الشاعر والفيلسوف

قيل: إن الشاعر والفيلسوف لا يتفقان، فالفيلسوف يزعم أن الشاعر يحبب إلى الناس الخلاعة ويغريهم بها؛ والشاعر يظن أن الفيلسوف يبعدهم من الإدراك الأسمى لحقائق الحياة.

وقيل: إن هذا الخلاف بينهما قديم جدًّا، أقدم من أفلاطون وهوميروس، فلا الفيلسوف يحترم الشاعر منذ ذاك الزمن حتى اليوم، ولا الشاعر يحترم الفيلسوف.

إن في هذا القول أشياءً من الخطأ والصواب، فإذا نظرنا في المسئلة نظرة سطحية وجدنا أن بين الشعراء النفسيين، أي: الشخصيين وبين العلماء والفلاسفة الماديين من تصح فيهم الكلمة أنهم لا يتفقون، ولكن الكثيرين من هؤلاء العلماء والفلاسفة لا يحسنون تقدير الشعر؛ لأن لا ذوق لهم فيه، وقد قال أحدهم: إن الشعر هو نتيجة تضخم في الطحال وإفرازات له غير اعتيادية.

أما الشاعر الشخصي الأناني، ذاك الذي لا يتعدى شعره نفسه؛ وما يرى ويخبر من خلالها مما يتعلق بنفسه، فهو يظن أن روحه التبر الخالص يذيبه وينثره على جناح الخيال، وأن الفيلسوف لا يستطيع أن يرى شيئًا منه؛ لأن ليس له غير عقلٍ علمي، قياسه الأوحد رياضي حسابي، فهو لا يرى غير ما يُرى بالحس، ولا يدرك غير ما يُدرك بالقياس، هذا الفيلسوف وذاك الشاعر لا يتفقان.

أما إذا أمعنا النظر في المسئلة، فيتبين أن بين الشعر الكوني الروحي وبين الفلسفة التي تقرن المادة بالروح صلة متينة؛ ونسبًا قديمًا يمت إلى أفلاطون وهوميروس ومن تقدمهما. والحق يقال: إن في فلسفة أفلاطون شعرًا صافيًا، وفي شعر هوميروس فلسفة سامية.١
وإنك لتجد الفلسفة بعيدة الغور والمرمى في شعر غوته الألماني Goethe وفي شعر وضزورث Wordsworth الإنكليزي، ناهيك بشكسبير Shakespeare وما أحاط به في شعره ورواياته من طبقات النفس والفكر، ومن آفاق الخيال والتصور، ومن جوامع الأدب والفلسفة.

وما قولك أيها القارئ الأديب بأبي العلاء، شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء؟ وما قولك بالفارض، شاعر التصوف والفلسفة الإلهية؟ وهل أذكرك كذلك بقصيدة الفيلسوف ابن سينا في النفس؟

هبطت إليك من المحل الأرفع
ورقاء ذات تعززٍ وتمنعِ

إلى أن قال وقد اخترق أسترة المادة:

هجعت وقد كُشف الغطاءُ فأبصرت
ما ليس يدركُ بالعيونِ الهجعِ

إن في بنات خيال الشعراء العبقريين وبنات أفكار الفلاسفة الكبار لفلسفة هي الشعر، وشعرًا هو الفلسفة، وقل: هو الشعر الفلسفي في أسمى مظاهره، وهي الفلسفة الشعرية في أجلى وأجمل معانيها.

واعلم، سلمك الله، أن الحقيقة العلمية المجردة هي ناقصة نقص الحقيقة المنحصرة بالشعور، أما الحقيقة الكبرى — الحقيقة السابغة الشاملة الدائمة الثابتة — إنما هي التي تجمع بين الحقيقتين، بين ما يدركه الشاعر بحسه الدقيق، وما يدركه الفيلسوف بعقله المحيط، هي حقيقة غوته في «فوست» “Faust” هي حقيقة شكسبير في «هملت» “Hamlet” هي حقيقة وضزورث في «الإكسكرشن» “The Excursion” هي حقيقة برغسن “Henri Bergson” في كتابه “L’Evolution Crèatrice” هي حقيقة المعري في «اللزوميات»، هي حقيقة الغزالي في «إحياء العلوم»، هي حقيقة ابن طفيل في «حي بن يقظان»، هاك القليل من الكثير في هذا الباب.

قال الفيلسوف للشاعر: إني أعلم ما تراه، وقال الشاعر للفيلسوف: إني أرى ما تعلمه، مثل هذا الشاعر وهذا الفيلسوف لا يختلفان، وكثيرًا ما يكمل الواحد منهما عمل الآخر، فيدرك الفيلسوف بالعلم والاستقراء ما يفتح للشاعر أبوابًا للوحي جديدة ويدرك الشاعر بالحس والتصور ما ينبه الفيلسوف لجادةٍ في البحث مجهولة، ويوسع لديه نطاق الفكر والاكتشاف.

دع الشعر والفلسفة وانظر معي تكملةً للبحث في حياة الشاعر والفيلسوف العملية، وفي ما يتوجب عليهما كأبناء وطنٍ واحد، بل كأخوين مفكرين، منزهين عن الأغراض الشخصية، والمآرب النفسية كلها، فهل تظنهما وهذه صفة كليهما، يختلفان في الحقائق الأساسية للحياة سياسية كانت أو اجتماعية؟

خذ هذه الحقيقة الكبرى في حياتنا الانتدابية: المنتدبون متمدنون، والمنتدبون مسيحيون، والمنتدبون مقتدرون، أي: أنهم أصحاب جنودٍ وأساطيل، فالمتمدن يجب أن يكون عادلًا، والمسيحي يجب أن يكون وديعًا، والمقتدر يجب أن يكون صريحًا صادقًا.

فهل المنتدبون علينا وعلى إخواننا في الأقطار العربية الأخرى عادلون وديعون صريحون صادقون؟

وهل تظن أن الشاعر والفيلسوف يختلفان في الجواب على هذا السؤال؟

خذ الثانية الكبرى من حقائق هذه الانتدابات، المنتدبون مسيحيون، وهم يضربوننا كل يومٍ على الخد الأيمن ضرباتٍ وثنية، ونحن أبناء هذه البلاد مسيحيين كنا أو دروزًا أو مسلمين، ندير لهم الخد الأيسر كل يوم.

فمن هو المسيحي الصادق يا ترى؟

وهل من الحكمة أو من العدل أو من الدين بشيءٍ أن نظل من هذا القبيل مسيحيين، وأصحاب الانتداب لا يهمهم من المسيحية غير «أخذ الرداء» والصفع على الخد الأيمن؟

وهل يصلح للجهاد في سبيل الحرية والاستقلال والعزة القومية، من ألف الصفع والسكوت أو الصفع والبكاء، وتعلَّم أن يُقَبِّل اليد التي لا يستطيع أن يكسرها.

هذا سؤالٌ آخر لا أظن أن الشاعر والفيلسوف يختلفان في الجواب عليه.

وإذا كان الجواب واحدًا، فهلا يجب أن يكون العمل بموجبه واحدًا كذلك؟

وإذا تألم الفيلسوف لهذه الحال المحزنة المخزية، الكائنة بين أصحاب القوة والباطل والمسيحية الكاذبة وبين الضعف والحق والمسيحية الصادقة، أفلا يجب أن يتألم الشاعر، ويتألم — وهو الرقيق الشعور — ضعف آلام الفيلسوف!

هو السؤال الذي يقف بنا عند النقطة الجوهرية الثانية من هذه المناظرة — عند الألم.

هوامش

(١) راجع مواقف نسطور في الإلياذة والصفحات الأولى من الكتاب الثالث والكتاب السادس من «جمهورية أفلاطون».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤