فجوة بين واقع ومثال

في الفلسفة الأوروبية المعاصرة — والإنجليزية منها بوجهٍ خاص — تيار فرعي يكاد يكون مجهولًا جهلًا تامًّا بين صفوة المثقفين عندنا؛ وذلك لأنه لم يجد من الدارسين من يُخرِجه من مراجعه الجامعية، ليعبر به الأسوار إلى دنيا الثقافة غير المُتخصصة حتى وهي في ذروتها؛ مع أن الفكرة الأساسية التي أراد ذلك التيار الفرعي ترويجها قد تكون ألزَمَ لنا، بما يُميزنا من خصائص في طريقة التفكير والتقدير، من أفكارٍ أخرى كثيرة، حسُن حظها على الأقلام، فشاعت بيننا شيوعًا لم يقف بها عند صفوة تُحسن الفهم، بل تجاوزتها إلى من هُم دون ذلك تحصيلًا وتدقيقًا.

فلعلك تعلم أنه لمَّا كان «العلم» — والعلم الطبيعي بوجهٍ خاص — منذ النهضة الأوروبية، وما زال حتى اليوم؛ هو أبرز خاصة من خصائص أخرى كثيرة تُميز العصر الحديث كله، بما فيه هذه المرحلة المُعاصرة، ثم كانت الفلسفة في معظم حالاتها، إنما هي آخر الأمر تحليل للوجود الثقافي القائم في عصرها، علمًا كان أو دينًا، أو غير ذلك من المحاور الأساسية التي تعلَّق بها الفكر الإنساني، فقد كان «العلم» ومنهجه — أو من مناهجه — هو أهم مشغلةٍ شُغلت بها الفلسفة في هذا العصر؛ فما الذي كانت — وما زالت — تبحث عنه في حياة العلم؟ إنه إذا جاز لنا أن نُلخِّص البحر في فنجان؛ قُلنا إن السؤال الأساسي الكامن وراء جهود الفكر الفلسفي خلال القرون الأربعة الأخيرة، هو هذا: ما الذي يُثْبِت لنا أن ما يُقدِّمه العلم صحيح صحة لا يأتيها البطلان؟ ولقد اقتضت الإجابة عن هذا السؤال تحليلات لكلِّ ما يتعلق بالعملية العقلية بسبب من الأسباب؛ فالعقل ما هو؟ والعقل كيف يعمل؟ والعقل ما حدوده التي لا يستطيع مجاوزتها؟ وإلى أي حدٍّ يمكن للعقل أن يصِل إلى يقين؟ وهل العقل — يا ترى — هو حقًّا العامل الأساسي في إدراك الإنسان لما هو حقٌّ أو أن هناك من وسائل الإدراك ما هو أصدق منه كالحدس أو البصيرة والقلب أو ما يُوحى به إلى الإنسان وحيًا؟

وهكذا أخذ رجال الفكر يُقلِّبون الموضوع من كل نواحيه؛ ليكونوا آخر الأمر على بينةٍ من قيمة الحقيقة العلمية: أهي مما يُوثَق في صدقه أم هي أقرب إلى الوسيلة المؤقتة تدوم ما دام لها نفع في التطبيق ثم تمضي إلى خزائن التاريخ؟

وتقليب الموضوع على هذا النحو الواسع والعميق، قد أدَّى ببعض هؤلاء الباحثين إلى التنكُّر للعقل من أساسه، من حيث هو أداة أولى في إدراك العلم الصحيح، نعم إنه هناك بين الأدوات التي جهزت بها فطرة الإنسان، لكنه يجب أن يَنتظر دوره في العمل؛ إذ ليس هو الذي يكشف لنا عن «الحق» بادئ ذي بدء؛ إنما هي قوى أخرى في طبيعة الإنسان، أمدَّه بها خالقه سبحانه، فهي التي تبدأ بذلك الإدراك للحقِّ في جُملته، وفي بداهته، وعندئذٍ فقط يتقدَّم «العقل» ليؤدي دوره؛ ودوره هو تحليل ذلك المُجمَل الذي أدركته بداهة الفطرة (على اختلاف الفلاسفة بعد ذلك في تخصيص الجانب الفطري في ذلك ماذا يكون) والقيام بعمليات استدلالية تُخْرِج من تلك البداية المُدركة نتائجها التفصيلية التي تترتَّب عليها.

وكان التيار الفرعي الذي أشرتُ إليه في مُستهل الحديث أحد التيارات التي لم تُرِد لمنطق العقل التحليلي أن يكون هو الجذر الأول في شجرة الإدراك؛ وإنما ذلك الجذر الذي لم يَسبقه شيء في عملية الإدراك هو ما أسمَوه أصحابه «بالحسِّ المشترك»؛ فهو «حس» لأنه مُستمَد من هذه الحاسة أو تلك، وهو «مشترك» لأن كل إنسان — ما دام سويَّ البدن والحواس — يُطابق كل إنسان آخر فيما يُدركه، فإذا كنا عشرة أشخاص — مثلًا — نتَّجه بأبصارنا نحو بُقعة من اللون الأصفر، فلن نجد منَّا واحدًا يقول إنه لا لون هناك، أو إنه لون غير الأصفر؛ تلك هي البداية الفطرية لكل إدراك، وهي بداية لا شأن للعقل بها، ومنها يبدأ العقل فاعليته، إذ قد يأخذ في تعقب الخطوات والمراحل التي تبدأ من وقوع البصر على ما وقع عليه؛ ليرى كيف تتمُّ العملية الإدراكية بعد ذلك: وقوعًا على شبكية العين، فسيرًا في العصب البصري، فوصولًا إلى المركز المختص بها من مراكز المخ، وعبورًا بعد ذلك من المخ إلى الأعضاء والأطراف التي تتحرك في جسم الإنسان المُدرك، لتؤدي ما طُلب منها أن تؤدِّيه؛ كأن يتحرَّك جهاز النطق فتقول: تلك بقعة صفراء، أو أن تمتدَّ الذراع لتمسَّ بأصابعها تلك البقعة الصفراء، مُستطلعة كيف يكون ملمسها، وغير ذلك من نشاطٍ بدني يجيء نتيجةَ ما أدركه المركز المُختص في المخ. هذه التحليلات أو ما يُشبهها هي من عمل «العقل»، لكنها — كما رأيت — لم تكن هي نقطة البدء في خط السير؛ إذ كان البدء حسًّا مُشتركًا نادى بأن هنالك بقعة صفراء.

وما معنى ذلك؟ معناه كبير وبعيد وعميق، وهو أنه ليس من حق «العقل» أن يشكَّ في صحة ما يُثبته الحس المشترك. وقد تسأل: وهل هناك من يجادل في وجود بقعة صفراء إذا قال الحسُّ المشترك إنها هناك؟ والجواب هو نعم، هناك من رجال الفكر الفلسفي من يريد أن يبدأ مما هو قبل ذلك الحس المشترك، من مدركات عقلية خالِصة، هي التي تُمكِّن ذلك الحس من أداء وظيفته أو لا تُمكنه، والكلام على هذا يطول.

وعلى هذا السند الذي قدمناه .. نستند فيما نحن ذاكرون هنا عن الثقافة العربية وتحديثها: وذلك أننا إذا ما أدرنا الأبصار هنا وهناك، فيما ينتجه مبدعو العناصر الثقافية عندنا، ارتدَّت إلينا تلك الأبصار قائلة: إن في حياتنا الثقافية ازدواجية من نوع خطير؛ لأنها ازدواجية بين «الواقع» و«المثال»، كيف ذلك؟ وماذا تعني؟ أعني أن في رءوسنا جميعًا — مُنتِجًا لثقافةٍ أو متلقيًا لها — صورةً عما «ينبغي» أن يكون، وقد يكون مصدر هذا الانبغاء عقيدة دينية أو سياسية، أو عرفًا اجتماعيًّا، أو تقليدًا موروثًا عن السابقين، أو تصورًا مفروضًا علينا ممن بيده السلطان، يجب علينا أن نتصور الوقائع في إطارها، لكن أمور الواقع الفعلي لا يلزم دائمًا، وبحكم الضرورة، أن تجيء على تلك الصورة التي ينبغي لها أن تكون، وها هنا يجيء مُنتِج الناتج الثقافي ليجد أمامه هذَين الطرفَين: هنالك «مثال» مرغوب فيه، وهنالك واقع فعلي لا حيلة لنا فيه، وهو واقع لم يقع على غرار المثال المطلوب، فماذا يختار محورًا لإبداعه الثقافي؟ أيصوِّر هذا الواقع الناقص كما يقع في نقصانه أم يُصوِّر المثال زاعمًا أنه هو الذي رأته عيناه واقعًا في حياة الناس؟ وكأن الذي ارتدَّت به الأبصار التي أرسلناها تستطلع حقيقة الأمر في الحياة الثقافية — منتجًا ومتلقيًا — هو أن الهوى، أو الخوف، أو تَصَيُّد الرضا عند الجمهور أو عند صاحب السلطان أو عند كليهما إذا تصادف أن يتطابقا على رغبة واحدة؛ يميل بمنتجٍ ابتغاء أن يصوِّر لنا واقع الناس وكأنه هو المثال المرجو وقد تجسَّد وتحقَّق، فمثلًا، أيقول «المثال» إن الريفي صافٍ نقي لا رذيلة فيه بل إنه لا يعرف للرذيلة طريقًا إلى أن تُوقعه الأحداث في مصيدة «المدينة» وشرورها؟ إذن فليكن ذلك هو ما تُصوِّره الرواية: ريفي على الفطرة المستقيمة، يذهب إلى المدينة فما هو إلا أن يتحول شيطانًا فاسقًا فاجرًا ضالًّا، أيقول «المثال» إن العامِلين بسواعدهم فِلاحة وصِناعة قد صُنعوا من معدنٍ أصيل نفيس لا يكذب ولا يغش ولا يخذل الجار والصديق على عكس من لوَّثتهم المدارس والجامعات بوباء الحضارة العصرية في انحرافها وشرها؟ إذن فلتُعرَض على الناس مسرحيات ومسلسلات ومقالات وأحاديث تُبين لهم كم هو نقي طاهر معصوم فلاح الأرض وعامل الحرفة اليدوية! وكم هو مصنوع زائف فلانٌ حامل الشهادات العلمية! وإنها لتُعرض على الناس أمثلة من فداحة الخسران الذي لحق بهؤلاء الذين تحضَّروا فسكنوا المدن بعد القرى، ثم سكنوا في المدينة شوارعها المرصوفة مُتنكِّرين للأزقة والحارات، رغم ما فسدت به أخلاق الناس من أهل الشارع المرصوف، وما استُقبلت به الأخلاق الأصيلة بين أهل الحارة والزقاق!

أيقول المثال عن أبطال السلَف إن الواحد منهم إذا ما تعقبتَ حياته الخاصة والعامة وجدته فضيلةً كله لا تشوبها نقيصة واحدة ووجدته علمًا خالصًا صحيحًا لا خطأ فيه ووجدته جوهرةً نقية لا شيةَ فيها لا باطنًا ولا ظاهرًا؟! فإذا كان هذا ما يقوله «المثال» عن بطولات السابقين، إذن فليكتب أدباؤنا عنهم تراجم يُصوِّرونهم استقامة بلا عِوَج وصوابًا بلا خطأ، وقوة بلا ضعف؛ وكذلك لينظم عنهم الشعراء، وليتحدَّث عنهم المتحدِّثون.

وهكذا يتحرك المبدعون للثقافة فيما يُبدعونه مُستلهمين مُثُلًا عُلْيَا خلقتها الأماني ونسجتها الأقلام، وأما الواقع كما يقع فلا شأن لهم به، أما الضعف البشري الذي لا بدَّ من شيء منه في أقوى الأشياء، أما التعرُّض للخطأ الذي لا بدَّ أن يُصيب أعلم العلماء، أما غواية العاطفة والغريزة، التي لا بدَّ أن تنال بمُغرياتها حتى مَن هم أكثر الناس عفةً وترفُّعًا، أما الصغائر الصبيانية التي تعاود الكبار آنًا بعد آنٍ وهم في مباذل حياتهم الخاصة، أما كل هذه الشوائب؛ فيكاد مبدعو الثقافة عندنا أن يغضُّوا عنها الأبصار، ويتلقَّى المتلقي صورًا من ذلك الكمال في حيوات السالفين، ثم ينظر إلى نفسه، وإلى من يعرفهم من مُعاصريه، فإذا هم جميعًا يزِلُّون في الخطأ رغم علمهم، ويسقطون في مزالق الضعف رغم قوتهم، وتغريهم العاطفة أو الغريزة بغوايتها رغم صلابتهم، فمن ذا الذي يلومه بعد هذه المقارنة إذا فقد الثقة بنفسه، وبعصره ومعاصريه، وارتد بالحنين كله وبالشوق كله إلى حياة السلف في صفائها ونقائها، إلا يكن بسلوكه الفعلي؛ فلا أقل من أن يكون ذلك بالخيال، فينتُج عن هذا ما لا بدَّ له أن ينتج من فجوة واسعة وعميقة، بين واقع ومثال.

والحق أن شيئًا من هذا قد ورثناه جاهزًا من أسلافنا: العربي القديم — ولا يختلف معك الأمر إذا قلت: المصري القديم — يختلف في تكوينه النظري؛ أي في طريقة رؤيته إلى الكون والإنسان عن اليوناني القديم، الذي منه انبثق الغرب كما نراه اليوم في وجهة نظره؛ فأما العربي القديم، فلِكَونه يسكن الصحراء؛ فقد أمدَّته هذه الصحراء بأسلوب النظر، فما الذي أمدَّته به الصحراء؟ إنك لست في حاجة إلى كاتب وكتاب ليُعطيك الجواب؛ بل ارجع إلى نفسك إذا ما وقفتَ على مشارف الصحراء، شاخصًا ببصرك إلى السماء وآفاقها؛ فهنالك التجانُس في اللوحة المرئية، رغم ما قد يَعتور سطح الأرض من كثبان الرمل تعلو وتهبط؛ فالسماء امتداد لوني واحد، والأرض امتداد لوني واحد، والاثنان يتلاقيان في أفقٍ بعيد، يتراجع أمام المسافر كلما تقدَّم إليه، وهنالك الصمت الذي لا تسمع فيه الآذان إلا صمتًا، وهنالك الرتابة التي تُكرر نفسها يومًا بعد يوم، فما الذي يخرج به ابن الصحراء إذا ما توالت عليه الأعوام؟ أليس الذي يخرج به هو «اللانهائي» الذي لا يعرف النهايات؟ هو «اللامحدود» الذي لا يعرف الحدود؟ نعم، هو ذاك؛ فلا يلبث ساكن الصحراء مع انطباعه هذا؛ حتى يجعل ذلك اللانهائي، اللامحدود؛ هو نفسه الإطار العام الذي يُقيم عليه مقوِّمات حياته العملية، من أخلاق تضبط له سلوكه، ومن أدبٍ ومن فنٍّ يعكس فيهما ذاته نفسه، فأما الأخلاق ومعاييرها الضابطة؛ فهي مُتشابهة بين شعوب الأرض جميعًا، فالفضائل عند هذا هي نفسها الفضائل عند ذاك، والرذائل عند ذاك هي نفسها الرذائل عند هذا، ولكن الفرق بين عربي الصحراء وغربي الغابة والسهل والجبل هو أنه بينما هذا الغربي يعرف للإنسان مواضع نقصه وعجزه وضعفه؛ فيجعل قِيَم الأخلاق بمنزلة مُثُل عُليا، يتشوف إليها الإنسان في حياة نقائصه، لعلَّه يزداد بتلك الرؤية استقامةً ورشدًا، مع اعتراف أهل الفكر والنظر منهم، بأن نزول المَثَل الأعلى ليتجسَّد في الناس على أرضهم هو ضرب من المحال، عمليًّا ونظريًّا على السواء؛ فهو مُحال من الناحية العملية بشهادة ما نراه واقعًا بالفعل في حياة الناس الجارية، ثم هو محال من الناحية النظرية؛ لأنه لو كان ما هو قائم بالفعل هو نفسه ما كان ينبغي له أن يكون؛ لفقد هذا «الوجوب» معناه، ولفقدت كلمة «الأعلى» التي تصف بها «المُثل الأخلاقية العُليا» معناها؛ فما هو غاية الغايات لا يكون هو نفسه الوسيلة فيما يسعى إليه الإنسان بحياته.

ومن هنا رأينا أدب الغرب وفنون الغرب تُقدِّم إلينا الفرد الإنساني في خضم حياته العملية ممزوجة فيه الكمالات مع النواقص والشوائب، ولا كذلك العربي القديم — والعربي الحديث من بعده وعلى غراره — في رؤيته للمَثَل الأعلى في أي ميدان من ميادينه، أخلاقًا وغير أخلاق؛ إذ هو لا يرى ما يمنع أن ينزل ذلك المَثل الأعلى ليمشي على أرض الناس بقدمَيه، ومعنى ذلك أن نُطالب الفرد الإنساني في حياته الفعلية؛ ليس فقط بأن يشخص ببصره إلى الكمال الخُلقي في غاياته البعيدة، مُهتديًا لا مُتقمصًا إياه؛ إذ إن تقمصه للكمال المرجو مُحال على طبيعته الناقصة، بل أن نُطالب الفرد الإنساني في حياته الفعلية بأن يُجسِّد الكمال الخُلقي في تلك الحياة.

وانظر في هذا الضوء إلى الأدب العربي الأصيل، وإلى الفن العربي الأصيل، تجد أن الأدب إذا صوَّر ما أراد تصويره؛ فالأغلب أن يُصوِّر المَثل الكامل من خياله وليس الكائن الناقص فيما يراه من مخلوقات على الأرض؛ فالشاعر يمدح من يمدحه، وكأن ممدوحه ذاك قد تمثَّلت فيه القِيَم الأخلاقية العُليا، ولم تعتوِرها فيه نقيصة واحدة، والشاعر يهجو من يهجوه، بأن يأتي بما ينتقض صورة المَثل الأعلى نقضًا كاملًا، أما أن يكون الكائن البشري مزيجًا من كمالٍ ونقص، فيرجح الكمال في من يمدحه الشاعر، ويرجح النقص في من يهجوه؛ فذلك أمر بعيد عن رؤية العربي الأصيل.

وانظر إلى الفن العربي الأصيل — حيثما وجدتَ فنًّا — وأقول ذلك لأن العربي قد صبَّ معظم طاقته الفنية في فن الكلمة، وأعني الأدب شعرًا ونثرًا، فلمَّا اتجه نحو فن التصوير، على الجدران، أو مختلف المصنوعات، كالسجاد، والنحاس، والخشب، والفخار، وجدناه بين اثنتَين: فإما هو مُتجه بفنه نحو تكوينات هندسية، وإما هو مُتجه به نحو رسوم من النبات والحيوان والطير، ومن الإنسان أحيانًا، مراعيًا أن تجيء الصورة مجردة من تفصيلات الأبدان، ومُكتفية بالخطوط الخارجية التي تُعطيك الإطار خاليًا من أعضائه وأجزائه، وكأنما أراد الفنان العربي بنزوعه إلى التجريد في كلتا الحالتين: حالة الرسوم الهندسية، وحالة الخطوط الإطارية الخالية من تفصيلات مضمونها، أقول إن الفنان العربي في كلتا الحالتين، كأنما أراد أن يُصور «أفكارًا» عقلية وروحانية، وليس أبدانًا وأشياء مجسَّدة في موادها الأرضية؛ فإذا أمعنتَ النظر في رؤية الفنان، التي يعلو بها على ما هو كائن بالفعل في دنيا الناس؛ مقارنًا إيَّاها برؤية الشاعر في تصوُّره وتصويره للمَثل الأعلى من خياله لا من الواقع؛ ومقارنًا إيَّاها كذلك برؤية الأخلاقي الذي لم يجد ما يمنع أن يتوحَّد ما «يجب» أن يكون فيما هو كائن بالفعل؛ رأيت بين يدَيك نموذجًا لوجهة النظر العربية الأصيلة، وقد انعكست في الأدب شعرًا ونثرًا، وفي الفن زخارف ورسومًا، وفي الأخلاق دمجًا للمَثل الأعلى في الكائن المُتحقِّق وجودًا على الأرض.

لكن الواقع الفعلي الذي تراه الأعين وتسمعه الآذان هو أن الناس بشر فيهم نقص البشر، يتمنَّى لنفسه علوًّا ثم يقصر دون العيش على نحو ما تمنَّى، فما الذي أنتجته هذه المفارقة في ثقافتنا معيشة أو مُصورة في مبدعات الفن والأدب؟ إنها أنتجت فينا ازدواجيةً قَلَّ أن تجد لها نظيرًا في ثقافةٍ أخرى، نعم، إنها قد تُوجَد في كل ثقافة أخرى آنًا بعد آنٍ، تبعًا لتغير الظروف الاجتماعية في فترات التاريخ، كالازدواجية أو النفاق الاجتماعي الذي يُقال عن الحياة الإنجليزية في العصر الفكتوري؛ أي إبَّان القرن الماضي في حكم الملكة فكتوريا، حين انفرجت الزاوية بين ما يدعو إليه الناس في حياتهم الأخلاقية وما كانوا يَحيَوْنه بالفعل؛ ولذلك يسهل علينا أن نلحظ ما يُشبه الثورة في الفكر والأدب هناك بعد الحرب العالمية الأولى، إذ أخذ رجال الفكر والأدب يُلِحُّون على وجوب الشجاعة الاجتماعية؛ ليستطيع الفرد أن يُعلن ما يحياه، وأن يحيا ما يُعلنه، وأما الموقف في الرؤية العربية — قديمها وحديثها المحاكي لقديمها — فهي عن مبدأ تُعلن ما هو أعلى وأمثل، ثم عن ضعفٍ بشري يعيش مزيجًا بين أعلى وأسفل، فينتج أن يعيش الناس على وجهين: أحدهما يكتبه الكاتبون ويتفنَّن به رجال الفن، ويشيد به أصحاب الفكر، وأما الوجه الآخر فهو الذي يَحيَونه بالفعل في خفاء؛ فالواجهة الثقافية معيشة ومكتوبة ومرسومة هي «عال العال»، وما وراء الواجهة حياة مليئة بضعف البشر.

كان ما ساعد الثقافة العربية في عهدها السابق، على أن يكتب الكاتب شيئًا ثم بعد ذلك يحيا شيئًا آخر، يبعد كثيرًا أو قليلًا عن الصورة المكتوبة (أو المنطوقة) دون أن يأخذه القلق من المفارقة بين الموقفين؛ هو أن تلك الثقافة في صورها التعبيرية، لم تلجأ إلى الأجناس الأدبية التي من شأنها أن تصور الإنسان على حقيقته وعلى دوافع طبيعية، كأدب الرواية وأدب المسرح (بالمعنى الذي يُفهم به اليوم ذلك الأدب)؛ فهاتان الصورتان من الإبداع الأدبي لا تتحرَّجان من تصوير الإنسان كما هو، كمالًا ونقصًا، وعظمةً وخسَّة، فإذا انحرف الأديب عن صدق التصوير، لم يُفلت من النقاد. وأما في التقليد العربي المُراعَى في أدب «الحكايات» (وهي مختلفة عن أدب الرواية والقصة بالمعاني المألوفة اليوم) مثل حكايات ألف ليلة وليلة؛ فقد رُوعي ألا تنتهي الحكاية إلا بعد أن يجد المستقيم في أخلاقه ثواب ما استقام، وأن يلقى المُنحرِف عقاب ما انحرف، بغضِّ النظر عن حقيقة الحياة العملية في ثوابها وعقابها. ولقد حدث لي يومًا ما أن شاركت في لجنة رسمية تنظر في شئون الأدب، فسمعتُ عضوًا فاضلًا يُبدي رأيه في وجوب أن تُراعَى القيم الدينية في كل أدبٍ يُنتجه أديب، فتوجَّهتُ إليه أطلب الشرح لأستنير، وسألته: افرض أن روائيًّا مثل أديبنا نجيب محفوظ يُصوِّر لنا حياة الناس في حارة قاهرية من حواريه، وكان بين هؤلاء الناس سكير، أو لص يقطع على المارة طريقهم، فما الذي تقترحه عليه في هذه الحالة؟ أتقترح أن يُسقط من حسابه كل من انحرف عن الخلق القويم فلا يمتدُّ إليه بقلمه أم تقترح عليه أن يتناول هؤلاء على أن يؤدِّبهم علنًا صونًا لأخلاق القرَّاء حتى لا يتأثروا بمن انحرف؟ ولستُ أذكر بدقة ماذا كان جواب العضو الفاضل، لكنني أذكر جيدًا أن فجوة كانت هناك، تُباعد رؤيته إلى الأدب عن رؤيتي، فبينما رأيتُ في الأدب كشفًا عن طبائع الناس كما هي واقعة؛ رأى سيادته في الأدب تعليمًا وتقويمًا، أو بعبارة أخرى، لقد رأيتُ أن يُربَط الأدب «بالواقع»، ورأى هو أن يعلو الأدب بعرض المُثُل.

إن الأدب العربي كما هو قائم بيننا الآن: قد خطا — بغير شك — خطوات بعيدة على الطريق الصحيح، وذلك بفضل لجوئه إلى الأشكال الأدبية الجديدة، والمأخوذة عن الغرب، كالرواية، والقصة، والمسرحية، فهذه كلها أشكال لا يدري الكاتب كيف يُقيمها، دون أن تكون مادته الخاصة أفرادًا بتفرُّد شخصياتهم، ومواقف بتفرُّد عناصرها؛ أعني أنها أشكال تُلزم الأديب إلزامًا، بأن يعرض نماذجه البشرية والواقعية؛ بحسناتها وسيئاتها، لكن الأمر لا يخلو، لا، بل إنه ليزدحِم بأمثلةٍ تُبين كم يحنُّ أديبنا الجديد إلى تقاليد كانت مقبولةً إلى حدٍّ ما في الشعر كما كان وفي النثر كما كان، لكنها لم تعُد مقبولة في الأشكال الأدبية الجديدة التي اصطنعناها؛ وذلك أننا كثيرًا جدًّا ما نجد أديب الرواية وأديب المسرحية يشيع في الرواية أو في المسرحية تبشيرًا سياسيًّا، أو دينيًّا أو قوميًّا، وكأن الذي يكتبه هو من قبيل «المنشورات» الدعائية، فيحكم ذلك على أدبه بالسقوط. نعم، إن للأديب مذهبه وعقيدته الدينية، ووطنه، وهنالك الوسائل لعرضها بكلِّ ما أراد من إخلاصٍ وقوة، كوسيلة «المقالة» السردية (وهي شيء غير المقالة الأدبية)، أما إذا تصدَّى للأدب في أي شكلٍ من أشكاله؛ تحتَّمَ عليه أن يتنصَّل من مذهبه، وعقيدته، ووطنيته، ليفرغ إلى شيءٍ واحد، هو دراسة الإنسان على طبيعته وحقيقته، كما يظهر في تفاعلاته مع الأشخاص الآخرين، ومع المواقف التي يقِف إزاءها وهو على طريق الحياة، فيما يرسُمه من حياةٍ في روايته أو مسرحيته. وحقًّا قد وُفِّقَ كثيرون من أدبائنا اليوم في بلوغ التصوُّر الأدبي الصحيح، سواء من أجاد التحليل والتصوير بعد ذلك، ومن قصرت به موهبته دون إدراك المدى. ولا أُريد أن أترك هذا السياق، دون أن أثبت الرأي ذاته في شعر شعرائنا اليوم، فلقد وقعوا كذلك في إدراك الهدف الصحيح، وهو أن يكون الأدب تصويرًا للواقع لا تبشيرًا بالمثال، إلا أنهم كذلك كان منهم من وُفِّقَ إلى الشكل الصحيح مع الهدف الصحيح، ومنهم من قصر دون ذلك.

وما الذي يدعو ثقافتنا بكل أشكالها إلى النفور من «الواقع» والجنوح نحو «المثال»؟ أهو السبب نفسه الذي تأثر به العربي القديم؟ وأعني به تأثُّره بالصحراء في طلاقتها ولا نهائيتها، أم هو سبب آخر استُحدِث له مع الزمن؟ وإنني لا أميل إلى إلقاء التبِعة على قوة السلطان من جهة، وضغط الرأي العام من جهةٍ أخرى، وعلى أي الحالتَين، فهو «الخوف» ومعه «الطمع» اللذان يفعلان في نفوس الأدباء فعلهما؛ فيُصوِّروا في أدبهم ما لا يرَونه، لا في حياتهم هم، ولا في حياة الناس؛ فأما الخوف من الأذى فيأتي من ذوي سلطانٍ أو من غضبة الرأي العام، والرأي العام في ذلك أعنف وأشد تأثيرًا؛ فلئن كان ذوو السلطان حريصين على مذاهب سياسية بعينها، يريدون لها الظهور علانية فيما تكتبه الأقلام؛ فإن الرأي العام يُريد أن يرى التقليد الأدبي قائمًا من حيث الإشادة بالمثال في كماله، وغض النظر عن الواقع في نقصِه. ولمَّا كانت قوة المذاهب السياسية تظهر وتختفي، في حين أن التقليد الأدبي راسخ بطيء الزوال؛ كانت غضبة الرأي العام أقسى على الأديب وأفعل، وحتى أعلامنا الكبار في الجيل الماضي وفي هذا الجيل الحاضر؛ قد يأخذهم الإخلاص للإبداع الأدبي، فيلتزمون واقع الحياة كلها في الجنس الأدبي الذي يُكتَب فيه، ولكنهم في كثير من الحالات «طمعوا» في رضا الرأي العام، بالإضافة إلى ما كان يُساورهم من «خوف»؛ فأداروا ظهورهم لما بدءوا به، وتفرغوا للأداء الأدبي على صورة تُزيل عنهم ذلك الخوف، وتُحقق لهم عند عامة الجمهور «حسن السير والسلوك».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤