البِنية

لعل من المناسب أن نقدِّم بدايةً تعريفًا لمصطلح البِنْية الذي ورَد في عنوان الكتاب على هَدْي الخلفية الفكرية التي ينطلق منها توماس كُون وهي البنيوية؛ فالبنيوية هي اتجاهٌ منهجيٌّ علميٌّ يرى أن مهمة البحث هي الكشف عن البنية، بِنية موضوعات البحث، وقد تطوَّرَت البنيوية بفضل نشوء وتقدُّم بعض العلوم الإنسانية، مثل اللغة والأدب والنقد وعلم النفس وغيرها، في بداية القرن العشرين، كرد فعلٍ ضد النزعة التطوُّرية الوضعية. والسمة المميزة للبنيوية أنها تُركِّز على وصف الحالة الفعلية لموضوعات البحث، والكشف عن خصائصها الباطنية اللازَمانية، وتحديد العلاقات بين الوقائع وبين عناصر النسَق موضوع الدراسة. وانطلاقًا من مجموعة الوقائع التي تتم ملاحظتُها في البداية تُسرِع البنيوية في الكشف عن وصف البِنية الباطنية للموضوع «السلَّم الهرمي والعلاقات المتداخلة بين العناصر عند كل مستوًى»، ثم تضع في النهاية نموذجًا نظريًّا للموضوع.

والبِنية هي التنظيم الباطني للنسَق والتي تؤلِّف وَحدةً من العلاقات المتداخلة الثابتة بين عناصرها والقوانين التي تحكُم هذه العلاقات المتداخلة. وتُعتبَر «البِنية» صفةً جوهرية لجميع الموضوعات والأنساق القائمة فعلًا؛ إذ لا تُوجد، ولا يمكن أن تُوجد أجسام أو موضوعات تفتقر إلى بنيةٍ قادرةٍ على التغيُّر الداخلي؛ فكل ما هو ماديٌّ ينطوي على تباينٍ لا نهائي من الروابط الداخلية والخارجية واحتمالات التغيُّر في حالته. ونظرًا لتباين المستويات البنائية للمادة أو للموضوع فإن كل شيءٍ ماديٍّ متعدِّد الأبنية. ويمكن الكشف عن المكوِّنات المختلفة للبِنية نظريًّا على أساس مستوى المعرفة التي نبلُغها أو أهداف البحث. وتخضع الرابطة بين عناصر البنية لجدليات العلاقة المتداخلة بين الجزء والكل. ويكون الانتقال في النظريات العلمية من الظواهر إلى الجوهر ملازمًا لمعرفة بنية الأنساق والعمليات موضوع البحث، مع الانتقال من مستوياتٍ بنيويةٍ إلى مستوياتٍ أعمق.

وهكذا تكون الحركة المعرفية، وكما وصفها جان بياجيه، هي في صورتها التلقائية حركة من البسيط إلى المركَّب وصوغ «بِنية» تمثِّل الكل وشاملة. والإدراك، كما يقول بياجيه أيضًا، هو إدراكٌ لبِنية، وهو نِتاجُ مجموعةٍ من الإحساسات الأوَّلية ترابطَت معًا، أو كلماتٍ ترابطَت معًا في جملة. وبعد أن كان الباحثون يظنون أن الكل هو مجموع الأجزاء فحسب، وأن البنية ليست سوى تراكُمِ أو حاصلِ جمع عناصرها، جاءت البنيوية لتنتقل بالفكرة خطوةً أرقى وأوضح، وتبيِّن أن الكل له قوانينه الخاصة التي تنظِّمه ككلٍّ شاملٍ غير عناصره وجزئياته. وأوضحَت كذلك، اعتمادًا على أبحاثِ ونتائجِ دراسات العلوم الأخرى، أن النهج القديم الذي يبدأ من الجزء إلى الكل إنما يطمس معالمَ هذه القوانينِ الخاصة بالكُلِّيات.

وبناءً على تعريف بياجيه فإن البِنية هي نسقٌ من التحولات لها قوانينها الخاصة المتميزة عن خصائص عناصرها، وتُحافظ على نفسها وتُثري نفسها من خلال هذه التحوُّلات. ومهمةُ الفكر النظري تحديدُ البِنية الأساسية لموضوع البحث، ثم الصياغة النظرية للقواعد الحاكمة لها، والتي يمكن ترجمتُها في معادلاتٍ رياضيةٍ منطقية. وحين نقول إن البِنية نسقٌ من التحوُّلات فهذا على نقيض المفهوم الفلسفي القديم الذي يراها صورة؛ إذ كان يُقسِّم الشيء إلى صورةٍ أو شكل ومحتوًى أو ماهية، وكانت الصورة في نظر الفكر الفلسفي التقليدي القديم في حالةٍ ثباتيةٍ أو إستاتيكية.

ويُجمِل بياجيه خصائص البِنية الثلاثة فيما يلي:
  • (أ)

    الشمولية؛ إذ تؤلِّف البنية كُلًّا شاملًا له قوانينه الخاصة؛ أي إن لها قوانينها كنسقٍ مستقلٍّ عن الخصائص المميِّزة لعناصره.

  • (ب)

    التحوُّل؛ إن قوانين هذا الكل الشامل تعمل من خلال تحولاتٍ مستمرةٍ وليست ثباتية؛ بمعنى أن البِنية تتألَّف من نسقٍ من العمليات تُحوِّل جملةً في صورتها الموحَّدة من وضعٍ إلى آخر.

  • (جـ)

    ذاتية أو تلقائية التنظيم؛ بمعنى أن حاصل الترابُطات الباطنية الموحدة للبِنية لا يعطي نتائجَ خارج البِنية، وإنما يثريها، ولا يشتمل على أي عنصرٍ خارجيٍّ غريب؛ ففي مجال الطبيعيات نرى أن الطبيعة أو الفيزياء هرمٌ متصاعدٌ من الأبنية بدءًا من أبسطها صورةً مثل البِنية النووية إلى أوسعها نطاقًا وأكثرها تركيبًا وهي بنية الكون. والكائن الحي له قوانينه المنظِّمة للبِنية الكُلية وله تحوُّلاته المتصلة، وأنساق التنظيم الذاتي، ومن ثَم بنيةٌ خاصة به. ويتألَّف الكائن الحي على جميع المستويات من أبنيةٍ ابتداء من الخلية والجينة التي هي نَسقٌ له قوانينه وميكانيزماته المنظِّمة له. وكذلك المعرفة العلمية لها وحداتها البنيوية المتصاعدة، والتي تُنظِّمها قوانينها الباطنية في علاقاتها المتداخلة مع الأبنية الأخرى، والتي يسعى فيلسوف تاريخ المعرفة العلمية إلى إماطة اللثام عنها من خلال الانتقال من البسيط إلى المركَّب، واكتشاف قوانين الكل الشامل التي تفرض تكوينًا بنيويًّا، ليبدأ بعد ذلك مهمة التفسير الموضوعي.

والبِنية في علم الحياة ليست بِنيةً مغلقةً شأن بِنية الفيزياء، بل بِنيةٌ مفتوحة نسبيًّا؛ ذلك لأنها تشتمل على تغيُّراتٍ مستمرةٍ مع الخارج، وليس التغيُّر قاصرًا أو محصورًا داخل الأبنية الفرعية الباطنية. وتزداد حركية ونشاط الأنساق الذاتية التنظيم أكثر فأكثر مع تزايُد علاقات التبادُل بين الكائن الحي وبين العالم الخارجي على مدى عملية التعلم والنمو، والتي تؤلِّف مصدر الأبنية المعرفية، والتي تُفضي على مستوى العقل الإنساني إلى أبنيةٍ عاملةٍ منطقيةٍ رياضية. كذلك فإن كل بِنية تشغل مكانًا تتقاطع عنده مباحثُ دراسيةٌ متباينة، على مدى سلَّم تطور العلوم، بحيث تستلزم دراستُها الإحاطة بنتائج العلوم الأخرى التي تدخل في سياقها. وهكذا فكلما ارتقينا في سلَّم تطوُّر الظواهر الحية موضوع الدراسة كلما ازدادت إحداثياتُ تداخُل مجالات البحوث العلمية؛ مما يقضي بضرورة الاستعانة بإنجازاتها والاسترشاد بها وصولًا إلى نظرةٍ متكاملة. وهذا يعني التخلِّي عن النهج الانعزالي في البحث والدراسة؛ إذ لا يجوز لي عند دراسة اللغة مثلًا أن أُغفل التاريخ أو علم النفس الخاص باللغة أو النمو المعرفي أو التراث والثقافة الاجتماعية … إلخ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤