بواعث التجديد

تبعث على التجديد بواعث كثيرة، ويصيب التجديد ميادين النشاط البشري جميعها سواء أكانت ثقافية أم حضارية.

فقد يهتدي الذهن البشري إلى فكرة جديدة تكشف عن المغزى لطائفة من المعارف بحيث تجعل المعرفة الميتة ثقافة، كفكرة التطور مثلًا اهتدى إليها «داروين» فكانت وما تزال نظامًا انتظمت به المعارف البيولوجية، فمن هنا يعد «داروين» مجددًا في البيولوجيا كما يعد «فرويد» مجددًا في السيكولوجيا؛ لأنه اهتدى إلى فكرة «الكامنة» أو العقل الكامن. أو كما يعد «ولسون» مجددًا في السياسة لأنه اهتدى إلى فكرة عصبة الأمم.

ويصيب التجديد الحضارة كما يصيب الثقافة، فحياتنا الحضارية في مصر قد تجددت في نصف القرن الماضي بأكثر مما تجددت ثقافتنا؛ وذلك لأننا اصطدمنا بظروف جديدة اضطرتنا إلى اتخاذ الحضارة الغربية والتسليم بها، فنحن ننتقل بالقطار والأتومبيل، دون الجمل أو الحمار. ونحن نؤسس المؤسسات في التعليم والقضاء والبريد والإدارة على غرار الأنظمة الأوروبية دون الأنظمة التي ورثناها من العرب أو من الشرق. ونحن في كل ذلك مجددون لا يكاد يوجد بيننا رجعي يقول بأفضلية الجمل على القطار، أو خطة الالتزام القديمة في جباية الضرائب على الخطة الحاضرة في فرض الضرائب.

وأعظم ما يبعث على التجديد هو تبدل الوسط، فإذا فرضنا مثلًا أن جزيرة العرب قد حدث لها تبدل فجائي فانتقلت من اليبس والجفاف إلى البلل والمطر، واستحالت صحراؤها القاحلة أرضًا زراعية، فإننا ننتظر من العرب عندئذٍ أن يقلعوا من البداوة والرحلة ويأخذوا بأساليب الزراعة والإقامة. ومن يفعل منهم ذلك يعد مجددًا ومن يجمد ويلزم البداوة يعد رجعيًّا لا يستجيب للوسط الجديد.

فالثقافة التجديدية في مثل هذه الحال يجب أن تدعو إلى الأخذ بالزراعة وتعلم أساليبها والنزول على أخلاقها، وهجران البداوة والإقلاع عما بقي منها في المعيشة والأخلاق.

وقد حدث في القرن التاسع عشر في إنجلترا ما يشبه هذا الانتقال، فإن الحضارة الزراعية أخذت تتراجع وتتقلص بينما الحضارة الصناعية كانت تأخذ في التوسع والغارة عليها. وهذه الحضارة الصناعية هي حضارة الآلات، وما تستتبع من تبدل في المعيشة والأخلاق. وهذا الانتقال كان يَدِقُّ على أفهام الناس، لا عامتهم فقط، بل خاصتهم أيضًا. وكان هناك قليلون يفهمونه ويدركون مغزاه ويكرهونه ويقاومونه مثل «جون روسكين» و«وليم موريس»؛ إذ إن كليهما دعا إلى ترك الآلات والرجوع بالناس إلى العصور الوسطى والقناعة بالعمل اليدوي.

وقد قلنا إن هذه الحضارة الصناعية كانت تُغِير على الحضارة الزراعية مدة القرن التاسع عشر. وهي ما تزال إلى الآن في هذه الغارة لمَّا تتم لنفسها النصر، فالدعوة التجديدية القائمة الآن في إنجلترا، كما نفهمها من مؤلفات «برنارد شو» أو «ﻫ. ﺟ. ولز» أو كما نراها أحيانًا على أبلغها في مؤلفات «برتراند روسل» تدعو إلى أن نستبدل من ثقافتنا بمثل ما استبدلنا من حضارتنا؛ لأن أحماض العلم قد أذابت العقائد القديمة وزعزعت الاستتباب النفسي الذي كان يسود في العصر الفكتوري، فيجب لذلك أن نأخذ بمنطق جديد يتفق ومبادئ الحضارة الجديدة، ولا نرسف في أغلال التقاليد وندفن عقولنا في الماضي. وهؤلاء الكتاب وكثير غيرهم قد جعلوا من أدبهم وسيلة لأن نعمد إلى معيشتنا وأخلاقنا فننفتح فيهما بما يوافق العصر الجديد عصر العلم والآلات والمادية.

ولننظر الآن في الوسط الزراعي وما يقتضيه. ثم نعود إلى الوسط الصناعي فنبحث وجوه الفرق بينهما وهي الوجوه التي أخذ أدباء إنجلترا المجددون في شرحها وحث الإنجليز على اعتمادها دون سواها.

فقد كان الناس إلى القرن التاسع عشر يعيشون على مبادئ الحضارة الزراعية، وكانت الصناعات يدوية، العامل فيها أشبه بالمالك منه بالأجير، والمدن صغيرة كأنها القرى، والانتقال بطيء لا يساعد على انتشار المصنوعات، وتراكم رءوس الأموال في بقع معينة هي المصانع الحديثة والمدن الكبيرة. ولمثل هذه الحضارة أخلاق تلازمها هي الأخلاق التي ما زلنا نراها عندنا مثلًا حيث لا يجوز للمرأة أن تستقلَّ وتعمل لحسابها الخاص، وحيث الإيمان بالقضاء والقدر على أقواه، وحيث الديمقراطية اسم بلا مسمًّى، وحيث نرى العقائد والتقاليد تأخذ مكان الرأي والاستنباط، والنزول على العرف مكان الاستقلال والانفراد. وحيث تحترم الرابطة العائلية وتوضع فوق كل اعتبار، وحيث للدين الحرمة الأولى في تفكير المفكرين.

كانت هذه حال إنجلترا في أوائل القرن التاسع عشر. ولكن رويدًا رويدًا أخذت الصناعة تطارد الزراعة، والمدن تجذب إليها السكان فيهجرون القرى والريف، والصناعات اليدوية تموت، ويحتشد العمال في المصانع الكبيرة. وأخلاقنا هي ثمرة الوسط الذي نعيش فيه، وهي تبع للأحوال الاقتصادية التي تلابسنا. ومن هنا نشأ النزاع بين الأخلاق التقليدية القديمة وبين الوسط الصناعي الجديد. ومن هنا ظهر التصادم بين المحافظين الذين كانوا يرغبون في الأخلاق القديمة، فيطلبون من المرأة أن تكون زوجة فقط، ومن الأولاد طاعة الآباء والارتباط بهم، ومن الفقراء القناعة بالفقر، ومن المفكرين النزول على العقائد الدينية والتسليم، وبين المجددين الذين كانوا يرغبون في أخلاق جديدة توافق البيئة الصناعية الجديدة. وهي أخلاق تدعو المرأة أن تكون لها شخصية مستقلة تعيش لنفسها أولًا فترقى وتستمتع، ثم إذا أرادت بعد ذلك فلتكن لزوجها وأولادها وأُمَّتها. كما تدعو العامل أن يواجه الوسط الصناعي الجديد بنظام جديد يحقق له الاشتراك في الحكم والإنتاج هو النظام الاشتراكي، بل كما تدعو المفكرين إلى النزول على مبادئ العلم والتسليم بنظرياته دون التسليم بالعقائد الموروثة أو العرف الاجتماعي. وإذن احتاج المجددون إلى المصارحة وإظهار الجمهور البريطاني على عيوب العرف والأخلاق القديمة والدعوة للأخلاق الجديدة. وأصبح الأدب الإنجليزي اجتماعيًّا في نزعته، يحاول الأديب أن يبتكر عن سبيله القيم الجديدة للأخلاق كي يلائم بين البيئة الصناعية وبين معايش الناس.

هذه هي المهمة التي أخذ الأدباء الإنجليز في تأديتها للجمهور الإنجليزي، وما زالوا في سبيل التأدية إلى الآن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤