة أقْرِيطش وغيرها، وما عُهِد للعرب مثل هذا الشَّطَط. وإِذا أحسنَّا الظن في تعليل عمل الغرب، نقول إِن الغربيين في سيرتهم هذه دلُّونا على شدة غرامهم بالنظام والتوحيد، فهم لا يرتاحون للشذوذ في قوانين الجماعة، ولا يهنأ لهم بال إِلا إِذا عاهدهم معاهدوهم على المطلق من الطاعة.

ومن غريب أمر الغرب في تغاليه بالنظام أن الكنيسة قضت على الرهبان والراهبات أن يَنْذُروا العفة لا يتزوجون؛ لينقطعوا إِلى ما هم بسبيله من الدرس والعبادة والدعوة إِلى دينهم، مع أن النصرانية لم تُحرِّم في أصلها زواج الدينيين، ومضت القرون الثلاثة الأولى عليها ورجال الدين فيها يولدون، ولكن حب النظام دعا إِلى أن حرموا مئات الألوف من البشر التناسل، وبالحظر على خَدَمة الدين تأليفَ أُسرة خرجوا عن الطبيعة الإِنسانية، وتغاضوا عما يجر ذلك من الكبائر والمنكرات أحيانًا، على أن كلًّا من البرتستانتية والأُرثوذكسية قضت على رعاتها بالزواج وما تخلخل نظامها.

أنكر بعض الشعوبيين من أعداء العرب فضل المدنية العربية على العالم في زمن العُنْجُهيات القومية، أنكروا ذلك لمَّا ضعُفَ سلطان العرب في الأرض، وسخروا مما يقول به المنصفون منهم متى عُدَّ ما أورثته العرب للإِنسانية، وزعموا أن المدنية الغربية هي المدنية، وما عداها فخطوط غير مرسومة على ما يجب، فهي كعلم جابر: «اقرأ تفرح جرب تحزن»، وإِن كان ثمة ما يُسمَّى مدنية فهي مدنية الفراعنة والأشوريين والبابليين واليونانيين والرومانيين؛ ذلك لأن المدنية العربية لم تنشأ فيها تماثيل ولا نُصُب، ولم تثبت لها كفاءة عظيمة في النقش والتصوير، وهم على شيءٍ من الحق في دعواهم؛ ذلك لأن العرب لم يولعوا كثيرًا بالمحسوسات، وليس في حضارتهم من هذه ما يعتد به كثيرًا بالقياس مثلًا إِلى ما خلفه الرومان. وذهب الغرض ببعضهم إِلى أن قالوا إِن المدنية العربية لم تأتِ بغير الضرر مع أن الغرب لم يعرف الرومان واليونان أيضًا إِلا من طريق العرب؛ كلام مَن يعتزُّ بالقوة القاهرة، ويحكم بالظواهر، ويُعْميه الهوى الجنسي والنزعات السياسية، فما دام القائل لم يُحِسَّ المدنية العربية ولم ترَها عينه، فهي إذن غير موجودة ولا وُجدت! ومن يقول هذا من العبث أن نناقشه لنقنعه.

العرب لم يخلفوا آثارًا عظيمة كأهرام الفراعنة، ولا قلاعًا وطرقًا وهياكل من النوع الذي خلفه الرومان؛ ذلك لأن شريعتهم حَظَرت السخرة، وما أباحت إِشقاء إِنسانٍ لسعادة غيره، والرقيق الذي قام بيده معظم ما نراه من مصانع الأمم البائدة، كان يعامَلُ في الإِسلام معاملة الحر برحمة وشفقة، حتى كاد المولى يُعد من أهل البيت الذي استرقَّه، ودولة العرب لم تَطُل أيامها كما طالت أيام الفراعنة والعمالقة وعاد وثمود ويونان، ولو عرف الناقدون هذا، وقدَّروا الأمور في موازين القسط، لَمَا وسعهم إِلا الإِعجاب بما تم في زمن قليل من نهضة العرب، ومن لا يقيس الأمور بمقياس الماديات لا يتحرج من الاعتراف بأن العرب تجافوا كل التجافي عن إِرهاق أحد، فكانت مَدنيتهم شعبية ديمقراطية بعيدة ما أمكن عن منازع الزعامات الأرستقراطية، وكان من نتائج تعاليمها، ومنها إِكراه الأغنياء على إِخراج زكاة أموالهم للفقراء، إِذا لم ينْزِلوا عن جزءٍ منها برضاهم؛ أن لم يُعهد في العرب اشتراكية ولا فوضوية ولا عدمية، ولا ممولون كممولي الغرب يعملون الحرب ويعقدُون الصلح، ولا احتكارات كاحتكارات الغرب في الصنائع والتجارة، ولا هذا الشقاء الذي عمَّ وطمَّ، وأهلك الحرث والنسل، وقصاراه إِفقار جماعات وإِغناءُ أفراد.

ربما كان من جمع الثروة في أيدي أفرادٍ بعض الفائدة للحضارة، والحضارة ابنة الثروة والغنى؛ لأن من أهلها من يبنون القصور والمصانع الجميلة، وقد يفضل بعضهم على الأعمال العامة، ولكن هل يوازي يا تُرى قتل أُلوف من النفوس لإِحياءِ نفسٍ واحدة؟! وهل من العدل الطبيعي أن أسمن وأتْخَم ويَهْزل مئات ويجوعوا، وأن أستوفي حظي من السعادة وأسباب الهناءِ، ويشقى لأجلي مَنْ وراءَ جداري كل الشقاء؟! تعاليم العرب بعيدة عن هذه الهَنَات، وإِن شذَّ عنها بعض الأغمار من أصحاب السلطان في بعض العصور اعتدادًا بما لهم من القوة والجبروت، فمجموع تاريخ الإِسلام كان صورة أخرى، ومعظم المصانع العربية قام بأموال الدول، أو بأيدي زعمائها وأصحاب الخير من الناس، وفيها مسحة الفردية.

المدنية العربية ما فرَّقت منذ كانت بين الأجناس والعناصر، فكان كل من يدخل في الإِسلام، أو يعاهد أهله ويخلص لهم من أهل المِلل الأخرى موفورَ الكرامة في الدولة، ذلك هَدْيُ الدين وليس في وسع القائمين بالأمر أن يتعدوا حدوده، بل كانت مرونتهم في تطبيق النقل على العقل أبدًا، ومن حاول أن يخرج عن هذا الحد هلك فيما كان يتوهم فيه النجاة، قام في ذهن جلال الدين محمد أكبر سلطان المغول في الهند وأعظم ملوك القرن الخامس عشر أن يوحِّد الأديان والأجناس، فجمع لذلك مؤتمرًا انتهى بالسباب والشتائم بين المؤتمرين، وفاته أنه يحاول إِخراج الناس عن طبائعهم، وعن نُظُم الحرية الشخصية، وأعظم ما يستميت المرء في حبه دينه ولسانه، ومن المتعذر أن يعقَّهما الإِنسان إِلا بدافع لا قِبَلَ له بدفعه، أو بوازع نفسي شاذٍّ ولا قياس على الشذوذ.

حاول أكبر إِدخال التجديد في الهند ونسي على نبوغ فيه أن الإِسلام مع ما بلغ من سلطانه، لم يُكْره أحدًا على انتحاله، وأجمع أرباب العقول أن من السخف فرضَ الأديان على الناس، ورأينا بعض دعاة المدنية الحديثة ينوعون الأساليب لإِدخال الناس في معتقدهم بطريقة من طرق الدعوة، وقلَّما أفلحوا على كثرة ما بذلوا وجهدوا، وهذه إِسبانيا حكمت الفيليبين ثلاثمائة سنة، وما تركت في قوس الجُهد منزعًا لتزحزح المسلمين عن عقيدتهم؛ أغلقت جوامعهم، وحظرت اجتماعاتهم، وشرَّدت زعماءهم، ولما استولت الولايات المتحدة الأمريكية على تلك الجزائر سهَّلت للمسلمين من أهلها جميع طرق الارتقاء، وأتتهم بمن علَّمهم أُصول دينهم، فارتقوا في ظلها في ثلاثين عامًا رقيًّا ما عرفته أُمة آرية بيضاء في مائة سنة، والغالب أن لطبيعة العنصر الإِسباني والعنصر الأمريكي دخلًا كبيرًا في ذاك التحكم البارد، وهذه الحرية المطلقة.

ما قامت دولة العرب بروح القومية، ونغمة القوميات جديدة رددت صداها الأرجاء الغربية في القرن الماضي؛ فتألفت الأمم بحسب ما ارتأت من أنظمة وضعتها لها، وعلى ما كان في الدعوة إِلى القوميات من المنافسة المحمودة بين البلاد كان منها أن أدت أيضًا إِلى أن يكره أهل كل لسان أهل اللسان الآخر، ودينهم واحد وكتابهم واحد؛ فالأمم الأنجلوسكسونية تبغض الشعوب اللاتينية، والشعوب الجرمانية تكره الصقالبة، واللاتينية تحقد على الجرمانية والسكسونية، وهكذا رأينا في عصرنا أثر هذه الكراهة باديًا على ما لم يعرف البشر أفظع منه، وها قد انقضت الخمس عشرة سنة الأخيرة، وأمم الأرض تحاول أن تنجو من غوائل الحرب التي أوقدوا نارها، فلا يجدون إِلى ذلك مخرجًا. وثبت للأمم أن ما دَهمها من الدواهي هو من نتائج الأوهام التي تتخيلها الدول الكبرى من الاستئثار بمغانم الأرض كلها، وأن المغريات التي كان بعض من لا يهمهم إِلا الظفر، ولو بإِهلاك ربع البشر، كانت قانونًا جائرًا لا توافق الطبيعة على تطبيق مفاصله. وعجيب بعد هذا حال من يعدون السعادة كل السعادة الفوز برضى مجالس النواب، والذهاب بأماديح الصحف وصفحات التاريخ، وعجيب في هذه المدنية الحديثة أن تتمحل الأعذار للقتلة وتقدس السفاكين، وإِذا نصح لهم ناصح من أهلهم عدوه غِرًّا جاهلًا، وألَّبوا العوام عليه فمقتوه وشردوه، أو قتلوه؛ لأنه قال الحق ولم يزل قائله من الممقوتين.

وضع الرئيس ويلسون مواده المشهورة فزيفه بعض أَرباب الأهواء من الغربيين، وقالوا إِنه كلام أستاذ في جامعة؛ أي إن تعاليمه نظرية غير عملية، وبعد مدة ظهر أن الحق كان في جانبه، ولكن العمل بالحق في هذه المدنية من الأمور الصعبة، ويلسون الذي تشبَّع بقاعدة بلاده الذهبية: أمريكا للأمريكيين، لا يرى السعادة للمدنية والإِنسانية إِلا أن يُطبق رمزه في كل مكان؛ يريد الهند للهنود ومصر للمصريين وتونس للتونسيين، هو يقول بالرحمة فوق العدل، وعسى أن لا يكون عقل أهل القرن العشرين في هذا المعنى أحط من عقل العرب في القرن السابع.

نحن لا نتابع رأي من يقول من الغربيين اليوم إِن الغرب الآن في دور سقوطه ولم يبقَ أمل في نهوضه، وإن أهل الطبقة الوسطى قد اضمحلوا، وإن الغرب اغترَّ بأن نجاحه أبدى مضمون النتائج، وأخرج الناس من عمل الأرض وأنشأ طبقات من الفقراء كانت الآلة داعي شقائها، وإن المجتمع الحديث حاول أن يبتاع كل شيء؛ ابتاع الصحافة والأفكار والنساء والرفاهية، وما استطاع أن يشتري روح الأشياء؛ ولذلك يعود الغرب إِلى الهمجية، ويدخل في دور يشبه القرون الوسطى بل أحط منه، وكان ذاك الدور يفضل هذا بسذاجته وجميل فطرته، نعم، نحن لا نشايع القائلين بذلك، ونعوذ هذه المدنية أن تصيبها بائقة تأتي على الشرق والغرب معًا، وهذا القرن على ما فيه من الشرور والمآثم يعيش الناس فيه عيشًا طيبًا لم يُكتب في الدهر السالف مثله حتى لكبار الزعماء والملوك، وابن الطبقة الوسطى اليوم أنعم حالًا وأهنأ عيشًا من عظماء أمس؛ يتمتع ويغتبط بما لم يُعهد مثله في الدهر الغابر.

يقول كاتب العصر آناتول فرانس: إِن الواجب أن لا نثلب هذه الحضارة، ومن يجسر أن يفعل ذلك؟ أما أنا فأحب النور حتى ما يحرق منه، أساء رنان الظن بعقبى الأجيال القادمة، وما ظلمهم كثيرًا فيما أحسب؛ فقد كان يعتقد أن الجهل يفشو في العالم على صورة مطَّردة هائلة، وأن آخرة مدنيتنا ربما انتهت بالجهالة، ولعله كان يبالغ، وأنا أيضًا أحمل نفسي على المبالغة، ولن نعدم برهانًا لإثبات هذا القياس المقلق، ولعمري هل المدنية المادية غير سهولة كل شيء، والتمهيد لكل شيء، وقلة الجُهْد، وفقد الشخصيات؟ إِن الآلات تعمل عملها لا تحفِل ما فيها من ضرر، ونحن لسنا بمأمن من شر سحقها لنا، وسيتجلَّى لفلاسفة الأجيال المقبلة أن الحضارة في القرن التاسع عشر، وهي ميكانيكية وعلمية، قد أدخلت البلادة على عقول الناس، وأنزلت المستوى العقلي حتى ابتُذل، وعلى قدر ما انتفعنا بالصحافة والكهرباء تخلَّينا عن الدرس؛ فنحن نهمل درس العلوم الأدبية، ونُعْنَى كل العناية بصنع آلات أكثر من عنايتنا بتربية نفوس، والجراثيم الضارة تربَّى في أرضنا على غاية من السهولة، وفي الزمن الغابر كانت بذور الجراثيم تنمو في بعض النفوس الخاملة على خفاء، أما الآن فتنمو وتلوث جميع الرءوس التي ألِفت الرذيلة، ففساد السياسيين، وفضائح المضاربين، ومفاخر السارقين، وجميل جرائم المجرمين، كل أولئك يطير ويسير ويُفسد النفوس بإِسراع الصاعقة، أريد أن أقول بسرعة البرق؛ أي على معدل ثلاثمائة ألف كيلو متر في الثانية.

ثم ذكر فضائح الصحافة وسعيها أبدًا لإِسقاط كل صاحب مكانة لتُضحك قراءها، وتعلِمهم ثلْم الأعراض، وكشف كلِ سِترٍ، وقال إِن القِحَة هي أول ما يتجلى في المجتمع الحديث، والثاني احتقار الثقافة الحقة التي استعيض عنها بِطِلاء أوَّلي سطحي مستعار، وكان الناس قبل هذه المخترعات الكبرى يتفاوضون قليلًا، ويوجزون فيقتصرون في تناجيهم على إِيراد الأمور الجوهرية، وكان الناس طبقتين: علماءَ وجهلاء، أما الآن فقد قربت المساوف، وتعبد كل صعب، وسَهُل كل أمر، وأخذ كل واحد يُتحف صاحبه بما عنده من التافهات والبلاهات، يتكلمان في كل شيءٍ ولا يحفلان شيئًا من الأشياء، وكيف نُعجب بمدنيتنا وهي تفقد الروح ولا معبود فيها ولا هدف لها، وليس فيها حقيقة جوهرية واحدة تزيد على ما كان في الحضارات السالفة، نحن مقبِلون في كتيبة من الجهل والغرور على مستقبل فيه قِحة، وفيه بلبلة، وفيه سفاهة، ولعله لا يخلو من بلاهة وغباوة، كان فلاماريون يرى أن العالم ينتهي أَمره ببرودة سطح الأرض، ومن رأي سولي برودوم أنه سيضمحل بالإِفراط في الشهوات، وأَنا أرى أن التُّرَّهات المنبعثة عن الجهالة والغرور تطفئُ النور الأوروبي على نحو ما أطفأت الأنوار القديمة. ا.ﻫ.

•••

قارن علماءُ هذا العصر بين المدنية العربية وغيرها، ومن أقرب الآراءِ التي رأيناها إِلى الاعتدال رأي العلَّامة جوستاف لوبون، قال إِنه كانت للعرب صفات ومساوئُ عظيمة جدًّا واستعدادٌ عقلي عالٍ؛ فهم أحطُّ من الرومان بأوضاعهم السياسية والاجتماعية وأعلى منهم كعبًا في اتساع معارفهم في العلم والصناعة، وقد أحرزوا في الجملة مقامًا عاليًا في التاريخ، ولم يُظهر الرومان كفاءة في الصناعات والعلوم، وكان اليونان سادتهم في عامة الشئون العقلية، ومع هذا فقد استعبد الأولون الآخرين، والحكم على القيمة العقلية في أُمة وعلى ارتقائها في سلم المدنية مقرون بما أَخرجت من الرجال، فإِذا جمعت إِلى تفوقها العقلي عددًا غير قليل من أبنائها النابغين، وكان سوادها الأعظم مؤلَّفًا من أفراد هم وسط في ذكائهم وتعلُّمهم، واتصفوا بأخلاق عالية، كان في ذلك رفعتها، ولقد جاء رجال ممتازون من العرب، وما وُفِّقوا إِليه من الأعمال وكشفوه من الحقائق العلمية دليل على مكانتهم، ولكن العرب لم يُرزقوا فيما أحسب رجالًا من عيار نيوتن وليبنز اللذين قلبا العالم بما كشفاه، فالعرب إذن أحط من اليونان في كثير من المسائل، مساوون ولا شك للرومان بذكائهم، وإِذا قستَ العرب بالشعوب الأوروبية الحديثة، أمكنك أن تقول إِنهم من حيث العقل والأخلاق أسمى مكانة من كل الأمم التي عاشت قبل عصر النهضة، وقد فاقوا بأخلاقهم أجدادنا كثيرًا.

قال: ذهبَت ريح العرب قبل عصر النهضة في الغرب — أي قبل القرن الخامس عشر — ولا يتيسر لنا الحكم الآن عما يكون من أمرهم ذات يوم لو كُتِب لهم البقاء، ولا نعتقد أنه كان في وسعهم أن يتجاوزوا المستوى الذي بلغوه؛ فإِن انحطاط أوضاعهم كان يُحدِث لهم مشاكل صعبة، ومن الحَيْف أن يقابَل بين العصور الحديثة، والعصور التي اضمحل فيها سلطان العرب، وإِذا كان لا مناص من هذا التنظير، فلنا أن نقول إِن الرجال الممتازين عند العرب كانوا أحط من الرجال الذين يقابلونهم من أهل العصر الحاضر، ولكنَّ الأفراد المتوسطين فيهم ساووا وربما فاقوا أهل الطبقة الوسطى في الشعوب المتمدنة اليوم، ولو رُزِق العرب بل الصينيون والهنود اليوم طبقة ممتازة من الرجال بالنظر لِما عندهم من الطبقة المتوسطة الصالحة لضاهوا الأوروبيين وفاقوهم وخلفوهم في تمثُّل هذه المدنية الحديثة. ا.ﻫ.

وقال العلَّامة دوزي: «إِن العرب ترجموا كثيرًا من كُتب الأقدمين وعلقوا عليها شروحًا، فاغتنت بأعمالهم بعض فروعها، واتسع نطاقها باستدراكاتهم البالغة غاية الدقة والوضوح، ولكنهم لم يخترعوا شيئًا، ولا ندين لهم بأدنى فكرٍ عالٍ أو واسع، وهكذا فإِن بيننا وبينهم اختلافات أصلية، وربما كانت أخلاقهم أسمى من أخلاقنا، ونفوسهم أكبر من نفوسنا، وهم أكثر ميلًا إِلى العظمة الإِنسانية، لكنهم لا يحملون بذور النهضة والنجاح، ومع ما هم عليه من الولوع بالاستقلال الشخصي، يظهر أنهم، على ما انطووا عليه من الأفكار السامية، غير قادرين على الخضوع لقوانين المجتمعات.» ا.ﻫ.

وقول لوبون: إِن العرب لم يظهر فيهم مثل نيوتن وليبنز اللذين قلبا العالم في مادياته، لا يصح فيما نرى على إِطلاقه؛ فقد ظهر فيهم علماءُ غيَّروا بأبحاثهم صورة المادة، وأحسنوا الانتفاع بها في مسائل كثيرة، ولكن أولئك العلماء لم يوفقوا أن يتموا أعمالهم كلها، وما كُتِب لهم أن يسير مَن بعدهم على آثارهم لِما دبَّ من الانحطاط في الدول العربية، أما مَن ذكرهم لوبون ممن قلبوا في العهد الحديث صورة العالم بما أبدعوا، فقد تجسدت فيهم حكمة القدماء، وورثوا علومهم كلها، واهتدوا بتجاربهم، وزادوا عليها أمورًا هيأها الزمن لهم، فكان منهم ما كان، وقول دوزي إِن الغرب لا يدين للعرب بأدنى فكرٍ عالٍ، مردود عليه؛ لأن العرب — كما قال كثير من الباحثين من الأمريكان والإِنجليز والألمان والفرنسيس — هم الذين مدَّنوا أوروبا بأن نقلوا إِليها أنوار الأقدمين، وما أضافوه من مخترعاتهم وأبحاثهم، ولا مجال للمماحكة فيما استنبطوه وخدموا به المجتمع الإِنساني، أما قوله إِن العرب كانوا غير قادرين على الخضوع لقوانين المجتمعات، فهذا صحيح في الجملة؛ ذلك لأن إِفراط العرب في حب الحرية حملهم على التجافي عن الخضوع للزعماءِ، وإِيغالُهم في عِزَّة النفس دعاهم إِلى الخروج على الجماعة، فعادوا بعد حين إِلى ما كانوا عليه في الجاهلية لا يأتمرون بأمر، ولا يذعنون إِلا لسلطان شهواتهم، فكان ذلك علة العلل في ذهاب سلطانهم.

عُرضت للعرب عوارض عَرض مثلها للأمم التي أحطنا بتاريخها قبلهم وبعدهم؛ فقد امتزجوا بغيرهم من الشعوب امتزاجًا كثيرًا قوَّى فيهم نواحيَ وأضعف أخرى، فمن أنحاء الضعف أنهم خلطوا دمهم بدماءٍ غريبة، فأدخلوا فيه ما لو تصوَّنوا عنه لظلوا أرسخ قدمًا وأسلم دمًا؛ دخل فيهم التُّرك والفُرس والروم وغيرهم، كما دخل في دم التُّرك العثمانيين بعدُ دمُ البجناكي والبولوني والبندقي والرومي والروسي والمَجري؛ فوُلِد لهم جنس جميل الملامح والسحنات، ولكنه أخرجهم عن عنصرهم، فكان من ذلك انحلال أمرهم.

ومهما قال القائلون إِن الغرب لا يدين للعرب بفكرٍ عالٍ ولم يخرج منهم أمثال نيوتن وليبنز، فإِن العرب هدوا أوروبا إِلى العالم اللاتيني واليوناني، وعاشت الجامعات الأوروبية ستمائة سنة من مترجمات كُتبهم، وجرت على أساليبهم في البحث، فقد قال لوبون أيضًا: إِن المدنية العربية من أدهش ما عرف التاريخ، وإِن المرءَ كلما تعمق في دراستها تجلت له أمور جديدة، واتسعت الآفاق أمامه، وثبت له أن القرون الوسطى لم تعرف الأمم القديمة إِلا بواسطة العرب، وأنهم هم الذين أتوا أوروبا بما أتوها به من مدنية أنعشتها في الماديات والعقليات والأخلاق، ومتى درس المرء أعمال العرب العلمية وما كشفوه، ثبت له أنه ما من أُمة أنتجت مثل ما أنتجوه في هذه المدة القصيرة التي كُتِب لمُلكهم قضاؤها، وقال: قد يكون من الأوروبيين مستعمرون ماهرون، ولكن منذ عهد رومية كان المسلمون من الشعوب الوحيدة التي حملت عَلم الحضارة حقيقةً، وهم الذين فازوا وحدهم بنشر المواد الجوهرية من المدنية، وأعني بها الدين والأوضاع والصنائع، بين ظَهْرَيْ عناصر جديدة من غير عنصرهم. قال: وإِذا نظر المرءُ في صنائعهم وفنونهم لا يسعه إِلا الاعتراف بأنه كانت لهم ميزة خاصة لم تبلغها أمة، ولئن كان تأثير العرب في الغرب عظيمًا فإِن تأثيرهم في الشرق أعظم، وما من عنصر أثَّر تأثيره قط. فإِن الشعوب التي دانت لها الأرض كالأشوريين والفُرس والمصريين واليونان والرومان قد عَفت القرون آثارها، ولم يخلفوا سوى آثار ضئيلة بحيث لم يبقَ سوى ذكريات أديانهم وألسنتهم وفنونهم، وقد اضمحل أمر العرب أيضًا ولكن أعظم عناصر مدنيتهم وهي الدين واللسان والصنائع لا يزال حيًّا، وقال: إِن العرب أول من علَّم العالم كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين.

وقال العلَّامة فمبري: «كان الإِسلام — وما برح — الدين الذي فاق سائر أديان العالم شورى وديمقراطيةً، وكان مصدر الحرية وينبوع العدل والمساواة، فإِن كان العالم قد شهد حقًّا منذ أول عهد العمران البشري إِلى اليوم حكومة شورية دستورية فهي — لَعَمْرِي — حكومةُ الخلفاء الراشدين.» وقال نوبرجر: «فاقت المدنية العربية في أوج إِمبراطورية الإِسلام مدنيةَ رومية القديمة في حيويتها وتنوعها، وكان لحضارة الأندلس مركز يشبه من عدة وجوه حضارة اليونان القديمة.»

وقال دوسن: «إِن المدنية الأوروبية بل المدنية الغربية كلها مَدينة للمسلمين بثمرات حكمة الأقدمين، وإِن فتوحات العرب في إِمبراطورية الإِسلام من القرن السابع إِلى الخامس عشر لتُعدُّ إِحدى عجائب التاريخ، ومن المدهش أن يصبح العرب — وكانوا أول أمرهم على الفطرة — عنصرًا فاتحًا ويمسوا سادة نصف العالم في مائة سنة، ومن أشد العجب حماستهم العظيمة، وسرعتهم البالغة في تحصيل العلوم وتكوين الثقافة اللازمة لعظمتهم حتى بلغوا مستوى عاليًا في مائة عام، بينا نرى الجرمانيين لما فتحوا الإِمبراطورية الرومانية، قضوا ألف سنة قبل أن يقضوا على التوحش وينهضوا لإِحياء العلوم.» وقال غوتيه: «إِن محصول المدنية العربية في العلم على اختلاف أنواعه يفوق محصول المدنية اليونانية كثيرًا؛ ذلك لأن العلم العربي كانت له أصول قديمة، أما في الفنون والآداب فإِن دائرة اليونان أوسع من دائرة العرب بكثير.» ا.ﻫ.

وما لنا وكل هذا؟ فحسنات المدنية العربية ثابتة لا ينكرها إِلا ذو غرض متعصب، وإِذا كان فيها بعض نقص فالوقت لم يسمح للعرب بتلافيه أو الأخذ به إِلى مستوى أرقى منه، ووضع الأَساس في كل بناءٍ أصعب من نقشه وترتيبه، وهل يُعقل أن تُخلق المدنية كاملة من أول يوم، وهي تحتاج إِلى أن تعمل في تشييدها عقول كثيرة وأجيال مختلفة، حتى تبلغ درجات الكمال؟! ومخترعات أوروبا ومكشوفاتها في القرنين الأخيرين تشهد بذلك، رأينا أممًا كثيرة شاركت فيها حتى صعب في بعضها أن تتبين يد الواضع الأول، وشهدنا القرنين اللذين سبقا القرن التاسع عشر والقرن العشرين كأنهما كانا ممهدين لما سيقع بعدُ من العجائب في العلم والصنائع.

وإِذا جئنا نستفتي لوبون أيضًا في سر هذه المدنية العربية، أجابنا أن اعتياد العرب الحروب والغارات في الجاهلية كان منه قيام أمرهم في الإِسلام؛ فبعد أن كان بأسهم بينهم وجهوا غاراتهم نحو الأجانب فكان في ذلك قوام أمرهم، ولما لم يبقَ أمامهم أعداءٌ يقاتلونهم عادوا يتقاتلون فأدَّى ذلك إِلى انحطاطهم، وأهم العوامل في امتداد حكمهم، اجتماع كلمة قبائلهم المختلفة تحت عَلم واحد، وهو عَلم الإِسلام، فوجَّه هذا نفوسهم إِلى هدفٍ سامٍ أورثهم حماسة، فكانوا أبدًا على استعداد للمفاداة بأنفسهم في سبيله، وكان هذا الهدف دينيًّا صرفًا، ودولة العرب قامت على هذا الأساس، وكانت الدولة الوحيدة الكبرى القائمة باسم الدين، ومنه انبعثت سياستها وحالتها الاجتماعية، وساعد العربَ على فتوحهم كون العالم القديم كان يهوي إِلى السقوط، فكان حريًّا بأُمة متوحدة المقاصد والمنازع أن تفتح البلاد وتستبقيها، وما ضَعُف نشاطهم في هذه السبيل، بل تعلَّموا في مدرسة مغلوبيهم، ولما ساووهم في الجندية وفنون القتال كان نجاحهم مضمونًا، ولقد كنت ترى كل جندي في الجيش العربي على استعداد لبذل روحه لإِنجاح المقصد الذي يقاتل لأجله، على حين كان كل إِخلاص وحماسة وعقيدة قد اضمحل من نفوس اليونان منذ زمن بعيد، وما كانت انتصارات العرب لتعمي أبصارهم لأول نشأتهم، وتحملهم على الإِفراط المألوف عند الفاتحين في العادة، ولا اشتدوا في إِرهاق المغلوبين، ولا فرضوا عليهم بالقوة دينهم الجديد الذي كانوا يودون بثه في أقطار العالم، ولو فعلوا ذلك لأهاجوا عليهم جميع الشعوب التي لم تخضع لهم، فاتَّقَوْا حقَّ التُّقَاةِ هذه التهلكة التي لم ينجُ منها الصليبيون عندما دخلوا الشام في القرون اللاحقة.

قال: «ولقد أدرك الخلفاء الأُوَل بعبقريتهم السياسية النادرة في أتباع معتقد جديد أن الأوضاع والأديان لا تُفرض على الناس بالقوة، بل رأيناهم حيث دخلوا في الشام ومصر وإِسبانيا يعاملون الشعوب بمنتهى الرفق، تاركين لهم أنظمتهم وأوضاعهم ومعتقداتهم، غير ضاربين عليهم في مقابلة السلام الذي ضمنوه لهم إِلا جزية ضئيلة، وكانت على الأغلب أقل من الضرائب التي كان عليهم أداؤها من قبل؛ وما عرفت الشعوب فاتحًا بلغ هذا القدْر من المسامحة، ولا دينًا حوى في مطاويه هذه الرقة واللطف، وكانت هذه السماحة وهذا اللطف اللذان تجاهلهما المؤرخون من بعض العوامل التي هيأت بسرعة انتشار فتوح العرب، وأعظم سبب دعا إِلى قبول دينهم وأوضاعهم ولسانهم، ونحن ندرك كيف تأصلت هذه العوامل الثلاثة بين ظَهْرانَيِ الشعوب التي رحبت بمقدمهم، وأنها قاومت بعدُ جميع الغارات، وَوَقَتِ العربِ من آفات الاضمحلال، وما تم من هذا القبيل في مصر من أعظم ما يسترعي النظر؛ فقد حكم الفُرس واليونان والرومان وادي النيل ولم يوفَّقوا إِلى أن يقلبوا المدنية الفرعونية القديمة، وأن يستعيضوا عنها بحضارتهم، أما العرب فكان شأنهم في مصر غير هذا؛ أعربوها وأسلموها، وهناك عوامل أخرى غير سماحة العرب ولطف حكمهم ضمِنت لهم النجاح في بث دينهم وما تفرعَ من أوضاعه، وكانت هذه الأوضاع على غاية السذاجة في أهل الطبقات المتوسطة من الشعوب المغلوبة، وإِذا حدث أن هذه الأوضاع لم تلتئم مع تلك الجماعات كان العرب يعمدون إِلى تعديلها بحسب الحال، وهكذا كانت الأوضاع الإِسلامية في الهند وفارس وبلاد العرب وإِفريقية البربرية ومصر تختلف كل الاختلاف وكتابها واحد وهو القرآن.» ا.ﻫ.

وقد أرجع لوبون انحطاط العرب إِلى اختلاف العناصر الخاضعة لهم واختلاط دمائهم؛ قال: «ولطالما كان هذا التمازج بين شعوب مختلفة في مملكة واحدة من عوامل الانحلال الفعالة، ويعلمنا التاريخ أن من المتعذر استبقاءَ عناصر مختلفة في يد واحدة إِلا إِذا روعي في ذلك شرطان أساسيان؛ أحدهما: أن تكون سلطة الفاتح قوية إِلى الغاية بحيث يوقن كل إِنسان أن كل مقاومة باطلة، والثاني أن لا يختلط الغالب بالمغلوب ولا يفنى فيه، وهذا الشرط الثاني لم يحققه العرب بتاتًا وكذلك كان شأن الرومان، ومن المتعذر حياة شعوب مختلفة بقانون واحد إِذا تباينوا في المصالح والأجناس، ولا يتأتى ضبطهم إِلا بضغط شديد، وما قامت العرب بمثل هذا الضغط مع العناصر المختلفة التي خضعت لهم.» وقال في معنى اختلاط دم الفاتحين بغيرهم: «زعموا أن المستقبل للخِلَاسِيين والهجناء وقد يكون ذلك، بَيْدَ أنني لا أرجو تحقيقه لشعوب تريد أن تحتفظ بمستواها في العالم.»

•••

آن لنا بعد أن عرضنا في الجملة لتصوير المدنية العربية والتنظير بينها وبين غيرها من المدنيات، وللعوامل التي وهنت بها دولة العرب ودخلها الهرم أن نذكر طرفًا من الفروق بين أهل المدنيتين، إِننا مهما أُعجبنا بمدنية العرب القديمة ومدنية الغرب الحديثة، فإِعجابنا غير قليل بمن يعملون اليوم لمدنيتهم من الغربيين، والفوارق بين الشرق والغرب في هذا المعنى محسوسة، ومنها ما يُعلَّل بالهواء والبيئة، ومنها ما يُعلَّل بالطوارئِ الاجتماعية القاهرة، ففي الغرب دُءوب دام قرونًا مطرد الأَوائل بالأَواخر، ونظام نافذ لا يرحم من لا يعمل، ولا يُبقي على جاهل ولا ضعيف، فكأن قاعدة الانتخاب الطبيعي أخذت في الغرب حكمها، فأبقت على القوي، ونبذت أكثر الضعيف، وفي الشرق لانت الطبيعة وما قست، فعاش الضعيف والأضعف، والقويُّ والأَقوى.

قالوا: إِن المدنية ابنة البلاد الباردة، ولكن العرب جاءوا من جزيرة محرقة فأنشئوا أيضًا هذه المدنية الفتانة على أيدي من نبغوا فيها من أهل الطبقة المختارة، وتآلفوا كلهم بروح الجماعة على نحو ما نرى في الغرب اليوم فناءَ الأفراد في المجموع؛ إِذا هلك الفرد لا يكاد يُشعر به؛ لأن مَنْ بَعْدَه يأتي فيتناول عمله فيتمه، والغرب — كما قال أحد النابهين — هو المتسلط على الطبيعة بالعمل، والشرق هو استثمار الإِنسان للإِنسان، ونظن الغرب أيضًا يستثمر الإِنسان للإِنسان أما تسلُّطه على الطبيعة فهذا حقٌ صراح.

امتاز الغربي بتسلسل الفكر والتبصر في مصادر الأمور ومواردها، والأخذ من تجارب غيره والانتفاع بكل ما يرى ويسمع، وقلَّما يخرج عما تعلَّمه واستعد له مهما كلفه الحال؛ لأنه يعرف أن النجاح في الاختصاص أو الإِخصاء، وهذا من أعظم أسرار نبوغه في صنائعه وعلومه، وعُرف الغربي بمحافظته على القوانين يراعيها على كل حال، حتى صار ذلك طبيعة له وعادة، وخلافها منكر مستهجن، وجميع ما في الغرب من قوى الجماد والحيوان والإِنسان مستثمَرة منتفع بها، وقوى الشرق مبعثرة ضائعة، الغربي يُعنى بالأمر الصغير والخطير على السواءِ، يحاول الإِتقان والكمال في كل معانيه، ويفادي بكل عزيز في سبيل قوميته ووطنيته، يراعي الوقت والزمان، ويسير في حياته على منهاج لا يعدوه، ويستحي أن يُرمى بالقصور فيما هو آخذ نفسه به، الغربي محافظ مجدد في آنٍ واحد، والشرقي محافظ يصعب عليه التجديد، أصلح الغربي بنفسه لنفسه مَعْمَله ومزرعته، وجوَّد عمله وقام بواجبه، فاضطر حكوماته إِلى أن تُصلح نفسها، والشرقي يتوقع من حكومته أن تصلحه، وقد يحاول إفسادها إِذا أرادت إِصلاحًا، والغرب لم تُعمِّره حكوماته بل عمَّره أهله، وحملوها بطول الزمن على أن تحسن سيرها فتَساند الراعي والراعية.

وقد وصف الحالة التي صار إِليها الشرقي الأستاذ أحمد فتحي زغلول باشا بقوله: «ضعفنا حتى أصبحنا نرجو كل شيء من الحكومة، فهي التي نطالبها بحفظ حياتنا، وخصب أرضنا، وترويج تجارتنا، وتحسين صناعتنا، هي التي نطلب منها أن تربي الأبناءَ، وتطعم الفقراء، وترزق العجزة، وتنفي أسباب البطالة، وتحفظ الأخلاق، وتلم شعث العائلات، وتجمع أشتات القلوب، هي التي نطالبها بتعويض ما نقص من إِرادتنا، وتقويم ما اعوجَّ من سيرنا وسيرتنا، وردِّ هجمات المزاحمين عنا، والسهر على مصالح كل واحد منا؛ فإِذا تأخرنا في عمل من تلك الأعمال بإِهمالنا رميناها بسوء الإِدارة، واتهمناها بحب الأثرة، وألقينا عليها تَبِعة خمولنا كلَّها، لا ريب أننا بهذا الزعم قد ضَلَلْنا السبيل؛ فإِنما الحكومة وازع لا يكلَّف إِلا ما اقتضته طبيعته، وشأن الحكومات في الأمم تأييد النظام، وحفظ الأمن، وإِقامة العدل، وتسهيل سبل الزراعة، ومعاهدة بعضهم بعضًا على ما يضمن حرية التجارة، ويشجع أهل الصنائع والحِرف كما تقتضيه المصالح المشتركة، وعلى قدْر ما تسمح به الممكنات، وبالجملة، فالحكومة وازع عام لا واجب عليه إِلا الأمر العام مما يدخل تحته جميع الناس، ولا ينفرد بالاستفادة منه واحد بخصوصه، وعلى الأُمة بعد ذلك أن تستفيد من هذا النظام، وتنتهز فرصة الأمن والطمأنينة لتسعى وراء منافعها، وتطلب الكمال في زراعتها وصناعتها وتجارتها، وفي نشر المعارف وإِحياء العلوم، وفي أداء الواجب والمحافظة على الحقوق، وهذا هو الذي أهملناه حتى أضعناه.» ا.ﻫ.

وحقًّا لو قام كل واحد في الشرق بواجبه، لما انتشرت الأميَّةُ فيه مثلًا هذا الانتشار المريع، والأمية سبب كل بلية، ومن المستغرب أن نشهد شعوبًا صغيرة في الغرب تحررت منذ عهد قريب من ربقة غيرها، ونجت أو كادت من الأمية على فقرها، ورأينا في الشرق شعوبًا تكاد تكون مستقلة منذ زمن طويل، وهي من الغنى بما لا يُنكر محله، وما استطاعت أن تُخرج شعبها من الجهل، واكتفت أن صاغت عمالًا أو راغبين في العمالة، وتخلت عن إِعداد أبنائها لمذاهب المعاش الطبيعية، فبأي شيء نعلل هذا؟ وعلى مَن تُلقى تبعة هذا الوباء؟ ولو صُرف في تعليم هذه الشعوب واحد من مائة تُبذل في التبذير، لفارقت دور الجهالة في أقل من نصف قرن.

وبينا نرى عامة أهل الغرب وخاصتهم، أغنياءهم وفقراءهم رجالهم ونساءهم، يعملون ويدأبون، ولا تكاد تجد من لا يعمل ولا يفكر فيما فيه فائدة عامة أو خاصة؛ نرى الشرقي إِذا حاز مظهرًا صغيرًا، أو نال شهادة من مدرسة، أو شدا شيئًا من أدب وعلم، أو اقتنى مالًا وعُروضًا، اغتبط بما صار إِليه، وعَدَّ نفسه قد بلغ أقصى الغايات؛ فيغلو في سرفه وترفه، ويصاب بالغرور والعُجْب، يستنكف عن أعمال اليد وعن الاحتراف ويعد الحِرف دنيئة، وما الدنيُّ إِلا من لا يتعلمها ويتقنها، ولا ساقط الهمة إِلا من يذل لغيره حتى يعيش كَلًّا عليه. على حين رأينا الغربي مهما أحرز من مظاهر الغنى والمجد، لا تقف همته عند حد، ولا تنتهي مطامعه إِلى غاية، فهو لا يعرف ما يقال له قناعة ورضا، وكل عمل يجلب نفعًا هو في نظره شريف محلل، كأن طبيعة البلاد الغربية، وهي تستلزم من ساكنيها غذاءً أوفر ولباسًا أدفأ وكنًّا جامعًا شروطَ الراحة ليقاوم قسوة الطبيعة، تضطر الفرد إِلى أن يعمل شاقَّ الأعمال ليُنتج ويعيش، والشرقي لا تتقاضاه أرضه وسماؤه شيئًا كثيرًا من مثل هذه الأسباب في الحياة؛ يتبلغ بميسور العيش، ولا يتشدد في تطلُّب السعة، وحرارة إِقليمه تغنيه عن أمور يراها الغربي ضرورية له كالخمور والأغذية الدَّسِمة، تأملوا حال أسرة مؤلَّفة من والدين وأربعة أولاد؛ الوالد يعمل في حرفته، والوالدة تشتغل بتربية أولادها وترتيب منزلها، فإِذا فرغت شغلت أوقات فراغها بتطريز أو خياطة أو نسج أو تصوير أو موسيقى أو غير ذلك، والولد بعدَ المدرسة الابتدائية يعمل في حقل أو حانوت أو معمل، وأخته كذلك تحترف وتجمع لنفسها مالًا، ولا يستنكف أحدهم من الأعمال الزراعية والصناعية، ولو تعلَّم التعليم العالي، إِذا لم يجد رزقه فيه، تأملوا هذا البيت المغل وكيف يدخله من الربح ما يعادل على الأقل ما يكسبه الأب وهو تامة أدواته في جهاد الحياة.

الإِنسان في الغرب مهما علت منزلته، إِذا بلغ سن الرشد أو قرب منها، لا يتَّكل إِلا على نفسه رجلًا كان أو امرأة، لا فرق في قانون العمل وروابط الحياة إِلا ما لا بال له، والشرقي اتِّكالي لا يعمل إِلا بقدْر ما يرزق الكفاف، وبلغ من شفقته الكاذبة على أولاده، إِذا كان ذا سعة، أن يترك لهم الحبل على الغارب، لا يهتم لهم عملوا أم لم يعملوا، فكيف بهذا تبقى ثروة ويُحفظ مجد؟! ولو كان قانون المواريث عندنا مثل قانون الإِنجليز لا يورِّث الكبراء والنبلاء جِلاءَهم؛ أي لقبهم وأملاكهم، إِلا للكبير من الأولاد، ويروح سائر البنين والبنات يكدحون لمعاشهم، لرأينا كثيرًا من الشرقيين يموتون جوعًا لا يرضون أن يعملوا عملًا صناعيًّا ولا زراعيًّا ولا غيره.

يقول العلَّامة قاسم بك أمين: إِن أهل أوروبا يقسَّمون إِلى ثلاث طبقات كسائر الأمم: عليا ووسطى ودنيا؛ فالدنيا أكبر حظها من التربية معرفة القراءة والكتابة، وأما الطبقة العليا فتصيب حَظًّا عظيمًا من التربية الفعلية، ولكن يغلب عليها ما يُغري به الغنى والبطالة، وتستولي عليها الشهوات، فهم يتفننون في اللذائذ تفنن أهل الجد في الاختراعات والصنائع، قال: وهذا الفساد فيهم مما تتحمله المدنية الغربية وتصبر عليه؛ لأنها لا تستطيع محوه، فإِن هذه المدنية مؤسسة على الحرية الشخصية، فهي مضطرة لأن تقبل ما يتبع هذه الحرية من الضرر، وهي تعلم أن منافعها أكثر من مضارها، ووجود الفساد في الغرب إِنما هو لاحق طبيعي من لواحق الحرية الشخصية، ونتيجة من نتائجها في الطور الأدبي الحالي الذي توجد فيه تلك البلاد الآن. قال: وهذا الفساد في الأمم الغربية لم يُضعِف فيهم الفضائل من بذل الأنفس والأموال في سبيل تعزيز الوطن أو الدفاع عنه؛ فأدنى رجل في الغرب كأعلى رجل فيه، إِذا دعا داعٍ إِلى هجوم، أو قيام لداعٍ أو إِلى عمل نافع، يترك جميع لذائذه وينساها، وينهض لإِجابة الداعي، ويخاطر بنفسه، ويبذل ماله، إِلى أن يتِم للأُمة ما تريد، وأما الطبقة الوسطى فلا ريب أنها أرقى من التي تقابلها عندنا.

وبعدُ؛ فالأعْلَوْنَ والأوسطون والأدنَوْن في الأمم الغربية هم كما وصفهم عالِمنا الاجتماعي فأحسن في وصفهم، وقد قال شاعرنا الاجتماعي حافظ إِبراهيم في وصف الاختلاف بين العالمين الشرقي والغربي:

شمسهم غادة عليها حجاب
فهي شرقية حَوتها الخدور
شمسنا غادة أبت أن تَوارَى
فهي غربية جَلاها السفور
جوُّهم في تقلُّب واختلاف
أن الثبات فيهم كثير
جونا أثبت الجواءِ ولكن
ليس فينا على الثبات صبور
ولديهم من الفنون لُباب
ولدينا من الفنون قشور
فإِذا ما سألتني قُلتُ فيهم
أُمةٌ حرةٌ وفردٌ أسير

وعلينا بعد هذا أن نعلم أنْ ليس لشعب من طبيعته وجنسه ما يَحُول دون انحطاطه؛ فقد قال العلَّامة ألفريد فوليه: «قاعدة من قواعد التاريخ أن العوامل العلمية والاجتماعية أو العقلية والأخلاقية تتغلب على العوامل الجنسية والجغرافية والإِقليمية بالنظر إِلى ما بلغته الحضارة الحديثة من الارتقاء، وأن حركة العلوم وما أوجدته الصناعة لا تزال تُبدل أسباب الحياة الاجتماعية وأساليب العمل، على نحو ما تبدل العلائق المتبادلة بين الطبقات المختلفة، وليس لشعب أن يتبجح بأنه راقٍ وسيظل راقيًا على وجه الدهر، وما من شعب يُحكم عليه بالانحطاط الذي لا يُشفى منه، وكل شعب يستفيد بما في التضامن العام من مكتشفات وتجارب، وليس المستقبل للأنجلوسكسونيين ولا للجرمانيين ولا للاتينيين، بل المستقبل للعالِمين والصانعين ومن كانوا أحسن أخلاقًا وخَلاقًا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤