الفصل الثالث

مُنَظِّر الحريَّة

مع انتهاء مكيافيللي من كتاب «الأمير»، تجدَّدَتْ آماله في العودة إلى موقع حكومي مؤثر؛ فقد كتب إلى فيتوري في شهر ديسمبر عام ١٥١٣ أن منتهى تطلُّعاته كانت لا تزال تتمثل في أن يجعل من نفسه «نافعًا لحكَّامنا من عائلة مديتشي، حتى إذا بدءوا بتكليفي بدحرجة حجر.» وتساءَلَ عمَّا إذا كانت أكثر الطرق فعاليةً لتحقيق طموحه هذا هي الذهاب إلى روما «بأطروحتي الصغيرة هذه» كي يقدِّمها شخصيًّا إلى جوليانو دي مديتشي، فيبيِّن له بذلك أنه «قد يُسرُّ كثيرًا بتلقِّي خدماتي» (م ٣٠٥).

في بادئ الأمر بَدَا أن فيتوري على استعداد لدعم هذه الخطة؛ إذ ردَّ بأن مكيافيللي يجب أن يرسل له الكتاب، حتى «يتسنَّى لي أن أرى ما إذا كان من المناسب تقديمه» (م ٣١٢). وحينما أرسل مكيافيللى — حسب الاتفاق — النسخةَ المنقَّحة التي كان قد بدأ إعدادها للفصول الافتتاحية، قال فيتوري إنه «سعيد بها للغاية»، لكنه احتاط بأن أضاف قائلًا: «لا أرغب في إصدار حكم نهائي؛ نظرًا لأن بقية العمل ليست لديَّ» (م ٣١٩).

لكن سرعان ما تبيَّنَ جليًّا أن آمال مكيافيللي ستنقطع من جديد؛ ذلك لأن فيتوري بعدما قرأ كامل نص كتاب «الأمير» في بدايات عام ١٥١٤، ردَّ بصمت لا يبشِّر بخير، فهو لم يُشِرْ مرة أخرى إلى الكتاب، وإنما بدأ يملأ رسائله بثرثرة مشتِّتة للانتباه عن آخِر علاقاته الغرامية. ورغم أن مكيافيللي أجبر نفسه على أن يردَّ عليه بروح مماثلة، كان لا يكاد يستطيع إخفاء قلقه المتصاعد. وبحلول منتصف العام، بات يدرك أخيرًا أن كل هذا لا طائل من ورائه، وكتب في مرارة كبيرة لفيتوري ليقول إنه لن يواصِل النضال، وقال لقد بات واضحًا «أنني سأضطر لأن أظل أحيا هذه الحياة البائسة، دون أن أعثر على رجل واحد يتذكر خدمةً قدَّمْتُها أو يعتقد أنني قادر على فعل أي خير» (م ٣٤٣).

بعد خيبة الأمل هذه شهدت حياة مكيافيللي تغيُّرًا دائمًا؛ فهو لما تخلَّى عن كل أمل في العودة للعمل الدبلوماسي، بدأ أكثر فأكثر يرى نفسه أديبًا. أبرز علامات هذا التوجه الجديد أنه بعد سنة أخرى أو أكثر من «الخمول الشديد» في الريف، بدأ يشارك مشاركةً مهمة في الاجتماعات التي عقدَتْها مجموعة من الفلاسفة الإنسانيين والأدباء، الذين كانوا يلتقون بانتظام في حدائق كوزيمو روتشيللاي على مشارف فلورنسا، من أجل التحاور المفيد والترفيه عن أنفسهم.

جانب من هذه المناقشات التي كانت تُعقَد في حديقة أورتي أوريتشلاري كان ذا طابع أدبي. كانت المناقشات تتضمن مناظراتٍ حول المزايا المتنافسة للغتين اللاتينية والإيطالية من حيث كونهما لغتين أدبيتين، وكانت تتضمن قراءاتٍ بل وعروضًا مسرحية أيضًا. كان تأثير ذلك على مكيافيللي يتمثَّل في توجيه طاقاته الخلَّاقة في اتجاه جديد كليًّا؛ فقد قرَّر أن يكتب مسرحية من تأليفه، وكانت ثمرة ذلك مسرحية «ماندراجولا»، الكوميديا البارعة والموجعة في ذات الوقت عما تقوم به امرأة شابة وجميلة متزوجة من إغواء لقاضٍ عجوز. كانت النسخة الأصلية قد أُنجِزت على الأرجح عام ١٥١٨، ويحتمل أنها قُرِئت على مسامع أصدقاء مكيافيللي في حديقة أورتي، قبل أن تُعرَض على الجمهور لأول مرة في فلورنسا وروما خلال العامين التاليين.

لكن من الواضح أن أكثر النقاشات حدةً في حديقة أورتي كانت تتناول موضوعات سياسية؛ فقد روى أنطونيو بروشيولي أحد المشاركين في الاجتماعات في عمله الفلسفي «الحوارات» أنهم كانوا لا يكفُّون عن مناقشة مصير الأنظمة الجمهورية: كيف تبلغ العظمة، وكيف تحافظ على حرياتها، وكيف تنحدر وتسقط في براثن الفساد، وكيف تصل في نهاية المطاف إلى مرحلة الانهيار الحتمية. ولم يكن اهتمامهم بالحرية المدنية يعبِّر عن نفسه بمجرد كلمات؛ فقد أصبح بعض أعضاء الفريق معارضين شرسين لعودة «استبداد» عائلة مديتشي إلى حدِّ أنهم تورَّطوا في مؤامرة فاشلة لاغتيال الكاردينال جوليو دي مديتشي عام ١٥٢٢. كان من بين مَن أُعدِموا بعد فشل المؤامرة ياكوبو دا دياتشيتو، ومن بين مَن حُكِم عليهم بالنفي زانوبي بونديلمونتي ولويجي ألاماني، وبروشيولي نفسه. كان كل هؤلاء أعضاء بارزين في وسط أورتي أوريتشلاري، أو الاجتماعات التي انتهت نهايةً مفاجِئة بعد فشل محاولة «الانقلاب».

لم يكن مكيافيللي قطُّ ذا انتماء حزبي متعصب للحرية الجمهورية بدرجة تدفعه لأن يشارك في أيٍّ من المؤامرات المتعددة المناهضة لحكم مديتشي، لكن من الواضح أنه تأثَّرَ تأثرًا شديدًا باتصالاته بكوزيمو روتشيللاي وأصدقائه. إحدى نتائج مشاركته في مناقشاتهم تمثَّلَتْ في أطروحته عن «فن الحرب»، التي نشرها عام ١٥٢١. فهذا العمل مكتوب بالفعل في شكل محادثة تجري في حديقة أورتي أوريتشلاري؛ حيث يطرح روتشيللاي الحجة بينما يؤدِّي بونديلمونتي وألاماني دورَيِ المتحاورين الرئيسيين. لكن أهم ما نتج عن علاقة مكيافيللي بهؤلاء المتعاطفين الجمهوريين تمثَّلَ في قراره أن يكتب «المطارحات»، أطول أعماله وربما أكثرها ابتكارًا عن فن الحكم. لم يكتفِ مكيافيللي بإهداء هذا العمل إلى روتشيللاي وبونديلمونتي، وإنما نسب لهما الفضل في كتابته لهذا العمل صراحةً في إهدائه؛ لأنهما «دفعاني لكتابة ما لم أكن لأكتبه أبدًا من تلقاء نفسي» (١٨٨).

السبيل إلى العَظَمَة

تتخذ «مطارحات» مكيافيللي من حيث الشكل صورة تعليق على الكتب العشرة الأولى من تاريخ ليفيوس مؤرخ روما، والتي تتبع فيها ليفيوس بلوغَ المدينة منزلةَ العظمة بعد هزيمة منافسيها المحليين، وطرد ملوكها وتأسيس «الدولة الحرة». لكن مكيافيللي يتوسَّعُ عبر نص ليفيوس بدرجة أكبر بكثير مما يوحي العنوان، ويعالج موضوعاته المختارة بطريقة استطرادية غير ممنهجة بل ومتشظية في بعض الأحيان؛ فقد كان يستخدم أحيانًا سرد ليفيوس كأساس يبني فوقه مناقشة واسعة النطاق لبعض الموضوعات المهمة في نظرية فن الحكم، لكنه في أحيان أخرى كان يكتفي بالتحدُّث عن شخصيات فردية، أو يروي قصةً ما ويستنبط منها مغزًى معيَّنًا. لكن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال القول بأن متاهته هذه لا تحوي خطًّا توجيهيًّا؛ فالكتاب الأول من الكتب الثلاثة التي يتكوَّن منها كتاب «المطارحات» مَعنِيٌّ في المقام الأول بدستور الدولة الحرة، والثاني بكيفية الاحتفاظ بقوة عسكرية فعَّالة، والثالث بمسائل تتعلق بالقيادة. لكن مع أنني سأتَّبِع هذه الخطوط العامة، يجب أن يُوضَع في الحسبان مسألة أن نتيجة ذلك لن تعطي انطباعًا بأن مكيافيللي نجح في الابتكار، أو ربما حتى أراد الابتكار، بقدرِ ما ستعطي انطباعًا بأن النصَّ منظَّم على نحوٍ أكثر دقةً.

ومكيافيللي إذ يبدأ البحث في تاريخ روما المبكر، يشغله سؤال واحد أكثر من أي شيء آخَر، هذا السؤال يذكره مكيافيللي أولًا في الفقرة الافتتاحية من أول «مطارحة»، ويشكِّل أساسًا لقدر كبير من بقية الكتاب. يقول مكيافيللي إن هدفه أن يكتشف «السبب في الصعود إلى «منزلة الهيمنة» التي بلغتها تلك الجمهورية» (١٩٢). ما الذي مكَّن روما من بلوغ مكانة منقطعة النظير من العظمة والسلطة؟

توجد روابط واضحة بين هذا الموضوع وموضوع كتاب «الأمير». صحيح أن مكيافيللي في كتاب «الأمير» يبدأ باستبعاد الجمهوريات من نطاق بحثه، بينما في «المطارحات» تشكِّل الجمهوريات أدلته الرئيسية، إلا أنه سيكون من الخطأ أن نستنتج أن «المطارحات» ليسَتْ معنِيَّة إلا بالجمهوريات في مقابل الإمارات؛ فمكيافيللي يؤكِّد في الفصل الثاني على أن اهتمامه ليس منصَبًّا على الجمهوريات في حدِّ ذاتها، بل على حكم المدن، سواء كانت تُحكَم باعتبارها «جمهوريات أو إمارات» (١٩٥). يُضاف إلى ذلك أن هناك تشابهًا كبيرًا بين رغبة مكيافيللي في كتاب «الأمير» في أن يقدِّم النصح للحكَّام بشأن كيفية بلوغ المجد من خلال فعل «أشياء عظيمة»، وتطلُّعه في كتاب «المطارحات» إلى أن يفسِّر السبب في أن بعض المدن ترتقي «منزلة العظمة»، وكذلك السبب في أن مدينة روما تحديدًا تمكَّنَتْ من بلوغ «أوج العظمة» ومن إنتاج تلك «النتائج العظيمة» (٢٠٧–٢١١، ٣٤١).

ماذا إذن كانت «الطرق اللازمة لبلوغ العظمة» في حالة روما (٣٥٨)؟ بالنسبة لمكيافيللي، هذا سؤال مفيد؛ لأن مكيافيللي يؤيِّد الافتراض التقليدي للفلاسفة الإنسانيين الذي مفاده أن أي شخص «يتدارس الشئون الحالية ونظيرتها القديمة، يسهل عليه أن يدرك أن جميع المدن وجميع الشعوب لها نفس الرغبات ونفس السمات»، وهذا يعني أن «مَن يفحص جديًّا الأحداث الماضية يسهل عليه أن يتوقَّعَ أحداث المستقبل»، و«يستطيع أن يستخدم معها الحلول التي استخدمها القدماء في الماضي»، أو على الأقل «يبتكر حلولًا جديدةً نتيجة لتشابه أحداث الماضي بالحاضر» (٢٧٨). وهكذا فإن الأمل المبهج الذي تقوم عليه «المطارحات» ويمنحها حيوية نابضة، مضمونه أننا إذا كنَّا نستطيع معرفةَ سبب نجاح روما، فربما نستطيع أن نكرِّره مرةً أخرى.

وتكشف إحدى دراسات التاريخ الكلاسيكي، وفقًا لبداية «المطارحة» الثانية، عن أن مفتاح فهم إنجازات روما يمكن تلخيصه في جملة واحدة وهي: «تدل التجارب على أن المدن لم يحدث قطُّ أن حقَّقَتْ رقيًّا على صعيد الهيمنة أو الثروات إلا حينما كانت في حالة حرية.» ويُقال إن العالم القديم يحوي مثالين موضحين لهذه الحقيقة العامة ومثيرين على نحو خاص، أولهما «أنه لأمر مدهش أن نتفكَّرَ فيما بلغته أثينا من عظمة في غضون مائة سنة من تحرير نفسها من طغيان بيزستراتوس»، لكن المثال الأهم «أنه لمن المدهش جدًّا أن نلاحظ ما بلغته روما من عظمة بعد أن حرَّرَتْ نفسها من ملوكها» (٣٢٩). على النقيض من ذلك، «يحدث عكس كل هذا في البلدان التي تحيا حياة العبيد» (٣٣٣)، وذلك سببه أنه «بمجرد أن يُمارَس استبدادٌ على مجتمع حرٍّ»، فإن أولى العواقب الوخيمة الناجمة عن ذلك هي أن مثل تلك المدن «لم تَعُدْ تتقدم إلى الأمام، ولم تَعُدْ تنمو على صعيد القوة أو الثروات، وإنما تتخلَّف دائمًا، في واقع الحال» (٣٢٩).

إن ما يرمي إليه مكيافيللي في المقام الأول من وراء تركيزه البالغ على الحريَّة، هو أن أي مدينة عازمة على بلوغ العظمة يجب أن تظلَّ متحرِّرة من كل أشكال العبودية السياسية، سواء كانت هذه العبودية تُفرَض «من الداخل» بفعل حاكم طاغية، أو «من الخارج» من قِبَل قوة استعمارية (١٩٥، ٢٣٥)، وهذا بدوره يعني أن القول بأن مدينة ما تمتلك حريتها يعادل القول بأنها محافِظة على استقلاليتها عن أي سلطة عدا سلطة المجتمع نفسه. فالحديث عن «دولة حرة» يعادِل بالتالي الحديث عن دولة تحكم نفسها، ومكيافيللي يوضِّح هذا في الفصل الثاني من «المطارحة» الأولى، حيث يعلن أنه سوف «يغفل مناقشة تلك المدن» التي نشأت «خاضعة لشخص ما»، وسوف يركِّز على المدن التي نشأت في حالة حرية؛ أي على المدن التي «تحكم نفسها بقراراتها منذ نشأتها» (١٩٥). ويتكرَّر هذا التعهُّد نفسه لاحقًا في الفصل الذي يشيد فيه مكيافيللي أولًا بقوانين سولون المتعلِّقة بتأسيس «شكل للحكم يستند إلى الشعب»، ثم يمضي ويقرِّر أن العيش وفقًا لهذا النظام يساوي العيش «في حريَّة» (١٩٩).

وهكذا فإن النتيجة العامة الأولى التي نستخلصها من «المطارحات»، هي أن المدن لا «تنمو نموًّا كبيرًا في وقت بالغ القِصَر» وتكتسب عظمة، إلا إذا كان «الشعب هو الذي يحكمها» (٣١٦). هذا لا يقود مكيافيللي إلى فقدان الاهتمام بالإمارات؛ لأنه في بعض الأحيان (لكن ليس دائمًا) على استعداد لأن يعتقد أن الحفاظ على السيطرة الشعبية قد يكون متوافِقًا مع شكل من أشكال الحكم الملكي (مثال ٤٢٧)، لكنه يقوده بلا شك إلى التعبير عن تفضيله الملحوظ للأنظمة الجمهورية على الإمارات. وهو يذكر أسبابه على نحو قاطع في بداية «المطارحة» الثانية، إن «الصالح العام وليس الفردي» هو الذي «يجعل المدن تبلغ العظمة»، «ومما لا شك فيه أن هذا الصالح العام لا يُعتبَر مهمًّا إلا في الجمهوريات.» لكن في ظلِّ حكم الأمراء «يحدث العكس»؛ لأن «ما في صالحه عادةً ما يُلحِق الضرر بالمدينة، وما في صالح المدينة يُلحِق به الضرر»، وهذا ما يفسِّر السبب في أن المدن التي تحت حكم ملكي نادرًا ما «تتقدَّم إلى الأمام»، بينما «كل المدن والمقاطعات التي تحيا في حرية في أي مكان في العالم» دائمًا ما «تحقِّق مكاسب كبيرة جدًّا» (٣٢٩، ٣٣٢).

إذا كانت الحرية مفتاح بلوغ العظمة، فكيف يمكن اكتساب الحرية نفسها، وكيف يمكن تأمينها؟ يبدأ مكيافيللي بالاعتراف بأن الأمر يتضمَّن دائمًا توفُّر عنصرٍ ما من حسن الحظ؛ فمن الضروري لأي مدينة أن تكون قد بدأت «بداية حرة، دون أن تعتمد على أي شخص»، إذا كان هناك أي احتمال بأن تحقِّق مجدًا مدنيًّا (١٩٣، ١٩٥). أما المدن التي تعاني سوء الحظ المتمثِّل في نشوئها في حالة عبودية، فغالبًا ما تجد أن «وضع قوانين تحافظ على حريتها» وتوصِّلها إلى المكانة المرموقة، «ليس أمرًا صعبًا فحسب وإنما مستحيل» (٢٩٦).

لكن كما هو الحال في كتاب «الأمير»، يرى مكيافيللي الافتراض بأن بلوغ العظمة يعتمد كليًّا على أهواء «الحظ» يُعَدُّ خطأً جوهريًّا، فهو بعد أن يثير هذه المسألة في بداية «المطارحة» الثالثة، يقرُّ بأن بعض الكُتَّاب «من العيار الثقيل جدًّا»، منهم بلوتارخ وليفيوس، ذهبوا إلى أن ارتقاء الشعب الروماني ذُرَى المجد يكاد يُعزَى على نحو تامٍّ إلى «الحظ»، لكنه يرد على ذلك بأنه «ليس على استعداد لأن يسلِّم بهذا بأي حال من الأحوال» (٣٢٤). ثم يعترف لاحقًا بأن الرومان تمتعوا بقدر وافر من هبات «الحظ»، وكذلك استفادوا من مختلف البلايا التي أنزلتها بهم إلهة الحظ، «كي يجعلوا روما أكثر قوةً ويدفعوا بها إلى العظمة التي بلغتها» (٤٠٨). لكنه يُصِرُّ — على غرار رؤيته في كتاب «الأمير» — على أن تحقيقَ الأشياء العظيمة ليس على الإطلاق ثمرةً لحسن «الحظ» وحده، وإنما يكون دائمًا ثمرةً لحسن «الحظ» المصحوب بصفة «القوة» التي لا غنى عنها، والتي تمكِّننا من مواجهة ما ينزل بنا من مصائب برباطة جأش، وفي الوقت ذاته تجذب رضا واهتمام إلهة «الحظ». ومن ثَمَّ فهو يخلص إلى أننا إذا أردنا أن نفهم سبب «منزلة الهيمنة» التي ارتقتها الجمهورية الرومانية، فعلينا أن ندرك أن الإجابة تكمن في حقيقة أن روما امتلكت «قدرًا عظيمًا من «القوة»»، ونجحت في أن تضمن استمرار هذه الصفة الحاسمة «باقيةً في تلك المدينة لقرون عديدة» (١٩٢). ولما كان الرومان «يخلطون ما يتمتعون به من «حظ» مع «قوتهم» الهائلة»، كان ذلك هو السبب في احتفاظهم بحريتهم الأصلية، وارتقائهم في نهاية المطاف إلى منزلة الهيمنة على العالم (٣٢٦).

حينما ينتقل مكيافيللي إلى تحليل هذا المفهوم المحوري لصفة «القوة»، فإنه يتَّبِع حرفيًّا الخطوطَ التي كان قد وضعها في كتاب «الأمير». صحيح أنه يستخدم المصطلح بحيث يشير إلى إضافة واحدة مهمة إلى رؤيته السابقة، لكنه في كتاب «الأمير» ربَطَ هذه الصفة ربطًا حصريًّا بأعظم القادة السياسيين والقادة العسكريين؛ بينما في «المطارحات» يصر صراحةً على أنه إذا كان لأيِّ مدينة أن تبلغ العظمة، فمن الضروري أن يتَّصِف بصفة القوة كلُّ مواطنيها (٤٩٨). لكنه حينما يصل إلى تعريف ما تعنيه «القوة»، يكرِّر كثيرًا حججه السابقة، مسلِّمًا في يقين بالاستنتاجات المذهلة التي كان قد توصَّلَ إليها بالفعل.

وهكذا فإن امتلاك «القوة» مُمثَّل في شكل استعداد لفعل كلِّ ما هو ضروري لتحقيق المجد والعظمة المدنيين، سواء كانت التصرفات اللازمة لتحقيق ذلك خيِّرة في جوهرها أو شريرة في طبيعتها، وهذا يعتبر في المقام الأول السمة الأكثر أهميةً للقيادة السياسية. وكما فعل مكيافيللي في كتاب «الأمير»، فقد أوضح هذه النقطة عن طريق الإلماح إلى الفلسفة الإنسانية لشيشرون، واستنكارها على نحو ساخر. كان شيشرون قد أكَّدَ في كتاب «الواجبات» على أن رومولوس عندما قرَّرَ أنه «من الأنسب له أن يحكم منفردًا» ومن ثَمَّ قتل شقيقه، قد ارتكب جريمةً لا سبيل للتغاضي عنها؛ وذلك لأن دفاعه عن تصرُّفه هذا «لم يكن معقولًا ولا مقبولًا على الإطلاق» (٣ : ١٠، ٤١). على عكس ذلك، يُصِرُّ مكيافيللي على أنه ما من «فكر حصيف» من شأنه أبدًا أن «يدين أي شخص في عمل غير مشروع كان الهدف من استخدامه تنظيم مملكة أو إقامة جمهورية». ثم يستشهد بحالة قتل رومولوس لأخيه، فيذهب إلى أن «هذا الفعل يدينه ولا شك، لكن نتيجته يجب أن تشفع له، وطالما كانت النتيجة خيرًا، كنتيجة ما فعله رومولوس، فإنها دائمًا ما ستشفع له؛ لأن مَن يمارِس العنف ليدمِّر هو مَن يجب أن يُدان عنفه وليس مَن يمارِس العنف ليُصْلح» (٢١٨).

ويُعتقَد أن الاستعداد لإعلاء مصالح المجتمع على كل المصالح الخاصة والاعتبارات الأخلاقية المتعارَف عليها، لا يقل ضرورةً وأهميةً في حالة المواطنين العاديين. ومن جديد، يوضِّح مكيافيللي هذه النقطة عن طريق السخرية من قِيَم الفلسفة الإنسانية الكلاسيكية. كان شيشرون قد أعلن في كتاب «الواجبات» أن «بعض التصرفات إما مقيتة للغاية وإما شريرة للغاية إلى حدِّ أنه ما من رجل حكيم سيُقدِم على ارتكابها، حتى إن كان هدفه من ورائها إنقاذ بلاده» (١ : ٤٥، ١٥٩). يدحض مكيافيللي هذا الرأي بقوله: «عندما تكون المسألة برمتها مسألة سلامة دولة المرء»، يصبح من واجب كل مواطن أن يدرك أنه «لا مجال للنظر إلى ما هو عادل أو ما هو غير عادل، وإلى ما هو رحيم أو ما هو قاسٍ، أو ما هو جدير بالثناء أو ما هو مشين، وإنما لا بد أن يتخلَّص المرء من أي تردُّد، ويتَّبِع أقصى خطة ممكنة من شأنها أن تنقذ حياة الدولة وتحافظ على حريتها» (٥١٩).

هذه، إذن، أمارة على «قوة» الحكَّام والمواطنين على حدٍّ سواء؛ إذ يجب على كل امرئ أن يكون على استعداد «لإعلاء المصلحة العامة على مصالحه الشخصية، وإعلاء مصلحة الوطن المشترك على مصلحة ذريته» (٢١٨). لهذا السبب يتحدَّث مكيافيللي عن الجمهورية الرومانية باعتبارها مستودعًا «للكثير جدًّا من «القوة»»؛ حيث كان الشعور بالوطنية يكاد يكون «أقوى من أي اعتبار آخَر»، ونتيجةً لذلك أصبح العامة «طوال أربعمائة عام أعداء لصفة الملك، ومحبين للمجد والصالح العام لمدينتهم الأم» (٣١٥، ٤٥٠).

لكن الواضح أن الزعم بأن مفتاح الحفاظ على الحرية يكمن في ترسيخ صفة «القوة» في عامة المواطنين ككلٍّ، يثير سؤالًا آخَر أهم من كل ما سبق، أَلَا وهو: كيف يكون لنا أن نأمل في غرس هذه الصفة على نطاق واسع بما فيه الكفاية، وأن نحتفظ بها لفترة طويلة بما فيه الكفاية، كي نضمن بلوغ المجد المدني؟ من جديد، يعترف مكيافيللي بأن الأمر دائمًا ما يتضمن عنصرًا من حسن «الحظ»؛ فما من مدينة يمكنها أن تأمل في تحقيق العظمة ما لم يحدث مصادفة أن يضعها أبٌ مؤسِّسٌ عظيمٌ على الطريق الصحيحة، يُرد إليه الفضل في ميلادها «كأنها ابنة له» (٢٢٣). أما المدينة التي لم «تصادِف مؤسِّسًا حكيمًا»، فغالبًا ستجد نفسها «في موقف بائس إلى حدٍّ ما» (١٩٦). على عكس ذلك، المدينة التي تحوي ذاكرتها «قوةَ» مؤسِّسٍ عظيم وأساليبه، مثلما تحوي ذاكرة روما رومولوس، تكون قد «صادفت أوفر قدر من حسن «الحظ»» (٢٤٤).

والسبب في حاجة أي مدينة إلى هذا النوع من «الحظ الأوفر»، هو أن تأسيس جمهورية أو إمارة لا يمكن أبدًا أن يتحقَّق «من خلال «قوة» الجماهير»؛ لأن «اختلاف آرائهم» دائمًا ما سيمنعهم من بلوغ «التوافق اللازم لتنظيم الحكم» (٢١٨، ٢٤٠)، وبناءً على ذلك فإنك «إذا أردتَ أن تؤسِّس جمهورية، فمن الضروري أن تكون وحدك» (٢٢٠). يضاف لذلك أن أي مدينة ما إن «تتدهور جرَّاء الفساد» فإنها ستحتاج بالمثل ««قوة» رجل يكون موجودًا على قيد الحياة حينئذٍ»، وليس ««قوة» الجماهير» كي تستعيد عَظَمَتها (٢٤٠). ومن ثَمَّ يخلص مكيافيللي إلى أننا «يجب أن نعتبر ما يلي قاعدةً عامة: من النادر، أو من المستحيل، أن يتم تنظيم أي جمهورية أو مملكة تنظيمًا جيدًا من البداية، أو يعاد تنظيمها بالكامل» في وقت لاحق، «ما لم يكن نظَّمَها رجل واحد» (٢١٨).

لكن مكيافيللي يعلن بعد ذلك أن أي مدينة إذا كانت بالغة الحمق بحيث تعتمد على هذا «الحظ» الحسن المبدئي، فإنها لن تكون بذلك تخدع نفسها بأنها عظيمة فحسب، وإنما ستكون إلى جانب ذلك على شفا الانهيار. صحيح أن «امرأً واحدًا فقط يمكنه وحده أن ينظم» الحكم، لكن ما من حكم يسعه أن يأمل في البقاء «إذا كان يقوم على أكتاف امرئ واحد فقط» (٢١٨)؛ فالنقيصة المحتومة في أي نظام حكم يضع ثقته في ««قوة» رجل واحد وحيد» تتمثل في أن هذه ««القوة» تفنى بفناء حياة هذا الرجل، ونادرًا ما ينجح الورثة في إعادة سيرتها الأولى» (٢٢٦)؛ ومن ثَمَّ فإن «وجود أمير يحكم بالحكمة طالما ظل على قيد الحياة» ليس بالأمر البالغ الأهمية لنجاة أي مملكة أو جمهورية، وإنما المهم «وجود أمير سينظمها بحيث» لا يعتمد حظها فيما بعدُ عليه، وإنما على ««قوة» الجماهير» (٢٢٦، ٢٤٠). وأعمق أسرار فن الحكم أن تعرف كيفية تحقيق ذلك.

ويؤكِّد مكيافيللي أن هذه المشكلة ذات صعوبة استثنائية؛ لأنه في حين يمكننا أن نتوقع وجود درجة فائقة من «القوة» لدى الآباء المؤسسين للمدن، فلا يمكننا أن نتوقع توافر نفس الصفة بطبيعة الحال وسط صفوف المواطنين العاديين. بل على العكس من ذلك، معظم البشر «أميل للشر منهم للخير»، ومن ثَمَّ فإنهم يميلون لتجاهل مصالح مجتمعهم كي يتصرفوا «وفقًا لفساد أمزجتهم متى تسنَّتْ لهم حرية التصرف» (٢٠١، ٢١٥). وهكذا فإن جميع المدن تميل لأن تتراجع عن مستوى «قوة» مؤسسيها و«تنحدر إلى حالة أسوأ»، وهذه عملية يلخِّصها مكيافيللي بقوله إنه حتى أرقى المجتمعات عرضة لأن يضرب الفسادُ أطنابها (٣٢٢).

إن الصورة التي ينطوي عليها هذا التحليل صورة أرسطية؛ فكرة اعتبار نظام الحكم كجسد طبيعي — شأنه شأن كل مخلوقات الدنيا — معرَّض لأن «يوهنه الدهر» (٤٥). ويُبرز مكيافيللي الاستعارة التي تصوِّر نظام الحكم في شكل جسدٍ إبرازًا خاصًّا في بداية «المطارحة» الأولى؛ حيث يعتقد أنه «من الواضح وضوح الشمس أن هذه الأجساد إذا كانت لا تتجدد فإنها تفنى ولا تبقى»؛ لأن ما تملكه من «قوة» يفسد بمرور الزمن، وهذا الفساد سيقضي عليها لا محالة إذا لم تُداوَ جروحها (٤١٩).

بناءً على هذا، ظهور الفساد يعادل خسارة «القوة» أو تبديدها، ومكيافيللي يظن أن هذه عملية اضمحلال تنشأ بإحدى طريقتين؛ فقد يفقد جسد عامة المواطنين «قوته»، ومن ثَمَّ حرصه على الصالح العام، وذلك من خلال فقدان الاهتمام بالسياسة تمامًا، ما يجعل الجسد «كسولًا وغير مؤهَّل بدنيًّا لأيٍّ من الأنشطة التي تتطلب القوة» (١٩٤). لكن التهديد الأكثر خطورةً ينشأ عندما يظل المواطنون على حالهم من النشاط فيما يتعلق بشئون الدولة، لكنهم يبدءون في إعلاء طموحاتهم الفردية أو ولاءاتهم الفئوية على حساب المصلحة العامة. وهكذا يُعرِّف مكيافيللي الخطة السياسية الفاسدة بأنها الخطة التي «يطرحها رجال مهتمون بما يمكنهم الحصول عليه من الجمهور، وليس بما هو في صالح الجمهور» (٣٨٦). ويعرِّف الدستور الفاسد بأنه الدستور الذي يستطيع فيه «الأقوياء وحدهم» أن يقترحوا التدابير، ولا يفعلون ذلك «لخدمة الحرية العامة، وإنما لتعزيز سلطتهم الخاصة» (٢٤٢). ويعرِّف المدينة الفاسدة بأنها المدينة التي لم يَعُدْ يشغل مناصبها العليا «مَن يملكون أكبر قدر من القوة»، وإنما مَن يملكون أكبر قدر من السلطة، وبالتالي من الراجح جدًّا أن يعملوا كلَّ ما مِن شأنه أن يحقِّق أغراضهم الشخصية الأنانية (٢٤١).

fig4
شكل ٣-١: لوحة تصوِّر مكيافيللي بريشة سانتي دي تيتو في قصر فيكيو بفلورنسا. (© Bettman/Corbis)

هذا التحليل يقود مكيافيللي إلى معضلة؛ فهو من ناحية يؤكِّد دائمًا على أن «طبيعة الإنسان طموحة ومتشكِّكة» إلى حدِّ أن معظم الناس لن «يفعلوا أبدًا أيَّ شيء جيد إلا رغمًا عن إرادتهم» (٢٠١، ٢٥٧)، لكنه من ناحية أخرى يصرُّ على أن السماح للبشر بأن «يرتقوا من طموح إلى آخَر»، سرعان ما يتسبَّب في تمزق مدينتهم «إربًا» وضياع أي فرصة لها في أن تصبح عظيمة (٢٩٠). والسبب في ذلك أنه مع كون الحفاظ على الحرية شرطًا ضروريًّا لتحقيق العظمة، دائمًا ما يكون نمو الفساد فتَّاكًا بالنسبة للحرية، وما إن يبدأ الأفراد الأنانيون أو أصحاب المصالح الطائفية يكسبون التأييد، حتى تبدأ رغبةُ الشعب في التشريع «باسم الحرية» تتآكل بالتوازي مع ذلك، وتبدأ الفصائل تتولَّى مقاليد الأمور و«يحل الاستبداد سريعًا» محل الحرية (٢٨٢). وبناءً على ذلك فإن الفساد حينما يدخل جسد عامة المواطنين ويتملك منه تمامًا، فإنه يجعلهم لا «يستطيعون أن يعيشوا أحرارًا ولو لفترة قصيرة، أو بالأحرى لا يعيشون أحرارًا أبدًا» (٢٣٥، قارن ٢٤٠).

وهكذا فإن معضلة مكيافيللي تتمثَّل فيما يلي: كيف يمكن غرس صفة «القوة» في جسد عامة المواطنين، الذي لا يتمتع طبيعيًّا بهذه الصفة؟ وكيف يمكن منع المواطنين من الانزلاق إلى الفساد، وكيف يمكن حملهم على الاحتفاظ باهتمامهم بالصالح العام على مدى فترة طويلة بما فيه الكفاية لتحقيق العظمة المدنية؟ حل هذه المعضلة هو ما تركِّز عليه بقية «المطارحات».

القوانين والقيادة

يعتقد مكيافيللي أن المعضلة التي كشف عنها يمكن الالتفاف عليها بعض الشيء بدلًا من الاضطرار إلى التغلُّب عليها مباشَرةً؛ ذلك لأنه يسلِّم بأننا في حين لا يمكن أن نتوقَّع من عامة المواطنين أن يتمتعوا بالكثير من «القوة» الطبيعية، فليس من الكثير علينا أن نأمل في أن تتمتع مدينةٌ من وقت لآخَر بحسن «الحظ» الذي يجعلها تجد زعيمًا تُظهِر أفعالُه — كأفعال أي أب مؤسِّس عظيم — صفةَ «القوة» الطبيعية بدرجة عالية (٤٢٠).

ويُعتقَد أن مثل هؤلاء المواطنين النبلاء حقًّا يلعبون دورًا لا غنى عنه في إبقاء مدنهم على الطريق إلى المجد. ويذهب مكيافيللي إلى أن هذه النماذج الفردية للقوة لو كانت «ظهرت كل عشر سنوات على الأقل» على مدى تاريخ روما، لَكانت «النتيجة الحتمية لذلك» هي عدم «ظهور الفساد بالمدينة قطُّ» (٤٢١). بل ويعلن أن «أي مجتمع إذا كان محظوظًا بما فيه الكفاية»، بحيث يجد زعيمًا بهذه الشخصية في كل جيل «يُصلِح قوانين هذا المجتمع ولا يكتفي بوقفه عن التدهور، وإنما يُعِيده إلى سابق عهده»، فسوف تكون نتيجة ذلك تحقُّق معجزة الجمهورية «الخالدة»؛ أي الجسد السياسي القادر على الإفلات من الفناء (٤٨١).

كيف يمكن لدفعات «القوة» الشخصية هذه أن تسهم في تحقيق المدينة منتهى غاياتها؟ إن محاولة الإجابة على هذا السؤال تشغل مكيافيللي طوال «المطارحة» الثالثة، التي تهدف إلى توضيح «الطريقة التي أسهمت بها أفعالُ الأفراد في زيادة عظمة الرومان، وكيف أحدثت كثيرًا من التأثيرات الجيدة في تلك المدينة» (٤٢٣).

من الواضح أن مكيافيللي في بحثه هذه النقطة لا يزال شديدَ القرب من روح كتاب «الأمير»؛ لذا من غير المستغرب أن نجده يدرج في هذا القسم الأخير من «المطارحات» عددًا كبيرًا من الإشارات المرجعية — نحو اثنتي عشرة إشارة مرجعية في أقل من مائة صفحة — لمحتوى كتابه السابق. يضاف إلى ذلك أنه يقرِّر، كما فعل في كتاب «الأمير»، أن هناك طريقتين مختلفتين يستطيع أيُّ رجلِ دولةٍ أو قائدٍ عسكريٍّ فائقِ «القوة» أن يحقِّق من خلالهما أشياءَ عظيمةً؛ أولاهما هي تأثيره على غيره من المواطنين الأقل شأنًا. يبدأ مكيافيللي بافتراض أن هذا الأمر يمكن أن يُحدِث في بعض الأحيان تأثيرًا ملهمًا إلهامًا مباشِرًا؛ لأن «هؤلاء الرجالَ ذوو سمعة ممتازة ويشكِّلون قدوةً بالغةَ التأثير بدرجة تجعل الرجال الجيدين يرغبون في الاقتداء بهم، وتجعل الرجال الأشرار يستحون من أن يحيَوا حياةً تتناقض مع حياتهم» (٤٢١). إلا أن الحجة الأساسية التي يطرحها هي أن «قوة» القائد البارز سوف تتمثل دائمًا، في جزء منها، في شكل قدرة على إضفاء نفس هذه الصفة الضرورية على أتباعه، رغم أنها قد لا تكون من بين الصفات الطبيعية التي يتمتعون بها. والافتراض الرئيسي الذي يطرحه مكيافيللي إذ يناقش كيفية عمل هذا الشكل من أشكال التأثير، هو نفسه الذي طرحه في كتاب «الأمير»، ثم لاحقًا في الكتاب الرابع من «فن الحرب»، ومفاده أن أكثر الوسائل فعاليةً لحمل الناس على التصرف «بقوة» تكون من خلال تخويفهم من عواقب التصرف بأي طريقة أخرى تخالِف ذلك. وقد أشاد في هذا الصدد بالقائد حنبعل؛ لأنه أدرك ضرورةَ بثِّ الخوف في نفوس أفراد قواته «من خلال صفاته الشخصية»، كي يبقيهم «متحدين ومسالمين طائعين» (٤٧٩). ويدخر إعجابه الأكبر للقائد مانليوس تركواتوس الذي مكَّنته «نفسه القوية» وصرامته التي كانت مضربًا للمثل، من أن «يتخذ قرارات قوية»، ويعيد مواطنيه مجدَّدًا إلى حالة «القوة» الأصيلة التي كانوا قد بدءوا في التراجع عنها (٤٨٠-٤٨١).

الطريقة الثانية التي يساهم بها الأفراد المميزون في تحقيق المجد المدني أكثر آنية؛ إذ يعتقد مكيافيللي أن ما يتمتعون به من «قوة» بالغة تساعد في حدِّ ذاتها على تجنُّب الفساد والانهيار، ومن ثَمَّ فإن أحد اهتماماته الرئيسية في «المطارحة» الثالثة تتمثل في توضيح ماهية الجوانب الخاصة للقيادة «القوية»، التي من شأنها إحداث هذه النتيجة المفيدة بأقصى قدر من السهولة. وهو يبدأ بطرح إجابته في الفصل الثالث والعشرين، الذي يستعرض فيه سيرة كاميلوس، «أكثر القادة العسكريين الرومان حكمةً على الإطلاق» (٤٦٢)، والصفات التي جعلت كاميلوس مميزًا على نحو استثنائي، ومكَّنَتْه من تحقيق العديد من «الأمور الرائعة» كانت «حرصه وحصافته، وشجاعته البالغة»، وقبل كل هذا «أسلوبه الممتاز في إدارة الجيوش وقيادتها» (٤٨٤، ٤٩٨). بعد ذلك يخصِّص مكيافيللي سلسلةً من الفصول ليقدِّم فيها تناولًا أشمل لهذا الموضوع؛ فهو أولًا يذهب إلى الاعتقاد بأن على عظماء القادة المدنيين أن يعرفوا كيف يكسرون شوكة الحاسد؛ «لأن الحسد في كثير من الحالات يمنع الرجال» من اكتساب «السلطة الضرورية في الأمور ذات الأهمية» (٤٩٥-٤٩٦)، علاوة على أنهم بحاجة إلى أن يكونوا رجالًا لديهم مستوى عالٍ من الشجاعة الشخصية، لا سيما إذا ما استدعت الحاجة أن يعملوا في المجال العسكري، وفي هذه الحالة يجب أن يكونوا على استعداد — بحسب قول ليفيوس — «لإبداء الفعالية في أحمى وطيس للمعركة» (٥١٥)، وعليهم أيضًا أن يتمتعوا بدرجة عالية من حسن التدبير السياسي، القائم على الدراية بالتاريخ القديم والشئون المعاصرة على حدٍّ سواء (٥٢١-٥٢٢). وأخيرًا عليهم أن يتَّصِفوا بأعلى درجات الحيطة والحذر، بحيث لا يكونون عرضةً لأن يقعوا فريسةً لاستراتيجيات أعدائهم المخادعة (٥٢٦).

من خلال هذا النقاش يتضح أن مصير مدينة فلورنسا، مسقط رأس مكيافيللي، لم يبعد قيد أنملة عن أفكاره؛ فكلما يستشهد بمظهر ضروري من مظاهر القيادة «القوية»، يتوقف ليشير إلى أن انحدار الجمهورية الفلورنسية وانهيارها المخزي عام ١٥١٢ كانا راجعين في جزء كبير منهما إلى عدم الاهتمام بما فيه الكفاية بهذه الصفة الحاسمة؛ فالزعيم «القوي» بحاجة لأن يعرف كيف يتعامل مع الحسود. ولم يتمكَّن سافونارولا ولا سوديريني من «التغلب على الحسد»، ونتيجة لذلك «سقط كلاهما» (٤٩٧). والزعيم «القوي» يجب أن يكون مستعدًّا لأن يستفيد من دروس التاريخ، لكن الفلورنسيين الذين كانوا يستطيعون بكل سهولة «القراءةَ عن عادات البدائيين القدامى أو تعلُّمها»، لم يُقدِموا على أي محاولة لفعل ذلك فسهُل خداعهم ونهبهم (٥٢٢). والزعيم «القوي» ينبغي له أن يكون رجلًا حذرًا حصيفًا، لكن حكَّام فلورنسا أبدَوا سذاجةً في مواجهة الغدر إلى حدِّ أنهم — كما حدث في الحرب ضد بيزا — جلبوا الخزي الشديد على الجمهورية (٥٢٧). بهذا الاتهام اللاذع، يختتم مكيافيللي «المطارحة» الثالثة.

بالعودة إلى المعضلة التي بدأ مكيافيللي بطرحها، يتضح أن حجج «المطارحة» الثالثة تترك هذه المعضلة بلا حل؛ إذ رغم أنه شرح كيف يمكن حمل المواطنين العاديين على التحلي بصفة «القوة» من خلال نموذج القيادة العظيمة، فإنه قد اعترف أيضًا أن ظهور زعماء عظام دائمًا ما يتوقَّف تمامًا على حسن «الحظ»، ومن ثَمَّ لا يشكِّل وسيلةً يمكن الاعتماد عليها لتمكين أي مدينة من بلوغ المجد؛ لذا يبقى السؤال الأساسي هو: كيف يستطيع عامة البشر — الذين دائمًا ما سيكونون ميَّالين لأن يسمحوا لأنفسهم بأن تفسد بفعل الطموح أو الكسل — أن يغرسوا في أنفسهم صفة «القوة»، ويحافظوا عليها لفترة طويلة بما يكفي لأن يضمنوا تحقيق المجد المدني؟

عند هذه النقطة الحاسمة يبدأ مكيافيللي في الخروج بحسم من حدود رؤيته السياسية الواردة في كتاب «الأمير»، ويقرر أن مفتاح حل هذه المشكلة هو التأكُّد من أن المواطنين «مهيَّئون جيدًا»؛ أي منظمون على نحوٍ يتيح حَمْلَهم على اكتساب «القوة» والاحتفاظ بحرياتهم. هذا الحل مطروح مباشَرةً في بداية الفصل الافتتاحي في «المطارحة» الأولى، فإذا أردنا أن نفهم كيف تسنَّى «الاحتفاظ بقدر كبير من «القوة»» في روما «طوال قرون عديدة»، فإنَّ ما نحن بحاجة لأنْ نحقِّقَ فيه هو «كيف كان يجري تنظيم روما» (١٩٢). الفصل التالي يكرِّر نفس النقطة، فلكي ندرك كيف نجحت مدينة روما في التوصُّل إلى «الطريق المباشرة» التي أوصلتها «إلى الغاية المطلقة والحقيقية»، علينا قبل كل شيء أن ندرس «تنظيم» مؤسساتها وترتيباتها الدستورية وأساليب ضبط مواطنيها وتنظيمهم (١٩٦).

والمسألة الأوضح التي يتطلَّب منَّا هذا الأمر أن نتناولها، وفقًا لمكيافيللي، هي توضيح المؤسسات التي تحتاج أي مدينة تطويرها كي تتجنب نمو الفساد في شئونها «الداخلية» التي يقصد بها ترتيباتها السياسية والدستورية (١٩٥، ٢٩٥). ومن ثَمَّ فإنه يخصِّص الجزء الأكبر من هذه المطارحة الأولى للنظر في هذا الموضوع، مستمدًّا أمثلته الرئيسية من تاريخ روما المبكر، ومُبرِزًا دائمًا «إلى أيِّ مدى جرى تكييف مؤسسات تلك المدينة على نحوٍ يجعلها عظيمة» (٢٧١).

ويخصُّ مكيافيللي بالذكر طريقتين لازمتين لتنظيم شئون الوطن على نحوٍ يبث صفة «القوة» في جسد عامة المواطنين؛ فيبدأ — في الفصول من الحادي عشر إلى الخامس عشر — بالذهاب إلى أن من أكثر المؤسسات أهميةً لأي مدينة تلك المعنِيَّة بتدعيم العبادة الدينية وضمان «استخدامها على نحو جيد» (٢٣٤)، بل إنه يعلن أيضًا أن «الحرص على التعليم الديني» أمر بالغ الأهمية إلى حدِّ أنه يعمل في حد ذاته على تحقيق «العظمة للجمهوريات» (٢٢٥). على عكس ذلك، هو يعتقد أن «المرء لا يمكن أن يلحظ مؤشرًا أوضح» يدل على فساد البلاد وخرابها من «أن يرى العبادة الإلهية لا تحظى بالتقدير الكافي» (٢٢٦).

وقد أدرك الرومان تمامًا كيفية الاستفادة من الدين في تعزيز صالح جمهوريتهم ورفاهيتها. فالملك نوما — الذي خلف رومولوس مباشَرةً — على وجه الخصوص، أدرك أن إرساء عقيدة مدنية «ضروري كل الضرورة إذا كان يرغب في الحفاظ على تحضُّر المجتمع» (٢٢٤). في المقابل، فشل حكَّام إيطاليا المعاصرون فشلًا ذريعًا في إدراك أهمية هذه النقطة. صحيح أن مدينة روما لا تزال المركز الرمزي للديانة المسيحية، لكن المفارقة التي تبعث على السخرية هي أن ما ضربته الكنيسة الرومانية من «نموذج سيئ»، جعل «هذه الأرض تخسر كل قدر من التقوى والتدين» (٢٢٨). ونتيجة هذه الفضيحة هي أن الإيطاليين، من خلال كونهم أقل الشعوب تدينًا في أوروبا، صاروا أشدَّ الشعوب فسادًا. وكنتيجة مباشِرة لذلك، فإنهم فقدوا حريتهم، ونسوا كيفية الدفاع عن أنفسهم، ولم يسمحوا فقط بأن تصبح بلادهم «فريسةً للبرابرة الأقوياء، بل فريسة أيضًا لكلِّ مَن يُغِير عليها» (٢٢٩).

والسر المعروف لكل قدماء الرومان — والمنسيُّ في العالم المعاصر — هو أن المؤسسات الدينية يمكن أن تلعب دورًا يشبه دور الأفراد البارزين في الإسهام في تعزيز العظمة المدنية، فالدين يمكن استخدامه لإلهام عامة الناس — وإذا لزم الأمر ترهيبهم — على نحوٍ يحثهم على تفضيل صالح مجتمعهم على كل المصالح الأخرى. ويقدم مكيافيللي إفادته الرئيسية عن كيفية تشجيع الرومان هذا الشكلَ من أشكال الوطنية في مناقشته موضوع قراءة الطالع؛ فقد كان القادة الرومان قبل الذهاب إلى المعركة دائمًا ما يحرصون على أن يُعلِنوا أن طالعهم حسن، وكان هذا يحفز قواتهم للقتال بإيمان واثق بأنهم على يقين من النصر، وهي ثقة كانت تجعلهم يتصرَّفون على نحو يحمل من «القوة» ما يجعلهم يحقِّقون النصر على نحوٍ شبه دائم (٢٣٣). لكن مكيافيللي بطبيعته أكثر إعجابًا بطريقة استخدام الرومان دينهم لإثارة الرعب في جسد الشعب، ومن ثَمَّ حثهم على التصرُّف بقدر من «القوة» ما كانوا ليكتسبوه لولا ذلك. وهو يقدِّم أكثر الأمثلة دراماتيكية على ذلك في الفصل الحادي عشر؛ إذ يقول «بعد أن هزم حنبعل الرومان في معركة كاناي، تجمَّعَ عدد كبير من المواطنين الذين اتفقوا، بعد أن ملأهم اليأس من وطنهم، على الرحيل من إيطاليا»، وحينما سمع سكيبيو بهذا، التقى بهم «بسيفه المشهر في يده»، وأجبرهم على أن يقسموا اليمين الرسمية التي تلزمهم الدفاع عن أرضهم. كان تأثير ذلك إجبارهم على اكتساب «القوة»؛ فرغم أن «حبهم بلادهم وقوانينها» لم يقنعهم بالبقاء في إيطاليا، كان خوفهم من الوقوع في الكفر إذا ما حنثوا بقسمهم هو ما حقَّقَ هدف بقائهم في إيطاليا (٢٢٤).

إن الفكرة التي تذهب إلى أن المجتمع الذي يخشى الرب يحصد بطبيعة الحال ثواب المجد المدني، كانت فكرةً مألوفةً بالنسبة لمعاصِرِي مكيافيللي. وكما يشير هو نفسه، كان هذا هو الوعد الذي قامت عليه حملة سافونارولا في فلورنسا خلال تسعينيات القرن الخامس عشر، والتي أقنع من خلالها الفلورنسيين «بأنه تحدَّثَ إلى الرب»، وأن رسالة الرب إلى المدينة أنه سيُعِيدها إلى عظمتها السابقة ما إن تثوب إلى ما كانت عليه من تقوى (٢٢٦). لكن وجهات نظر مكيافيللي نفسه عن قيمة الدين تدفعه للإقلاع عن تعامُله التقليدي مع هذا الموضوع في ملمحين أساسيين؛ فهو أولًا يختلف عن سافونارولا من حيث مبرراته التي تقف وراء الرغبة في الحفاظ على الأساس الديني للحياة السياسية. فهو ليس مهتمًّا اهتمامًا يُذكَر بمسألة الحقيقة الدينية، وإنما مهتم فقط بالدور الذي تلعبه المشاعر الدينية «في إلهام الناس، وفي جعلهم أخيارًا، وفي جعل الأشرار يشعرون بالخزي»، وهو يحكم على قيمة مختلف الديانات مستندًا كليًّا إلى قدرة كلٍّ منها على تعزيز التأثيرات النافعة (٢٢٤). لذا فهو لا يخلص فقط إلى أن زعماء أي مجتمع عليهم واجب «قبول وتمجيد» أي شيء من شأنه أن «يدعم صالح الدين»، بل يصر أيضًا على أنهم يجب أن يفعلوا ذلك دومًا، «حتى إن كانوا يعتقدون أن ما يفعلونه ليس صوابًا» (٢٢٧).

المنحى الآخَر الذي ينحوه مكيافيللي بعيدًا عن التقليدية مرتبط بهذا النهج البراجماتي؛ فهو يعلن — وفقًا لهذه المعايير — أن ديانة الرومان القديمة أفضل بكثير من الديانة المسيحية؛ فليس هناك ما يبرِّر عدم تفسير المسيحية «بما يتلاءم مع «القوة»» وعدم استخدامها في «تعزيز» المجتمعات المسيحية و«الدفاع عنها»، لكنها في الواقع فُسِّرَتْ على نحوٍ يوهن الصفات الضرورية للحياة المدنية الحرَّة المفعمة بالقوة؛ فقد «مجَّدت الأشخاص البسطاء المتصوفين»، «ووضعت على رأس صالح الأعمال التواضع والخضوع واحتقار الأمور البشرية»، وألغت قيمة «عظمة العقل، وقوة الجسد»، أو أي من السمات الأخرى للمواطنين «الأقوياء». ومن خلال فرض هذه الصورة الأخروية للتميُّز البشري، لم تعمل فقط على تقويض المجد المدنيِّ، بل ساعدت أيضًا على التسبُّب في اضمحلال دول عظيمة وسقوطها عن طريق إفساد الحياة المجتمعية فيها. وهكذا يخلص مكيافيللي — في لهجة ساخرة تليق بالمؤرخ جيبون — إلى أن الثمن الذي دفعناه مقابل حقيقة أن المسيحية «ترينا الحقيقة والطريق القويمة»، هو أنها «جعلت العالم ضعيفًا وحوَّلَتْه إلى فريسة للأشرار» (٣٣١).

بقية «المطارحة» الأولى مكرسة في أغلبها للادِّعاء بأن هناك وسيلة أخرى أكثر فعالية لحمل الناس على اكتساب «القوة»: باستخدام سلطات القانون الجبرية على نحو يفرض عليهم إعلاء مصالح مجتمعهم فوق كل المصالح الفردية، وهذه النقطة موضحة في البداية بعبارات عامة في فصول الكتاب الافتتاحية؛ حيث يُقال إن كل الأمثلة الرائعة على القوة المدنية «تُعزى إلى التعليم الجيد»، الذي يُعزى بدوره إلى «قوانين جيدة» (٢٠٣). وإذا أردنا أن نعرف كيف نجحت بعض المدن في الحفاظ على «قوتها» على مدى فترات طويلة على نحو استثنائي، فستكون الإجابة الأساسية في كل حالة أن «القوانين سبب نجاحها» (٢٠١). الوضع المحوري لهذا الجدل في نقاش مكيافيللي العام يتبيَّن جليًّا في بداية «المطارحة» الثالثة، حيث يقول إنه إذا أرادت مدينة أن «تعود لحياة جديدة» وتتقدم على الطريق الموصلة إلى المجد، فهذا لا يمكن أن يتحقق إلا «عن طريق «قوةِ» رجلٍ ما أو عن طريق «قوة» القانون» (٤١٩-٤٢٠).

بناءً على هذا الاعتقاد، يمكننا أن نرى لماذا يمنح مكيافيللي تلك الأهمية البالغة للآباء المؤسِّسين للمدن؛ فهم في مكانة فريدة تجعلهم بمنزلة المشرِّعين، ومن ثَمَّ يزوِّدون مجتمعاتهم من البداية بأفضل وسيلة لضمان تعزيز «القوة» والتغلب على الفساد. ويقال إن أروع الأمثلة على ذلك تتمثل في المشرِّع ليكرجوس، المؤسِّس الأول لمدينة إسبرطة؛ فقد سنَّ مجموعة قوانين على درجة من الإحكام جعلت المدينة تتمكَّن من «العيش في أمان بموجبها» على مدى «أكثر من ثمانمائة عام دون التقليل من شأن تلك القوانين»، ومن دون أن تخسر حريتها (١٩٦، ١٩٩). ما لا يكاد يقلُّ عن ذلك روعةً يتمثَّل فيما أنجزه رومولوس ونوما، أول ملكين لروما؛ فمن خلال العدد الكبير من القوانين الجيدة التي شرَّعاها، كانت صفة «القوة» «مفروضة على المدينة» بقدر من الحسم حالَ دونَ «ضرب الفساد أطنابها طوال قرون عديدة رغم عظمتها واتساعها»، وظلَّتْ «مفعمة بقوة كبيرة لم يسبق أن تميَّزَتْ بها أي مدينة أو جمهورية» (١٩٥، ٢٠٠).

وفقًا لمكيافيللي، هذا يقودنا إلى أحد أهم الدروس المفيدة التي قد نأمل في تعلمها من دراسة التاريخ؛ فقد بيَّن أن أعظم المشرعين هم أكثر مَن فهموا كيفية استخدام القانون من أجل إعلاء قضية العظمة المدنية، وبناءً على ذلك، إذا حقَّقنا في تفاصيل القوانين الدستورية التي وضعوها، فقد نتمكَّن من اكتشاف سر نجاحهم، ومن ثَمَّ إتاحة حكمة القدماء لحكَّام العالم المعاصر على نحو مباشِرٍ.

بعد إجراء هذا التحقيق، خَلُصَ مكيافيللي إلى أن الاكتشاف الحاسم الذي اتفق عليه مشرِّعو العصور القديمة جميعهم يمكن التعبير عنه ببساطة؛ فهُمْ فهموا جميعًا أن الأشكال الدستورية الثلاثة «المجردة» للحكم — النظام الملكي، وحكم الطبقة الأرستقراطية، والحكم الديمقراطي — غير مستقرة بطبيعتها، وغالبًا ما تولد دورة من الفساد والانحلال، وأصابوا حينما استنتجوا أن مفتاح فرض «القوة» بموجب القانون سيتأتى بالضرورة من خلال وضع دستور مختلط، يتدارك مَواطِنَ الضعف الموجودة في الأشكال المجردة للحكم، وفي الوقت نفسه يجمع بين نقاط القوة التي تميزها. وكالمعتاد، تشكِّل روما أوضح الأمثلة على هذا؛ وذلك لأن السبب في أنها ارتقت في نهاية المطاف إلى منزلة «الجمهورية المثالية»، هو أنها تمكَّنَتْ من استحداث نظام «حكم مختلط» (٢٠٠).

بطبيعة الحال، كان المألوف عن الآراء النظرية السياسية الرومانية أنها تدافع عن مزايا الدساتير المختلطة، فقد كان هذا الرأي محوريًّا في «تاريخ» بوليبيوس، وتكرَّرَ في عدد من أطروحات شيشرون، ثم صار فيما بعدُ محطَّ تفضيلِ معظم الفلاسفة الإنسانيين في فلورنسا في القرن الخامس عشر. لكن حينما نأتي على الأسباب التي يقدِّمها مكيافيللي للاعتقاد بأن الدستور المختلط هو أفضل ما يتلاءم مع تعزيز «القوة» والحفاظ على الحرية، نلاحظ تحوُّلًا دراماتيكيًّا عن وجهة النظر الإنسانية التقليدية.

إذ تنطلق حجته من الحقيقة البديهية التي تقول إن «كل جمهورية تحوي فصيلين متعارضين، فصيل الشعب وفصيل الأغنياء» (٢٠٣). وهو يعتقد أن من الواضح أنه إذا جرى ترتيب الدستور على نحو يمنح أيًّا من هذين الفصيلين سيطرةً كاملة وحده، فسوف «يكون إفساد الجمهورية أمرًا سهلًا» (١٩٦). فإذا تولَّى شخص من فصيل الأغنياء منصب الأمير، فسيكون هناك تهديد مباشِر بظهور الاستبداد؛ لأن الأغنياء إذا أرْسَوا شكلًا أرستقراطيًّا للحكم، فربما يميلون إلى الحكم وفقًا لما يخدم مصالحهم الخاصة، وإذا كان الحكم ديمقراطيًّا، فسينطبق نفس الأمر على عامة الشعب؛ وهذا يعني أنه في كلتا الحالتين سيكون الصالح العام رهنًا بالولاءات الفئوية، ونتيجة لذلك، سرعان ما ستضيع «قوة» الجمهورية، ومن ثَمَّ حريتها (١٩٧-١٩٨، ٢٠٣-٢٠٤).

يرى مكيافيللي أن حل ذلك أن تُستنبَط القوانين المتعلقة بالدستور على نحو يحقِّق توازنًا قويًّا بين هاتين القوتين الاجتماعيتين المتعارضتين، بحيث يظل جميع الأطراف مشاركين في عمل الحكومة، ويراقب «كلٌّ منهم الآخَر» كي يتسنَّى اتخاذُ خطوات استباقية لمنع غطرسة «الأغنياء»، وكذلك «شق الشعب عصا الطاعة» (١٩٩)؛ ذلك لأن الجماعات المتنافسة حينما تتربص لانتقاد بعضها بعضًا على أي بادرة تنذر بمحاولة الانفراد بالسلطة العليا، سيعني انحسار الضغوط الناشئ عن ذلك أنه ما من «قوانين وتشريعات» ستُمرَّر إلا تلك التي تحقِّق «الحرية العامة». ورغم أن تحركات الفصائل تخضع في الأساس لما يتوافق مع مصالحها الخاصة، ستعمل هذه النزاعات فيما بينها على توجيهها — مثل يد خفيَّة — نحو إعلاء الصالح العام عند صياغتها جميع القوانين التشريعية؛ أي إن «كل القوانين التي تصاغ على نحو يدعم الحرية» تكون «ناتجةً عن تنازع هذه الفصائل» (٢٠٣).

هذه الإشادة بفائدة النزاع أفزعت معاصري مكيافيللي، وقد تحدَّثَ نيابةً عنهم جميعًا فرانشيسكو جويتشارديني حينما ردَّ على ذلك في كتابه «تأملات في المطارحات»، بأن «الإشادة بالخلاف مثل استحسانِ مَرَضِ رجلٍ ما لأنه ينال فوائدَ مِن الدواء الذي يُستخدَم لعلاجه.»1 كانت حجة مكيافيللي تتعارض مع مجمل تقاليد الفكر الجمهوري في فلورنسا، وهو الفكر الذي يتضمن الاعتقاد بأن النزاع لا بد أن يُحظَر لأنه مثير للشقاق، والاعتقاد بأن الشقاق يشكِّل أخطر تهديد للحرية المدنية، وكان قد جرى التشديد عليه منذ نهاية القرن الثالث عشر، حينما أطلق ريميجو دي جيرولامي، وبرونيتو لاتيني ودينو كومباني، والأهم منهم دانتي، اتهامات عنيفة لمواطنيهم بأنهم يخاطرون بحريتهم من خلال رفضهم العيش في سلام، ومن ثَمَّ فإن الإصرار على الرأي المثير للدهشة بأن الاضطرابات التي شهدتها روما — حسب قول مكيافيللي — «جديرة بأعظم الثناء»، كان كفرًا بأحد أكثر الافتراضات جدارةً بالتقدير في نظر التيار الإنساني في فلورنسا.

ومع ذلك، فمكيافيللي غير نادم على هجومه على هذا الاعتقاد الراسخ، وهو يشير صراحةً إلى «رأي الكثيرين» الذين يعتقدون أن الصدامات المستمرة بين العامة والنبلاء في روما جعلت المدينة «تسودها الفوضى» إلى حدِّ أن الفضل في أنها لم تمزِّق نفسها إربًا لا يعزى إلا إلى «حسن الحظ» و«القوة العسكرية»، لكنه رغم ذلك يصرُّ على أن مَن يُدينون اضطرابات روما لا يدركون أن هذه الاضطرابات حالَتْ دونَ انتصارِ المصالح الطائفية، ومن ثَمَّ «يعيبون على تلك الصدامات التي كانت السبب الأول في بقاء روما حرة» (٢٠٢). وهكذا يخلص إلى أن الخلافات، وإن كانت شرًّا في حدِّ ذاتها، فإنها كانت «شرًّا لا بد منه لبلوغ العظمة الرومانية» (٢١١).

منع الفساد

يمضي مكيافيللي فيؤكِّد أن الدستور المختلط ضروري دون شك، لكنه رغم ذلك ليس كافيًا بأي حال من الأحوال لضمان الحفاظ على الحرية، وسبب ذلك — كما يحذر من جديد — أن معظم الناس يكونون أكثر انصياعًا لطموحاتهم الخاصة من التزامهم بالصالح العام، و«لا يفعلون أبدًا أي شيء جيد إلا اضطرارًا» (٢٠١). ونتيجة ذلك أن المواطنين ذوي النفوذ المفرط وجماعات المصالح القوية دائمًا ما يميلون لإخلال توازن الدستور بما يصب في صالح غاياتهم الأنانية والفئوية الخاصة، وبالتالي يغرسون بذور الفساد في الجسد السياسي ويهددون حريته.

ولمجابهة هذا التهديد المتأصل، يقدِّم مكيافيللي اقتراحًا دستوريًّا آخَر، يؤكِّد فيه أن ثمن الحرية هو اليقظة الدائمة. فمن الضروري في المقام الأول أن ندرك إشارات الخطر، كي نعرف الوسائل التي قد يتمكَّن من خلالها مواطن فرد أو حزب سياسي من «اكتساب قدر من السلطة يفوق الحد الآمِن» (٢٦٥).

بعد ذلك، من الضروري وضع مجموعة خاصة من القوانين والتشريعات للتعامُل مع مثل هذه الحالات الطارئة. فالجمهورية، على حدِّ قول مكيافيللي، «يجب أن يكون من بين قواعد «تنظيمها» السماحُ بمراقبة المواطنين بحيث لا يتسنَّى لهم فعل الشرِّ تحت ستار الخير، وبحيث لا يكتسبون سوى ذلك النوع من الشعبية الذي يعزِّز الحرية ولا يلحق بها ضررًا» (٢٩١). وأخيرًا، من الضروري عندئذٍ أن تظل أعين الجميع «مفتوحة»، بحيث لا يكونون على استعداد لاكتشاف مثل هذه التوجهات المفسدة فحسب، بل أيضًا لتوظيف قوة القانون في استئصال شأفتها بمجرد — أو حتى قبل — أن تبدأ تشكل مصدرًا للخطر (٢٦٦).

يقرن مكيافيللي بهذا التحليل فكرة أن هناك درسًا دستوريًّا آخَر بالغ الأهمية ينبغي استخلاصه من تاريخ روما المبكر؛ فلمَّا كانت روما قد احتفظت بحريتها لأكثر من أربعمائة عام، يبدو أن مواطنيها نجحوا في اكتشاف أشد المخاطر التي كانت تتهدد حرياتهم، وشرعوا في وضع «القوانين» المناسبة للتعامل معها؛ ومن ثَمَّ، إذا أردنا أن ندرك هذه المخاطر وسُبُلَ مجابهتها، سيكون من المفيد لنا أن ننتقل ثانيةً إلى تاريخ الجمهورية الرومانية، سعيًا للاستفادة من حكمتها القديمة وتطبيقها في العالم المعاصر.

ويوضِّح مثال روما أن الخطر الأول الذي يتعيَّن على أي دستور مختلط أن يجابهه سينشأ دائمًا من أولئك الذين كانوا يستفيدون من النظام السابق. يقول مكيافيللي إن هذا هو الخطر الذي كان يشكِّله «أبناء بروتوس»، وهو يذكر هذه المشكلة لأول مرة في الفصل السادس عشر، ثم يؤكِّد عليها لاحقًا في بداية «المطارحة» الثالثة. كان يونيوس بروتوس قد حرَّرَ روما من طغيان تاركونيوس سوبربوس، آخِر ملوكها، لكن «أبناء بروتوس كانوا ممَّن استفادوا من استبداد الحكم» (٢٣٥)، وهكذا بدا لهم أن إرساء «حرية الشعب» ليس أفضل حالًا من العبودية؛ ونتيجة لذلك، جرت الاستعانة بهم «للتآمُر ضد مدينتهم، لا لسبب سوى أنهم لم يكن باستطاعتهم تحقيق مكاسب غير مشروعة في ظل القناصل الجدد كما كانوا يفعلون في ظل الملوك» (٢٣٦).

في مواجهة هذا النوع من المخاطر، «ليس ثمة علاج أقوى، ولا أكثر فعاليةً ولا أكثر ضمانةً ولا أكثر ضرورةً من قتل أبناء بروتوس» (٢٣٦). ومكيافيللي يقرُّ أنه قد يبدو أمرًا قاسيًا — ويضيف بأكثر نبراته برودًا أن هذا ولا شك «مثال صادم بين الأحداث التاريخية المسجلة» — أن نقول إن بروتوس كان ينبغي له أن يكون على استعداد لأن «يجلس على مقعد الحكم ولا يكتفي بمجرد الحكم على أبنائه بالموت، بل أن يشهد مقتلهم أيضًا» (٤٢٤). لكنه يصرُّ على أن هذه الصرامة لا غنى عنها في حقيقة الأمر؛ «لأن مَن يستفد من استبدادٍ ولا يقتل بروتوس، ومَن يحرِّر دولة ولا يقتل أبناء بروتوس، فلن يؤمِّن نفسه إلَّا لأمد قصير» (٤٢٥).

ثمة خطر آخَر على الاستقرار السياسي ينشأ من النزوع الشهير الممقوت لدى جمهوريات الحكم الذاتي نحو تشويه سمعة مواطنيها القياديين ونكران حُسْن صنيعهم. يلمح مكيافيللي إلى هذا العيب أولًا في الفصل التاسع والعشرين، حيث يقول إن أحد أشد الأخطاء جسامةً التي يمكن أن ترتكبها أي مدينة في «حق الحفاظ على حريتها»، هو أن «تلحق الأذى بالذين كان ينبغي لها أن تكافئهم.» وهذا مرض خطير إلى حد بعيد لا ينبغي أن يُترَك دون علاج؛ لأن مَن يعانون هذه الأشكال من الظلم يكونون بوجه عام في مركز قوي يؤهِّلهم للأخذ بثأرهم، ومن ثَمَّ يعيدون مدينتهم «بأسرع ما يمكن إلى الاستبداد، كما حدث في حالة روما مع يوليوس قيصر، الذي أخذ بالقوة ما أُنكِر عليه بفعل الجحود» (٢٥٩).

العلاج الوحيد الممكن لذلك هو وضع «قوانين» خاصة تهدف لصرف كل حاسد وناكر للجميل عن تقويض سمعة الشخصيات البارزة، وأفضل طريقة لتنفيذ ذلك هو «إتاحة الفرصة لعرض الاتهامات» الموجَّهة لشخصٍ ما على القضاء؛ وبذلك فإن أي مواطن يشعر أنه وقع ضحيةَ افتراءٍ، يجب أن يكون بمقدوره، «دون أدنى خوف أو تردد»، أن يطالب بمثول مَن اتهمه أمام المحكمة لتقديم ما يبرهن على صحة مزاعمه، فإذا تبيَّنَ عندئذٍ، بمجرد «توجيه الاتهام الرسمي والتحقيق فيه جيدًا»، أن التُّهَم لا يمكن إثباتها، فيجب أن يفرض القانون معاقبةَ القاذف عقابًا شديدًا (٢١٥-٢١٦).

وأخيرًا، يناقش مكيافيللي ما يرى أنه أشد التهديدات خطورةً على توازن الدستور المختلط، والذي يتمثَّل في أنه ربما يحاوِل مواطن طموح تشكيل حزب على أساس الولاء لنفسه لا الولاء للصالح العام. يبدأ مكيافيللي بتحليل مصدر الاضطراب هذا في الفصل الرابع والثلاثين، ثم يخصِّص معظم ما تبقَّى من «المطارحة» الأولى للنظر في كيفية نشوء هذا الفساد في أغلب الأحيان، ونوعية «القوانين» اللازمة للتأكُّد من أن تظل بوابة الاستبداد هذه موصدة.

من الأمور التي تشجع على نمو الشقاقِ والانقسامِ السماحُ بطول أمد القيادة العسكرية، بل إن مكيافيللي يشير إلى أن «السلطة التي اكتسبها المواطنون» بهذه الطريقة، هي التي أدَّتْ في نهاية المطاف، أكثر من أي شيء آخَر، إلى «استعباد روما» (٢٦٧)، والسبب في أن «منح امرئ سلطةً مطلقةً لفترة ما» دائمًا ما «يلحق الضرر بالحرية»، هو أن السلطة المطلقة دائمًا ما تفسد الأشخاص بتحويلهم إلى «أصدقاء ومتحزبين» لها (٢٧٠، ٢٨٠)، وهو ما حدث مع جيوش روما في ظل الجمهورية المتأخرة؛ «فعندما كان يتولَّى مُواطِن ما قيادة الجيش فترةً طويلة، كان يكتسب دعم هذا الجيش ويجعله مناصِرًا له»، إلى حد أن الجيش «في وقت ما كان ينسى «مجلسَ الشيوخ» ويعتبر هذا المواطِن قائده» (٤٨٦). حينئذٍ، لم يكن الأمر يتطلب سوى أن يعثر قادة مثل سولا، وماريوس، ثم يوليوس قيصر على «جنود يمكن أن يتبعوا أوامرهم، بما يتعارض مع الصالح العام» كي يشهد توازن الدستور اختلالًا عنيفًا لدرجة تجلب الاستبداد والطغيان في أعقابه (٢٨٢، ٤٨٦).

والردُّ المناسب على هذا الخطر ليس الخوف من فكرة السلطة الدكتاتورية نفسها؛ لأنها قد تكون أحيانًا ضرورة ملحَّة في حالات الطوارئ الوطنية (٢٦٨-٢٦٩)، وإنما ينبغي أن يكون الردُّ بالتأكُّد — من خلال «القوانين» المناسبة — من أن هذه السلطات لن يُساء استخدامها، وهذا يمكن تحقيقه بطريقتين رئيسيتين: ضرورة أن تكون جميع السلطات المطلقة «لفترة محدودة، لا مستديمة»، والتأكد من أن ممارسة هذه السلطات مقيَّدة على نحوٍ لا يتيح لأصحابها سوى «التصرف في الشأن الذي مُنِحت من أجله» هذه السلطات. وما دامت هذه «القوانين» تُحترَم وتُطبَّق، فلن يكون هناك خطر من أن تتسبَّبَ السلطةُ المطلقة في «إفساد الحكم وإضعافه على الإطلاق» (٢٦٨).

المصدر الرئيسي الآخَر للشقاق والانقسام هو التأثير الخبيث الذي يمارسه أصحاب الثروة الشخصية الهائلة؛ فالأغنياء دائمًا في وضع يمكِّنهم من تقديم خدمات لغيرهم من المواطنين، كأنْ «يقرضوهم المال، ويسهموا في زواج بناتهم، ويحموهم من رجال القضاء»، ويقدموا لهم بوجه عام خدمات متنوعة. هذا النوع من الرعاية مفسد لأقصى حد؛ لأنه يميل إلى «جعل الرجال أنصارًا لأولياء نعمتهم» على حساب الصالح العام، وهذا بدوره يعمل على «منح الرجل الذي يتبعونه شجاعةَ الاعتقاد بأنه يستطيع إفساد العامة وخرق القوانين» (٤٩٣). من هنا يصرُّ مكيافيللي على أن «الفساد وضعف الاستعداد للعيش بحرية ينبعان من انعدام المساواة في أي مدينة»، ومن هنا يأتي تحذيره الذي يتكرَّر مرارًا من أن «طموح الأغنياء، الذي لا تكبح المدينة جماحه بمختلف الوسائل والطرق، هو الذي يُنزِل بها الخراب سريعًا» (٢٤٠، ٢٧٤).

والسبيل الوحيد للخروج من هذا المأزق هو أن تحرص «الجمهوريات المنظمة تنظيمًا جيدًا» على أن «تُبقِي خزائنها عامرةً بالأموال، ومواطنيها فقراء» (٢٧٢). ومكيافيللي غامض إلى حدٍّ ما فيما يتعلق بنوع «القوانين» اللازمة لتحقيق ذلك، لكنه واضح ومباشِر فيما يتعلق بالمكاسب المرجوَّة من هذه السياسة؛ فهو يذهب إلى أننا إذا استخدمنا القانون في «إبقاء المواطنين فقراء»، فإن هذا سيفلح في منعهم — حتى إذا كانوا «عديمي الخير والحكمة» — من أن يتمكَّنوا من «إفساد أنفسهم أو غيرهم بالأموال» (٤٦٩). وإذا تأتَّى في الوقت نفسه أن تظل خزائن المدينة عامرة، فستكون الحكومة قادرة على المزايدة على الأغنياء في أي «مخطط لكسب تأييد الشعب»؛ لأنه سيكون بمقدورها تقديم دعم للخدمات العامة أكثر من الخدمات الخاصة (٣٠٠). وبناءً على ذلك يخلص مكيافيللي إلى أن «أهم الأشياء المجدية التي يمكن أن يفعلها مجتمع حرٌّ هو أن يُبقي أفراده فقراء» (٤٨٦). ويختتم نقاشه بملحوظة قوية في تأثيرها حين يضيف أنه «كان سيسهب في بيان أن الفقر يؤتي ثمارًا أفضل بكثير من الثراء»، لو لم تكن «كتابات مَن كتبوا غيري قد أوضحت هذا الأمر جليًّا» (٤٨٨).

بوصولنا إلى هذه النقطة في تحليل مكيافيللي، يسهل علينا أن ندرك — كما في «مطارحته» الثالثة — أن ثمة انشغالًا دائمًا ينطوي عليه نقاشه العام بما حكمت به المقادير على مدينة فلورنسا مسقط رأسه؛ فهو في أول الأمر يذكرنا بأن أي مدينة إذا أرادت الحفاظ على حريتها، فمن الضروري أن يتضمن دستورها نصًّا معينًا لمواجهة شيوعِ رذيلةِ الافتراء على المواطنين البارزين والتشكيك في مصداقيتهم، ثم يشير إلى أن هذا الأمر «كان دائمًا ما يُساء تدبيره في مدينتنا فلورنسا»، فأي شخص «يقرأ تاريخ هذه المدينة سيرى كيف كان العديد من الافتراءات دائمًا ما يُنشر ضد المواطنين الذين يتولَّون شئونها المهمة»؛ وهذا أسفر عن «مشكلات لا تُعَدُّ ولا تُحصَى»، ساعدت كلها على تقويض الحريات في المدينة، وكان من السهل تلافيها كلها لو جرى فقط في وقتٍ ما وَضْعُ «نظامٍ لإمكانية رفع دعوى ضد مَن يروِّجون شائعات تشوِّه السمعة، ومعاقبتهم إن تبيَّنَ كذب افتراءاتهم» (٢١٦).

خطت فلورنسا خطوة أخرى نحو العبودية عندما لم تمنع كوزيمو دي مديتشي من تأسيس حزب كرَّسَ جهوده لإعلاء المصالح الخاصة لعائلته. كان مكيافيللي قد بيَّنَ الاستراتيجية التي ينبغي لأي مدينة أن تتبنَّاها إذا حاوَلَ مُواطِن ذو شأن أن يفسد الناس بثروته، إذ يقول: من الضروري أن تُنافِسَه بأن تجعل خدمة الصالح العام أكثر نفعًا للمواطن العادي. لكن ما حدث أن منافسي كوزيمو اختاروا أن يُجبِروه على الخروج من فلورنسا، مما أثار قدرًا كبيرًا من الاستياء وسط أتباعه لدرجة أنهم في نهاية المطاف «دعَوه للعودة وجعلوه أميرًا للجمهورية، وهذه منزلة لم يكن ليبلغها لولا تلك المعارضة الصريحة» (٢٦٦، ٣٠٠).

ثم حانت فرصة فلورنسا الأخيرة لضمان حرياتها عام ١٤٩٤، عندما أُجبِرَ حكَّام عائلة مديتشي مجدَّدًا على الخروج إلى المنفى واستعيدت الجمهورية كاملةً. لكن عند هذه المرحلة، ارتكب قادة المدينة الجدد، بقيادة بييرو سوديريني، أشد الأخطاء جسامةً على الإطلاق بعدم تبنِّي سياسةً، وصفها مكيافيللي بأنها ضرورية ضرورة مطلقة عند حدوث تغيُّر كهذا في النظام الحاكم؛ فكل مَن «قرأ التاريخ القديم» يعرف أنه بمجرد تحوُّل نظام «من الاستبداد إلى الجمهورية»، يكون من الضروري قتل «أبناء بروتوس» (٤٢٤-٤٢٥)، لكن سوديريني «اعتقد أنه بالصبر والإحسان يستطيع التغلُّب على لهفة أبناء بروتوس على العودة في ظل حكم آخَر»؛ لأنه اعتقد أنه «يستطيع أن يقضي على الفصائل الشريرة» من دون إراقة دماء، «وأن يستأصل عداء بعض الأشخاص» بالعطايا والمكافآت (٤٢٥). كانت نتيجة هذه السذاجة الصادمة أن أبناء بروتوس — أي أنصار عائلة مديتشي — ظلوا على قيد الحياة إلى أن دمَّروه واستعادوا استبداد مديتشي بعد هزيمة عام ١٥١٢.

لم يطبِّق سوديريني المبدأَ المحوري لفن الحكم المكيافيللي؛ فقد تردَّدَ في ارتكاب الشرِّ الذي كان من شأنه أن يتمخض عن خير، ومن ثَمَّ رفض سحق خصومه؛ لأنه كان يدرك أنه قد يحتاج إلى الاستحواذ على سلطات غير شرعية كي يفعل ذلك. لكن ما لم يدركه أن من الحماقة أن يرضخ لمثل هذا التردُّد عندما تكون حريات المدينة في خطر حقيقي. كان ينبغي له أن يدرك أن «أعماله ونواياه لن يُحكَم عليها إلا وفقًا لنتائجها»، وأن يدرك أنه «ما دام يملك «الحظ» والحياة معه، فهو يستطيع إقناع الجميع بأن ما فعله كان في سبيل الحفاظ على مدينته وليس لخدمة طموحه الشخصي» (٤٢٥). لكن ما حدث أن عواقب «عدم تمتُّعه بالحكمة التي تجعله يكون مثل بروتوس»، كانت كارثيَّةً إلى أقصى حدٍّ، فهو لم يخسر «منصبه وسمعته» فحسب، بل خسر أيضًا مدينته وحرياتها، وسلَّمَ مواطني مدينته «ليصبحوا عبيدًا» (٤٢٥، ٤٦١). ينتهي نقاش مكيافيللي، كما حدث في «المطارحة» الثالثة له، إلى تنديد عنيف بالزعيم وبالحكومة التي كان هو نفسه يعمل فيها.

السعي نحو الإمبراطورية

يكشف مكيافيللي في بداية «المطارحة» الثانية له عن أن نقاشه لموضوع «القوانين» لم يكتمل سوى نصفه فقط؛ فهو حتى ذلك الحين، ذهب إلى أن أي مدينة إذا أرادت تحقيق العظمة، فعليها أن تؤسِّس القوانين والتشريعات المناسبة كي تضمن أن مواطنيها يتصرفون بأكبر قدر من «القوة» في تسيير شئونهم «الداخلية». ثم أشار الآن إلى أن ما لا يقل عن ذلك أهميةً هو وضع مجموعة أخرى من «القوانين» تهدف لتشجيع المواطنين على التصرف بقدر مماثل من «القوة» في شئونهم «الخارجية»، قاصدًا بذلك العلاقات العسكرية والدبلوماسية مع الممالك والجمهوريات الأخرى (٣٣٩). وتفسير هذه الحجة الأخيرة هو شغله الشاغل على مدى الجزء الأوسط من كتابه.

تنشأ الحاجة إلى هذه القوانين والتشريعات الإضافية من حقيقة أن جميع الجمهوريات والإمارات توجد في حالةٍ من المنافسة العدائية بعضها مع بعض؛ فالبشر «لا يقنعون أبدًا بالعيش على مواردهم الخاصة»، بل دائمًا ما «يميلون إلى محاولة حكم غيرهم» (١٩٤)، وهذا يجعل من «المستحيل على أي جمهورية أن تنجح في الثبات على حالها والتمتع بحرياتها» (٣٧٩)، وأي مدينة تحاول سلوك هذا المسار المسالِم تسقط سريعًا ضحيةً للتغيُّر المستمر في الحياة السياسية، التي دائمًا ما تكون حظوظُ الجميع فيها عرضةً لأن «تزدهر أو تنعدم» دون أن يتمكَّنوا أبدًا من البقاء «ثابتين على حالهم» (٢١٠). والحل الوحيد لذلك هو اعتبار الهجوم خير وسيلة للدفاع، وتبنِّي سياسة توسعية من أجل ضمان قدرة أي مدينة على «أن تدافع عن نفسها ضد مَن يُغِيرون عليها، وأن تسحق كل مَن يعترض سبيلها إلى العظمة» (١٩٤). وهكذا فإن السعي إلى الهيمنة في الخارج يُعتبَر شرطًا لازمًا لتحقُّق الحرية على أرض الوطن.

يتحول مكيافيللي، كما فعل من قبلُ، لتأييد هذه المزاعم العامة بأحداث من تاريخ روما المبكر، فيذكر في الفصل الافتتاحي أنه «ما من جمهورية أخرى سوى روما» امتلكت هذا الكم الهائل من «القوانين» الداعمة للتوسُّع والغزو (٣٢٤). كانت روما تدين بالفضل في هذه القوانين إلى رومولوس، أول مشرِّعيها، الذي تصرَّف بقدر كبير من بُعْد النظر جعل المدينة تتمكَّن منذ بداية أمرها من ممارسة «قدر استثنائي وهائل من «القوة»» في تسيير شئونها العسكرية (٣٣٢)، وهذا بدوره مكَّنَها، بما تتمتع به من حُسْن «حظٍّ» استثنائيٍّ، من أن تتبوَّأ في نهاية الأمر — من خلال سلسلة من الانتصارات الباهرة — مكانتَها من «العظمة الفائقة» و«القوة الهائلة» (٣٣٧، ٣٤١).

كان رومولوس مصيبًا إذ أدرك ضرورةَ اعتمادِ إجراءين أساسيين إذا أرادَتِ المدينة تنظيم شئونها «الخارجية» على نحوٍ مقبول؛ ففي المقام الأول، من الضروري توفير أكبر عدد ممكن من المواطنين لأغراض التوسُّع والدفاع أيضًا، ولتحقيق ذلك يجب اتباع سياستين مرتبطتين بهذا الأمر: الأولى — نُوقِشت في الفصل الثالث — وهي تشجيع الهجرة؛ إذ لا شك أن من المفيد لمدينتك، لا سيما لقوتها العاملة، أن تجعل «الطرق مفتوحةً وآمنةً للأجانب الراغبين في المجيء للعيش فيها» (٣٣٤). والاستراتيجية الثانية — نُوقِشت في الفصل الرابع — «أن تكتسب شركاءَ لك»؛ فأنت بحاجة لأن تحيط نفسك بالحلفاء، وأن تجعلهم في وضع التبعية لك، على أن تحميهم بقوانينك مقابل أن يكون بمقدورك طلب خدماتهم العسكرية إذا دَعَتِ الضرورة (٣٣٦-٣٣٧).

الإجراء الحاسم الآخَر مرتبط بهذا التفضيل لتجميع أكبر قدر ممكن من القوى؛ فلِكَيْ تُحقِّقَ أفضل استفادة من هذه القوى، ومن ثَمَّ تخدم مصالح مدينتك بأفضل درجة من الفعالية، من الضروري أن تجعل حروبَك «قصيرةً وكبيرةً»، وهذه كانت سُنَّة الرومان في حروبهم؛ لأنهم كانوا «حالما تُعلَن الحرب»، دائمًا ما «يقودون جيوشهم لملاقاة العدو ويخوضون معركة على الفور». وهكذا يستنتج مكيافيللي بوضوح أنه ما من سياسة يمكن أن تكون «أكثر أمنًا أو أقوى أو أفضل مردودًا» من هذه؛ لأنها تمكِّنك من أن تتصالح مع خصومك من موقع قوة، وبأقل قدر من التكلفة أيضًا (٣٤٢).

وبعد أن يُوجِز مكيافيللي هذه «القوانين» العسكرية، فإنه يتَّجِه للنظر في سلسلة من دروس أكثر تحديدًا عن سَير الحرب، يعتقد أن من الممكن استخلاصها من دراسة إنجاز روما. هذا الموضوع، الوارد في الفصل العاشر، يشغل بقية «المطارحة» الثانية، ثم يتعرَّض له أيضًا — بأسلوب أكثر تأنُّقًا لكنه مشابِه في جوهره — في الأجزاء الوسطى من أطروحته التالية «فن الحرب».

ربما يدلِّل على تشاؤم مكيافيللي المتنامي حيال فرص إحياء «القوة» العسكرية القديمة في العالم المعاصر، أن كل استنتاجاته في هذه الفصول مقدَّمَة بصيغة سلبية، فهو بدلًا من أن ينظر في ماهية السُّبُل التي تشجع «القوة» وتعزِّز العظمة، يركز كليًّا على التكتيكات والاستراتيجيات التي تتضمن أخطاء، ومن ثَمَّ تجلب «الموت والخراب» لا النصر (٣٧٧-٣٧٨)، وهذا أنتج قائمة طويلة من العِبَر والمحاذير، منها أنه من الحمق أن نوافق على المبدأ الشائع الذي يرى أن «الثروات هي عصب الحرب» (٣٤٨-٣٤٩). كذلك من الضرر اتخاذ «قرارات مترددة» أو «بطيئة ومتأخرة» (٣٦١)، ومن الخطأ تمامًا أن نفترض أن «أسلحة المدفعية هي التي ستتحكم في مسار الحرب مع تطور الزمن» (٣٦٧، ٣٧١)، ومن غير المجدي استخدام جنود مساعدين أو مرتزقة، وهي حجة يذكِّرنا مكيافيللي بأنه سبَقَ أنْ عرَضَها «تفصيليًّا في عمل آخَر» (٣٨١). ومن غير المجدي في وقت الحرب، والمضر ضررًا بالغًا في وقت السلم، الاعتماد على الحصون باعتبارها نظامًا رئيسيًّا للدفاع (٣٩٤). ومن الخطورة أن تجعل من المستحيل على المواطن أن ينال «انتقامًا شافيًا» إذا شعر بالإهانة أو لحق به أذًى (٤٠٥)، وأسوأ الأخطاء على الإطلاق في حال تعرُّضك لهجوم من قوات متفوقة عليك «أن ترفض أي اتفاق»، وتحاول بدلًا من ذلك أن تلحق بها الهزيمة رغم أن الظروف غير مواتية (٤٠٣).

والسبب الذي يقدِّمه مكيافيللي لإدانة هذه الممارسات يتكرَّر في كل الحالات؛ إذ تشترك جميعها في العجز عن إدراك أن تحقيق المجد المدني مرهون بأهم صفة يجب أن يغرسها المرء في جيوشه — وتتحسب لها جيوش أعدائه — وهي صفة «القوة»؛ أي استعداد المرء لتنحية جميع اعتبارات السلامة الشخصية والمصلحة في سبيل الدفاع عن حريات وطنه.

ويعتقد مكيافيللي أن الخطر الذي قد تنطوي عليه بعض السياسات التي يسردها يتمثَّل في إثارة «قوة» استثنائية ضد مَن يمارسون هذه السياسات. وهذا، على سبيل المثال، هو السبب في أنه من الخطأ الاعتماد على الحصون؛ فالأمن الذي توفِّره لك يدفعك لأن تكون «أسرع في قمع رعيتك وأقل تردُّدًا حيال ذلك»، لكن هذا بدوره «يثير حنقهم على نحوٍ لا يصبح معه حصنك، الذي هو سبب ذلك الحنق، قادرًا على حمايتك» من كراهيتهم وغضبهم منك (٣٩٣). ونفس الأمر ينطبق على معارضة أن يثأر مَن لحق بهم ضرر لأنفسهم؛ لأن المواطن إذا شعر بأنه أُهِينَ إهانةً بالغة، فإنه قد يستمد «قوةً» كبرى من هذا الشعور بالإساءة إلى حدِّ أنه قد يلحق بمهينه أذًى في تهورٍ على سبيل الثأر، كما حدث في حالة بافسانياس، الذي اغتال فيليب ملك مقدونيا لأنه كان قد حرمه من أن يثأر لإهانةٍ تعرَّضَ لها (٤٠٥-٤٠٦).

والخطر الذي تنطوي عليه حالات أخرى هو أن مصيرك قد يكون في أيدي أشخاص ليس لديهم أي قدر من الاهتمام بالصالح العام، وهذا هو ما يحدث إذا سمحت بأن تُتَّخَذ القرارات السياسية بوتيرة بطيئة أو على نحو متردِّد؛ لأن مِن الأسلم عمومًا أن تفترض أن مَن يرغبون في الحيلولة دون التوصُّل إلى قرار «مدفوعون بشعور أناني»، ويحاولون في حقيقة الأمر «إسقاط الحكم» (٣٦١). وينطبق الأمر نفسه على استخدام قوات مساعدة أو مرتزقة، فنظرًا لأن هذه القوات دائمًا ما تكون فاسدةً تمامًا، فهي «عادةً ما تنهب مَن استأجرها بقدر ما تنهب مَن استؤجرت للحرب ضدهم» (٣٨٢).

الأخطر من ذلك كله هو عدم إدراك أن صفة «القوة» أهم من أي شيء آخَر في الشئون العسكرية والشئون المدنية على حدٍّ سواء؛ ولذلك من المدمر جدًّا أن تَزِنَ أعداءك بثرواتهم، بل ما يجب عليك أن تزنه هو «قوتهم»؛ لأن «الحرب عتادها الحديد لا الذهب» (٣٥٠). من الخطر أيضًا الاعتماد الكلي على المدفعية لكسب المعارك. صحيح أن مكيافيللي يقرُّ بأن الرومان «كانوا ليحققوا انتصاراتهم بوتيرة أسرع لو توفَّرت في زمانهم مدافع وأسلحة نارية» (٣٧٠)، لكنه يصرُّ على الاعتقاد بأنه من الخطأ البالغ الافتراض بأن «الرجال لا يستطيعون استخدام «قوتهم» أو إظهارها كما كانوا يفعلون في العصور القديمة بسبب ظهور هذه الأسلحة النارية» (٣٦٧). وبناءً على ذلك، يتوصل مكيافيللي إلى استنتاج متفائل بعض الشيء مفاده أن «المدفعية مفيدة لأي جيش إذا صاحبتها «قوة» القدماء»، لكنها تكون «عديمة الجدوى تمامًا أمام أي جيش «قوي»» (٣٧٢). وأخيرًا، تفسِّر هذه الاعتباراتُ نفسُها السببَ في أنه من بالغ الخطورة رَفْض المفاوضات في حال مواجهة قوات متفوقة؛ فمن غير الواقعي أن تطلب هذا حتى من أكثر الجيوش «قوة»، وكأنك تحاول أن «تبدل النتيجة» — كي «تنال رضاء «الحظ»» — بطريقة «لا يخاطِر بأن يستخدمها أي رجل حكيم إلا إذا اضطر لذلك» (٤٠٣).

كما حدث في «المطارحتين» الأخريين لمكيافيللي، نجد أن بحثه في التاريخ الروماني يدفعه لأن ينهي حديثه بمقارنة بائسة بين الفساد التام الذي عانته مدينته، و«القوة» المثالية التي اتَّسَمَ بها العالم القديم. فقد كان من السهل على الفلورنسيين أن «يدركوا الوسائل التي استخدمها الرومان» في شئونهم العسكرية، و«كان من الممكن أن يحذوا حذوهم» (٣٨٠)، لكنهم في الواقع لم يستفيدوا بأي قدر من الأساليب الرومانية، ونتيجةً لذلك وقعوا في كل ما يمكن تصوُّره من مآزق (٣٣٩). فقد كان الرومان يدركون تمامًا ما كان ينطوي عليه التصرف على نحو متردد من مخاطر، لكن قادة فلورنسا لم يستوعبوا هذا الدرس الواضح من دروس التاريخ، وهذا جعلهم يجلبون «الخراب والعار على جمهوريتنا» (٣٦١). وكان الرومان دائمًا يدركون عدم جدوى القوات المرتزقة والمساعدة. لكن الفلورنسيين، شأنهم شأن العديد من الجمهوريات والإمارات الأخرى، لا يزالون يعانون إذلالًا لا داعي له جرَّاء اعتمادهم على هذه القوى الفاسدة والجبانة (٣٨٣). وكان الرومان يرون، فيما يتعلَّق بمراقبة مواطنيهم، أن سياسة «تشييد الحصون لتكون بمنزلة لجام يضمن ولاءهم» لن تولد إلا السخط وانعدام الأمن. لكن، على النقيض من ذلك، «المثل الدارج في فلورنسا على لسان حكمائنا، أن بيزا ومثيلاتها من المدن يجب أن تُؤمَّن بالحصون» (٣٩٢). وأخيرًا يأتي مكيافيللي بمنتهى الحسرة على ذكر المناورة التي كان قد وصمها بأنها تفتقر لأي قدر من التعقُّل على الإطلاق، والتي تتمثَّل في رفض التفاوض عند مواجهة قوات متفوقة في قوتها الحربية؛ فجميع الشواهد المستمَدَّة من التاريخ القديم تشير إلى أن هذه هي أكثر الطرق تهوُّرًا لنيل رضا «الحظ»، لكن هذا هو تحديدًا ما فعله الفلورنسيون عند اجتياح جيوش فرديناند في صيف عام ١٥١٢؛ فبمجرد أن عبَرَ الإسبان الحدودَ، وجدوا أنهم يعانون نقصًا في المؤن الغذائية، وحاولوا أن يعقدوا هدنةً، لكن «شعب فلورنسا، الذي أصابه ذلك بالغرور، لم يقبل بالهدنة» (٤٠٣)، فكانت النتيجة المباشِرة طرد براتو واستسلام فلورنسا، وسقوط الجمهورية وعودة طغيان مديتشي، وهي عواقب كان من الممكن تلافيها كلها. وهكذا يجد مكيافيللي نفسه مدفوعًا — كما حدث من قبلُ — لأن يُنهِي حديثه بتعليق يكلله الغضب اليائس من حماقات النظام الذي كان هو نفسه يخدمه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤