التفسير الاقتصادي للأدب الإنجليزي

الأدب ظاهرة اجتماعية مثل سائر الظواهر الاجتماعية كالحكومة والتعليم والعادات والأخلاق والعقائد. والمجتمع ينهض في كل زمان ومكان على أساس اقتصادي؛ أي إن الطراز الذي تتبعه الأمة في إنتاجها الزراعي والصناعي يستتبع طرازًا معينًا آخر من الاجتماع. ولذلك يختلف المجتمع في أمة زراعية من المجتمع في أمة صناعية. ويختلف أيضًا الأدب بين أمتين.

بل هناك طرز مختلفة من الإنتاج الزراعي تُحدث طرزًا أخرى مختلفة من النظم الاجتماعية؛ ففي مصر زراعة تقارب النظام الإقطاعي في القرون الوسطى، وقد نشأ على هذا النظام مجتمع معين نراه على أوضحه في مجلس الشيوخ. وفي دنمركا نظام زراعي تعاوني قد أحدث مجتمعًا ديمقراطيًّا. وفي الولايات المتحدة نظام زراعي آلي، يختلف كل الاختلاف من النظامين السابقين؛ ولذلك نستطيع أن نقول إن الزارع الأمريكي مدني وليس ريفيًّا.

والإنسان، بمحض عمله اليومي في الإنتاج والارتزاق، تتكون له عواطف، وتنشأ له من هذه العواطف عقائد وآراء وأخلاق، ولذلك فهو يعيش وفق إنتاجه؛ أي إن مجتمعه يتخذ طرازًا معينًا يتفق مع طراز الإنتاج. وبكلمة أخرى، ينبني الاجتماع على الاقتصاد.

وإذن نستطيع أن نفسر العقائد والآراء والمذاهب والأخلاق والآداب تفسيرًا اقتصاديًّا في الأمة.

فالبيئة الزراعية في مصر، بما يفشو فيها من فاقة سوداء، ومن جهل يجعل الفلاح عاجزًا عن علاج هذه الفاقة، تحمل فلاحنا على الاستسلام للقدر؛ أي لليأس، وأيضًا على التمسك بعقائد جامدة، وأحيانًا على المغامرة بالجريمة لمعالجة فقره.

والبيئة الزراعية التعاونية في دنمركا تُحدث في الفلاح أو المزارع الدنمركي عواطف الحب والرضا بالمساواة وتنتهي في القمة بحكومة ديمقراطية تخدم الشعب.

والبيئة الزراعية الآلية في الولايات المتحدة الأمريكية تجعل المزارع رجلًا «صناعيًّا» ينظر إلى عزبته (مزرعته) كما ينظر الثري إلى مصنعه في المدينة. وعواطفه وأخلاقه وعقائده وآراؤه جميعها لا تختلف مما نجد عند ساكن المدينة.

وإذا انتقلنا من البيئة الزراعية المصرية مثلًا إلى بيئة صناعية، مصرية أيضًا، وجدنا اختلافًا في الأخلاق والعادات والآراء والعقائد بين أفراد البيئة الأولى وبين أفراد البيئة الثانية.

ذلك لأن حرفتنا التي نرتزق بها هي جزء كبير من معيشتنا. وهي تكيف معيشتنا. وكلنا يحس وهو في الريف أن حرفة الفلاح هي معيشته، وأن معيشته هي حرفته؛ لأن بيته، مثل حقله، هو مكان إنتاجه.

والأدب يتبع أيضًا بيئتنا الاجتماعية التي تنبني على أسس من البيئة الاقتصادية، فحيث تكون الزراعة على الأسلوب المصري وسيلة الإنتاج، يكون الأدب محافظًا بل جامدًا «جمود الفلاحين» ويكره التطور. ولا يؤمن الأديب بحرية المرأة، أو بحق الشعب في الحكم الديمقراطي، أو بسائر الآراء العصرية التي ترد إلينا من بيئات اجتماعية أوروبية نهضت على أنماط أخرى من النظم الاقتصادية. ولذلك نجد في مصر أن النزعة الكلاسية تغلب على الرومانتية، فنحن نكتب بلغة كلاسية اتباعية ونَحِنُّ إلى القديم في الأدب، ونكتب عن أبطاله، ونكره الابتداع؛ لأن استقرار الوسط الزراعي عندنا قد انعكس في استقرار الآراء والعقائد في الأدباء عندنا. وقد كان المجتمع العربي أيام العباسيين زراعيًّا أيضًا، فكان الأدب تقليديًّا، دينيًّا، قرويًّا (من حيث الاستسلام للقدر وضيق الآفاق) ولم تظهر فيه أي نزعات رومانتية ابتداعية إلا القليل جدًّا.

ثم انظر إلى الأدب في أوروبا وأمريكا الآن، فإن المجتمعات التي تعيش في طُرز من الإنتاج الصناعي قد استحدثت طرزًا من الثقافة العلمية تلائم هذا الإنتاج. هذه الثقافة العلمية التي لا يكاد يحتاج إليها وسط زراعي. ولذلك تجترئ شعوب هاتين القارتين وتقتحم المستقبل ولا تستسلم للقدر. وقد أحدثت الأزمات الاقتصادية التي نشأت من الإنتاج الآلي للمصانع أزمات نفسية انعكس أثرها في الأدب الأوروبي الأمريكي، فكان التقلقل والدعوة إلى آراء وعقائد جديدة بشأن الحكومة، والمرأة، والعامل، والفضيلة، والرذيلة، والدين.

وعندما تنتقل الأمة من الزراعة اليدوية إلى الصناعة الآلية، كما حدث في إنجلترا في القرن التاسع عشر، أو بالأحرى في أواخره، نجد صراعًا بين الأدباء التقليديين (الزراعيين) وبين الأدباء المجددين الثائرين (الصناعيين)؛ إذ يدعو الأولون إلى الاستمساك بالقديم في قواعد اللغة والتفكير، والإيمان، والعادات الاجتماعية، ويدعو الثانون إلى الابتداع والتغيير في كل شيء تقريبًا. وتنتهي الغلبة بالطبع للثانين؛ لأن هؤلاء الثائرين يدعون إلى مقاييس جديدة للأخلاق، وإلى حريات جديدة للمجتمع. وكلتاهما، المقاييس والحريات، إنما دعا إليها تغير الإنتاج من الزراعة إلى الصناعة. بل من الصناعات اليدوية الصغيرة إلى الإنتاج الآلي العظيم.

وبين هذين الفريقين يقف فريق يبالغ في جموده، أو هو يفر من الواقع فيرتد إلى التاريخ القديم وكأنه يسير القهقرى نحو المستقبل. ونحن في مصر نرى كثيرًا من أدبائنا قد يئسوا من مواجهة الحاضر والمستقبل ووجدوا في الحضارة العصرية ما يبعثهم على القلق ويثير فيهم المخاوف، فعمدوا إلى تاريخ العرب قبل ألف سنة يؤلفون عن أبطالهم ويدعون إلى التمثل بهم. وقد رأى الإنجليز مثل ذلك أيضًا في كلٍّ من «تشسترتون» و«بيلوك» و«أرسكين» الذين دعوا إلى العودة إلى القرون الوسطى، ولكنهم بالطبع فشلوا وتغلب عليهم أولئك الأدباء الذين بصروا بالقوات الاقتصادية الجديدة التي غيَّرت المجتمع ودعت إلى أخلاق جديدة تلائم هذا التغير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤