تقديم

أسئلةٌ كثيرةٌ تزاحمَت في رأسي، ألحَّت على خاطري تلتمس الجواب، تُرى ما هو دَوْر العلم في حياتنا؟ هل يمثل العلم — إنجازًا نظريًّا ومناهج بحث — سلطة، أو طرفًا في سلطةٍ مرجعيةٍ هي سندنا في حياتنا وأحكامنا الفكرية؟ لماذا كان ما اصطلحنا على تسميته العلم العربي، أو العلم الإسلامي سحابة صيف؟ ما هي السلطة المرجعية الحاسمة، ومصدر المعرفة، لكل ما نراه أحكامًا فكرية غير منقوضة، أو سندنا للحكم على كل ما نتلقَّاه، ولا أقول نُبدعه، من إنجازاتٍ علمية؟ وما هو الإطار المعرفي المشترك الذي ترسَّب في الوجدان الاجتماعي على مدى القرون والأحقاب ونطمئن إليه حَكَمًا فيما يُثار بيننا من خلافٍ في الرأي حول شئون دنيانا ومعاشنا؟ وهل يشتمل هذا الإطار على خطوات محددةٍ مقننةٍ تمثِّل معيارًا للفكر الصواب، وسبيلًا للوصول إلى ما نراه الحق؟ بل وبلغَت الأسئلة حد النزق حين مرَّ بخاطري سؤال يقول: وهل يمكن لنا، التزامًا بالدعوة إلى التعريب، وإنكارًا أو استنكارًا للتغريب وكل ما هو غربي من العلوم، أن نحصر أنفسنا فيما أفرزته العقلية العربية؟ وماذا عسانا أن «نبدع» في مجال العلوم الطبيعية والإنسانية إبداعًا على مستوى العصر، لو أننا قصَرنا ثقافتنا على اللغة العربية وما أنتجَته دون سواها؟ وهل النتيجة هنا هي ذات النتيجة بالنسبة لمتحدثي الإنجليزية كمثال، لو أنهم قصروا تلقِّي علومهم على ما سُطِّر بلغتهم القومية؟ ولماذا الفارق بين الحالَين؟ وهو فارقٌ في الدرجة وليس مطلقًا على نحوٍ ينفي مبدأ التفاعل بين الثقافات، ثم هل يستقيم لي — ولمثلي في بيئتنا الثقافية — أن يتحدث عن العلم دون أن يكون في ذلك تجاوزٌ للتطوُّر التاريخي وتطاولًا على إنجاز هو ابن بيئةٍ أخرى؟ خُيِّل إليَّ مع السؤال الأخير أن الحديث عن العلم لا يكون نقلًا ولا محاكاة؛ ذلك أن العلم وقد ينطوي ذلك التشبيه على نوعٍ من المفارقة، شأنه شأن الحب، معايشة وتذوقًا وتربية وتنشئة ووجدانًا وتاريخًا متصلًا وثقافة أمة، والذي قال فيه الشاعر:

لا يعرفُ الحبَّ إلا من يُكابده
ولا الصبابة إلا من يُعانيها

كذلك العلم هو بيئة وتاريخ وثقافة مجتمع تُحدد طبيعة رؤية الفرد والمجتمع إلى الحياة وأسلوب ممارستها وتناول ظواهرها. ويحضرني هنا مثال ساقه العلَّامة الإنجليزي نيدهام ذات مرةٍ حين حاول به أن يوضِّح بصورةٍ حسيَّةٍ الفارق الأساسي بين مفهومَين لنظام العالم؛ أحدهما في الصين التقليدية والآخر في أوروبا عصر النهضة؛ فقد كانت العقلية السائدة في أوروبا النهضة عقليةً تؤمن بأن حركة الحياة وأحداث الطبيعة تجري وَفْق قوانينَ طبيعيةٍ يستطيع العقل أن يعرفها، وأنه مَدعُوٌّ إلى اكتشافها، وهذه مهمته أن يحدد الظواهر ويفهم أسبابها، ويتنبأ بسلوكها، ولكن العقلية الصينية التقليدية تؤمن بأن هناك حقيقةً كونيةً شاملة لها أن تهدي عقل الإنسان، وللإنسان أن يرُدَّ إليها الأسباب، ثم ينتقل نيدهام في محاولته للكشف عن المفارقة بين العقليتَين، ويضرب مثالًا يقول: لو قال قائل: «باض الديك.» فإننا نجد إجابتَين كلُّ واحدةٍ شاهدة على نوع عقلية صاحبها وثقافته؛ إحداهما تقول: هذه نهاية الكون وعلامة الساعة. أي إنها تُقرُّ بأن الأحداث لا تجري في الطبيعة وَفْق سننٍ وقوانين، ولا أن العقل الإنساني أهل لأن يسأل وينقد ويفنِّد. أما العقلية الثانية فترفض المقولة ابتداءً لاستحالتها عقلًا ومخالفتها للقانون الطبيعي، وإلا وجب مراجعة كل حصيلة العقل من بحثٍ واكتشافاتٍ ونظريات. وهذه هي العقلية المسئولة عن نشأة العلم.

ربما كانت من الشواهد ذات الدلالة أن كلمة science والتي نُترجمها «علم» أو «العلم الطبيعي» ليس لها مرادفٌ قاموسيٌّ عربي؛ فكلمة علم تعني من بين ما تعني باللغة العربية الشعور، كما تعني تحصيل المعرفة اليقينية. ولكننا لا نجد من بين التعريفات القاموسية بالكلمة تحديدًا لنطاق هذه المعرفة، ولا شروط وخطوات وقواعد تحصيل المعرفة عن طريق العلم؛ ومن ثَم يبين السند المرجعي للحكم باليقين وإن حدَّدَت الثقافة الاجتماعية طبيعة هذا السند، هذا على عكس كلمة science فإنها كلمةٌ خاصة بالعلم كمبحثٍ إنساني. إنها تعني العلم القائم على المشاهدة والوصف والبحث التجريبي والتفسير النظري للظواهر الطبيعية الملتزم بمنهجٍ دراسيٍّ مُحدَّد القواعد؛ أي العلم العقلاني. وتعني من بين ما تعني تحليل المركَّبات إلى عناصرها الأولية، وعَزْل العناصر، واكتشاف قوانينها، ثم إعادة تجميعها كسبيلٍ لحل المشكلة، وتكوين نظرةٍ عامة، وفروض أساسية بناء على إجراءاتٍ محدَّدة ترتكز على نشاطٍ عقليٍّ نقدي؛ وبناءً على ذلك يكون السند المرجعي لليقين هو الالتزام بالعقل أداة بحث، وبخطوات المنهج.

ولعلنا نقول إن الحضارات الإنسانية عامةً تنقسم في موقفها من العلم حسب هذَين المعنيَين إلى نوعَين، بحيث نقول حضارات ترى أساس اليقين في العلم والهداية من خارج، وحضارات ترى أساس اليقين البحث الملتزم بالعقل وبقواعدَ منهجية. ولهذا يجري تقسيم الفكر عامةً إلى مرحلتَين تاريخيتَين؛ الفكر قبل العلمي، والفكر العلمي، وهو تفسيرٌ لا يفيد التعاقب التاريخي بالضرورة، وإنما هو وصفٌ لحضارات قد تتعايش فلا تزال حضاراتٌ كثيرة تعيش المرحلة الأولى. ويُوصَف النوع الأول بأنه فكر «لا عقلاني» والثاني «فكر عقلاني»؛ ذلك لأن الأول وإن اعترف بدور العقل في المعرفة إلَّا أن العقل الإنساني ليس كما هو في النوع الثاني المرجع الأول والأخير، والحَكَم النهائي ومصدر اليقين، والمحدِّد لقواعد الخطأ والصواب. والنوع الثاني وإن اعترف باحتمال الخطأ والصواب إلا أنه لا يرى من ملاذٍ أو مصدر لليقين غير العقل وجهده الدءوب لوضع منهجٍ سديدٍ لتحصيل المعارف والوصول إلى الحقيقة؛ فالعقل وحده، ولا بديل عنه، هو المؤهَّل للبحث عن اليقين واكتشاف حقيقة العالم وقوانين الظواهر الطبيعية في صورة علمٍ ينمو ويتطوَّر.

ومن ثَم فإن بذرة، أو جينة العقلانية هي أساس العلم وعلَّة نشأته. ولو تأملنا الحضارات القديمة لعرفنا كيف ولماذا كانت علومها قديمًا من نوع الفكر قبل العلمي، ولعرفنا أيضًا كيف ولماذا نقل العلم إلى حضاراتٍ أخرى غرسًا غريبًا في تربةٍ غريبةٍ لم تتهيأ بعدُ لصُنع، ولا أقول تلقي، الغرس الجديد ترعاه البيئة الجديدة نبتًا وليدًا ويتغذَّى فيها على غذاءٍ جديد، ليثمر ثمراتٍ طيبة جديدة.

ويُحدِّثنا التاريخ عن عصورٍ شهدَت نهضاتٍ علميةً في الشرق على مدى عشرات القرون الماضية؛ مصر الفرعونية وبابل وآشور وغيرها، ولكن لماذا لم تمتَد النهضات العلمية أو لم تُخلِّف أثَرًا؟ قد تموت الحضارات ولكن جينة العقلانية تظل عنصرًا من نسيج الثقافة الاجتماعية كامنًا حينًا إلى أن تتهيأ الظروف وتتلقى الجديد الذي يخصبها فتعود إلى النماء. بيد أنني لا أريد الاستطراد نظرًا لأن الإجابة لن تعدو أن تكون مجرد شطحاتٍ فكريةٍ على غير هدًى، وتناقضًا مع النفس ما لم نلتزم بقواعد البحث العلمي الجامع لأطراف العلوم المختلفة interolisciplinary تكشف لنا عن سوسيولوجيا النجاح والفشل لكل محاولات النهضات العلمية على مدى تاريخ الشرق. إننا لا نستطيع أن نعود إلى التاريخ على نحو ما نتلقَّاه وندرُسه؛ فإن تعلُّم التاريخ عندنا بحاجةٍ إلى إعادة نظر. وإن ما تلقَّيناه هو تاريخ السلطات السياسية الظافرة وليس تاريخ الصراعات.

لقد لاحظ كثيرٌ من العلماء والمفكرين على ضوء أبحاثهم أن ثقافاتٍ قليلة هي التي أبدعَت العلم، وهي الثقافات التي كانت الغلَبة فيها لجينة أو بذرة العقلانية، فتكون خصائصها الوراثية هي السائدة وإن وُجد إلى جانبها نقيضها اللاعقلاني ولكنه في حالة كمونٍ أو ضعفٍ؛ فكم من حضاراتٍ قديمة بلغَت شأنًا عظيمًا ومكانةً متميزة في بعض إنجازاتها مثل الحضارة المصرية القديمة، والهندية والصينية وحضارة ما بين النهرَين، ولكنها مع ذلك كانت حضاراتٍ بغير علمٍ، أو قبل علمية، بالمعنى الذي اصطلحنا عليه للعلم؛ أي باعتباره مشروعًا معرفيًّا يُصحح نفسه تلقائيًّا، قادرًا على البقاء ذاتيًّا، وأساس ذلك الإيمان بأن جميع الظواهر موضوع المعرفة قابلة للمعرفة، وأن المعرفة أداتها العقل الإنساني وحده، ومرجعها العقل، وأن وظيفة العقل الفهم وكشف الأسباب والتفسير. وليس معنى هذا أن الثقافات الاجتماعية لا تعدو أن تكون إما … أو … بمعنى أنها إمَّا عقلانيةٌ خالصة أو لا عقلانية خالصة وهذا قدرها؛ ومن ثَم فالموقف من العلم أبدي … لا … وإنما كما قلتُ ثقافات تعطي الغلبة والسيادة، أو تُشكل بيئة صالحة لهذه الجينة أو تلك. ولهذا نجد أن بعض المجتمعات لم تكن فقط عاطلةً عن القدرة على الإبداع العلمي الأصيل، بل عمدَت إلى تدمير النَّزْر اليسير من العلم الذي ورثَته، ورفضَت مجتمعاتٌ أخرى أن تتبنى العلم الذي أبدعَته بلدانٌ غيرها، وانتقل لأسبابٍ أو أخرى، وإذا به يأتي إليها وافدًا دخيلًا، ويمضي عنها دون أن يخلِّف أثَرًا في التكوين العقلي للثقافة المضيفة، بل نراه يمضي عنها مذمومًا مدحورًا وكأنه عضوٌ غريبٌ جرت زراعتُه قسرًا في جسمٍ غريب فرفضه بعد حين.

فإن مضمون البنية الثقافية لمجتمع ما هو الذي يُحدِّد توجُّه النتاج الفكري ذي الطابع العلمي، ويحدِّد نطاق فعاليته وإمكانية ديمومته؛ أي يحدِّد أهداف الجهد الفكري العلمي ووظيفته الاجتماعية وارتباطه بثقافة المجتمع. وهذا نلمسه في علوم حضاراتٍ قديمة؛ إذ إن النتاج العلمي، أو ما يمكن أن يُسمَّى النتاج العلمي في مصر القديمة كمثال، حدَّدَت مساره ثقافة المجتمع؛ لذا كان علمًا أخرويًّا. أبدع الإنسان المصري القديم ولكن كان مركز الثقل في إبداعه موجَّهًا للحياة بعد الموت. وانتقلَت أساسيات الفكر قبل العلمي — أي الفكر غير المنظم منهجيًّا في صورة قواعد لنشاط العقل — من مصر وغير مصر إلى بلاد اليونان القديمة حيث تلاقحَت ثقافاتٌ متباينة من بينها ثقافة أو أكثر تحمل جينة العقلانية، وبدأَت الخطوة الأولى نحو العلم في بيئةٍ جديدةٍ تعنيها أيضًا شئون الحياة قبل الموت؛ أي شئون المجتمع والمسائل العلمية. وكانت النغمة السائدة عند فلاسفة الإغريق «البحث عن الحقيقة» وشتَّان بينها وبين «الفَناء في الحقيقة أو الحق». والبحث عن الحقيقة سعيٌ عقلانيٌّ جاد للكشف عن ماهية الشيء وقوانينه، وهذه هي مهمة أصحاب الفكر أو العقل الحر. ونجد الجدل عند أفلاطون مثلًا حركةً عقلية بين آراءٍ مختلفةٍ حرة، وصولًا إلى ما يمكن وصفه بأنه الحق أو الحقيقة التي لم تأتِ جاهزةً من سلطة ما خارج العقل. ووضع أرسطو قوانين حركة الفكر العقلاني أو منطق الفكر التماسًا للصواب.

ولعل هذا كان هو الأساس الذي انطلق منه العالم الفيلسوف ماريو بونجي Mario Bunge حين قسَّم الجماعات أو المجتمعات إلى نوعَين؛ جماعات يسودها فكرٌ علميٌّ وأخرى يسودها فكرٌ أيديولوجي، بمعنى فكر منفصل عن الواقع. وإذا كان جوهر العلم البحث فإن جوهر الأيديولوجيا الإيمان أو الاعتقاد والتلقين الموروث؛ ذلك أن الأيديولوجيا نسَق من المعتقدات، وهي في جوهرها أحكام قيم، وأهدافَّ محددة بحيث يمكن وصف الجماعة الأيديولوجية بأنها جماعةٌ اجتماعية توحِّدها معتقدات وقيم وأهداف، تتسامح مع من ينتمي إليها. ولها موضوعاتٌ خاصة، واقعية أو خيالية، هي موضوع دراستها ومحور اهتمامها. ولها نظرةٌ عامةٌ أو نظرة إلى العالم خاصة بأعضائها. ومرجع الحكم على عباراتها ووقائعها ليس البحث والعقل والتجربة وإنما لها منطقٌ باطني، وليس منطقًا عقليًّا. وتتسم بالشمولية وبالثبات دون التغيُّر، وإلا نفت ذاتها. والمنتمون إلى العلم باحثون عقليون ناقدون، بينما المنتمون إلى الأيديولوجيا مؤمنون. وإن موضوعات دراسة وبحث الأيديولوجيا لا يمكن إخضاعها للبحث التجريبي، ولا تخضع للوسائل العلمية. ويهدف البحث العلمي إلى الكشف عن قوانين حركة الأشياء التي يراها أصيلةً فيها ونابعةً منها، وإن هذا البحث جهدٌ متصل نظرًا لأن الوجود عياني وجوهره التغيُّر؛ ومن ثَم فإن المنظور المعرفي الحاكم للسلوك العلمي اعتراف بسلطان العقل والخبرة والتجربة وإنكار لأي سلطةٍ أخرى لإثبات صواب الحكم.

ويؤمن العلم بأخلاقيات وقيم البحث دون اعتبار لاهتماماتٍ ومصالحَ شخصية أو آراءٍ مملاة. وإن البحث العلمي له لغةٌ حيادية مُستقلة هي المنطق والرياضيات، وهو ما تنكره الأيديولوجيا إلا إذا ما اتفق معها. وتقف الأيديولوجيا عند حدود المعرفة العادية، بينما هي نقطة البدء عند العلم. وأغلب المشكلات التي تتناولها الأيديولوجيا هي مشكلاتُ ممارسةٍ عملية وليست نظريةً عقلية؛ ولهذا فهي أقرب إلى التكنولوجيا. وتنطوي الأيديولوجيا على أساطيرَ في رصيدها المعرفي مثل أسطورة الجنس المختار، ونجد في سلوك أهلها وتوجُّهاتهم حرصًا تلقائيًّا على الأسطورة. وكل قيم الأيديولوجيا قيمٌ أخلاقية (مثل الطهارة) أو قيمٌ عملية (مثل الحياة الخالدة) على عكس قيم العلم فهي قيمٌ عقلية معرفية (الحق والصدق الإنسانيان)، وهدف العلم المعرفة القائمة على البحث وإعمال العقل الحر بغية فهم الواقع، وهدف الأيديولوجيا هدفٌ عملي بغية تحقيق منافعَ ومآربَ شخصيةٍ أو اجتماعيةٍ عملية عاجلة أو آجلة. ويغلب على مناهج الأيديولوجيا أنها ذات طبيعيةٍ معنوية؛ أي سلوكٍ معنوي، على عكس العلم الذي يلتزم بسلوكٍ محدَّد الأسباب والوسائل.

والخلاف في الرأي العلمي، أو إثبات زيف فكرة في العلم من شأنه أن يُثري الحوار، ويُضاعف الجهد لإصلاح المنهج وإعمال الفكر، بينما الخلاف في الرأي الأيديولوجي أو سقوط فكرة، أو تهافُت رأي في الأيديولوجيا فمن شأنه أن يُصدِّع بنية الأيديولوجيا ويصدم صاحبها وينكسر. وإذا كان الفكر العلمي يتحرك بين متناقضات فإن الفكر الأيديولوجي ساكنٌ متجانس. وبنية العلم قادرة خلال هذه الحركة على تصحيح ذاتها تلقائيًّا على عكس بنية الأيديولوجيا فإنها فور سقوط لبنة من بنائها تنهار تمامًا؛ ومن ثَم فإن الأيديولوجيا بحكم خصائصها ومحافظتها على البقاء كما هي تدعم لدى صاحبها شعور الاكتفاء بالذات والانكفاء عليها؛ ومن ثَم تعزله عن الواقع المتغير دومًا — وهو ما يعني أن الأيديولوجيا جمود وتعصب وعدم تسامح، وتعتمد الأيديولوجيا على سلطة التفسير لأنها نصيَّة، وترى النص حقيقةً مطلقة، وهناك أصحاب الحقِّ المطلَق في تفسير النص — على عكس الباحث العلمي يلتزم بمعاييرِ الصوابِ التي ليست حكرًا على أحد. ومع امتداد الزمن والتاريخ، واعتماد الأيديولوجيا على النص وغياب البحث العقلاني، يتحول أصحابها إلى سلفيين، على عكس العلم الذي يعتمد على المنهج القابل للتجديد والتصويب، ويرى أن علماء اليوم أقدر من علماء الأمس لأسبابٍ موضوعية. وإذا ما اكتشف الأيديولوجي خطأً فإن مرجعه هو النص يلوذ به، أما الباحث العلمي فملاذه الواقع والتجربة والعقل؛ ولهذا نرى الباحث العلمي مجددًا يراجع نفسه دائمًا، أما الأيديولوجي فنراه محافظًا دائمًا يقبل الدعوة إلى تطويع العلم، ويرفض الدعوة إلى أن يكون العلم هو محور ثقافة المجتمع الفكرية، ولا تتغير الأيديولوجيا إلا بفعل القهر أي بفعل سلطةٍ خارجية، وليس من الداخل بفعل دينامية التصحيح الذاتي مثل العلم؛ ولهذا تكون صمَّاء لا تقبل داخلها إلا ما يتجانس معها شريطة الولاء؛ ولهذا أيضًا تقنع بالشكل دون المضمون، وتؤمن بمبدأ الكل أو لا شيء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤