المحاضرة الثالثة

مشكلة السكان والغذاء في العالم

سيدي مدير الجامعة، حضرات السادة والسيدات

أود أن أبدأ بمسألة عامة على سبيل التقديم للموضوع الذي نعالجه اليوم، وهو مشكلة الغذاء والسكان في العالم. والنقطة التي أود أن أبدأ بها هي أن مستقبل الجنس البشري قد أصبح اليوم — مرة أخرى — غير مؤكد، فنحن ندرك أنه قد حدث خلال حياتنا تغيير هائل سريع في نظرتنا إلى مستقبل الجنس البشري؛ فطَوال العشرين أو الثلاثين ألف عام السابقة، كان يبدو أنه ليس ثمة شيء يحول دون استمرار الجنس البشري طالما أن كوكبنا هذا قابل للسُّكنَى. وينبئنا العلماء بأن هذا الكوكب سيظل قابلًا للسُّكنَى لمدة ألفي مليون عام أو حوالي ذلك، إذا لم ندمر هذا الكوكب خلال هذه الفترة. ولا شك أن ألفي مليون عام فترة هائلة، إذا علمنا أن الجنس البشري لم يوجد إلا منذ مليون عام فقط، ولم توجد المدنية إلا منذ حوالي ٥ آلاف سنة. ومنذ نهاية العصر الحجري القديم، أي منذ حوالي ٢٠ ألف أو ٣٠ ألف عام — وهي فترة ليست طويلةً بالنسبة إلى عمر الجنس البشري — تمكن الإنسان من فرض سيطرته وإثبات تفوُّقه على جميع الأشكال الأخرى للحياة على هذه الأرض، فيما عدا البكتريا، فلم يعد من الممكن فناؤه على يد أي كائن حي غير بشري. وفي الوقت ذاته لم يكن لدى الإنسان حتى سنة ١٩٤٥م، من القوة ما يمكِّنه من إبادة نوعه بأكمله. صحيح أنه كان يستطيع إبادة أفراد، أو فئات متفرقة، وقد حدث بالفعل خلال حروب وثورات مختلفة أن أُبيدت فئات ومجتمعات كاملة، ولكن إبادة الجنس البشري كله كانت شيئًا يتجاوز قدرة الإنسان قبل اختراع الأسلحة الذرية.

أما اليوم، فيبدو أننا رجعنا، فيما يتعلق بهذه المسألة الحيوية — أعني مسألة استمرار الجنس البشري — إلى النقطة التي كنا عندها في أول مراحل العصر الحجري القديم، أي في المليون الأول من عمر الجنس البشري؛ فجنسنا اليوم قد أصبح مرةً أخرى مهددًا بالفناء، ولكن الخطر لا يأتي هذه المرة من أية قوة غير بشرية، وإنما من الإنسان ذاته؛ ذلك لأن الإنسان عدو للإنسان أخطر من أي كائن آخر غير بشري ظهر في هذا العالم؛ إنه أخطر من أي أسد أو نمر، بل من أي بكتيريا وفيروس؛ فالإنسان أخطر حيوان عاش على هذا الكوكب.

وأعتقد أن هناك اليوم طريقتين يمكن أن يصبح بهما هذا الكوكب غير قابل لسُكنَى البشر؛ الطريقة الأولى هي تلك التي لا تَكُفُّ أذهاننا عن الانشغال بها، وهي أن نَشُنَّ حربًا ذريةً تقضي على الإنسان في كوكبنا هذا، وقد تُسمِّم أجزاءً كبيرةً من سطح الأرض. ولكن هناك احتمالًا آخر؛ إذ إنني لا أعتقد أننا سنُبيد أنفسنا بحرب ذرية، ولكني أعتقد فعلًا أن الزيادة الهائلة الحالية في عدد الكائنات البشرية التي تعيش في وقت واحد على سطح هذه الأرض ستستمر جيلًا أو اثنين. وهذا التضخم الهائل في السكان يؤدي قطعًا إلى الازدحام، والشعور بخيبة الأمل، وقد يؤدي إلى الموت جوعًا. وسيكون الازدحام عندئذٍ هائلًا؛ إذ إن المسألة لا تقتصر على زيادة عدد الناس، بل إنه مع كل إنسان يولد، يخلق المزيد من الأدوات البشرية؛ فزيادة السكان تعني زيادةً في المساكن وفي الطرق وفي المصانع وفي الآلات، وفي كل المواد والأدوات التي يشيدها الإنسان حوله، والتي ستكتظ بها الأرض. ولو أراد المرء أن يكوِّن في ذهنه صورة يتخيل بها ما سيكون عليه شكل العالم في عام ٢٠٠٠م، فليذهب إلى اليابان؛ لأن كل الأجزاء القابلة للسُّكنَى في اليابان قد تحوَّلت اليوم إلى مدينة ضخمة واحدة مأهولة بالسكان. وقد زرت اليابان مرتين؛ إحداهما في عام ١٩٢٩م والأخرى في عام ١٩٥٦م. وعندما زرتها في المرة الثانية سافرت عبر أماكن رأيتها من قبلُ ولكني لم أستطع أن أتعرف عليها؛ إذ إنني عندما كنت هناك قبل ربع قرن، أي في عام ١٩٢٩م، كانت هذه الأماكن حقولًا مكشوفةً، أما اليوم فأصبحت مغطاةً بالبيوت. ويخبرنا العلماء بأن العالم بأسره سيصبح على هذا النحو، وليس من الصعب عليكم أن تتصوروا ذلك في بلدكم هذا؛ إذ إن كثافة السكان كبيرة جدًّا عندكم، وهي ما زالت تزداد بسرعة.

وسأركز كلامي — في هذه المحاضرة — على هذا الاحتمال الثاني، وأعني به الازدحام الهائل للسكان والأدوات البشرية، والنتائج المحتملة لهذا الازدحام، إذ إن هذا الاحتمال في اعتقادي سيكون هو المشكلة الكبرى التي ستواجه الإنسان، أكثر من احتمال نشوب حرب ذرية انتحارية. كما أنني لا أعتقد أن من المفيد مناقشة موضوع نتائج الحرب الذرية الشاملة، إذ لا توجد في تجربتنا حتى الآن عناصر نستطيع أن نتخذها مقياسًا في مناقشة هذا الموضوع؛ ذلك لأن القنبلتين اللتين ألقيتا على اليابان — على فظاعتهما — ليستا شيئًا مذكورًا بالقياس إلى أصغر قنبلة ستُلقى في الحرب القادمة. ومن هنا فليست لدينا الوسيلة التي تمكِّننا من تصوُّر ما سيحدث للعالم في حالة نشوب مثل هذه الحرب. ومن جهة أخرى فمن الممكن، ومن المفيد، أن نناقش النتائج المحتملة للزيادة الهائلة في عدد سكان العالم، والأدوات التي يستخدمها الإنسان، والمنتشرة على سطح الأرض؛ من مواد وسيارات وعربات نقل، وبيوت، وما إلى ذلك. ولدينا في هذا من تجاربنا الماضية ما ينير لنا الطريق، هذا مع ملاحظة أن الفارق في الدرجة بين مشكلة السكان والازدحام الراهنة وحالتنا الماضية يبلغ من الضخامة حدًّا يجعله أقرب إلى أن يكون فارقًا في النوع، بالنسبة إلى التجارب البسيطة الماضية التي كانت لنا حتى الآن.

ولنتحدث عن تلك النبوءة المشهورة التي قال بها — قُرْبَ نهاية القرن الثامن عشر — الاقتصاديُّ البريطاني المشهور مالثوس؛ فقد ذكر مالثوس — كما تعلمون — أن معدل الزيادة في السكان أسرع كثيرًا من معدل الزيادة في كمية الغذاء في العالم. وقد اعتقد أنه اكتشف بذلك قانونًا طبيعيًّا يسري على كل زمان ومكان، وتنبأ بأن هذا القانون سيؤدي إلى إثارة صعوبات أمام الجنس البشري. وكما حدث في تنبؤات أخرى قال بها رجال قديرون (وقد كان مالثوس بالفعل رجلًا قديرًا) فإن نبوءة مالثوس تحققت في وقت يختلف عن ذلك الذي تنبأ به، وفي مكان يختلف عن ذلك الذي توقعه؛ فقد كان مالثوس إنجليزيًّا، وعاش في وقت زاد فيه عدد سكان إنجلترا زيادةً كبيرةً مفاجئةً، ويبدو أن تفكيره كان منصبًّا على أوروبا بوجه عام، وعلى إنجلترا بوجه خاص، لا على العالم في مجموعه، إذ إنه استعان بالتجارب التي مرت به في حياته الخاصة، وفي البلد الذي كان يعيش فيه. ففي وقت مالثوس كانت الأقلية الغربية من الجنس البشري قد بدأت بالفعل تحرز تقدمًا تكنولوجيًّا بالنسبة إلى بقية البشر، وكان سكان أوروبا الغربية يزدادون بسرعة، فتوقع مالثوس أن قانونه سيتحقق فعلًا بين الشعوب الغربية في القرن التاسع عشر. ولكن ذلك لم يحدث، ولم يحدث في الغرب حتى في القرن العشرين. ففيما يتعلق بالأقلية الغربية من الجنس البشري، لم تتحقق العناصر التي تضمَّنها قانون مالثوس لأسباب متعددة غير متوقعة؛ فقد حدث أولًا — في القرن التاسع عشر — أن استُصلحت مساحات هائلة من الأراضي البور، في أمريكا الشمالية والجنوبية وأستراليا، ولم يكن استصلاحها هذا من أجل العالم بأكمله، بل لصالح السكان المتزايدين في أوروبا. فقد كان سكان الجزء الغربي من العالم يزدادون في ذلك الوقت بسرعة نتيجةً لنقصان عدد الوفَيَات السابقة لأوانها. وكما هي الحال الآن بين الأغلبية الكبرى من الجنس البشري، فإن هذه الزيادة لم تقترن بانخفاض في معدل المواليد. ولكن الشعوب الغربية — في القرن التاسع عشر — تمكنت بفضل قوتها العسكرية والسياسية والاقتصادية من احتكار المناطق الخالية من العالم الجديد. وهكذا فإن الزيادة التي طرأت في القرن التاسع عشر على إنتاج الغذاء في الأجزاء الغربية من العالم نتيجةً لاستغلال مناطق جديدة للزراعة — كحوض المسيسيبي مثلًا أو غيره من أجزاء أمريكا الجنوبية وأستراليا — قد فاقت الزيادة في عدد السكان في البلاد الغربية. أما اليوم — في القرن العشرين — فيبدو أنه قد أمكن بالنسبة إلى العالم الغربي تجنب نتائج قانون مالثوس بصفة نهائية؛ ذلك لأن عدد سكان البلاد الغربية قد ثبت إلى حدٍّ ما طَوال عدة أجيال. فقد اهتدت الشعوب الغربية إلى وسائل متباينة للحد من معدل المواليد فيها وجعله متناسبًا إلى حد ما مع معدل النقص في الوفَيَات نتيجةً لتدابير الطب الوقائي وممارسة قواعد الصحة العامة. صحيح أن سكان البلاد الغربية لم يثبت عددهم نهائيًّا في الوقت الحالي، غير أن معدل الزيادة قد هبط إلى حد بعيد، ومن الصحيح أيضًا أنه لم تُضَفْ منذ بداية هذه الفترة مساحات كبيرة من الأراضي إلى المساحة المزروعة في البلاد الغربية، بل إن مساحة الأراضي المزروعة في أمريكا الشمالية قد نقصت قليلًا منذ العقد الأخير من القرن الماضي. غير أن غلة الفدان الواحد من الأراضي الزراعية قد زادت إلى حد مذهل في البلاد الغربية، ولا سيما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية؛ نتيجةً لتطبيق العلم على التكنولوجيا الزراعية. ويتنبأ العلماء الزراعيون بأن هذه ليست إلا البداية الأولى في طريق زيادة القدرة الإنتاجية للأرض في الفدان الواحد، عندما يُطَبَّقُ العلم بطريقة منظمة على الزراعة. وعلى الرغم من أن عدد المشتغلين بالزراعة يتناقص باستمرار بالنسبة إلى مجموع سكان الدول الغربية، بينما يزداد عدد النازحين إلى المدن والمشتغلين بالصناعة، فإن إنتاج هذا العدد المتناقص لا يكفي فقط لسد حاجات البلاد الغربية إلى الغذاء، بل إنه يكوِّن فوائض متكدسةً تتجاوز ما تحتاج إليه هذه البلاد لاستهلاكها الخاص.

ولقد كنت في الشتاء الماضي أنا وزوجتي، نحاضر في كلية بولاية أيوا، تلك الولاية الزراعية الواقعة في منتصف الولايات المتحدة، والتي تُعَدُّ أراضيها من أخصب الأراضي الزراعية في العالم، إذ يقول أهلها إن ٢٥ في المائة من أفضل الأراضي الزراعية في العالم يقع في ولاية أيوا هذه وحدها. وفي خلال تجولنا في الريف الشاسع الأرجاء، رأينا المزارع الواسعة الممتدة، والآلات الزراعية الضخمة، ولكننا رأينا أيضًا صفوفًا متلاصقةً من الصوامع التي يخزَّن فيها فائض الإنتاج الزراعي، وهو الفائض الذي لم يمكن استهلاكه، ويتكلف هذا التخزين نفقات غير قليلة، وقد يستمر حتى يتلف المحصول بالتدريج. ولا شك أن هذا أمر يؤدي بالفلاح الأمريكي إلى الشعور بقدر غير قليل من السخط؛ إذ إنه مما يجلب السخط لأي فلاح أن يرى المحصول الذي زرعه وبذل جهدًا فيه، دون أن يُستخدم على الإطلاق ودون أن يؤكل، وإنما يتبدد بلا فائدة في التخزين، حتى تضيع قيمته في النهاية. وهكذا فإن أسوأ مشكلة تواجه العالم الغربي اليوم — إذا نظرنا إلى العالم الغربي وحده — ليست هي نقص الغذاء على النحو الذي تنبأ به مالثوس، وإنما هي زيادة الغذاء عن الحاجة، ووجود فائض كبير منه.

فمن المشاكل الكبرى في الولايات المتحدة أن الحكومة تدفع للفلاح إعانات حتى لا يزرع أرضه، وتدفع له إعانات لكي يختزن الغذاء الذي ينتجه بدلًا من أن يؤكل. كذلك فإن مشكلة فائض الإنتاج الزراعي هذه من أكبر المشاكل التي تواجه دول السوق الأوروبية المشتركة؛ فكلٌّ من هذه الدول الست لديها فائض من الإنتاج، وكلٌّ منها تود إقناع الأخريات بشراء واستهلاك ما لديها من فائض. ولمَّا لم يكن في وسعها جميعًا أن تستهلك فوائض إنتاج بعضها البعض، فإن هذه من أصعب النقاط في المفاوضات الدائرة بين هذه الدول الست في سبيل تحقيق وحدة أوثق في أوروبا.

على أني كنت أتكلم حتى الآن عن الغرب وحده. ومع ذلك فحتى لو أدرجنا ضمن مفهوم الغرب جميع البلاد الغنية، بحيث لا نقتصر على البلاد الغربية بمعناها الضيق، وإنما نضم إليها الاتحاد السوفييتي الذي أصبح الآن من البلاد الغنية في العالم، ونضم اليابان أيضًا، فإن الغرب وروسيا واليابان معًا لا يتجاوز عدد سكانهم جميعًا ٢٩ في المائة من مجموع سكان العالم الآن. أما بالنسبة إلى الباقي، وهو ٧١ في المائة، أعني أولئك الذين يكوِّنون أكثر من ثُلُثَي البشرية، والذين لا ينتمون إلى هذه الأقلية السعيدة الحظ من الوجهة الاقتصادية، فإن نبوءة مالثوس يبدو أنها قد أخذت تتحقق بالفعل في وقتنا هذا؛ ففي هذه البلاد وصلت مشكلة الغذاء والسكان إلى مرحلة خطيرة، نتيجةً لتطورٍ لم يكن في استطاعة مالثوس أن يتنبأ به. ذلك لأن الطب الوقائي، وتدابير الصحة العامة، قد ظهرا لأول مرة بعد عصر مالثوس، وقد طُبِّقَت هذه التدابير في البداية في البلاد الغربية، ثم أصبحت كل حكومات العالم تطبقها اليوم في بلادها. وحتى في أشد البلاد تخلُّفًا، تستطيع مجموعة قليلة من المشتغلين بالصحة العامة، عن طريق تطبيق قواعد بسيطة في الصحة العامة، أن تقوم بدور فعَّال إلى حد بعيد في خفض نسبة الوفَيَات السابقة لأوانها. وبالفعل أدَّى تطبيق قواعد الطب الوقائي وتدابير الصحة العامة إلى حدوث انخفاض كبير في معدل الوفَيَات السابقة لأوانها في العالم كله. ولا شك أن الانخفاض يتفاوت تبعًا لمستوى البلاد المختلفة، غير أن النتيجة في العالم كله محسوسة وملموسة بوضوح. ومن جهة أخرى لم يحدث في البلاد النامية نقص متناسب في معدل المواليد، ولا يبدو أن نقصًا كهذا يلوح في الأفق. ولو نظرنا إلى اليابان التي أَدْرَجْتُها ضمن البلاد الغنية، لوجدنا أن بوادر تثبيت عدد الساكن قد أخذت تلوح في الأفق. صحيح أن ذلك قد تم بطرق صارمة قاسية، ولكن اليابانيين اضطُروا إلى ذلك، لأنهم كانوا في حالة يأس، وهم اليوم يتوقعون أن يثبت عدد السكان لديهم عند مائة مليون أو مائة وعشرة ملايين من السكان، وهذا عدد يصعب جدًّا أن يضمه بلد كاليابان، تشغل فيه الجبال مساحةً كبيرةً. ومع ذلك فهم يتوقعون أن يصلوا قريبًا إلى مرحلة الثبات والاستقرار، وهو أمر لا يمكن القول إنه سيحدث قريبًا في معظم بلاد العالم.

على أن معدل الوفَيَات يمكن أن يخفض بوسائل بسيطة لا يعترض عليها أحد؛ فمن السهل جدًّا أن تقنع الناس — حتى غير المتعلمين منهم — بأن تدابير الصحة العامة مفيدة لهم، وبالتالي أن تضمن تعاونهم مع السلطات الحكومية من أجل تنفيذ هذه التدابير عمليًّا، كتدابير مكافحة الملاريا مثل. أما معدل المواليد فلا يمكن خفضه إلا بناءً على قرار اختياري يتخذه الناس — أعني مئات الملايين من الناس — من زوجات وأزواج، بحيث يستقر عزمهم على التخلي عن عادة قديمة جدًّا، هي عادة التناسل حتى الحد الأقصى. فليس في وسعك أن ترغم الناس على الإقلال من حجم أسرهم، وكل ما يمكنك أن تفعله هو أن تقنعهم بإعادة تعليم أنفسهم وبالتخلي عن عادة قديمة جدًّا، متأصلة في نفوس الناس بعمق، وهذه مهمة عسيرة جدًّا. ولكن أعتقد أن الجنس البشري سيعلِّم نفسه من جديد كما فعل اليابانيون وكما فعلت الشعوب الغربية، وإن كنت واثقًا من أن ذلك سيستغرق بعض الوقت، وخلال هذا الوقت سيستمر عدد ساكن العالم في زيادة كبيرة.

ولأضرب لهذه النقطة مثلًا ببلادي، أعني بريطانيا. ففي بريطانيا بدأ انخفاض معدل الوفَيَات، دون أن يصحبه انخفاض متناسِب معه في معدل المواليد، في حوالي العقد البادئ بعام ١٧٤٠م، ولم تبدأ زيادة السكان في بريطانيا في الانخفاض مرةً أخرى إلا في حوالي العقد البادئ بعام ١٨٨٠م، أي إن تضخم السكان في بريطانيا استمر حوالي ١٤٠ سنةً. وفي العقد البادئ بعام ١٨٨٠م، عندما بدأ معدل زيادة سكان بريطانيا ينخفض، كان عدد هؤلاء السكان قد بلغ أربعة أضعاف ما كان عليه في عام ١٧٤٠م. على أن بريطانيا قد تمكنت من التغلب على هذه الزيادة الهائلة في السكان لأنها كانت تتمتع بعدد من الميزات التي تنفرد بها؛ فقد كانت لدى سكانها أولًا فرص كبيرة للهجرة إلى ما وراء البحار. ذلك لأنه بعد استقلال أمريكا على أثر حربها التحررية مع بريطانيا، لم تتوقف الهجرة البريطانية إلى أمريكا، بل إن عدد البريطانيين الذين هاجروا إلى أمريكا بعد الاستقلال يفوق بكثير عدد أولئك الذين هاجروا إليها عندما كانت أمريكا مستعمَرةَ بريطانيا. ولم تقتصر هجرة البريطانيين على الولايات المتحدة، بل امتدت أيضًا إلى كندا ونيوزيلندا وأستراليا وجنوب أفريقيا. وفضلًا على ذلك فقد كانت بريطانيا أول بلد حدثت فيه الثورة الصناعية. وهكذا ظلت بريطانيا طَوال ثمانين أو مائة عام، تمثل «مصنع العالم» كما أُطلِق عليها في ذلك الحين، وكانت تحتكر بيع الآلات في جميع أنحاء العالم، في نفس الوقت الذي أصبح فيه من المحتم عليها أن تزيد دخلها القومي نتيجةً لضغط زيادة السكان عليها. وحتى رغم كل هذه المزايا، فإن بريطانيا لم تتخلص من أزمة زيادة السكان إلا بعد أن جلبت الثورة الصناعية الرائدة آلامًا ومصاعب جمةً على سكانها؛ ذلك لأن الآثار الاجتماعية للثورة الصناعية كانت أقسى في بريطانيا مما كانت فيما بعد في ألمانيا، أو في الولايات المتحدة عندما تحوَّل هذان البلدان إلى مرحلة التصنيع، وذلك يرجع بطبيعة الحال إلى أن بريطانيا كانت أول دولة تمر بهذه التجربة.

على أن بلاد العالم الحالية النامية، التي يزداد عدد سكانها اليوم بسرعة، ليس منها بلد واحد يتمتع بمزايا فريدة كتلك التي كانت تتمتع بها بريطانيا في القرن التاسع عشر؛ فليس في وسع أي بلد اليوم أن يحتكر أسواق السلع المصنوعة في جميع أرجاء العالم، ولا توجد اليوم أية أقاليم فيها من الفراغ ما يتيح لأية دولة أن تبدأ في استعمارها. وهكذا فإن البلاد المتخلفة التي تكوِّن ثُلُثَي العالم، قد أصبحت اليوم مهددةً بتلك الكارثة التي تنبأ بها مالثوس بالنسبة إلى الغرب، وإلى بريطانيا على التخصيص. ولو تُركت الكارثة لتلحق بأغلبية البشر، لأصبحت كارثةً للإنسانية كلها، وضمنها الغرب ذاته، إذ لن يستطيع أن يهرب من المشاركة في المصير الذي تواجهه الأغلبية غير الغربية من سكان العالم، سواء أكان ذلك المصير خيرًا أم شرًّا؛ ذلك لأن التكنولوجيا اليوم — كما قلنا من قبل — قد قضت على المسافات وربطت العالم بأسره في وحدة واحدة. ومن الواضح أن العالم كله، الغني منه والفقير، السعيد منه والتعس، سيصبح له من الآن فصاعدًا نفس المصير.

فلنبحث الآن في الموارد المتوافرة من أجل معالجة مشكلة الغذاء والسكان في العالم. وأنا أقصد هنا الموارد الطبيعية أو غير البشرية. هذه الموارد المادية ضخمة، ولكنها محدودة، إذ لا مفر لنا في المجال الاقتصادي، من الاقتصار على الموارد الموجودة في كوكبنا هذا وحده، على عكس الحال في مجال الكشف العلمي. وينبئنا علماء الفلك أنه لا يوجد في مجموعتنا الشمسية أي كوكب مسكون فيما عدا كوكبنا هذا، وهم يقولون أيضًا إنه لمَّا كان الكون النجمي لا نهائيًّا في أبعاده، فمن المرجح أن يوجد عدد لا نهاية له من الكواكب المسكونة المبعثرة في الكون. ولكن أقرب هذه الكواكب المسكونة إلينا قد يكون على بُعد مئات الملايين من السنين الضوئية منا، بحيث إنه سيكون من المستحيل عمليًّا على الأرجح، أن نزور أقرب هذه الكواكب الموجودة في مجموعة شمسية أخرى، أو في مجرة أخرى. فإذا عدنا إلى سطح كوكبنا هذا وجدنا أن مساحة الأراضي المزروعة في العالم تبلغ حوالي عشرةً في المائة من مجموع مساحة اليابس في هذه الأرض. وعلى ذلك فهناك مجال لتوسيع رقعة الأرض المزروعة، كما أن من الممكن زيادة غلة الفدان الواحد نتيجةً لتطبيق الأساليب العلمية في الزراعة. وهناك أيضًا البحر؛ فمن الممكن صيد الأسماك من البحار بمعدل يفوق كثيرًا معدل الصيد الحالي، كما أن في وسعنا جمع البلانكتون١ من البحر؛ ذلك لأن الحيتان تعيش على البلانكتون، وعلى ذلك فمن الممكن أن يعيش البشر عليها أيضًا. صحيح أنها طعام قد يكون مذاقه غير مستحبٍّ، ولكنه يكفي لإبقاء الناس أحياءً. كذلك يمكن زراعة البحر بحيث نستخلص منه أعشابًا يمكن أكلها، أو قواقع بحرية. ولقد ذكرت من قبل أنني زرت اليابان أخيرًا، وهناك شاهدت مزارعها المائية على طول سواحلها، فوجدت فيها مناطق تحتشد بالمحَار والأعشاب المائية. ومن الممكن تطبيق هذه الأساليب في أجزاء أخرى من العالم فتكون موردًا آخر للغذاء. ولكن سطح الأرض رغم هذا كله محدود، فحتى لو أمكن تطبيق الكشوف العلمية على التكنولوجيا من أجل استغلال كل ما في كوكبنا من موارد يمكن أن يستخدمها البشر، فلا بد أن نصل في النهاية إلى حد طبيعي يستحيل بعده تجاوز هذه الموارد. ومن جهة أخرى فلا يوجد حد طبيعي لزيادة عدد الأحياء من أي نوع؛ فكل الأنواع وضمنها نوعنا البشري، تتجه إلى الزيادة إلى ما لا نهاية، غير أن نموها يتوقف دائمًا في مرحلة معينة نتيجةً لتدخُّلِ عامل خارجي ما، كافتراس الأنواع بعضها البعض. على أن الإنسان قد استغل أو افترس خلال العشرين أو الثلاثين ألف سنة الأخيرة معظم الأنواع الحيوانية الموجودة، فأصبح منذ ذلك الحين هو النوع المسيطر، ولم يعد هناك اليوم أي نوع آخر من أنواع الحياة يقف في وجه نمو النوع الإنساني، فيما عدا بعض أنواع البكتريا والفيروس. ولكن، إذا لم نتمكن نحن من الحد من نمونا بطريقة اختيارية، فسوف نُضطر إلى التوقف عن النمو بفعل المجاعات. والمجاعات تجلب الأمراض، ومعنى ذلك أن الفيروس والبكتريا هما اللذان سيرغماننا في هذه الحالة على إيقاف نمونا. وقد نُضطر إلى التوقف عن النمو بفعل الحرب، أي اعتداء الإنسان على الإنسان. على أن معظم الأنواع البيولوجية — ولا سيما الأرانب — تتناسل إلى الحد الطبيعي الذي يكون فيه ذلك ممكنًا، وتتكبَّد في الوقت نفسه أكبر عدد من الخسائر نتيجةً لافتراس الأنواع الأخرى لها، أو نتيجةً للمجاعة. ويمكن القول إن ثُلُثَي البشرية — الذين ما زال عددهم يتزايد بسرعة — يتناسلون بطريقة الأرانب هذه؛ فهم ما زالوا محتفظين بالعادات التي كانت سائدةً في العصور التي كان فيها الجنس البشري أعزل من السلاح، شأنه شأن الأرانب اليوم. وما زالت عادة التناسل حتى الحد الطبيعي هذه باقيةً حتى اليوم، رغم أن تدابير الطب الوقائي والصحة العامة قد أدت إلى الإقلال كثيرًا من معدل الوفَيَات، حتى في البلاد المتخلفة.

فإذا استمرت هذه الزيادة الهائلة في عدد السكان على ما هي عليه الآن؛ فإنها ستؤدي حتمًا إلى تدخل عامل خارجي من أجل إيقافها، هو عامل المجاعة أو المرض أو الحرب. وفي اعتقادي أن إقلال عددنا بإحدى هذه الطرق هو أمر يأباه العقل وتأباه الروح الإنسانية. ولكن ما لم تُحَدَّ هذه الأعداد بتخطيط بشري سليم، فسوف تُقَلَّلُ قسرًا، عن طريق تدخل عوامل غير بشرية، أو عن طريق حرب يقتل الإنسان فيها أخاه الإنسان. وفي رأيي أن تخطيط حجم البشرية — وهو أمر يحتاج إلى جهود ضخمة وتعليم شامل قبل أن يُعَمَّمَ على العالم بأكمله — هو السبيل الوحيد إلى التحكم في عدد السكان، وهو الوسيلة الوحيدة الجديرة بطبيعة الإنسانية؛ ذلك لأننا على أية حال، ندَّعي أننا مخلوقات عاقلة، ونفخر بأننا جنس حكيم، فليس مما يفيد أحدًا، لا على المستوى الجماعي ولا على المستوى الفردي، أن يُترك أكبر عدد ممكن من الناس يعيشون في آن واحد على سطح هذا الكوكب. ولو عُدنا بأنظارنا إلى الوراء في التاريخ، لوجدنا أن أعظم كشوف البشرية قد تحققت عندما كان مجموع سكان العالم مجرد جزء بسيط مما هو موجود الآن. وقد تمت هذه الكشوف على يد أقلية ضئيلة في هذا الجزء البسيط. وعلى ذلك فليس مما يفيد البشر أن يوجد أكبر عدد منهم في وقت واحد، إذ إن عددًا بسيطًا جدًّا من البشر يستطيع أن ينتج كل ما يلزم لتقدم الحياة الإنسانية من مقدرة وعبقرية واختراع.

وهكذا فإن هدفنا ينبغي أَلَّا يكون الوصول إلى أكبر حجم ممكن للسكان، وإنما الوصول إلى أفضل وأنسب حجم ممكن للسكان. فما الذي أعنيه بكلمة الحجم الأفضل أو الأنسب للسكان؟ إنني أعني بها ذلك الحجم الذي يتيح لكل طفل يولد في هذا العالم أن يتمتع بأفضل ظروف المعيشة خلال حياته. ولا شك أن أفضل حجم للسكان — بمعنى إتاحة أفضل فرصة ممكنة لكل طفل في الحياة — سيتفاوت بالطبع تبعًا للظروف الاجتماعية والاقتصادية في المكان والزمان. ولكن مع عمل حسابنا لهذه الاختلافات في المكان والزمان، فهناك دائمًا حجم أنسب يتيح أفضل الفرص لكل طفل.

ولقد ذكرت من قبلُ أن الموارد غير البشرية محدودة، غير أنه يبدو أن مواردنا البشرية لا يَنضَب مَعينها، ومواردنا البشرية هي رأس المال النهائي الذي يمتلكه جنسنا البشري. وأود الآن أن أُذَكِّرَكم بمواردنا البشرية وما تنطوي عليه؛ فهناك أولًا الموارد العقلية التي يتيحها لنا العلم والتكنولوجيا. هذا المجال العقلي — ولا سيما تطبيق العلم من أجل السيطرة على الطبيعة — هو دون شك المجال الذي أحرز فيه الإنسان أعظم قدر من التقدم حتى الآن؛ فقد كنا أذكياءَ إلى حد مذهل في التحكم في الطبيعة غير البشرية. وهناك مورد بشري آخر هو معاييرنا الأخلاقية، التي هي أساس حياتنا الاجتماعية، إذ لا يمكن أن يتعاون الناس فيما بينهم ما لم تكن هناك أخلاق أو قواعد أخلاقية. ومن المعروف أن الكائن البشري لا يكون له حول ولا قوة طالما أنه منعزل، ومن هنا كان يتجه إلى الاجتماع بغيره من الناس لزيادة مقدرة الحياة البشرية. ولكن من المؤسف أن الإنسان كان في هذا المجال — أعني مجال الأخلاق — بعيدًا كل البعد عن النجاح حتى اليوم. فعلى حين أننا نجحنا إلى حد مذهل في تعاملنا مع الطبيعة، فإننا أخفقنا حتى الآن إخفاقًا شديدًا في تعاملنا مع أنفسنا. فالتعامل مع أنفسنا ومع بعضنا البعض يغدو في نظرنا أصعب كثيرًا من التعامل مع الطبيعة. وعلى أية حال فإن مقدرتنا العقلية يمكن أن يكون لها من الفاعلية في التنظيم الاجتماعي مثلما كان لها في مجال العلم والتكنولوجيا. غير أن قصور مقدرتنا الأخلاقية يُعَد عقبةً في طريق ممارسة قوانا العقلية في مجال التنظيم الاجتماعي.

ولنتحدث عن مورد بشري ثالث، هو قدرة الإنسان على التكيف. صحيح أن الإنسان — ككل نوع آخر من المخلوقات الحية — كثيرًا ما يكون جامدًا تاركًا العِنان لنزعاته المحافظة. ولكن يمكن القول، إننا في عشرة في المائة على الأقل من قدراتنا النفسية لدينا القدرة على الاختيار، والمغامرة، على خلاف الحشرات الاجتماعية كالنمل والنحل، التي تبدو مقيدةً تمامًا بعاداتها. فالإنسان هو حقًّا مقيَّد بالعادات في نواحٍ كثيرة، ولكنَّ لديه نصيبًا من الحرية في الاختيار والعمل والتجريب وتجاوز الأفق الحالي في نظرته إلى الأمور. هذا النصيب من الاختيار الحر، أو من القدرة عل التكيُّف، كان دائمًا صفةً من الصفات المميزة للإنسان. وقد أصبحت لهذه الصفة اليوم أهمية حيوية، إذ إن بقاءنا اليوم يتوقف على قدرتنا على التخلص من عدد من العادات التي كانت متأصلةً منذ وقت بعيد تأصلًا شديدًا في نفس الإنسان، مثل عادة إنجاب الأطفال حتى الحد الطبيعي، وهي عادة تكوَّنت لدينا حتى قبل أن نصبح آدميين، منذ ملايين السنين. وكذلك عادة العيش في أمم وقبائل منفصلة، وهي عادة قديمة قِدَم الإنسانية ذاتها. وأخيرًا عادة الحرب، أي مقاتلة القبيلة للقبيلة والشعب للشعب، وهي عادة تكوَّنت على الأرجح، بمجرد أن توافر لدينا الحد الأدنى من الموارد ومن التنظيم اللازم لشن الحرب؛ ذلك لأنه إذا لم يكن لدى الشعب هذا الحد الأدنى من الموارد فلن يستطيع شن حرب، بل سيقضي وقته وطاقته كلها في البحث عن وسائل لحفظ حياته. ولكن منذ اللحظة التي توافرت فيها مثل هذه الموارد لدى الجماعات القديمة، تكوَّنت لديها عادة شن الحروب بعضها على بعض. وقد استهلك التسلح والحرب معظم هذا النصيب الضئيل من الموارد التي تمكَّن الإنسان في العصر السابق على العصر الصناعي من إنتاجها زيادةً على ما يحتاج إليه للوفاء بحاجاته الضرورية، وهذا أمر يؤسَف له أشد الأسف. فتلك إذن بدورها عادة يتعيَّن علينا أن نُقلِع عنها.

وعلى ذلك ففي هذا العصر الحديث — عصر انخفاض معدل الوفَيَات — ينبغي علينا أن نتخلَّى عن عادة إنجاب الأطفال إلى آخر مدًى ممكن. وفي هذا العصر الحديث — عصر القضاء على المسافات والأسلحة الذرية — ينبغي التخلي عن عادة شن الحروب، وعادة التمسك بالقوميات، وينبغي أن نجعل من الجنس البشري كله أسرةً واحدةً تخضع لتخطيط واحد يسري على العالم بأكمله. وهذا برنامج ثوري يصعب علينا جدًّا تحقيقه.

ولكي ندرك مدى سيطرة الطبيعة المحافظة علينا، ومقدار تحكم عاداتنا الماضية في سلوكنا، ينبغي علينا أن نتناول مثال الشعب الأمريكي والشعب الروسي؛ إذ إن هذين الشعبين معًا يفخران بأنهما قد تخلصا من تراث الماضي، وبدآ بدايةً جديدةً. صحيح أن هذه البداية الجديدة قد اختلفت في حالة كل منهما عن الآخر، ولكن كلا الشعبين يفخر بأنه قد افتتح عهدًا جديدًا للجنس البشري. ومع ذلك فإني أعتقد أن أهم طابع يَلفِت نظر الأجنبي في هذين البلدين هو الطابع المحافظ لا الطابع الثوري المجدد؛ فالأمريكيون والروس معًا مؤمنون بالقومية، شأنهم شأن بقية شعوب العالم؛ ذلك لأن معظم أو كل شعوب العالم تتجه عقولها إلى الأخذ بالقومية، مع أن قوميتها هذه لم تعد تلائم على الإطلاق هذا العصر — عصر الأسلحة الذرية — الذي أصبحت فيه كل أوجه النشاط الكبرى في العالم تتم على نطاق عالمي شامل.

وأود أن ألفت نظركم الآن إلى بعض المفارقات في الموقف الراهن في العالم؛ فالجميع يعترفون بأن للناس جميعًا نفس الحقوق الإنسانية، لمجرد كونهم بشرًا فحسب، بغض النظر عن عِرقهم وعقيدتهم وطبيعتهم الاجتماعية ومركزهم الاقتصادي. وهكذا فإن الأغلبية الكبرى البائسة من الجنس البشري، التي كانت تنظر في الماضي إلى بؤسها على أنه أمر مُسلَّم به، ولا تحلم بإمكان تغييره، قد تفتَّحت أعينها اليوم على آمال عريضة، وأخذت تتقدم بمطالب جديدة. ولنتأمل حالة الفلاحين في بلدكم هذا؛ فهؤلاء الفلاحون قد ظلوا منذ أيام بناء الأهرام يعملون ويكُدُّون بنشاط — إذ إنهم من أنشط العمال الذين عرفهم العالم — بحيث تمكنوا من الإبقاء على مدنية لم تنتفع منها إلا أقلية ضئيلة. وفي أيامنا هذه فقط بدأت الأغلبية العظمى في هذا البلد تطالب بنصيبها من مكاسب المدنية التي أرست هي ذاتها دعائمها بعملها الشاقِّ في الأرض. وهكذا فإن الآمال قد اتسعت ليس فقط في بلدكم هذا، بل في جميع أرجاء العالم. ولكن الواقع أن الهوَّة بين الأغنياء والفقراء تزداد بدورها اتساعًا؛ فهي تزداد اتساعًا بين الفئات المختلفة من الجنس البشري، كما هي الحال بين الغرب وبقية العالم، وكذلك بين الفئات المختلفة في البلد الواحد. فلننظر مثلًا إلى الولايات المتحدة التي هي أغنى بلد في العالم، والتي تتمتع الأغلبية العظمى من سكانه بالرخاء؛ إن في الولايات المتحدة ذاتها أقليةً فقيرةً، ووجود أقلية فقيرة هو اليوم مصير فظيع. ففي الماضي كان الفقراء على الأقل يكوِّنون أغلبيةً، وكانت الكثرة العددية في صفهم. وعندما كان اليأس يشتد بهم، كانوا يعتمدون على أعدادهم ويثورون. أما إذا كان الناس فقراء، وكانوا بالإضافة إلى ذلك أقليةً — ولتكن عشرة في المائة من مجموع السكان مثلًا — فإنهم يصبحون بلا حول ولا قوة، وتتجاهلهم الأغلبية تمامًا، ولا يكون هناك سبيل إلى إصلاح حالهم.

وهناك مفارقة أخرى في عالم اليوم؛ ففي البلاد الغنية يتزايد إنتاج الغذاء على يد أعداد أقل من الناس، كما قلت، بحيث يتكوَّن في هذه البلاد فائض يزيد على ما يمكنها استهلاكه بنفسها أو بيعه للآخرين. فهم لا يستطيعون بيعه إلى البلاد النامية بسعر السوق المعمول به في البلاد المنتجة. ومن جهة أخرى ففي الثلث الناقص التغذية من الجنس البشري، وفي الثلث الآخر السيئ التغذية من الجنس البشري، يوجد طعام كافٍ، ولكن لا يوجد التنوع المطلوب في الطعام على النحو الذي يكفل غذاءً صحيًّا. وعلى ذلك فثلث البشر فقط هم الذين يحصلون اليوم على غذاء صحي، أما في حالة الثلثين اللذين لا يحصلان على الغذاء الصحي أو الكافي، فإن الزيادة في إنتاج الغذاء لا تكاد تلاحق الزيادة في السكان، وإنما ستتخلف عنها حتمًا، حتى على المعدل الحالي للتغذية الناقصة. ذلك لأن الطب الوقائي سيزيد عدد السكان في هذا الجزء من العالم بسرعة أكبر مما ستؤدي التكنولوجيا الزراعية إلى زيادة إنتاج الغذاء فيه. ففي هذه البلاد المتخلفة التي ستخسر السباق بين الغذاء والسكان، تحدث أعظم الزيادات في عدد السكان. وإذا كان مجموع سكان العالم في سنة ١٩٦٠م أقل قليلًا من ثلاثة آلاف مليون، فإن من المتوقع أن يصل هذا المجموع في عام ٢٠٠٠م إلى ٦٢٨٠ مليون نسمةً. وإنا لنجد منذ اليوم أن نصف سكان العالم في الصين والهند وجنوب شرقيِّ آسيا يعيش على ربع مجموع الإنتاج الغذائي في العالم، على حين أن ٢٩ في المائة من سكان العالم، الذين يعيشون في أوروبا وضمنها الاتحاد السوفييتي كله، وفي أمريكا الشمالية ونيوزيلندا وأستراليا، يحصلون على ٥٧٪ من مجموع الإنتاج الغذائي في العالم. وهكذا فإن هذا الافتقار إلى التوازن بين إنتاج الغذاء وعدد السكان في مناطق العالم المختلفة سيزداد سوءًا في عام ٢٠٠٠م. ففي عام ٢٠٠٠م ستبلغ الأقلية الغنية حوالي ٢٥ في المائة فقط من مجموع سكان العالم في ذلك الوقت، وستحدث الزيادات الكبرى في تلك البلاد التي تبلغ فيها حاجة السكان إلى الغذاء — منذ الآن — أقصى مداها. على أن هذه البلاد المتخلفة — التي تحتاج أكثر من البلاد المتقدمة إلى النهوض الاقتصادي — تعاني في الوقت ذاته من عدد لا حصر له من الصعوبات والعقبات الأخرى؛ فهي أولًا تحتاج لكي تزيد إنتاجية الزراعة فيها، إلى مقدار هائل من رأس المال، ولكن ليس لديها إلا فائض ضئيل يزيد على ما تحتاج إليه من المصروفات الضرورية، وهذا الفائض الضئيل تستهلكه الزيادة في عدد الأفواه التي ينبغي إطعامها. وفضلًا على ذلك فليس لديها بعدُ التعليمُ الكافي بالمقدار اللازم لكي تفهم ضرورة الحد من حجم الأسرة، وسيستغرق ذلك التعليم وقتًا حتى ينتشر. كما أن هذه الشعوب تنتشر فيها عادة قديمة هي الاستسلام والجمود. وهكذا فإن هناك خطرًا في أن تؤديَ يقظتها في الآونة الأخيرة، لا إلى عمل بنَّاء ينهضون فيه بأنفسهم، بل إلى رد فعل عنيف، وهو رد فعل إنساني طبيعي تمامًا — ولكنه غير معقول — ضد الأقلية الغنية، عندما يرون أن الهُوَّة بين الغني والفقير تزداد اتساعًا على الرغم مما يسمعونه من ادعاءات عن تساوي البشر جميعًا في الحقوق، الفقراء منهم والأغنياء.

ولنسأل أنفسنا أخيرًا: ما الذي ينبغي عمله لإنقاذ الجنس البشري؟ أعتقد أن أول ما ينبغي عمله هو أن نتعلم كيف نفكر ونشعر ونسلك على مستوى الجنس البشري كله، بدلًا من الاستمرار في التفكير والشعور والسلوك على مستوى الأجزاء القومية من الجنس البشري. فالتكنولوجيا الحديثة قد حولت الجنس البشري كله، وسطح الأرض كله، إلى وحدة متماسكة واحدة من الوجهة العملية. أما من الوجهة العاطفية، فنحن لا نزال نعيش في العالم القديم؛ عالم الأمم المستقلة المنفصلة ذات السيادة المطلقة. وفي هذه النقطة على التخصيص — أعني استمرار الروح القومية — نجد أن التفكير السياسي للأقلية المتقدمة تكنولوجيًّا من بلاد العالم، ما زال على نفس الدرجة من التخلف التي يتميز بها التفكير السياسي للأغلبية المتأخرة تكنولوجيًّا؛ فهم جميعًا قوميون، في عصر أصبحت فيه القومية عتيقةً. فإذا أردنا في عام ٢٠٠٠م، عندما يتضاعف عدد سكان العالم، أن نوفر عدد الوحدات الحرارية المتوافرة اليوم لثلث سكان العالم فقط، ولسدس سكان العالم في عام ٢٠٠٠م، فإن إنتاج وتوزيع الغذاء في العالم، ينبغي أن يوضع في يد هيئة عالمية واحدة، لها سلطات كافية، أعني سلطات تكفي لتسري كلمتها على الدول القومية، بحيث لا تعود لهذه الدول سيادة مطلقة فيما يتعلق بإنتاج الغذاء وتوزيعه على الأقل.

على أننا جميعًا ميَّالون إلى القومية في تفكيرنا، وسنظل نقاوم هذا الاتجاه العالمي باسم استقلال الوطن وحريته، وإن كنت أعتقد أن إخضاع السيادة القومية للاعتبارات العالمية، في ميدان إنتاج الغذاء على الأقل، سيتضح أنه أمر لا غناء عنه لاستمرار الجنس البشري. فالقومية في هذا الميدان على الأقل هي العدو، إذ إنه بدون تعاون على النطاق العالمي لن يستطيع العلماء أن يقدموا إلينا مساعدةً، بينما هم يستطيعون أن يصنعوا المعجزات إذا نظروا إلى العالم كله على أنه وحدة واحدة فيما يتعلق بإنتاج الغذاء. فالعلماء يعجزون عن أن يفعلوا شيئًا إذا انقسم العالم إلى مائة دولة أو أكثر، كل منها تتبع سياسةً قوميةً خاصةً فيما يتعلق بإنتاج الغذاء.

إننا الآن نجري في سباق ضد الزمن، ولا يحق لنا أن نزيد السباق — بالنسبة إلينا — صعوبةً بالتمسك بالأخطاء التقليدية. ولنذكر أن سكان العالم اليوم — البالغ عددهم ٣ بلايين نسمةٍ — سيتضاعفون وزيادةً في مدًى أقل من أربعين عامًا من الآن. هذا التطور المتوقع يجعل البشرية تواجه مشكلةً لم يسبق لها مثيل، وهي مشكلة لا يمكن حلها إلا إذا أقنعنا أنفسنا بإحداث تغيرات ثورية لم يسبق لها مثيل أيضًا في طرقنا في التفكير والشعور والسلوك.

ولْأُعِد تلخيص ما أعتقد أن من الواجب علينا عمله؛ إن من واجبنا إعادة تعليم أنفسنا فيما يتعلق بتخطيط حجم الأسرة والحد منه. وعلينا أن نزيد إنتاج الغذاء بحيث يواجه الزيادة في عدد السكان، عن طريق تطبيق العلم على التكنولوجيا الزراعية، حتى نقدم الغذاء الكافيَ لسكان العالم الذين سيتضاعف عددهم مرتين أو ثلاث مرات قبل أن يصل إلى مرحلة الاستقرار نتيجةً لإعادة تعليم أنفسنا في مسألة إنقاص حجم الأسرة. وثالثًا يتعيَّن علينا — لكي نعطيَ العلم الفرصة الكافية — أن نخلق نوعًا من السلطة العالمية لإنتاج الغذاء وتوزيعه.

هذه تغيرات لم يكن لها كما قلت نظير من قبل، وكان من المستحيل تصورها قبل وقت قصير، وقد لا يكون من الممكن تنفيذها عمليًّا في اللحظة الراهنة. إن الجنس البشري الذي يطلِق على نفسه عادةً اسم «الجنس العاقل» ينتظر دائمًا حتى يصبح على حافة الهاوية قبل أن يُحدث التغييرات الأساسية اللازمة. وأخشى أن أقول إنه سيتعيَّن علينا أن ننتظر حتى نصبح على حافة الهاوية، قبل أن تحدث هذه التغيرات اللازمة لحل مشكلة السكان والغذاء في العالم. وأنا شخصيًّا أعتقد أننا سنُحدث هذه التغيرات بالفعل، وسيكون ذلك على كرهٍ منا، ورغمًا عنا، وفي وقت يكاد يكون بعد فوات الأوان، وربما في آخر لحظة يمكن فيها إنقاذ الجنس البشري من تدمير نفسه بنفسه. وشكرًا لكم.

١  مزيج من النبات والحيوانات العضوية الصغيرة يطفو على سطح الماء في البحار والمحيطات، ويوجد فيها بكميات هائلة، ويمتاز بأنه غني بالبروتينات. ويعلِّق بعض العلماء أهميةً كبيرةً عليه بوصفه مصدرًا ممكنًا للغذاء، بعد تحويله إلى الصورة الملائمة للبشر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤