البحث عن التاريخ ودلالته

لم تكن الإشكالية هي إشكالية المعرفة العلمية، بل وأيضًا تطوُّر هذه المعرفة باعتبارها عمليةً تجري في الزمان ولها تاريخ. كيف تتطوَّر المعرفة العلمية؟ وهل المعرفة العلمية واحدة من حيث هي عمليةٌ تاريخيةٌ متطوِّرة بالنسبة للعلوم جميعها؟ ومثلما يحدث لكل إنسانٍ أو مجتمع عندما تصدمه أزمةٌ يعود إلى نفسه يتأملها باحثًا عن هُويته لمعرفة ذاته أو ليستكشفها من جديد. كذلك أثارت أزمة العلم وتطوُّر المعرفة العلمية سؤالًا هامًّا: ما هو العلم في التاريخ؟ أو ما هو تاريخ المعرفة العلمية وما معنى تاريخ العلم؟ هل هو تاريخ نشاط تراكمٍ كمي وامتدادٍ خطي ذو بُعدٍ واحد أم تحولات كيفية في طفرات ومتعددة الأبعاد؟ وكيف يحدث ذلك؟

وإذا كان العلم هو المعارف الإيجابية النسقية؛ أي المصاغة في نسقٍ على مدى العصور المختلفة والبلدان المتعددة، إذن يمكن القول إن تاريخ العلم هو وصفٌ وشرحٌ لتطور هذه المعارف، وإن مؤرخ العلم لا يعنيه فقط أحدث إنجازات العلم، بل يعنيه أيضًا جماع تطوُّر الفكر العلمي والاكتشافات الذي أفضى إلى هذه الإنجازات ومهَّد لها السبيل. إن علم الفلك تاريخٌ طويلٌ من البحث والتساؤلات والاكتشافات والمشاهدات والتجارب؛ أي من الإنجازات والأخطاء معًا، ولكن تاريخ علم الفلك غير تاريخ العلم بعامة، الذي هو بمعنًى آخر فلسفة تاريخ العلم مثل فلسفة تاريخ المجتمع، والذي يختلف عن تاريخ كل مجتمعٍ على حدة.

ولقد بدأ الاهتمام بتاريخ العلم حديثًا جدًّا حتى إنه لا يزال هناك في الجامعات من لا يؤمن بأهميته. حقًّا هناك سوابق ومقدمات؛ فقد كان هناك روَّادٌ أوائل وقلائل في هذا المجال منذ نهاية القرن اﻟ «١٧». ولكن أول من طبَّق هذه الفكرة في سياقٍ أشمل؛ أي وفق مفهومٍ شموليٍّ للتاريخ، هو الفيلسوف الفرنسي أوجست كُونت. وخير وريثٍ له هو بول تانيري paul tannery الذي يُعدُّ أول مُعلِّمٍ عظيم الشأن لتاريخ العلم. وأصبح تاريخ العلم على يدَيه، وعلى أيدي تلامذته، مبحثًا دراسيًّا متميزًا. وعُني الفلاسفة بتاريخ العلم نظرًا لأن المضامين الفلسفية للعمل العلمي لا تكون واضحةً ما لم تتمَّ دراسة العلم في ضوء عملية نموه. ومؤرِّخ العلم لا يسعه أن يكمل مهمته على خير وجهٍ بدون أن يفهم المضامين الفلسفية للعلم. ولا بد له وأن يضع في الحسبان كل فرعٍ من فروع العلم، ويبحث العلاقات المتداخلة بينها أو المتواترة والمركَّبة. حقًّا إن هدفه تفسير تطوُّر شجرة العلم في وحدتها المتكاملة التي لا تكفُّ عن النمو. ويُفسِّر كيف يؤثِّر تقدُّم علمٍ ما على تقدُّم العلوم الأخرى. مثال ذلك التقدُّم في المناظير المقرِّبة والمكبِّرة أفاد في حلِّ مشكلاتٍ في الفيزياء والكيمياء مثلًا، وغيرَت نظرة الإنسان إلى الكون.

وتاريخ العلم مجال معقدٌ إلى ما لا نهاية، ورحَّب بصورةٍ لا تصدَّق. وقد تباينَت وجهات النظر بشأنه. هناك وجهة نظر المؤرِّخ الذي يعنيه فهم ثقافة الأمة تفصيلًا في عصرٍ بذاته، ووجهة نظر المهني المتخصِّص في مجال العلم الذي يكشف عن نشأة وتطوُّر مجال بحثه، ووجهة نظر رجل الأدب الذي يُدرِج العلم ضمن دراسته الاستقصائية لأن بعضَ كبار العلماء أدباءُ ومؤلِّفون مرموقون، أو لأن الكُتَّاب حريصون على تحصيل معارفَ علمية، ووجهة نظر الفيلسوف الذي يعنيه الكشف عن العلاقة المركَّبة بين العلم والفلسفة وكيف يؤثِّر كلٌّ منهما على الآخر، والباحث المنطقي الذي يعنيه الكشف عن التسلسل المنطقي وترابط الوقائع العلمية وتقديم تفسيرٍ منطقي للاكتشافات وتحليل اللغة والمفاهيم المستخدمة في العلم على أساسٍ منطقي. ويهتمُّ البعض بالجوانب الفردية في العمل العلمي، والمتعلقة بالدراسة النفسية؛ إذ يسألون مثلًا: كيف تأتَّى لعالِم بذاته أن يصل إلى هذا الاكتشاف؟ وما هي الأسس النفسية للإبداع العلمي؟ وكيف نُقارن بينه وبين أقرانه في الزمان والبيئة؟ وكيف تأثَّر مزاجه بالنجاح أو الفشل؟ وكيف عبَّر عن نفسه وكيف اكتشف نفسه في إبداعه؟ والباحث الاجتماعي يعنيه العالِم كعضوٍ في جماعة، والضغوط الاجتماعية؛ حيث إن العلم ينمو في مناخٍ اجتماعي من حيث حظُّه من حرية الفكر والبحث، وأثَر الضغوط الاجتماعية ودَور المؤسسات العلمية.

لقد أضحت دراسة تاريخ العلم وتطوُّره واتجاهات هذا التطوُّر وارتباطه بمجمل تاريخ المجتمع أمرًا بالغ الأهمية والدلالة في سبيل الوصول إلى فهمٍ صحيحٍ لتطوُّر العلم، ومن أجل حفز أهم اتجاهاته وأقواها أثَرًا ونفعًا. وفي الوقت نفسه فإن تاريخ العلم يكشف عن صورة لجهود عبقرية الإنسان لسَبْر أغوار وفهم أسرار العقل والطبيعة وصولًا إلى الحقيقة، والتنبؤ بالمسارات المحتملة لحركة العلم. حقًّا من المستحيل التنبُّؤ باكتشافات المستقبل، ولكن من الممكن التنبُّؤ إلى حدٍّ كبير بالتقدُّم العلمي والتكنولوجي والاقتصادي على أساسِ ما سبق إنجازه؛ فإن الوعي بهذه الآفاق وبنتائجها الاجتماعية الاقتصادية في عصرنا يُمثِّل قوةً دافعة إلى التقدُّم. وهذا ما لا يتأتَّى بدون فهمٍ شامل لمجمل العملية التاريخية وخاصة تطوُّر العلم.

إن مؤرخ العلم هو أولًا وقبل كل شيءٍ باحث في الماضي. وإن مهمته هي وضع تصوُّر بناء مواد أو معارفَ مختلفة تتعلق بالاكتشافات العلمية والجهود والأبحاث العلمية والاتجاهات التطوُّرية للمعرفة العلمية، ابتداءً من نشأتها إلى يومنا هذا وعلى نحوٍ تفصيليٍّ شامل قَدْر المستطاع. أو بعبارةٍ أخرى إن مهمة الباحث هنا أن يعي ويفهم تطوُّر العلم باعتباره عمليةً لها قوانينها المُنظِّمة لها. وأكثر من هذا أنه يتعين أن تُفيد دراسة الماضي كوسيلة لفهم الحاضر والتنبؤ بالمستقبل؛ مستقبل تطوُّر العلم كعمليةٍ تاريخيةٍ هادفة اجتماعيًّا؛ ومن ثَم مستقبل المجتمع. وتحتاج دراسة تاريخ العلم إلى تضافُر جهود مؤرِّخي العلم والعلماء مثل المؤرِّخين ومؤرخي التكنولوجيا وعلماء الاجتماع والفلاسفة والاقتصاديين وعلماء المنطق والنفس والطبيعة؛ فالسبيل الوحيدة هي التعاون بين الباحثين في جميع مجالات المعرفة لوضع تاريخ للعلم، والكشف عن القوانين المنظمة لتطوُّر العلم.

وإذا كان الاهتمام بموضوع تاريخ العلم لا يزال جديدًا، فإن الخلاف مُحتدمٌ بشأن منهج الدراسة، والآراء متباينة، ولعل هذا مصداقًا لنظرة توماس كُون إلى العلم في مرحلة قبل النضج. وثمَّة اعتقاد بأن النظرة التاريخية الشاملة إلى العلم وتطوُّر المعرفة العلمية سوف تحسم العديد من أسباب الأزمة التي كادت تعصف بيقين العلماء. تُرى هل ظَل العلماء على مدى هذه القرون يضربون في عماءٍ على غير هُدًى أم أن هناك تقدُّمًا فعليًّا نحو الحقيقة؟ وهل نجد في التاريخ ما يهدينا إلى معنى الحقيقة؟ هل تاريخ العلم والفكر العلمي والنظرية والمنهج والقانون؛ هل هذا التاريخ عبارة عن شطحات أو قفزات لا عقلانية أم أن له منهج دراسةٍ خاصة من نوع المنهج التطوُّري البنيوي؟ وأن تكون دراسته شاملة لإنجازات العلوم الأخرى وعلى هديها؟ هل هذا التاريخ مستقلٌّ بذاته أم لا بد وأنه مرتبط بغيره؟ وما أبلغ هيزنبرج حين أعرب عن الحاجة الملحَّة إلى استيعاب تاريخ العلم، وكشف في ذات الوقت عن الترابُط بين أزمة العلم وأزمة المعرفة والحاجة إلى البحث عن التاريخ حين قال: «بات مألوفًا النظر إلى تطوُّر العلم باعتباره تتابُعًا لاكتشافاتٍ بارعةٍ ومُذهلة، يمكن للعقل البشري أن يكتشف روابطها الداخلية من خلال أداة الرياضيات … إن كل تقدُّم في مجال العلم إنما يتحقَّق على حساب التضحية بصياغاتٍ سابقةٍ هامَّة لمشكلات وأفكار. وهكذا فإن زيادة المعرفة والإدراك تحُد بالتتابُع من زعم العالِم بأنه «يفهم» العالَم … وإن كل فردٍ في كل عمل من أعمال الإدراك الحسِّي إنما ينتقي إمكانيةً واحدة من بين الإمكانيات اللانهائية. وهكذا تحدد أيضًا عدد الإمكانيات الخاصة بالمستقبل … بدا ذلك واضحًا من فهم معنى المكان قديمًا وفي الفيزياء الكلاسية ثم مع النسبية … كان المكان قديمًا يجري تفسيره عن طريق تحليل خصائصه الهندسية … ومع تغيُّر مفهوم المكان والزمان ثارت مشكلة معنى فهم الطبيعة … ماذا عن العلوم لو نظرنا إليها تاريخيًّا؟ وماذا عن نوعي الإدراك (١) الإبستيم أي معرفة الأشياء الواقعية وإدراك ومعرفة طبيعتها و(٢) والفهم الاستدلالي العقلي الذي يتمُّ من خلال دراسة العلوم. والسؤال ما هو موقف العلوم من هذَين النوعَين من الإدراك؟ إن الاكتشافات العلمية العظيمة تُطامِن من زعم العلماء بأنهم يفهمون الكون بالمعنى الأصلي … وإن كل محاولة لتحليل كلمة «الفهم» لا بد وأن تُخلِّف شعورًا بالنقص.»١
وإن أبلغ دليلٍ على أهمية وإلحاح مشكلة دراسة تاريخ وفلسفة العلوم كُلٌّ على حدةٍ والعلم بعامة هو انعقاد المؤتمرات الدولية المتخصصة في هذا الشأن بصورةٍ مُنتظِمة. ونذكُر هنا دائرة تاريخ العلم للاتحاد الدولي لتاريخ وفلسفة العلم History of Science, Department of the international Union of the History and Phil of Science.

إذ تُنظِّم هذه الدائرة (التي تتبع اليونسكو الآن) مؤتمرًا كل ثلاث سنواتٍ لبحث وتدارس التقارير والأبحاث المُقدمة من العلماء والفلاسفة من مختلف أنحاء العالم بشأن قضايا تاريخ وفلسفة العلم. وقد انعقد أول مؤتمرٍ دوليٍّ لتاريخ العلم في باريس عام ١٩٢٩م. وكان آخرها المؤتمر الدولي السابع عشر لتاريخ العلم المنعقد في جامعة كاليفورنيا من ٣١ يوليو إلى ٨ أغسطس ١٩٨٥م، والذي ضمَّ قرابة ألف عالِم من خمسين دولة. وتتناول هذه المؤتمرات موضوعاتٍ مثل مكان العلم في التاريخ، ومهمة العلم ودوره ضمن نسق المعرفة خاصة في عصرنا الراهن، عصر الثورة العلمية والتكنولوجية، والتأثير المتبادل بين تاريخ العلم وبين النزعة المعاصرة، والاعتماد المتبادل بين العلم والمجتمع، ومستقبل العلم ومناهج البحث وفلسفات العلم، والعلاقة المتبادَلة بين العلم والثقافة أو العلم والسلطة أو العلم والأيديولوجيا وتاريخ العلم … إلخ، من مسائلَ نظريةٍ ومنهجية.

وجدير بنا أن نعرض هنا ما قاله عالم وفيلسوفٌ أمريكي في المؤتمر الدولي الثالث عشر لتاريخ العلم المنعقد في موسكو عام ١١٧١م، ونعني به ج. هولتون G. HULton الذي قدَّم دراسةً عنوانها «النظرة الجديدة إلى التحليل التاريخي للفيزياء الحديثة»؛ إذ يُقرِّر فيها أن كل حدثٍ علميٍّ تاريخي يمكن النظر إليه من زوايا مختلفة؛ أولًا باعتباره واقعًا وحقيقة لحياة المجتمع العلمية، ويكشف عن الرابطة بين هذا الحدث وبين الحالة العامة للمعرفة في لحظةٍ زمنيةٍ محددة، ثانيًا، باعتباره حدَثًا مستقلًّا منعزلًا في التطوُّر المتصل للمعرفة، وفي هذه الحالة يظهر تاريخ العلم في صورة تاريخ تطوُّر الأفكار العلمية، وثالثًا، باعتباره مرحلةً في مسيرة الحياة الإبداعية لباحثٍ ما، حيث نُلقي الضوء على بعض الجوانب النفسية للنشاط العلمي. وأضاف هولتون قائلًا: إن تاريخ العلم يفيد كدالةٍ إنسانيةٍ هامة؛ إذ إنه الرابطة الرئيسية بين العلم الطبيعي وبين الثقافة الإنسانية للمجتمع. وقال كذلك: مثلما أن الرياضيات الآن هي الأداة الفعَّالة والأساسية في كثيرٍ من العلوم، كذلك فإن تاريخ العلم ينفُذ الآن إلى جميع العلوم؛ إذ أصبح المعادل الإنساني للرياضيات … إن دراسة أرشميدس دراسة تحليلية شاملة لا تأتي إلا من خلال معرفة النظرية العلمية المعاصرة له، وليس باعتباره ظاهرةً منعزلة فحسب. وأكَّد هذا المؤتمر على تزايد الاهتمام بالعنصر الاجتماعي أو المكوِّن الاجتماعي في تاريخ العلم وذلك بدراسة مشكلات سوسيولوجيا العلم من جوانبَ تاريخيةٍ متباينة مما يكفُل إعادة بناءٍ تاريخيٍّ كامل للعلم.

وأوضحَت دراسات المؤتمر الدولي لتاريخ وفلسفة العلم المنعقد في كاليفورنيا عام ١٩٨٥م، أنه لا تزال هناك حاجةٌ لصياغة الأسس والمناهج النظرية للعلوم وتحديد مشكلاتها وسُبل حلِّها، وأنماط البحث العلمي التاريخي. وإن القصور في دراسة تاريخ العلم هو أحد أسباب عدم توافُر أفكارٍ واضحة المعالم عن اتجاهاتها المنهجية الرئيسية كشيءٍ متمايزٍ عن الفلسفة على سبيل المثال. وهذا بدوره يعوق التقدُّم في المستوى النظري للتسجيل التاريخي للعلم. ولا ريب في أنه بدون معرفة تاريخ العلم يستحيل التقدُّم في سبيل وضع نظريته ومنهج بحثه؛ ذلك لأن دراسة تاريخ علمٍ ما هي إلا وسيلةٌ لتطوير أسسه النظرية وإثراء وتوسيع نطاق مشكلاته وإمكاناته المعرفية. ويُفسِّر لنا هذا السبب في أن أصبحَت دراسة تاريخ العلم أحد المهام المُلحَّة المُلقاة على عاتق مؤرخي وفلاسفة العلم. وأشارت حصيلة الدراسات المطروحة على المؤتمر إلى أن دراسة تاريخ العلم أو التاريخ للعلم مهمةٌ تحتاج إلى وثائقَ على مدى تاريخ العلم ومؤسساته وإنجازات العلم وعلاقاته بالعلوم الأخرى والثقافة الاجتماعية ومنهج بحثه وكيفية تحديد المشكلة موضوع البحث، ودَور العلم في المجتمع وتفاعُله مع المجتمع. وقد تشمل الوثائق مخطوطاتٍ قديمة وكذلك المجلَّات والمؤلَّفات والمقالات العلمية وكل ما تشتمل عليه محفوظات «أرشيفات» معاهد ومؤسسات البحث العلمي. وتحتاج أيضًا إلى دراسة طبيعة البنية المعرفية للبحث العلمي. وأكَّدَت وقائع المؤتمر الاهتمام المتزايد بالمشكلات المنهجية الخاصة بتطوُّر العلم وتحديد معنى الثورة في العلم والتفاعُل بين العلم والمجتمع.

١  هيزنبرج، نفس المرجع، ص ٢٩–٤٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤