الفصل الأول

الدبلوماسي

الخلفية الإنسانية

وُلِد نيكولو مكيافيللي في فلورنسا في الثالث من مايو عام ١٤٦٩. أول ما يأتينا من أخباره هو دوره النَّشِط في شئون مدينته ومسقط رأسه عام ١٤٩٨، نفس العام الذي أُسقِط فيه النظام الحاكم بقيادة سافونارولا من السلطة. كان جيرولامو سافونارولا، الزعيم الدومينيكاني لسان ماركو الذي كانت خُطَبه النبوئية قد سيطرَتْ على الساحة السياسية الفلورنسية طوال السنوات الأربع السابقة لهذا التاريخ؛ قد اعتُقِلَ بتهمة الهرطقة في أوائل شهر أبريل، ثم ما لبث مجلس المدينة الحاكم أن بدأ في إقالة مَن بقي من مؤيِّديه من مناصبهم في الحكومة. كان أحد أولئك الذين خسروا مناصبهم نتيجةً لذلك أليساندرو براتشيزي، رئيس الهيئة الاستشارية الدبلوماسية الثانية. في بادئ الأمر ظلَّ المنصب شاغرًا، لكن بعد تأخيرٍ دام لعدة أسابيع طُرِح اسم مكيافيللي، الذي لم يكن معروفًا تقريبًا، بصفته بديلًا محتمَلًا. في ذلك الوقت كان مكيافيللي يبلغ من العمر نحو تسعة وعشرين عامًا، وكان من الظاهر أنه لا يملك أيَّ خبرة إدارية سابقة، لكن ترشيحه لهذا المنصب لم يُواجِه أي صعوبة على ما يبدو، وفي التاسع عشر من يونيو صادَقَ المجلس النيابي حسب الأصول على تعيينه بمنصب المستشار الدبلوماسي الثاني لجمهورية فلورنسا.

fig1
شكل ١-١: قصر فيكيو بفلورنسا، حيث عمل مكيافيللي في الهيئة الاستشارية الدبلوماسية الثانية من عام ١٤٩٨ إلى عام ١٥١٢. (© Stephanie Colasanti/Corbis)

حينما الْتَحَقَ مكيافيللي بالهيئة الاستشارية الدبلوماسية، كانت هناك طريقة راسخة للتعيين في مناصب الهيئة الرئيسية؛ إذ كان على المسئولين الطامحين لشغل هذه المناصب أن يُعْطُوا أدلةً تُظهِر مهاراتهم الدبلوماسية، كما كان يتعيَّن عليهم أن يُظهِروا قدرًا كبيرًا من الكفاءة فيما يُعرَف بالتخصُّصات الإنسانية. استُمِدَّ مفهوم «الدراسات الإنسانية» هذا من أصول رومانية، لا سيما من شيشرون، الذي أحيا الفلاسفةُ الإنسانيون الإيطاليون مُثُلَه التربويةَ في القرن الرابع عشر، وصاروا يمارسون تأثيرًا قويًّا على الجامعات وعلى طبيعة الحياة العامة في إيطاليا. تميَّزَ الإنسانيون في المقام الأول بالتزامهم بنظرية خاصة تتمحور حول المكونات الصحيحة للتعليم «الإنساني الحقيقي». كانوا يطلبون من طلَّابهم أن يبدءوا بإجادة اللغة اللاتينية، ثم ينتقلوا إلى ممارسة الخطابة ومحاكاة أرفع الكُتَّاب الكلاسيكيِّين شأنًا، ثم يكملوا دراساتهم بقراءةٍ وافيةٍ للتاريخ القديم والفلسفة الأخلاقية. وقد أشاعوا أيضًا الاعتقاد الراسخ بأن هذا النوع من التدريب يشكِّل أفضلَ تأهيلٍ للحياة السياسية. كما دأب شيشرون على التأكيد مرارًا على أن هذه التخصُّصات تعزِّز القِيَم التي نحتاج إلى اكتسابها في المقام الأول من أجل أن نخدم بلادنا جيدًا، والتي تتمثَّل في الاستعداد لإعلاء الصالح العام على مصالحنا الخاصة، والرغبة في محاربة الفساد والاستبداد، والتطلُّع لبلوغ أنبل هدفين على الإطلاق؛ الشرف والمجد لبلادنا ولأنفسنا أيضًا.

ومع تزايُد استيعابِ الفلورنسيين لهذه المعتقدات، بدءوا يدعون كبار أساتذة العلوم الإنسانية إلى شغل أرفع المناصب المرموقة في حكومة المدينة، ويمكن القول إن هذه العادة قد بدأت مع تعيين كولوتشيو سالوتاتي مستشارًا عام ١٣٧٥، ثم سرعان ما أصبحَتِ القاعدةَ السائدةَ. خلال سنواتِ نشأةِ مكيافيللي، كان الشخص الذي يشغل منصب المستشار الأول هو بارتولوميو سكالا، الذي ظلَّ يعمل أستاذًا في الجامعة طوال حياته المهنية في المجال الحكومي، وظلَّ يكتب عن موضوعات إنسانية معتادة، وكانت أهم أعماله أطروحة أخلاقية وسردًا لأحداث «تاريخ الفلورنسيين». خلال عهد مكيافيللي نفسه في الهيئة الاستشارية الدبلوماسية، كان مارسيللو أدرياني، خليفةُ سكالا، مستمسكًا على نحوٍ يُثِير الإعجاب بالتقاليد نفسها؛ إذ كان هو أيضًا قد انتقَلَ من التدريس بالجامعة إلى منصب المستشار الأول، وظلَّ هو الآخَر ينشر أعمالًا بحثية في مجال العلوم الإنسانية، بما في ذلك كتاب دراسي عن تدريس اللغة اللاتينية، وأطروحة بالعامية «عن تعليم أشراف فلورنسا».

إن ذيوع هذه المُثُلِ يساعدنا على معرفة السبب في تعيين مكيافيللي في سنٍّ مبكرة نسبيًّا في موقع كبير المسئولية في إدارة الجمهورية؛ فرغم أن أفراد أسرته لم يكونوا أغنياء أو أرستقراطيين إلى حدٍّ كبير، كانت لهم صلات وثيقة ببعض أرفع أوساط أساتذة العلوم الإنسانية شأنًا في المدينة، وكان برناردو والد مكيافيللي، الذي كان يكسب عيشه من العمل محاميًّا، طالبًا متحمسًا للعلوم الإنسانية، وكان على علاقة وثيقة بعدة أساتذة مرموقين، منهم بارتولوميو سكالا، الذي اتخذَتْ أطروحته الصادرة عام ١٤٨٣ تحت عنوان «القوانين والأحكام القانونية» شكلَ حوارٍ بينه وبين مَن وصفه بقوله «صاحبي وصديقي الحميم»، برناردو مكيافيللي. يضاف لذلك أنه كان واضحًا من «يوميات» دوَّنَها برناردو بين عامي ١٤٧٤ و١٤٨٧ أنه طوال الفترة التي كان ابنه نيكولو يشبُّ فيها عن الطوق، كان منخرطًا في دراسة العديد من النصوص الكلاسيكية المهمة التي كان قد تأسَّسَ عليها مفهومُ عصر النهضة عن «العلوم الإنسانية»؛ فقد كتب يقول إنه استعار «فيليبيات» شيشرون عام ١٤٧٧، وأعظم أعماله الخطابية «الخطيب» عام ١٤٨٠، واستعار أيضًا «الواجبات» — وهي أهم أطروحات شيشرون الأخلاقية — عدة مرات خلال سبعينيات القرن الخامس عشر، بل إنه تمكَّنَ عام ١٤٧٦ من الحصول على نسخته الخاصة من «تاريخ ليفي»، وهو نفس النص الذي سيشكِّل، بعد مرور أربعين عامًا، إطارًا للكتاب الذي ألَّفَه ابنه بعنوان «المطارحات»، أطول أعمال مكيافيللي وأعلاها طموحًا عن الفلسفة السياسية.

يتَّضِح أيضًا من «يوميات» برناردو أنه كان حريصًا على أن يزوِّد ابنه بأساس ممتاز في «الدراسات الإنسانية»،1 على الرغم مما كان يتطلَّبه ذلك من نفقات باهظة، كان يسجِّل بنودها بقلق. تأتينا أولى أخبار تعليم مكيافيللي عقب عيد ميلاده السابع مباشَرةً، حينما كتب والده في يومياته يقول: «ابني الصغير نيكولو بدأ يذهب إلى الأستاذ ماتيو»؛ كي ينال المرحلة الأولى من تعليمه الرسمي؛ أي دراسة اللاتينية. وحينما بلغ مكيافيللي الثانية عشرة، تخرَّج من هذه المرحلة لينتقل إلى المرحلة الثانية، ليحظى بعناية مدرس شهير هو باولو دا رونشيليوني، الذي قام بالتدريس لعدد من ألمع أساتذة العلوم الإنسانية في جيل مكيافيللي. يذكر برناردو هذه الخطوة الإضافية في مذكراته التي بعنوان «يوميات» بتاريخ الخامس من نوفمبر عام ١٤٨١، عندما يعلن في فخر أن «نيكولو يستطيع الآن أن يكتب مؤلَّفات له باللغة اللاتينية»؛ عملًا بالأسلوب القياسي الإنساني المتمثِّل في محاكاة أفضل نماذج الأسلوب الكلاسيكي. أخيرًا، يبدو — إنْ كان لنا أنْ نثق بما رواه باولو جوفيو — أن مكيافيللي ابتُعِثَ لاستكمال تعليمه في جامعة فلورنسا. يذكر جوفيو في «المبادئ الأساسية» أن مكيافيللي «تلقَّى أفضل جزء» من تعليمه الكلاسيكي من مارسيلو أدرياني؛ وهو الشخص الذي — كما رأينا — كان يعمل أستاذًا في الجامعة لعدد من السنوات قبل تعيينه في منصب المستشار الأول.

هذه الخلفية الإنسانية ربما تنطوي على السبب الذي يفسِّر حصول مكيافيللي فجأةً على منصبه الحكومي في صيف عام ١٤٩٨. كان أدرياني قد تولَّى منصب المستشار الأول في وقت سابق من نفس العام، ومن ثَمَّ يبدو من المعقول أن نفترض أنه تذكَّرَ ما كان يتمتَّع به مكيافيللي من مواهب في العلوم الإنسانية، فقرَّرَ أن يكافِئَه وهو يملأ المناصب التي باتَتْ شاغرةً في الهيئة الاستشارية الدبلوماسية نتيجةً لتغيُّر النظام الحاكم. وبالتالي، من المرجَّح أن الانطلاقة التي وجد مكيافيللي نفسه يشهدها في حياته المهنية العامة في الحكومة الجديدة المناهِضة لسافونارولا، كانت بفضل محاباة أدرياني له، وربما أيضًا بفضل نفوذ أصدقاء والده برناردو من أساتذة العلوم الإنسانية.

البعثات الدبلوماسية

كان منصب مكيافيللي الرسمي يتطلَّب منه أداء نوعين من المهمات. فقد كانت الهيئة الاستشارية الدبلوماسية الثانية، التي أُنشِئت عام ١٤٣٧، تتعامل أساسًا مع المراسلات المتعلِّقة بإدارة أقاليم فلورنسا. لكن بينما كان مكيافيللي يرأس هذا القسم، كان يشغل أيضًا واحدًا من ستة مناصب سكرتارية للمستشار الأول، وبهذه الصفة جرى تكليفه بمهمة أخرى هي خدمة «لجنة العشرة لشئون الحرب»، المسئولة عن العلاقات الخارجية والدبلوماسية للجمهورية. كان هذا يعني أنه — بالإضافة إلى عمله المكتبي العادي — كان يمكن أن يُستدعَى للسفر إلى الخارج نيابةً عن لجنة العشرة، ويعمل سكرتيرًا لسفرائها، ويساعد في إرسال تقارير مفصلة إلى أرض الوطن عن الشئون الخارجية.

سنحَتْ له أول فرصة للمشاركة في مهمةٍ من هذا النوع في شهر يوليو عام ١٥٠٠، عندما جرى تكليفه هو وفرانشيسكو ديلا كازا بالذهاب «بأقصى سرعة ممكنة» إلى بلاط لويس الثاني عشر ملك فرنسا (ت د ٧٠). نشأ قرار إرسال هذه الهيئة الدبلوماسية من الصعوبات التي كانت فلورنسا تعانيها في الحرب ضد مدينة بيزا، وكان مواطِنُو بيزا قد تمرَّدوا عام ١٤٩٦، ونجحوا على مدى السنوات الأربع التالية في صدِّ جميع المحاولات الرامية لإخماد مطالبتهم بنيل الاستقلال. لكن في مطلع عام ١٥٠٠، وافَقَ الفرنسيون على مساعدة الفلورنسيين في استعادة المدينة، وبعثوا قوةً لفرض حصار عليها. لكن هذا أيضًا أفضى إلى نتيجة مفجعة؛ فقد فرَّ مرتزقة مقاطعة جاسكوني الذين استأجرتهم فلورنسا، وتمرَّدَ المساعدون السويسريون نتيجةً لعدم حصولهم على أجورهم مقابل مشاركتهم في الحرب، فلم يَعُدْ هناك بدٌّ من إلغاء الهجوم برمته على نحو مخزٍ.

كانت مهمة مكيافيللي الدبلوماسية تتمثَّل في «التأكيد على أن فشل هذا المشروع في تحقيق أي نتيجة لم يكن ناجمًا عن أي تقصير من جانبنا»، وفي الوقت نفسه «نقل الانطباع» أنه من الممكن أن يكون القائد الفرنسي قد تصرَّفَ «بفساد وجبن» (ت د ٧٢، ٧٤). لكن، كما تبيَّنَ له ولزميله ديلا كازا في أول لقاء لهما مع لويس الثاني عشر، لم يكن الملك لديه كثير اهتمام بما تقدِّمه فلورنسا من أعذار لتبرير إخفاقاتها السابقة، بل كان يودُّ أن يعرف نوعية المساعدة التي يمكن أن يتوقَّعها بواقعية في المستقبل من مثل هذه الحكومة، التي كان واضحًا أنها تدار على نحو سيئ، وقد حدَّد هذا اللقاءُ الطريقةَ التي تجري بها كافة حواراتهما اللاحقة مع لويس وكبار مستشاريه، فلوريموند روبيرتيه ورئيس أساقفة مدينة روان. كانت ثمرة ذلك أنه — على الرغم من أن مكيافيللي ظلَّ في البلاط الفرنسي ما يقرب من ستة أشهر — لم يتعلَّم من هذه الزيارة الكثير بشأن سياسات الفرنسيين، بقدر ما تعلَّم الكثير عن الموقف الملتبس لدول المدن الإيطالية.

كان أول درس تعلَّمَه هو أن الأجهزة الحكومية الفلورنسية، بالنسبة لأي شخص لديه علم بمسالك النظام الملكي الحديث، تبدو متذبذِبةً وضعيفةً على نحوٍ يثير السخرية. بحلول نهاية شهر يوليو باتَ واضحًا أن «السلطة الحاكمة» — أي مجلس المدينة الحاكم — قد يحتاج إلى إرسال بعثةٍ دبلوماسية أخرى كي تعيدَ التفاوُضَ على شروط التحالف مع فرنسا. ظل مكيافيللي طوال شهرَيْ أغسطس وسبتمبر في انتظار سماع أخبار تفيد بأن المبعوثين الجدد قد غادروا فلورنسا، وظلَّ يُطمئِنُ رئيس أساقفة مدينة روان بقوله إنه ينتظر وصولهم في أي لحظة. بحلول منتصف شهر أكتوبر، حينما كان الأفق لا يزال خاليًا من أي أماراتٍ على وصولهم، بدأ رئيس أساقفة روان يتعامَل مع هذه المراوغات المستمرة معاملةً تحمل ازدراءً صريحًا؛ فقد ذكر مكيافيللي، باغتمام واضح، أن رئيس الأساقفة «ردَّ بهذه الكلمات تحديدًا» عندما أكَّدَ له أن البعثة الموعودة في طريقها أخيرًا إلى فرنسا: «هذا ما تقوله أنتَ، لكن قبل وصول هؤلاء المبعوثين سنكون قد بتنا جميعًا في عداد الموتى» (ت د ١٦٨). الأمر الأكثر إذلالًا ومهانةً أن مكيافيللي اكتشف أن إحساس مدينته فلورنسا بأهميتها يبدو في نظر الفرنسيين منفصِلًا على نحوٍ يثير السخرية عن واقع مكانتها العسكرية وحجم ثرواتها. كان عليه أن يخبر «السلطة الحاكمة» أن الفرنسيين «لا يمنحون قيمةً إلا لأولئك المسلَّحِين تسليحًا جيدًا أو المستعدِّين لأن يدفعوا.» وتوصَّلَ إلى الاعتقاد بأن «هاتين الصفتين كلتيهما غائبتان في حالتكم.» وبرغم محاولاته أن يُلقِي على مسامع الملك خطبةً عصماء عن «الأمن الذي يمكن أن تضفيه عظمتكم على مستعمرات جلالة الملك في إيطاليا»، وجد أن «كل هذا غير مجدٍ»؛ إذ لم يكن من الفرنسيين إلا أن ضحكوا منه. الحقيقة المؤلمة التي يعترف بها هي: «أنهم يطلقون عليك السيد لا شيء» (ت د ١٢٦).

وعى مكيافيللي أول هذه الدروس بشدة آخِذًا إياها بجدية؛ وكتاباته السياسية الناضجة حافِلة بالتحذيرات من حماقة المماطلة، وخطورة الظهور بمظهر متردِّد، وضرورة اتخاذ إجراء جريء وسريع في الحرب وفي السياسة على حدٍّ سواء. لكنه رأى جليًّا أن من المستحيل قبول التأثير المترتِّب على ذلك، والمتمثِّل في ألا يكون هناك مستقبل لدول المدن الإيطالية؛ فظل يضع نظريات عن ترتيباتها العسكرية والسياسية، مفترضًا أنها لا تزال قادرةً بالفعل على التعافي والحفاظ على استقلالها، حتى بالرغم من أن فترة حياته شهدت خضوعَها النهائي والتام لقوًى أكثر تفوُّقًا منها بكثير، وهي فرنسا وألمانيا وإسبانيا.

انتهت البعثة إلى فرنسا في ديسمبر عام ١٥٠٠، وهرع مكيافيللي إلى أرض الوطن بأقصى سرعة ممكنة. كانت المنية قد وافَتْ شقيقته بينما كان في الخارج، ووافَتْ والده قبل سفره بوقت قصير، ونتيجة لذلك (كما اشتكى للسلطة الحاكمة) «لم يَعُدْ من الممكن على الإطلاق رعاية» شئون أسرته (ت د ١٨٤). كان يحمل أيضًا مخاوف بشأن وظيفته، فقد اتصل به مساعده أجوستينو فيسبوتشي في نهاية شهر أكتوبر، ونقل له شائعةً مَفادُها «إذا لم تَعُدْ أدراجك، فسوف تفقد مكانك في البعثة الدبلوماسية» (م ٦٠). أيضًا، بعد ذلك بوقت قصير، بات لدى مكيافيللي سبب آخَر يدفعه لأن يرغب القرب من فلورنسا: وهو تودُّده إلى ماريتا كورسيني، التي تزوَّجَ منها في خريف عام ١٥٠١. تظل ماريتا شخصيةً غامضةً في قصة مكيافيللي، لكن رسائله تشير إلى أنه لم يتوقَّف قطُّ عن حبِّه لها طيلة حياته، بينما أنجبت هي له ستة أطفال، ويبدو أنها احتملت خياناته في صبر، وعمرَتْ بعده في نهاية المطاف ربع قرن.

خلال العامين التاليين، اللذين قضى مكيافيللي أغلبهما داخل فلورنسا وبالقرب منها، باتَتِ «السلطة الحاكمة» قلقةً من صعود قوة عسكرية جديدة وتهديدية على حدودها؛ هي قوة شيزاري بورجا. كان بورجا قد نُصب دوقًا لرومانيا من قِبَل والده البابا ألكسندر السادس في أبريل من عام ١٥٠١، ولم يلبث أن أطلق سلسلةً من الحملات الجريئة بهدف أن يقتطع لنفسه إقليمًا يليق بلقبه الجديد والرنان؛ فاستولى أولًا على مدينة فاينسا، وضرب حصارًا على مدينة بيومبينو، التي دخلها في شهر سبتمبر عام ١٥٠١. بعد ذلك أشعل مساعدوه نار التمرد في مدينة فال دي تشيانا ضد فلورنسا في ربيع عام ١٥٠٢، في حين زحف بورجا نفسه شمالًا واستولى على دوقية أوربينو في «انقلاب» خاطف كالبرق. ولما بات بورجا مزهوًّا بهذه النجاحات، طلب بعد ذلك أن يتحالف رسميًّا مع الفلورنسيين، وطلب أن يُرسَل إليه مبعوث خاص ليسمع شروطه، وكان الرجل الذي وقع عليه الاختيار لهذه المهمة الحساسة هو مكيافيللي، الذي كان قد الْتَقَى بورجا في أوربينو. أسندت المهمة لمكيافيللي في الخامس من أكتوبر عام ١٥٠٢، وقدَّمَ نفسه للدوق بعد ذلك بيومين في مدينة إيمولا.

تُعَدُّ هذه المهمة بدايةَ أهمِّ فترةٍ شكَّلت حياةَ مكيافيللي المهنية الدبلوماسية، وهي الفترة التي كان قادرًا فيها على لعب أكثر دور سرَّه على الإطلاق، هو دور مراقِب ومقيِّم مباشِر للطريقة التي تُدَار بها شئون الحكم المعاصر. كانت هذه أيضًا هي الفترة التي توصَّلَ فيها إلى أحكام قاطعة عن معظم الزعماء الذين كان بوسعه أن يراقِب سياساتهم خلال مرحلة تشكُّلها. كثيرًا ما يقال إن كتاب مكيافيللي «التمثيل الدبلوماسي» لا يحوي سوى «مواد خام» أو «مسودات تمهيدية» لآرائه السياسية التي طرحها فيما بعدُ، وأنه نقَّحَ ملاحظاته في وقت لاحق وهذَّبها خلال سنوات تقاعُدِه الجبري. لكن كما سنرى، تكشف دراسةٌ أُجرِيت عن «التمثيل الدبلوماسي» أن آراء مكيافيللي — وحتى ما أُثِر عنه من أقوال — قد خطرت له لحظيًّا في أغلب الأحيان، ثم أُدرِجت فيما بعدُ، دونما تغيير، في صفحات كتاب «المطارحات» وكتاب «الأمير» خاصةً.

استمرت بعثة مكيافيللي إلى بلاط بورجا نحو أربعة أشهر، أجرى خلالها العديد من المحادثات الثنائية مع الدوق، الذي كان يبدو أنه يبذل قصارى جهده كي يجلي حقيقة سياساته وما تنطوي عليه من طموحات. كان هذا محطَّ إعجابٍ عظيم من جانب مكيافيللي؛ فقد ذكر أن الدوق «يتمتع بشجاعة فائقة»، فضلًا عن كونه رجلًا ذا خطط عظيمة، «يظن أنه قادر على بلوغ أي شيء يريده» (ت د ٥٢٠)، علاوة على أن أفعاله لا تقلُّ إدهاشًا عن أقواله؛ لأنه «يراقب كل شيء بنفسه»، ويحكم «في تكتُّم بالغ»، ومن ثَمَّ لديه القدرة على اتخاذ القرار وتنفيذ خططه «بسرعة مبهرة» (ت د ٤٧٢، ٥٠٣). باختصار، أدرك مكيافيللي أن بورجا ليس مجرد قائد مُحدَث نعمة لمجموعة من المرتزقة، وإنما شخص «لا بد أن يُنظَر إليه الآن باعتباره قوةً جديدة في إيطاليا» (ت د ٤٢٢).

وما إن وصلَتْ هذه الملاحظات، التي كانت قد أُرسِلت سرًّا إلى «لجنة العشرة لشئون الحرب»، حتى صارت منذ ذلك الحين محلَّ شهرة واسعة؛ لأنها تكاد تتكرر كلمةً كلمةً في الفصل السابع من كتاب «الأمير». فمكيافيللي إذ يستعرض سيرة بورجا، يؤكِّد من جديد على شجاعة الدوق الفائقة وقدراته الاستثنائية ووضوح أهدافه (٣٣-٣٤). وهو أيضًا يُعرِب ثانية عن رأيه بأن بورجا ليس أقلَّ إبهارًا عندما ينفِّذ مخططاته؛ فقد «استخدم كل الوسائل والإجراءات الممكنة» كي «يمد جذوره»، ونجح في إرساء «أسس متينة لسلطته في المستقبل» في زمن بالغ القِصَر إلى حدٍّ سيجعله، ما لم يجانبه حظُّه، «يتمكَّن من التغلُّب على أي صعوبة» (٢٩، ٣٣).

لكن رغم أن مكيافيللي أبدى إعجابَه بسمات بورجا القيادية، فقد شعر بشيء من عدم الارتياح منذ بادئ الأمر فيما يتعلَّق بثقة الدوق المذهلة بنفسه؛ ففي أكتوبر من عام ١٥٠٢ كتب من إيمولا يقول: «طوال الوقت الذي أمضيته هنا، لم يكن حكم الدوق قائمًا على أي شيء أكثر من حظه الجيد» (ت د ٣٨٦). وبحلول بداية العام التالي، كان يتحدَّث في استنكار متزايد عن حقيقة أن الدوق كان لا يزال مقتنعًا باعتماده على ما يتمتع به من «حسن حظٍّ غير مسبوق» (ت د ٥٢٠). وبحلول أكتوبر ١٥٠٣، عندما كان مكيافيللي مبعوثًا في مهمة دبلوماسية إلى روما، ونال ثانيةً فرصةَ مراقَبةِ بورجا عن كثب، تبلورت شكوكه السابقة وصارت شعورًا قويًّا بمحدودية ما يتمتع به الدوق من قدرات.

كان الغرض الرئيسي من رحلة مكيافيللي إلى روما أن يُعِدَّ تقريرًا عن أزمة طارئة كانت قد ظهرت في البلاط البابوي. كان البابا ألكسندر السادس قد توفي في شهر أغسطس، وكان خليفته بيوس الثالث قد توفي هو الآخَر بعد شهر من تولِّيه منصب البابوية، وكانت الحكومة الفلورنسية حريصة على أن تتلقى نشرات يومية عمَّا كان من المرجح أن يحدث بعد ذلك، لا سيما بعد أن حوَّل بورجا ولاءه ووافَقَ على أن يدعم ترشيح الكاردينال جوليانو ديلا روفيري؛ إذ بدا أن هذا التطور يمكن أن يشكِّل تهديدًا لمصالح فلورنسا؛ لأن دعم الدوق بورجا جرى شراؤه مقابل وعد بأنه سيُعين قائدًا عامًّا للجيوش البابوية حال انتخاب روفيري، وبدا من المؤكد أن بورجا، في حال حصوله على هذا المنصب، سيبدأ سلسلةً جديدة من الحملات المعادية على حدود إقليم فلورنسا.

ولهذا تُركِّز أولى برقيات مكيافيللي على اجتماع مجمع انتخاب البابا، الذي انتُخِب فيه روفيري «بأغلبية هائلة» واتخذ اسم يوليوس الثاني (ت د ٥٩٩). لكن ما إن انتهى هذا الأمر، حتى تحوَّلَ انتباه الجميع إلى الصراع الذي بدأ يندلع بين بورجا والبابا. وبينما كان مكيافيللي يراقب محترفي النفاق هذين وهما يتأهَّبان للتقاتل، أدرك أن شكوكه المبدئية في قدرات الدوق كانت في محلها تمامًا.

فقد أحسَّ أن بورجا كان يفتقر إلى بُعْد النظر؛ لأنه لم يتمكَّن من رؤية المخاطر التي ينطوي عليها تحوُّله إلى دعم روفيري. وذكَّر «لجنة العشرة» بأن الكاردينال روفيري كان قد أُجبِر على «أن يعيش في المنفى لعشر سنوات» حينما كان ألكسندر السادس، والد الدوق بورجا، يشغل منصب البابوية. وأضاف أنه من المؤكد أن روفيري «لا يمكن أن ينسى هذا الأمر بهذه السرعة» بحيث يشعر الآن باستحسان حقيقي إزاء تحالُفٍ مع ابن عدوه (ت د ٥٩٩). لكن أكثر انتقادات مكيافيللي أهميةً كانت تتمثَّل في أنه حتى في هذه الحالة الملتبسة والمحفوفة بالمخاطر، ظلَّ بورجا يعتمد اعتمادًا متعجرفًا على رصيده الدائم من حُسْن الحظ. في البداية ذكر مكيافيللي ببساطة، في شيء من الاندهاش الواضح، أن «الدوق ينجرف وراء ثقته الهائلة» (ت د ٥٩٩). وبعد مرور أسبوعين، عندما لم تكن بعثة بورجا البابوية قد وصلت بعدُ، وكانت مستعمراته في رومانيا قد بدأت تتمرد على نطاق واسع، كتب مكيافيللي يقول بأسلوب يحمل مزيدًا من الانتقاد، إن الدوق «فقد صوابه» بفعل «ضربات القدر اللاذعة، التي لم يَعْتَدْ مذاقها» (ت د ٦٣١). وبحلول نهاية الشهر، انتهى مكيافيللي إلى أن سوء حظ بورجا قد سلبه شجاعته تمامًا إلى حدٍّ جعله أصبح عاجزًا عن أن يحتفظ بحسمه بشأن أي قرار، وفي السادس والعشرين من نوفمبر شعر مكيافيللي أن بوسعه أن يُطمئِن «لجنة العشرة» بقوله: «بوسعكم من الآن فصاعدًا أن تتصرفوا دون حاجة للتفكير فيه بعد الآن» (ت د ٦٨٣). وبعد أسبوع تعرَّضَ لأحوال بورجا للمرة الأخيرة، بمجرد الإشارة إلى «الدوق ينزلق شيئًا فشيئًا نحو حتفه» (ت د ٧٠٩).

وكما حدث من قبلُ، نالت هذه الأحكام السرية على شخصية بورجا شهرةً منذ ذلك الحين، من خلال إدماجها في الفصل السابع من كتاب «الأمير»، حيث يكرِّر مكيافيللي أن الدوق بدعمه «انتخاب يوليوس لمنصب البابوية» قد «أساء الاختيار»؛ لأنه «لم يكن ينبغي له إطلاقًا أن يدع البابوية تذهب إلى أي كاردينال نال منه أذًى» (٣٤). وكان يعاود الإشارة إلى اتهامه الأساسي للدوق، وهو اعتماده إلى حدٍّ كبير على حظه، فبدلًا من أن يواجِه الدوق الاحتمال القائم بأنه قد يتلقَّى في مرحلة ما «ضربةً ماكرة من ضربات القدر»، انهارَ بمجرد أن حدث هذا (٢٩). ورغم الإعجاب الذي كان مكيافيللي يكنُّه لبورجا، كان حكمه النهائي عليه — الوارد في كتاب «الأمير» بقدر وروده في كتاب «التمثيل الدبلوماسي» — متناقضًا مع هذا الإعجاب؛ إذ يقول إن بورجا: «نال منصبه بفضل حظ والده» وخسره بمجرد أن جانبه الحظ (٢٨).

القائد المؤثِّر التالي الذي أتيحت لمكيافيللي فرصة أن يقيِّمه عن كثب هو البابا الجديد يوليوس الثاني. كان مكيافيللي حاضرًا لعدة لقاءات وقت انتخاب يوليوس، لكنه لم يَنَلِ القدْر الأوفى من فهم شخصية البابا وقيادته إلا خلال بعثتين لاحقتين له كانت أُولَاهما عام ١٥٠٦، عندما عاد مكيافيللي بين شهرَيْ أغسطس وأكتوبر إلى البلاط البابوي. كانت مهمته في تلك المرحلة أن يحيط الحكومة الفلورنسية علمًا بالتقدم المحرز فيما وضعه يوليوس من خطة هجومية في الأغلب لاسترداد بيروجا وبولونيا، وغيرها من الأقاليم التي كانت ملكًا للكنيسة من قبلُ. تسنَّتِ الفرصةُ الثانية عام ١٥١٠، عندما جرى إرسال مكيافيللي في بعثة دبلوماسية جديدة إلى بلاط فرنسا. بحلول ذلك الوقت كان يوليوس قد عقد العزم على شنِّ حملة صليبية كبيرة لإجلاء البربر عن إيطاليا، وهو مطمح وضع الفلورنسيين في موقف حرج؛ فهم لم تكن لديهم رغبة في تكدير الحالة المزاجية للبابا التي تزداد ولعًا بالقتال، لكنهم من ناحية أخرى كانوا حلفاء تقليديين للفرنسيين، الذين سرعان ما سألوا الفلورنسيين عن ماهية المساعدة التي يمكن أن ينالوها منهم إذا قرَّرَ البابا غزو دوقية ميلانو، التي كان لويس الثاني عشر قد استعادها في العام السابق. ومن ثَمَّ، كما حدث عام ١٥٠٦، وجد مكيافيللي نفسه يراقب في قلق ما تحقِّقه حملات يوليوس من تقدُّم، بينما يأمل ويخطِّط في الوقت نفسه للمحافظة على حيادية فلورنسا.

ظهر انبهار مكيافيللي — بل ذهوله أيضًا — في بادئ الأمر وهو يراقب البابا المحارب في ميدان المعركة. كان يرى في البداية أن خطة يوليوس لإعادة غزو الولايات البابوية لا بد أن تفضي إلى كارثة؛ فكتب يقول في سبتمبر من عام ١٥٠٦ إنه «ما من أحد يعتقد» أن البابا «سوف يتمكَّن من تحقيق ما كان يريده في الأصل» (ت د ٩٩٦)، لكنه اضطر إلى التراجع عما قاله بين عشية وضحاها؛ فقد دخل يوليوس قبل حلول نهاية الشهر بيروجا مجدَّدًا و«فرغ من أمرها»، وقبل أن ينقضي شهر أكتوبر وجد مكيافيللي نفسه ينهي مهمته بتصريح حاسم أفاد بأن بولونيا استسلمت، على إثر حملة خاطفة، دون قيد أو شرط، وأن «سفراءها طلبوا العفو من البابا وسلموا له مدينتهم» (ت د ٩٩٥، ١٠٣٥).

لكن لم يمضِ وقت طويل حتى بدأ مكيافيللي يبدي لهجة أكثر انتقادًا، لا سيما بعد أن اتخذ يوليوس القرار الخطير بأن يطلق قوَّاته الهزيلة في مواجهة قوة فرنسا عام ١٥١٠. في بادئ الأمر، اكتفى بالتعبير ساخرًا عن أمله في أن تكون جرأة يوليوس «قائمة على أساس آخَر غير قداسته» (ت د ١٢٣٤)، لكنه سرعان ما بات يكتب بلهجة أكثر جديَّةً قائلًا إنه «لا أحد هنا يعرف يقينًا ما الأساس الذي تستند إليه تصرفات البابا»، وأردف يقول إن سفير يوليوس نفسه يصرِّح بأنه «في غاية الذهول» من هذه المغامرة برمتها؛ لأنه «يشك إلى حدٍّ كبيرٍ في أن يكون البابا يملك حقًّا المواردَ أو التنظيمَ» اللازم للشروع فيها (ت د ١٢٤٨). لم يكن مكيافيللي على استعداد بعدُ لأن يُدِينَ يوليوس صراحةً؛ لأنه كان لا يزال يظن أنه من المعقول، «كما حدث في الحملة ضد بولونيا»، أن تعمل «جرأة البابا وسلطته الهائلتان» على تحويل اندفاعه الجنوني إلى نصر غير متوقَّع (ت د ١٢٤٤). لكنه في الأساس بدأ يشعر بانزعاج بالغ، وصار يكرِّر في رثاء واضح ملاحظةً لروبيرتيه مفادها أن يوليوس على ما يبدو «قد كلَّفَه القدير بأن يدمِّر العالم» (ت د ١٢٧٠)، وأضاف في وقار غير معتاد أن البابا بالفعل «يبدو عازمًا على تدمير الديانة المسيحية وإتمام انهيار إيطاليا» (ت د ١٢٥٧).

هذه الإفادة عن سيرة البابا تظهر ثانيةً دون تغيير تقريبًا في صفحات كتاب «الأمير»؛ إذ يعترف مكيافيللي أولًا أنه على الرغم من أن يوليوس «كان مندفعًا في جميع أموره»، إلا أنه كان «يحقِّق نجاحًا دائمًا»، حتى في أكثر مغامراته استحالةً. لكنه يستطرد مجادِلًا بأن هذا لم يكن إلا لأن «العصر وظروفه» كانا «مواتيين للغاية لطريقته الخاصة في التصرف»؛ وذلك لأنه لم يضطر قطُّ لأن ينال ما يستحقه من عقاب على تهوُّره. ورغم ما حقَّقَه البابا من نجاحات مذهلة، يشعر مكيافيللي أنه محقٌّ تمامًا في الموقف السلبي الذي يتخذه من أسلوب حكمه. صحيح أن يوليوس «حقَّق باندفاعه ما لم يكن يستطيع أي بابا آخَر — يتحلَّى بأقصى قدر من الحصافة الإنسانية — أن يحقِّقَه»، لكن «قِصَر حياته» فقط هو السبب فيما لدينا من انطباع بأنه كان بالضرورة قائدًا عظيمًا من البشر؛ «فلو كانت أتَتْ عليه أوقات يتعيَّن عليه فيها أن يتصرَّف بحذر، لتسببت في سقوطه؛ لأنه لم يكن قطُّ لينحرف كثيرًا عن الأساليب التي يميل إليها بسليقته» (٩١-٩٢).

في الفترة الواقعة بين بعثته إلى بلاط البابوية عام ١٥٠٦ وعودته إلى فرنسا عام ١٥١٠، ذهب مكيافيللي في مهمة أخرى خارج إيطاليا، تمكَّنَ خلالها من تقييم حاكم بارز آخَر عن قرب، هو ماكسيميليان، الإمبراطور الروماني المقدَّس. كان قرار الحكومة الفلورنسية بإرسال هذه البعثة قد نبع من قلقها بشأن خطة الإمبراطور الرامية للزحف إلى إيطاليا وتتويج نفسه حاكمًا لروما. فحينما أعلن نيته هذه، طلب دعمًا كبيرًا من الفلورنسيين بهدف مساعدته في التغلُّب على ما يعانيه من قلة دائمة في الموارد. شعرَتِ «السلطة الحاكمة» بالرغبة في إسداء هذا المعروف له إذا كان قادمًا حقًّا، وفي عدم فعل ذلك إذا لم يكن قادمًا بالفعل. فهل كان سيأتي بحق؟ في يونيو من عام ١٥٠٧ جرى إيفاد فرانشيسكو فيتوري لمعرفة الجواب، لكنه أتى بتصريحات محيِّرَة بدرجةٍ جعلت الحكومة ترسل وراءه مكيافيللي بتعليمات إضافية بعد ستة أشهر. ظلَّ كلا الرجلين في البلاط الإمبراطوري حتى يونيو من العام التالي، حينما جرى إلغاء هذه البعثة المقترحة.

كانت ملاحظات مكيافيللي بشأن كبير أسرة هابسبورج الحاكمة تخلو من الفوراق أو المؤهلات المميزة التي تضمنها وصفه لشيزاري بورجا ويوليوس الثاني. إجمالًا، ترك الإمبراطور لدى مكيافيللي انطباعًا بأنه حاكِم أخرق تمامًا، يكاد لا يتمتع بأيٍّ من المؤهلات المناسبة لإدارة حكومة ناجحة، ورأى مكيافيللي أن نقيصته الأساسية تتمثَّل في نزوعه إلى أن يكون «متراخيًا وساذجًا إلى أقصى حد»، الأمر الذي جعله «قابلًا دائمًا لأن يتأثَّر بكل رأي مختلف» يُطرَح عليه (ت د ١٠٩٨-١٠٩٩)، وهذا يجعل إجراء المفاوضات أمرًا مستحيلًا؛ لأنه حتى عندما يبدأ في اتخاذ قرار في أمرٍ ما — مثل الحملة إلى إيطاليا — يظلُّ بمقدور المرء أن يقول إن «الرب وحده يعلم إلامَ سينتهي» (ت د ١١٣٩). علاوةً على أن هذا يعمل على إضعاف قيادته على نحوٍ يتعذَّر علاجه؛ لأنه يجعل الجميع في «حيرة لا تنقطع»، و«دون أن يعرف أحد مطلقًا ما سيفعله» (ت د ١١٠٦).

وتصوير مكيافيللي للإمبراطور في كتاب «الأمير» يعكس إلى حدٍّ كبير هذه الأحكام السابقة؛ فالإمبراطور ماكسيميليان محل نقاش في الفصل الثالث والعشرين، الذي كان موضوعه يدور حول حاجة الأمراء للإصغاء إلى النصائح الجيدة. يتناول مكيافيللي سلوك الإمبراطور باعتباره قصةً تحذيريةً عن مخاطر عدم التعامل مع المستشارين بحزم كافٍ. يُوصَف ماكسيميليان بأنه «لين العريكة» جدًّا إلى حدِّ أنه إذا حدث و«أصبحت خططه معروفة على الملأ» ثم «رُفِضت من جانب المحيطين به»، فإن هذا الرفض يُثنِيه عن عزمه تمامًا إلى حدِّ أنه «يتراجع عن هذه الخطط» على الفور، وهذا لا يؤدي فقط إلى إصابة المرء بالإحباط من التعامل معه، نظرًا لأنه «لا أحد يدري على الإطلاق ما يرغب أو ينوي فعله»، بل إن هذا الأمر يجعله أيضًا حاكمًا غير كفء؛ لأنه «من المستحيل الاعتماد» على أي قرارات يتخذها، ولأن «ما يفعله في يوم يدمره في اليوم التالي» (٨٧).

دروس الدبلوماسية

بحلول الوقت الذي انتهى فيه مكيافيللي إلى تسجيل أحكامه النهائية على الحكام ورجال الدولة الذين قابلهم، كان قد توصَّل إلى استنتاج مفاده أنهم جميعًا أساءوا فهم درس واحد بسيط لكنه أساسي، الأمر الذي أسْفَرَ عن فشلهم عمومًا في خططهم، أو نجاحهم بخلاف ذلك بفضل الحظ وليس الحكم السياسي الرشيد. كانت النقيصة الأساسية التي شابَتْهم جميعًا تتمثَّل في افتقار مهلك إلى المرونة في مواجهة الظروف المتغيرة؛ فقد كان شيزاري بورجا في كل الأوقات مفرطًا في الزهو بثقته في نفسه، وكان ماكسيميليان دائمًا حَذِرًا ومفرط التردد، وكان يوليوس الثاني دائمًا متهورًا ومفرط الحماس. إنَّ ما لم يشاءوا جميعًا أن يعترفوا به هو أنه كان بإمكانهم تحقيق نجاحات أكثر بكثير لو أنهم عملوا على تعديل شخصياتهم بما يتواءم مع مقتضيات العصر، بدلًا من أن يحاولوا إعادة تشكيل عصورهم في القالب الذي يلائِم شخصياتهم.

في نهاية المطاف وضَعَ مكيافيللي هذا الحكم محورًا لتحليله عن القيادة السياسية في كتاب «الأمير»، لكنه كان قد سجَّلَ هذا الرأي لأول مرة قبل ذلك بكثير، إبَّان عمله كدبلوماسي نَشِط. يضاف إلى ذلك أنه يتضح من كتابه «التمثيل الدبلوماسي» أن هذا التعميم طرأ بباله في البداية ليس نتيجة تأملاته الخاصة بقدر ما هو نتيجة استماعه إلى وجهات نظر اثنين من أبرع السياسيين الذين احتكَّ بهم، ثم تفكَّرَ فيها لاحقًا. فأول ما تبيَّنَ له هذا الأمر كان في يوم انتخاب يوليوس الثاني لمنصب الكرسي البابوي؛ إذ وجد مكيافيللي نفسه منساقًا في حوار مع فرانشيسكو سوديريني، كاردينال مدينة فولتيرا وشقيق بييرو سوديريني، زعيم حكومة فلورنسا. فأكَّدَ له الكاردينال أنه «لم يحدث منذ سنوات عديدة أن علَّقت مدينتنا كل هذا القدر من الآمال على أي بابا جديد، بقدر ما علَّقت آمالًا على البابا الحالي.» وأضاف قائلًا: «ليت المرء يتعلم كيف يتكيَّف مع العصر» (ت د ٥٩٣). بعد ذلك بعامين، واجَهَ مكيافيللي نفسَ الرأي أثناء التفاوض مع باندولفو بيتروتشي، سيد مدينة سيينا، الذي سيذكره فيما بعدُ بإعجاب في كتاب «الأمير» على اعتبار أنه «رجل بارع جدًّا» (٨٥). كان مكيافيللي قد فُوِّض من «السلطة الحاكمة» الفلورنسية بأن يستنطق باندولفو عن أسباب «كل الحيل والمكائد» التي انطوت عليها تعاملاته مع فلورنسا (ت د ٩١١)، فردَّ باندولفو في وقاحةٍ يبدو أنها أبهرت مكيافيللي كثيرًا؛ حيث قال: «لأنني أرغب في أن أقلِّل أخطائي قدر الإمكان، أدير أمور حكومتي يومًا بيوم، وأرتِّب شئوني ساعةً بساعة؛ لأن الزمن أشد قوةً من عقولنا» (ت د ٩١٢).

رغم أن تصريحات مكيافيللي عن حكَّام عصره يغلب عليها حدة النقد، سيكون من قبيل التضليل أن نستنتج أنه اعتبر أن كامل ما سجَّله عن إدارة شئون الدولة في زمنه لم يتجاوز كونه سردًا لتاريخ جرائم وحماقات ومحن؛ فهو في عدة مناسبات من حياته الدبلوماسية كان قادرًا على أن يراقِب كيفيةَ مواجهة مشكلة سياسية ما وحلها بطريقة لا تستدعي إعجابه المطلق فحسب، بل تؤثِّر أيضًا تأثيرًا واضحًا على نظرياته عن القيادة السياسية. وقد وقعَتْ إحدى هذه المناسبات عام ١٥٠٣، أثناء صراع الذكاء الممتد الذي دار بين شيزاري بورجا والبابا؛ فقد خُلب لب مكيافيللي وهو يرى كيف يتغلَّب يوليوس على المأزق الذي أحدثه حضور الدوق في البلاط البابوي. وكما ذكَّر «لجنة العشرة» فإن «الكراهية التي طالما حملها قداسته دائمًا» لبورجا «لا تخفى على أحد»، لكن هذا لا يكاد يغيِّر حقيقة أن بورجا كان «عونًا له أكثر من أي شخص آخَر» في ضمان انتخابه، الأمر الذي جعل البابا يقطع «للدوق عددًا هائلًا من الوعود» (ت د ٥٩٩). بَدَتِ المشكلة مستعصيةً على الحل؛ إذ كيف كان يمكن ليوليوس أن يأمل في نيل أي قدر من حرية التصرُّف من دون أن يحنث بوعده المقدس؟

لكن كما اكتشف مكيافيللي سريعًا، كان الرد على هذا السؤال على مرحلتين بسيطتين استهدفَتَا كسر شوكة الدوق؛ فقد كان يوليوس قبل ترقيته حريصًا على أن يؤكِّد أن «كونه رجلًا على قدر عظيم من حسن النية» يجعله مُلزَمًا تمام الالتزام بأن «يظل على صلة» ببورجا «من أجل أن يَفِي بوعده له» (ت د ٦١٣، ٦٢١). لكنه بمجرد أن أحسَّ بالأمان، أخلف على الفور كل ما قدَّمه له من وعود، فلم يكتفِ بحرمان الدوق من لقبه وقواته، بل أيضًا ألقى القبض عليه وسجنه في القصر البابوي؛ وهذا جعل مكيافيللي يكاد لا يقدر على أن يكتم دهشته بهذا الانقلاب وإعجابه به في ذات الوقت، فهو يقول متعجبًا: «انظروا الآن كيف يشرع هذا البابا في سداد ديونه بأمانة، إنه ببساطة يلغيها من خلال شطبها.» ويضيف لافتًا النظر لدلالة الأمر أنه ما من شخص يرى أن البابوية أُهِينت ولحق بها العار، بل على العكس، «لا يزال الجميع يحمل نفس القدر من الحماس» لأن يدعو «بُوركَتْ يدا البابا» (ت د ٦٨٣).

عند وقوع هذا الحدث شعر مكيافيللي بأن بورجا خيَّب ظنَّه إذ سمح لنفسه بأن ينخدع على هذا النحو المدمِّر، فعبَّر عن ذلك بقوله إن الدوق كان يتعيَّن عليه ألا يفترض أن بإمكانه «أن يعول على كلام أي شخص آخَر أكثر من كلامه هو» (ت د ٦٠٠). ومع ذلك، كان بورجا دون شك هو أكثر حاكم أحسَّ مكيافيللي أنه يتعلَّم من مراقبته له وهو يعمل، وحدث في مناسبتين أخريين أن حَظِي مكيافيللي بفرصة مراقبته وهو يواجِه أزمةً خطيرةً، ويتغلَّب عليها في قوة وثبات أكسباه كاملَ احترام مكيافيللي.

أولى هاتين المناسبتين الطارئتين حدثت في ديسمبر عام ١٥٠٢، عندما تفجَّرَ غضب أفراد شعب رومانيا فجأةً إزاء الأساليب القمعية التي استخدمها نائب بورجا، ريميرو دي أوركو، في تهدئة الأوضاع في الإقليم في العام السابق. والحقيقة أن ريميرو لم يفعل ذلك إلا تنفيذًا لأوامر الدوق، ونجح فيه نجاحًا لافتًا للانتباه، ورفع المنطقة برمتها من الفوضى إلى الحكم الرشيد، لكن قسوته أثَارَتْ قدرًا عظيمًا من الكراهية عرَّض استمرار استقرار الإقليم للخطر. ماذا فعل بورجا؟ أظهَرَ الحلُّ الذي استخدَمَه قدرةً عجيبة على التحرك السريع، وهي سمة عكسها مكيافيللي فيما رواه عن هذا الحدث. جرى استدعاء ريميرو إلى «إيمولا»، وبعد أربعة أيام «عُثِر عليه في الساحة العمومية، مقطوعًا إلى نصفين، حيث لا تزال جثته ملقاة، على نحو أتاح للعامة برمتهم أن يروها.» أضاف مكيافيللي قائلًا: «لقد كان من دواعي سرور الدوق أن يُظهِر أنه يستطيع صُنْع الرجال وتحطيمهم كيفما يشاء، وفقًا لما يستحقونه» (ت د ٥٠٣).

النقطة الأخرى التي أثار بها بورجا إعجاب وذهول مكيافيللي كانت تتعلق بالتعامل مع الأزمات العسكرية التي طرأت في رومانيا في نفس الوقت تقريبًا. في بادئ الأمر كان الدوق مضطرًّا للاعتماد على لوردات المنطقة غير ذوي الشأن باعتبارهم الدعم العسكري الرئيسي له، لكن في صيف عام ١٥٠٢ بات واضحًا أن قادتهم — لا سيما من عائلتَي أورسيني وفيتِللي — لم يكونوا فقط غير جديرين بالثقة، بل كانوا أيضًا يتآمَرون ضده. فماذا ينبغي له أن يفعل؟ كانت أولى تحركاته أن تخلَّصَ منهم ببساطة عن طريق التظاهر بالتصالح معهم، حيث استدعاهم للقائه في مدينة سينيجاليا، ثم أجهز عليهم «جملة واحدة». وللمرة الأولى والأخيرة فقَدَ مكيافيللي رباطة جأشه المتعمَّدة وهو يصف هذه المناورة، ويعترف بأنه «مندهش أشدَّ الاندهاش من هذا التطور» (ت د ٥٠٨). بعد ذلك، قرَّرَ بورجا أنه يجب ألا يستفيد في المستقبل أبدًا من حلفاء خونة كهؤلاء، وإنما يجب عليه أن يؤسِّس قواته الخاصة. يبدو أن هذه السياسة — التي لم يَكَدْ أحدٌ يسمع بها في هذا الوقت الذي كان جميع أمراء إيطاليا تقريبًا يستخدمون فيه مرتزقة مأجورين في حروبهم — بدت لمكيافيللي على الفور باعتبارها خطوة استثنائية تتسم ببُعْد النظر؛ فهو يروي في استحسان واضح أن الدوق لم يقرِّر فقط أن يكون «أحد الأسس التي يبني عليها قوته هي أسلحته الخاصة» من الآن فصاعدًا، لكنه بدأ أيضًا عملية التجنيد بأعداد مذهلة، عندما «استعرض حالة خمسمائة جنديٍّ مسلَّح تسليحًا جيدًا، فضلًا عن خمسمائة فارس خفيف التسليح» (ت د ٤١٩). ثم أوضح مكيافيللي بلهجة تحذيرية أنه «حريصٌ على كتابة هذا كله أشدَّ الحرص»؛ لأنه بات يعتقد أن «أي شخص مسلَّح تسليحًا جيدًا، وله جنوده، سيجد نفسه الرابح دائمًا، أيًّا كان الاتجاه الذي قد تتخذه الأحداث» (ت د ٤٥٥).

بحلول عام ١٥١٠، بعد عقد من البعثات إلى الخارج، كان مكيافيللي قد توصَّلَ لرأيه النهائي بشأن معظم رجال الدولة الذين التقاهم، لكنْ ظلَّ يوليوس الثاني وحدَه محيرًا إلى حدٍّ ما بالنسبة له. فمن ناحيةٍ، كان إعلان البابا الحربَ على فرنسا عام ١٥١٠ يكاد يبدو لمكيافيللي استهتارًا جنونيًّا؛ فالأمر لم يكن يتطلَّب سعةَ خيالٍ كي يرى أيُّ امرئ أن «حالة العداء بين هاتين القوتين» قد تكون «أفظع البلايا التي يمكن أن تحدث» من وجهة نظر فلورنسا (ت د ١٢٧٣). من ناحية أخرى، لم يكن يسعه ألا يأمل في أن يُثبت يوليوس، باندفاعه الهائل، أنه المنقذ لإيطاليا وليس نكبتها المنتظرة. وفي نهاية الحملة ضد بولونيا، سمح مكيافيللي لنفسه بالتساؤل عمَّا إذا كان البابا قد لا «يتمادى إلى ما هو أعظم من ذلك»، بحيث تجد «إيطاليا أنها قد أفلتت هذه المرة حقًّا من أيدي أولئك الذين خططوا لابتلاعها» (ت د ١٠٢٨). بعد مرور أربع سنوات، ورغم ما شهدته الأزمة الدولية من تفاقُم، كان مكيافيللي لا يزال يحاول درءَ مخاوفه المتزايدة من فكرة أن البابا، «كما حدث في حالة بولونيا»، قد «يجر الجميع نحو الهلاك إليه» (ت د ١٢٤٤).

ولخيبة أمل مكيافيللي وفلورنسا، تمخَّضَتْ مخاوفه عن تنبؤات أفضل من آماله؛ فبعد أن أُنهكَ يوليوس في معارك عام ١٥١١، تمثَّلَ ردُّ فعله في إبرام تحالُف غيَّرَ وجه إيطاليا؛ ففي الرابع من أكتوبر عام ١٥١١ وقَّعَ على «الحلف المقدس» مع فرديناند ملك إسبانيا، وكسب بذلك تأييد الجيش الإسباني في الحرب الصليبية ضد فرنسا. وما إن بدأت الحملات الجديدة عام ١٥١٢ حتى زحف عدد مهول من المشاة الإسبان إلى إيطاليا. في بادئ الأمر نجحوا في صد الزحف الفرنسي، وإجبار الفرنسيين على الانسحاب من رافينا وبارما وبولونيا وميلانو، والتراجع في نهاية المطاف إلى ما وراء ميلانو. ثم تحوَّلوا نحو فلورنسا. لم تكن المدينة قد جرؤت على تحدِّي الفرنسيين، الأمر الذي جعلها لا تُعرِب عن تأييدها للبابا؛ فوجدت نفسها تدفع ثمنَ خطئها هذا غاليًا؛ ففي التاسع والعشرين من أغسطس نهب الإسبان بلدة براتو المجاورة، وبعد ثلاثة أيام استسلم الفلورنسيون، وهرب «الجونفالونيري» سوديريني إلى المنفى، ودخلت عائلة مديتشي المدينة ثانيةً بعدَ غياب دام ثمانية عشر عامًا، ثم حُلَّتِ الجمهورية بعد بضعة أسابيع.

أفل نجم مكيافيللي مثلما أفل نجم النظام الجمهوري؛ ففي السابع من نوفمبر أُقِيل رسميًّا من منصبه في الهيئة الاستشارية الدبلوماسية، وبعد ثلاثة أيام حُكِم عليه بالحبس داخل الأراضي الفلورنسية لمدة عام، وكانت الكفالة مبلغًا ضخمًا قوامه ألف فلورين. ثم في فبراير عام ١٥١٣، تلقَّى أسوأ ضربات القدر على الإطلاق؛ إذ اشتُبِه فيه بطريق الخطأ أنه شارَكَ في مؤامرة فاشلة ضد حكومة مديتشي الجديدة، وبعد أن تعرَّضَ للتعذيب حُكِم عليه بالسجن ودفع غرامة ضخمة، وقد عبَّر عن ذلك حين اشتكى لاحقًا إلى عائلة مديتشي في إهداء كتاب «الأمير»، قائلًا إن «خبث القدر الهائل والمعهود» أطاح به بلا رحمة وعلى حين غرة (١١).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤