مقدمة

١

انتصفت الشمس في السماء ودقت الساعات مؤذِنة بحلول الظهر، فقرع جرس السجن يبشر بوقت الراحة المباحة للأشقياء المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة، وكان التعب الشديد قد أضنك أجسامهم فجعلوا يتراكضون إلى حيث يوجد الظل؛ لأن شمس يونيو كانت تبسط على طولون شعاعًا محرقًا، فالتجأ بعضهم إلى ظل مركب قديم العهد قد لعبت به يد التلف ولم يبق منه غير الوسط الأسفل، وجلس البعض تحت ظلال الأخشاب التي تعد لبناء المراكب، وتوسد آخرون الرمال متعرضين لحرارة الشمس المؤثرة بإزاء دار الأسلحة، وجعل آخرون يتنزهون كل اثنين معًا، فيتمشون ذهابًا وإيابًا يشملهم الهدوء، وتصوب عليهم الشمس شعاعًا لم يكترثوا له وإن كان محرقًا.

ومن عادة المسجونين أن يسمى كل منهم بنمرة خاصة، وكان الشقي الذي نمرته ١١٧ جالسًا مع آخر على انفراد، فخطر لرفيقه هذا أن يتركه ويأتي إلى الجماعة القائمين في ظل المركب القديم ليسمع القصة التي يتحدثون بها، فنظر إلى المائة وسبعة عشر فرأى عينيه تكادان تغمضان من شدة نعاسه، فقال له: إذا كنت تريد النوم فأنا أريد الذهاب إلى ظل المركب لأسمع الأخبار التي يروونها فهلم نذهب معًا، وإذا كنت تريد البقاء هنا لتمتع عينيك بلذة الرقاد فأنا أدعك تنام على شرط أننا نلعب بالورق قبل افتراقنا، فإذا غلبتني فنم مطمئنًا، وإلا فتذهب معي لنجلس مع رفاقنا في ظل المركب، ونسمع قصة الكوكوديس كما يدعوه الرفقاء.

فاستعد الاثنان للعب وأخذ ١١٧ من قبعته ورقًا للعب كان يضعه فيها على رأسه، فلعبا المرة الأولى وكان هو الرابح، ولعبا دورًا ثانيًا فربح ١١٧ أيضًا وكان بارعًا باللعب وله فيه تفنن وحيل كثيرة.

وكان الشقي الآخر في أول الدور يلوح له أنه سيكون ظافرًا فلا يلبث ١١٧ أن يقدح زناد الحيلة ويكون هو الظافر.

وبعد أن لعبا دورًا ثالثًا فرابعًا وكان الربح في جميعها ﻟﻠ ١١٧، نظر إلى رفيقه قائلًا: وماذا تريد بعد ذلك؟

فكادت عين هذا الشقي تقدح شرارًا وقد تجهم وجهه الوحشي، وابتسم ابتسامة استهزاء وقال لرفيقه ١١٧: لا بأس فلنعلب أيضًا.

فلعبا دورًا جديدًا فكان فيه خاسرًا كعادته في الخسارة، فغضب عندئذ وقال: لم أعد أريد سماع قصة الكوكوديس فأنا أبقى هنا.

فترك ١١٧ الورق وتوسد الأرض واستغرق في النوم. أما هذا الشقي الذي كان الخاسر فيدعى ميلون، وهو بعد أن نام الشقي الرابح الذي لم يكن يدعوه الرفقاء إلا باسم ١١٧، جلس حائرًا يرسل أبصاره إلى الجماعة الذين تحت ظل المركب وهم جالسون في خيمة تظلهم من الشمس، ولا تزال نفسه تناجيه بالذهاب إليهم، إنما أبى ذلك بعد خسارته كما أظهر لرفيقه النائم، فجعل يلاعب نفسه بالورق الذي لديه ويجري التجارب وضروب التفنن بغاية البراعة فيها.

أما الجماعة الذين كانوا جالسين في ظل المركب فكانوا يقولون فيما بينهم: أين الكو كوديس فإنا لم نره اليوم؟

فقال أحدهم: إنه لا يحضر اليوم إلينا. وماذا ترجون من حضوره؟ وأنتم تعلمون أن كل صاحب مال لا يهمه السجن كما يهمنا نحن الفقراء، فإنه كل يوم يتعلل بعلة كاذبة ويدَعونه من أجل أمواله يذهب إلى المستشفى حيث يستريح من عناء السجن ويقيم متنعمًا وإن كانت علته كاذبة. وهكذا انطبع الناس على الظلم وقلة الإنصاف، فالفقير مظلوم حيثما كان والغني متنعم ولو كان في السجن، ولا يوجد على الأرض إنصاف حتى داخل السجون. وهكذا الكوكوديس فإن أباه مثر عظيم وهو صاحب بنك. وفي كل شهر يرسل له مائة فرنك، وقد أطلق له ناظر المستشفى الحرية فهو يذهب إلى المدينة متى شاء ويعود منها متى شاء.

فقال آخر من هؤلاء الجماعة: نعم. وقد عرفت أن امرأة جميلة من نساء باريس كانت تأتي عمدًا إلى فندق فرنسا كي تلتقي به فيه. غير أن هذه الأخبار لا تهمني مطلقًا، ولا يهمني غير أخبار أرى في نفسي ارتياحًا شديدًا إليها.

فقالوا: وما هي هذه الأخبار التي تريدها؟

– أخبار رفيقنا ١١٧.

فقالوا: إن هذه الأخبار لا يعرفها أحد منا ونحن كلنا نريد معرفتها ولا نعلم واسطة إلى ذلك، فإذا كنت تستطيع أن تعرفها فتكون أكثر منا دهاء وأطول باعًا في استطلاع الأمور الخفية.

وكان قد أتى إليهم شقي جديد فقال لهم: وكم من السنين لوجود ١١٧ في هذا السجن؟

فقالوا: عشر سنوات.

– من أين أتى؟

فقالوا: لا نعرف، فهو لا يخبر من أين أتى وما هي قصته.

فقال رجل آخر: إنه رجل عظيم أوقعه الدهر في حبائل الشقاء وهو منذ دخل هذا الليمان اتخذ ميلون رفيقًا له فلا يكلم غيره.

ولم يلبث هؤلاء الجماعة أن رفعوا أبصارهم وإذا برجل مقبل عليهم وهو يدخن سيكارة رغمًا عن مشي القوانين، ويمشي مشية المتنزه المطمئن فتأملون فإذا به الكوكوديس فبادءُوه بالتحية، فردها بصوت يدل على السرور والاطمئنان، فسأله أحدهم قائلًا: يقولون إنك كنت مريضًا فدخلت المستشفى من أجل ذلك.

– نعم إنني مريض، وقد دخلت المستشفى في صباح هذا اليوم.

فقال المجرم: ولكن يقولون أيضًا إن الطبيب لم يجد بك علة.

– كلا فذلك غير صادق فإن الطبيب من أصدقائي وقد أمر لي بالراحة والتنزه في الصباح شفاء لعلتي.

ثم قال متهكمًا: ولنفرض أن مرضي خداع وحيلة لأستريح من عمل الليمان فلم يبق لي فيه غير أربع سنوات أجتهد بأن أقصر أيام بلائها بالحيلة والخداع بادعاء الأمراض.

فقال أحدهم: هنيئًا لك فإن مدتك قد قصرت وأنت مستريح كأنك لست في ليمان فليت حظي كحظك.

فقال الكوكوديس: ولماذا لا تدبر واسطة يمكنك من الفرار فتنجو من عذابك الطويل؟

– وكيف أنجو وأنا قد فررت من هذا الليمان خمس مرات وكنت في كل مرة أُضبط وأرجع إليه، وليس ذلك إلا من قلة دهائي فلا أجد واسطة تمكنني من الاختفاء عن الحكومة، ولكن الفقر هو بلائي الوحيد فلست ابن غني لأتزيا بأزياء كثيرة تخفيني عن الحكومة ولم أضبط في المرة الأخيرة إلا بسبب سرقة رغيف من الخبز مدت الحاجة إليه يدي فضبطت وعرفت وأرجعت إلى هذا الليمان.

فقال الكوكوديس: وما هي المهنة التي كنت تتعاطاها، قبل دخول الليمان؟

– كنت قبل ذلك حوذيًّا.

– إذن أبشرك بالخير، فعندما تمضي الأربع سنوات أخرج من هذا السجن وأنت تخرج منه فرارًا، فأجعلك عندي سائقًا فلا يعرفك أحد من رجال الحكومة.

– متى مضت أربعة أعوام نفكر في ذلك ونعقد الرأي عليه، أما الآن فارْوِ لنا خبرًا من الأخبار التي تسلي همومنا.

– ماذا تريدون أن أخبركم؟ وأي خبر يسركم؟

فقال شقي باريسي: نريد قصة محزنة.

فقال آخر: أو قصة سارة، وأنت أدرى بما عندك من الأخبار التي تسر مثلنا.

– إذن أخبركم قصة تطيب لكم خطرت لي الآن. فاسمعوا: إنني أولًا كنت مع نيشات.

فقالوا: ومن هي نيشات؟

– هي المرأة التي وقعت من أجلها في شرك هذه المصيبة.

فقالوا: قد عرفناها فهي المرأة الجميلة التي في فندق فرنسا.

– نعم. وهي تهيم بي دائمًا ويحق لي أن أتزوجها.

فقال الشقي الباريسي: ما بال الكوكوديس يروي لنا قصة نحن نود منه رواية غيرها.

فقال آخر: وقصة من تريد أن يرويها الكوكوديس؟

– روكامبول.

فقال الآخران: هذا الاسم اسم لص شهير.

وبينما كان هذا الحديث جاريًا بين هؤلاء الجماعة كان ميلون رفيق ١١٧ لا يزال يلاعب نفسه بالورق و١١٧ غائص في نومه وهو يتوسد الأرض بجانب ميلون. فلما أفاق من رقاده نظر فرأى ميلون لا يزال بجانبه فقال له: ما بالك لا تزال جالسًا ألم تعد تريد سماع أخبار الكوكوديس؟

قال ميلون: إن كنت تذهب معي لسماعها فأنا أهبك في هذا المساء قسمتي من العشاء.

– فلنذهب ونسمعها معًا فإنها تسرنا كلينا.

ونهض من مكانه فنهض ميلون وطوقا وسطهما بسلاسل الحديد التي يقيدان بها ومشيا إلى ظل المركب، فانضما إلى تلك الجماعة. وكان الكوكوديس يقول حينئذ: نعم إن قصة روكامبول مما ترتاح إليه عقولكم وتعجب به قلوبكم ولا سيما أنه يوجد منها فصل رابع يقع أعظم موقع من إعجابكم.

فقال ١١٧ وقد لاحت عليه هيئة المتلهف إلى سماع هذه القصة: إذن ارْوِ لنا هذه القصة التي نعجب بها.

٢

فابتدأ الكوكوديس بالكلام، فقال: تنقسم قصة روكامبول إلى خمسة فصول يتقدمها فاتحة، وهذه الفاتحة جرت قبل ابتداء روكامبول بتمثيل الأدوار الخمسة بثلاث سنوات في بيت رجل عجوز ساذج يدعى المركيز دي شمري.

فهذا المركيز كان مثريًا عظيمًا وكان له ولد ولكنه كان مفقودًا، وقد قضى المركيز زمنًا طويلًا يظن أن هذا الولد ليس ولده.

وقد باع المركيز جميع أملاكه ولم يرد أن يورث ولده شيئًا، ولكنه لما كان قد حان أجله ولم يبق له غير ساعات على فراش الموت إذ ورد إليه كتاب من صديق قديم يدعى الدوق دي سالاندريرا.

ويظهر أن المركيز دي شمري كان يعتقد في نفسه أن الدوق دي سالاندريرا كان في قديم الزمان عاشقًا لامرأته.

فلما وصل له منه هذا الكتاب وهو على فراش الموت وجده يتضمن طلب الدوق إلى المركيز أن يتزوج ابنته أرمين لابن المركيز وهو الابن المفقود والذي يريد المركيز حرمانه من إرثه.

فزال حينئذ من نفس المركيز ما كان يتوهم من أن هذا الابن ليس ابنًا حقيقيًّا له وطلب في الحال مسجلًا ليوصي له بإرثه وليسلم هذا المسجل ثروته وأوراقه بعد أن يتعهد له بأنه يبحث عن ولده المفقود حتى يجده فيسلمه هذه الثروة التي لا تقل عن عشرة ملايين.

وقد كان يوجد في باريس، في ذلك العهد، جمعية سرية مؤلفة من جملة لصوص، ينهبون ويقتلون ويرتكبون الفظائع الخفية عن أبصار الحكومة. ولم يكن يحدث في مكان جريمة هائلة إلا كان مصدرها هذه الجمعية السرية.

وكان البوليس يجتهد في استظهار أسرار الجرائم الكثيرة. فلم يقف على أثر لهذه الجمعية الجهنمية، ولا سيما رئيسها أندريا، فلم يكن يُعلَم له سر أو يُعرَف له أثر.

فلما ذكر الكوكوديس اسم أندريا قال أحدهم متعجبًا: ومن هو أندريا فقد ناجتني نفسي بأنني كنت أعرفه؟

فقال الكوكوديس: إن كنتم تسألونني مثل هذا السؤال في كل جملة، فهيهات أن تنتهي القصة التي أرويها لكم. فما بالكم تضيعون الوقت بالأسئلة!

فقالوا: كلنا نسمع ولم نعد نسأل فارو لنا.

– إذن لنرجع إلى المركيز دي شمري. فقد دُعي إليه مسجل فلما دخل إليه أوعز إلى الخادمة، وهي امرأة عجوز، أن تخرج من الغرفة فخرجت وبقي فيها مع المركيز والخادم، وكان هذا الخادم يعرف بفلانتين عند المركيز وبفانتير عند المسجل.

فقال الجماعة متعجبين: وكيف ذلك أيدعى هذا الخادم باسمين؟

– نعم. ولا عجب من ذلك، وهذا المسجل ما هو إلا أندريا رئيس الجمعية السرية.

فصاح هؤلاء الأشقياء صيحة استحسان.

فقال الكوكوديس: وفلانتين هو أحد أعضاء الجمعية السرية أيضًا. أما المركيز دي شمري فقد قص قصته بتمامها على المسجل الكاذب وفتح له صندوق أوراقه وأراه أمواله. وبعد ذلك رجع المركيز إلى فراشه فأعانه فانتير على التوسد، وبينما المركيز يتوسد إذ قبض فانتير على المفتاح المعلق بعنقه ففكه من سلسلته وترك المركيز ينام.

وعندئذ جعل أندريا وفلانتير يهتمان بشغلهما في هذه الفرصة المغتنمة، ففتحا الصندوق وجعلا يخرجان ما فيه إلا أن الضجيج طرق أذني المركيز فانتبه إليهما وأجهد قوته في القيام وهو يصيح بهما.

فصاح الجماعة: يا لتعاسة المركيز.

فواصل الكوكوديس حديثه فقال: أما هما فانقضا عليه بعد إطفاء النور واشتغلا في قضاء أمره. وكان البيت خاليًا والظلام منسدلًا، إلا أنهما ما لبثا أن سمعا ضجيجًا شديدًا على نافذة الغرفة، وقد تكسر خشب النافذة ودخل إلى مسرح الفظاعة شاب يحتدم غضبًا، فأخرج من جيبه عودًا من الكبريت وأشعله فأضاء الغرفة فنظر الصندوق مفتوحًا وقد خلا مما كان فيه، ولم يبق له قسمة من المال الذي إنما دخل الغرفة لأجله.

وكان أندريا قد انتهى من خنق المركيز، فلما رأى الشاب واقفًا أمام الصندوق انقض عليه وألقاه على الأرض واستل خنجره يريد قتله فصاح به: مهلًا فأنا روكامبول، فكف أندريا يده.

ولما انتهى الكوكوديس إلى هذا الكلام نظر ميلون إلى ١١٧ قائلًا: كيف ترى هذه القصة؟

فابتسم هذا اللص الكبير ببرود وقال: أراها قصة جميلة. ثم تولاه السكوت ولم ينطق شيئًا.

فرجع الكوكوديس إلى تتمة حديثه فقال: قد تمت الفاتحة فابتدئ الآن بأول فصل من الخمسة. فقد كان في بلدة بلفيل مصور يدعى أرمان وكان يعلم فن التصوير لفتاة شريفة تدعى أرمين دي سالاندريرا وهي ابنة الدوق الإسباني الذي تقدم ذكره في الفاتحة.

وكان لهذا المصور صديق محامٍ، ولهذا المحام فتاة حبيبة تدعى الفيروزة كانت له في كل وقت شغلًا شاغلًا، فكان المصور كلما ذهب لتعليم تلميذته يمر في طريقه على صديقه المحامي ويتحدث معه بأحاديث الغرام، ولم يكن يخطر على قلبيهما حب باكارا، وهي امرأة جميلة كانوا يرونها في الملاعب والملاهي.

ثم إنه كان يوجد في هذه البلدة أيضًا مدام فيبار وابنة أختها سريز، ومدام فيبار هي امرأة عجوز كانت دائمًا ذات غم وهم؛ لأنها كان لها ولد يدعى جوزيف صار لصًّا كبيرًا باسم روكامبول.

ولكن مدام فيبار وإن كانت على هذه الحالة من الغموم، فإن ابنة أختها سريز كانت على جانب عظيم من المسرة والحبور؛ لأنها كانت تنتظر الزواج بشاب جميل يدعى جان وكان لديها مهر يبلغ ستمائة فرنك.

وبينما كان أرمان يتحدث مع صديقه المحامي إذ دخل إنكليزي يُدعى السير فيليام وهو يقصد أرمان ليطلعه على كنه أمر عظيم.

وكان أرمان يجهل اسمه الحقيقي وولادته، وكان عندئذ يريد الذهاب لتعليم تلميذته فلم يتمكن السير فيليام من محادثته مليًّا، فلما ذهب أرمان لقضاء واجبه تنهد الإنكليزي وقال إنه لا يعرف شيئًا.

فقال الشقي الباريسي: لقد فهمت كل شيء فإن أرمان هو ابن المركيز دي شمري المفقود.

فقال الكوكوديس: هو ذلك.

وقال الباريسي: وقد فهمت أن السير فيليام هو أندريا، رئيس الجمعية السرية.

فقال الكوكوديس بلهجة الغضب: إن كنت فهمت كل شيء فلا حاجة إلي، ارْوِ هذه القصة بدلًا مني.

فغضب الجماعة وأمروا الباريسي بالصمت ورجوا من الكوكوديس تتمة القصة فقال: وبعد ذهاب أرمان لتعليم الفتاة، وذهاب المحامي لقضاء دعاويه، لم يكن بد للإنكليزي من الذهاب أيضًا، ولكن سمع عندئذ وطأ أقدام ثم ظهرت باكارا وهي آتية لمشاهدة أرمان الذي تحبه وإن يكن لا يبالي بها؟

أما باكارا فساءها بأنها لم تر أرمان، فأودعت له كلمة عند أحد أهل ذلك البيت وذهبت لحضور السباق في فنسان يصحبها السير فيليام.

أما خطيب سيريز فذهب ليشتري لها قفازًا، وفي ساعة غيابه أتى المحامي إلى مدام فيبار فأنذرها أن ابنها روكامبول قد ارتكب سرقة عظيمة ولا ينجو من العذاب إلا إذا نقدت هذا المحامي ستمائة فرنك كي يخلصه من شر السجن.

فلما رجع جان إلى سريز وجدها كئيبة فقالت له: لم نعد نقدر على الزواج فقد نقدت المحامي مهري البالغ ستمائة فرنك ليخلص ابن خالتي من السجن ولم يعد لي مهر.

فاستغرق جان في البكاء، ثم أخرج من جيبه كتابين أحدهما من روكامبول إلى أمه مدام فيبار يخبرها بأنه مسافر إلى الهند ليتعاطى فيها تجارة تصيره غنيًّا، والآخر إلى أرمان يتضمن أنه إذا سافر إلى مرسيليا يجد فيها صديقًا من عائلته يدعى الدكتور جوردون وهو ينبئه عن اسمه الأصلي ويهديه إلى استلام ثروته.

فلما وصل هذا الكتاب إلى يد أرمان سُر سرورًا عظيمًا، بيد أن مدام فيبار أحزنها كتابها حزنًا شديدًا على فراق ولدها.

وعند هذا الكلام سمعوا جرس الليمان يقرع دلالة على انتهاء وقت الراحة وحلول وقت الشقاء.

فقام الأشقياء من مواضعهم ومشوا يجرون سلاسل الحديد وهي تقرع بعضها فترن رنين الأجراس.

أما الكوكوديس فقال لهم: هذا الفصل الأول أتممناه، وموعد الثاني غدًا إن أردتم، وأنا الآن أرجع إلى المستشفى. فسار إلى الراحة وساروا إلى الشقاء.

٣

مضى النهار فاستراح الأشقياء من عناء الأشغال المضنكة وقد حان وقت النوم، فدخلوا مكان المنامة وهناك التحفوا الأغطية التي هي من الأعشاب اليابسة وافترشوا الأعشاب في جوانب الليمان المظلمة.

ثم أمرهم الحرس بالنوم فشملتهم السكينة، إلا أن بعضهم كانوا متى رأوا الحارس قد بعد عنهم يبتدئون بالمناجاة والكلام بصوت منخفض لا يسمعه إلا المتخاطبان.

وكان ميلون ينام بجانب رفيقه ١١٧، فكان يراه في تلك الليلة على غير ما تعود أن يراه في سائر الليالي الماضية؛ لأنه كان قبل هذه الليلة لا يحين وقت النوم إلا وعيناه تكادان تغمضان، فلا يلقي رأسه على وسادته حتى يستغرق في النوم ولا يستفيق حتى الصباح. وكذلك وقت الراحة المباحة عند الظهيرة، فبينما يكون الرفاق يتبادلون الأحاديث، التي هي شكوى قلوبهم، يكون ١١٧ مستغرقًا في نومه وهو متوسد الأرض لا يهمه غير النوم.

وكان ميلون يرى في نفسه أن لرفيقه ١١٧ سيادة عليه، فكان يحترمه كثيرًا، ولما رآه في هذه الليلة قلقًا خلافًا لعادته سأله قائلًا: ما بالك أيها الرفيق أأنت مريض هذه الليلة؟

– لا لست مريضًا ولكني منشغل الفكر.

– وبماذا؟

– بما يخبره الكوكوديس.

– وأنا أيضًا قلق في هذه الليلة لأني أفتكر بهذه القصة وأنا متأكد أنها صحيحة وأن روكامبول وجد حقيقة.

– أتؤكد ذلك؟

– نعم، فقد كنت في باريس أيام اشتهرت هذه الجمعية السرية وكانت حديث الناس في كل مكان.

فقال ١١٧ متنهدًا: نعم ذلك صحيح.

فأتم ميلون حديثه بصوت منخفض وقد أدنى فمه من أذن رفيقه: إن كنت تريد فإننا نتحدث مليًّا.

– قل ما تشاء.

– إنني أيها الرفيق أعد نفسي من ذوي البلاهة لأنني لا دُرْبَةَ لي، فأنا قوي الجسم متين الساعد، ولكنني مع شدة هذه القوى أرى الولد الصغير يفتك بي بدهائه، ولا تجديني القوة شيئًا لأنني ساذج أبله، ولولا سذاجتي لما كنت أرسلت إلى هذا الليمان.

– ومن هم الذين أرسلوك إليه؟

– قلت لك إنني كنت دائمًا ساذجًا في جميع الأمور، وكان يجب علي أن أكون مترويًا متبصرًا في العواقب، ولو كنت كذلك لما تمكنوا من سلب الأولاد ولكن ربما تضجر من هذه القصة.

– كلا، فإنني لا أمل منها فارْوِها لي. ولكن قل لي قبلًا ما هي المهنة التي كنت تحترفها؟

– كنت خادمًا.

– وبماذا اتُّهمت حتى أدخلت الليمان؟

– بسرقة جواهر.

– ولماذا؟

– لأني أصررت على أن لا أقر أين يوجد مال الأولاد.

– وأي أولاد؟

– أولاد السيدة التي خدمتها.

– إذن هم الذين أدخلوك الليمان؟

فتنهد ميلون وقال: لا فليس هم، ولست أعني بالأولاد غير فتاتين في مقتبل العمر وهما توأمان ولهما اليوم من العمر عشر سنوات، ولا شك أن الشقاء ستحسهما يده القاسية.

وهنا سكت ميلون عن الكلام، فنظر إليه ١١٧ فرآه على النور الضعيف الذي لا يزال ينبعث من القناديل إلى تلك الغرفة، يمسح على خديه دموعًا سخينة.

فقال له: أتمم القصة.

فقال ميلون: وقد ظهر لي أن والدة هاتين الفتاتين تزوجت دون رضى عائلتها في وطنها لأنها لم تكن فرنسية، ولها أخوان شقيقان قد حاولا مرارًا كثيرة أن يحرماها ابنتيها.

وقد مات زوجها منذ سنين طويلة ولم يكن لها أحد تستعين به على أمر سواي، ولكني كنت كما قلت ساذجًا قليل الدُّرْبة وكانت هي لا تزال في ريعان العمر وهي جميلة للغاية.

وكانت تقول دائمًا عندما تنظر إلى ابنتيها وهما تتدرجان في النشأة، لا بد متى بلغتا الخامسة عشرة من عمرهما أن أزوجهما كي يكون لكل منهما من يصونها ويقوم بمعيشتها.

وكان لهذه السيدة ثروة عظيمة وهي تسكن في فندق قديم في سان جرمان، فكانت في كل ليلة تقفل الأبواب بكل دقة خوفًا من حادث يطرأ وتقول لي دائمًا: إنني أخاف كل الخوف من إخوتي.

وقد اتفق أن الابنتين كانتا ذات مساء تلعبان في الحديقة فسمعتا طلق مسدس ودوي رصاصة فيها فارتعبتا، ولكن لحسن الحظ لم تصبهما الرصاصة التي كانت مصوبة إلى إحداهما.

فنبهنا البوليس واجتهد في معرفة الجاني إلا أنه لم يعرف له أثرًا، واتفق مرة أخرى أن إحداهما أصيبت فجأة بعد تناول الطعام بألم الأحشاء والقيء، فدعونا الطبيب في الحال فحقق أن ذلك ناتج عن تسميم الطعام.

فعرفت هذه الأم المسكينة أنهم كانوا يريدون قتل ابنتيها بالسم، وعند ذلك أبعدتهما عن المنزل فأخذناهما سرًّا في ذات ليلة إلى أحد الأديرة، فدخلتا هذا الدير باسمين غير اسميهما الأصليين؛ لأن والدتهما أرادت أن تخفي حقيقة أمرهما.

وقد قالت لي وقت رجوعنا: إنني أعلم أنك رجل صالح وأرى أنني جديرة بالاتكال عليك وأنت تعلم أن أخوي يريدان قتل ابنتي وهما سيقتلاني لا شك عاجلًا أو آجلًا؛ ولذلك يجب أن أنظر في مستقبل ابنتي كي لا يمسهما الشقاء بعدي. قال ميلون: فكنت أصغي إليها ودمعي يهمي من شدة الإشفاق، ثم سلمتني محفظة من حديد وهي تقول لي: هذه نصف ثروتي فإن في هذه المحفظة ما يبلغ ريعه خمسة عشر ألف فرنك من ذهب وأوراق مالية فأَخفِها حيث لا يدري بها أحد، وهي مهر ابنتي الذي أعهد إليك به إذا أصبت بما أوجس خيفة منه.

فقال ١١٧: هل خبأت المال؟

– نعم قد خبأته ولا يعلم غيري أين يوجد مكانه الخفي.

فتنهد ١١٧ وأطرق وهو يفتكر.

أما ميلون فقد أتم كلامه فقال: كأن هذه السيدة المسكينة كانت تتكلم عن موتها وهي واثقة من أن أخويها سيميتانها إذ لم يمض بضعة أيام على ذلك العهد حتى ماتت مسممة.

فهب أخواها لوراثتها وكانت ابنتاها قد ولدتا في بلد غريبة ولم يكن بين يدي أوراق تثبت أنهما الوارثتان الشرعيتان.

ثم إنني كنت أخاف إن جاهرت بهما أن يعرفا بمكانهما ويحتالا بقتلهما، فاستولى الأخوان على ورثة هذه السيدة وكانا يظنان أنهما يجدان ثروة طائلة.

فلما خاب ظنهما جعلا يستخبراني وقد قال لي يومًا أحدهما: إننا نعلم أنك خبأت كمية عظيمة من مال أختنا فأتنا به ونحن نهبك قسمتك.

فأنكرتُ ذلك ولم أقر به، وبعد ثمانية أيام بينما كنت نائمًا عند منتصف الليل طرق باب غرفتي اثنان من رجال البوليس وقبضا علي بدعوى أنني سرقت جواهر السيدة المذكورة.

وكان الأخوان المذكوران قد وضعا في محفظة تخصني بعض الحلي كالأساور والخواتم الثمينة، فلما فتحها الشرطيان وجدا فيها هذه الحلي المذكورة وثبتت علي السرقة، وقد دافعت عن نفسي كثيرًا فلم أنجح وحكم علي بالليمان مدة عشر سنوات.

فقال ١١٧: فهل لا تدري شيئًا من أخبار تينك الفتاتين؟

– كلا، ولكن أظن أن هذين الشقيين لم يعلما مقرهما.

– والمال الذي خبأته؟

– ما زلت أعرف موضعه.

– لا يبعد أن يكونا قد اكتشفاه وأخذا هذه الغنيمة.

– كلا، فذلك من المحال.

– ألست تحاول الفرار من هذا الليمان؟

– قد فررت مرتين فكنت أُضبط وأرجع إليه.

فتبسم ١١٧ وقرب رأسه من رفيقه ميلون وقال له بصوت منخفض جدًّا: إن كنت تريد الفرار فأنا أجد لك واسطة سهلة.

فأجابه ميلون: وأنت؟

– وأنا أيضًا أهرب معك فهل لا تصدق أني أقدر على الفرار بأسهل طريقة؟

– لقد صدقت الآن.

– وبعد الفرار نضرب في طول الأرض وعرضها فلا يُعرف لنا أثر.

وعند ذلك أمال وجهه عن ميلون واستغرق الاثنان في النوم.

٤

لما كان اليوم التالي في وقت الظهيرة اجتمع الأشقياء كعادتهم في ظل ذلك المركب القديم وكان الكوكوديس غائبًا فلم يحضر إليهم ولم يكونوا يتذمرون من هذا الشقي، وإن كانوا يرونه ممتازًا عنهم من جهة المعاملة لأنه كان كأنه حر يغيب ويحضر متى شاء.

وكان حرس الليمان يعاملونه معاملة حسنة ويلبون طلبه في كل شيء وذلك لأنه كان من الأغنياء وكان أهله يرسلون إليه مبلغًا من المال في كل شهر فيكون للحرس النصيب الأكبر منه.

وكان الكوكوديس ينقد كل من رفاقه الأشقياء ليشتري به خمرًا فكان الجميع يحترمونه ويفرحون به ولم يكن يعرفونه إلا باسم الكوكوديس وكان كل منهم يجهل اسمه الحقيقي.

وقد كان بينهم ميلون و١١٧ فلما لم يحضر الكوكوديس جعلوا يتحدثون فقال أحدهم: إنه سعيد الحظ وأما نحن فإن الشقاء لا يفارقنا ساعة في هذا الليمان الذي هو جهنم الأرض، وإنني أنا أكثركم شقاء وتعاسة وقد بلغ من تعاستي أنني عندما دخلت هذا الليمان جيء بي إليه مقيدًا بالسلاسل وأنتم جيء بكم إليه على المركبات.

فقال أحدهم: وأنا مثلك في الشقاء وقد دخلت مكبلًا بالقيود وكان دخولي إليه على عهد تياري.

فقال آخر: ومَن هو تياري؟

– هو مأمور الليمان القديم وكان يحسن معاملتنا جدًّا فكنا نوده كثيرًا.

فقال العجوز أقدمهم عهدًا في الليمان: إنك دخلت مثلي في هذا المكان مقيدًا في ذلك العهد ولكنك لم تسم بالنار وأما أنا فإنهم يوم وسموني كنت كأنني أذوق الموت الزؤام.

ثم جعل هذا العجوز يسرح أبصاره في الجماعة الذين حوله وقال وهو يتنهد تنهد اليأس: إنني أراكم تحزنون إن لم يحضر إليكم هذا الشاب الذي تسمونه الكوكوديس، فأني أروي لكم قصتي فإذا وجدتموها أغرب من حكاياته اغتنيتم بي عنه، فلما سمعوا هذا الكلام قالوا: إذن ارْوِ لنا قصتك فإننا مصغون إليها.

فقال العجوز: إن لي من العمر تسعًا وستين سنة قضيت منها أربعةً وثلاثين عامًا في الليمان، وأنا منذ هذه المدة الطويلة شقي النفس ميت الآمال، حتى كأنني جسم بلا روح.

أتعلمون ماذا كنت في حياتي؟ فإنني كنت من أصحاب البنوكة وذا ثروة طائلة ومن عائلة شريفة، وقد تزوجت بامرأة نبيلة كنت من فرط محبتي لها كأنني أعبدها عبادة، وقد قضيت معها عدة سنين وأنا كأنني في النعيم، إلا أن تلك السنين كانت كأنها حلمًا لم يبق له في اليقظة أثر، وقد عقبتها سنوات الشقاء التي ما زالت تتوالى علي حتى اليوم، وقد كان مفتاح باب شقائي المقامرة الوخيمة، ولولاها لم أدخل هذا الليمان؛ فإن المقامر يبدأ بخسارة مالهِ وبعد هذا يخسر جميعَ ما لَهُ من الممتلكات، ومتى رأى يده فارغة من كل شيء يرجع إلى زوجته فيسرق ما تمتلك عليه ثم إلى أصدقائه، حتى إلى والديه فإنه يسرق مالهما ويضيعه في سبيل المقامرة.

وقد جرى لي كل ذلك حتى إنني لم أدع لامرأتي شيئًا تمتلكه، حتى إني بعت أثوابها في سوق المقامرة.

ولما خلت يدي يومًا من كل شيء ولم أر شيئًا أحصل عليه من الأقارب والأصدقاء عمدت إلى تزوير ونجحت به بواسطة بعض أصدقائي، وبعد ذلك صرت أزيف النقود وأقلد أوراق البنوكة، ولم تكن امرأتي تعلم من هذا السر شيئًا ولم تكن تدري إلا خرابنا.

وقد تركت امرأتي وانفردت في ضواحي باريس عند جدة طاعنة في السن، فكانت امرأتي تظن أنني في البلاد الأميركية أسعى وراء الثروة، فكانت تصلي دائمًا لأجل نجاحي. وبما أنه لا بد لكل ذنب من العقاب فقد ظهر سري للحكومة وقُبض علي، فأقررت بكل شيء، وكان القانون في تلك الأيام يقضي بإعدام كل مزيف، ولكن العفو الملوكي خفف عقابي فأبدل الإعدام بالأشغال الشاقة المؤبدة.

جرى كل ذلك ولا تعلم امرأتي شيئًا من أمري، وكان قد حان وقت أصبحت فيه على وشك أن تضع لي ابنًا يدخل الحياة من باب الشقاء.

وهنا سكت الشقي هنيهة كأن ذكرى بلاياه قد أعيته من الكلام، وبقي سائر الأشقاء على أتم الإصغاء كأن كلًّا منهم يتأمل بلاياه في الأيام السالفة.

ثم عاد العجوز إلى الكلام فقال متنهدًا: إنكم لم ترو السمة التي وسموني بها ولا تعلمون كيف يتم أمرها، فإنهم يعدون آلة الرسم ويأتون بالذي يراد سمته ويعلقونه بحبل يتدلى من أعلاها ويطوقون رأسه بطوق من حديد بحيث لا يستطيع الدوران، وتكون عيناه موجهتان إلى جهة الجموع الغفيرة. وبعد ذلك يأتي الجلاد ويضرم النار تحت هذا الشقي التعس حتى يكاد يشوي جسمه.

أما أنا فقد كنت عند ذلك أنظر إلى الجموع الشاخصة إلي بعين الوقاحة كأنني لا أبالي، وإذ ذاك سمعتهم ينادونني: يا صاحب البنك ورب الثروة، استهزاءً بي.

ولكنني لم أكن أتأثر من ذلك بقدر ما كنت أتأثر من ذكر امرأتي المسكينة، فقد كانت في تلك الساعة تظنني حرًّا أجمع المال، وترجو أن تراني في الأيام القريبة.

وعندما تشتد النيران يرخي الجلاد حبل الشقي فيسقط بالقرب منه ويأخذ الجلاد حينئذ حديدة محمية في النار ويسم بها الشقي في كتفه.

وبينما كنت في قبضة الجلاد وهو يسمني هذه السمة القاتلة كنت كأنني لا أشعر لم ولا أكوى بنار، وما ذلك إلا لأن أميالي وعواطفي كانت جميعها متجهة إلى جهة الحضور، وقد صحت صيحة شديدة ارتجت لها تلك الساحة وقلت للجلاد بصوت قاس جدًّا: اكوني حتى الموت. وقد رغبت في الموت من نفسي عندما وقعت أبصاري على امرأة تصيح صياح اليأس وهي على مقربة من هذه الآلة الشنيعة، وما هي إلا امرأتي التعيسة، وقد آلمني منظرها فوق آلام النار.

قال العجوز هذا وجعلت الدموع تنهمر من عينيه كالمطر وساد السكون هنيهة بين الجماعة.

ثم عاد العجوز إلى الحديث فقال: ليس هذه بحكايتي كلها فاسمعوا البقية، وجعل يمسح الدمع عن خديه ثم قال:

٥

عرفتم ما تقدم من أمر الوسم فاسمعوا ما جرى بعد ذلك فإن الشقي بعد وسمه يأتون بطوق من حديد ويطوقون به عنقه ويعلقون بهذا الطوق سلاسل الحديد الطويلة التي تثقل كاهله وتضنك جسمه، ثم تفتح أبواب الخروج من هذه الحفلة السيئة ويأخذ الجميع في الخروج وتعزف الموسيقى بألحان الحزن وقت خروج المذنب كأنها تندب حظه وأيام عمره، وبالحقيقة إن ما يفعل به الجلاد لا يؤثر عليه كما تؤثر رؤيته لتلك الجموع الغفيرة المحتشدة من أغنياء وفقراء ونساء وصبيان، ويكونون كلهم عيونًا تنظر إلى هذا المذنب من كل جانب وأيدي تشير إليه وألسنة تذمه بكل كلمة فتشق جدًّا رؤيتهم حوله على هذه الشاكلة التي تريعه.

ولما خرجوا بي من تلك الحفلة حيث وسموني تلك الوسمة المشئومة، رأيت شرذمة من الجنود تنتظر خروجي على الباب لتذهب بي إلى الليمان، فسار بي هؤلاء الجنود، ولكن ليس على طريق برست، بل على طريق طولون، فممرنا فونتنابلو على بلدة شوزي لاروا، وفي البلدة التي دفنت فيها امرأتي التعيسة، وقد كان ذلك بفصل الصيف في شهر أغسطس.

ولما وصل بي الجنود إلى هذه البلدة كانت الساعة السادسة من الصباح، فلم نكد نسير فيها قليلًا حتى رأينا أهلها يحتفلون بجنازة وهم يسيرون إلى المدافن، وكانت هذه المدافن قريبة من مكاننا، وكان الجمع يحمل نعشين كان أحدهما نعش شخص كبير والآخر نعش طفل صغير.

وكانت وراء النعشين عجوز قد اشتد صياحها وعلا بكاؤها، فتأملتها وإذا بها جدتي التي تركت لها امرأتي، ففهمت كل شيء وعلمت أنني ذاهب إلى الليمان بينما امرأتي وولدي ذاهبان إلى القبور، وقد بلغ من تحسري أن عيني لم تكن قد نظرت هذا الولد. وهنا جعل العجوز يبكي بكاء مرًّا ولبث الجماعة ساكتين.

وبعد هنيهة تقدم الجماعة إلى هذا العجوز لما رأوه قد استغرق في البكاء وجعلوا يعزونه، وأخذ أحدهم بيده ومشى به وهو يُودِع أذنه كلام التعزية والتسلية.

وبعد خروجه من بينهم لبثوا هنيهة صامتين يفتكرون به، ثم قال الشقي الباريسي: حقًّا لقد أثرت علينا هذه القصة ولو جاءنا الكوكوديس في هذا الوقت سرنا بقصته بعد هذا الحزن.

فقال ١١٧ موجهًا كلامه إلى الباريسي: وهل أنت تصدق قصة الكوكوديس؟

– هي كقصة مندرين وكرتوش، وبما أن هذين كانا يوجدان فلا يبعد أن يكون روكامبول قد وجد أيضًا، وإن كانت قصته على غاية من الغرابة.

فقال ١١٧: إنني أحقق أن روكامبول قد وجد حقيقة وقد عرفته.

– وهل أنت تعرف قصته؟

– نعم، أعرفها …

وأضاف ١١٧ إلى جوابه هذه الجملة: إنني لا أعلم قصته المزوقة التي يرويها الناس على المراسح، ولكن أعلم قصته الحقيقية.

فقال أحدهم: إذن يجب أن ترويها لنا.

– إنني أرويها لكم مرة ثانية.

فقالوا: ولكن قصدنا الآن أن نعرف ما هو روكامبول.

فقال ١١٧: إن روكامبول وُلِدَ ورُبِّيَ في باريس، وهو كما قال لكم الكوكوديس قد تسنى له أن يتزيا بزي المركيزية بعد رجوعه من الهند.

فقالوا: وهل كان هذا المركيز الذي تقمص به روكامبول غنيًّا؟

– كان له ملايين كثيرة.

فقالوا: وهل توصل إليها روكامبول كما توصل إلى المركيزية؟

– نعم، لمدة ثلاث سنوات.

– إذن هذا المركيز كان قد مات؟

– كلا فقد كان حيًّا.

– ألم يكن له أقارب أو أصدقاء؟

– كان له أم وأخت.

– وهذه الأم؟

– قد انخدعت بروكامبول وكانت تحسبه ولدها.

– وأخته؟

عند هذا السؤال الأخير وقف ١١٧ لا يريد الجواب، ثم قال: إن هذه الأخت كانت تحب روكامبول كأخيها وهو كان يحبها كأخته.

– أكان بينهما غرام؟

– كلا فقد قلت لكم إن المحبة كانت بينهما أخوية كأنهما كانا أخوين حقيقة. ثم امتقع لونه فحار الجماعة من نظرهم إليه فقالوا له: وماذا يؤثر عليك هذا الكلام حتى تبدي هذا الانزعاج منه؟

وقال ميلون: نريد أن نعلم هذا.

فأجاب ١١٧: ليس لي طاقة الآن على الكلام.

فقال أحدهم: نريد أن نعلم فقط هل روكامبول لا يزال حيًّا أم لا؟

– إنني لا أعلم ذلك.

ثم نظر إلى ميلون نظرة خفية كأنه يقول له فيها لنذهب معًا فقد ضجرت من هؤلاء الجماعة.

فقام ميلون وقد فهم مراده وقال له: أنا ذاهب فلنذهب معًا.

فتركا الجماعة وسارا حتى إذا بعدا قال ميلون ﻟﻠ ١١٧: إنك تخبرني قصة روكامبول أليس كذلك؟

– نعم بعد حين قريب.

ثم مشيا يتنزهان ذهابًا وإيابًا نحو ربع ساعة حتى رأيا من نفسيهما دافعًا يدفعهما إلى حلقة الجماعة فانضما إليهم مرة ثانية.

وكان يتولى الكلام بين الجماعة في ذلك الحين أقدمهم عهدًا في السجن هذا العجوز الذي تقدم ذكره، فكان يخبرهم قصته حينئذ قائلًا: إنني كنت حوذيًّا في أول حياتي بين الرجال ولم أكن أحب من الدنيا سوى اثنين من الحيوان وهما حصان وكلب، وقد مات الحصان فرثيته وبكيته زمنًا طويلًا وكذلك الكلب ولكنني لم أبكه بدمع بل بدم، ولو أخبرتكم بقصته لنالت عندكم قبولًا عظيمًا، فلا يخفى عليكم أن لي في هذا السجن عشرين عامًا وأنا منذ عشر سنوات منها أبيت منشرح الصدر خلافًا للسنين الأولى، وما ذلك إلا لأنني أتأمل أن يدي ستصل إلى الذي قتل كلبي فأقتله.

فقال الجماعة: ومن هو الذي قتله؟

فأجابهم: إنه أحد حرس السجن، وقد كان هنا في طولون غير أنهم شعروا بأنني أريد قتله فأرسلوه إلى بريست.

فقالوا: إن ليمان بريست قد أبطلوه فلا بد أن يعود يومًا هذا الحارس إلى هنا.

– وهذا الذي أنتظره.

فقال الباريسي: ارو لنا إذا أردت قصة هذا الكلب الذي كنت تحبه بهذا المقدار. وألح عليه الجماعة في معرفة هذه القصة، فقال: إني كنت في بادئ الأمر حوذيًّا أي حوذي أريد أني كنت ألبس لباسًا رثًّا وأسوق عربة حقيرة ذات خيل ضعيفة، وكنت أنفق ما أكسبه على شرب الخمور فأسكر دائمًا، وإذا بقي معي شيء من المال تأخذه امرأتي فيقع بيننا النفور والقتال بشأنه.

وكان لي كلب جميل، فكنت أجد به سلوى لي وقت نفوري من زوجتي، ولولاه لكنت هلكت وحشة وجزعًا، وكان الكلب لطيف الشعور خفيف الحركة، يشعر بحبي له فيحبني أيضًا حبًّا شديدًا، ولم يكن يفارق الإسطبل ساعة.

وكانت زوجتي تنفر دائمًا من هذا الكلب وتضربه في أكثر الأحيان، فكنتُ كلما ضربتْه أمامي لا أتمكن من كف يدي عنها فأضربها ضربًا شديدًا. وقد اتفق أن النفور اشتد بيننا ذات ليلة، فما كدت أضربها بعض ضربات حتى سقطت على الأرض سقوط من لا روح فيه، فظننت أولًا أنها كانت سكرى، إذ كانت تشرب نظيري، ولكنني بعد أن تأملتها جيدًا وجدتها جثة بلا روح فيها.

ولم يأت اليوم الثاني حتى قبضت الحكومة علي ووضعتني في السجن، ثم أخذتُ إلى محكمة الجنايات للمحاكمة، فدافع عني أحد المحامين دفاعًا شديدًا أنجاني به من الإعدام، ولكنني لم أنج من الليمان، فأرسلت إليه وها أنا ذا ما زلت فيه. ولما خرجت من المحكمة وكان الحرس يحيطون بي فلم نكد نسير مسافة قليلة حتى نظرت وإذا بكلب يسرع إلي وهو كلبي الذي أهيم به.

فجعل الحراس يطردونه عني وهو يعود إلي حتى خطر لأحدهم أن يمسكه، وكنا قد وصلنا إلى بينسيتر فأدخلت إلى سجنها وبقي الكلب مع هذا الحارس فلم تكن عيني تحرم من نظره كل يوم، إلا أنني كنت أخشى سفر هذا الحارس إلى مكان آخر فأحرم نظرة كلبي، وقد شعرت يومًا بما كنت أخشاه فجعلت أبكي بكاء مرًّا.

فنظر إلي هذا الحارس وقال لي: أراك تخاف من الليمان خوفًا شديدًا يحملك على هذا البكاء. فأجبته: ليس ذلك بل أنا أبكي مخافة فراق كلبي. فقال لي: إننا مسافرون إلى ليمان طولون فنأخذ هذا الكلب معنا، وهناك ننظر في أمره.

وفي ثاني الأيام سافروا بنا إلى طولون يتبعنا الكلب حتى وصلنا إليها، وهنا في الليمان لا تدخل الكلاب، وكان هذا الحارس تياري المشهور بحسن المعاملة، فرجوت منه الاعتناء بالكلب فوضعه عند جزار بالقرب من الليمان فجعل الجزار يعتني به.

وكنت أراه في كل يوم يخرجون بنا للأشغال في موريلون أو في حصن أبو يرماك فيسرع إلي على الطريق فأمتع نظري بمرآه.

وكان الحارس يحسن معاملتي، فكان يسمح لي بأخذه معي إلى حيث نشتغل، وكان عند المساء يمشي بجانبي حتى باب الليمان ويعود من نفسه إلى الجزار.

وقد دمت على هذه الحال مدة سنتين كنت في خلالهما متمتعًا بمرآه، ولم تكن يدي تصل إلى الخمر لأشربه فأسكر وتضعف قوتي، فلذلك كنت دائمًا بصيرًا ذا قوة شديدة أشتغل شغلًا كثيرًا وأطيع طاعة عظيمة، فكان الحرس مسرورين مني يعاملونني بالرفق والسماح.

وقد أعجب أحد الحراس بهذا الكلب فأدخله إلى الليمان، وجعل يطعمه والكلب ينام ليله بيننا تحت سرير الحارس، فكنت أراه دائمًا فتطيب به نفسي، إلا أن أحد رفاقي المسجونين تودد لي وقد جعله الحرس رفيقًا لي نشتغل معًا ونجلس معًا، فكان هذا الرفيق قليل الطاعة عديم التدرب كثير الجهل.

فبينما كان الحارس يومًا يكلمنا أظهر رفيقي نفورًا شديدًا، فغضب الحارس ورفع عصاه يريد أن يضربه.

وكان الكلب ينظر إلى الحارس فظن أنه يريد أن يضربني أنا فنبح نباحًا شديدًا وهجم عليه وعضه، ومن هذه الدقيقة استحال سروري غمًّا وابتدأ زمان شقائي وأنذرني البلاء أنا والكلب معًا، فإن هذا الحارس جعل يضرب الكلب في كل ساعة ويعاملني معاملة قاسية في كل وقت.

وقد أصبحنا ذات يوم فرأيت الكلب حزينًا شديد الآلام لا يأكل شيئًا، وإنما يشرب شربًا كثيرًا كأنما كان في قلبه جمر يضطرم. إلا أنه في هذا اليوم أكل شيئًا قليلًا، ولكنه في غد ذلك اليوم لم يذق الطعام مطلقًا. وفي اليوم الثالث أصبح ميتًا فكدت أموت عليه حسرة. وكنت أبكي بكاء شديدًا نادبًا هذا الكلب العزيز، فجعل هذا الحارس الذي يدعى موسوليت يستشفي بي ويضحك ضحكًا شديدًا يزيدني حسرة. وفي مساء ذلك اليوم جعل يخبر جميع المسجونين عن بكائي وأسفي شامتًا بي أمامهم، فاشتد غضبي وحنقي.

وفي اليوم التالي خرجوا بنا للأشغال الشاقة، فعزمت كل العزم على قتله، فرفعت سلاسل الحديد على عاتقي بينما نحن نسير في الطريق، واستنهضت همتي وهجمت هجوم المنتقم. غير أن الحرس، أسرعوا إلى نجدته فلم أتمكن من نيل مرادي. وقد زيد عقابي على هذا الذنب الكبير ثلاث سنوات بالأشغال الشاقة.

ولما تحقق مأمور الليمان أنني موطن النفس على قتله أرسله إلى ليمان برست وقد علمت أنه فيها، وما زلت أؤمل أن يعود يومًا إلى هذا الليمان فلا ينجو من قبضتي.

وقد بذلت قصارى جهدي ليرسلوني إلى ليمان برست فلم يقبل لي طلب، فما زلت هنا ملقيًا كل اتكالي على تقلبات الظروف.

وهنا انقطع عن الكلام لما رأى الجماعة نظروا رجلًا مقبلًا عليهم كانوا ينتظرونه بفارغ صبر وهو الكوكوديس.

فصاح ميلون مرحبًا به وقال: إنك لا تتم وعدك بالحضور في الميعاد المعين إلينا.

فقال الكوكوديس: لا بأس إذا تأخرت قليلًا، فلا يفوتكم من قصة روكامبول شيء.

– لم نعد بحاجة إليك فقد عرفناها.

– ومن أخبركم بها؟

– أخبرونا عن شيء وسيخبرونا بجميع تفاصيلها.

فتعجب الكوكوديس وقال: ومن هذا الذي يعرفها ليخبركم بها؟

فأجاب ١١٧: أنا الذي أعرفها!

ووقف يدير في الكوكوديس لحاظًا حائرة ثم قال له: إنني حتى اليوم لم أطلب إليك قضاء أمر.

فأجابه الكوكوديس: اطلب فما تريد؟

فأشار إليه ١١٧ وحاد به قليلًا عن الجماعة وقال له: إنك أيها الصديق تذهب كل يوم إلى فندق فرنسا، وترى تلك السيدة التي تنتظرك فيه. أليس كذلك؟

– نعم.

– وهي امرأة حسنة التدبير؟

– أظنها كذلك.

– إنني أريد أن أعهد إليها برسالة توصلها إلى باريس.

– أعطني إياها وأنا أوصلها إليها.

– كلا فلا يسلمها سواي وأنا أعطها إياها يدًا بيد.

فعجب الكوكوديس ودهش من كلامه وقال له: أين تراها أنت؟

– أراها في الفندق حيث تقيم.

فزاد الكوكوديس عجبًا وقال له: هل تستطيع الخروج من الليمان؟

– ذلك ما لا يهمك أمره، وقل فقط ألا ترى اليوم هذه السيدة؟

– نعم.

– إذن أخبرها بأني سأزورها هذه الليلة.

فنظر إليه الكوكوديس نظرة المتأمل وقد حسبه مجنونًا.

٦

مضى النهار وانسدلت حجب الليل ودخل الأشقياء إلى مكان النوم حسب عادتهم الجارية. وكان ميلون ينام بجانب ١١٧، فقال له بصوت منخفض كما كانا يتناجيان قبلًا: أظن أيها الصديق قد عاهدته معاهدة ثابتة.

أجاب ١١٧: ومن ذا الذي تعنيه؟

– أعني الكوكوديس فماذا جرى بينكما حين تكلمتما سرًّا ألم تخبره بأنك تريد الذهاب إلى فندق فرنسا الساعة ١١ من هذه الليلة؟

– نعم، وماذا ترى في ذلك؟

– كان ينبغي ألا تطلعه على ذلك فربما لا تستطيعه.

فضحك ١١٧ ضحكًا خفيفًا وقال له: كيف لا أستطيع فأمهل حتى يذهب الحرس فترى.

وعند ذلك كان بعض الحرس يمرون على المسجونين ويتفقدونهم واحدًا واحدًا ولما انتهى أحدهم إلى ١١٧ تبادلا نظرة خفية كان ١١٧ بادئًا بها.

فلما مضى الحارس قال ١١٧ لرفيقه ميلون: كم الساعة الآن؟

– قد أذنت الساعة التاسعة.

– إذن دعني أنام ساعة واحدة.

– وبعد ذلك؟

– توقظني ولا تقتضي لي أكثر من ساعة في التأهب للذهاب.

– لا أفهم شيئًا من مرادك في هذه الليلة فبالله صرح لي بما تنويه.

– أصغ إلي، إنك وحدك مصادق لي وقد اتفقنا قبلًا على الفرار من هذا الليمان، فيجب أن نتمم قصدنا في هذه الليلة.

وسُر ميلون سرورًا عظيمًا وقال متحمسًا: نعم ليكن فرارنا هذه الليلة.

– إذن نخرج إلى العالم معًا ولكن على شرطين لا بد منهما.

– وما هما؟

– إن الشرط الأول هو أن نتفق اتفاقًا ثابتًا أن لا نفترق في الدنيا مطلقًا!

– وهل أنت تبحث معي عن الفتاتين اللتين ذكرتهما لك؟

– نعم.

– وهل تساعدني أيضًا حتى نُرجع إليهما مالهما؟

– نعم.

فقال ميلون عند ذلك: إذن إني لا أفترق عنك مطلقًا حسب شرطك الأول، فما هو الشرط الثاني؟

– أما الشرط الثاني إني أقوله لك بشرط أن لا تغضب منه، لقد قلت مرارًا كثيرة إنك قليل التبصر والتدبير أليس كذلك؟

– نعم، لا أنكر أني عديم الرأي.

– حينئذ إن الشرط الثاني هو أن ترضى كل الرضا بأن تبقى دائمًا اليد التي تطيع حيثما أكون أنا الرأس الذي يأمر.

– إني راض بذلك.

– إذن أصغ إلي واعلم أن لساني لا ينطق الكذب.

– وأنا واثق مما تقول.

– قلت لك إني ذاهب هذه الليلة إلى فندق فرنسا وإني سأخرج من هذا السجن بملء الحرية كما يخرج منه السجان نفسه.

– أصحيح ما تقول؟

– اسكت هذا مفتش السجن قد حضر.

وكان المفتش والحداد قد أتما تفتيشهما وفحصا قيود المسجونين، ولما دنا من ميلون ورفيقه قال المائة وسبعة عشر للمفتش: أتأذن لي يا سيدي أن أسألك كم الساعة الآن؟

أجابه المفتش: قد بلغت الساعة التاسعة.

ونظر المائة وسبعة عشر للحداد نظرة خفية وقال: كنت أحسب أن الساعة العاشرة الآن.

ثم ذهب المفتش دون أن ينتبه إلى ما جرى بين هذا السجين وبين الحداد من تبادل النظرات السرية، خلافًا لميلون لأنه رأى جميع ما كان من رفيقه، ولما ابتعد عنهما المفتش قال ميلون لرفيقه: لماذا سألت المفتش عن الساعة وأنت خبير بمعرفة الأوقات؟

– ما سألته عنها إلا كي يعلم رفيقه ما أريد وهو من رجالي.

– أي رفيق تعني؟

– رفيق المفتش وهو الحداد الذي كنت أنظر إليه.

ثم سكت وقال لميلون: أتعلم كم سنة بقيت لي في سجن طولون؟

– كلا.

– عشر سنوات! وفي أول يوم دخلت فيه إلى هذا السجن عرض هذا الحداد أن يستخدم فيه، وقبل المدير طلبه بعد امتحانه لما لقيه من مهارته، وفي الحقيقة إنه حال دون فرار كثير من المسجونين حتى نال رضى رؤسائه عنه وثقتهم به، ولكن أتعلم لماذا قيد نفسه بهذه الخدمة الشاقة؟

– كلا.

– إنه فعل ذلك من أجلي لأني سيده وهو ينتظر بفارغ الصبر اليوم الذي أظهر له فيه حاجتي إليه.

– إذن هو خاضع لك؟

– حتى الموت وإني حينما قلت للمفتش «كنت أحسب أن الساعة العاشرة الآن» لم يكن سؤالي عن الساعة غير الإشارة إليه بأنها الموعد بيننا.

فدهش ميلون وقال له بسذاجة الأطفال: كيف حصلت على هذه السلطة وأي رجل أنت؟

– سأخبرك فيما بعد، ثم جعل يحل قيوده.

– ماذا تفعل؟

– إني أحل قيودي لأنها سهلة الحل.

– كيف ذلك ومتى كانت قيود المسجونين في طولون تحل حلًّا سهلًا وهي من حديد؟

– ذلك لأن قيودي غير قيودك؛ لأن قيودك لا تنزع إلا بعد كسرها أو بردها.

وكانت العادة في هذا السجن أن كل سجين يربط ساقه بقيد خاص ثم يقرن بقيد آخر إلى رفيق من المسجونين بحيث يغدو كل اثنين بقيد واحد، وذلك مبالغة في الحذر من هربهم؛ لأن هروب الاثنين أصعب من هروب واحد.

وما أوشك ١١٧ أن يتم حديثه مع رفيقه ميلون حتى انفصل عنه وأصبح كل منهما لا يربط إلا بقيده الخاص، فقال لميلون: لم يبق لي إلا أن يأتيني الحداد بالملابس التي طلبتها منه لأخرج من هذا السجن.

– أتذهب وتدعني وحدي؟

– لا بد من ذلك لأني سأرجع فإن ساعة نجاتنا لم تحن بعد لأنه قبل أن نبرح هذا السجن الضيق يجب أن نعلم أي محل نقصد من ذلك السجن الواسع لأن الدنيا بأسرها سجن للمجرمين.

– ولكننا نذهب إلى باريس لإرجاع المال إلى الفتاتين، ألم تعدني بهذا؟

– ذلك لا ريب فيه غير أني إذا خرجت من هذا السجن فلا أحب الرجوع إليه، ولا بد لي إذن من أن أخبر أصحابي في باريس بعزمي على الفرار كي يعدوا لي وسائل التنكر وإنما لا تخشى أيها الرفيق فلا يمر بنا أسبوع حتى نخرج من هذا المكان الرهيب على أن لا نعود إليه.

فحك ميلون أذنه إشارة إلى عدم ثقته من الفوز وقال: إن كل ذلك ممكن غير أني لا أزال أخشى أمرًا واحدًا.

– ما هو؟

– هو أن مفتش هذا السجن يخطر له في أكثر الأيام أن يتفقد المسجونين عند انتصاف الليل.

– وما تخشاه من تفتيشه في تلك الساعة؟

– أخشى أن يراني وحدي فيعلم فرارك.

– ومن أخبرك أنك تكون وحدك؟

فانذهل ميلون وقال إني لم أكن أصدق بوجود الأبالسة، غير أني أجد الآن أنه لا بد لي من التصديق.

فضحك ١١٧ وقال لرفيقه: إنك لم تر شيئًا بعد، وسترى عجائب كثيرة فدعني الآن أنام ساعة إذ قد فرغت من جميع عملي ولم يبق علي غير انتظار الملابس التي سيأتيني بها الحداد.

ثم انقطع عن محادثته وغرق في لجج من الهواجس وميلون يحسبه نائمًا.

ولما دنت الساعة العاشرة سمع ميلون وقع أقدام خفيفة وكانت أصوات المسجونين قد خفتت وانقطعت شكاويهم وشتائمهم وسادت السكينة بهذا السجن، ثم رأى ميلون رجلًا يمشي مشيًا وئيدًا إليهما.

وكان هذا الرجل حداد السجن فهز ميلون رفيقه وقال له همسًا: قم لقد بلغت الساعة العاشرة.

فنهض ١١٧ وقال: إني سمعت دقاتها.

وكان الحداد قد وصل إليهما فقال بصوت خافت: ها أنا ذا يا حضرة الرئيس وقد أتيت في الموعد.

– حسنًا فعلت فاخلع ثيابك ألعلك أحضرت ما أوصيتك به؟

– لقد أحضرت كل شيء.

ثم خلع ثيابه وخلع السجين ثيابه فلبس كل منهما ثياب الآخر، وأخذ السجين من الحداد علبة ففتحها وأخرج منها قبعة يغطيها الشعر المستعار بلون شعر الحداد، فلبسها إخفاء لحاله لأن المسجونين تحلق رءوسهم ثم أخرج منها لحية وشاربين فلبسهما ووضع على وجهه وجهًا مستعارًا يشبه وجه الحداد كل الشبه. وبعد أن فرغ من جميع ذلك وضع قيده برجل الحداد وربطه إلى قيد ميلون ثم سأله عن كلمة المرور وودع الاثنين وانصرف.

٧

وخرج من السجن دون أن يعترضه أحد من الحراس لأنهم حسبوه أنه نويل الحداد الذي كان مقيدًا في مكانه، لا سيما وأنه كان عارفًا كلمة المرور.

وبعد ذلك بربع ساعة كان يجتاز شوارع المدينة فوقف على دكان كان بابها مقفلًا، غير أن نورًا خفيفًا كان ينبعث من نافذتها، فطرق الباب بلطف وبعد هنيهة سمع صوتًا من الداخل يقول: من أنت؟

فأجابه: أنا نويل.

– أليس لك اسم آخر؟

– نعم وهو كريكو.

ففتح الباب في الحال ورأى ١١٧ نفسه في دكان بائع ملابس قديمة غير أن المرأة التي فتحت له تفرست به مليًّا ثم تراجعت منذعرة وقالت: لقد خدعتني فلست نويل.

– صدقت ولكنني الرجل الذي تنتظرينه.

وكان يوجد رجل منزويًا في زاوية الدكان فقال لها: دعيه يدخل، فإنه الرئيس. ثم قام إلى الباب وأقفله وقال للسجين: إننا ننتظرك يا سيدي منذ عهد بعيد.

– ذلك أكيد غير أن الأمر لا ينقضي في هذه الليلة.

– كيف ذلك ألا تريد الفرار؟

– كلا.

فجعل الرجل والمرأة ينظر كل منهما إلى الآخر بكآبة وانذهال.

أما السجين فإنه ابتسم ابتسام الحزين وقال: لماذا تستغربان فإني راض عن عيشة السجون.

فقالت المرأة: لا جدال في الذوق.

– غير أني سأهرب من سجني قريبًا، وقد خرجت منه الليلة كي أعد لوازم الفرار.

فأظهرت المرأة سرورها وقالت: هذا هو الكلام المفيد فلم يعد عليك إلا أن تأمر فتطاع.

فقال السجين: إني أطلب إليكما أن توجِدا لي في هذه الأيام خادمًا يصلح أن يكون خادم غرفة.

فانبرى له الشاب وقال: ألا أصلح أنا لهذه الخادمة يا سيدي.

– سوف نرى.

فقالت المرأة العجوز: ألست في حاجة إلى شيء الآن؟ ألا تريد أن أهيئ لك طعامًا شهيًّا؟

– كلا، إني سأتعشى في المدينة.

– أين؟

– في فندق فرنسا عند امرأة حسناء.

– لا غَرْوَ في ذلك فإنك شاب جميل.

ونظر السجين إلى ساعة فضية تركها له نويل في جيبه فرأى أن الساعة بلغت العاشرة ونصفًا فقال: لقد حان الموعد ويجب أن أغير ملابسي.

فقال الشاب: إن نويل قد ترك هنا صندوقًا لك وفيه ملابس مختلفة.

– أين هو؟

– في الغرفة العليا.

– سِر بي إليها.

فأنار الشاب شمعة وصعد أمامه إلى تلك الغرفة والسجين يتبعه، حتى أراه الصندوق فأطلق سبيله وفتح الصندوق، وأخرج منه ما يحتاج إليه من تلك الملابس.

أما الشاب فإنه عاد إلى أمه العجوز فقالت له: ألم أقل لك إنه سينتهي بالخروج من سجنه؟

– ولكنه بقي فيه عشرة أعوام.

– لا بد أن يكون له مأرب من البقاء فيه.

– لا ريب بما تقولين لأن من كان مثله لا يتعذر عليه الخروج من السجن.

– هو الحق ما تقول ولكن الغريب أني ما عرفته عند دخوله.

– كيف تستطيعين أن تعرفيه وقوته توشك أن تكون منحصرة في التنكر، حتى لقد بلغ من براعته في هذا الفن أنه لو تنكر بشكل أميرال بحري لاستحال على أركان حربه أن يعرفوه.

– أما هذا الرجل فإنه سيعود دون شك مركيزًا من أصحاب الملايين، غير أن الذي لا يزال يشغلني من أمره بقاؤه في السجن عشرة أعوام وهو قادر كل يوم على الخروج منه.

– إني أرتاب بأمره يا أماه.

– بأي شيء ترتاب؟

– أظن أنه مصاب بحزن شديد.

– أتظنه كآبة غرام؟

– كلا ولكنه حزن يخترق القلب فقد أحب امرأة كانت تحسبه أخاها فانتهى به الأمر أنه بات يحسبها أخته.

– لقد عرفت هذه الحكاية.

– وهو يخشى إذا ذهب إلى باريس أن يراها أو تراه فيها ففضل البقاء في السجن؛ ولهذا أظن أنه اتصل به خبر وفاتها ولولا ذلك لما أراد الفرار.

– هذا ممكن.

وفيما هما يتحادثان نزل السجين من الغرفة بملابسه الجديدة، فصاحت العجوز وابنها صيحة دهشة لأنهما لم يعرفاه وقد رأيا أمامهما بحارًا جميلًا مسرَّح الشعر لطيف الهندام ذا لحية قصيرة سوداء.

غير أن السجين لم يكترث لاندهاشهما وقال للعجوز: اذهبي أمامي إلى فندق فرنسا فقد أزف وقت اللقاء. ثم قال: إن نويل لا بد أن يكون ترك لي نقودًا عندكم.

٨

ولنسبق الآن اﻟ ١١٧ إلى هذا الفندق الذي تقيم فيه تلك الفتاة عشيقة كوكوديس.

كان كوكوديس يدعو هذه الفتاة باسم نيشات تحببًا وكان أصحاب الفندق يدعونها مدام بريفوست.

وليس من يعلم ما جمع هذين العاشقين غير أنهما لقيا من حلو العيش ومره ما يلقاه جميع العشاق.

وكانت هذه الفتاة في الثلاثين من عمرها جميلة الوجه قوية العضل عصبية المزاج، وكانت جميع مظاهرها تدل على أنها أسمى أدبًا وأرفع نفسًا وأبعد همة من عشيقها، كما أن ملابسها كانت تدل على أنها قادمة من باريس.

غير أن اتصالها بكوكوديس وارتضاءها أن تعيش في طولون لا يزالان سرًّا من الأسرار.

أما عشيقها هذا فقد كان كثير النزق غير مجمل بصفة من الصفات الأدبية، وقد خسر يومًا في البورصة خسائر لم يستطع وفاءها، فهتك شرفه بيده كي يصونه باليد الأخرى وزور سندًا على أحد المصارف راجيًا أن ينجده أبوه لطمعه بثروته. غير أن الحكومة علمت بتزويره قبل أبيه وحكمت عليه بالسجن الذي رأيناه فيه.

وقد جاء في صباح اليوم الذي نقص فيه هذا الحديث إلى فندق فرنسا وقال لخليلته: إنك ستعودين إلى باريس بعد ثلاثة أيام فهل تريدين أن تقضي حاجة فيها للسجين الذي نمرته ١١٧؟

ثم أخبرها عن هذا السجين وعن طباعه وصمته الدائم مما شوَّقها إلى لقائه وقالت له: إني أحب أن أرى هذا الرجل الغريب الأحوال ولا بد أن يكون له شأن عجيب.

– إنه سيحضر إليك ويتناول العشاء معك.

– متى؟

– في الساعة ١١ من هذا المساء.

– ألعله مطلق السراح في السجن مثلك؟

– كلا بل إنه مقيد مع رفيق له في قيد واحد ومع ذلك إنه سيحضر لأني بدأت أصدقه في جميع ما يقول، وإن يكن خروجه من السجن من المستحيلات.

وبعد أن أقام عندها مدة برحها وعاد إلى السجن. ولم تكن تفتكر تلك المرأة طول نهارها إلا بهذا السجين وما نقله إليها عشيقها من مقدرته وغرابة أطواره.

ولما دقت الساعة ١١ أتى إليها خادم الفندق وأخبرها أن ضابطًا من ضباط البحرية قدم لزيارتها فما شكت أنه السجين وقالت للخادم: إني قد دعوته للعشاء ادخل به إلي وأعدَّ لنا المائدة.

وبعد حين دخل اﻟ ١١٧ فأمرته بالجلوس وقالت له: أنت هو؟

– نعم.

وجعل كل منهما ينظر إلى الآخر نظر الغامض المستطلع، إلى أن بدأ السجين بالحديث فقال: إنك لست المرأة التي كنت أرجو أن أجدها.

فابتسمت له وقالت: ماذا تريد بذلك؟

ولم يجبها على سؤالها، وقال وهو يحدق بها: إنك لا بد أن تكوني تعذبت كثيرًا؟

فارتجفت وقالت: ماذا يهمك عذابي؟

فنظر إليها نظرة غريبة دعتها إلى الإطراق بنظرها وقال لها: أريد أن أعرف.

– نعم لقد تعذبت ولا أزال أتعذب.

– ولكن عذابك لم يكن من أجله دون شك.

وأشار بذلك إلى عشيقها الكوكوديس، فأجابته بإشارة احتقار بدت من شفتيها.

فسُر السجين لهذه الإشارة وقال لها: لقد أحسنت؛ لأنك إذا لم تكوني المرأةَ التي كنتُ أرجو أن أجدها فإنك المرأة التي أحتاج إليها. ثم نظر إليها نظرة شديدة تكهرب بها جسمها، فلم تستطع تحملها وأطرقت ببصرها وهي تقول: ما هذه النظرات الغريبة التي أخضع لها مكرَهة. إني ما عرفت غير رجل يستطيع إخضاعي بهذه النظرات النارية.

– ومن هذا الرجل؟ هو …

– نعم.

– وماذا حدث له؟

فقالت بصوت أجش: إنه مات.

– لا بأس فسنشترك في البكاء عليه.

ثم جلس بقربها وأخذ يدها فصاحت صيحة منكرة لم ينتبه لها وقال: أريد معرفة كل شيء.

وزاد اضطرابها وتمتمت قائلة: ما هذا الرجل وكيف أتاه هذا السلطان علي؟

– قلت لك إني أريد أن أعرف كل شيء.

– سأمتثل لما تريد.

– إن الكوكوديس يدعوك نيشات وأهل الفندق يدعونك مدام بريفوست، أما أنا فإني أريد أن أعرف اسمك الحقيقي.

– ليس لي اسم غير هذين الاسمين.

– ألم يكن لك اسم غيرهما من قبل؟

– نعم.

– أريد أن أعرفه.

وتنازعتها عوامل التردد هنيهة غير أنها لم تلبث أن خضعت لنظراته فقالت: إني كنت من قبل سيدة عظيمة وكانوا يدعونني البارونة شركوف.

– وهذا البارون كيف كان يدعوكِ؟

– فاندا.

– إذن أنت روسية؟

– لقد كنت من قبل أما الآن فليس لي اسم ولا وطن.

– وزوجك أهو ميت أم حي؟

– إنه لا يزال في قيد الحياة ولكنه يعتقد أنني ميتة.

فقال لها السجين بلهجة الاحترام: أرجوك يا سيدتي قبل أن تحكي حكايتك أن تأذني لي بكلمة أيضًا.

– قل ما تشاء.

ألم يكن الرجل الذي أحببته يشبه هذا الأبله كوكوديس الذي يحسب أنك تحبينه الآن.

فابتسمت ابتسام القانط وقالت: نعم يشبهه شبهًا غريبًا.

– ولكنك لا تحبين كوكوديس؟

– كيف يمكن أن أحبه وهو أبله لا عقل له؟

– إذن فلماذا غادرت باريس واقتفيت أثره في طولون؟

– لأني نذرت نذرًا.

– أظن أني عرفت بعض الأمر.

– ربما فإن لك نظرًا يخترق أعماق النفوس ويهتك حجب أسرارها.

– إن الرجل الذي كنت تهوينه قد مات موتًا رائعًا.

– اسكت.

– بل موتًا شائنًا.

– بربك كفى.

– يجب أن أعلم كل شيء ألم يمت على المقصلة بعد أن حكم عليه بالإعدام؟

– إنك لم تعلم كل شيء.

– إذن تكلمي فهكذا أريد.

– نعم إن يد الجلاد قطعت رأسه ولكن أتعلم متى وكيف؟

– كلا.

– إنه أعدم في السجن الذي أرسلته إليه بعد أن أنقذته قبل ذلك من الشنق أعلمت الآن؟

– أتمِّي حديثك إذ يجب أن أعلم كل شيء.

٩

فقالت فاندا: إني كنت سيدة عظيمة وقد تعلقت بهوى رجل مجرم ثم أصبحت من النساء المبتذلات، ولكني قبل كل هذا كنت فتاة من عامة الناس وكان اسمي فاندا فقط.

وكنت أقيم مع أبي الشيخ في قرية صغيرة على حدود بولونيا الروسية وكان منزلنا مشرفًا على سجن المدينة فإذا جلست إلى النافذة أرى المسجونين، وكنت في ذلك العهد في الثامنة عشرة من عمري، ولي فوق جمال الصِّبا جمال السلامة والطهارة.

ولم يكن يستطيع أبي العمل لعجزه فكنت أشتغل لأقوم بأودِه، فأنهض من الفجر وأشتغل منذ الصباح إلى أن يخيم الظلام، فكلما نظر سجين إلى مبلغ انهماكي في العمل يتأوه ويرثي لحالي.

واتفق يومًا أني رأيت بين أولئك المسجونين رجلًا أبيض اللحية وهو مقيد بقيد من حديد خلافًا لرفقائه، فسألت عنه فقيل لي إنه كونت من نبلاء بولونيا وإنه محكوم عليه بالإعدام، فأشفقت عليه إشفاقًا عظيمًا منذ ذلك العهد وأصبحت كلما رأيته أبتسم له فيخال لي أنه يتعزى بابتسامي.

ومضى على ذلك عدة أيام إلى أن أصبحت يومًا، وأحد خفراء السجن يطرق بابي فقال: إن الكونت البولوني سيشنق اليوم وقد طلب أن يراك قبل أن يموت والتمس من رئيس السجن أن يأذن له بالاختلاء معك بحيث لم يبق إلا أن تجيبي طلبه إذا أحببت.

فلم يسعني إلا تحقيق أمنية هذا المسكين وقلت للحرسي: سر أمامي وأنا في أثرك؟

فسار أمامي وتبعته إلى السجن، فأدخلني إلى غرفة الكونت وانصرف.

فلما انفردت بهذا الشيخ قال: اعلمي يا بنيتي أنه كان لي ثلاثة أولاد فقتلتهم جميعهم يد الجلاد، وكانت لي امرأة فأصابها ما أصاب أولادها بحيث لم يبق من أسرتي إلاي، ولكني بعد ساعة ينفذ بي حكم الإعدام.

فأجفلت لحكايته المفجعة وقلت لسلامة قلبي: عجبًا كيف يحق للإنسان أن يقتل أخاه الإنسان وكيف تنهى الحكومة عن القتل وتعمل به؟

أما الشيخ فإنه مضى في حديثه فقال: وقد بقي لي في هذا السجن شهر، وأنا أراك في كل يوم من نافذة غرفتك عاكفة على العمل، فحنَّ إليك قلبي حنوًّا أبويًّا لما رأيته من اجتهادك وعزمت على أن أجعلك وريثتي الوحيدة.

وقد ضبطت الحكومة جميع ما لي من العقار، غير أني خبأت جميع أموالي في مكان خفي فإذا شئت أرشدتك إلى مكانها وصيرتك غنية عظيمة، ولكني أشترط عليك شرطًا واحدًا وهو أن تنفقي قسمًا من هذا المال في سبيل إنقاذ مجرم من الشنق كل عام وتبذلي جهدك في هذا السبيل.

فنظرت إلى ذاك الرجل النبيل نظرة الإعجاب وجثوت أمامه بملء الاحترام وقلت له: أقسم بالله أني سأفعل ما تريد. فأرشدني إلى كنزه المخبوء.

وبعد ساعة نفذ فيه حكم الإعدام، وبعد شهر مات أبي الشيخ فأصبحت وحيدة في هذا الوجود ولكني أصبحت غنية بعد الفقر وباتت ثروتي تعد بالملايين.

وما مضى عهد بعيد حتى ذاع أمر ثروتي، وكان من الذين حاموا حول هذه الثروة البارون شركوف فتزوجني بل تزوج أموالي، وجاء بي إلى باريس.

وبينما كنت يومًا أقرأ جريدة عثرت فيها على نبأ هائل، وهو أنهم وجدوا امرأة قتيلة في منزلها مطعونة سبع عشرة طعنة، وقد وجدوا أنه لم يسرق شيء من أموالها ومجوهراتها، والبحث جار عن القاتل.

فذكرت في الحال وصية الكونت وقلت في نفسي إن الفرصة قد دنت للبر بيميني، وقد أعجبني من القاتل أنه لم يكن لصًّا ولم يرتكب جريمته طمعًا بمال، فأوقفت نفسي من تلك الساعة على البحث عنه بغية إنقاذه، ولكني قرأت بعد حين أن القاتل أركن إلى الفرار، فأسفت أسفًا شديدًا لأني كنت أحب أن تكون نجاته على يدي.

أما زوجي البارون شركوف فقد كان وحشي الأخلاق مقامرًا سكيرًا يصرف نهاره بالنوم والعربدة وليله بالسكر والمقامرة، وقد قال لي مرة في غيبوبة سكره إنه ما تزوجني إلا لمالي، فكرهته بعد حبي له أشد الكره وكشفت له مرة في سكرة غرام سر ثروتي واليمين التي حلفتها، فهزأ بي، ولم يقف عند هذا الحد، بل أخبر بسري أصحابه، فانتشر أمري في جميع باريس.

وكان كما ذكرت لك يدعني في المنزل وحدي في الليل ويذهب إلى ناديه للمقامرة بأموالي.

فبينما أنا جالسة ليلة في غرفتي أفكر بمستقبل أمري مع هذا الزوج الفاسد وقد انتصف الليل ونام جميع الخدم، سمعتُ وقع أقدام خارج غرفتي ثم رأيت بابها قد انفتح ودخل علي شاب جميل الطلعة عليه ملامح الذعر فقال لي قبل أن أستغيث: أنقذيني بالله فأنا قاتل المرأة.

وكان لهذا الرجل عينان كعينيك لم أر أقدر منهما على التسلط وجذب القلوب، وكنت قد سئمت العيش مع زوجي فأشفقت على ذاك الجاني، بل جذب فؤادي مغناطيس عينيه وتذكرت اليمين التي حلفتها للكونت فقلت له: لبيك فسأنقذك.

وعند ذلك أسرعت إلى خادمة كانت مخلصة لي فأيقظتها وجمعت ما كان لدي من الأوراق المالية والمجوهرات وأخذت جواز السفر المكتوب باسم زوجي وقلت للمجرم هلم بنا فلنهرب جميعًا وخُذ الجواز فادع نفسك باسم صاحبه.

ثم هربنا جميعًا بعد أن تركنا هذه الرسالة الموجزة وهي:

إني لا أحبك وأحتقرك فلا تبحث عني لأنك لن تراني.

١٠

فجعل اﻟ ١١٧ ينظر إلى فاندا نظر الطبيب يفحص عليلًا ثم قال لها: أتمِّي حديثك يا سيدتي.

فقالت: خرجنا عند انتصاف الليل فبلغنا الهافر عند الصباح وبعد ذلك ببضع ساعات ركبنا سفينة مسافرة إلى أميركا فأقمنا في تلك القارة الجديدة ثلاثة أعوام أنفقنا في خلالها جميع ما كان باقيًا لدي من المال والمجوهرات.

غير أنه كان يظهر لي أن ذاك الرجل غني فإنه كتب إلى أوروبا فأرسل إليه ٢٠ ألف فرنك، وكان يحبني وكنت هائمة به فكانت حياتنا شبيهة بالحلم.

ثم جعلنا إقامتنا في نيويورك وكنا نعيش فيها عيشة بذخ وإسراف ولما فرغ المال الذي أتاه من أوروبا أظهرت له خوفي من الإفلاس، فقال لي: لا تخافي فإني أحصل على المال حينما تريدين، فما جسرت بعد ذلك على سؤاله، ولكن سكوته كان يخيفني.

وكان يأتي إلى منزلنا كثير من الأميركيين المشتبه بسيرتهم وكان هو نفسه يأتي متأخرًا فلم أكن أستطيع اعتراضه لأنه كان سيدي وكنت أحبه حتى لو أمرني أن أتجرع السم لما خالفتُ له أمرًا.

وبينما كنت ساهرة ذات ليلة أنتظر عودته وقد أوشك الفجر أن ينبثق إذ رأيته داخلًا وهو مصفر الوجه وعليه علائم الاضطراب، فذعرت وقلت له: ما أصابك؟ قال: لا شيء فإني بارزت خصمًا لي فقتلته، غير أن البوليس الأميركي سيطاردني لأن المبارزة غير جائزة في البلاد، فهلمي بنا إلى الباخرة المسافرة الآن إلى الأنتيل.

وكانت يده مخضبة بالدم فغسلها وتهيأت للسفر ثم خرجنا قبل شروق الشمس إلى الميناء، فلما أراد السفر أخرج من جيبه محفظة فرأيتها غاصة بالأوراق المالية ورأيت عليها أثر الدم فعرفت كل شيء وعلمت أن الرجل الذي أحببته وتركت زوجي من أجله لم يكن قاتلًا فقط بل كان لصًّا أيضًا، ومع ذلك بقيت على حبه كأنما جرائمه زادته في نفسي إجلالًا، وهذه إحدى غرائب النساء.

وأقمنا في جزائر الأنتيل ثلاثة أعوام فاشتاق إلى باريس ورأى أن جميع ملامحه قد تغيرت فلم يعد يخشى مطاردة بوليسها فرجعنا إلى تلك العاصمة واستأجرنا فيها منزلًا جميلًا واقتنينا جياد الخيل والمركبات، فمنح نفسه لقب كونت وامتزجنا مع عائلات باريس فكان ينفق عن سعة وما جسرت مرة على أن أسأله كيف يأتيه المال.

وكان يختلط بكثير من ذوي السيرة المشتبهة كما كان يفعل في نيويورك، غير أنهم جميعهم كانوا يخضعون له خضوع الخدم للأسياد، ثم علمت بعد حين أنه كان زعيم عصابة من اللصوص اشتهرت شرورها في باريس وجعل البوليس يترقبها دون أن يعثر برجل من رجالها.

إلى أن عاد إلي ذات ليلة وهو مخضب بالدم وقد اخترقت صدره رصاصتان، فانطرح على سريره دون أن يبالي.

وفي اليوم التالي ذاع في باريس أنه حدثت جناية هائلة قُتل فيها غني عظيم من أصحاب المصارف في منزله الذي كان يعيش فيه منفردًا مع خادم غرفته وقد قتل بعد أن دافع دفاعًا شديدًا لأن جثته وُجدت في الحديقة حيث طارد اللصوص الذين حملوا صندوقه وأفرغوا جميع ما في مسدسه من الرصاص.

أما أولئك اللصوص فقد كانوا ثلاثة بينهم خادم غرفة صاحب المصرف كما دل عليه التحقيق، وبعد أسبوع تمكن البوليس من القبض على الخادم فاعترف بالجناية وأرشد الحكومة إلى شركائه فيها، فأقبل رجال الشرطة بعد ساعة إلى منزلنا وقبضوا على خليلي فيه وهو لا يزال طريح الفراش، فنظر إلي مبتسمًا وقال: لا تجزعي فإني لا أموت شنقًا لأن جرحي لا يمهل الحكومة إلى حين إعدامي، فذكرت بلفظة الإعدام المشنقة التي ذكرتني بيميني للكونت فقلت في نفسي: لا بد من إنقاذه.

وسار به الجند إلى المستشفى ولكن فأله خاب لأنه لم يمت بل شفي من جراحه ونقل من المستشفى إلى السجن، وكان محكومًا عليه بعشر جنايات وباحتراف السرقة بالاغتصاب مدة عشرة أعوام، فهو يستحق الإعدام ألف مرة، غير أني بذلت من المساعي ما يقف دون جهد المجاهدين وفزت بإنقاذه من الإعدام فحُكم عليه بالسجن بالليمان.

وقد تمكنت من رؤياه قبل إرساله إلى الليمان فقال لي: احضري إلى طولون فإني سأنجو من السجن ونسافر معًا إلى إيطاليا، وكنت لا أزال أحبه فامتثلت.

فقاطعها السجين ١١٧ وقال لها: إني أعرف بقية الحكاية.

فاضطربت وقالت: ألعلك عرفته؟

– كلا ولكني وصلت إلى سجن طولون في اليوم التالي للحادثة.

– إذن أنت تعرف كل شيء.

– نعم فإنه أعد معدات فراره بمهارة فائقة وكنت أنت تنتظرينه في باخرة تجارية تعهَّد ربانها أن يحمله عليها.

غير أن رفيقه بالقيد خانه فإنه بعد أن قطع قيده قبضوا عليه وهو يحاول أن يلقي نفسه في البحر والبلوغ سباحة إلى السفينة، ولكنه تمكن قبل القبض عليه من قتل رفيقه الذي خانه.

ولما كان النظام يقضي بإعدام كل مجرم يقتل مجرمًا في السجن، فقد تقرر إعدامه بعد ٢٤ ساعة.

– ولكنك لا تعلم بعد ذلك ما حدث فإني تمكنت من الدخول إلى السجن بشكل عامل من عمال الميناء وكانوا قد ضاعفوا قيوده وبالغوا في خفارته ومع ذلك كنت لا أقطع رجائي فاسمع ما حدث.

١١

إنه في كل مدينة كمدينة طولون يوجد فيها مجلس تنفيذي يوجد فيها منزل يبتعد عنه الناس ويخشون منه، وهو منزل ذلك القاضي الذي منحه القانون حق الإعدام.

وفي كل سجن كسجن طولون يوجد سجين يكرهه رفقائه وينظرون إليه نظر الازدراء وهو الجلاد.

ومثل هذا الجلاد في ذلك العهد يفعل بدرهم ما لا يفعله سواه بألف وقد اشتريت هذا الجلاد بالمال ووضعت له قبل تنفيذ الإعدام مخدرًا في كأس شرابه، فلما دُعي لتنفيذ الحكم صعق وسقط على الأرض كالقتيل.

وكنت أرجو بهذا المخدر أن أؤجل زمن الإعدام إلى أن تتم لي معدات إنقاذه، ولكني عندما أعددت كل شيء وبات إنقاذه مضمونًا تقدم أحد المسجونين الأسافل في آخر لحظة وعرض على رئيس السجن أن ينوب عن الجلاد.

ثم وقفت مذعورة كأنما تلك الحادثة قد تمثلت لعينيها وقالت: وا أسفاه إني رأيت رأسه قد هوى أمامي.

ثم ضحكت ضحكًا عاليًا وقالت: إني لا أزال أحبه وقد أقسمت أمام خياله إني سأنقذ مجرمًا من الإعدام كما أقسمت للكونت من قبله.

– إذن فإن إقامتك في باريس ليست إلا لهذا الغرض؟

– نعم.

فأخذ السجين يدها وقال لها: انظري إلي، وجعل ينظر إليها نظرات كانت تخترق أعماق قلبها.

فقالت له: ماذا تريد مني؟

– أريد أن أعقد معك عهدًا، أتقبلين؟

– نعم؟

– إني سأنقذ لك مجرمًا من الإعدام وكل ما أريده أقدر عليه.

– وما تطلب مني بعد ذلك؟

– إني في حاجة إلى امرأة تشاركني فيما سأمثله من الأدوار، وأريد أن تكون خاضعة لي خضوعًا لا حد له.

– سأكون كما تريد وأقسم لك على الوفاء بذلك الرأس الذي رأيته يسقط أمامي.

فنهض المائة وسبعة عشر وقال: إني أفارقك الآن فإن الساعة قد بلغت الثالثة من الصباح.

– إلى أين تذهب؟

– إلى السجن.

– أأراك قريبًا؟

– ربما، ولكنك سترد إليك أخباري غدًا، وفي كل حال فإني لا أريد أن تبقي في هذا الفندق.

– سأذهب حينما تشاء.

– ولا أن تجتمعي بكوكوديس.

– سأمتثل لما تريد.

– وسأرسل لك غدًا نويل.

– من هو نويل هذا؟

– هو أحد رجالي. ثم تركها ومضى.

•••

بينما كان ١١٧ يسمع حديث فاندا الروسية كان ميلون نائمًا بجانب نويل الذي كان مقيدًا معه بدلًا من المائة وسبعة عشر، وقد حاول أن يباحثه غير أنه لم يفلح فإن الرفيق الجديد لم يجبه بحرف ولم يجد عند ذلك بدًّا من النوم.

ولما دوى مدفع السجن عند الصباح وهو الموعد الذي يستيقظ فيه المجرمون شعر ميلون أن يدًا تهزه، ففتح عينيه ورأى رفيقه المائة وسبعة عشر يؤنبه لاستغراقه في النوم، وقد تبدل ذلك الضابط الجميل بمجرم شقي محلوق الرأس والشاربين.

فانذهل ميلون لأنه لم يشعر به عند عودته ولم يعلم كيف حل القيد من رجله دون أن ينتبه.

أما ١١٧ فإنه لم يحفل بانذهاله وجلس بجانبه دون أن يكلمه بحرف.

ثم أقبل وكيل السجن ومعه الخدم يحملون الطعام والشراب للمحكوم عليهم بالأشغال الشاقة، فلم يأكل ١١٧ وقال للوكيل: إني أتخلف عن حصتي لرفيقي ميلون فقد حلم حلمًا مزعجًا الليلة.

فقال الوكيل: ماذا حلم؟

– إني هربت من السجن.

– قبح وقبح هذا الحلم فإن تحقيقه يدعو إلى إهلاكي وأنت لا بد أن تكون حلمت أيضًا، فماذا حلمت؟

– إني تعشيت مع امرأة حسناء وشربت معها الشمبانيا المثلجة، ولهذا فإني لم آكل الآن لأني لا أزال متخومًا من طعام الحلم.

فتركه الوكيل ضاحكًا، وانصرف ١١٧ وميلون ذاهبين إلى الأعمال الشاقة، وفيما هما سائران لقيا بونفير السجين صاحب حكاية الكلب التي تقدم ذكرها فدنا منه ١١٧ وقال له بصوت منخفض: إن الوكيل الذي قتل كلبك تعين في سجن طولون وهو فيه منذ أمس.

فاضطرب بونفير واحمرت حدقتاه من الحقد وقال: إذن فلا بد له من الموت.

– تبًّا لك من أبله فإن من يريد الانتقام يكتم قصده في صدره ولا يبوح به لأحد.

– ولكني لا أستطيع أن أضبط نفسي.

– أتعلم ما كنت أصنع لو كنت مكانك؟

– كلا!

– كنت أحسن سلوكي عدة أيام لأكون في عيون الحرس كالحمل الوديع، إلى أن تحين الفرصة فأفعل ما أشاء.

– سأمتثل لما تقول.

ثم ذكر كلبه وجعل يبكي.

وتركه اﻟ ١١٧ وسار مع ميلون إلى محل الشغل فلقي فيه نويل الحداد وقال له همسًا: أظن أنك تستطيع الآن أن تبلغ تلك السيدة المقيمة في فندق فرنسا أنه سيصدر قريبًا حكم الإعدام في سجن طولون.

فأشار نويل إشارة الامتثال ومضى كل في شأنه.

١٢

بعد يومين من هذه الحوادث المتقدمة وقفت مركبة بريد على باب سجن طولون، ونزل منها رجل وامرأة، وكانت ظواهرهما تدل على أنهما من النبلاء الإنكليز.

وكانت المرأة بارعة في الجمال، فدخلَا إلى السجن وأبرزَا لمديره ترخيصًا قانونيًّا يبيح لهما الفرجة على السجن وتفقد حالة المسجونين فيه.

وقد كتبت هذه الرخصة باسم السير أرثير بمبروك أحد ضباط البحرية وزوجته الشرعية.

فاحتفل المدير باستقبالهما وكلف أحد الضباط بالدخول بهما إلى السجن وجعلا يطوفان بجميع المجرمين ويسألان عن كل مجرم وجريمته، ولا سيما تلك المرأة الحسناء التي لم يسع الضابط إلا إجابتها.

وكانت المرأة تبدو بمظاهر الغنى العظيم فتشتري كل ما يعرض للبيع في السجن وتدفع ثمنه بسخاء.

وكان مما اشترته جزدانًا كبيرًا من الصدف لوضع النقود فيه، فأخرجت من جيبها خمسين جنيهًا مزدوجًا ووضعتهما في الجزدان دون اكتراث، ثم أعادته إلى جيبها ومشت مع زوجها وذلك الضابط الذي فتن بسحر عينيها إلى أن بلغت إلى بونفير صاحب حكاية الكلب ورأته مقيدًا بأصفاد ثقيلة، فرثت لبلواه وسألته عن شأنه وعن السبب في المبالغة بالتضييق عليه.

فبكى وقال: إنني يا سيدتي لم أرتكب جريمة تستحق هذا العذاب الشديد وإنما قيدوني بهذا القيد الثقيل الذي لا تحتمله الحيوانات الضارية لأنهم يخشون أن أقتل وكيل السجن، ثم ذكر لها بملء البساطة حديث كلبه والدموع تنهل من عينيه، وختم كلامه بقوله: إنه صفح عن قاتله منذ زمن بعيد، ولكن الحكومة لا تزال تخشاه وتعاقبه بهذا القيد المتين.

فتأثرت الإنكليزية تأثرًا غريبًا وشفعت به إلى الضابط، فوعدها خيرًا وتعهد لها بأن يحمل المدير على إنقاذه من قيده.

ثم سارت مع الضابط تتفقد المسجونين حتى أوشكت أن تقترب من ١١٧ ورفيقه ميلون، فنظر إليها ١١٧ وقال لرفيقه:

– كيف تجد هذه المرأة؟

– أي امرأة؟

– هذه الإنكليزية القادمة إلينا.

– إنها في غاية الحسن.

– هذه هي بعينها.

– كيف هي؟ ألم تقل لي إنها شقراء الشعر، فأصبح شعرها أسود؟

– سيعود إلى أصله غدًا؛ لأن من يكون في خدمتي فلا بد له أن يكون ماهرًا في التنكر.

وبينما كان الاثنان يتحدثان عنها بصوت منخفض دنت منهما وقالت إلى الضابط مشيرة إلى المائة وسبعة عشر: أي ذنب جناه هذا الشاب الجميل فاستحق هذا العقاب؟

قال: إنه يا سيدتي أشهر رجل بين المجرمين ولست أعلم حكايته فإن المدير يعرفها وهو يخبرك عنها دون شك، ولكننا مأمورون بالمحافظة عليه ومراقبته مراقبة شديدة، دون رفاقه، في حين أنه لم يحاول مرة الإفلات من سجنه.

فلم تجب الإنكليزية وتظاهرت بعدم الاهتمام بشأنه، ثم تأبطت ذراع زوجها، وبينما كان الضابط يسير أمامهما أخرجت الجزدان الذي وضعت فيه المائة فرنك وألقته حيث كان يشتغل السجين فوضع رجله فوقه وبعد حين التقطه.

أما الإنكليزية وزوجها فإنهما أتمَّا دورتهما في السجن إلى أن فرغا مما أتيا لأجله، فودعت الإنكليزية الضابط بعد أن شفعت مرة ثانية بصاحب حكاية الكلب، ثم دعته إلى مناولة طعام المساء عندها في الفندق المقيمة به مع زوجها، فاحمر وجهه لاضطرابه وانحنى أمامها شاكرًا، فابتسمت له خير ابتسام وخرجت مع زوجها من ذلك السجن.

وفي صباح اليوم التالي دعا مدير السجن بونفير وقال له أتحسن السلوك إذا أفرجت عنك، ولا تحاول الاعتداء على الوكيل؟

فبكى بونفير وقال له: بكل تأكيد يا سيدي لأني صفحت عنه كل الصفح وقد كفرت بما لقيته من العذاب عن ذنب عدواني القديم.

فأمر المدير أن تحل قيوده وأن يشتغل مع المحكوم عليهم بالسجن للموت.

١٣

في صباح اليوم التالي صحا ميلون من رقاده ونادى رفيقه بلقب السيادة كما يناديه نويل وقال له: ألم تحن ساعة الفرار بعد؟

أجابه ١١٧: كلا، ولكنها باتت قريبة.

– متى تكون هذه الساعة؟

– لا أدري فإن أمرهما متعلق بمجرى الحوادث.

فتنهد ميلون وقال: إني لا أحب الفرار من أجل نفسي بل من أجل هاتين الفتاتين القاصرتين.

– كن ناعم البال لأن يوم الخلاص بات قريبًا.

وعند ذلك دنا منهما الوكيل ووزع عليهما الطعام، وكان هذا الوكيل يدعى موسلت، وهو عدو بونفير الألد، غير أن بونفير أبر بوعده فإن الوكيل مر من أمامه عدة مرات، فلم يهجم عليه بونفير واكتفى بأن أدار له ظهره كي لا ينظر إليه.

ولما دنت فرصة الظهر ذهب أولئك المسجونون إلى ظهر باخرة كانوا يشتغلون بإصلاحها وأقاموا فيها يصرفون وقت الظهر بالمنادمة والمسامرة.

فقال أحدهم: إن الكوكوديس لم يحضر اليوم وستفوتنا حكايته اللطيفة.

وأجابه آخر: لا تطمع بحكايته بعد الآن لأنه منقبض الصدر لسفر خليلته.

فقال ١١٧: إني أحكي لكم حكاية روكامبول أحسن مما يرويها الكوكوديس إذا شئتم أن تصغوا إلي.

فصاحوا جميعهم بصوت واحد: روكامبول، روكامبول.

وكان موسلت وكيل السجن مضطجعًا بالقرب منهم فانزعج لصياحهم وقام إليهم بالسوط منهالًا عليهم بالضرب، وكان أخص ضربه للمائة وسبعة عشر ولبونفير؛ لأنه كان يكرهما كرهًا شديدًا، فأزبدت شفتا بونفير من الغيظ غير أن المائة وسبعة عشر نظر إليه نظرة سرية كانت كالبلسم لجراحه فعادت إليه مظاهر السكينة.

أما ١١٧ فإنه قال لرفقائه بعد انصراف الوكيل: لا سبيل إلى قص حكاية روكامبول اليوم وسأرويها لكم في يوم آخر.

ثم انزوى مع رفيقه ميلون وجعل ينظر إلى سفينة حربية روسية كانت في الميناء، وقد نزل منها ١٢ جنديًّا وضابط وتلميذ فكان التلميذ ينظر إلى المسجونين نظر الفاحص.

فقال اﻟ ١١٧ لرفيقه ميلون همسًا: انظر إلى هذا التلميذ البحري فإنه المرأة الإنكليزية التي زارتنا أمس.

ولما مر أولئك البحارة بالقرب من المسحونين حياهم اﻟ ١١٧ باللغة الروسية فعجب منه ميلون وقال: أتعرف اللغة الروسية؟

– إني أعرف جميع اللغات الشائعة.

أما التلميذ البحري فإنه اختلط بالمسجونين وجعل حديثه خاصة مع ١١٧ فقال له أحد رفقائه في السجن: إذا كنت تعرف اللغة الروسية فسله عن أخبار سباستبول.

فسأله ١١٧ باللغة الروسية قائلًا: أأحضرت ما أوصيتك به؟

فأجاب بالروسية: نعم أيها الرئيس إنك أمرتني فأتيت.

فسأله السجين: ماذا يقول؟

– يقول إنه ما زال الذين يحاصرون سباستبول كسالى مثلك، فإنها لا تؤخذ.

ثم رجع ١١٧ إلى التلميذ وقال له بالروسية: ألعل السفينة مهيأة؟

أجابه باضطراب في صوته: نعم، كل شيء قد تهيأ.

– لماذا هذا الاضطراب ألعلك خائفة؟

– نعم لقد بت وجلة على هذا المسكين الذي سندفعه إلى ارتكاب الجريمة.

– إنك مخطئة ونعم إن بونفير سيقتل الوكيل العاتي ويحكم عليه بالإعدام ولكني سأنقذه من الموت.

– أأنت واثق مما تقول؟

– كل الثقة لأني كل ما أريده أقدر عليه.

وفيما هو يكلم فاندا إذ رجع منذعرًا لأن الوكيل موسلون ضربه بسوطه ضربة شديدة أعادت الزبد إلى شدقي بونفير، وإنما ضربه لأنه كان يكلم رجال البحرية الروسية.

أما التلميذ البحري أي فاندا فإنه اعتذر إلى الوكيل وقال له: إني سررت به لأنه كلمني بلغة بلادي فذكرني أهلي ووطني.

ثم أكب على عنق ١١٧ يعانقه ببساطة الأطفال، فانهال الوكيل على السجين بالضرب، ولكن التلميذ كان وضع في قميص السجين مدية طويلة وانصرف إلى رفقائه البحارة.

وبعد حين عاد المسجونون إلى العمل فأشار اﻟ ١١٧ إشارة خفية إلى بونفير فهم مرادها ودنا منه فقال ١١٧: ألا تزال مصرًّا على قتله؟

– لا راحة لي بغير قتل هذا الشرير.

– أتعلم ما وراء ذلك من المخاطر؟ فإنهم يقتلونك على أثر قتله.

– إني راض بإعدامي لأن موتي خير لي من حياته.

وعند ذلك أعطاه ١١٧ المدية فاتقدت عينا بونفير بشرر الانتقام الوحشي وقال: سأجد لهذه المدية خير غمد في صدر هذا الأثيم.

١٤

وفي الليل بينما كان المسجونون نيامًا كان اﻟ ١١٧ وميلون يتحادثان بصوت منخفض، فقال ميلون: إني لم أعلم شيئًا من قصدك يا حضرة الرئيس.

– لا بأس إذ ينبغي أن تتعود أن تخضع دون أن تعلم ولكني سأوضح لك قصدي في هذه المرة فقط، اعلم أني كنت محتاجًا إلى امرأة تساعدني على تنفيذ خطتي وقد وجدتها.

– إنها خير امرأة صالحة لخدمتك، لقد رأيت من جرأتها ومهارتها في التنكر ما أذهلني ولكني لا أزال محتارًا في أمر دخولها إلى القلعة ووجودها في مركب روسي حربي.

– إنه أمر سهل، وذلك أنها روسية المولد وتنكرت أول أمس بملابس الغلمان، وسافرت عند منتصف الليل إلى مرسيليا حيث وجدت فيها تلك السفينة الحربية.

أما طريقة اتصالها بها فهي أن نويل عثر بأوراق غلام روسي من البحارة توفي منذ شهرين في مستشفى طولون، فأخذت منه هذه الأوراق وذهبت بها إلى السفينة الروسية وطلبت إلى قومندانها أن يعيدها إلى وطنها، فأمرها القومندان وهو يحسبها غلامًا أن تنضم إلى سلك البحارة، وعلى ذلك وصلت إلى طولون وتمكنت من مخابرة أصحابي في الميناء.

فانذهل ميلون وقال: ألك أصدقاء في الميناء؟

– نعم وهم في سفينة كبيرة سأكون ربانها.

– إني لو لم أكن رأيتك بعيني خرجت من السجن لما كنت أصدق ما تقول، وكنت حسبت كلامك ضربًا من الجنون. والآن فإني مؤمن بكلامك واثق من أن لك سفينة في الميناء، ولكن متى يكون فرارنا من هذا السجن؟

– أتظن أيها الرفيق أن النجاة من سجن طولون يكفي فيها قطع القيود ومغافلة الحراس.

– إن جميع رفقائنا يهربون بهذه الطريقة.

– وكلهم مخطئون لأن الرقباء عندما يشعرون بفرار السجين ينبهون المدينة بإطلاق مدفع، ثم ينتشر الرقباء والأرصاد في المدينة فلا يمسي المساء حتى يعثروا على الهارب ويعودوا به إلى السجن، وقد ندر أن ينجو أحد من قبضتهم بهذه الطريقة. أما أنا فإني أردت الخروج من السجن ولا أريد الرجوع إليه، ولهذا فإني أهيئ أسباب الفرار منذ خمسة أيام، وكن واثقًا أننا متى بتنا خارج السجن لا يقف أحد على أثرنا.

– ذلك قد يتفق لك وأما أنا …

– وكذلك أنت فقد جعلتك من رجالي الأخصاء وعولت على أن لا أفترق عنك، ومتى وعدت فلا أنكث.

فتنهد ميلون وقال: وا رحمتاه للفتاتين.

– دع الآن الإصغاء للعواطف وأصغ إلي، فقد قلت لك إني كنت محتاجًا إلى امرأة تعينني في قضاء مآربي وقد وجدتها وأريد أن تكون عبدة لي.

ثم حكى لميلون حكاية فاندا الروسية وكيف أنها جاءت إلى طولون بغية إنقاذ واحد من الذين حكم عليهم بالإعدام.

فعجب ميلون وقال: وماذا يهمها إنقاذه؟

– إنها نذرت نذرًا أمام قبر رجل تحبه وهو إنقاذ رجل من الإعدام ولا سبيل إلى استعبادها إلا بعد وفاء النذر.

– لقد بدأت أفهم الآن ولكن هل أنت واثق من إنقاذ بونفير؟

– لا شك عندي بذلك.

– أتعلم أن نظام السجن يقضي على المجرم الذي يقتل موظفًا بأن يتلى الحكم عليه بعد ٢٤ ساعة.

– هذا الذي أعتمد عليه في حسابي أليس اليوم الإثنين؟

– الإثنين مساء.

– أظن أن الوكيل يقتل في هذه الليلة.

– وبعد ذلك؟

– يصدر الحكم على بونفير يوم الأربعاء وتنصب المشنقة يوم الخميس، فلنفرض أنه حدث حادث في السجن يوم الخميس حال دون إنفاذ الحكم.

– إذن الإعدام ينفذ الجمعة.

– كلا إن يوم الجمعة لا ينفذ فيه إعدام لأنهم يعتبرون أن المسيح مات في يوم الجمعة فلا يُقتل فيه المجرمون.

– على ذلك إن الإعدام ينفذ يوم السبت.

– ولكننا يوم السبت نكون قد بعدنا عن ساحة الإعدام.

– أين نكون؟

– في عرض البحر على ظهر سفينتي، ولقد فاتني أن أقول لك إني نشأت بحريًّا، بحيث أستطيع أن أطوف جميع البحار دون أن تجنح السفينة التي أديرها.

– أأكون معك؟

– دون شك.

– وفاندا؟

– ستكون معنا.

– وبونفير؟

– وبونفير أيضًا لأني محتاج إليكم جميعًا.

– إني لا أفهم شيئًا مما تقول.

– ذلك خير لك إذ يجب أن تتعلم الامتثال دون أن تفهم كما قلت لك، ثم رجع ١١٧ وجعل يتنصت.

فقال له ميلون: ماذا تصنع؟

– إني أصغي إلى صوت المبرد بيد بونفير لأنه يبرد قيده به.

– ألعلك أعطيته مبردًا؟

– نعم، فإن إحدى شفرتي المدية التي أعطيته إياها مبرد يصلح لكسر القيود.

وعند ذلك دقت الساعة العاشرة فقال ١١٧ لرفيقه: دعني أنام الآن، وسأصحو حين قدوم المفتش. ثم أغمض جفنيه وانقطع عن الكلام.

وكانت العادة في سجن طولون أن المفتش والحداد يطوفان كل ليلة عند منتصف الليل فيفحصان قيود المسجونين حذرًا من فرارهم، وكان المفتش موسلون عدو بونفير، والحداد نويل صنيعة ١١٧.

فلما انتصف الليل أقبل المفتش يحمل مصباحًا ونويل يحمل مطرقة، وجعلا يوقظان المساجين دون إشفاق فيطرق نويل قيد كل واحد منهم فيعلم من صوت الحديد إذا كان سالمًا أو مكسورًا.

وما زالا على ذلك حتى انتهى الدور إلى بونفير، وكان نويل عارفًا بالمكيدة فلما طرق قيد بونفير نهض وتراجع منذعرًا إلى الوراء بحيث أصاب عن عمد مصباح المفتش، فسقط من يده وانكسر، وعند ذلك هب بونفير من مرقده والمدية بيده فانقض على موسلون، ولم يسمع في سكون ذلك الليل غير صوت نزاع تنبه له جميع المساجين.

ثم تلاه صياح ألم شديد عقبه صوت انتصار، وكان صياح الألم من المفتش وصياح الانتصار من بونفير، وقد طعنه في صدره عشر طعنات كانت القاضية عليه، وجعل يمشي في قاعة السجن ظافرًا مختالًا وهو يقول: أخذت بثأر كلبي الأمين.

فقال ميلون ﻟﻠ ١١٧: إنه غير مكترث لشيء لفرط اعتماده عليك.

– كلا، بل إنه غير مكترث للموت لأنه لم يعلم أني سأنقذه.

١٥

كان قتل بونفير للمفتش ليلة الإثنين، وفي صباح الثلاثاء وقف بونفير أمام القضاة لمحاكمته.

وكان ثلاثة يجتهدون في إنقاذه من الإعدام وإطلاقه من السجن، وهم ميلون ونويل الحداد و١١٧.

غير أن بونفير كان يجهل هذه المساعي كلها، فكان يتوقع الموت مطمئنًا غير خائف، ولما سأله القاضي عن سبب الجريمة، أخبرهم بحقده القديم على المفتش بملء السكينة والبساطة، فحكموا عليه بالإعدام وتقرر إنفاذ الحكم بعد أربع وعشرين ساعة.

وانتشر الخبر بين المجرمين فاستاءوا له استياء شديدًا، وكانت علائم الانقباض بادية على وجوههم، ولما اجتمعوا في فرصة الظهر لم ينبِس أحد منهم بكلمة لما نالهم من الغم والكآبة، فإن الإعدام كان يروع أولئك المجرمين الذين لم ينجوا منه إلا بالقدر والاتفاق.

وقد دار في خلد كثيرين منهم قتل الحراس والإفلات من السجن، ولما مثلت أمامهم تلك الحادثة برفيقهم بونفير وجفت قلوبهم وانكمشوا، إذ لا شيء يرهب المجرمين مثل الحكم بالإعدام.

والعادة في سجن طولون أن الآلة الخشبية التي توضع عليها آلة قطع الرأس يبنيها المساجين أنفسهم كي يكون ذلك أبلغ في الاعتبار، وكان الجلاد منهم، غير أن المساجين لم يكونوا يشيدون هذه الآلة إلا مكرهين بضرب العصي.

أما الجلاد، فقد كان شر هؤلاء المنكودين تعاسة لأنه يقضى عليه بعد توليه هذه المهنة، أن يعيش منعزلًا منفردًا عن رفقائه ولا يجد منهم غير الازدراء والاحتقار.

وهذا ما أصيب به جلاد السجن في عهد هذه الرواية، فإنه طالما توسل إلى مدير السجن أن يولي سواه مهمة الإعدام لما لقيه من احتقار إخوانه، فأبى عليه لأن قوانين السجون تقضي على الجلاد أن لا يعتزل منصبه حتى الموت.

فلما انتشر خبر الحكم على بونفير بالإعدام خرج هذا الجلاد عند فرصة الظهر وجلس واليأس ملء قلبه بمعزل عن إخوانه وقد جلس القرفصاء غير مكترث لحرارة الشمس، ووضع رأسه بين يديه يفكر بما يلقاه من متاعب السجن ومن احتقار رفقائه له.

وفيما هو على ذلك سمع صوت رجل يناديه فالتفت فإذا هو ١١٧ يصحبه ميلون رفيقه بالقيد، فنظر إليه ١١٧ نظرة انذهال وقال له: ماذا تصنع هنا أيها الرفيق وكيف أنت منعزل عن الرفقاء؟

– إني منعزل اليوم كما كنت منعزلًا أمس وسأكون على ذلك إلى ما شاء نكد الطالع، غير أني أعجب لسؤالك ألعلك لا تعلم من أنا؟

– إنك تدعى جواني الجزار.

– كلا، بل إني أدعى جواني الجلاد.

– وقد قدر عليك أن تعيش منفردًا.

– ما زلت في هذا السجن وا أسفاه.

– أحُكِمَ عليك بالسجن المؤبد؟

– نعم.

– كم عمرك؟

– أربعون.

– وأي ذنب جنيت فأصبحت من زمرتنا؟

– قتلت امرأتي في ساعة ذهب السكر بعقلي، فحكم علي بالسجن طول العمر وشتان بيني وبينكم فيه، فإنكم تجدون بعض السلوى بما تتجاذبونه من الأحاديث، أما أنا فإني مضطهد من الجميع فلا يكلمي أحد.

– لماذا لا تهرب؟

– كيف أستطيع الهرب إذا لم يكن لي رفيق يساعدني عليه وقد قدر لي أن أموت في هذا السجن جلادًا ممقوتًا مغضوبًا عليه من الله والناس؟

– لا تقنط فإن سجنك قد لا يكون أبديًّا.

فاضطرب الجلاد وقال له: ماذا تعني بذلك؟

فلم يجبه ١١٧ على سؤاله وقال له: إنك تتألم كثيرًا لندور الصديق فماذا تعطي صديقًا يمد إليك يده ويصافحك.

– أعطيه نصف دمي.

– إذن هذه يدي أمدها لمصافحتك.

فاضطرب الجلاد وصافحه والدمع يجول في عينيه وهو يقول: من أنت أيها الرجل المشفق؟

– أنا الذي يسمونني مائة وسبعة عشر.

ثم جعل ينظر إليه تلك النظرات الغريبة التي أخضع بها فاندا الروسية وقال له: إني أتيت لألقي في نفسك القانطة بذور الرجاء.

– وا أسفاه لقد فقدت كل أمل.

– كلا، وسأجعلك حرًّا كما تشاء.

– وماذا تطلب مني في مقابل ذلك.

– أن تمتثل لي في كل ما أريد.

– بل أكون لك عبدًا ما حييت.

١٦

لم تكد تبلغ الساعة الثالثة بعد منتصف الليل حتى صاحت الأبواق في إحدى قاعات السجن، تدعو المجرمين فيها إلى بناء آلة الإعدام، فاضطرب المجرمون ولكن لم يسعهم إلا الامتثال مكرهين، وجعلوا يشتغلون متباطئين متوانين، وكانت السياط تبلغ من ظهورهم أكثر ما تبلغ أيديهم من الآلة.

وكان الجلاد واقفًا بعيدًا عنهم ينتظر فراغهم من العمل كي يضع تلك السكين الهائلة التي جعل يشتغل طول الليل مع أعوانه بشحذها.

ولما فرغوا من العمل وضع الجلاد السكين في موضعها وأراد تجربتها، فأتى بحزمة عظيمة من القش ووضعها حيث يوضع رأس المجرم، ثم أدار لولبًا فهوت السكين وبرت تلك الحزمة بري القلم فسُر بها وأظهر استحسانه.

وعند ذلك طلع الصباح فتفرق المجرمون وبقي الجلاد واقفًا أمام الآلة يحرسها؛ لأن الإعدام تقرر أن يكون عند الظهر، وإنما هم ينصبون آلة الإعدام قبل حين كي يكون منظرها الهائل عبرة للمجرمين.

وبعد ساعتين جاءوا بجميع المجرمين وجعلوا يمرون بهم أمام تلك الآلة الرهيبة، فلما وصل إليها ميلون أدار وجهه كي لا يراها فتنبه له ١١٧ وقال له: ألعلك خفت؟

– هو الحق ما تقول ومن لا يخاف هذه الآلة القاضية، ألم يتقرر الإعدام عند الظهر؟

– نعم، لم يبق لتنفيذه غير القليل فكيف ترجو إنقاذه بعد؟

فهز المائة وسبعة عشر كتفيه وقال له بعظمة وكبرياء: إني إذا وعدت وعدًا أفي به دون شك.

– غير أن بونفير لم يكن يؤمل النجاة من الموت وقد سمع تعزية الكاهن له بسكينة في البدء، ثم كان كلامه قد أثر عليه وزالت من قلبه تلك الأحقاد القديمة التي دعته إلى الانتقام وذكر جريمته الشنعاء فندم وجعل يبكي بكاء الأطفال، ثم هاجت به عاطفة الكبرياء فقال للكاهن: لا تحسب أني أبكي لخوفي من الموت، بل إن بكائي لإشفاقي على ذلك الرجل الذي قتلته انتقامًا للكلب.

وعند ذلك دخل إليه في سجنه الجلاد واثنان من أعوانه وجردوه من ملابسه وألبسوه اللباس الخاص بموقف الإعدام، ثم أوثقوا يديه وراء ظهره وثاقًا متينًا وأوثقوا رجليه بقيد طويل بحيث يستطيع المسير، ولم يكن باقيًا لموعد القتل غير سبع دقائق، فخرجوا به وهو يمشي متثاقلًا والكاهن يتلو عليه أرق عبارات العزاء، حتى وصلوا به إلى تلك الآلة الرهيبة.

وكان جميع الموظفين في السجن، وجميع المجرمين راكعين حول المقصلة، وقد ساد السكوت في تلك الساعة الرهيبة، حتى لم يكن يسمع غير تردد الأنفاس، وقد نصبت أربع مدافع محشوة بالقنابل الضخمة في محلات مرتفعة من الجهات الأربع، فكانت أفواهها مصوبة إلى أولئك المجرمين الراكعين، وكان يحيط بهم فرقة من العساكر وبنادقهم مصوبة إليهم أيضًا، وكان جميع ذلك مما يزيد في رهبة تلك الحفلة الهائلة.

وقد وضعوا بين المجرمين وبين الآلة تابوتًا وقف حوله فريق من الرهبان لأخذ جثة المجرم بعد إعدامه.

فلما صعد بونفير الدرجة الأولى من درجات الآلة نظر إلى تلك المناظر الرهيبة نظرة واحدة هلع لها فؤاده وكاد يسقط لاضطرابه فساعده الكاهن على الصعود.

وكان اثنان من المجرمين راكعين قرب المقصلة وهما يتحدثان همسًا، فنظر إليهما بونفير وعرف أنهما اﻟ ١١٧ وميلون وقال لهما: الوداع أيها الصديقان واذكراني خيرًا بعد الموت.

ثم صعد درجة من تلقاء نفسه وقد أعاد إليه هذا الكلام بعد النشاط.

أما ميلون فكان شديد الاضطراب وكان يقول بصوت منخفض ﻟﻠ ١١٧: ألا ترى أيها الرئيس أنه بلغ آخر درجات المقصلة فأي أمل ترجوه بعد؟

فقال له: اسكت.

غير أنه عندما نزل الكاهن وبقي المحكوم عليه اضطرب ١١٧ اضطرابًا خفيفًا وحدق بنظره إلى السكين القاطعة التي كانت تتكسر عليها أشعة الشمس، وأدار الجلاد لولب تلك السكين.

١٧

وعند ذلك سقطت تلك السكين الهائلة تهوي على رقبة ذلك المسكين، فأغمض جميع الناظرين عيونهم كي لا يروا هذا المنظر الرهيب ولم يبق مفتح العينين غير المائة وسبعة عشر الذي كان ينظر محدقًا إلى الآلة.

ومرت هذه الحادثة التي تكتب عنها المجلدات بثانية واحدة، ولما فتح المجرمون أعينهم رأوا أن السكين قد هوت ولكن الرأس لم يقطع، ذلك أنها لقيت حاجزًا قبل بلوغها إلى رأس المجرم بنحو شبر فقط.

فأجفل الجميع لهذا السر الغريب الذي لم يدرك غوامضه غير اﻟ ١١٧ دون سواه.

وأعاد الجلاد السكين إلى موضعها القديم ثم أدار اللولب ثانية فلم يبلغ إلى الرأس ووقعت في موضعها الأول.

فأنَّ بونفير أنين الرياح، واضطرب المجرمون وجعلوا يصيحون بأصوات مختلفة، وأسرع مدير السجن وأمر بإخراج بونفير إلى أن ينظروا في شأن الآلة والسبب في تعطيلها، وإنما فعل ذلك رفقًا بهذا المسكين وحذرًا من ثورة المجرمين.

وجعل ١١٧ يمسح عن وجهه العرق البارد وقال لميلون: لقد عشت في دقيقة مائة عام وعسى أن يغفر لي الله يومًا من الأيام.

أما بونفير فإنه أغمي عليه فحمله رفقاؤُه إلى الغرفة المعدة لسجنه، ورجع المجرمون إلى زنزاناتهم.

وعاد موظفو السجن إلى فحص الآلة، فوجدوا أن العمال الذين صنعوها قد عطل أحدهم مسير السكين بما وضعه في سبيلها من العوائق، وقد وضعها بحذق وتدبير بحيث إنهم باتوا مضطرين إلى صنعها مرة ثانية لتعذر إصلاحها، وهذا ما كان يقصده ١١٧ من تعطيلها؛ لأن ذلك كان من صنعه دون أن يشعر به أحد.

ولما خلا برفيقه ميلون قال له: إن بونفير بات واثقًا من أنهم لا يعدمونه اليوم.

قال ميلون: ولكنهم يعدمونه غدًا.

– غدًا الجمعة.

– إذن يعدمونه السبت.

– إذا وجدوه في السجن فليعدموه.

•••

وذهبوا ببونفير إلى سجنه كما قدمنا، وهو سجن خاص بالمحكوم عليهم بالإعدام يبلغ عمقه ٣٠ قدمًا في جوف الأرض.

ولما صحا من إغمائه جعل يفكر في أمره، وهو تارة يسر بنجاته من الإعدام ثم لا يلبث أن يفتكر أن ذلك إلى حين حتى يتولاه القنوط.

وبعد ساعة جاءه الحرسي بالطعام فعاد إليه السرور وقال في نفسه: سأعيش ساعة أيضًا على الأقل، وجعلت الساعة تتلو الساعة حتى خيم الظلام وعاد إليه الحرسي بالطعام، فأكل بشهية وقال: إن الإعدام لا يجري في الليل وسأبقى حيًّا إلى الصباح.

وما زال يتقلب على فراشه الخشبي وهو لا يستطيع رقادًا إلى أن انتصف الليل فسمع صوتًا متصلًا يشبه صوت المطرقة على السندان، فأصغى إلى الصوت فوجد أنه متصل وأنه يدنو منه.

ودام ذلك نحو ساعتين والصوت يدنو منه حتى أيقن أنهم يحفرون نفقًا تحت غرفته.

وبعد حين سمع أن الصوت بلغ أرض المكان النائم فيه فنهض منذعرًا، وما لبث أن رأى حجرًا ضخمًا سقط من الأرض، فانفتحت هوة وبرز منها رأس إنسان.

١٨

وكان على هذا الرأس قبعة بحرية، وبعد الرأس ظهر الكتفان ثم اليدان ثم صعد الرجل بجملته فوضع مصباحه على الأرض ووقف أمام بونفير.

فصاح بونفير صيحة انذهال وقال: أهذا أنت وكيف أتيت؟

– نعم أنا هو الذي يدعونه ١١٧ فإذا أردت أن تبقى حيًّا فاسكت واتبعني دون إمهال فإنهم بعد أربع ساعات يأتون للبحث عنك فإذا وجدوك أعدموك لأنهم أصلحوا الآلة، وليس لدي وقت لتعطيلها مرة أخرى، أعلمت الآن كيف نجوت؟

أما بونفير فلم يفهم شيئًا لأن الهذيان تولاه فقال له: لا أعلم إلا أنني من الأموات، وكل ما أراه الآن فهو في العالم الأخير.

وعلم ١١٧ أنه مصاب بالحمى والهذيان فقال له: إذا كنت قد أصبت بالجنون فذلك لسوء حظك ولكن لا بد لي من إنقاذك وسأنقذك.

ثم حمله وألقاه في الهوة فصاح متألمًا، غير أن سقوطه رد إليه صوابه فجعل ينظر إلى المكان الذي هوى فيه، فعلم أنه في نفق حفر حديثًا، وكان المائة وسبعة عشر قد نزل إلى الهوة في أثره ورأى ما كان من فحصه فقال: أعرفت الآن؟

– نعم فإنك أتيت لإنقاذي.

– إني واثق من إنقاذك إذا كنت تتبعني حيث أريد.

– ولكن إلى أين أنت ذاهب بي؟

– تعال ولا تسل إنما أنظر إلى هذا النفق فإنه يقتضي لحفره خمسة أيام، ولا تُضع الوقت عبثًا.

– وكل ذلك من أجلي؟

فلم يجبه المائة وسبعة عشر بل إنه كسر له قيوده. وقال له: لقد بت حرًّا الآن فاتبعني.

وجعل الاثنان يسيران في هذا النفق الطويل، وكلما مشيا بضع خطوات يقف ١١٧ مصغيًا، ثم يستأنف المسير فيسير بونفير في أثره، حتى رأيا أن طريق النفق أخذ بالارتفاع فقال له المائة وسبعة عشر: أتعلم أين نحن الآن إننا تحت أسوار القلعة.

وبعد أن مشيا عشرين دقيقة اتسع النفق وهب هواء بارد فأطفأ ١١٧ المصباح والتفت إلى رفيقه وقال: أسرع بالسير فإن الهواء هذه الليلة موافق للفرار وقد فتحت أبواب السماء فانهالت منها الأمطار كعهد الطوفان.

وبعد بضع دقائق وقف ١١٧ وأطل بونفير رأسه من ورائه فعلم أن هذا النفق ينتهي عند شاطئ البحر وسمع صوت تكسر الأمواج.

وكان الظلام حالكًا والبحر هائجًا والسماء تمطر مطرًا غزيرًا، فقال ١١٧: أتعرف السباحة؟

– كنت تعلمتها في حداثتي.

– إذن فاخلع ثيابك فإن السباحة لا تنسى وخير لك أن تموت غرقًا من أن تموت بيد الجلاد ومع ذلك فسأعينك، لا تخف.

ثم التقط حبلًا كان موضوعًا على باب النفق فربط به وسطه وأعطى طرفه لبونفير وقال له: أمسك هذا الحبل، فما زال بيدك فلا تغرق.

وامتثل بونفير وألقى الاثنان نفسيهما في البحر العجاج وهما لا يعلمان كيف يسيران لشدة هياج الأمواج، وسواد الليل، فإن السفينة التي عزم ١١٧ على الفرار بها كانت بعيدة عن الشاطئ حذرًا من التطامها بالصخور، وكانت جميع أنوارها مُطفأة مبالغة في التكتم.

غير أن ١١٧ كان يسمع من حين إلى حين صفيرًا يخرج من تلك السفينة، فيهتدي إليها ويسير إلى الجهة التي يخرج منها الصوت.

وما زال يصادم تلك الأمواج وتصادمه حتى وصل إلى قارب صغير بعد أن كاد يشرف مع رفيقه على الغرق.

وعند ذلك أنزلوا إليهما مجذافًا فصعد عليه إلى الزورق، وكان فيه ميلون رفيق ١١٧، وجواني الجلاد، فأجفل بونفير لمنظره وتراجع منذعرًا إلى الوراء.

فطيب ١١٧ خاطره وقال له: طب نفسًا فإنه لم يأت إلى السفينة كي يقتلك فيها بل ليهرب معك عليها.

١٩

وجعل الزورق يسير إلى السفينة التي أعدها ١١٧ للفرار حتى بلغ إليها وصعد جميع من في الزورق.

وكان أول من استقبل ١١٧ فاندا الروسية وهي بملابس بحار صغير، فعانقته وهي تبكي من سرورها به وتقول: لقد نجوت بحمد الله.

فقال لها ١١٧ بسكينة: بل نجونا جميعًا.

– إذن مُر الربان بأن يقلع بالسفينة، فلم يعد لنا عمل بهذا الميناء الخطر.

– هو ما تقولين، بل يجب علينا السرعة بالخروج منها قبل الصباح وقبل أن يعلموا بأمرنا.

ثم نادى الربان وأخبره كيف يجب أن يسير ونزل مع فاندا إلى غرفة كانت معدة له في السفينة وقال لها: كيف رأيت ألم أفي بوعدي؟

فركعت أمامه وقالت: نعم ولهذا فإني سأطيعك كما يطيع العبد مولاه.

– أتعلمين أين نحن ذاهبون الآن؟

– سيان عندي فإني أتبعك أين سرت.

– إننا ذاهبون إلى إيطاليا ومنها إلى باريس.

فأجفلت وقالت: إلى باريس؟

– ذلك لا بد منه فإن القدر يدفعني إلى تلك العاصمة.

فأحنت رأسها ثم نظرت إليه وقالت: أيها الرئيس إني حكيت لك قصتي أفلا تحكي لي قصتك؟

– وأية فائدة من ذلك؟

ثم رفع نظره إلى تلك السماء السوداء المتلبدة بالغيوم وجعل يتأملها كأنه يذكر بها ماضيه، ثم أخذ يد فاندا بين يديه وقال: إني كنت شرًّا من ذلك الرجل الذي كنت تبكينه فقد كنت لصًّا سفاكًا، فارتكبت من المنكرات والموبقات ما أستحق لأجله ألف موت، غير أن هذا القلب الملطخ بالمآثم والعار، قد دخلت إليه عاطفة شريفة، بإذن الله، فأضاءت كما يضيء النجم في خلال العواصف.

أسمعت مرة بحديث ذلك الرجل المدعو كونيسار، ذلك الرجل الأثيم الذي دعا نفسه كونتًا وهو من شر اللصوص، وكان يحمل على صدره أوسمة الشرف، وفي نفسه الخزي والعار؟ إني مثلت دور هذا الرجل ثلاثة أعوام فسرقت اسم رجل نبيل وتلقبت باسمه، فشغلت باريس بحديث ظرفي وبسالتي وكرم أخلاقي دهرًا طويلًا، حتى لقد أوشكت أن أكون من عظماء الإسبان.

وقد أحبني امرأتان طاهرتان وهما أم ذلك النبيل الذي سرقت اسمه وأخته فأفضى بي الأمر إلى حبهما كأمي وأختي، أما الأولى فقد انتقلت إلى رحمة الله، وأما الثانية فلا تزال عائشة في باريس، وإني مستعد لسفك دمي من أجلها.

فقالت فاندا: ألعلها علمت بعقابك؟

– كلا، فقد وجدوا أخاها ولكنها ما رأته، فإن الذين فضحوني وعاملوني بملء القسوة خافوا عليها من الفضيحة وعاملوها بملء الإشفاق، فأرسلوني إلى السجن، وأرسلوا شقيقها الحقيقي إلى الهند مع امرأته التي كنت عازمًا على الزواج بها، وهي تعتقد الآن أني في الهند.

– وهل رأيتها بعد ذلك؟

– نعم رأيتها في سجن قاديس قبل أن ينقلوني من سجن إسبانيا إلى سجن باريس فأشفقت على إشفاقًا شديدًا دون أن تعرفني لأني كنت مشوه الوجه، وقد مضى على ذلك عشرة أعوام.

– وأنت تريد الرجوع إلى باريس لتراها؟

– أعندك شك في ذلك، فإني سأبالغ في التنكر كي لا تعرفني، وأقيم بجوارها فأراها كل يوم، لا سيما بعد أن عرفت بأن أخاها غير عازم على العودة من الهند.

– ومتى عرفت ذلك؟

– منذ ثمانية أيام ولذا رضيت بالفرار بعد أن أقمت بالسجن عشرة أعوام، ولم يكن أسهل علي من الفرار منه، كما رأيت لأنني علمت الآن أنها لم تعرف الحقيقة، وأن أخاها لم تره ولن تراه.

وفيما هو يتكلم قدم إليه ميلون مسرعًا وقال: أدركنا أيها الرئيس فإن السفينة عبثت بها الرياح وقد غلت أيدي البحارة وهلعت قلوبهم من الخوف.

فابتسم ١١٧ وقال: لا تيأسوا فسأنقذكم بإذن الله.

ثم صعد إلى ظهر السفينة فأخذ الدفة من ربانها وجعل يصدر أوامره إلى البحارة، فسارت السفينة مطمئنة وبعد ساعة سكنت الزوبعة، وهدأت الرياح وسكنت الأمواج.

وعند ذلك سمعوا من طولون دوي أربعة مدافع فقال المائة وسبعة عشر: إن كل مدفع يشير إلى فرار واحد منا، ولكنهم تنبهوا بعد فوات الأوان، لقد آمنَّا كل خطر.

وكان الصباح قد بزغت أنواره وملأت الشمس الفضاء فتراقصت أشعتها على المياه، واجتمع حول المائة وسبعة عشرة أعوانه الذين فروا معه وكلهم معجب برئيسه منذهل مما رآه من أفعاله العجيبة.

وقال له ميلون: من أنت أيها الرجل الذي يوقف القضاء، ويمنع سيف الجلاد أن يبلغ إلى الرقاب؟

وقالت له فاندا، من أنت أيها الساحر الذي تخترق عيناه أعماق القلوب؟

وقال بونفير: من أنت أيها الرجل العظيم وماذا صنعت لك حتى أنقذتني من الإعدام؟

وقال له الجلاد: وأنا أيها الرئيس الذي تدانى إلى مصافحتي أتأذن لي أن أسألك من أنت؟

فابتسم ١١٧ وقال: إذا كان لا بد لكم من معرفة اسمي فاعلموا أنني روكامبول.

فبُهت الجميع وأطرقوا برءوسهم إطراق الخضوع وظلت السفينة سائرة إلى إيطاليا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤