توماس كُون

ولكن ما هو موقع توماس كُون على خريطة فلاسفة تاريخ العلم وتياراتهم الأربعة؟ إنه يقينًا ضمن تيار التمرُّد الواسع العريض ضد الوضعية. وهو إن اقترب من المجموعة الثانية التي يقف كارل بوبر على رأسها إلا أنه لا يذهب إلى حدِّ القول بأن العلم ثورةٌ دائمة. نعم إنه يتحوَّل عَبْر ثوراتٍ كيفية، ولكن تفصل ما بينها فترات ثباتٍ واستقرار. وهو بذلك يخرج من التيار الثالث الذي يرى أن تاريخ تطوُّر المعرفة العلمية تاريخ إضافات تراكميةٍ متصلةٍ، ولكنه بعد ذلك كله ليس من أصحاب مدرسة علم العلم وإن جمعَت بينه وبينهم عواملُ تقارُبٍ كثيرة. وهو بوجهٍ عامٍّ أقرب إلى جاستون باشلار الذي يجمع بين المدرستَين الثانية والرابعة. وحسب هذا التصور فإن التطور العادي أو القياسي للعلم يجري داخل إطار النموذج الإرشادي للعلم، والثورة العلمية هي إزاحة هذا النموذج القديم بسبب ما أثاره من أزمة، وعجزه عن حل مشكلاتٍ مطروحةٍ على بساط البحث، وإبداله بنموذجٍ آخرَ جديدٍ لتبدأ مرحلة ثباتٍ ونشاطٍ قياسي جديدة.

وهكذا يبدو توماس كُون نسيجَ وحده. والحق أنه يتميز بمَيزةٍ خاصةٍ قليلًا ما تتوافر عند من يضطلعون بمهمة التفلسف في إطار فلسفة العلم؛ ذلك أن العلاقة بين فلسفة وتاريخ العلم من ناحية وبين العلم من ناحيةٍ أخرى علاقةٌ يتعذَّر النظر إليها نظرةً إجماليةً شاملة لأسبابٍ عديدة، منها أن موضوع الدراسة في تحولٍ سريعٍ وعام، فضلًا عن أنه يقتضي باحثًا عامًّا موسوعيًّا يحيط بكلٍّ من العلم المُعاش والتراث الفلسفي معًا، وكذا تاريخ العلم حتى يتسنَّى له معالجته والنظر إليه تلك النظرة الكلية الشاملة لاكتشافِ ما يراه قانونًا أساسيًّا لحركة تطوُّر المعرفة العلمية. وتوماس كُون واحد من هذه الصفوة الفكرية التي جمعَت في آنٍ واحد بين الثقافة العلمية الشاملة المعاصرة وبين الثراء الفكري الفلسفي؛ فهو عالم فيزياء؛ أي العلم الأساسي الحاسم الذي يُشكِّل محور حركة التطوُّر المعرفي العلمي في عصرنا الحديث ومشكلاته هي المشكلات التي يُمثِّل حسمُها ركيزة التحوُّل الثوري في صورة العلم والعالم. واستطاع بحكم اضطلاعه بمهمة تدريس تاريخ العلم أن يجمع بين شمول الثقافة التاريخية الخاصة بالعلم وبين عمق الثقافة الفلسفية. وهو بعد هذا كله معايش للعلم وقضاياه؛ إذ يحيط علمًا بإنجازات العلم الحديث؛ مما هيَّأ له أن يُخفِّف إلى حدٍّ كبيرٍ من أثَر سببٍ آخر من أسباب تعقُّد العلاقة بين الفلسفة والعلم، ألا وهو ذلك التخلُّف الزمني بين الفلسفة والعلم، خاصة الفلسفة وعلم الفيزياء، والذي يؤثِّر من نواحٍ عديدةٍ على نشاط الفكر الفلسفي عند دراسة تطور الفكر العلمي؛ فالفلاسفة متخلِّفون بمسافة ثورةٍ علميةٍ من حيث القياس الزمني، كما وأن العلماء نراهم غالبًا مشدودين إلى فلسفاتٍ مضى أوانها وغير مدركين للتغيُّرات التي حدثَت؛ فالعلم يطرح مشكلاتٍ معرفية تؤثِّر في نظرية المعرفة أو نظرية الواقع أو في تقييم القيم العلمية والفلاسفة وراءه بمسافة يلهثون، ولكن استعدادات توماس كُون هيَّأَته لكي يكون أهلًا لتناول مشكلة فلسفة وتاريخ العلم على نحوٍ جديدٍ ومنهجٍ متميزٍ هو المنهج البنيوي، انطلاقًا من إنجازات العلوم المختلفة؛ فها هو نراه قَدْر المستطاع يتناول موضوع بحثه في إطار حوارٍ مشترك بين إنجازات علوم النفس والاجتماع والفلسفة والمنطق واللغة والتاريخ وغيرها ليُصبِح رأيه نوعًا من الاجتهاد المتميِّز الخصب الذي يُثرِي حياة الفكر الإنساني.

وحظِيَت آراء توماس كُون باهتمامٍ بالغٍ من جانب أوساط الفكر الفلسفي التاريخي للعلم، ولا تزال تثير حوارًا غنيًّا مثمرًا. وأفاد توماس كُون من عرضه لنظريته، وتفهُّمه لأوجه النقد، واستجابته لذلك على نحوٍ دينامي مما ساعدَه على إدخال بعض التعديلات أو تقديم بعض التوضيحات لما فهمه البعض على نحوٍ خاطئ. وباتت مفاهيمه الفلسفية تتردَّد على الألسن حتى ليمكن القول إن مفاهيمه أضحت لبناتٍ أساسيةً في صياغة أفكارنا بشأن تطور المعرفة العلمية. وليس أدلَّ على ذلك من أن المؤتمر الدولي لتاريخ فلسفة العلم المنعقد في بيزا — إيطاليا — في سبتمبر ١٩٧٨م، وضع على صدر جدول أعماله قضية «بنية تغيُّر النظرية». وانصَبَّ اهتمام الباحثين على إمكانية إضفاء الصبغة الرسمية على مفهوم العلم القياسي والثوري، وهو المفهوم الذي اصطنعه وروَّج له توماس كُون في كتابه «بنية الثورات العلمية». وجدير بالذكر أن العالم والفيلسوف الهولندي ج. سنيد j.sneed اقترح في المؤتمر نهجًا منطقيًّا أصيلًا ييسِّر تحليل مفهوم توماس كُون. وقد ظهرَت دراساتٌ عديدةٌ خلال السبعينيات عن هذا الموضوع. وحاول المؤتمر أن يُقدِّم عرضًا موجزًا لآفاق البحوث في هذا الاتجاه. وهكذا كانت نظريةُ كُون ركيزةَ أبحاث المؤتمر والقضية التي نالت أكبر قَدْرٍ من الاهتمام في المؤتمر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤