الفصل الأول

ما الفلسفة؟

١

ضحكت عليه الفتاة الثراقية وأغرقت في الضحك. فقد كان طاليس العجوز — أول من حاول وضع السؤال الفلسفي بصورته العقلية الملزمة إلى اليوم — يسير في طريقه لا يلتفت إلى أحد. لم يكن يسير كما يفعل سائر الناس ممن يعرفون هدفهم ويتأكدون من مواضع أقدامهم. فقد كان رافعًا رأسه إلى السماء، مشغولًا بتأمل صفحتها المرصعة بالنجوم. وما هو إلا أن وقع المسكين في نبع أو حفرة من الماء لم ترَها عيناه. ولا بدَّ أن المشهد الطريف قد استهوى الشقراء الخبيثة فأطلقت ضحكتها العالية الصافية. ربما كانت تقف على جانب الطريق عندما رأت الشيخ المهيب يسقط في الماء، وربما كانت تعرف عنه ما يعرفه أهل مدينتها «ملطية» من ولعٍ بتأمُّل النجوم وحساب الكسوف والخسوف والتنبؤ بأحوال المِلاحة والبحار. وربما سمعت الناس يخاطبونه باسم الفيلسوف أو يتحدثون عن نجاحه وشهرته وأفضاله. ولكن هذا كله لم يشفع له ولم يمنعها من إطلاق ضحكتها التي لا زالت تتردد حتى اليوم. ذلك لأن الفيلسوف — كما يقول أفلاطون الذي يروي الحكاية١ — سيظل دائمًا أبدًا موضع الضحك، لا من الفتيات الثراقيات وحدهن، بل من أغلب الناس بوجه عام، لأنه — وهو الغريب عن العالم — يسقط في نبع الماء وفي ألوان أخرى من الحيرة والارتباك.

ماذا تعني هذه الضحكة التي بدأت بها قصة الفلسفة؟ أكان بمحض الصدفة أن تطلقها فتاة عادية ساذجة؟ هل نفهم منها أن الفلسفة تخالف الحياة الطبيعية، وأن فعل التفلسف يعارض كل فعل مألوف؟ هل توحي ضحكة الفتاة المجهولة بأن التفلسف شيء غير عملي لا جدوى منه ولا نفع فيه، ولهذا استحق منها ومن كل إنسان «يعرف ما يصنع» أن يكون موضع السخرية والاستهزاء، بل موضع الاستنكار والمقاومة؟

لنؤجل الإجابة على هذه الأسئلة إلى حين. ولنمضِ مع أفلاطون في تصويره لهذا الموقف؛ موقف التعارض الأساسي بين الرجل العادي وبين الفيلسوف، بين السلوك العملي وبين التفلسف. إنه يجسِّمه لنا في صورة واحدة من الشباب الذين يلتفُّون حول سقراط ويتحمسون له تحمسًا جارفًا لا يعرف النقد ولا يقف عند حد. هذا الشاب هو «أبوللودور» الذي يظهر كشخصية جانبية في محاورتي فيدون والمأدبة (هل كان أفلاطون يرسم به صورته هو نفسه عندما كان في سن الشباب؟) ولو تذكرنا اللحظات الأخيرة من محاورة فيدون ومن حياة سقراط نفسه في السجن عندما رفع كأس السم إلى فمه، لتذكرنا أن أبوللودور كان هو الوحيد من بين الحاضرين الذي انفجر يشهق ويبكي بصوت عالٍ، وأن سقراط التفت لأحد تلاميذه قائلًا عنه: «إنك تعرف هذا الإنسان وتعلم طبعه.»٢ لو رجعنا كذلك إلى محاورة المأدبة٣ لسمعنا أبوللودور يروي عن نفسه فيقول إنه ظل ثلاث سنين يبذل كل يوم أقصى ما في وسعه ليعرف ما يقول سقراط وما يفعل. كان قبل لقائه به يهيم هنا وهناك كيفما اتفق، وكان يتوهم أنه يصنع شيئًا بينما كان في الحقيقة وحيدًا منسيًّا، أتعس من أتعس إنسان. غير أن اللقاء بدَّله وحوَّله، فأسلم نفسه لسقراط وأعطى زمامه للفلسفة. الناس في المدينة يدعونه «أبوللودور المجنون». وهو يثور غاضبًا على نفسه وعلى كل إنسان، لكن لا يملك أن يفعل ذلك مع سقراط. يمضي في كل مكان يحكي في طيبة قلبٍ عن إحساسه الطاغي بالفرح كلما أمكنه أن يتكلم عن الفلسفة أو يستمع إلى أحد يتكلم عنها! لكنه لا يلبث أن يرتد إلى الحزن واليأس كلما وجد أنه لم يتوصل بعد إلى التشبُّه بسقراط. ثم يجيء يوم يلتقي فيه ببعض أصحابه القدامى الذين طالما وصفوه بالطيش والجنون. إنهم — كما يؤكد أفلاطون — جماعة من رجال المال والأعمال، أولئك الذين يعرفون تمام المعرفة ما يصنعون، ويتفقون على قدرتهم على «تحقيق شيء في هذا العالم». يطلب الأصحاب من أبوللودور أن يروي لهم شيئًا مما جر من أحاديث الحب في مأدبة أقيمت في بيت الشاعر «آجاثون». ولا يخفى أن هؤلاء الرجال العمليين الناجحين لم يطلبوا منه هذا الطلب لشعورهم بالحاجة إلى معرفة معنى العالم أو سر الوجود، ولا كان رأيهم في أبوللودور ليسمح لهم بأن يتعلموا ذلك منه. إنما دفعهم إلى ذلك ولعهم بالطريف والعجيب، وشوقهم للتفرُّج على لعبة الحوار التي جرت في تلك المأدبة وما تمَّ فيها من تراشق بالعبارات الفصيحة والطُّرف المثيرة. وأبوللودور يعرف محاوريه ولا يخدع نفسه بأشواق فلسفية غريبة عليهم. أنه يبادرهم برأيه فيهم، ويواجههم بإشفاقه عليهم ورثائه لهم: «لأنكم تحسبون أنكم تصنعون شيئًا حيث لا تصنعون أي شيء على الإطلاق. ربما ظننتم أن حالي سيء، وأعتقد أنكم على حق فيما تظنون، غير أنني لا أقف عند حد الاعتقاد بسوء حالكم، بل أعلم ذلك علم اليقين.» ويستجيب أبوللودور لرغبتهم أو بالأحرى لتطلعهم لسماع أحاديث الحب، لم يمنعه من ذلك رأيهم فيه ولو يدفعه إلى الصمت والسكوت أهم بعيدون عن كل شوق حقيقي إلى الفلسفة: «ما دمتم تريدون، فلا بدَّ لي أن أفعل.» وهكذا يروي أفلاطون محاورة المأدبة في صورة تقرير من فم أبوللودور! ونسأل أنفسنا اليوم: لماذا اختار أفلاطون أن يروي أعمق أفكاره عن الحب الفلسفي «الأيروس» على لسان هذا الشاب المتحمس المندفع، هذا التلميذ الصغير المفتقر إلى الرويَّة والتدبر؟ ولماذا جعله يروي ما رواه لجماعة من رجال المال والأعمال الذين لا يقدرون على استيعاب هذه الأفكار ولا يأخذونها مأخذ الجد، بل لا يريدون ذلك ولا يفكرون فيه؟ ألا يدل هذا على أن أفلاطون قد تعمَّد رسم هذا الموقف العجيب الذي يدفع إلى اليأس والقنوط لكي يؤكد أن السعي المخلص إلى الحكمة هو وحده القادر على مواجهته، وأن الفلسفة الحقة هي القادرة على الصمود له؟ مهما يكن من شيء فإن أفلاطون قد أوضح بهذا المثل الفريد مدى التعارض بين عالم الفلسفة وعالم كل يوم، كما بين أن فِعل التفلسف يختلف في صميمه عن كلِّ فعل عملي آخر؛ لأنه فعل نظري حُر يحمل هدفه في ذاته، ويرتفع بصاحبه — وهو إنسان مثل غيره من الناس — فوق حياته وحياتهم في نفس الوقت الذي يكون فيه بينهم، يتعذب كما يتعذبون ويقاسي ما يقاسونه.

٢

يكاد الناس ألا يتفقوا على شيء اتفاقهم على الشك في الفلسفة وقيمتها وجدواها! فالفيلسوف عندهم رجل سفسطائي ثرثار، أو ملازم لبرجه العاجي بعيدًا عن الواقع العملي الملموس. وإذا أحسنوا به الظن فلهو متخصص في المجرد والعام، أو بالأحرى مصاب بالتجريد والتعميم، باحث عن الكل والوحدة والمعنى حيث لا ظلَّ لها ولا أثر، متجه ببصره وبصيرته إلى «ما فوق» و«ما وراء» وما في الباطن والأعمال حيث لا توجد إلا المدركات الظاهرة والأشياء الكثيرة والموجودات الحسية المتعددة. ولا يقتصر الشك في الفلسفة على عامة الناس الذين يتهمونها بالتحليق في السُّحب (كما اتهم أرسطوفان قديمًا سقراط ووضعه في «سلة» معلقة بين الأرض والسماء!) ويصوِّرون الفلاسفة في صورة من يزرعون بذور القلق والسخط ويُسببون الإزعاج في حياتهم وبعد موتهم أيضًا، ويلتمسون «الغابة» حيث لا توجد إلا الأشجار! بل أن هذا الشك والسخط ليمتد بصورة أشمل وأسوأ إلى الفلاسفة أنفسهم؛ فهم لم يتَّفقوا منذ بداية الفلسفة على مفهومها وماهيتها، ولا على مضمونها ومنهجها، حتى ليزداد الاضطراب والاختلاف بينهم — كما سنرى بعدُ — كلما أوغل بحثهم في الماهية والمضمون. وليس كذلك الأمر مع رجل الشارع الذي «يعرف» ما يريد، ويعلم ﺑ «فطرته السليمة» كيف يبلغه ويحققه، ويطمئن إلى العالم المحيط به اطمئنانه إلى خطاه السائرة على أرض ثابتة نحو أهداف وغايات ثابتة. وليس الأمر كذلك أيضًا مع «العلماء» على اختلاف مجال بحثهم في الطبيعة أو الكيمياء، أو الطب والنبات، أو الجغرافيا والتاريخ … إلخ. فهؤلاء يعرفون حدود عملهم وطبيعته وأهدافه، والمجتمع أيضًا يعرف وظيفتهم ولا يختلف حول قيمتها وفائدتها. لو سُئل أحدهم عن طبيعة علمه وخصائصه ومنهجه وغايته لأجاب في عبارة بسيطة محددة. ولو سُئل الفيلسوف لاحتاج لسرد ملحمة تاريخية عن اختلاف مفهوم الفلسفة باختلاف العقول والمذاهب والعصور، وربما اكتشف هروب السائل قبل أن يروي فصلًا واحدًا من فصول ملحمته! ولو حاول أن يجد الإجابة التي تُغري سائله بالصبر والانتظار لما وجد الإجابة النهائية المحددة. وحتى لو قدَّم له إجابة عقل بعينه أو مدرسة بذاتها المنسية أو من حشود المتخصِّصين المحيطين به في أركان المعاهد والجامعات وأروقة المؤتمرات والندوات.

ومع ذلك فلو سأل عالم الفيزياء هذا السؤال: ما هي الفيزياء أو ما معنى البحث الفيزيائي، لكان بذلك يسأل سؤالًا يسبق علم الفيزياء ويتجاوزه، ولكفَّ هو نفسه عن مزاولة البحث الفيزيائي ليصبح في عِداد الفلاسفة! أما لو سأل: ما هي الفلسفة وما هو التفلسف لكان بذلك يزاول الفلسفة، لوجد نفسه على الفور مبتلًّا بمائها، غارقًا في أمواج بحرها! ذلك أنه سؤال في صميم الفلسفة، بل إن تاريخها كله لا يعدو أن يكون محاولة مستمرة للإجابة عليه. ثم إن الإنسان هو الذي يضع السؤال وهو الذي يهتم بالإجابة عليه، لأنه يتعلق بصميم وجوده ومصيره. فليس في استطاعتي أن أقول شيئًا عن الفلسفة والتفلسف دون أن أتكلم في نفس الوقت عن الإنسان. ولهذا لم يخطئ كانط عندما صاغ الأسئلة الكبرى على هذه الصورة: ماذا أستطيع أن أعرف؟ ماذا ينبغي عليَّ أن أفعل؟ ما الذي يجوز لي أن آمل فيه؟ لكي يتوجها جميعًا بهذا السؤال: ما الإنسان؟ (أ).

ولما كان السؤال عن الفلسفة والتفلسف سؤالًا إنسانيًّا بالضرورة، فليس من الممكن أن تكون الإجابة عليه نهائية، لأن من ماهية هذا السؤال ألا يكون الجواب عليه «كالحقيقة الكاملة الاستدارة» — على نحوِ ما تقول عبارة بارمنيدز — ولا أن يكون ثمرة نقطفها ونضعها مطمئنين في أيدينا، ولهذا فلن نستطيع أن نعد القارئ أو نعد أنفسنا بتعريف محدد للفلسفة، ولا بجواب أخير يحيط بموضوعها إحاطة القشرة بالنواة. وكل ما سنحاوله هو أن نغوص معًا في فعل التفلسف نفسه ونجرب معه قدرتنا على الحرية ومعرفة النفس وبالتالي معرفة الآخرين والعالم المشترك بيننا.

٣

لنبدأ محاولة الاقتراب من التفلسف بأن نقول إنه فعل نتجاوز فيه عالم العمل٤ اليومي. ولا بدَّ بطبيعة الحال أن نحدد ما نقصده ﺑ «عالم العمل» ثم بالتجاوز (أو الارتفاع والعلو والتخطي).

عالم العمل هو العالم الذي نضطرب فيه كل يوم لنكسب قوت يومنا ونؤدي «واجبنا» و«وظيفتنا». هو عالم «الجهد» و«النفع» و«الإنجاز»، عالم إشباع الجوع وتلبية الحاجات: إن الهدف يتحكم فيه، وتحقيق المنفعة يسوده ويطغى عليه. هو عالم العمل، ما دام هذا العمل مرادفًا للنشاط النافع والفاعلية التي تحمل معنى الكدح والكد. وما دام ينطوي على تحقيق النفع العام (لنلاحظ مؤقتًا أننا نقول النفع العام ولا نقول الصالح العام؛ فالفلاسفة — منذ أرسطو وتوماس الأكويني حتى اليوم — يؤكدون أن مفهوم الصالح العام أشمل وأعم، وأن من الصالح العام أن يتفرغ البعض لمزاولة التفلسف، أي لحياة النظر والتأمل البعيدة عن المنفعة المباشرة) صحيح أن النفع العام يختلط اليوم بالصالح العام ويكاد أن يكون مرادفًا له. وصحيح أن عالم العمل يمتد ويتَّسع وتزداد مطالبه إلحاحًا حتى ليوشك أن يلتهم وجود الإنسان كله يصبح هو «العالم» على وجه الإطلاق (مَن منَّا لا يستغرق السعي إلى المأكل والمسكن والدفء كل وقته؟ مَن منَّا يجد من يومه ترف التفكير في معنى حياته أو معنى العالم الذي يعيش فيه ومصيره؟ من منا يمكنه أن يتردد عن المشاركة في بناء بلاده وتأكيد حرية الإنسان وكرامته وقداسة شخصيته وتقليل الشر والقهر والبؤس في مجتمعه؟ بل من منا يتردد عن العمل بقدر طاقته على جعل عالمنا البشري عالمًا ممكنًا ومحتملًا؟) فإذا افترضنا أن التفلسف فعل يتجاوز عالم العمل اليومي ويعلو فوقه وجدنا أنفسنا مع هذا السؤال «النظري» المجرد فجأة وسط سؤال معاصر وشديد الإلحاح. فعالم العمل اليومي الذي نلتزم به جميعًا يطبع حياة الملايين ويختم الوجود الإنساني بخاتمه. كيف يتفق هذا مع القول بأن فعل التفلسف يرتفع فوق عالم العمل؟ هل يعني أن عالم العمل اليومي لا مكان فيه للفلسفة الأصلية والتفلسف الأصيل؟ أم يعني أن فرصة التفلسف لن تُتاح إلا على حسابه وعن طريق التهرب من مسئولية المشاركة فيه والبعد عن أوجه نشاطه وحاجاته وضروراته؟

الواقع — مهما آلمنا أو فاجأنا هذا القول لأول وهلة — أن فعل التفلسف يتعارض تعارضًا مبدئيًّا مع عالم النفع العام والنشاط اليومي. وكلما ازدادت مطالبه وضروراته ازدادت حِدَّة هذا التعارض. بل يمكن القول بأن تهديد هذا العالم الذي يزداد خطره كل يوم هو الذي يهدد الفلسفة ويضيف إلى موقفها من التأزم والحرج أكثر بكثير مما يمكن أن تسببه لها الإشكالات الناجمة عن صميم ماهيتها ومضمونها وحاجتها المستمرة لمواجهة نفسها في مواجهة ظروف العصر وثقافته. ولهذا ليس عجيبًا أن يعدها الناس شيئًا غريبًا، وأن تغترب هي أيضًا عن نفسها فتصبح ترفًا عقليًّا أو جدلًا عقيمًا غير مسئول أو محاولة يائسة لتقليد العلوم الدقيقة تكشف في النهاية أنها تسير في طريق مسدود. وكلما تراكمت ضرورات الحياة اليومية وجثمت أعباء العمل على صدور الناس انطوت الفلسفة على نفسها في قاعات الدرس التي يموِّلها دافع الضرائب دون علمه أو على رغمه! وانزوى أصحابها في زوايا الكتمان أشبه برواد الجمعيات السرية أو جماعات الهواة!

مع ذلك يبقى هذا القول صحيحًا: إن فعل التفلسف يعلو فوق عالم كلَّ يومٍ ويتعارض معه من حيث المبدأ، وليس من قصدنا بطبيعة الحال أن نُقلِّل من شأن هذا العالم اليومي الذي نشقى به ويشقى بنا ويكون جزءًا جوهريًّا من عالم الإنسان، وتوضع فيه أُسس وجوده المادي الذي لا يمكنه أن يتفلسف! وليس القصد أيضًا أن نتعالى عليه وننظر إليه من برج تأملي مريح! فمن بين الأصوات التي تتزاحم حول ضرورات المعيشة اليومية (من أين أحصل على الزيت والسكر والأرز واللحم؟ كيف أجد القماش الشعبي وبأي سعر؟ أين وكيف أحصل على المسكن والمأوى … إلخ) قد يرتفع فجأة أحد الأصوات بدافع اليأس أو الملل أو التعجب أو الصحوة المفاجئة لمعنى الوجود؛ ليسأل هذا السؤال القديم، هذا السؤال الأكبر الذي قامت عليه «الميتافيزيقا» وانبعث نداؤه من أغوار الدهشة: لمَ كان وجود ولم يكن بالأولى عدم؟٥ ولسنا في حاجة للقول بإن هذا السؤال الفلسفي العريق يصطدم بعالم النفع والعمل والوسائل والغايات القريبة المحددة (لو انطلق به صوت ضجر في زحام الطوابير لاتهم صاحبه بالجنون أو نصحه الناس بالصبر!) ولكن ما إن يهتف أحد بالسؤال، ولو ناجى به نفسه! حتى يتضح الفرق بين العالمَين، وتتم الخطوة التي يرتفع بها السائل فوق عالمه اليومي، وينفذ من القبة السميكة التي تحيط به. وقد يكون السؤال من القوة والعمق بحيث لا ترتفع هذه الخطوة فوق عالم كل يوم فحسب، بل تعلو بصاحبها فوق كل شيء على الإطلاق، وتتجاوز به العالم وكل ما هو «عالمي» أو محتوى في مكان لكي يغوص به من جديد في أعماق هذا العالم وجذوره بعد أن يكون قد جرب بفعله الفلسفي تجربة العلو المطلق، والتحرر المطلق، تجربة الكل والمعنى الأخير.٦
وليس فعل التفلسف (ونلاحظ مؤقتًا أنه فعل ونشاط وحركة، بل هو أقصى فعل يمكن أن يحقق به الإنسان حريته ومعرفته بذاته وتجربته بالوجود في مجموعة!) ليس هو الوحيد الذي تتم به هذه الخطوة إلى ما فوق العالم كل يوم وما وراءه. ففي صوت الشاعر الأصيل، وابتهال العابد المتبتل، وهمسة المحب المتفاني، وصرخة الثائر النقي، ورجفة المحتضر أمام الموت، ورعشة المبدع بخفقات الخلق … إلخ، في كل هذه التجارب التي تهز كيان الإنسان وتدفعه إلى حدود الوجود وتملؤه دهشة من الكل؛ فيها شيء من فعل التفلسف الذي يرتفع فوق العالم اليومي ويعلو فوق مقولات النفع والتنظيم والاستخدام العقلي والعملي. سنستبعد بطبيعة الحال كل شِعر كاذب، وتمرد زائف، وتدين منافق، وحب غير نقي، وتفلسف غير أصيل، لأنها جميعًا لا تحقق العلو فوق عالم العمل اليومي ولا تتيح النظر الكلي إليه، وإنما تُسخِّر لخدمته ترسا في آلته، ووظيفة محددة ضمن نظامه وبرنامجه، وبذلك لا تمكن من مراجعته وتوجيهه وإدراك معناه، وإنما تضاعف من سجن الإنسان في محبسه، ولهذا كان السفسطائي الفيلسوف الكاذب أسوأ حالًا من رجل الشارع؛ لأن الأول لن يعرف الاندهاش الحقيقي، أما الثاني فقد تصيبه الدهشة فجأة من حكمة عابرة أو مثل سائر أو بيت شعر مأثور، أو لحظة صدق مع النفس أو وقفة تأمل وسط الزحام أو تجربة فشل ومعاناة … إلخ.٧

٤

هذا الجانب السلبي الذي يبرزه التعارض بين فعل التفلسف وبين العمل اليومي — وقد جسمه أفلاطون كما رأينا في موقف الفتاة الثراقية البريئة من طاليس وموقف أبوللودور المتحمس للفلسفة تجاه رجال المال والأعمال — ليس هو الوجه الوحيد للمسألة. إن الوجه الآخر لفعل التفلسف هو الحرية. فالفلسفة لا «تستخدم» بالمعنى المباشر من كلمة الاستخدام. وهي كذلك لا تسمح بأن تستخدم في سبيل هدف غريب عنها؛ لأنها هي نفسها هدف في ذاته. إنها معرفة «حرة» لا معرفة «نافعة». هذه الحرية تُفترض أن المعرفة الفلسفية لا يسوغها الاستخدام والتطبيق. ولا تستنفد «الوظيفة» الاجتماعية رسالتها (فلها بدون شك وظيفتها في المجتمع — كما سنوضح هذا بالتفصيل — بغير أن تفقد لهذا السبب حريتها أو تصبح تابعة للمجتمع أو فرعًا من فروع علم الاجتماع!) بهذا المعنى وضع القدماء الفلسفة بين الفنون الحرة — في مقابل الفنون العملية التي تسخر لتحقيق منفعة معينة — بل جعلوها أكثر هذه الفنون نصيبًا من الحرية.٨ ويستوي أن أقول إنَّ فعل التفلسف يتجاوز عالم كل يوم، أو أقول إن المعرفة الفلسفية لا تقبل أن تستخدم لهدف خارجي غريب عنها، أو أقول أخيرًا إنها فن حرٌّ. وليس معنى هذا أن العلوم الجزئية تخلو من الحرية، بل معناه أنها تكون حرة بقدر ما يزاولها العالم بطريقة فلسفية ويحرص على ألا يضيع طابعها الفلسفي والنظري الحر، أي عندما يلمس حدود علمه ويسأل عن معناه وغايته، وقيمته ومنهجه، وأسسه وشروطه، وعلاقته بالعلوم الأخرى وبوحدة المعرفة الشاملة. وأوضح مثل لهذا هو ما يحدث للعلوم الجزئية فيما يُسمى بأوقات «الأزمات» التي تراجع فيها مناهجها وتعيد النظر في مبادئها ومسلماتها.

لنضرب مثلًا واقعيًّا. ولنفترض أن المسئولين في دولة حديثة قالوا: نحن نحتاج لتنفيذ خطة السنوات الخمس إلى عدد معين من الأطباء وعلماء الفيزياء والكيمياء والزراعة … إلخ؛ لتحقيق التنمية في هذا المجال أو ذاك. ولنتصور أنهم قالوا أيضًا: نحن في حاجة الآن إلى عدد من الفلاسفة، ولكن ماذا سيقولون لتسويغ هذا الطلب؟ هناك مسوغ واحد: لكي يدعموا «أيديولوجية» معينة أو يدافعوا عنها. ولنتصور أيضًا أنهم قالوا: نحن في حاجة إلى عدد كذا من الشعراء، فإذا سئلوا لماذا؟ كان هناك جواب واحد يتردد في صيغ وعبارات مختلفة: لكي تكون الكلمة سلاحًا للنضال في سبيل مُثُل وأهداف وضعها المجتمع. غير أنهم بذلك يدمرون الفلسفة والشعر جميعًا، بحيث تكف الفلسفة عن أن تكون فلسفة، ويتوقف الشعر عن أن يكون شعرًا. وليس معنى هذا أنه لا توجد علاقة بين الفلسفة والشعر في بلد معين وبين تحقيق الصالح العام. ولكن معناه أن هذه العلاقة لا ينبغي أن تترك للقائمين على الصالح العام لتنظيمها وتدبيرها ووضع قواعدها. فكل ما يحمل معناه وهدفه في ذاته لا يمكن أن يكون وسيلة لتحقيق هدف آخر. وكما أننا نحب إنسانًا لذاته لا لكي نحقق هذا الهدف أو ذاك من وراء الحب، فنحن لا نستطيع أن نتفلسف أو نبدع الشعر لهدف خارجي عنهما، وإلا قضينا عليهما وسلبناهما حرية النظر والنقد والمقاومة.

هذه الحرية التي يقوم عليها التفلسف مرتبطة ارتباطًا حميمًا بالطابع «النظري» للفلسفة. فالفلسفة هي أنقى صور التأمل في الواقع. وحيثما ينظر الإنسان إلى أي شيء أو أي موجود نظرة فلسفية، فهو في الحقيقة يسأل عنه سؤالًا نظريًّا خالصًا من كل غرض نفعي أو عملي. وتحقيق هذا النظر الخالص مرتبط بدوره بوجود علاقة بين الإنسان والعالم، علاقة خالية من كل غرض، اللهم إلا الرغبة في معرفة ماهيته وواقعه، ولن تتيسَّر له هذه النظرة حتى يكون العالم أو الواقع أو الوجود أكثر من مجرد مجال أو مادة خام لنشاطه وفاعليته. ولن تكون هذه النظرة فلسفية بحق حتى تحيط بالوجود كله وتحاول أن تُجربه في مجموعه، وبذلك تحقق تلك العلاقة الأصيلة التي نبعت من حرية التفلسف وجعلت الفلسفة ممكنة.

كانت هذه العلاقة الأصيلة حية وحاضرة في فجر الفلسفة وعند مؤسسي التفلسف. وعندما بدأت تنهار خطوة فخطوة انهار معها الطابع النظري الحر للفلسفة وتدهورت الفلسفة نفسها. ولو تتبَّعنا الخط الذي يبدأ في العصور الحديثة من كلمة فرانسيس بيكون المعروفة: «العلم قوة»، أو من عبارته التي لم يفتأ يرددها في صور مختلفة: «إن معنى العلم كله هو تزويد الحياة البشرية بالاختراعات الحديثة.»٩ إلى ديكارت الذي يؤكد في «مقاله عن المنهج» أن غرضه هو وضع فلسفة «مقاله عن المنهج» أن غرضه هو وضع فلسفة «عملية» في مكان الفلسفة «النظرية» القديمة، بحيث نستطيع أن نجعل من أنفسنا «سادة مسيطرين على الطبيعة مالكين لها»،١٠ حتى عبارة ماركس المشهورة: «لقد اكتفى الفلاسفة حتى الآن بتفسير العالم تفسيرات مختلفة، ولكن المهم هو تغييره.»١١ لو تتبعنا هذا الطريق التاريخي المتصل حتى اليوم لكنا في نفس الوقت نتتبع طريق تدمير الفلسفة لذاتها وتخليها بالتدريج عن طابعها النظري الحر، ورؤيتها للعالم وكأنه مجال أو مادة خام للفعل البشري. ولا تحسب أننا نقلل من صدق العبارات السابقة وأهميتها، أو من أي جهد فكري يطمح لتغيير العالم المادي والاجتماعي والتقدم به نحو الأفضل. فلولا القدرة على النظر الخالص الحر ما استطاع هؤلاء الفلاسفة أنفسهم أن يصوغوا عباراتهم المذكورة. ولكننا نلاحظ فحسب بداية انهيار حرية التفلسف مع بداية العصر الحديث، وغلبة الطابع العملي عليها، والميل «لتوظيفها» لخدمة نظام اجتماعي معين. ولا يمكننا أن نرفض هذا كله رفضًا مطلقًا — فكم تمخَّضت عنه ثورات حقيقية — بشرط ألا يتم على حساب الحرية الأساسية للفلسفة، ولا ينال من ماهية التفلسف الذي وصفناه بأنه يتجاوز عالم العمل اليومي، لا لكي ينكره أو يزدريه أو يتعالى عليه، بل لكي ينعكس عليه من جديد ويتغلغل في أعماقه وهو أقدر على النظر الحر إليه ومراجعته وتحليله وتوجيهه وإضفاء الوحدة والمعنى عليه.

إن الفلسفة تقوم على الإيمان بأن ماهية الإنسان وثروته الحقيقية لا تكمن في إشباع الحاجات الضرورية، ولا في أن يصبح «سيد الطبيعة ومالكها» ومسخرها، بل في قدرته على رؤية الموجود، كل ما هو موجود. وليست الفلسفات الكبرى سوى مجموعة التجارب الكبرى عن الوجود في كليته. كما أن الفلسفة القديمة قد بيَّنت أن أقصى كمال يمكن أن تبلغه هو أن يرتسم في نفوسنا نظام الأشياء الموجودة في مجموعها، وهذا كله متضمن في تحديدنا لفعل التفلسف بأنه تجاوز لعالم كل يوم. ولكن تجاوزه إلى أين؟! إلى عالم «آخر» كُلي وراء هذا العالم الجزئي؟ أم إلى عالم حقيقي وراء عالم المظهر؟ هل نقف عند ذلك العالم أم يحتم علينا فعل التفلسف، أي فعل العلو الذي لا يقف عند حد! أن نتجاوزه بدوره إلى عالم آخر وراءه وهكذا إلى ما لا نهاية؟ ألا يمكن أن ينتهي بنا ذلك إلى الفراغ والعدم فتحق علينا التهمة التي يلصقها بنا العمليون والناجحون وأصحاب الفطرة السليمة؟ أيكون الرد عليهم أن من يتجاوز «كل شيء» لا بدَّ أن يتجاوز الشيء وضده، أي الوجود والعدم جميعًا؟ فإلى أين أذن وأي شيء نجنيه من هذا الارتفاع؟ وماذا يعود علينا أو على عالمنا منه؟

أيًّا كانت الإجابة على هذه الأسئلة فلا شك أن كلا العالمَين ينتمي إلى عالم الإنسان، وأنه وحده — دون سائر الكائنات من جماد أو نبات أو حيوان — هو القادر بفضل العقل على الوجود في العالم بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة (ب) ولا بد أن نضيف إلى هذا أنه هو الكائن الوحيد الذي يقدر على العلو والارتفاع فوق هذا العالم وفوق ذاته وكل شيء على وجه الاطلاق «لنتذكر كلمة باسكال في خواطره: تعلَّموا أن الإنسان يعلو على الإنسان علوًا غير متناهٍ!»١٢ فالتفلسف يعني فيما يعنيه أن نجرِّب اهتزاز عالم كل يوم كلما سمعنا نداء «العالم»، وأن نخطو خارج حيز البيئة العملية الضيقة لكي نواجه «الكون». هي تجربة خطرة، تُسلمنا للغربة حيث لا سطح يظلنا. وهي لا تتم في كل لحظة ولا في كل يوم؛ إذ لن نستغنى عن الرجوع إلى سقف يحمينا. ومن ذا الذي يمكنه أن يهجر عالم الفتاة الثراقية إلى الأبد؟ من يقدر أن يتخبط في نبع الماء طوال حياته؟ من يملك ترف النظر إلى الأنجم طول العمر؟

إن حياة التأمل والنظر ليست حياة بشرية خالصة، وإنما هي شيء يسمو فوق البشرية. لأن في الإنسان نفسه شيئًا يفوق الإنسان. بيد أنه ينظر ويتأمل — أي يتفوق على الإنسان — بما هو إنسان، وبقدر ما تغوص قدماه في الوحل تكون قدرته على التطلُّع للنجوم. بقدر ما ينغمس في أعماق الواقع اليومي بقدر ما يرتفع فوقه ليراه في كليته. من ثمة هذا الوضع الغريب الفاجع: سقراط يغوص «حافي القدمين» في حارات أثينا وفي نفس الوقت يُحلِّق فوق السُّحب، يكون في كل لحظة يتحاور فيها مع الناس في العالم وخارجه، يسأل عن هذا الشيء أو ذاك ويسأل في نفس الوقت عن الكل، يتكلم عن المعرفة والعدالة والفضيلة … إلخ، ويسعى في نفس الوقت إلى «ماهية» المعرفة و«جوهر» العدالة و«حقيقة» الفضيلة. إنه في كل سؤال فلسفي حقيقي إنما يسأل عن «كل» ما هو موجود، عن ماهيته وحقيقته الأخيرة. إذ ليس سؤالًا فلسفيًّا ذلك الذي لا ينصب على «الكل».

٥

في فعل التفلسف يرتفع الإنسان فوق عالم كل يوم ليتَّجه إلى «العالم»، يعلو فوق البيئة التي يحتاج إليها ويتكيَّف معها ليندفع إلى مجموع الموجودات. ولكن هل نريد أن نرسم للفيلسوف صورة رومانسية بقدر ما هي مضحكة؟ أيوافق أحد منَّا على أن يظل غريبًا عن العالم ومثارًا للسخرية والإشفاق؟ هل يفهم من هذا العلو أنه يغادر مكانًا ليدخل مكانًا آخر، أو أنه يترك أشياء في عالم كل يوم ليستقبل أشياء أخرى في «العالم»؟ إن المتفلسف لا يحوِّل وجهه عن عالم العمل اليومي عندما يرتفع فوقه، ولا يشيح ببصره عن أشيائه الواقعية والعملية الملموسة عندما يسأل عن معناه وحقيقته، ولا يوجه عينيه من مجاله إلى مجال آخر يرى فيه عالم «الحقائق» و «الماهيات»، فليس الأمر هنا أمر مجالَين للواقع بحيث يترك أحدهما لينفذ في الآخر. ليس الأمر كذلك مهما تبادر للظن من كلمات «العلو» و«الارتفاع» و«التجاوز» التي ترددت على الصفحات السابقة. إن هذا العالم نفسه، هذا العالم بأشيائه وكائناته التي تقع أمام أعيننا، بموضوعاته التي نلمسها بأيدينا ونعرفها بحواسنا وعقولنا، هو موضوع التأمل الفلسفي. غير أن هذا العالم، هذه الأشياء التي نراها والموضوعات التي نلمسها والحقائق التي نُفكر فيها ونتعامل معها ليل نهار تصبح موضوعًا للسؤال على نحو خاص. إنها تسأل عن ماهيتها وحقيقتها الكلية الأخيرة، بحيث يصبح أُفق السؤال هو أُفق الواقع الكلي. السؤال الفلسفي ينصب على «هذا» الشيء أو «ذاك» مما يقع أمام بصرنا، لا يتَّجه إلى شيء يقع «خارج العالم» أو في عالم آخر وراء عالم التجربة اليومية. ولكنه يسأل عنه بطريقة تمس جذوره وتفتح فيه أعماق الدهشة المتجددة: ما هو «هذا الشيء» على الإطلاق وفي أصله ومعناه الأخير؟ يقول أفلاطون: لا يريد الفيلسوف أن يعرف إن كنت أظلمك في هذا الأمر أو كنت تظلمني، وإنما يريد أن يعرف ما هي العدالة بوجه عام وما هو الظلم، ولا يريد أن يعرف إن كان الملك الذي «يملك» الذهب الكثير سعيدًا أم غير سعيد، وإنما يريد أن يعرف ما هو الملك بوجه عام، وما هي السعادة والشقاء على وجه الإطلاق وفي أساسها الأخير.١٣
السؤال الفلسفي إذن يتجه إلى الأشياء التي تقع أمام أعيننا كل يوم، ولكن هذه الأشياء تشفُّ أمام السائل، تفقد كثافتها وبداهتها المعهودة، تكشف عن وجهها العميق الذي لم نألفه من قبل. كان سقراط يشبه نفسه ﺑ «السمكة الرعاشة»،١٤ فأسئلته تجمد المسئول وتخلع عن وجه الأشياء قِناعها العادي. في كل يوم نقول: هذا صديقي، هذا بيتي، هذه زوجتي، وكأنما «نملك» هذا كله. وفجأة يرن السؤال فنتوقف: هل نملك هذا كله؟ هل يمكن حقًا أن نملك؟ ما معنى «الملك» على الإطلاق؟ عندئذٍ نتفلسف، فنبتعد ونغترب، لا عن الأشياء المعتادة في حياتنا اليومية، بل عن تفسيراتها وقيمها المألوفة. ونحن لا نفعل هذا لكي نشذ عن الآخرين، أو لكي يقال إننا نفكر بخلاف بقية الناس، بل لأن وجهًا جديدًا للأشياء قد ظهر أمامنا فجأة، وجهًا مختلفًا عن ذلك الذي تعودنا عليه وسلَّمنا به في لقائنا معه كل يوم. هذه التجربة الباطنة هي التي اتَّفق على أنها أصل التفلسف. إنها تجربة الدهشة.
يهتف الرياضي الشاب «ثيآيتيتوس» بسقراط الماكر الطيب بعد أن جعله يقر بجهله: ﺑ «حق الآلهة يا سقراط، إنني لا أفيق من الاندهاش من معنى هذه الأشياء، وأحيانًا يُصيبني الدُّوار بمجرد النظر إليها.» عندئذٍ يرد عليه سقراط هذا الرد المرح البسيط الذي أصبح حقيقة مقررة في تاريخ الفلسفة: «أجل. إن هذه الحال بعينها هي التي تُميِّز الفيلسوف، هذا وحده دون سواه (أي الاندهاش) هو أصل الفلسفة.»١٥

فعل التفلسف يبدأ مع الدهشة. هذه الدهشة تكشف عن طابع الفلسفة «غير البرجوازي» والذي نقصده بالبرجوازية العقلية هنا (دون أدنى رغبة في الإساءة إلى البرجوازيين، فنحن جميعًا منهم، سواء كُنا كُتَّابًا أو قُراء!) هو وجهة النظر التي تأخذ البيئة المحيطة بكل ما فيها من أغراض حيوية مباشرة مأخذًا نهائيًّا جادًّا بحيث لا تشفُّ الأشياء عن وجهها الأعمق ومعناها الأخير. فالأشياء لا تدهش البرجوازي. وهو نفسه عاجز عن الاندهاش. إن كل شيء عنده واضح مألوف لا غرابة فيه.

ولكن هل هناك شيء بديهي؟ هل عرفنا معنى «الشيء» أو حاولنا التساؤل عنه؟ أبديهي أن نوجد أو نبصر أو نتحرك؟ أمن الأمور البديهية أن نولد ونعيش ونموت؟ هل حياة الكائنات والقيم والنُّظم والنظريات والمواضعات … إلخ وموتها شيء واضح بذاته؟ أليس في نشوئها وفسادها ما يثير العجب والدهشة؟ لكن البرجوازي لا يخطر على باله أن يسأل هذه الأسئلة. فهو يحيا سجين يومه. أسير أهدافه الحيوية المباشرة، في حين أن صوت هذه الأهداف الحيوية يصمت — ولو في لحظة الاندهاش— فلا يعود يسمعه من يهتز برؤية العالم الأعمق، ومن يتعجب من وجود الموجودات وأنها ليست عدمًا، وأن مجرد وجودها يثير السؤال عن معناها وحقيقتها ولو لم يتوصل إلى معنًى ولا حقيقة. هذا الاندهاش هو الذي مكَّن أول من أطلق السؤال الفلسفي (سواء عند الإغريق بصيغته المعروفة: ما هو الوجود أو الموجود؟ أو عند حكماء الشرق القديم في ثوب ديني أو أسطوري)؛ هو الذي مكَّنه من النظر الخالص من كل غرض، النقي من كل رغبة أو منفعة. والذي أدهش أول السائلين لم يكن شيئًا مثيرًا أو شاذًّا، ولا كان حدثًا غير مألوف لم يسمع به أحد؛ فالذي يحتاج إلى المدهش لكي يندهش لا يعرف في الحقيقة ما هي الدهشة! بل كان هو وجود الموجود نفسه، هذا الذي نراه كل لحظة ولا نراه، في هذا الشيء اليومي المعتاد أدرك المتفلسف الذي اندهش لأول مرة ما ليس بيومي ولا معتاد. هزَّه من كل كيانه أن الأشياء موجودة فسأل السؤال الميتافيزيقي الأول: لمَ كان وجود؟ تعجب مما يلقاه من أشياء يمر عليها الناس مرَّ الكِرام دون أن يصيبهم العجب. لم يكن في حاجة للاستغراق في تأمل النجوم كي يسقط في نبع الماء. فكل ما هو موجود قد كشف له عن وجهه العميق وأسقطه في نبع الحيرة. ولا بدَّ أن هذه التجربة قد عرَّضته للخيبة والفشل في التعامل مع تلك الأشياء التي كان الهدف منها قبل ذلك واضحًا وكانت منفعتها محددة. ولا بد أنه تعرض للسخرية أو السَّخط من الناس فاغترب عن حياتهم اليومية وانتزع من جذور الطمأنينة تحت سقف نظام مستقر. ولكن لا شك أنه لم يطل به البقاء في هذه التجربة، إذ لا مفر من الرجوع إلى الحياة اليومية! ولا شك أيضًا أنه قد عاد إليها بأعين جديدة ونظرة جديدة، ربما نقول اليوم: كان شاعرًا يحيا في جنة الأساطير، أو طفلًا يحبو في مهد العلم. وفي هذا القول نصيب من الحقيقة. ففي الفيلسوف دائمًا شيء من الطفل والشاعر، وان اختلف عنهما في طريقة تعبيره عما يُدهشه (ﺟ) ولهذا اتَّفق — كما أسلفنا القول — أرسطو والأكيني على أن الفعل الفلسفي قريب من الفعل الشعري، لأن الفيلسوف والشاعر يتعاملان مع المدهش (د).

٦

«الاندهاش أصل التفلسف». ولكن ربما فُهم من هذه العبارة أنه مجرد بداية أو تمهيد سابق عليه، بحيث يمكن أن يزول بعد فترة قصيرة أو طويلة. والواقع أن الاندهاش هو مبدأ التفلسف وجوهره الثابت وقوته المحرِّكة، ولو زال عنه لتوقَّف التفلسف نفسه. والدليل على هذا أن الاندهاش لم يقتصر على الفلسفة القديمة بل ظهر وجهه واضحًا مع بداية الفلسفة الحديثة. ولو تذكرنا أب الفلسفة الحديثة لأمكننا أن نقول إن الشك هو أصل الفلسفة. فلولا أنه قال لا وشك في كل شيء: فيما تلقاه عن طريق التعليم، في الحس والمحسوس والمعقول، في أبسط الحقائق الرياضية، في وجود جسمه ووجود العالم المادي المحيط به وفي الله نفسه، لولا ذلك ما أمكنه أن يتوصل إلى صخرة اليقين التي لا تتزعزع؛ فهو لا يستطيع أن يشك في أنه يشك، وهو في شكه يفكر، ولا فكر بغير «أنا» تفكر، وهذه الأنا التي لا سبيل للشك فيها هي الحقيقة البديهية الواضحة التي سيشهد عليها بناء الفلسفة والعلم من جديد، وسيصعد على سلمها (النوراني اللحظي) كي يثبت وجود الله ثم يهبط لإثبات وجود العالم، ولولا حرف النفي البسيط «لا» الذي بدأ به فلسفته لما بدأ تاريخ العصر الحديث.

يقول هيجل في محاضراته عن تاريخ الفلسفة (وهو بصدد الكلام عن سقراط ومنهجه في إدهاش مُحدِّثه مما يبدو واضحًا مسلمًا به): «إن الإرباك هنا هو أهم شيء، ولا بد للفلسفة من أن تبدأ به وتعمل على ظهوره، لا بد للإنسان من الشك في كل شيء والتخلي عن كل افتراض لكي يعود بعد ذلك فيتلقاه نتاجًا للتصور.»١٦

هل يعني هذا الاندهاش في صورته القديمة أو في صورة الشك الحديثة أن يقتلع الإنسان من جذوره ويخيب أمله في واقعه، أم معناه أن يمد جذوره في أعماق أرض جديدة؟ إن الذي يجرِّب الدهشة لا بد أن يُصاب بخيبة الأمل ويحس أنه خُدع. هذا هو الجانب السلبي من التجربة. ولكنه لا يستطيع أن يخفي الجانب الإيجابي، وهو التحرر من الوهم والخداع؛ فكل ما كان يُسلِّم ببداهته ويقينه أصبح نهبًا للشك واهتزت الأرض من تحته. غير أن معنى الدهشة يكمن في تجربة أكبر: إن العالم أعمق وأكبر وأغنى بالأسرار مما قد يبدو للعين اليومية والنظر العادي. فالاندهاش يتحقق في الإحساس بالمعنى والسر. وهو لا يتَّجه لإثارة الشك والحيرة بقدر ما يتجه لإيقاظ الوعي بأن الوجود يثير أسئلة لم نُجب عليها، ويحفل بأسرار لم نبلغ كُنهها بعد. ولعل فيه أيضًا نوعًا من التواضع والخشوع أمام عظمته، نوعًا من القرار بأن حقائق العلم التي نملكها ونعتز بها بطبيعة الحال لم تستنفد بعد كل ما ينطوي عليه من حقائق.

في الاندهاش إن سلب وإيجاب. فالمندهش لا يعرف السبب الخفي وراء ما يدهشه، لأن الذي يعرف لا يندهش.١٧ وهو كذلك لا يفتقر إلى المعرفة وحسب، بل هو مثل أب الدهشة سقراط: يعرف أيضًا أنه لا يعرف. ومع ذلك فهو لا ييأس ولا ينفض يديه، وإنما يمضي سائرًا على الطريق. قد تُخرسه الدهشة لحظة، لكن لا يلبث أن يصحو ويواصل سيره، يدفعه الشوق إلى المعرفة القصوى. إن ما يثير في عقله الدهشة ليفجر في قلبه الفرح،١٨ فحيثما وُجدت الفرحة العقلية وُجد المدهش، وحيثما كانت القدرة على الفرح، كانت القدرة على الاندهاش (والمشتغلون بالعلم وبالإبداع الفني والأدبي بوجه خاص يجربون هذه الفرحة الأليمة المتجددة ويتكتمون سرها!) والفرحة تأتي من «الأمل» الذي تنطوي عليه دهشة المتفلسف ويكمن في صميم الوجود البشري نفسه. فنحن دائمًا «على الطريق»، لم نوجد بعد (كما قال باسكال ويقول أرنست بلوخ في أيامنا) ولكن نأمل أن نوجد. ولهذا فإن الله لا يندهش، لأنه لا يفتقر إلى علم أو وجود، والحيوان لا يندهش، لأن نفسه الحسية لا يقلقها السعي إلى معرفة الأسباب.١٩
إن الاندهاش الذي ينطوي على الأمل يدخل في صميم وجودنا البشري، وهو دليل على أننا نتفلسف ضرورة — أي نشتاق إلى المعرفة الحقة — مهما يتراكم من صدأ العادة والأيام المرة فوق العين وفوق العقل. وكما أن الاندهاش مقصور على البشر، فإن التفلسف أمر يُميِّزهم دون غيرهم. تقول الكاهنة الحكيمة ديوتيما لسقراط: «لا أحد من الآلهة يتفلسف، ولا أحد من الحمقى؛ إذ إن المهلك في الحمق أن يتصور المرء أنه مكتف بنفسهٍ.» ويسألها سقراط: من هم إذن المتفلسفون يا ديونيما إن لم يكونوا هم الحكماء ولا الحمقى؟» فتجيبه قائلة: «هذا شيء واضح حتى للطفل. إنهم أولئك الذين يكونون وسطًا بينهما.»٢٠

هذه الكائنات الوسط لا يمكنها أن تكف عن الدهشة، وإلا كفت عن الوجود (لا عن التفلسف وحده!) فهي لن تملك العلم كله، ولن تقنع بالجهل وعدم العلم. هي دائمًا على الطريق، يحدوها الأمل في الوصول إلى جواب. ولكن هل يمكن أن تشبعها إجابة نهائية على أسئلة من هذا النوع: ما هو هذا الشيء على الإطلاق وفي أصله وأساسه الأخير؟ ما المعرفة؟ وما الإنسان؟ إن العلوم الجزئية تسأل. والعالم يخرج من دهشته عندما يهتدي إلى «نتيجة» بحثه. وفي هذا تكمن عظمة العلم وحدوده في آن واحد. أما الفلسفة فتسأل دون أن تصل إلى جواب نهائي أخير (وإلا أصبحت علمًا أو مذهبًا وعقيدة!) لهذا لا يخرج المتفلسف أبدًا من الدهشة؛ لأنه دائمًا على الطريق. سيظل يسأل ويسأل دون أن ييئس ودون أن يصل إلى جواب يتفق عليه الجميع (فكل أفكار الفلاسفة — كما يقول الأكويني — لم تنجح في الكشف عن طبيعة بعوضة واحدة!) غير أن هذا القول وأمثاله لن يفت في عزيمته أو يوهن من إقدامه وصبره. ولهذا يبقى مصدر قلق وإزعاج دائم (كلمة نيتشه: لست فيلسوفًا، ولكني ديناميت! إنني أتفلسف بالمطرقة!) وإذا وُجد بحق فهو إما إنسان خطر يجب الحجر عليه، أو مثل أعلى لا سبيل إليه!

٧

والمعنى السلبي الذي ينطوي على الأمل ملازم لمفهوم الفلسفة نفسها منذ البداية.٢١ فهي لم تُقدم نفسها في صورة علم يقيني موثوق به، بل أكدت بوضوح أنها شكل من أشكال التواضع الذي يعرف قدر نفسه (ﻫ). وكلمة «الفلسفة» و«الفيلسوف» — فيما تقول الحكاية القديمة التي نعرفها جميعًا — قد صاغهما فيثاغورس (من حوالي ٥٨٢ق.م إلى حوالي ٤٩٦ق.م/ ٩٧ق.م) متعمدًا أن يجعل معناهما مقابلًا لكلمتي (السوفيا) و«السوفوس». فما من إنسان حكيم أو عالم، وإنما العلم والحكمة لله وحده. ولهذا فإن السعي إلى الحكمة ومحبتها هو أقصى ما يمكن أن يصف به الإنسان نفسه (فيلسوف). وبمثل هذا يتحدث أفلاطون في محاورة فايدروس.٢٢ فعندما يسأل هذا عن الاسم الذي يليق بصولون وهوميروس يرد عليه سقراط هذا الرد الحاسم: «أحسبُ يا فايدروس أن إطلاق اسم الحكيم عليه (سوفوس) شيء أعظم بكثير مما يستحق، وأنه لا يليق إلا بإله، أما تسميته بالفيلسوف، أي من يسعى للحكمة ويحبها، أو بشيء من هذا القبيل، فيبدو لي أنه أنسب له.»

هذه الحكاية معروفة لا يخلو منها كتاب في الفلسفة. ولكننا نميل إلى أخذها مأخذ النوادر والطرائف، ولا نكاد نقف عندها لنحقق أصلها ومعناها. فما الذي تنطوي عليه الحكاية التاريخية، ما الذي تقوله!

إنها تؤكد أمرين: أولهما أننا لا «نملك» الحكمة أو العلم الذي يهدف إليه السؤال الفلسفي. كما أن افتقارنا إليهما ليس مسألة مؤقتة أو عارضة، وإنما نحن من ناحية المبدأ لا نستطيع أن نملكهما. إن السؤال الفلسفي (أي السؤال عن الحقيقة والماهية) ينطوي على الرغبة في الفهم. والفهم معناه معرفة الشيء الذي نسأل عنه معرفة تامة نهائية. ولكن الحكاية القديمة تؤكد أن الإنسان لا يمكنه أن يصل إلى معرفة من هذا النوع، كما تؤكد أنه لا يوجد شيء يمكن أن يعرف على هذه الصورة. فمن طبيعة الفلسفة أن تسعى في طلب الحكمة التي تظل ممتنعة عليها (نقول ممتنعة ولا نقول مستحيلة؛ إذ لا بد من وجود علاقة بينهما، حتى يكون ثمة معنى للسعي والشوق والحب!) هذه الحكمة هي موضوع الفلسفة. ولكنه موضوع تسعى إليه ولا تملكه. وقد تناول أرسطو هذا المعنى الأول في «الميتافيزيقا» وزاده تحديدًا، ثم انتقل إلى كُتب كبار المفكرين في العصر الوسيط من إسلاميين ومسيحيين وبخاصة في شروحهم على كتاب أرسطو السابق. وخلاصة ما يقولونه إن الحكمة تُطلب لذاتها، ولهذا لا يمكن أن يملكها الإنسان تمامًا. ربما كان في وسعنا أن «نملك» الحقائق التي تزوِّدنا بها العلوم الجزئية. ولكن هذه الحقائق بطبيعتها «وسائل» و «أدوات»، ولا يمكن أن نكتفي بها تمامًا بحيث تُطلب لذاتها، أما الشيء الوحيد الذي يمكن أن نكتفي به ونطلبه لذاته — وهو الحكمة — فنحن لا نُعطاه إلا على سبيل الأمل والرجاء، لا على سبيل التملك أو «وضع اليد»!٢٣
من طبيعة الفلسفة إذن ألا «تملك» موضوعها إلا عن طريق السعي إليه والاشتياق لطلبه (أي ألا تملكه أبدًا!) قد يبدو هذا أمرًا بديهيًّا لكل من يفكر في طبيعة الفلسفة وتطورها التاريخي. غير أنه ليس بالوضوح والبداهة التي نتصورها ولم ينعقد عليه إجماع الفلاسفة (فالاختلاف بينهم حول تعريفها ومنهجها ومضمونها وغايتها شيء مستمد من طبيعتها!) ها هو ذا «هيجل» يخالف المعنى الذي أشرنا إليه ويقول في مقدمة ظاهريات الروح: «إن الأمر الذي عقدتُ عليه العزم هو المشاركة بجهدي في أن تقترب الفلسفة من هدفها وتتمكن من طرح الاسم الذي توصف به وهو «حب العلم» من أجل أن تصبح علمًا حقيقيًّا.» ولا شك أن الهدف الذي وضعه هيجل لنفسه يفوق القدرة البشرية، وإن الفلاسفة الذين شاركوه طموحه في جعل الفلسفة علمًا شاملًا دقيقًا لم يحالفهم التوفيق الكامل (مثل أفلاطون وليبنتز من قبله وهسرل، وبعض المناطقة الوضعيين من بعده). لقد ساروا جميعًا في طريق مسدود، إذ أحسوا قليلًا أو كثيرًا بالشعور بالنقص تجاه العلوم الدقيقة، وصوَّر لهم الوهم أن الفلسفة يمكن أن تتطور كما تتطور تلك العلوم، على حين أنها بطبيعتها لا يمكن ولا يجوز لها أن تحقق مثل هذا التطور. ولعل هذا الطموح المخيف هو الذي جعل شاعر الألمان الأكبر «جوته» يسخر من هيجل وأمثاله من الفلاسفة ويصفهم في إحدى رسائله بقوله: «هؤلاء السادة الذين يعتقدون أنهم تحكموا في الله والنفس والعالم وأشباه ذلك مما لا يفهمه أحد!»٢٤
والأمر الثاني الذي تؤكده الحكاية القديمة على لسان فيثاغورس وأفلاطون وأرسطو هو المقابلة بين الحكمة «الإلهية» ومحبة الحكمة «البشرية». فالإنسان لا يسعى في طلب الحكمة أيًّا كانت، وإنما يسعى إلى الحكمة الإلهية. ولهذا نجد فلاسفة العصر الوسيط من إسلاميين ومسيحيين يتابعون أرسطو في تعريفه للفلسفة بأنها «العلم الإلهي»٢٥ لأنها تسعى لطلب الحكمة التي لا يملكها إلا الله، أو بأنها «التشبه بالله بقدر الطاقة»، كما يعرفها أفلاطون.٢٦
هكذا تعجز الفلسفة — لأنها شيء بشري — عن درك موضوعها والإحاطة به. وهي بهذا تضع الحد الفاصل بين الإنسان وبين الله، إذ لو أدرك إنسان كل الحكمة زالت عنه صفة الإنسان (والأسطورة المصرية القديمة تحكي عن شاب ألحَّ على كهنة معبد أيزيس المقدس أن يرى وجه الربة، فما أن دخل إلى قدس الأقداس وكشف القناع ولمح الوجه الغامض حتى توقف قلبه وسقط ميتًا!)٢٧ والحكمة التي لا يملكها إلا الله «معرفة العلة القصوى» (والمراد هو العلة الغائبة لا السببية)، أي علة كل شيء على الإطلاق: من أين وإلى أين، الأصل والمصير، معنى الواقع ومبدأه، أي معرفة العالم في مجموعه وأساسه الأخير. مثل هذه المعرفة لا تتأتى إلا للمطلق، أي الله. فهو وحده الذي يعرف العالم ويحيط بسببه الأول والأخير، وهو وحده الذي يمكن أن يوصف بالحكمة. لهذا كانت الفلسفة بطبيعتها «على الطريق» إلى هذا الهدف، ولكنها لن تستطيع من ناحية المبدأ أن تبلغه. إن الإنسان ليسعى بالحب إلى طلب الحكمة، أي إلى فهم العالم من خلال مبدأ واحد أخير. ولكن من طبيعته كإنسان ألا يبلغه وألا يكف في نفس الوقت عن السعي إليه (من ثَم كان إخفاق المذاهب العقلية الكبرى في تفسير العالم انطلاقًا من مبدأ واحد، وكان وجود المذهب المغلق المتكامل شيئًا ضد طبيعة الفلسفة!) ولعل هذا هو الذي جعل أفلاطون يقول إن التفلسف مأساوي؛ لأنه سبقي متعلقًا بالأسطورة ولأن تفسير الفلسفة للعالم لا يسمح أبدًا بأن يكون مستديرًا استدارة الخاتم.٢٨
إذا صح هذا كله، فما الذي جعل أرسطو — في الموضع السابق من الميتافيزيقا — يصف الفلسفة بأنها أسمى العلوم؟ وما الذي يجعلها حتى اليوم تُصر صراحة أو ضمنًا على تسمية نفسها «ملكة العلوم» وتحاول — في عصر العلم — أن تفلسفها وتُوحد بينها، وتسأل عما لا تسأل هي نفسها عنه من مشكلات تتصل بطبيعتها وأسسها وحدودها ومناهج البحث فيها … إلخ؟ الجواب على هذا أنها لا تزال تحاول — على الرغم من إنكار المنكرين — أن تبلغ ذلك الهدف الأسمى، وهو معرفة العلة الأخيرة، والفهم الشامل الموحد للواقع أو للكل.٢٩ وهي تسعى إليه، كما سبق القول، على طريق الأمل والرجاء: فالاندهاش يدفعها للسير على الطريق، والطريق نفسه لا نهاية له. هذا التمزق بين الأمل واليأس يدل على أنها شيء بشري خالص، وسواء أكانت هي محبة الحكمة أم حكمة الحب،٣٠ فهي في النهاية ملازمة لوجود الإنسان، بل هي تحقيق هذا الوجود نفسه. ومهما حاول أن ينكرها فهي تؤكد حضورها الشامل حتى في مواقف الإنكار (و) لأن تجاهل الفلسفة — كما تقول عبارة أرسطو المشهورة — لا يصدر إلا عن فلسفة تجهل أنها فلسفة!٣١
١  أفلاطون، ثيانيتوس، ١٧٤.
٢  فيدون، ٥٩.
٣  المأدبة، ١٧٢ وما بعدها.
٤  يوسف بيير، ما التفلسف؟ أربع محاضرات مع تعقيب بلم ت. س. إليوت. ميونخ، دار نشر كوزل، الطبعة الرابعة، ١٩٥٩م، ص١٢ وما بعدها. Pieper, Joseph; Was heiBt Philosophieren? Vier Vorlesungen miteinem Nachwort von T.S. Eliot München, kösel-Verlage, 4te Auflage, 1959, S. 12 ff.
٥  هيدجر، ما الميتافيزيقا؟ فرانكفورت (على نهر الماين)، ١٩٤٣م، ص٢٢.
٦  راجع إن شئت تفاصيل تجربة العلو، أي تجربة التفلسف الأصيل، في كتاب فلسفة العلو (الترانسندنس) للأستاذ فولفجانج شتروفه الذي نقله كاتب السطور إلى العربية، القاهرة، مكتبة الشباب، ١٩٧٥م.
٧  قرنَ أفلاطون بين التفلسف و«الإيروس» بل جعل الحب الفلسفي هو الدافع المحرك للتفلسف، كما قرب أرسطو وتوماس الأكويني، وكلاهما رأس عقلاني بعيد عن كل شُبهة رومانسية! بين الفيلسوف والشاعر وبين الفعل الفلسفي والفعل الأدبي لما يجمع بينهما من قدرة على الاندهاش والعلو والارتفاع. وعبارة الأكويني في تعليقه على ميتافيزيقا أرسطو (١و٣) تستحق الالتفات: «إن الشيء الذي يجعل الفيلسوف شبيهًا بالشاعر هو أن كليهما يتعامل مع المدهش أو المثير للعجب.» Mirandum.
٨  يوسف بيير، المصدر السابق، ص٢٧.
٩  فرانسيس بيكون، الأورجانون الجديد، ١، ٣–١، ٨١.
ويعلق الأستاذ «بول موي» في كتابه «المنطق وفلسفة العلوم» على هذه العبارة بقوله: «إذا كنا على يقين من صحة العلم، فإن قدرًا كبيرًا من ذلك اليقين يرجع إلى أن ذلك العلم قد ثبتت صحته بالتطبيقات الصناعية، فالقوة تثبت العلم، ولكن العلم ليس هو القوة.» انظر ترجمة الدكتور فؤاد زكريا، القاهرة، دار نهضة مصر، د. ت، ص١٦٤.
١٠  ديكارت، مقال في المنهج، القسم السادس، الطبعة المدرسية لجيلسون، ص١٢٢، وكذلك الترجمة العربية للمرحوم الأستاذ محمود الخضيري، القاهرة، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، الطبعة الثانية، ص١٩٠-١٩١ (وربما تأثر ديكارت في هذا الرأي ببيكون، كما يرى الأستاذ لالاند الذي يذكره الأستاذ الخضري في تعليقه بالهامش بنفس الصفحة).
١١  كارل ماركس، الأيديولوجيا الألمانية، قضايا عن فوير باخ، القضية الحادية عشرة، في الكتابات المبكرة، ص٣٤١، نشرة لاندزهوت، شتوتجارت، ١٩٧١م.
١٢  باسكال، الخواطر، الخاطرة ٤٣٤ (في ترقيم برنشفيج).
١٣  ثيآيتيتوس، ١٧٥.
١٤  مينون، ٨٠، أو ﺑ «المُعزِّم» على الثعابين: الجمهورية، ٣٥٨.
١٥  ثيآيتيتوس، ١٥٥، وراجع لكاتب السطور: الدهشة أصل الفلسفة، في كتاب «مدرسة الحكمة» ص٨٩– ١٠٣ القاهرة، دار الكاتب العربي، ١٩٦٧م.
١٦  هيجل، محاضرات عن تاريخ الفلسفة، ٢، ٦٩، والجدير بالذكر أن مؤرخ الفلسفة المشهور «فندلباند» قد تأثَّر بهذه الطريقة الديكارتية في التفكير فترجم في كتابه «مدخل إلى الفلسفة» الكلمة اليونانية التي تفيد معنى الدهشة وهي ثاومازين Thaumazein (على هذه الصورة: «حيرة الفكر مع نفسه» (فندلباند المدخل إلى الفلسفة، توبنجن، ١٩٢٣، ص٦).
١٧  يعرف توماس الأكويني الاندهاش بأنه الشوق إلى المعرفة desiderium sciendi (المجموع اللاهوتي، ١، ٢، ٣٢، ٨).
١٨  فمن الدهشة، كما يقول أرسطو، ينبع الفرح (الخطابة، ١، ٢).
١٩  على نحوِ ما يعبر الأكويني في مجموعة الرد على الأمم (٤، ٣٣).
٢٠  المأدبة، ٢٠٤.
٢١  يوسف بيير، ما التفلسف؟ المصدر السابق ص٧٨ وما بعدها.
٢٢  فايدروس، ٢٧٨.
٢٣  ويضيف القديس توماس الأكويني: إن من طبيعة الحكمة ألا تعطي لنا إلا على سبيل العارية (في ضرحه لميتافيزيقا أرسطو ١، ٣)، وهذا متضمن في قول الكندي في كتابه إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى: «إن أعلى الصناعات الإنسانية منزلة، وأشرفها مرتبة صناعة الفلسفة التي حدها: علم الأشياء بحقائقها بقدر طاقة الإنسان؛ لأن غرض الفيلسوف في علمه إصابة الحق، وفي عمله العمل بالحق» القاهرة، دار إحياء الكتب العربية، الطبعة الأولى، تحقيق الدكتور أحمد فؤاد الأهواني، ١٩٤٨م، ص٧٧.
٢٤  من رسالة له على صديقه تسلتر، وقد كتبها في ٢٧ / ١٠ / ١٨٢٧م.
٢٥  أرسطو، الميتافيزيقا، ٩٨٣أ.
٢٦  أفلاطون، ثيآيتيتوس، ١٧٤.
٢٧  وذلك حسب رواية الشاعر فريدريش شيدر (١٧٥٩م–١٨٠٥م) في قصيدة له عن قناع إيزيس (مؤلفات شيلر الكاملة، طبعة هانزر، الجزء الأول، ميونخ، ١٩٦٠م، القصائد الفلسفية)، والقصيدة بعنوان: التمثال المقنع في سايس، ص٢٢٤–٢٢٦.
٢٨  انظر جرهارد كروجر في كتابه عن أفلاطون: «البصيرة والعاطفة»، جوهر الفكر الأفلاطوني، فرانكفورت (على نهر الماين) فيتوريو كلوسترمان، ١٩٧٣م، ص٢٩٥ وما بعدها. Krüger, Gerhard; Einsicht und Leidenschaft. Das Wesen des Platonischen Denkens. Frankfurt/M., Vittorio Klostermann, 1973, S 295 ff.
وانظر كذلك «القوانين ٨١٧ب حيث يقول الفلاسفة لشعراء المأساة الذين سيُطردون من البلاد لأنهم منافسون خطرون: نحن أنفسنا شعراء مأساة، وهي أجمل وأحسن مأساة يمكن أن توجد.» كما يؤكدون «أن الدولة التي يؤسسونها محاكاة لأجمل وأفضل حياة» وأن هذا نفسه هو أصدق المآسي جميعًا! ولكن حياة التفلسف نفسها تنطوي على المأساة والملهاة معًا؛ إذ يستحيل — كما يقول الفلاسفة أيضًا في القوانين — أن يفهم المضحك بغير الجاد، ولا الضد عامة بغير ضده (٨١٦ب) ويضع سقراط (فيليبوس، ٥٠ب) مأساة الحياة وملهاتها بجانب ألوان الدراما المعروفة لأن مصير الفيلسوف — كما يقول كيركجار في الحاشية الختامية غير العلمية — يكشف عن وجهين أساسيين: فهو مأساة بالقياس إلى الفيلسوف المتأمل نفسه، وهو ملهاة بالنسبة للمتأمل البعيد عن الفلسفة.
٢٩  والقليل الذي تكسبه منها — أي من الميتافيزيقا — أكبر وزنًا من كل ما تحصله من سائر العلوم (كما يقول الأكويني في شرحه لميتافيزيقا أرسطو ١، ٣).
٣٠  كما يسميها هيدجر في محاضرته: ما الفلسفة (حرفيًّا: ما هو هذا، الفلسفة؟) فلنجن، جنتر نسكه، ١٩٥٦م.
٣١  هذا هو مضمون العبارة المشهودة التي تردِّدها كتب تاريخ الفلسفة عن كتاب لأرسطو كان يظن أنه كتاب مفقود، ثم وُفق العلماء في السنوات الأخيرة للعثور عليه واتفقوا على معظم نصوصه، وأقصد به كتاب «الحث على التفلسف» (بروتريبيفوس) الذي تشرفتُ بنقله للعربية والتعليق عليه (تحت الطبع، بدار المعارف).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤