تعليقات وإضافات

  • (أ)

    لم يكن من قبيل الصدفة أو توجه الهولي (الفتاة الوحش أو الكلبة التي تغني!) سؤالها عن الإنسان لأوديب الباحث عن قَدَره، المعتز بإرادته وذكائه في مواجهة الغيب. وربما كان المعنى الباقي من المسرحية الخالدة هو أن أوديب لم يتمكَّن من حل اللغز الأبدي، إذ عرف من هو الإنسان من ناحية المظهر والشكل فحسب، وعجز عن معرفة نفسه التي بين جنبيه. وإذا كانت إجابته الذكية قد قضت على الوباء المنتشر في «ثيبه» ومكَّنته من اعتلاء عرشها والزواج من ملكتها، فقد اكتشف — بعد فوات الأوان! — أنه أصبح هو نفسه الوباء الجديد (ارتكب أفظع أثم يمكن أن يرتكبه إنسان) وأنه لم يستطع في غروره وتهوره وجهله بنفسه أن يجيب الإجابة الحقيقية عن اللغز، لأن هذه الإجابة مرهونة بمعرفة الإنسان لنفسه؛ أي معرفته لحدوده البشرية. وما دامت المعرفة المطلقة هنا مستحيلة؛ فقد تحتَّم أن تنتقم منه الربة «نميزيس» (ربة العدالة والناموس) ليصبح عِبرة لكل من تسوِّل له نفسه تجاوز الحد، والوقوع في وهم التألُّه، وتصور القدرة على نيل المطلق، بل على تجسيده في ردائه البشري الفاني! ربما لا يرضيك هذا التفسير لأوديب، ولكنك قد توافقني عليه إذا تأملت حياتنا العربية التي ابتُليت في السنوات الأخيرة بالرجال الجوف والأبطال الكذَّابين الذين يحسبون أنهم انتصروا على الوباء، ونسوا في غمرة إعجابهم بأنفسهم أنهم هم الوباء نفسه! لقد قضى أوديب على نفسه بالعمى، ولكنه أصبح في النهاية «الأعمى المُبصر»، واكتسب «عينًا ثالثة» لا يملكها المبصرون. وهكذا رأى في «عماه البصير» ما حاول الكاهن الأعمى «تيريزياس» أن يفتح عينيه عليه: أنه هو سبب الوباء، وأن الطغيان هو الوباء الأكبر نفسه. أما «أودييو» زماننا المنتشرون كالكوارث في كل مجال فلا يشعرون بعماهم ولا يكتفون به، وإنما يتباهون به ويفرضونه على غيرهم. وليتهم يملكون شيئًا من نُبل أوديب الأسطوري وشجاعته وحنانه.

  • (ب)

    هناك عوالم متدرجة في مستواها. فالحجر يوجد في عالم أو مجال يتجاوز فيه مع غيره من الأحجار والأشياء. والنبات يوجد في عالم أو «نسق» أوسع يستمد منه الغذاء. ويرتفع المستوى مع الحيوان بفضل قدرته على الإدراك الحسي فيتَّسع مجال علاقاته أو محيطه وبيئته. وللإنسان كذلك — كما أوضح العالم البيولوجي فون أوكسكيل — محيطه وبيئته التي لا يمكنه أن يزعم أنها أكثر واقعية من بيئة الحيوان أو النبات؛ لأنه كائن حي محصور فيها محدد بمطالبه الحيوية منها. ومع ذلك فإن قدرته على المعرفة العقلية هي التي تجعله يتخطى بيئته المحدودة، أي تجعله يحيا في «عالم» ويرتفع في نفس الوقت فوقه، لأنه العقل في صميمه — وهنا سر حريته ومكمن الخطر عليه! — هو القدرة على الاتصال بمجموع الموجودات والانفتاح عليها. لهذا قال أرسطو في كتاب النفس: «إن النفس في الحقيقة هي كل شيء.» (أي كل ما هو موجود أو كائن). ومعنى هذا أنها بقدر ما تدرك نفسها وتكون في ذاتها — كوجود شخصي مستقل — بقدر ما تكون في الخارج وتدرك كل الموجودات وتواجه «العالم» بأكمله (أرسطو، في النفس، ٣، ٨–٤٢١ب) حقًّا إن الإنسان يحتاج إلى سطح يظلُّه ويدفئه، ولكنه يتطلع للنجوم من فوقه، وهو يعيش ويتكيَّف في بيت الحياة اليومية، ولكنه يستطيع أن ينفتح على مجموع الموجودات، وهو مقيد بالبيئة أو العالم المحيط به — شأن النبات والحيوان — ولكنه قادر على الخروج منه إلى العالم، ولهذا فالأصح أن نقول إنه لا يعيش في «عالم» أو في «عالمه» بل في العالم، والأكثر من هذا صحة أن نقول إنه لا يكون في العالم وفي مواجهته فحسب، بل هو دائمًا على طريق البحث عن «ماهيته».

  • (جـ)

    كثيرًا ما يسأل الأطفال أسئلة لا تختلف عن الأسئلة التي يرددها الفلاسفة وتدور حولها بحوثهم الميتافيزيقية (الطفل يفجؤني بأسئلة محيرة عميقة: من قصيدة عيد الميلاد لسنة ١٩٥٤م للشاعر صلاح عبد الصبور في ديوانه الأول الناس في بلادي) وقد ذكر «ياسبرز» أمثلة لبعض هذه الأسئلة التي تبدر من الأطفال، ولا يكاد الآباء يبدءون في الرد عليها حتى يلاحظوا انصراف الطفل وملله وعدم اكتراثه! (راجع لكارل ياسبرز مدخل إلى الفلسفة، الترجمة العربية للدكتور محمد فتحي الشنيطي، القاهرة، مكتبة القاهرة الحديثة، ١٩٦٧م، ص٤٣–٤٦) والمجانين يسألون كذلك أسئلة لا تقل عمقًا وإرباكًا. وفي هذَيان بعض العباقرة المصابين بأمراض عقلية — كالاكتئاب والفصام وجنون الاضطهاد — شواهد كثيرة على هذا؛ إذ يتمزق الحجاب الذي نحيا عادة وراءه وتنبعث من المجنون كشوف ميتافيزيقية مذهلة. غير أن هذه الكشوف عند الطفل والمجنون تفتقر إلى الشكل واللغة اللذين يُتيحان لها التعبير المتَّسق عن معنًى موضوعي (انظر على سبيل المثال القصائد التي فاض بها وجدان الشاعر هلدرين أثناء مرضه الطويل في كتابي عن هلدرين، دار المعارف بالقاهرة، سلسلة نوابغ الفكر الغربي، ١٩٧٢م، ص٢٢١–٢٢٣). ولعل قول القائل إن الفلسفة جنون معقول لم يكن من قبيل التخريف والمبالغة!

  • (د)
    هذا ما يقوله الفيلسوفان «العقلانيان»: أما الشعراء والنقاد فقد أكد الكثيرون منهم أن الاندهاش أو التعجب هو أصل الخلق الأدبي. وربما كان «جوته» في حياته وإنتاجه من أشدهم إلحاحًا على ضرورة الاحتفاظ بالقدرة على الاندهاش. فهو يقول في ختام قصيدة بعنوان «بارباس»: «أني وُجدت هنا لكيما أندهش.» كما يقول في أحد أحاديثه الرائعة مع «أكرمان»: «الاندهاش هو أسمى ما يمكن أن يبلغه الإنسان» (الحديث بتاريخ ١٨ فبراير سنة ١٨٢٩م) ويلاحظ كذلك أن الشاعر الإنجليزي «وردزورث» — في نظريته عن الشعر — قد جعل «التعجب» مصدر اللذة الجمالية أو متعة التذوق الفني عند الشاعر والمتلقي حتى بإزاء القبيح والمؤلم. وغنيٌّ عن الذكر أن هذه النظرية ترجع إلى ميتافيزيقا أرسطو، وإن الشُّرَّاح قد توسعوا فيها منذ العصور القديمة والمدرسية وعصر النهضة حتى عهدنا الحاضر. وقد فسر ألبير الأكبر على سبيل المثال عبارة أرسطو المشهورة: «لأن الناس يبدءون في التفلسف كما بدءوا به قديمًا بسبب تعجبهم.» فسَّرها بأن التعجب شيء يشبه الخوف في تأثيره على القلب. هذا التفسير يربط بين أرسطو وبين «لونجينوس» الذي يدور كتابه المشهور «عن الجليل» حول فكرة التعجب أو الاندهاش Admiratio وقد ألحَّ شُرَّاح لونجينوس في القرن الثامن عشر (مثل بيرك Burke) على أن اللذة المستمدة من الفن الجليل شبيهة بانفعال الخوف من المؤلم والقبيح. وكان «لوردزورث» الفضل في رد هذا التفسير السخيف واكتشاف العلاقة بين التعجب وبين الفرح أو السرور. وقد عرف الأستاذ ج.ف. كننجهام في كتابه «الرهبة أو العجب» شعور التعجب بأنه «الحد الأقصى للشعور بالصدمة»، كما أشار إلى أن حديث شكسبير الذي يتردد في مسرحياته المتأخرة عن المعجز والمعجب تدل على أنه لا يرتبط فحسب بأقصى مشاعر الخوف، وإنما يتصل كذلك بأشد انفعالات الفرح، وأنه يتميز بالسكون والثبات وعدم الحركة. وكل من يقرأ قصائد وردزورث القصصية Iyrical Ballads يلاحظ أن حالات السكون تغلب عليها، مما يؤكد رأي الشاعر في أنها تنتج عن الفرح والتعجب (انظر كتاب كننجهام المشار إليه فيما سبق J. V. Cunningham; woe or wonder, Denver. 1951 وقد ذكره الأستاذ «ف. ن. سنها» في مقال له بعنوان نظرية وردزورث عن الشعر، مجلة كلية الآداب، جامعة صنعاء، العدد الأول، ١٩٧٧-١٩٧٨م، ص٣٦-٣٧ V. N. Sinha, William Wordsworth’s theory. Bulletin of the Faculty of Arts, Sanaa University. P. 36-37).
  • (هـ)
    لم يكن من قبيل الصدفة أن يُعبِّر الحكماء السبعة — الذين عاشوا بين القرنين السابع والسادس قبل الميلاد — عن معنى التواضع والاعتدال والتزام حدود البشرية. نجد هذا في حكمهم المأثورة التي تلخص تجربة الحياة العلمية عند اليونان قبل بداية الفلسفة، كما يسري في عروق حياتهم الفكرية والأدبية وروائعهم الفلسفية والمسرحية. ويختلف المؤرخون حول هذه الحِكم المأثورة ونسبتها إلى أشخاص قائليها. ولعل أهمها وأدلها على الروح اليونانية هو القول المشهور الذي كان منقوشًا على معبد أبوللو في دلفي وهو «اعرف نفسك» (جنوثي زياوتون) أي اعرف أنك مجرد إنسان، وهو القول الذي خلَّده سقراط وجسده في شخص حي، وكذلك «لا تتطرف في شيء أو لا تسرف على نفسك» (ميدين أجان) الذي يُنسب لطاليس، والحد أفضل شيء (ميترون أريستون) الذي ينسب «لبيتاكوس» حاكم مدينة ميتيلينه في جزيرة لسبوس (مسقط رأس الشاعرة الغنائية المشهورة سافو والشاعر الفارس ألكايوس الذي تمرَّد عليه). وربما كان الوسط الذهبي الذي حدد به أرسطو الفضيلة، والتوسط الذهبي Aurea mediocritas الذي طالب به هوراس استمرارًا لهذه النزعة «الإنسانية» المتصلة في التراث الغربي، وهي التي تجعل الحكمة مرادفة لمعرفة الحد والتمسك بالاعتدال، أي لمعرفة الإنسان حدوده في الفكر والعمل، والتسليم بأنه مؤقت وفانٍ ككل ما يعمله ويفكر فيه. وغنيٌّ عن الذِّكر أن التوسط والاعتدال والعدل هو صميم الروح الإسلامية، وفي كثير من آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول الأمين وسِيَر الصحابة والصفوة من العلماء والمجاهدين ما يشهد على هذا (راجع إن شئت مقالي عن التواضع والاعتدال في كتاب مدرسة الحكمة تحت عنوان: «أيها الإنسان لست إلهًا» ص١٣٣–١٥٠، وانظر كذلك النصوص المنسوبة للحكماء السبعة والشواهد الفلسفية والتاريخية والأدبية عنهم منذ العصور القديمة حتى أواخر العصور الوسطى في الكتاب الذي حققه ونشره الأستاذ برونو سنيل وظهر في سلسلة «توسكولوم» تحت عنوان: حياة الحكماء السبعة وآراؤهم: Bruno Sneli, Leben und Meinungen der Sieben Weisen München Tusculum, 1952).

    ولو تأملنا الكشوف والبحوث التي تُجرى الآن على قدم وساق في مجال ارتياد الفضاء لوجدنا أنها ستغيِّر من النظرة الراهنة إلى وضع الإنسان في الكون. لقد أزيحت الأرض عن مركز الكون (بفضل أرسطورخوس ثم كربونيق!) وجعلها العلماء تقنع بمكان ضئيل على حافة طريق لبني صغير. ولو أمكن التوصل إلى اكتشاف كائنات عضوية حية أذكى منا وأقوى وأكمل لانتهى غرور الإنسان الذي لا يزال يتصور أنه «تاج الخليقة» وقمة التطور وصورة الله على الأرض. ولو حدث هذا فلن نستطيع أن نتخيل مدى التحول الذي سيطرأ على وعي الإنسان. ولكن المؤكد أنه سيؤثر على الرأي العام وتصور الإنسان العادي لنفسه وللعالم أكثر بكثير من تأثيره على الفلسفة. إذ يكفي من الناحية المنطقية أن يثبت إمكان وجود كائنات أرقى في مكان آخر من الكون لكي يكون هذا مصداقًا لتواضع الفيلسوف واعتداله، والواقع أن تواضعه ليس فضيلة يُحمد عليها، وإنما هو مكون أساسي من مكونات شخصيته وعمله. وعبثًا تحاول — ولو ملكت عصا موسى وفصاحة ديموستين وبلاغة علي وصبر أيوب — أن تقنع بهذه الحقيقة البسيطة طواويس الغرور التي تمشي مرحًا في أرضنا الثقافية البائسة.

  • (و)

    الإنسان لا يفلت أبدًا من الفلسفة؛ فهي حاضرة دائمًا، ماثلة في كل مكان، قد تذبل أو تتجمد في صورة شعبية في الأقوال المأثورة والحكم الجارية والآراء المتواترة والأساطير. ولكن حضورها الشامل، على اختلاف صوره ودرجته في كل موقف وفكر وسلوك وتقييم، يدل على أن كل من ينبذ الفلسفة يثبت بهذا الموقف نفسه — على غير وعي منه — أنها موجودة (ياسبرز، المدخل إلى الفلسفة، الترجمة العربية للدكتور محمد فتحي الشنيطي، ص٤٧) والإنسان ما يزال يشعر في قرارة نفسه أنه وعي وحرية. وهذا الشعور هو الذي يدفعنا إلى القول بأنه لن تزول الفلسفة اللهم إلا بزوال آخر مخلوق بشري على هذه البسيطة (المرحوم الدكتور زكريا إبراهيم، مشكلة الفلسفة، القاهرة، مكتبة مصر، ١٩٧١م، ص١٦).

  • (ز)

    يثير هذا الموضع من السياق سؤالًا لا غنى عن طرحه؟ هل حدث تقدم في الفلسفة يشبه التقدم والتطور الذي تم في سائر العلوم؟ أم لا زالت «فضيحتها» — التي تكلم عنها كانط، وحاول بفلسفته «العلمية» أن يقضي عليها — تتردد عالية الصوت في اختلاف الفلاسفة والمذاهب؟ هل توصَّلنا لإجابات عن المسائل الفلسفية الكبرى أم لا زلنا نقف في نفس المكان الذي تركنا فيه الفلاسفة السابقون؟ لا شك أن الفلسفة قد صقلت مفاهيمها ومناهجها وبلغت مأمونة لا يمكن التراجع عنها، وانتهت إلى وجهات نظر لم يعرف الأقدمون عنها شيئًا، وألقت أضواء جديدة على مشكلات قديمة «خالدة»، ويكفي أن نفكر في بعض قوانين المنطق الصوري والرمزي، أو في النظرية الفلسفية عن المنطق (ما يعرف بما بعد المنطق أو «الميتالوجيك») أو في «الثورة الكوبرنيقية» التي حققها كانط في نظرية المعرفة. فالقول بأن الذات العارفة هي التي تشكل المعرفة بفاعليتها وتصورات «فهمها» الأولية (القبلية أو الفوقانية الشارطة!) بل هي التي «تبني» الموضوعات وتُنشِئها، كل هذا شيء لم يعرفه القدماء ولم يكن ليخطر لهم على بال. لقد راح هؤلاء القدماء — وبخاصة أفلاطون — ينظرون بعيون الروح إلى عالم من المُثل الخالدة الثابتة التي يندرج تحتها عالم الواقع و«النُّسخ» الحسية الباهتة. لم يدرِ بخلدهم أنه يجوز أن يكونوا هم أنفسهم قد شاركوا في بناء هذه النظرية إلى العالم بتكوينهم العقلي واللغوي. فلما جاء «كانط» بنظرته النقدية الترنسندنتالية (أي المتعلقة بالشروط القبلية للمعرفة) بلغت الفلسفة مستوًى جديدًا من التأمل لم تستطع بعده أن تغفله أو تهبط عنه (ولا يؤثر على هذه الحقيقة أن نجد فريقًا رفض منطلقه رفضًا تامًّا — كالحِسِّيين والجدليين — أو فريقًا آخر تطور به على نحوٍ قد لا يُرضيه، كالكانطيين الجدد!) ولو سرنا خطوة أخرى لوجدنا فتجنشتين وأصحابه يقفون على مستوًى جديد وينظرون نظرة جديدة. فقواعد الاستخدام اللغوي تقوم في رأيهم بدور حاسم في تصور العالم وبناء الموضوعات. كانت اللغة عند أفلاطون أداة التمييز بين الماهيات الأبدية المختلفة، فأصبحت أداة «تخلق» «ماهية» الموضوعات أو تشارك في تكوينها.

    هذه الأسئلة القليلة — وغيرها كثير — تُبيِّن أن الفلسفة الحديثة قد طرحت مشكلات لم يعرفها القدماء، وقدَّمت إجابات جديدة عمَّا يُسمى بالأسئلة «الخالدة»، بل وصل بها الأمر في بعض الأحيان إلى رفض هذه الأسئلة نفسها والكشف عن أقنعتها اللغوية الكاذبة! (يكفي أن نتذكر أن ديكارت لم يكن ليستحق اسم «أب الفلسفة الحديثة» لو لم يبدأ من «الذاتية» بداية جديدة كل الجدة جعلت تاريخ الفلسفة من بعده في الجانب الأكبر منه هو تاريخ الذاتية) ولهذا لا يمكن أن نوافق «وايتهيد» (وامرسون أيضًا!) على قولهما المشهور بإن الفلسفة الغربية كلها هوامش على أفلاطون. ولا نحسب أن أفلاطون نفسه (وهو أب الجدل الحي والحوار الحر!) كان ليوافق على رأيهما. ومع ذلك فلا بد من إبداء شيء من التحفظ حتى لا تقع في التفاؤل الساذج، فلم تزل هناك مشكلات أساسية لم تحقق فيها تقدُّمًا يُذكر، ونكتفي على سبيل المثال بهذه المشكلة التي طرحها أفلاطون: كيف يمكن إدراك شيء واحد فريد عن طريق المفاهيم العامة، مع أن هذه المفاهيم لا يمكن أن تشير إلا إلى فئة عامة من الموضوعات؟ وعلى كل حال فإن مشكلة التطور أو التقدم في الفلسفة لا تزال موضع نظر بين أنصارها وخصومها، ولا تزال بحاجة إلى مزيد من التعمق الذي لا يتَّسع له هذا المجال.

  • (ﺣ)

    «أن كثيرًا من التغيرات الأساسية في العالم كانت تتحقق دائمًا بالتعمُّق بحثًا عن الأسس الفلسفية. فالتحول من النظام البطليموسي إلى النظام الكربونيقي، ومن الهندسات الإقليدية إلى الهندسات اللاإقليدية، ومن الميكانيكا النيوتونية إلى الميكانيكا النسبية وإلى المكان المنحني ذي الأبعاد الأربعة؛ كل هذه التغيرات كانت مدفوعة بالبحث الفلسفي المتعمق، كما أنها أحدثت تغييرًا جذريًّا في تفسير الحس المشترك للعالم» (عن كتاب «في فلسفة العلوم ومناهج البحث» للدكتور محمد مهران، والدكتور حسن عبد الحميد، القاهرة مكتبة سعيد رأفت، ١٩٧٨م، ص٧).

  • (ط)
    يرى بعض العلماء (مثل عالم الاجتماع كارل مانهايم) أن الفلسفة مرادفة لوظيفة اجتماعية عامة هي «الأيديولوجية»، أي أن الفلسفة تعبير عن موقف اجتماعي محدد وطبقة اجتماعية محددة. فالفلسفة العضوية الحية مثلًا قد نشأت عن مجتمع النبلاء وتسلسله، والفلسفة الميكانيكية المجردة تصوير للمجتمع البرجوازي الذي يُمجِّد قيم النجاح، وفلسفة ديكارت تعبير عن ارستقراطية البلاط وجماعات الجزويت لا عن الطبقة المتوسطة وجماهير الشعب الفقير. وفي هذا الرأي جانب من الصواب، ولكنه ليس صحيحًا كل الصحة؛ إذ لا يكفي أن نقول إن فلسفة أفلاطون وأرسطو كانت تعبر عن الطبقة المحافظة في أثينا؛ لأنها — مثل مسرح أرسطوفان وسوفوكليس — كانت محاولة مخلصة من وجهة نظر «الفلسفة الخالدة» لإنقاذ أثينا وبلاد الإغريق من التدهور والانهيار والفساد. ولا يكفي أن نرجع الفلسفات لأسسها الاجتماعية التي لا شك في تأثيرها عليها، بل لا بدَّ من الرجوع بها إلى العملية التاريخية الشاملة التي نشأت عنها الجماعات والطبقات نفسها. فعلم الاجتماع لا يكفي وحده لتفسير فلسفة ديكارت ذات الطابع الرياضي الميكانيكي؛ إذ لا بد من الرجوع لنظام الإنتاج في عصره، ولنظرية تاريخية شاملة تتجاوز الطبقة الارستقراطية والبرجوازية إلى حركة المجتمع الأوروبي كله في ذلك الحين. وإذا لم نفعل هذا فسنضطر لنسبة بعض النظريات الفلسفية لجماعات لا أهمية لها أو لإساءة تفسير دور جماعة أو طبقة معينة والسياق الاجتماعي والحضاري بأسره. والأخطر من هذا هو الزعم بأن كل الحقائق الإنسانية — من فلسفية أو غير فلسفية — وأن كل فكر الإنسان مرتبط بوجوده الاجتماعي ارتباطًا يجعله تعبيرًا عن طبقة معينة لا يصدق إلا عليها. وهذا إنكار لماهية الفلسفة بل لدورها الاجتماعي والنقدي نفسه، ومحاولة لجعلها علمًا متخصصًا أي علم اجتماع وحسب (وقارن كتاب كارل مانهايم: الأيديولوجية واليوتوبيا، بون ١٩٢٩م. K. Mannheim; Ideologie und Utopie, Bonn, 1929.
  • (ي)
    على الرغم من أن كاتب هذه السطور يؤمن بأن «كل» الفلسفات تعبر عن روح عصرها بصورة من الصور، كما يحاول جهد طاقته أن ينتفع بما فيها من خير وحق وجمال، فإنه يرى أن تعريف هيجل السابق هو أقربها إلى الصواب. وإذا كان من المستحيل فصل الفلسفة — أي مجموع المعرفة الحرة المتَّسقة — عن حقائق التطور التاريخي والاجتماعي، فلا يمكن القول بأن «كل» الفلسفات المعاصرة قد عبَّرت عن هذا التطور بدرجة متساوية أو حاولت أن تقف في جانب الحقيقة وتُمكن الوعي من مواجهة أشكال الزيف واللاعقل واللاإنسانية؛ لأن مثل هذا القول سيكون نوعًا من التسامح وحسن النية المفرط! قد يمكن الاعتذار عن بعض الاتجاهات المعاصرة بأنها لا تعترف أصلًا بتعريف هيجل ولا تلزم نفسها بهذه المهمة النقدية الجدلية، وإنما تنصرف إلى مشكلات فلسفية متخصصة كالتحليل المنطقي واللغوي وقضايا فلسفة العلم ونظرية المعرفة … إلخ، ولكن هذه الاتجاهات وبحوثها التي لا شك في قيمتها وإمكان الاستفادة من بعضها في تقوية الوعي النقدي (بدلًا من الاندفاع وراء موجة الهجوم عليها السائدة في أغلب الكتب العربية، وبخاصة الهجوم على الوضعية المنطقية دون درس وتمحيص كافيَين، على الرغم من حاجة العقل العربي إلى تحليلاتها المنطقية الدقيقة التي يمكن أن تشفيه من أمراض الإنشائية الجوفاء وإطلاق أشباه العبارات التي لا تدل على شيء ولا فعل!) أقول إن هذه الاتجاهات التي لا شك في قيمتها لا تمنع من القول بأنها ليست معاصرة بالمعنى الذي نفهمه من الفلسفة ودورها وغايتها، خصوصًا في عالمنا العربي الذي يطغى فيه مظاهر اللاعقل على العقل. ولهذا يمكن القول إن الوضعية الجديدة تسير في طريق مسدود، وأن الفلسفات الانطولوجية قد انعزلت عن الواقع وخلق بعضها أسطورة «الوجود» التي لم يلبث الناس أن اكتشفوا سحرها الوهمي، وأن الفلسفات المثالية قد ثبت أنها خاوية كالتماثيل الضخمة التي تقف على أقدام من طين. وهذا الذي نقوله من وجهة نظر خاصة لا يعطينا ولا يعطي غيرنا الحق في التهجم عليها وإنكار إنجازاتها الحقيقة، لأنها في النهاية — حسب رأي هيجل نفسه! — تمثل لحظات تطور لا يمكن أن تموت أو تطرح ببساطة، وإنما تستوعب في فلسفات تالية أشمل منها وأقدر على التعبير عن الواقع وفهم تركيبه ونقده ومقاومته. وقد كانت النظرية النقدية الاجتماعية — كما عبرت عنها مدرسة فرانكفورت وأصحابها مثل آدورنو وهوركهيمر وهابرماس وغيرهم — آخر محاولة نعرفها لصياغة مثل هذه الفلسفة. وبذلت هذه المدرسة جهودًا طيبة لاستيعاب فلسفات أخرى أو عناصر أخرى في داخلها — كالتحليلية الإنجليزية والتجريبية المنطقية والتحليل النفسي والظاهرياتية — بيد أن هذه المدرسة قد تفرق شملها بعد موت روادها، وإن كان هناك من يحاول متابعة طريقها بأفق أرحب وارتباط أعمق بالتراث، مثل فالترشولس في كتابه «الفلسفة في عالم متغير» بفولنجن، ١٩٧٤م الذي يعد موسوعة نقدية ضخمة لاتجاهات الفكر المعاصر في الفلسفة العلمية، وفلسفة التاريخ، والقيم، والإنثربولوجيا الفلسفية … إلخ، من وجهة نظر جدلية وإنسانية معتدلة. Walter Schulz; Philosophie in der veränderten Welt. Pfullingen, Neske, 1974.
  • (ك)

    كثيرًا ما نسمع من عامة المثقفين أو نقرأ لكبار المتخصصين في الفلسفة (مثل برتراند رسل) أن بعض الأفكار والاتجاهات الفلسفية ترتبط في أغلب الأحوال بمذاهب سياسية معينة، كارتباط الفلسفات «اللاعقلية» والمثالية بنظم الحكم المستبدة المطلقة، والفلسفات العقلانية والتجريبية بأشكال الحكم الديمقراطية والليبرالية. فإذا صحَّ هذا الحكم (وقد صحَّ بالفعل في حالات كثيرة بغير ذنب الأفكار الفلسفية نفسها!) فهل يؤثر هذا على سمعة الفلسفة وكرامتها؟ وهل نطالبها بالوقوف من المذاهب السياسية موقفًا نقديًّا أم محايدًا؟ إن المذاهب السياسية بطبيعتها معيارية وأيديولوجية. وهي من الناحية التاريخية قد نشأت في الغالب عن فلسفة اجتماعية وسياسية وإنسانية (أنثروبولوجية) شوَّهها الطموح إلى السلطة والتطلع للأهداف العملية (لنذكر مثلًا صورة الحكم الشمولية التي استندت على فلسفة ماركس، وصورة الحكم الفاشية التي زعمت — نتيجة سوء فهم لا يغتفر — أنها تستوحي فلسفة نيتشه). وقد حدث في كثير من الأحيان أن نسي معتنقو المذهب السياسي أصوله الفلسفية الخالصة! فقد اهتم البعض بالجانب العقلاني من فلسفة هيجل، واتجه البعض الآخر إلى جانبه اللاعقلاني. واتُّهمت فلسفته السياسية والاجتماعية تارة بأنها مهدت للحركة الفاشية العنصرية، ووصفت تارة أخرى بأنها كانت وراء كل الثورات التحررية التي جاءت بعد الثورة الفرنسية الكبرى (بل لا يخلو الأمر من وصف فلسفة هيجل بوجه خاص والمثالية الألمانية بوجه عام بأنها «الثورة الفرنسية عند الألمان»، وأن هيجل نفسه هو نابليون على صهوة جواد العقل المطلق!) فالفريق «اليميني» الأول يتهم نزعته الصوفية العقلية بأنها أصل البلاء فيما زعمته الفاشية والنازية عن تجسد العقل في جنس أو عنصر معين، ومحاولتها تغليف هذا الزعم بغلاف بيولوجي وتطوري، كما يأخذون على تصوره للدولة (بوصفها واقع الفكرة الأخلاقية وتجسيد العقل المطلق والسلطة الأخلاقية العُليا) أنها لا تخضع لأي التزام، بل تذهب إلى حدِّ تبرير البطش والكذب والخداع لخدمة مصالحها الجمعية، وربما برَّرت الحرب نفسها تبريرًا أخلاقيًّا، بالإضافة إلى قهر إرادة الفرد ودفن ذاتيته في ذلك الشبح الموضوعي الرهيب. وقد يصل بهم الأمر إلى تفسير نظرية هيجل المشهورة عن جدل السيد والعبد وأقواله عن الشخصية البطولية ودورها القدري في تأريخ العالم بأنها كانت السبب في مصيبة «الفوهرر» (القائد الملهم والزعيم المعصوم) التي ابتُلى بها عصرنا الحديث، خصوصًا في الدول العربية ودول العالم الثالث النامية. والذين يوجهون هذا الاتهام لهيجل لا ينسون، من ناحية أخرى، أن فلسفته تدور حول العقل الكامن في كل شيء (المعقول هو الواقعي، والواقعي هو المعقول!) ولا ينكرون أن إلحاحها على التطور المطلق للأفكار وضرورتها الباطنة يجعلها تستحق أن تكون فلسفة عقلانية. ومع ذلك فهم يقولون أن مقياس «العقلانية» هو ثبات الفكرة للامتحان المنهجي والنقدي من الناحية التجريبية أو المنطقية، وأن فلسفة هيجل عن العقل أو الروح المطلق تظل على هذا الأساس فلسفة متزمتة غير نقدية ولا عقلانية. والدليل على هذا أن هيجل لم يكن يتردد عن اتهام الوقائع نفسها إذا لم تستطع فكرته أن تثبت لها (راجع دفاع الدكتور إمام عبد الفتاح عن «ثورية المثالية الهيجلية» ورده على أمثال هذه التهم في مقالة بنفس العنوان في مجلة «الحكمة»، العدد الأول، أكتوبر ١٩٧٦م، شوال ١٣٩٦ﻫ، طرابلس، ص١٦١–١٧٩). وأهم ما يؤكده في هذا المقال أن مثالية هيجل ثورية وتقدمية، لأن المعيار الأول للعقل عندها هو فقدان الثقة في سلطة الواقع. وتجاوز الوجود المتناهي ورفضه، على حين أن الفلسفات الوضعية والتجريبية والمادية — على عكس الرأي الشائع — فلسفات محافظة، لأنها تنحصر في حدود ما هو معطًى وتستسلم للواقع القائم وتبقى عليه). وما قلناه عن هيجل يمكن أن ينطبق على فلسفة أفلاطون عن المُثل الخالدة والدولة (الجمهورية) ذات الطبقات الثابتة على نحوِ ما عرضها بطريقة سقراطية جدلية معقولية. فهي فلسفة يمكن أن توجه إليها تهمة التزمت والتسلط والشمولية (كارل بوير في كتابه المجتمع المفتوح وأعداؤه!) أما إذا جعلت مقياس «العقلانية» هو منهج الفيلسوف في تبرير أفكاره وإقناعنا بحججه، فلن نملك في هذه الحالة إلا التخلي عن هذه التهم، لأن معظم الفلسفات التي تدمغ بها ستكون فلسفات عقلية مقنعة!

    وإذا التفتنا إلى الجانب الآخر الذي يؤكد الصلة بين الفلسفات العقلانية والتجريبية وبين النظم الديمقراطية والنيابية وجدنا الأمر أصعب مما كان عليه مع الفلسفات اللاعقلانية. فقليلة هي الفلسفات التي تبتعد تمامًا عن التزمت والقطعية وادعاء الحقيقة لنفسها. وهي إذا وُجدت لا تخلو من التشبث بالفروض الأساسية التي تقوم عليها. ومع ذلك يمكنك أن تضع المذاهب التجريبية الإنجليزية وفلسفة التنوير (عند فولتير وليسنج بوجه خاص)، وفلسفة كانط الأخلاقية (وخصوصًا حديثه عن استقلال الإرادة الخيِّرة التي تشرع قانونها لنفسها) والفلسفة البرجماتية، يمكنك أن تضعها جميعًا بين الفلسفات العقلانية التي يتعذر عليك أن توجِّه إليها تهمة التزمت والتسلط، لأنها لا تخشى أن تتعرض للنقد والاختبار التجريبي والمنطقي بل تخرج منه سالمة! والمهم على كل حال أن يكون مقياس العقلانية هو ثبات الفلسفة من هذا النوع أو ذاك لامتحان العقل والتجربة، لا مجرد الاتساق والتبرير المنطقي الخالص للأفكار التي تقوم عليها. وقد يكون من الخير أن نترك صفة العقلانية المختلَف عليها لتحل محلها صفة «النقدية»، بحيث تصمد الفلسفة لنقد العقل والخبرة الواقعية والعملية صمود الأحزاب المتنافسة مثلًا لنقد الناخبين واختيارهم الحر في أي انتخابات تتم بطريقة ديمقراطية حقيقية بعيدة عن التزوير والتزييف.

    يبقى بعد هذا أن نقول إن الفلسفة لن تُضار في سمعتها أو كرامتها واستقلالها إذا تمحَّك فيها هذا المذهب السياسي أو ذاك، وتصوَّر أنه عثر فيها على الثوب الفلسفي الذي يناسب وجهة نظره الأيديولوجية أو يلائم طموحه إلى القوة والسلطة. فالحركات السياسية لم تصدر في معظم الأحيان عن التأمل الفلسفي الخالص بقدر ما كانت تستغله لأغراضها العملية. وكم من مذاهب سياسية جنت على الأفكار الفلسفية التي تذرعت بها لتسويغ بطشها واستبدادها، فأفرغت هذه الأفكار من مضمونها الحي وأحالتها إلى صيغ وشعارات خاوية. وكم اضطر الفلاسفة إلى مداراة النظم التي عاشوا في ظلها وتحاشى الاصطدام العلني بها وبقوا، على الرغم من ذلك، رواد الثورة والتجديد بفضل أفكارهم النقدية الحرة. فقد نشر فولتير أفكاره التنويرية في ظل نظام سياسي مطلق، كما عاش ليسنج وكانط في ظل حكومات ملكية مستبدة. وعلى الفلسفة أن تحرص، في كل الأحوال، على روحها النقدية والعقلية الحرة، وأن تقاوم البطش والتسلط في أي نظام يهدد حرية الفرد والجماعة واستقلالهما. ولا يعني هذا — كما ذكرنا مرارًا — أن يكون النقد كله هدمًا ونفيًا؛ إذ لا يمنع من تأكيد الجوانب الإيجابية وتدعيمها. فإذا سمعت الفلسفة من يهمس في أذنها بالوقوف موقف الحياد المطلق أو يُزيِّن لها التحصن في برجها الأكاديمي، فسيكون معنى هذا أن تترك الساحة لقوى الفساد التي تحاول المحافظة بأي ثمن على الأوضاع القائمة. ولا بدَّ عندئذٍ أن يدفعها الإحساس بمسئوليتها إلى امتشاق حسام النقد من جرابه: نقد النظام الفكري والنظام الاجتماعي على السواء. أن الفلسفة هي حارسة المدينة. وهي تحميها من ذئاب التسلط والإرهاب، ولصوص الحرية والقوت. وقد نقد سقراط مدينة أثينا وقضت ديمقراطيتها الزائفة بموته. حرسها بنقده، وأحبها في موته. ومن كرم الحارس أن يعيش ويموت في سبيل ما يحميه. ومن الأمانة أن يعمل الإنسان ولا ييئس؛ لأن هذا الشعور هو أسمى ما يمكن أن يبلغه الإنسان الحر الذي حدد نفسه بنفسه واختار نفسه بنفسه: أن يعمل في صمت وسكون، دون أن ينتظر إكليل الغار أو يفرح باضطهاد موهوم (كالبطل الزاهد الذي يذكره «شوانج تسو»: انتصر على الأعداء وحمى مدينته، ثم ركب القارب واختفى ولم يعد أبدًا، بينما كانت مدينته تنتظره بأقواس النصر وباقات الورد وصيحات التهليل) ولو لم يقل سقراط كلمته لخلا الجو ليصفر فيه السفسطائي الثرثار، ومن أمثال كاليكليس وثرازيماخوس دعاة أخلاق الطبيعة ومصلحة الأقوى. ولا يغيب عن القارئ أن هاتين الشخصيتين لا تعيشان في محاورات أفلاطون (كالجمهورية وجوجياس) وحدها (انظر عن البطل الذي يتم عمله ولا يجذب الأنظار إليه ما يرويه «تشوانج تسو» في حكاياته عن الحكيم الطاوي «فان-لي» من القرن الخامس قبل الميلاد، في كتاب الطريق والفضيلة (تاو-تي-كنج) للحكيم الصيني لاو-تسي الذي نقله للعربية كاتب السطور، مؤسسة سجل العرب، الألف كتاب (٦٤٣) ١٩٦٧م ص٢٤، وهو كتاب أتمنى أن تسمع به جيوش الجراد الانتهازية التي التهمت الخضرة في أرضنا العربية الطيبة).

  • (ل)

    حققت العلوم في المائة سنة الأخيرة خطوات مذهلة على طريق فهم الإنسان وبحث الطبيعة، ودفعت الفلاسفة في حالات كثيرة إلى تصحيح نظرياتهم وإعادة النظر في مناهجهم، كما أثارتهم نتائجها الجديدة (من الناحية الفلسفية على الأقل!) إلى طرح مشكلات وحلول جديدة. وليس من الممكن اليوم أن يتفلسف أحد بغير أن يضع في اعتباره الموقف الذي وصل إليه البحث في الطبيعة والإنسان. فهناك عدد لا يُستهان به من الفلاسفة الذين اتخذوا من نتائج العلوم وآفاقها الجديدة ومشكلاتها «مناسبة» لتناول الأسس التي تقوم عليها بالنقد والتمحيص. كذلك أدت هذه المشكلات إلى «فلسفات جزئية» — إن صح هذا التعبير — عن قضايا التقنية والتصوُّر الكوني الجديد الذي تمخَّضت عنه الفيزياء الحديثة ووضع الإنسان بين الكائنات الحية … إلخ. ومع ذلك يجب ألا يغيب عنا محاولتهم العقلية لتقديم حلول لهذه المشكلات لم تستمد من نتائج العلوم، ولم تعتمد عليها من الناحية المنطقية. والأصح أن يُقال إن العلوم لا تستغني عن المناقشات النقدية والفلسفية التي تدور حول القضايا المتصلة بأُسسها والفروض والميتافيزيقية التي تعتمد عليها دون أن تشعر. ومهما يكن الأمر فإن النتائج العلمية قد أثرت بغير شك على فهم الإنسان لنفسه وتصوره لعالمه. وانعكس هذا التعبير في الوعي على عدد من الفروض و«المشروعات» الفلسفية التي تؤكد وجود علاقة غير مباشرة (وغير منطقية كما ذكرنا) بينها وبين العلوم (كما نرى على سبيل المثال لا الحصر في فلسفات رسل ووايتهيد وكارناب ونيقولاي هارتمان وماكس شيلر وأرنولد جيلين وفون فايسيكر ووهلموت بلسنر وغيرهم وغيرهم).

    ولكن كيف تفسر الفلسفة قضايا العلوم المختلفة ومعارفها بحيث تضعها في سياق موحد؟ هل يمكنها اليوم أن تحقق طموحها القديم لأن تكون علمًا كليًّا (كما أراد لها أفلاطون ولينتز وهسرل؟) أم أنها تخلت عن هذا الطموح؟ تستطيع الفلسفة أن تناقش الفروض التي تقوم عليها العلوم المختلفة وتوازن بينها، وتضعها موضع الفحص والاختبار (ومشكلات المنهج متشابهة في كثير من العلوم). وهذا يحتاج إلى فلاسفة علم ذوي اطلاع كافٍ على العلوم التي يوازنون بينها، وقدرة كافية على النظر للإشكالات التي تثيرها واستشراف حلول لها بصورة تأملية وفرضية. ذلك أن مشكلات الأُسس والمسلمات والفروض التي تعتمد عليها هذه العلوم، والمناهج التي تسير عليها، لا يمكن معالجتها بهذه المناهج نفسها، وإلا وقعنا في الدور: فمشكلة تطبيق منهج معين لا يمكن مناقشتها عن طريق هذا المنهج نفسه؛ إذ يستحيل مثلًا أن نبرهن على خلو نسق منطقي ورياضي من التناقض بوسائل هذا النسق نفسه، كما يستحيل بغير نظرية فلسفية أن نميز بين مناهج المستويات اللغوية المختلفة في علم الدلالات والمعاني (السيمانطيقا)، كأن نطبق المنهج على موضوعات علمية ثم نطبقه على المناهج نفسها في مستوى أعلى. وهذا يؤكد ما سبق قوله من أن العلماء لا يمكنهم، في مسائل الأسس والمناهج، أن يستغنوا عن النقد الفلسفي.

    وتستطيع الفلسفة أيضًا أن تضع نتائج العلوم المختلفة في سياق كلي (أنثروبولوجي أو طبيعي أو اجتماعي أو أنطولوجي … إلخ) لتصل إلى تفسير نقدي للكون أو المجتمع أو الإنسان. وطبيعي أن تبقى هذه المحاولات كلها محاولات تأملية لا تقاس صحتها بمقياس التجربة (كما هو الحال في البحوث التجريبية المختلفة)، كما أنها ليست مجرد «تجميع» لنتائج العلوم المختلفة، بل هي تفسير شامل من وجهة نظر فلسفية تحكمها قيم وغايات فلسفية. وليس الفيلسوف بحاجة إلى التخصص الدقيق في العلوم الجزئية ومناهجها؛ لأن من الصعب الجمع بين النظر الشامل والتعمق الكامل عند التعرض لمشكلة بعينها. إنه إنسان متناهٍ محدود القدرة، ولا بدَّ أن يعرف حدوده، ويقتصد في وقته. وإذا كانت تفترض فيه النظرة المحيطة بنتائج العلوم، فليس في قدرته ولا يطلب منه التعمق فيها جميعًا (مما لا يتيسر إلا للقلة النادرة التي بدأت بالبحث العلمي قبل أن تبلغ قمته الفلسفية!) لقد تطورت العلوم وازداد فيها التخصص وأصبح من المستحيل أن تبعث بيننا عبقرية موسوعية مثل ليبنتز. لم يبقَ أمامنا خيار إزاء التطور المذهل: فإما أن نكون متخصصين نعرف الكثير عن القليل، أو نعرف القليل عن الكثير فنصبح متخصصين في «العام»، أي فلاسفة! وكلا الأمرين ضروري لتقدم الإنسان والمجتمع والعلوم.

  • (م)
    لا ينصرف النقد، كما قلنا، إلى نقد الفلاسفة بعضهم لبعض بصورة لن تتوقف (إلا إذا تمت السيطرة المطلقة على العالم لفلسفة سياسية أو نظام معين من الأفكار والمعتقدات — أيديولوجية — يفرض نفسه بالقهر والبطش لا بالإقناع والاختيار)، ولا يقتصر على نقد الأوضاع القائمة والقيم السائدة في الثقافة والاجتماع والسياسة والفن والأخلاق، ولا يقف أيضًا عند نقد وتحليل الأسس والفروض التي يقوم عليها العلم (إذ لو سلَّم فلاسفته بمسلَّمات ومصادرات هندسة إقليدس كلها ما نشأت الهندسات غير الإقليدية، ولو سلَّموا بقواعد منطق أرسطو تسليمًا أعمى ما أمكن قيام المنطق الرمزي ومنطق القيم المتعددة والاحتمالات) ولكنه ينصرف كذلك إلى الفلسفة نفسها ومنهجها وأهدافها ومصطلحاتها ومفاهيمها وتصوراتها. خذ مثلًا مفهوم «الواقع» الذي أعترف بأنني أسرفت في استخدامه على الصفحات السابقة إسراف عدد كبير من الباحثين والكُتاب العرب وكأنه مفتاح سحري يفتح كل الأبواب! ستجد عند التحليل أن له معاني متعددة تتجه وجهات مختلفة نجملها فيما يلي:
    • (١)

      قد يكون «الواقعي» هو ما يتَّسق مع الشروط المادية للتجربة كما قال كانط. عندئذٍ ينصرف معنى الاتساق إلى العلاقة القائمة بين العبارات (أو التصورات والأحكام) وما تشير إليه؛ لأن المادي في العبارة السابقة هو الشيء الخارجي الذي يثير الإحساس، ونعرفه عن طريق التجربة، كما هو من ناحية أخرى مجموع الشروط المادية (من جسد وأحداث فسيولوجية … إلخ) التي تمكن الأنا العارفة من تحقيق التجربة.

    • (٢)

      وقد يكون «الواقعي» هو كل ما يؤثر تأثيرًا سببيًّا. ولا بد في هذه الحالة أن تثبت العبارات والقضايا الدالة على علاقات سببيه على محكِّ التجربة حتى تؤدى الى معرفة بالواقع. فمبدأ السببية نفسه يُعبر عن قاعدة منهجية أكثر مما يُعبر عن معرفة، ولهذا لا يمكن أن تستقل العبارات الدالة على السببية عن التجربة الواقعية.

    • (٣)

      وقد يُفسر «الواقعي» بأنه ذلك الذي يؤثر تأثيرًا نفسيًّا أو اجتماعيًّا. بهذا المعنى تصبح الأفكار والقيم واقعية، وتكون معظم أحكام القيمة عبارات عن واقع مستقل عن التجربة؛ لأننا لا نجرب الأفكار والقيم وإنما نضعها معايير للسلوك أو ندركها بصورة غير تجريبية أو نخلقها خلقًا، وفي هذه الحالة تؤثر هذه القيم والأفكار أو «تفعل» عن طريق الرموز اللغوية التي تشير إليها والرموز المعنوية التي تُنسب إليها.

    • (٤)

      وقد لا يكون «الواقعي» مجرد فكرة أو رأي أو إمكانية أو مظهر، ويلاحظ أن هذا تفسير سلبي لا يسمح بأن نستخلص منه الصفات الإيجابية للواقع. وحتى الكلمات المستخدمة في مثل الفكرة والإمكانية … إلخ تتضمن نوعًا من التحديد الإيجابي للواقع.

    • (٥)

      وأخيرًا فإن بعض الفلاسفة — مثل مين دو بيران وماكس شيلر ودلتاي ولوسين — يُقرِّرون أن الواقعي هو كل ما يُمثِّل عقبة أو مقاومة لإرادة الإنسان وفعله ومسعاه. وهو مفهوم يقوم على الاعتراف بتناهي الإنسان وعدم مَيله للالتزام بحدوده، بحيث يمكن أن نقول — بغير حاجة للرجوع للتجربة — إن كل طموحه وجهده العملي والأخلاقي لا بد أن يصطدم بالمقاومة، وأن المعرفة عنده تبدأ من هذا التصادم مع الواقع لا من فعل التأمل الذاتي كم تصوَّر ديكارت، وأن الواقعي بهذا المعنى هو كل ما يُبدي هذه المقاومة.

      وهكذا ترى أن التحليل النقدي للمفاهيم والمصطلحات التي تستخدمها الفلسفة أو العلوم المختلفة مهمة عريقة اضطلع بها الفلاسفة دائمًا وزادتها دراسات التحليليين المعاصرين دقة وثراء.

    • (٦)

      لا يمكن أن تنفصل الفلسفة على الحقيقة، ولا عن الحرية اللازمة لتأملها والمخاطرة في سبيل البحث عنها. وإذا كنا نؤكد باستمرار أن الحقيقة المطلقة لا وجود لها في الفلسفة — وتاريخها نفسه يشهد بأنها مؤقتة ومتعددة الوجوه ومتناهية كالمفكرين الذين بحثوا عنها — فإن العلم الحديث أيضًا يؤكد أن النظريات العلمية أبعد ما تكون عن تمثيل حقائق مطلقة ثابتة. فحقائقها جزئية موقوتة ضرورية لنا، وهي بمثابة درجات نستند إليها من أجل التقدم في البحث، ولا تمثل غير الحالة الراهنة لمعارفنا.

      وكذلك يجب أن تتعدل مع نمو العلم، وتعديلها يكون أكثر بقدر ما تكون العلوم أقل تقدمًا في تطورها (عبد الرحمن بدوي، مدخل جديد إلى الفلسفة، الكويت، وكالة المطبوعات، ١٩٧٥م، ص٩٩).

      إن النظريات الفيزيائية تُقدم تفسيرًا للمعرفة المبنية على الملاحظة، وهي لا تستطيع أن تدَّعي أنها حقائق أزلية. فالمعرفة الفيزيائية الحديثة تخرج عن إطار المبادئ الكانطية التي أرادت بلوغ اليقين والضرورة المطلقة، وذلك بعد انهيار نسق إقليدس الهندسي ونيوتن الميكانيكي (بالنسبة للعالم المتناهي في الصغر — الذرة — والعالم المتناهي في الكِبر وعجزها عن تفسير كثير من ظواهره تفسيرًا مطلقًا).

      إن في استطاعتنا الآن أن نستغني عن اليقين. ولكن كان لا بد من السير في طريق طويل قبل أن نصل إلى موقف من المعرفة متحرر على هذا النحو. وكان من الضروري أن يهدم البحث عن اليقين نفسه في المذاهب الفلسفية الماضية قبل أن يتمكَّن من تصور مفهوم للمعرفة يُستغنى عن جميع ادعاءات الحقيقة المطلقة. وإذا كان علينا أن نتكلم عن اليقين في العلم الحديث، فهو كما وصفه «هينريش هيرتز» وهو يقدم إثباته التجريبي عن النظرية الموجبة للضوء في خطابه أمام الجمعية الألمانية للعلماء «يقين بقدر ما يتسنَّى للبشر الكلام عن اليقين». وليس هناك أبلغ من هذا الوصف في التعبير عن تواضع العلماء ومعرفتهم لحدود علمهم.

      والواقع أن صورة المنهج العلمي كما ترسمها الفلسفة العلمية الحديثة مختلفة كل الاختلاف عن المفاهيم التقليدية (العقلية والمثالية)؛ فقد اختفى المثل الأعلى لعالم يخضع مساره لقواعد دقيقة، أو لكون متحدد مقدمًا، يدور كما تدور الساعة المضبوطة. واختفى المثل الاعلى للعالم الذي يعرف الحقيقة المطلق. واتضح أن أحداث الطبيعة أشبه برمي الزهر منها بدوران النجوم في أفلاكها. في خاضعة للقوانين الاحتمالية، لا للعلية، أما العالم هو أشبه بالمقامر منه بالنبي. فهو لا يستطيع أن ينبئك إلا بأفضل ترجيحاته، ولكنه لا يعرف مقدمًا أبدًا إن كانت هذه الترجيحات ستتحقق، ولكنه مع ذلك مقامر أفضل من ذلك الذي يجلس أمام المائدة الخضراء؛ لأن مناهجه الإحصائية أفضل، والهدف الذي يسعى إليه أسمى بكثير؛ وهو التنبؤ برميات الزهر الكونية. فإذا ما سُئل عن أسباب اتباعه لمناهجه، وعن الأساس الذي يبني تنبؤاته عليه، لم يكن في وسعه أن يجيب بأن لديه معرفة بالمستقبل تتصف باليقين المطلق، بل أنه يستطيع فقط أن يقدم أفضل ترجيحاته. ولكن في وسعه أن يثبت أن هذه بالفعل هي أفضل الترجيحات، وأن القول بها أفضل ما يمكن عمله. وإذا كان المرء يعمل أفضل ما يمكن عمله، فهل يستطيع أحد أن يطلب منه المزيد؟ (عن هانز ريشنباخ، نشأة الفلسفة العلمية، ترجمة الدكتور فؤاد زكريا، القاهرة، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، صفحات (١٩٦٧م)، ٥٣-٥٤، ١٥٣، ٢١٨) إن الحقيقة ليست ملكًا لأحد، وإنما البشر جميعًا ملك الحقيقة (كما يقول ياسبرز) ولو استقرت هذه «الحقيقة» البسيطة في عقولهم ووجدانهم لتجنبوا كوارث رهيبة نجمت في تاريخهم القديم والحديث عن التسلط والتحكم والتزمت، وكلها مسوخ تولَّدت عن ادِّعاء الحقيقة المطلقة، والانغلاق في سجن الرأي الواحد الذي لا يأذن للرأي الآخر بالدخول إليه، والتحجر في معتقد فكري مجرد عن الوجود بدلًا من لقاء الموجود الدافئ الحي. ولا ننسَ أبدًا أن محاكم التفتيش المتربصة عن الدوام هي بنت التزمت والتسلط والتشبث بمعتقد يدَّعي لنفسه الحقيقة المطلقة، ويُغلق على نفسه باب الحوار، وهو جوهر كل حرية وأساس كل احترام لكرامة النسيان الذي لا يصح أبدًا — كما تقول عبارات كانط الخالدة — أن يعامل معاملة الوسيلة، بل يجب أن يبقى غاية في ذاته ولذاته.

    • (٧)

      الواقع أنها لا تصح كذلك بصورة مطلقة على المشتغلين بالفلسفة في بلادنا العربية. ويكفي أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر «ثلاثية» أستاذنا زكي نجيب محمود عن مشكلة ثقافتنا بين التقليد والتجديد والأصالة والمعاصرة (تجديد الفكر العربي، المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري، ثقافتنا في مواجهة العصر) بجانب العديد من مقالاته الرائعة. كما نذكر أيضًا دراسات الدكتور فؤاد زكريا وتحليله النقدي للثورة المصرية وما أُثير حوله من مناقشات، ونداءات المرحوم الدكتور زكريا إبراهيم إلى الشباب العربي، وبعض مقالات الدكتور حسن حنفي التي تتَّسم بقدر كبير من التحصيل وقدر أكبر من التشوش وارتفاع الصوت، وبعض كتابات عبد الله العروي، ومالك بن نبي، وصادق العظم، وأبي بكر السقاف، وأحمد صبحي، وعاطف العراقي ومحمد عزيز الحبابي، وبعض دراسات كاتب السطور في «مدرسة الحكمة» وغيرها من كتبه. وهناك أمثلة أخرى لبحوث ودراسات وكتابات في النقد الاجتماعي والسياسي والديني والأدبي والنفسي … إلخ لا تدخل في الفلسفة بمعناها الدقيق ولا يتَّسع المجال لذكرها. ولكنني أحاول أن أُشير إلى قضية عامة تكررت الإشارة إليها في صُلب الكتاب، وهي أن تترك الفلسفة أبراجها الجامعية من حين إلى حين، وتُعنى بالنظر في الواقع المحيط بها عنايتها بمشكلاتها العلمية المتخصصة. وإن اقتراب الفلسفة من الواقع «وتوظيفها» (على الرغم من ثقل الكلمة على السمع والنفس!) للنقد الحر ضرورة ملحة تنبع من طبيعتها وهدفها نفسه، كما تحتمها مشكلات التخلف التي نشقى بها جميعًا، ومرارة المِحن التي تعرضنا لها عندما تجاهل الاستبداد صوتها وفرض عليه الانطواء في كهوف الكتب وقاعات الدرس. وفي ظني أنه مما يخجل المشتغلين بالفلسفة أن يقول مؤرخو الأجيال القادمة أن الذين وقفوا من المحنة موقف النقد والمقاومة وتعرضوا لانتقامها وأذاها لم يكونوا من صفوفهم، بل كانوا في الغالب من الكتاب والشعراء والصحفيين والمثقفين والطلبة والعمال والمواطنين البسطاء. وربما يُعزِّي النفس على كل حال أن هؤلاء قد رفعوا أصواتهم باسم «فلسفة» كامنة وراء مواقفهم، مهما تكن هذه الفلسفة غامضة غير محدَّدة المعالم، أو سجينة معتقد سياسي أو ديني بعينه (انظر كذلك آراء الصفوة من أساتذة الفلسفة واستجابتهم للثورة المصرية في بداية عهدها في كتاب مشكلة الفلسفة للدكتور زكريا إبراهيم ص٢٢٧–٣٤٢).

    • (٨)

      لا تزال مهمة الفيلسوف هي تحليل مشكلات عصره ليصل إلى مفهوم عن الواقع يلائم هذا العصر بقدر الإمكان. ومن الطبيعي أن يناقش هذه المشكلات على ضوء التراث الفلسفي وأدواته، ولكن بغير أن يلتزم بصيغتها التقليدية. فهو مثقل بتصورات أساسية انتقلت إليه من هذا التراث مثل: الطبيعة والتاريخ، الروح والمادة، العقل والدوافع، الحرية والجبرية، الوعي واللاوعي … إلخ، وهو لا يستطيع أن يستبعدها تمامًا — كما يذهب بعض أصحاب الفلسفة العلمية — وإلا عجز عن مناقشة مشكلات معاصرة مثل العلاقة بين العلم والحياة، بين الفرد والمجتمع، بين العقلانية والتحديد الذاتي في الأخلاق والمسئولية والاختيار … إلخ، ومعنى هذا أنه لا يستطيع أن يستخدمها كما فعل أسلافه (الميتافيزيقيون!) ولا يستطيع كذلك أن يُلقي بها في البحر! فعليه أن يدرك ازدواجيتها وتغير معانيها باختلاف المجالات. إنه لا يسأل مثلًا عن ماهية الإنسان أو حقيقة النفس، وإنما يسأل عن العلاقة بين النفس والجسم كما تبحثها الإنثربولوجيا الفلسفية وعلوم الحياة والسلوك والاجتماع والنفس والطب والعقل … إلخ، وعلى ضوء نتائجها (انظر في العربية مثلًا كتابَي الدكتور محمود فهمي زيدان، في النفس والجسد، بحث في الفلسفة المعاصرة، الإسكندرية، دار الجامعات المصرية (١٩٧٧م)، والدكتور حبيب الشاروني، فكرة الجسم في الفلسفة الوجودية، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، ١٩٧٤م). وإذا نظر في مشكلة التاريخ لا يكتفي بالسؤال عن ماهية التاريخ وهدفه ومعناه كما يفعل أجداده الذين كانوا يقفون على أرض ميتافيزيقية صلبة، وإنما ينظر في تطور فلسفة التاريخ حتى يصل إلى مشكلة التاريخية كما تبدو اليوم بين أنصارها (كالوجوديين) وأعدائها (كأصحاب فلسفة العلم والوضعيين الجدد والبنيويين). وإذا بحث في مشكلة المعرفة تتبَّع تطورها من اليونان حتى ديكارت وهيوم وكانط وسائر المحدثين والمعاصرين ليبين طبيعة المعرفة التي تتشابك فيها الذات والموضوع بحيث ينشأ نوع جديد من الأسلوب العلمي والتقني (كالسيبرنيطيقا) الذي يكمن وراء إمكانية التخطيط، وإذا تناول مشكلة الميتافيزيقا نفسها بين من وجهة نظر الحاضر والمستقبل أنها أصبحت تنتمي للماضي، وأنها منذ أفلاطون وأرسطو وأوغسطين حتى اكتمالها وتمامها في المثالية الألمانية ثم في فلسفة الوجود المعاصرة كانت «ميتافيزيقا الذاتية» التي أعطت الصدارة للباطن والذات على حساب الموضوع وأصبح حتمًا أن تقهرها النظرة الجدلية والنقدية للواقع. بهذا تأخذ المشكلات التقليدية والأسئلة «الماهوية» الكبرى صورًا جديدة تتحدد بمجالات بحثها النوعية والعينية، بل تفقد أحيانًا كل صلتها بالماضي، وإن ظل هذا الماضي ستارًا أو خلفية لا غنى عنها لكل من ينطلق تحليله من الحاضر ويتجه للمستقبل ويحاول أن يكون رؤية متسقة عن الواقع والإنسان الذي يحيا هنا والآن.

      ليس معنى هذه من ناحية أخرى أن المشكلات الفلسفية التقليدية قد سلمت نهائيًّا للعلوم الجزئية المتخصصة. فلا يجب أن ننسى أن إثارة هذه المشكلات نفسها — كمشكلة العلاقة بين النفس والجسم — قد جاءت عن طريق النظر الفلسفي، وأن تحليل مفاهيم غامضة متعددة المعاني مثل «جسمي» ومادي، وعقلي ونفسي، وكلمات ذات تاريخ طويل مثل الحياة والموت والحركة والسكون والوجود والعدم والمكان والزمان … إلخ، يبقى بغير شك تحليلًا فلسفيًّا لا تستغنى عنه العلوم التجريبية. وقس على هذا سائر المشكلات التي يتصور البعض أن العلوم قد اهتدت فيها إلى حلول نهائية أو على الأقل إلى الطريق لهذه الحلول. والشيء الذي نود أن نؤكده من وراء هذا كله هو أن الفلسفة لم يعد في إمكانها أن تتجاهل النتائج التي تتوصل إليها علوم العصر، وأن هذه النتائج لا يمكنها في الوقت نفسه — مهما يكن من اليقين والثبات — أن تربح الفلسفة أو تمنعها من معاودة السؤال.

      أضف إلى هذا أن تحليل الفلسفة لثقافة عصرها وقيمه المختلفة — بما في ذلك تحليل مفاهيم العلوم ونقد أُسسها ومناهجها وفروضها — لا يزال إمكانية مشروعة أمام الفلسفة، ولا يزال مهمة لا تستطيع العلوم المختلفة ومناهجها مجتمعة أن تنهض بها. كل هذا يجعلنا نأخذ تعريف هيجل لها مأخذ الجد، مهما يبدو من طموحه وصعوبة تحقيقه (راجع الكتابَين السابقي الذكر: لفالتر شولس، الفلسفة في العالم المتغير، وخصوصًا المقدمة والخاتمة؛ وهانز لنك، ما الهدف من الفلسفة؟)

    • (٩)

      من الضروري أن تحدد ما نقصده بالجدل (أو الديالكتيك) في هذا السياق. فالجدل من المفاهيم الأساسية في التراث الفلسفي، وقد خضع هو نفسه — منذ حكماء الصين وفلاسفة اليونان حتى عصرنا الحاضر — للتحول والتطور شأنه شأن غيره من مفاهيم هذا التراث. وقد تتبعت تطوره وأشكاله في كتاب مستقل أرجو أن أفرغ منه قريبًا. ويمكن القول باختصار إنه مرَّ بثلاث مراحل أساسية: فبعد أن كان أسلوبًا في الحوار والمناقشة، ثم جدلًا للفكر الذي يتخطَّى حدود ما يمكن معرفته إلى ما لا سبيل لمعرفته عن طريق الفهم ومقولاته وبذلك يوقع الإنسان في النقائض والمتناقضات، أي في شبكة الجدل نفسه (كما عند كانط) أصبح عند هيجل هو جدل الوجود ومبدأه وقانون حركته، وأصبح التفلسف عنده مرادفًا للتفكير الجدلي نفسه الذي يعده التفكير الوحيد الممكن والصحيح. ولكن فلسفة هيجل في التأمل المطلق والمصالحة بين الفكر والواقع تمثل اكتمال الميتافيزيقا الغربية نفسها كما تَصوَّرها الإغريق وبخاصة أفلاطون. ونحن — كما قلنا مرارًا على هذه الصفحات — لا نعيش اليوم في عصر الميتافيزيقا؛ أي في عصر التصور النهائي التام لبناء عالم راسخ؛ إذ لم يعد لمثل هذا العالم الراسخ أو لهذا البناء (أو النسق) وجود. ولهذا تُحتِّم الضرورة التاريخية ألا ننظر للجدل نفسه وكأنه مبدأ أو تحديد ماهوي ثابت في ذاته، سواء كانت هذه النظرة مثالية أو مادية، بل أن نجعله جدلًا مفتوحًا حيًّا، تثبت صحته عن طريق استخدامه وحسب. ولما كان من المستحيل اليوم أن نتحدث عن واقع كلي مُوحَّد؛ لأن الواقع قد تمزَّق إلى مناطق ومجالات متعددة، فإن استخدامنا للجدل سيختلف باختلاف مجال الواقع العيني المحدَّد الذي نطبقه فيه. وهذا الواقع — كما قدَّمنا — ليس واقع الموضوع المُعطى من قبل ولا واقع الذات التي تضعه وتشكله حسب أفكارها وتصوراتها الأولية المسبقة. وإنما هو سياق الأحداث الذي يتشابك فيه كلاهما ويتأثر كل منهما بالآخر ويؤثر عليه في حوار لا ينقطع. بهذا يمكننا أن نطبقه على مجالات البحث المختلفة سواء في فلسفة العلم (كما فعل باشلار مثلًا!) أو التاريخ والأخلاق … إلخ تطبيقًا مفتوحًا يقتضيه اسمه نفسه، وبهذا أيضًا نضمن أن ينبع تحليلنا الفكري الحر (أي فلسفتنا!) من النظر في مشكلات عصرنا المختلفة، بحيث نضع أنفسنا في واقعنا المتحرك ونتحمل مع الناس الذين نحيل معهم مسئولية تحديده من خلال العقل، ونلتزم ﺑ «المعية» الإنسانية المشتركة في توجيهه نحو أكبر قدر ممكن من الخير لأكبر عدد ممكن من الناس. فنحن جميعًا مسئولون عن سياق هذا الواقع الجدلي الذي تُحدده علاقات الناس ومسئوليتهم أمامه وعنه. وبهذا نضمن أخيرًا أن نزداد وعيًا بلحظتنا التاريخية الحاضرة ودورنا فيها، ولا تذهلنا الغيبوبة والخدر على فراش القيم المطلقة أو الآمال المستحيلة عن مِحنه ومفاجآته وصدماته التي أفزعت سنواتنا وأوشكت أن تهوي بنا إلى الانقراض، ولا نتجمد في بحوثنا عند عصر فات أو مفكر من مفكري الحاضر أو الماضي مهما جل شأنه، ناسين أننا لا نعيش في عصر ابن رشد أو الغزالي أو ابن تيمية أو الأكويني أو ديكارت أو كانط أو هيجل أو نيتشه، أو حتى هيدجر وماركوزه! وأن تحمسنا وإخلاصنا المشكور لهؤلاء المفكرين العظام أو لغيرهم من المفكرين لا يجب أن يشغلنا عن واقعنا الحاضر، بل يجب أن ينعكس عليه فيزيدنا وعيًا بتناقضاته ومشكلاته، وقدرة على انتشاله من حضيض التخلف والجمود واللاعقل. ولنذكر أخيرًا أنهم كانوا يفكرون لعصرهم وواقعهم وحاضرهم، وأنهم لن ينهضوا من قبورهم ليفكروا لنا!

    • (١٠)

      سألني يومًا أحد المستشرقين: هل عندكم مذاهب فلسفية؟ قلت بصراحة أخافتني: لن تجد مذهبًا مغلقًا ولا مفتوحًا! ربما عثرت على اجتهادات طيبة لدى رواد النهضة الحديثة وعند معظم المشتغلين بالتفكير والتعليم الفلسفي في بلادنا العربية، ولكنها لا تزال تقف على أرض تهتز بين تمثل تراثنا وعرض التراث المعاصر. قال: ولماذا تخشى الاهتزاز؟ أليست هذه هي حال كل الشعوب والحضارات؟ قلت ضاحكًا: صدقت. ولكنها عندما تصيب بالدوار وتهدد بالزلازل! سأل وهو يقطب وجهه: فأين أجد بذور الفلسفة العربية؟ قلت: ربمَّا تلمس بذورها الكامنة في ضمير الشعب: في عاداته وتقاليده، وأمثاله وحكاياته، ومواويله وبكائياته، وربما تلمح خطوطها البعيدة أو خيوطها الرقيقة عند الشعراء والكُتاب. ولكنها ستحتاج إلى النسَّاج الذي ننتظره. قد يأتي أو لا يأتي. هذا شيء لا نعلمه. ولكن الذي يجب أن نعمل من أجله هو تهيئة النول الصالح وإعداد خيوط الغزل من القطن والصوف والحرير!

مر على هذا الحوار العابر زمن طويل. ولم يزل السؤال الحائر عن «الفلسفة العربية» يعذب الضمير، خصوصًا بعد سنوات من المحن القاسية والتجارب الفاشلة، هي حصادنا المُر الذي جنيناه من أرض غابت عنها الحرية والمعرفة الحقة وافتقدت النظرية أو النظريات المتكاملة القادرة على توجيه الفعل وهداية التطوير والتغيير. لم تتوقف الاجتهادات والجهود الطيبة بطبيعة الحال — وإن حاصرتها أشواك الثرثرة والادعاء والانسياق الأعمى وراء البِدع «والأزمات» — ولم يتوقف كذلك عذاب الضمير ولست أملك ولا أظن أن غيري يملك مفتاحًا سحريًّا يُريحنا من هذا العذاب. ولكنني مؤمن بأن الصدق مع النفس والواقع — بمعناه التاريخي الشامل — والمضي على طريق التمثُّل الواعي لتراثنا وتراث غيرنا، والإخلاص في عرضه بأمانة علمية لا تنفصل عن أمانة نقده والحوار معه بحرية واستقلال، مؤمن بأن هذا هو الطريق المأمون نحو فكر عربي حرٍّ وأصيل. ولا شك عندي في أن كل خطوة نقطعها على هذا الطريق أولى من الدوران حول تعذيب النفس، وأن كل فعل نحققه عليه خير من التجمد عند سؤال عقيم. ويخيل إليَّ في هذا السياق أن تحليل الوجدان الشعبي والأدبي تحليلًا فلسفيًّا (مع الاستعانة ببحوث علماء النفس والاجتماع والتاريخ والاقتصاد والمأثور الشعبي وعلم الانسان … إلخ) قد يكون خطوة ملموسة على هذا الطريق ولو اتجهنا إلى كتابات الأعلام من أدبائنا لوجدنا مادة خصبة لمِثل هذا التحليل. وأن في كل أدب عظيم فلسفة، وفي كل فلسفة عظيمة أدب. وليس من الصعب أن تعثر في المكتبة الغربية والعربية على أعمال تبرز «المعادل الفلسفي» لإنتاج كبار الأدباء، وأن تجد الصورة النثرية والشعرية التي تعكس بطريقتها أفكار الفلاسفة (هيوميروس وآراؤه «الفلسفية» قبيل الفلسفة، يوربييدز والنقد السفسطائي والسقراطي، المعري والشكاك، المتنبي وأبو تمام والمنطق الأرسطي، دانتي وتوماس الأكويني، فولتير وفلسفة التنوير، جوته واسبينوزا، شيلر والمثالية الكانطية، ديستوفيسكي والروحانية الصوفية الروسية، إقبال وفلسفة الحياة عند نيتشه وبرجسون، هلدرلن وفلسفة هيدجر، توفيق الحكيم والثنائية الأفلاطونية والديكارتية بين الجسد والروح والمادة والفكر والواقع والحقيقة … إلخ). وليس معنى هذا أن نلتمس الفيلسوف في الأديب، أو نفتش عند الأخير عن أبنية نظرية تفتقر إلى الخلق والتشكيل الفني. فلا يمكن أن تكون أفكار الأديب بديلًا عن إبداعه الفني، ولا يجب أن يكون فنه — أي صوره واستعاراته وشخصياته ومواقفه وصيغه اللغوية والإيقاعية — ترجمة حرفية لأفكاره. إن الأدب جزء من ثقافة عصره. وتحليله «وبلورته» في صورة فلسفية يمكن في كثير من الأحيان أن يساعدنا على استخلاص وعي العصر أكثر من المذاهب الفلسفية نفسها.

ولأقدم مثلًا واحدًا من إنتاج أديب عربي يتفق الجميع على احترامه وحبه. هذا الأديب هو نجيب محفوظ. لن تخفى عليك الخطوط الفلسفية التي ترسمها لوحاته الروائية المتنوعة الخِصبة، ولا القضايا والأفكار التي تعبر عنها مختلف شخصياته ولم يستمدها من ثقافته وقراءاته الفلسفية فحسب، بل من وعي أجيال وشرائح طبقية وتيارات متلاطمة في بحر الوجدان المصري. ستجد عنده مكونات هذا الوجدان المتناقض تناقض الأجيال والأحداث والأمواج الثقافية التي صبَّت فيه: الثورية والانتهازية، المعقول واللامعقول، المشاركة والعبث، العذاب والسخرية، القلق والاستهتار، الإيمان والشذوذ، الطغيان والعبودية، التحدي والانهيار الفاجع … إلخ، وربما استطاعت هذه النصوص المختارة أن تقدم طرفًا من مادة «المعادل الفلسفي» الذي ينتظر تحليلًا أوفى وبحوثًا أعمق. وربما استطاعت كذلك أن توحي بمحاولات أخرى في إنتاج أدبائنا وشعرائنا «الحقيقيين» الذين اتحد وجدانهم بوجدان شعوبهم، وعبَّروا عن آلامها وآمالها ووقع الأحداث عليها تعبيرًا نجا في معظم الأحيان من التزمُّت للقديم أو الانبهار بالجديد الذي طغى أو كاد على الجهود الفلسفية. وإليك هذه النصوص التي لا تُغني بطبيعة الحال عن دراسة الأعمال الفنية في مجموعها والنظر إليها في سياقها الفكري والاجتماعي والتاريخي المترابط:

  • «الحياة مأساة، والدنيا مسرح ممل، ومن عجب أن الرواية مفجعة ولكن الممثلين مهرجون» (أحمد عاكف في خان الخليلي).

  • «إذا كنا نموت كالسوائم وننتن فلماذا نفكر كالملائكة. هبني ملأت الدنيا مؤلفات ومخترعات فهل تحترمني ديدان القبر؟ الدنيا أكاذيب وأباطيل. وما المجد الا رأس الأكاذيب والأباطيل» (خان الخليلي).

  • «عندما نتحسس موضعنا في البيت الكبير المسمى بالعالم فلن يصيبنا إلا الدوار» (ميرامار).

  • «يا أي شيء، أفعل شيئًا فقد طحننا اللاشيء» (ثرثرة فوق النيل).

  • «أشقى ما تُصاب به أن تكون ذا قلب حنون وعقل شاك» (السكرية).

  • «الحرية المطلقة طظ، المطلقة … ليكن لي أسوة حسنة في إبليس، الرمز الكامل للكمال المطلق، هو التمرد الحق والكبرياء الحق والطموح الحق والثورة على جميع المبادئ» (محجوب في القاهرة الجديدة).

  • «لا قيمة لإنسان مهما علا شأنه. نحن في بلد الفقاقيع» (سعيد الدباغ في السمان والخريف).

  • «إذا أردت التفوق في مجتمعنا فعليك بالقحة والكذب والرياء، ولا تنسَ نصيبك من الغباء والجهل» (أحمد عاكف في خان الخليلي).

  • «نحن شعب من الشحاذين وحفنة من أصحاب الملايين، فليس يُتاح للشعب غير العمل الوضيع أو امتهان الشحاذة، والعمل الوضيع لا يُغني عن الشحاذة. ولست أدري كيف تطيب الحياة لقوم عقلاء وهم يعلمون أن غالبية قومهم جياع، جهلاء، مرضى، ألم يخطر لهم أن ينادوا بمبدأ المساواة بين الحيوانات والفلاحين مثلًا؟» (أحمد راشد المحامي في خان الخليلي).

  • «إن مصر تأكل بنيها بلا رحمة، ومع هذا يقال عنا أننا شعب راضٍ، هذا لعمرى منتهى البؤس. أجل غاية البؤس، أن تكون بائسًا راضيًا هو الموت نفسه … لست حاقدًا ولكني حزين، حزين على نفسي وعلى الملايين، لست فردًا ولكنني أمة مظلومة» (حسين في بداية ونهاية).

  • «كل قلم يكتب عن الاشتراكية، على حين تحلم أكثرية الكاتبين بالاقتناء والإثراء وليالي الأنس في المعمورة …» (خالد عزوز في ثرثرة فوق النيل).

  • «عجبت لحال وطني: ما بال الإنسان فيه قد تضاءل وتهافت حتى صار في تفاهة بعوضة، ما باله يمضى بلا حقوق ولا كرامة ولا حماية، ما باله ينهكه الجبن والنفاق» (الكرنك).

  • «إن قومي في حاجة دائمة إلى الثورة ليقاموا موجات الطغيان التي ترصد نهضتهم، في حاجة إلى ثورات دورية تكون بمثابة التطعيم ضد الأمراض الخبيثة، والحق أن الاستبداد هو مرضهم المتوطن» (كمال عبد الجواد في السكرية).

  • «… تلك السلسلة المشئومة من الطغاة التي تمتد إلى ما قبل التاريخ، كل ابن كلب غرته قوته يزعم لنا أنه الوصي المختار وأن الشعب قاصر» (السكرية).

(راجع كذلك بحث الدكتور رجاء عيد: «دراسة في أدب نجيب محفوظ، الإسكندرية مُنشأة المعارف، ١٩٧٤م» خصوصًا من ص٩٠ إلى ص١٠٨.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤