مغامرة بيتر الأسود

لم أعهَد صديقي في حالةٍ أفضلَ عقليًّا وجَسديًّا ممَّا كان عليه في عام ١٨٩٥. لقد جلبَتْ شُهرته المُتزايدة عددًا هائلًا من العُملاء، وسأكون أحمَقَ إذا حاولتُ مُجرَّد الإشارة إلى هُويَّة بعض العُملاء المَرمُوقين الذين أتَوا إلى مَنزلنا المُتواضِع الكائن في شارِع بيكر ستريت. إلَّا أنَّ هولمز — شأنُه شأنُ كلِّ الفنَّانين العُظَماء — كان يعيش من أجل فنِّه، ونادرًا ما عهِدْته يُطالِب بأيِّ مُكافأة كبيرة نظير خِدماته الثمينة إلَّا في قضيَّة دَوق هولديرنيس. لم يكن يَهتمُّ كثيرًا بالمال أو ربما كان هوائيَّ المِزاج لدرَجة أنه كثيرًا ما كان يرفُض مُساعدة الأشخاص ذَوي القوَّة والثراء عندما لا تُثير مُشكلاتهم تَعاطُفَه، في حين كان يكرِّس أسابيع من الجُهد الشديد لقضية عميلٍ مِسكين تتوفَّر فيها الخواصُّ الغريبة والدِّرامية التي تُغري خَيالَه وتتحدَّى عبقريَّته.

في هذا العام المشهود ١٨٩٥، شغَلَت اهتمامَه سلسلةُ قضايا غريبة وغير مُتَّسِقة، تراوَحَت ما بين تحقيقه الشهير في الموت المُفاجئ لكاردينال توسكا — وقد أجرى هذا التحقيق بناءً على رغبةٍ صريحة من قَداسة البابا — إلى اعتِقاله لويلسون، مُدرِّب الكناري السيئ السُّمعة، وقد أسفر هذا عن تطهير الطرَف الشرقي من لندن من هذه البُقعة الموبوءة. جاءت في أعقاب هاتَين القضيَّتَين الشَّهيرتَين مأساة وودمانز لي، والظروف الشديدة الغُموض التي اكتنَفَت مَقتل الرُّبَّان بيتر كاري. ولا يُعَدُّ أيُّ سردٍ لأعمال السيد شيرلوك هولمز مُكتملًا ما لم يَحتوِ على بعض تفاصيل لهذه القضية الشديدة الغَرابة.

في الأسبوع الأول من يوليو كان صديقي يَتغيَّب كثيرًا ولأوقاتٍ طويلة عن سكَنِنا، وعندها علِمتُ أنه مُنشغلٌ بشيءٍ ما. وعندما اتَّصل في هذه الفترة عدَّة رجال قُساة المَظهر وطلَبوا التحدُّث إلى كابتن بازل، أيقَنتُ أن هولمز يعمل في مكانٍ ما مُتخفِّيًا تحت أحد الأقنِعة والأسماء التي لا تُحصَر، والتي من خِلالها يُخفي هويَّته المَهيبة. كان لدَيه على الأقلِّ خمسة أماكن صغيرة في أنحاءٍ مُختلِفة في لندن، يلجأ إليها ليتمكَّن من تغيير هُويَّته. لم يكن يُخبِرني بشيءٍ عن عمله، ولم يكن من عادتي أن أُجبِره على البَوح. وكانت أول إشارةٍ إيجابية أتلقَّاها منه عن اتِّجاه سَير التحقيق إشارةً غريبة. فلمَّا جلَستُ لأتناوَل الفطور الذي كان هولمز قد رَحل قبل تناوُلِه، وجدتُه يدخل الغرفة مُرتدِيًا قُبَّعَته على رأسه واضِعًا حرْبةً ضخمة ذات رأسٍ مُدبَّبٍ كالمِظلَّة تحت ذِراعه.

فصحتُ قائلًا: «يا إلهي، هولمز! لا تقُل لي إنك كُنتَ تتجوَّل في لندن بهذا الشيء!»

«لقد ذهبتُ إلى الجزَّار وعُدت.»

«الجزار؟»

«ورجعتُ بشهيَّةٍ مُمتازة. عزيزي واطسون، لا خِلاف على أهميَّة التَّمارين قبل الإفطار، ولكنَّني مُستعدٌّ لمُراهنَتك على أنك لن تستطيع أن تُخمِّن كيف كان تمريني.»

«لن أحاوِل حتى.»

قُلتُها ضاحِكًا وأنا أصبُّ القهوة.

«لو كنتَ قد نظرْتَ إلى الباحَةِ الخلفيَّة لمَتجَر ألاردايس لوجدْتَ خِنزيرًا ميِّتًا يتأرجَح من خطَّاف مُعلَّق في السَّقف، ورجلًا نبيلًا يرتدي قميصًا دون مِعطف يطعَن الخِنزير بقوَّةٍ بهذا الرُّمح. لقد كنتُ ذلك الشخص المُفعَم بالحيوية، وأقنعتُ نفسي أنَّني أستطيع دون استِخدام القوَّة أن أطعَن الخِنزير بضربةٍ واحِدة. ربما تَودُّ أن تُجرِّب!»

«لا شيء في العالَم يَدفعُني إلى ذلك، ولكن لماذا فعلتَ ذلك؟»

«لأنه بدا لي أنه مُرتبِط بطريقةٍ غير مُباشِرة بلُغْز وودمانز لي. أهلًا هوبكنز، وَصَلَني تلغرافك البارِحة وتوقَّعتُ مَجيئك. تعالَ وانضمَّ إلينا.»

كان زائرُنا رجلًا شديد اليَقَظة، يبلُغ من العمر ثلاثين عامًا، يرتدي بذلةً صُوفيَّة بسيطة، لكن قامته كانت مُنتصِبة مثل أولئك الأشخاص المُعتادِين على ارتداء الملابس الرسمية. عرفتُ على الفور أنه ستانلي هوبكنز، مُفتِّشُ الشرطة الشابُّ الذي يتوقَّع هولمز لمُستقبَله آمالًا كبيرة، ويعبِّر هو بدوره عن إعجاب التلميذ واحترامه للأساليب العلمية التي يَستخدِمها الأستاذ الهاوي الشهير. عقد هوبكنز حاجِبَيه، وجلَس يعلو هامَتَه الحُزن الشديد.

«شكرًا يا سيدي. لقد تناولتُ فطوري قبل أن آتي. لقد قضيتُ الليلة في المدينة، لأنَّني جئتُ البارِحة لأُبلِّغَك شيئًا.»

«وما الذي ستُخبِرني به؟»

«الفشَل يا سيِّدي، الفَشَل الذَّريع.»

«ألم تُحرِز أيَّ تقدُّم؟»

«لا شيء.»

«ربَّاه! يجِب أن أُلقي نظرةً بنفسي على هذا الأمر.»

«أتمنَّى ذلك كثيرًا يا سيِّد هولمز؛ فهذه أول فُرصةٍ كبيرة أحظى بها، وقد تقطَّعَت بي الأسباب. أستحلِفُك أن تأتي معي وتُساعِدني.»

«حسنًا، حسنًا، لقد قرأتُ بالفِعل وباهتمامٍ شديد كلَّ الأدلة المُتاحة بما في ذلك تقرير التحقيق. بالمناسبة، ماذا فعلتَ بحافِظة التَّبغ التي عُثر عليها في مسرح الجريمة؟ ألا تدلُّنا على شيء؟»

بدَتْ على هوبكنز الدَّهشة.

«هذه الحافِظة ترجِع إلى القتيل يا سيِّدي؛ فمكتوب بداخلها أحرُف اسمه الأولى. والحافظة مصنوعة من جِلد الفُقمة؛ وصاحبها كان صائد فُقَم عجوزًا.»

«لكن لم يكن لديه غليون. أليس كذلك؟»

«بلى يا سيدي، لم نعثُر على أي غليون؛ في الواقِع، كان قليلًا ما يُدخِّن. ومع ذلك، فمن المُحتمَل أن يكون قد احتفَظ ببعض التَّبغ لأصدقائه.»

«لا شكَّ في أنني لم أذكُر الغليون إلَّا لأنني كنتُ سأميل لجعْله نقطة بداية التحقيق لو كنتُ أنا من يتولَّى هذه القضية. إلَّا أن صديقي د. واطسون لا يعرِف شيئًا عن هذا الأمر، ولا ضرر من سماع تَسلسُل الأحداث مرةً أخرى. أعطِنا وصفًا قصيرًا للأحداث الضرورية فقط.»

أخرج ستانلي هوبكنز من جيبه قصاصةً من الورق.

«يُوجَد هنا بعض التواريخ التي ستساعدكم في التعرف على الحياة المهنية للقتيل الرُّبَّان بيتر كاري. وُلد في عام ١٨٤٥؛ يبلغ من العمر الآن ٥٠ عامًا. كان صائد فُقَم وحيتان شديد الشجاعة وبالِغ النجاح. في عام ١٨٨٣ أصبح رُبَّان الباخرة «سي يونيكورن» التابعة لمدينة دندي والمُخصَّصة لصيد الفُقمة. وحينذاك قام بالعديد من الرِّحلات البحرية الناجحة المُتوالية، وتقاعَد في السنة التالية المُوافِقة ١٨٨٤. وبعد ذلك سافر لعدَّة سنوات، وفي النهاية اشترى مكانًا صغيرًا يُسمَّى وودمانز لي، بالقُرب من قرية فورست رو في مقاطعة ساسكس. وعاش هناك لمُدَّة ستة أعوام، ومات هناك أيضًا الأسبوع الماضي.

تُوجَد أمور شديدة الغَرابة مُتعلِّقة بهذا الرجل؛ ففي حياته العادية كان رجلًا بروتستانتيًّا مُتزمِّتًا؛ وكان شخصًا يميل إلى الصمت والكآبة. كانت أسرته تتكوَّن من زَوجة وابنة تبلُغ من العمر عشرين عامًا، وخادِمتَين. وهاتان الخادِمتان كانتا تتغيَّران باستمرار؛ لأن الخِدمة في هذا البيت لم تكن أمرًا مُبهجًا، بل كانت تفوق الاحتمال في بعض الأحيان؛ فقد كان هذا الرجل يثْمَل بين الحين والآخر، وعندما يتملَّكه الغضب يتحوَّل إلى شيطان مَريد؛ فلقد كان معروفًا بطرده زوجتَه وابنتَه خارج المنزل في منتصف الليل وضربهما بالسَّوط في حديقة المنزل فيخترِق صراخهما أسوار المنزل مُوقِظًا القرية كلها.

لقد استُدعِيَ من قبلُ لاستِجوابه عن اعتدائه الوَحشيِّ على الكاهن العَجوز الذي قد استدعاه ليوبِّخه على سلوكه. باختصارٍ يا سيد هولمز، بيتر كاري أخطر رجلٍ قد تُقابِله في حياتك. ولقد سمعتُ أنه كان يحمِل الطبع نفسه أثناء عمله رُبَّانًا لسفينته. كان معروفًا في مجال عمله ﺑ «بيتر الأسود»، ولم يكتسب هذا اللَّقب فقط بسبب ملامحه الداكنة ولَون لِحيته الكبيرة بل بسبب تقلُّباته المِزاجية التي كانت تُثير الرُّعب في نفوس مَن حوله. لا أحتاج إلى أن أوضِّح أنه كان مكروهًا ومنبوذًا من كلِّ جيرانه، وأنَّني لم أسمَعْ كلمةً واحدةً من الأسى على نهايته الشنيعة.»

«لا بُدَّ يا سيد هولمز أنك قرأتَ ما ورَد في التحقيق عن كُوخ هذا الرجل، لكن ربما لم يعرِف صديقك أيَّ شيءٍ عنه. لقد بنى لنفسه مبنًى مُلحقًا من الخشب — كان يُطلِق عليه دائمًا «الكوخ» — يبعُد عن منزله بمائة ياردة، وكان ينام فيه كلَّ ليلة. كان الكوخ صغيرًا يتكوَّن من غرفة واحدة، مساحتها سِتَّ عَشرة قدَمًا في عشر أقدام. كان يحتفِظ بالمِفتاح في جيبه ويُرتِّب سريره وينظف الكوخ بنفسه ولم يسمح لأحد أن تطأ قدمُه عتبة الكوخ. وعلى كلِّ جانبٍ من جوانب الكوخ كانت هناك نوافذ صغيرة، وكانت مُغطاةً دائمًا بالستائر ولم تُفتَح مُطلقًا. إحدى هذه النوافذ كانت تُطلُّ على الطريق السريع، وكان الناس يُعلِم بعضهم بعضًا عندما تُضاء الأنوار ويتساءلون عمَّا يفعله بيتر الأسود هناك. وتلك هي النافذة يا سيد هولمز التي منَحتْنا أحد الأدلَّة الإيجابية القليلة التي ظهرَت لنا من هذا التحقيق.

أتذكُر الحجَّار الذي يُدعى سلاتر الذي كان عائدًا من فورست رو في حوالي الساعة الواحدة صباحًا — قبل الجريمة بيومَين — وتوقَّف أثناء مُروره على الأرض المُحيطة بالمنزل ونظَر إلى نافذة الضوء التي كانت لا تزال ساطِعةً وسط الأشجار؟ لقد أقسم أنه رأى ظِلَّ رأس رجلٍ مُلتفِت للجانب واضحًا للغاية على الستار، وأن هذا الظلَّ بالتأكيد لم يكن ظِلَّ بيتر كاري الذي يعرفه جيدًا. لقد كان رأس رجلٍ مُلتحٍ، لكن اللحية كانت قصيرة ومُشعَّثة إلى الأمام على نحوٍ مُختلِف تمامًا عن لِحية الرُّبَّان. هذا ما قاله الحجَّار، إلا أنه كان قد مكث في الحانة لساعَتَين، وهذه الحانة بعيدة عن الطريق المؤدِّي إلى النافذة. عِلاوةً على ذلك، فإن ما قاله يعود إلى يوم الإثنين، والجريمة وقعَت يوم الأربعاء.

في يوم الثلاثاء، كان بيتر كاري في أكثر حالاته المِزاجية سوءًا، وكان شديد الثَّمالة وشرِسًا كحيوان برِّيٍّ مُتوحِّش. جابَ حول المنزل، ولاذَت النساء بالفِرار عند سَماعه وهو قادم. وفي وقتٍ مُتأخر من تلك الأمسية نزل إلى كُوخه. وفي حوالي الساعة الثانية من صباح اليوم التالي سمِعَت ابنته، التي كانت نائمة ونافِذة غُرفتها مفتوحة، صيْحةً مُخيفة جدًّا قادمة من ذلك الاتجاه، إلَّا أنه لم يكن غريبًا على السيد بيتر أن يصيح ويصرُخ عندما يكون ثمِلًا؛ لذا لم تكترِث. وعندما استيقظَت إحدى الخادِمتَين في الساعة السابعة لاحظَت أن باب الكوخ كان مفتوحًا، ونظرًا لأنه كان يُثير رُعبًا شديدًا في نفوسهما فلم تجرؤ إحداهما على النزول لرؤية ما حدَث له إلَّا عند منتصف الظهيرة. ولما اختلستا النظر عبر الباب المفتوح رأتا مشهدًا جعلهما تُهروِلان بوجهَين شاحِبَين نحو القرية. وفي غضون ساعةٍ كنت قد وصلتُ إلى مكان الحادث وتولَّيتُ القضية.

حسنًا، أنت تَعلَم يا سيد هولمز أنني أملِك أعصابًا حديدية، لكن أُقسِم لك أن أوصالي قد ارتعدتْ حين خطوتُ داخلَ هذا الكوخ؛ فلقد كان طَنينُ الذُّباب والذُّباب الأزرق يُشبِه طَنين آلة أرغُن، وكانت الأرض والجُدران مُلطخةً بالدماء كالمذبح. كان يُسمِّي هذا الكوخَ مقصورةً، وهو بالفعل كذلك؛ لأن الكوخ يُعطي انطباعًا لأيِّ شخصٍ بأنه داخل سفينة؛ إذ كان يحتوي على سريرٍ في أحد الجوانب، وصندوق بحَّارة، وخرائط وجداول، وصورة الباخرة «سي يونيكورن»، ووصْف من سجلَّات أحوال السُّفن على الرَّف، وكلها بالطبع أمور من المُتوقَّع أن تجِدها في غرفة الرُّبَّان. وفي منتصف الكوخ كان هناك الرجل نفسه، ووجهه مُشوَّه كرُوحٍ ملعونة مُعذَّبة، وكانت لِحيته الكثيفة الرقطاء مُشيرةً إلى أعلى من آلام الاحتضار. وانغرَس في صدره العريض رُمح حديدي اخترَق بعُمقٍ خشب الجدار خلفه. لقد كان ثابتًا بلا حَراكٍ كخُنفساء مُلصَقة على بطاقة فحص. بالطبع كان ميِّتًا، وكان على هذا الوضع منذ اللحظة التي أطلَق فيها صيحة الألم الأخيرة.

أنا على دِراية بأساليبك يا سيدي، وقد طبَّقْتُها. وقبل أن أسمح بتحريك أيِّ شيءٍ فحصتُ بدقَّةٍ بالِغةٍ مُحيطَ الكوخ وأيضًا أرضية الغرفة. ولم يُوجَد أيُّ آثار أقدام.»

«هل تعني بهذا أنك لم ترَ أيَّ آثار أقدام؟»

«أؤكِّد لك يا سيدي أنه لم يُوجَد أيُّ آثار مُطلقًا.»

«عزيزي هوبكنز، لقد قُمتُ بالتحقيق في العديد من الجرائم، لكن لم يَسبِق لي أن رأيتُ جريمةً ارتكَبَها مخلوقٌ طائر. ما دام المُجرم يَظلُّ سائرًا على قدَمَين لمدةٍ طويلة، فلا بدَّ من وجود تجويف أو بعض الخدوش أو إزاحةٍ طفيفة يُمكن أن يُلاحِظها أي باحث يعتمِد في بحثه على الأساليب العِلمية؛ فمن غير المعقول ألَّا تحتوي غرفةٌ ملطَّخة بالدِّماء على أي أثرٍ يُمكن أن يساعِدنا. ومع ذلك فلقد فهمتُ من التحقيق أنه كان هناك بعض الأشياء التي عجزتَ عن التَّغاضي عنها. أليس كذلك؟»

خجِلَ المُفتِّش الشاب من تعليقات رفيقي الساخرة.

«كانت حماقةً منِّي أنني لم أستدعِك في وقتها يا سيد هولمز. لكن لا يُفيد النَّدَم الآن. نعم لقد كانت في الغرفة أشياء عديدة تتطلَّب اهتمامًا خاصًّا. أحد هذه الأشياء كان الرُّمح المُخصَّص لصَيد الحِيتان الذي ارتُكِبت به الجريمة. لقد انتُزِعَ من الحامِل المُعلَّق على الجدار، وبقيَ الرُّمحان الآخران في مكانهما، وظلَّ المكان المُخصَّص للرُّمح الثالث شاغرًا. نُقِشَ على المِقبَض ««إس إس» الباخرة «سي يونيكورن»، مدينة دندي.» وهذا يدلُّ على أنَّ الجريمة ارتُكِبَت في نوبةِ غضب، وأن القاتل انتزَع أول سلاحٍ جاء في مَرمى بصره. نظرًا لأن الجريمة وقعَت في الساعة الثانية صباحًا، وكان بيتر كاري وعلى الرغم من ذلك فإنه ما زال مُرتدِيًا ملابسه بالكامل، فهذا يُرجِّح أنه كان على مَوعدٍ مع القاتل، وهذا ما أكده وجود زجاجة من شراب الروم وكأسَين مُتَّسِخَين على المِنضدة.»

قال هولمز: «نعم، أعتقِد أن كِلا الاستنتاجَين جائز. هل كان في الغرفة أية خمور أخرى غير شراب الرُّوم؟»

«نعم، كانت هناك خِزانة مشروبات فوق صندوق البحر، تحتوي على البراندي والويسكي. إلَّا أن هذا لا يُشكِّل لنا أية أهمية؛ فما دامت زجاجات الخمر مُمتلئة، فهذا معناه أنها لم تُستَخدَم.»

قال هولمز: «على الرغم من ذلك، فإن وجود الزجاجات له أهمية، لكن دعنا نعرِف المزيد عن الأشياء التي بدا لك أنها ذات عَلاقة بالقضية.»

«وجدتُ حافِظة التَّبغ هذه على المِنضدة.»

«على أيِّ جزءٍ من المِنضدة؟»

«كانت موضوعةً في المُنتصف. إنها مصنوعة من جِلد الفُقمة الخشِن؛ ذلك الجِلد ذي الشعر الأملَس، ويربِطها حِزام جِلدي. وفي الداخل نُقِش على الغِطاء الحَرفان «بي سي». أيضًا كان بداخلها نصف أوقِية من تَبغ السفينة القوي.»

«ممتاز! وماذا أيضًا؟»

أخرج ستانلي هوبكنز دفترًا من جَيبه غلافه شاحِب اللون. كان مَلمسه الخارجي خشنًا وفي حالةٍ بالِيَة وأوراقه كانت باهِتة. كُتِبَ في الصفحة الأولى «جيه إتش إن» — وهي الأحرف الأولى لاسمٍ ما — والتاريخ «١٨٨٣». وضع هولمز الدفتر على المِنضدة وتفحَّصه كعادته بدقَّةٍ بالغة، ووقفتُ أنا وهوبكنز نُحدِّق من وراء كَتِفيه. وجدْنا في الصفحة الثانية الأحرف «سي بي آر» مطبوعةً، وتلاها العديد من الصفحات المليئة بالأرقام. وتنوَّعَت عناوين الصفحات ما بين الأرجنتين وكوستاريكا وسان باولو، وكان يتلو كلَّ عنوان صفحاتٌ مليئة بالعلامات والأرقام.

سأله هولمز: «ما الذي استنْتجتَه من كلِّ هذا؟»

«يبدو أنها قوائم سنَدات في سوق الأوراق المالية. أعتقِد أن «جيه إتش إن» هي الأحرُف الأولى لاسم سِمسار، وأيضًا من المُحتمَل أن تكون «سي بي آر» الأحرُف الأولى لأحد عُملائه.»

قال هولمز: «وما رأيك في أن هذه الأحرف ترجِع إلى السِّكة الحديدية الباسيفيكية الكندية؟»

أطلق ستانلي هوبكنز سبابًا وهو يكزُّ على أسنانه، وضرَب بقبضته على فخْذه.

صرخ قائلًا: «كم كنتُ غبيًّا! بالطبع هي كذلك كما قُلت. إذن فالأحرُف الأولى «جيه إتش إن» هي الرمز المُتبقِّي الذي يَتعيَّن علينا حلُّه. لقد فحصتُ بالفعل قوائم سوق الأوراق المالية القديمة، ولم أستطِع العثور على أحد في عام ١٨٨٣ — سواءٌ في البورصة المَحليَّة أو بين السماسرة الخارجيِّين — تتوافَق الأحرُف الأولى من اسمه مع تلك الأحرف. على الرغم من هذا، فإن لديَّ شعور بأن الدليل الذي توصلتَ إليه هو أهمُّ واحد. ستُقِرُّ يا سيد هولمز باحتمالِيَّة رُجوع هذه الأحرف إلى الشخص الثاني الذي كان موجودًا وقتَ الجريمة؛ بعبارةٍ أُخرى القاتل. علاوةً على ذلك فأنا أُصرُّ على أن ظهور مُستنَدٍ مُرتبِط بأعداد هائلة من السَّندات المالية القيِّمة يُعطينا لأول مرَّةٍ دلالة على دافِع ارتكاب الجريمة.»

بدا على وجه شيرلوك هولمز أنه مذهول جدًّا من هذا التطوُّر الجديد.

فقال: «يجِب أن أعترِف بصحَّة وِجهة نظرِك. أعترِف بأن هذا الدَّفتر الذي لم يظهر في التحقيق غيَّر أيَّةَ فكرة كنتُ قد كوَّنتُها. لقد كوَّنتُ تَصوُّرًا عن الجريمة لا يمكِن أن أجِد فيه مكانًا لهذا. هل حاولتَ تتبُّع أيٍّ من السَّندات المالية المذكورة هنا؟»

«تجرى التحقيقات الآن في المكاتب، ولكنَّني أخشى أن يكون السِّجِلُّ الكامل لحمَلة أسهم شركات أمريكا الجنوبية موجودًا في أمريكا الجنوبية، وفي هذه الحالة لا بُدَّ من أن ينقضي بعض الأسابيع قبل أن نستطيع تتبُّع السندات المالية.»

ظلَّ هولمز يتفحَّص غلاف الدفتر مُستخدِمًا عدَسته المُكبِّرة.

قال: «قطعًا تُوجَد بُقعة هنا.»

«أجل يا سيدي، هذه بُقعة دماء. أخبرتُك من قبل أنني التقطتُ الكتاب من الأرض.»

«هل كانت بُقعة الدماء من الأعلى أم من الأسفل؟»

«على الجانب المُجاور للألواح الخشبية.»

«وهذا يُثبِت بالطبع أن الدفتر سقَط بعد ارتكاب الجريمة.»

«بالضبط يا سيد هولمز. لقد أدركتُ هذه النقطة، وخمَّنتُ أن الدفتر سقط من القاتل أثناء هروبه المُتعجِّل واستقرَّ قُربَ الباب.»

«أعتقِد أنه لم يعثُر على أيٍّ من هذه السَّندات ضِمن مُمتلكات القتيل؟»

«نعم يا سيدي.»

«هل لديك حُجَّة للاشتِباه بحالة سرِقة؟»

«لا يا سيدي. لم يُلمَس أي شيء.»

«ربَّاه! هذه القضية مُثيرة جدًّا. إذن كان هناك سكين. أليس كذلك؟»

«بلَى وجَدنا سكينًا ذا غِمْد، ما زال في غِمْده مُلقًى عند قدَم القتيل. تعرَّفت السيدة كاري على السكين وقالت إنه يعود لزَوجها.»

غرِق هولمز في التفكير لبعض الوقت.

وأخيرًا تكلم قائلًا: «حسنًا، أعتقِد أنه يجِب أن أخرُج وأُلقي نظرةً عليه.»

صاح ستانلي هوبكنز فرحًا: «شكرًا جزيلًا يا سيِّدي. لقد أزحتَ عنِّي حملًا ثقيلًا.»

أشار هولمز بإصبعه مُنبِّهًا للمُفتِّش.

قال: «كانت المُهمَّة ستصير أسهل إن تمَّت منذ أسبوع، لكن زيارتي الآن أيضًا من المُمكِن ألَّا تكون غير مُثمِرة تمامًا. سأكون في غاية السعادة في صُحبتك يا واطسون إذا كان لديك الوقت لتأتي معي. إذا طلبْتَ لنا يا هوبكنز سيارة؛ فسنكون جاهِزين للذَّهاب لفورست رو في غضون ربع ساعة.»

نزلْنا بمحطَّةٍ صغيرة على قارعة الطريق، وسِرنا بضعةَ أميال عبر أطلال غابات فسيحة، كانت يومًا ما تُشكِّل جُزءًا من غابة «ويلد» المَنيعة، تلك الغابة العظيمة التي منعَت تقدُّم الغُزاة السكسونيِّين لسِتِّين عامًا وكانت حِصنًا لبريطانيا. لقد أُزيلَتْ مساحات شاسِعة من الغابة فهي مقرُّ أوائل مصانع الحديد في الريف، وقُطعَت الأشجار لاستِخدامها وَقودًا لإذابة المعادن. في الوقت الحالي استوعبَت الحقول الأغنى في منطقة الشمال هذه الحِرفة، ولم يبقَ سوى هذه البساتين المُحطَّمة والنُّدوب العميقة في الأرض شاهدًا على ما قامت به الغابة في الماضي. وفي منطقة خالية من الأشجار واقِعة على مُنحدَر التلِّ الأخضر كان هناك منزلٌ حَجَري طويل ذو سقفٍ مُنخفض بجانبه طريق مُنحنٍ يمرُّ بالحقول. وبمكانٍ أقرب إلى الطريق كان هناك كوخ صغير مُحاطٌ بثلاثة جوانب من الشُّجَيرات، وكان في اتجاهنا إحدى نوافِذ هذا المبنى وبابه. كان هذا مسرح الجريمة.

تقدَّمَنا ستانلي هوبكنز إلى المنزل، حيث قدَّمَنا إلى أرملة القتيل، وهي سيدة هزيلة ذات شعرٍ رَمادي اللون، يكشِف وجهها النحيل العميق التجاعيد، ونظرة الرُّعب الخفيَّة في أعماق عينيها المكسوَّة بالحُمرة عن سِني العذاب وسوء المُعاملة التي تحمَّلتها. كانت برفقة السيدة ابنتها، وهي فتاة شاحِبة شقراء الشعر. كانت عيناها تتوهَّج في تحدٍّ عندما أخبرَتْنا عن مدى فرحتِها لمَوت أبيها، وأنها تُبارِك اليد التي أزهَقَت روحه. لقد خَلَق بيتر كاري الأسود بيئةً أُسَرية مُروِّعة. وشعَرنا بارتِياحٍ شديد حين وجدْنا أنفسنا مرةً أخرى تحت أشعَّة الشمس وشققْنا طريقنا عبر ممرٍّ وسْط الحقول أبْلَته أقدام القتيل.

كان الكوخ من أبسط ما يُمكن؛ فجُدرانه مصنوعة من الخشب وسقفُه مكسوٌّ بالألواح الخشبية، وبه نافِذتان: واحدة بجانِب الباب والأخرى في الجانب المُقابِل. أخرج ستانلي هوبكنز المِفتاح من جَيبه وانحنى ليفتَح القُفل، ثم فجأةً توقَّف وعلَتْ وَجهه علامات الانتِباه والدَّهشة.

قال: «لقد عبَث به أحد.»

لا يُوجَد مجال للشكِّ بشأن هذه الحقيقة. كان الخشب مشقوقًا وكشفَت الكشوط عما تحت الطِّلاء من طبقةٍ بيضاء كأنها فُعِلَت منذ لحظات. تفحَّص هولمز النافذة.

وقال: «أحدُهم حاوَل أن يقتحِم النافذة أيضًا. لقد فشل ذلك الشخص في الدخول إلى هنا. بالتأكيد هو لصٌّ فقير للغاية.»

قال المُفتِّش: «هذا حقًّا مُثير جدًّا للدهشة، أُقسم أن هذه العلامات لم تكن موجودة هنا مساء البارِحة.»

قلتُ مقترحًا: «من المُمكِن أن يكون من فعل هذا شخصٌ من القرية أثاره الفضول.»

«لا أعتقِد ذلك. قليلٌ منهم قد يَجرؤ على أن تطأ قدمُه هذه الأرض، ما بالك باقتِحام الكوخ! ما رأيك يا سيد هولمز؟»

«أعتقِد أن الحظَّ كريم جدًّا معنا.»

«هل تقصِد أنَّ الشخص الذي فعل هذا سيأتي مُجدَّدًا؟»

«نعم من المُحتمَل جدًّا، لقد جاء مُتوقِّعًا أن يجِد الباب مفتوحًا ثم حاوَل أن يدخل باستخدام نَصل مُطواةٍ صغيرة الحجم، ولم ينجَح في الدخول. فماذا عساه أن يفعل؟»

«أن يأتي في الليلة التالية ويُحاوِل مرَّةً أخرى باستِخدام أداةٍ أكثرَ نفعًا لتُمكِّنه من الدخول.»

«أوافقك الرأي. سيكون من الخطأ ألَّا نكون هنا لاستِقباله. أما في الوقت الحالي، فدَعْني أتفقَّد الكوخ من الداخل.»

أُزيلَت آثار المأساة التي حدثت، ولكن بَقِيَ الأثاث داخل الغرفة الصغيرة على حاله منذ ليلة الحادثة. ولمُدَّة ساعتَين، وبتركيزٍ شديد جدًّا، ظلَّ هولمز يتفقَّد شيئًا تلو الآخر، لكن بدا على وجهه أنَّ بحثَه ليس ناجِحًا. ولم يتوقَّف عن بحثه المُتأنِّي إلَّا مرةً واحدة، وسأل:

«هل أخذتَ شيئًا من هذا الرفِّ يا هوبكنز؟»

«كلا. لم أُحرِّك شيئًا.»

«لقد أُخِذ شيء من هذا الرف؛ فالغُبار عند هذه الزاوية أقلُّ من الغُبار على بقيَّة الرَّف. ربما كان هنا كتاب موضوع على جانبه أو ربما صندوق. حسنًا، حسنًا، ليس في وُسْعي شيء آخر لأفعله. دعنا نَسِر يا واطسون في هذه الغابات الجميلة ونمنح أنفسنا بعض الوقت لتأمُّل الورود والعصافير. سنلتقي بك هنا لاحِقًا يا هوبكنز، وسنرى إذا استطعنا الاقتِراب من هذا الرجل الذي جاء لزيارة الكوخ ليلة أمس.»

كانت عقارِب الساعة قد تخطَّت الحادية عشرة حين نَصبْنا الفخَّ الصغير. كان هوبكنز يُفضِّل ترْك باب الكوخ مفتوحًا ولكن رأي هولمز أنَّ هذا سيُثير الشكوك لدى الغريب الذي جاء لزيارة الكوخ. كان القُفل الذي يُوصِد الباب بسيطًا تمامًا لا يحتاج إلَّا نَصلًا حادًّا لكَسرِه. اقترح هولمز أيضًا أن ننتظِر خارج الكوخ مُتوارين بين الشُّجَيرات النامِية حول النافذة البعيدة وليس داخله. وبهذه الطريقة نستطيع أن نُراقِب الغريب إذا أشعل النور ونرى ما هي غايته في زيارته الليليَّة والسِّرِّية.

استغرَقَت نَوبة الحراسة وقتًا طويلًا وجثَمَت عليها الكآبة، ومع ذلك جلَبَت معها شعورًا بالإثارة التي يشعُر بها الصيَّاد وهو راقدٌ بالقُرب من بِركة الماء مُتربِّصًا بقُدوم فريسته الظمأى. يا تُرى ما نَوع المَخلوق الوحشي الذي سَوف يتسلَّل إلينا من عَتمة الليل؟ هل سيكون مُجرمًا كالنمر الضارِي الذي لا يُهزَم إلا بعراكٍ شديد يَستخدِم فيه أنيابَه ومَخالِبَه اللامعة، أم سيتبيَّن أنه أشبَهُ بحيوان ابن آوى المُتسلِّل الذي لا يُشكِّل خطورةً إلَّا على الضُّعفاء أو من لا يَحمون أنفسهم؟

جلسْنا القُرفصاء وسط الشُّجَيرات في صمتٍ مُطبِق، في انتظار ما سيأتي. في البداية خفَّف من وطأة نَوبة المُراقَبة خطوات الفلَّاحين المُتأخِّرين وبعض الأصوات الآتية من القرية؛ لكن تلاشت هذه المُقاطعات واحدةً تِلوَ الأخرى، وعاد الصمتُ المُطبِق مُخيِّمًا علينا، ولم يكسِرْه إلا رَنين الأجراس الذي كان يأتي من كنيسةٍ بعيدة، فنعلَم منه ما انقضى من الليل، وحفيف وهمْس رذاذ المطر الذي كان يقطُر على الشُّجَيرات التي تُظِلُّنا.

دقَّت الساعة معلنةً الثانية والنصف، وكانت أحلك الساعات التي تَسبِق الفجر، وعندها وثَبْنا فجأة عند سماعِنا صوت طقطقةٍ مُنخفضًا لكنَّه حادٌّ، قادِم من اتِّجاه بوابة المَزرعة. لقد دخل شخصٌ ما إلى المَمر. ومرةً أخرى خيَّم الصمتُ المُطبِق لمدَّة طويلة، وبدأت أخشى أن يكون هذا إنذارًا زائفًا، حينما سمِعنا وقْع أقدام مُتسلِّلة عند الجانب الآخر للكوخ، تبِعَها بعد لحظاتٍ صوت احتكاكٍ وخشخشة معدنية. كان الرجل يُحاوِل أن يكسر القُفل! ويبدو أنه هذه المرة كان أكثر مهارةً أو أن الأداة التي يَستخدِمُها كانت أفضل لأنَّنا سمِعنا فجأةً صوت كسْر القُفل وصرير مفصلات الباب. بعدها أشعل الرجل عود ثِقاب، وسُرعان ما غمَر نور الشَّمعة الثابت داخل الكوخ. ومن خلال الستائر الشفَّافة حدَّقْنا بأعيُنِنا في المَشهد داخل الكوخ.

كان زائرنا الليلي شابًّا واهنًا ونحيلًا، ذا شاربٍ أسود يُبرِز شُحوب الأموات الذي يعلو وجهه. لا يُمكِن أن يكون تَجاوز العشرين عامًا. لم أرَ في حياتي إنسانًا في مثل هذه الحالة من الذُّعر المُثير للشَّفَقة؛ فقد كانت أسنانه تصطكُّ بعضها ببعضٍ بوضوح وكلُّ فرائصه كانت ترتعِد. كان يُشبِه النُّبلاء في ملبسِه؛ حيث كان يرتدي سُترة نورفولك وسروال كنكربوكر القصير ويضع قُبَّعةً قماشية على رأسه. رأيناه يُحدِّق فيما حوله بعينَين مذعورَتين. ثم وضع عُقْبَ الشمعة على المِنضدة واختفى عن مرمى بصرِنا في أحد أركان الكوخ. ثم عاد حاملًا دفترًا ضخمًا، كان أحد دفاتر أحوال السفن المصفوفة على الرَّف. انكفأ على الدفتر وأخذ يُقلِّب صفحاته بعُجالة حتى عثر على ضالَّته. ثم أغلق الكتاب بقبضة يدِه في غضب، وأعاده إلى مكانه في الزاوية وأطفأ الشمعة. ولم يكَد يلتفِت ليُغادر الكوخ حتى أمسكت يدُ هوبكنز بتلابيبه، وسمِعتُ شهقة ذُعرٍ عاليةً أطلَقها الرجل عندما أدرك أنه وقَع في الفخ. أشعَلْنا الشمعة مرَّة أخرى، وجلَس أسيرُنا البائس ينتفِض ويرتعِد في قبضة المُحقِّق. جلس على صندوق البحر وأخذ ينظُر إلينا واحدًا تلوَ الآخر وعلى وجهه تعبيرات العَجْز.

قال ستانلي هوبكنز: «والآن يا رفيقي العزيز، من أنت؟ وما الذي تبحَث عنه هنا؟»

لملَمَ الرجل شتات نفسه، وواجَهَنا مُحاولًا أن يبدو رابِط الجأش وقال:

«أظنُّ أنكم مُحقِّقون. أليس كذلك؟ وأنتم تعتقِدون أن لي علاقة بمقتل بيتر كاري. لكنِّي أؤكد لكم أنني بريء.»

قال هوبكنز: «سنتبيَّنُ ذلك لاحِقًا، لكن أولًا ما اسمك؟»

«أُدعى جون هوبلي نيليجان.»

لاحظْتُ هوبكنز وهولمز يتبادَلان نظرةً سريعة.

«ماذا تفعل هنا؟»

«هل يُمكِننا التحدُّث على انفراد؟»

«كلا، بالطبع لا.»

«لماذا عليَّ أن أُخبرَك؟»

«إذا لم يكن لديك إجابة، فمن المُحتمَل أن يكون موقفُك سيئًا أثناء المُحاكمة.»

فزِع الشاب وقال: «حسنًا، سأخبرُك بكلِّ شيء، ولمَ لا؟ على الرغم من أنَّني أمقُت فكرة إحياء تلك الفضيحة القديمة. هل سمِعتَ من قبل عن دوسون ونيليجان؟»

عرفتُ من تعبيرات وجه هوبكنز أنه لم يَسمَع بهما من قبل، بينما بدا على هولمز الاهتمام الشديد.

«هل تقصد صاحِبَي مَصرف مُقاطعات غرب إنجلترا. لقد أعلَنا إفلاسَهما، وهما مَدينان بمليون جنيه إسترليني، وقد تسبَّبا في دَمار نصف عائلات مُقاطعة كورنوال، وبعد هذه الحادثة اختفى نيليجان.»

«بالضبط، نيليجان هو والدي.»

حصلْنا في النهاية على شيءٍ قاطِع، لكن ما زالت هناك فجوَةٌ كبيرة بين هُروب صاحِب المَصرف وبين إلصاق الرُّبَّان بيتر كاري على الحائط بأحد رِماحه. أصغَينا لكلِمات الشابِّ باهتمامٍ شديد.

«كان أبي المسئول عن هذه الحادثة؛ فداوسون كان قد تَقاعَد. وعلى الرغم من أنني كنتُ في العاشرة من عمري في ذلك الوقت فإنَّني كنتُ كبيرًا بما يكفي لأشعُر بالخِزي والرُّعب. دائمًا ما كان يقول الناس إن أبي سرَق كلَّ السَّنَدات المالية وهرَب. لكن هذه ليست الحقيقة. لقد اعتقد أبي أنه لو مُنِح بعض الوقت لتحصيلها لأصبح كلُّ شيءٍ على ما يُرام، وحصل كلُّ صاحِب دَين على حقِّه كاملًا. لقد ذهب في رحلةٍ إلى النرويج بيَختِه الصغير قُبيل صدور الأمر بإلقاء القبض عليه. أتذكَّر آخر ليلةٍ عندما ودَّع أُمِّي، ترك لنا قائمةً بالسَّنَدات المالية التي أخذها وأقسم أنه سيعود ويُثبِت نزاهته وأنه لن يُعرِّض أحدًا ممَّن وثِقوا به للمُعاناة. إلَّا أننا لم نَسمَع عنه أي أخبارٍ بعد ذلك. لقد اختفى أبي واليَخت تمامًا. اعتقدتُ أنا ووالدتي أنه غرِق في قاع البحر باليَخت والسندات المالية التي كانت معه. إلَّا أن أحد أصدقائنا الأُمَناء الذي يعمل رجل أعمال اكتشف منذ فترةٍ أن بعض السندات المالية التي كانت بِحَوزة أبي ظهرت ثانيةً في سوق الأوراق المالية في لندن. لن تتخيَّل كم كنَّا مَذهولين. قضيت أشهرًا في مُحاولة تعقُّب السندات المالية، وفي النهاية وبعد كثيرٍ من الإحباطات والصعوبات، اكتشفتُ أن البائع الأصلي للسندات هو بيتر كاري صاحب هذا الكوخ.

بطبيعة الحال تحرَّيتُ عن هذا الرجل. وعلمتُ أنه قائد سفينة مُخصَّصة لصَيد الحِيتان، كانت على وشْك العودة من القطب الشمالي في نفس الوقت الذي كان يُبحِر فيه أبي قاصِدًا النرويج. كان خريف هذا العام مُضطربًا تعصِف فيه الرياح الجنوبية بشكلٍ مُتواصِل. ومن المُحتمَل أن يكون يَخت أبي قد انجرَف إلى الشمال، وهناك التقى بسفينة الرُّبَّان بيتر كاري. ولو كان ذلك قد حدَث بالفعل إذن فماذا حلَّ بأبي؟ على أيِّ حالٍ، لو استطعتُ أن أعرف من دليل بيتر كاري كيف أتَت هذه السندات إلى السوق، فإن ذلك سيكون دليلًا على أن أبي لم يبِعْها، وأنه حين أخذَها لم يكن لديه الدافِع للتربُّح منها بشكلٍ شخصي.

جئت إلى ساسكس بِنيَّة مُقابلة الرُّبَّان، لكن في هذه اللحظة كان قد لقِيَ حَتفَه الشنيع. قرأتُ في التحقيق وصفًا لكوخه، وذَكر هذا التحقيق أن الرُّبَّان يحتفِظ في هذا الكوخ بالدفاتر القديمة الخاصَّة بسفينته. وفكرتُ أنني إذا استطعتُ أن أطَّلِع على ما حدث في شهر أغسطس عام ١٨٨٣ على مَتن السفينة سي يونيكورن، فسأتمكنُ من حلِّ لُغز مصير أبي. حاولتُ الليلة الماضية أن أحصُل على هذه الدفاتر، ولكن عجزتُ عن فتْح الباب. وقمتُ بمحاولةٍ أخرى الليلةَ وبالفعل نجحت؛ ولكنني وجدتُ الصفحات المُوافِقة لشهر أغسطس مَنزوعةً من الدفتر. وفي هذه اللحظة وجدتُ نفسي أَسِيرَكُم.»

سأله هوبكنز: «هل هذا كلُّ شيء؟»

أجاب مُشيحًا بنظَره: «نعم هذا كلُّ شيء.»

«ألَا يُوجَد لديك شيء آخر لتُخبرنا به؟»

تردَّد لبُرهةٍ ثم أجاب: «نعم لا يُوجَد شيء آخر.»

«هل جئتَ هنا قبل ليلة أمس؟»

«لا.»

صرخ هوبكنز قائلًا: «إذًا بماذا تُفِّسر «هذا»؟» وأمسك الدفتر الذي تُوجَد بأول صفحةٍ فيه الأحرُف الأولى التي ترجِع لاسم أسيرِنا وتُوجَد به أيضًا بُقعة دمٍ على الغلاف.

انهار أسيرُنا البائس. ودفن رأسه بين كفَّيه، وارتعدَت فرائصُه.

تنهَّد قائلًا: «من أين أتيتَ به؟ أنا لا أعرف، اعتقدْتُ أنَّني أضعتُه في الفُندق.»

قال هوبكنز بصرامة: «هذا يكفي، أيُّ شيء آخر تودُّ أن تقوله عليك أن تقولَه في المَحكمة. ستأتي الآن معي إلى القِسم. حسنًا يا سيِّد هولمز أنا مُمتنٌّ جدًّا لك ولصديقك لمَجيئكما لمُساعدتي. لقد اتَّضح أن وجودكما غير ضروري، وأنني كنتُ أستطيع حلَّ هذه القضية بدون الاستِعانة بكما؛ ومع ذلك فأنا مُمتنٌّ جدًّا. لقد حجزتُ غُرفتَين لكما في فندق برامبلتاي، ومن ثم فبِوُسعنا السير إلى القرية معًا.»

في الصباح التالي أثناء رِحلتنا للعَودة للندن سألني هولمز: «حسنًا يا واطسون، ما رأيك فيما جرى في الأحداث السابقة؟»

«أرى أنك لستَ راضيًا.»

«نعم يا عزيزي واطسون أنا في غاية الرِّضا؛ إلا أنني في الوقت نفسه لا أوافِق على الطرُق التي يتَّبِعها ستانلي هوبكنز. لقد خاب ظنِّي في ستانلي هوبكنز. توقَّعتُ منه أمورًا أفضل. يجِب دائمًا أن تبحث عن البدائل المُمكِنة وتحتاط لها. هذه هي القاعدة الأولى في التحقيق الجنائي.»

«وما هي البدائل في هذه القضية؟»

«مسار التحقيقات الذي أتَّبِعه بنفسي، من المُحتمَل ألَّا يُجدي نفعًا، لا يُمكنني الحُكم على ذلك، إلا أنَّني على أيِّ حالٍ يجِب أن أتَّبِعه إلى النهاية.»

العديد من الخطابات كانت في انتِظار هولمز بشارع بيكر ستريت. انتزَع واحدًا منها وقرأه ثم انفجر ضاحكًا في انتِصار.

«ممتاز يا واطسون؛ لقد وُجِد البديل. هل لديك استمارات تلغراف؟ من فضلك اكتُب بعض الرسائل من أجلي: «المرسل إليه: سمنر، وكيل الشحن، شارع راتكليف هايواي؛ أرسِلْ غدًا ثلاثة رجال ليصِلوا في تمام الساعة العاشرة صباحًا. إمضاء: بازل.» هذا اسمي في هذه المناطق. الرسالة الأخرى: «المرسل إليه: المُفتِّش ستانلي هوبكنز، ٤٦ شارع لورد ستريت، بريكستون؛ احضرْ على الفطور في تمام الساعة التاسعة والنصف «مُهم». أبرِقْ إليَّ إذا لم تستطِع الحضور. إمضاء: شيرلوك هولمز.» هذا يكفي يا واطسون؛ فهذه القضية اللعينة ظلَّت تَتبَعُني كالشبَح لعشرة أيام. ولهذا السبب سأصرِفُها عنِّي كُليًّا. أُومِن أن غدًا ستكون آخر مرة نَسمع عنها شيئًا.»

في الوقت المُحدَّد جاء المُفتش ستانلي هوبكنز، وجلسْنا جميعًا لتناوُل الفطور الشهيِّ الذي أعدَّته لنا السيدة هدسون. كانت رُوح المُفتِّش الشاب المعنوية مُحلِّقة في السماء؛ فكان في غاية سعادته لنجاحه في القضية.

سأله هولمز: «هل تعتقد حقًّا أنك توصَّلتَ إلى الحلِّ الصحيح للُغز هذه القضية؟»

«القضية اكتملَت تمامًا.»

«لا يبدو لي أن القضية قد حُسِمَت.»

«لقد أدهشتَني يا سيد هولمز. ماذا بعدُ يُمكننا أن نرغَب فيه؟»

«هل تفسيرك غطَّى كلَّ النقاط؟»

«بلا شك. لقد اكتشفتُ أن نيليجان الصغير كان موجودًا في فندق برامبلتاي في يوم الجريمة نفسه. ادَّعى أنه جاء ليلعَب الجولف. كانت غُرفته بالدور الأرضي وكان بإمكانه الخروج متى شاء. في تلك الليلة ذهب إلى وودمانز لي لمُقابلة بيتر كاري في الكوخ، وتشاجَر معه وقتلَه مُستخدِمًا الرُّمح. ولمَّا ذُعِر لما فعله، هرَب خارج الكوخ وسقط منه الدفتر الذي جلَبَه معه ليسأل بيتر كاري عن هذه السندات المُختلِفة. يُمكن أن تكون قد لاحظتَ أن بعضًا من هذه السَّندات، وليس أغلَبها، تحمِل علامة صح. تلك السندات الحامِلة لعلامة صح وُجِدت في سوق لندن. أما السندات الأخرى فهي على الأرجَح كانت لا تزال في حِيازة بيتر كاري. وبحسْب ما جاء في أقوال نيليجان الصغير، فقد كان مُتلهِّفًا لاستردادها لمُراضاة دائني أبيه. وبعد هروبه لم يَجرؤ على الاقتِراب من الكوخ مُجدَّدًا لبعض الوقت؛ ولكن في النهاية أجبر نفسه على فِعل هذا لكي يحصُل على المعلومات التي يحتاجها. كما ترَون. هذا كله بالتأكيد سهل وبديهي. أليس كذلك؟»

ابتسمَ هولمز وهزَّ رأسه.

«يبدو لي أن هناك ثغرةً ما يا سيد هوبكنز، وهي أنَّ ما قُلتَه مُستحيل في حدِّ ذاته. هل جرَّبتَ من قبلُ أن تغرِز رُمحًا في جسدٍ ما؟ لا لا يا عزيزي هوبكنز، يجِب أن تُعِير هذه التفاصيل اهتمامًا. يُمكن لصديقي واطسون أن يُخبرك أنَّني قضيتُ نهارًا كاملًا في هذا التدريب. إنَّ الأمر ليس سهلًا ولتقومَ به فعلى ذِراعك أن تكون قَويةً ومدرَّبة. أما هذه الضربة فلقد تمَّت بكثيرٍ من العُنف، حتى إن رأس الرُّمح كان مغروسًا بشكلٍ غائر في الحائط. هل تتخيَّل أن هذا الشابَّ الهزيل يُمكن أن يقدِر على ارتكاب مثل هذا الاعتِداء الشنيع؟ هل يكون هو الرجل نفسه الذي جلَس جنبًا إلى جنبٍ مع بيتر الأسود يَحتسون مَزيج شراب الروم والماء في منتصف الليل؟ هل كان جانِب وجهه هو نفسه الذي شُوهد ظلُّه على الستائر قبل ليلتَين من الحادثة؟ لا لا يا هوبكنز؛ فعلَينا أن نبحث عن شخصٍ آخر، شخص أكثر شراسة.»

كان وَجهُ المُحقِّق يتجهَّم أكثر فأكثر طوال حديث هولمز، وقد أخذت كلُّ أحلامه وطموحاته تتداعى فوق رأسه. ولكنه لن يتخلَّى عن رأيه بسهولة.

«لا يمكنك أن تُنكِر وجود نيليجان في هذه الليلة يا سيد هولمز. والدفتر سيُثبِت ذلك. وإخال أنني أملك أدلةً كافية لإقناع هيئة المُحلِّفين، حتى لو استطعتَ أن تجِد ثغرة فيها. بالإضافة إلى ذلك يا سيد هولمز، هذا الرجل أصبح تحت يدي الآن. أما الشخص المُروِّع الذي تتكلَّم عنه، فأين هو؟»

قال هولمز بهدوء: «في الواقع أعتقد أنه على الدَّرَج، أعتقِد يا واطسون أنك ستُبلي حسنًا إذا وضعتَ المسدَّس في مكانٍ يُمكنك الوصول إليه.» نهض ثم وضع ورقةً مكتوبة على المِنضدة الجانبية. وقال: «نحن مُستعدُّون الآن.»

خارج الغرفة، سمِعنا حديثًا يجري بين بعض الأصوات الغليظة، ثم دخلَت علينا السيدة هدسن تُبلِغنا بأن ثلاثة رجال يسألون عن كابتن بازل.

قال هولمز: «اسمحي لهم بالدخول واحدًا تلوَ الآخر.»

دخل الرجل الأول، كان قصير القامة مُكتنزًا وتكسو وجنتَيه الحُمرة، ويمتلك أيضًا سوالِف منفوشة بيضاء. أخرج هولمز خطابًا من جيبه، وسأله قائلًا: «ماذا تُدعى؟»

«جيمس لانكاستر.»

«أعتذِر منك يا لانكاستر لكن المنصِب مشغول. تفضَّل، هذا نصف سوفرن (قطعة نقدية بريطانية سابقة) تعويضًا لقدومك. من فضلك ادخُل هذه الغرفة وانتظرْني هناك لبضع دقائق.»

كان الرجل الثاني طويل القامة وهزيل البِنية وذا شعرٍ مُسترسِلٍ ووجنتَين شاحِبتين. كان يُدعَى هيو باتنز. رفضَه أيضًا وأعطاه النصف سوفرن وطلَب منه الانتظار.

المُتقدِّم الثالث كان ذا مظهرٍ مُميَّز. كان وجهه ككلب البولدوج الغاضِب يَحوطه إطار مُتشابك من الشَّعر واللِّحية، ويملك عَينين حادَّتَين وغامِقتَي اللون تلمعان خلف غلافٍ يتكوَّن من حاجِبين سميكين وكثيفين وناتِئين. ألقى التحيَّة ثم وقف كالبحَّارة وقلب القُبَّعة بين يدَيه.

سأله هولمز: «ما اسمك؟»

«باتريك كارنز.»

«هل أنت صائد حِيتان؟»

«أجل يا سيِّدي، لقد قمتُ بستٍّ وعشرين رحلة.»

«من دندي على ما أعتقِد؟»

«أجل يا سيدي.»

«وهل أنت مُستعدٌّ للانطلاق على متن سفينة استكشافية؟»

«أجل يا سيدي.»

«كم أجرُك؟»

«سآخُذ ثمانية جُنيهات في الشهر.»

«هل بإمكانك البدء في الوقت الحالي؟»

«أجل، بمجرَّد أن أجلُب عُدَّتي.»

«هل جلبتَ أوراقك معك؟»

«أجل يا سيدي.»

أخرَجَ من جيبه رِزمة من الأوراق البالية واللَّزِجة. ألقى هولمز نظرةً خاطفة عليها وأعادها إليه.

قال هولمز: «أنت الرجل الذي أبحث عنه، ها هي الاتفاقية هناك على الطاولة الجانبية. وقِّع عليها لتسوية المسألة برمَّتها.»

اندفع البحَّار عبر الغرفة وأخذ القلم.

سأل وهو ينحني على الطاولة: «هل أوقِّع هنا؟»

مال هولمز على كتِف البحَّار ومرَّر كِلتا يديه على رقبَته.

وقال: «هذا سيَفي بالغرَض.»

سمعتُ صليل أصفادٍ وخوارًا كأنه ثَور هائج. في اللحظة التالية كان هولمز والبحَّار يتدحرَجان على الأرض معًا. كان البحَّار ذا قوَّةٍ جبَّارة؛ فعلى الرغم من أن هولمز أحكم الأصفاد ببراعةٍ حول مِعصَميه، فقد كاد أن يتغلَّب على هولمز بسهولةٍ لولا أن هُرِعتُ أنا وهوبكنز لنجدته. عندما وجَّهتُ فُوهة المسدس الباردة تجاه صدغه، أدرك حينها أخيرًا أنَّ مُقاوَمته لن تُجدِي نفعًا. فأوثقْنا الحبل حول كاحِلَيه ونهضنا نلتقِط أنفاسنا بعد هذه المعركة.

قال هولمز: «في الحقيقة أودُّ الاعتذار لك يا هوبكنز؛ فلقد أصبح البيض المخفوق باردًا، إلَّا أنك ستستَمتِع بباقي فطورك على نحوٍ أفضل. أليس كذلك؟ لأنك أخيرًا انتهيتَ من قضيتك مُنتصِرًا.»

عقد الذهول لسان ستانلي هوبكنز، وكسَت وجهه الحُمرة وتفوَّه أخيرًا قائلًا: «لا أعرِف ماذا أقول يا سيد هولمز، فمِن الواضِح أني من البداية كنتُ أجعل من نفسي أضحوكة. أُدرِك الآن ما كان يجِب ألَّا أنساه أبدًا، وهو كوني التلميذ وكونك المُعلِّم. فحتى الآن، على الرغم من أنَّني رأيتُ ما فعلته، فإنني لا أعلم كيف فعلته أو ما مدلوله.»

قال هولمز بروح الدُّعابة: «حسنًا، حسنًا، كلُّنا نتعلَّم عن طريق الخِبرة، والدرس الذي يَتعيَّن عليك تعلُّمه هذه المرة هو ألا تتجاهل البدائل أبدًا. لقد استحوذ نيليجان الصغير على كلِّ انتباهِك حتى إنك لم تُمهِل نفسك وقتًا للتفكير في بيتر كيرنز القاتل الحقيقي لبيتر كاري.»

قطع حديثَنا صوت البحَّار الأجشُّ قائلًا:

«اسمَع يا سيِّد، أنا لا أشكو من اقتِيادي بهذه الطريقة لكن أريدُك أن تُسمِّي الأشياء بمُسمَّياتها الصحيحة. لقد قُلتَ إنَّني قتلتُ بيتر كاري عمدًا وأنا أقول إنني «أزهقتُ رُوحه» فقط، وهناك فرق شاسع بين الأمرَين. ربما لا تُصدِّق ما أقول. ربما تعتقد أنني أختلِقُ الأكاذيب.»

قال هولمز: «لا، على الإطلاق. دعنا نسمع ما تودُّ أن تقوله.»

«سأقصُّ عليكم الحادِثة باختصار، وأُقسم إن كلَّ كلمةٍ سأتفوَّه بها هي الحقيقة. أعرِف بيتر الأسود جيدًا، وعندما سحَب سكينه غرزتُ الرُّمح فيه بكلِّ قوة، لأنني علمتُ لحظتها أنني لا أملك خيارًا؛ إما حياته أو حياتي. وهكذا مات.

يُمكن أن تقول إنه قُتل عمدًا. على أية حال أنا مَيتٌ، سواء كان عن طريق حبل المَشنقة الذي ينتظِر رقَبتي أم بسكين بيتر الأسود الذي كان سيُغرَز في قلبي.»

سأله هولمز: «كيف وصلتَ إلى هناك؟»

«سأخبرُك بكلِّ شيءٍ منذ البداية؛ فقط ساعِدني في الجلوس حتى أستطيع أن أتكلَّم بأريحية. لقد حدَث الأمر في سنة ١٨٨٣؛ في شهر أغسطس من هذا العام. كان بيتر كاري رُبَّان سفينة «سي يونيكورن»، وأنا كنتُ صائد حِيتان مُساعدًا. كنَّا نشقُّ طريقنا من الكُتَل الجليدية مُتَّجهَين إلى الموطن، واصطحبَت الرياح المُعاكِسة والعواصف الجنوبية رحلتنا لمدَّة أسبوع. حين انتشلْنا مركبًا صغيرًا قد جرفَتْه الرياح تجاه الشمال، وجدْنا رجلًا واحدًا على مَتنه، وكان الرجل من القرية. اعتقَد الطاقم أن السفينة كانت ستغرَق فحاولوا الوصول إلى الشاطئ النرويجي في هذا القارِب الصغير. أعتقِد أنهم غرِقوا جميعًا. هكذا أخذنا الرجل معنا على متن السفينة، وجرَت مُحادثات طويلة بين هذا الرجل والرُّبَّان بيتر كاري في المقصورة. كان كلُّ ما وجدْناه معه من أمتعة صندوق مصنوع من الصفيح. وعلى حدِّ علمي، لم يذكر اسم الرجل مطلقًا. وفي الليلة التالية كان قد اختفى كأنه لم يكن هنا. ظنَّ بقية الطاقم أنه إما أن يكون قد ألقى بنفسه من على متن السفينة، أو أنه سقط من على متن السفينة في ظلِّ الطقس السيئ الذي كنَّا نواجِهه. رجل واحد فقط هو الذي كان يعرِف ما حدَث له، وكنتُ أنا هذا الرجل، لأنَّني في منتصف نَوبة مُراقبة في ليلةٍ مُظلمة رأيتُ بأم عيني كيف أمسكه الرُّبَّان وألقاه من فوق سور السفينة، قبل يومَين من رؤيتنا لمنارة جزر شِتلاند.

حسنًا، احتفظتُ بما رأيتُ لنفسي وانتظرتُ حتى أرى ماذا سأجني من وراء ذلك. عندما عُدنا إلى اسكتلندا تكتَّمْنا على الموضوع بسهولةٍ ولم يُثَر حوله أيُّ أسئلة؛ فلقد مات أحد الغُرباء وليس من شأن أحدٍ أن يُحقِّق في موته. وعقب هذا بوقتٍ قصير تقاعَد بيتر كاري، ومرَّت سنوات طويلة قبل أن أعلم بمكانه. اعتقدتُ أنه ارتكب هذه الجريمة من أجل ما وَجَده في الصندوق الصفيح، وأنه يستطيع أن يدفَع لي مَبلغًا مُعتبرًا مُقابل شراء سُكوتي.

علمتُ بمكانه عن طريق بحَّار كان قد التقى به في لندن، ذهبتُ إليه لأضغط عليه. في الليلة الأولى كان عقلانيًّا على نحوٍ كافٍ وكان مُستعدًّا أن يُعطيني ما يكفيني للتقاعُد من العمل في البحر بقيَّة حياتي. اتَّفقْنا على أن نُرتِّب كلَّ شيءٍ بعد يومين. عندما ذهبت إليه وجدتُه قد دخل في حالة سُكْر وكان مِزاجه بشِعًا. جلسْنا واحتسَينا الخمر وثرثرْنا حول الأيام الخَوالي، لكن كلما تمادى في السُّكر زاد بُغضي للنظرة التي تَعلو وَجهه. لمحتُ هذا الرُّمح مُعلَّقًا على الحائط، وخطر ببالي أنني ربما أحتاج إليه قبل أن يقضي عليَّ. وأخيرًا انفجَر في وجهي يبصُق عليَّ ويَلعنُني، ونِيَّة القتل تُطلُّ من عَينيه، وكان يَحمِل مطواة ضخمة في يديه. لم يكن لديه الوقت الكافي لإخراجِها من جرابها لأنَّني كنتُ قد غرزْتُ الرمح فيه. يا إلهي! لقد أطلَق صيحةً مُروِّعة؛ وما زال وجهه يَحُول بيني وبين نومي! وقفتُ هناك ودماؤه تنضَح في كلِّ مكان. انتظرتُ لبُرهة؛ ولكن كل شيء كان ساكنًا؛ لذا لملمتُ شتات نفسي مرة أخرى، ونظرتُ حولي فوجدتُ الصندوق الصفيح فوق أحد الأرفُف. وعلى أيِّ حال، فأنا أملك الحقَّ فيه تمامًا مثل بيتر كاري؛ لذا أخذتُه معي وتركتُ الكوخ. لكنَّني كنتُ غَبيًّا حين تركتُ حافِظة التَّبغ الخاصَّة بي على المِنضدة.

الآن سأقصُّ عليكم الجُزء الأكثر غَرابةً في القصَّة كلها: ما إن خرجتُ من الكوخ حتى سمعتُ وقْع أقدام أحد الأشخاص، فاختبأتُ وسط الشُّجَيرات. جاء رجلٌ يتسلَّل ودخل إلى الكوخ، وصرَخ كأنه رأى شبَحًا، وفرَّ راكضًا بأقصى سُرعةٍ لديه حتى اختفى. ليس لديَّ فكرة عن هُويته أو ماذا كان يُريد. أما أنا فقد سِرْتُ عشرة أميال، وركبتُ قطارًا من محطَّة تونبريج ويلز. وهكذا وصلتُ إلى لندن دون أن يعرِف أحدٌ ما حدَث.

حسنًا، عندما فحصتُ محتويات الصندوق لم أجِد مالًا بداخله، بل لم أجِد شيئًا غير سندات لا أجرؤ على بَيعها. لم أستطِع الحصول على أيِّ شيءٍ من بيتر الأسود، وتقطَّعَت بي السُّبل في لندن وأنا لا أملك حتى شلنًا. لم يَبقَ لي إلا مِهنَتي. رأيتُ تلك الإعلانات التي تبحث عن صائدي الحِيتان وبأجورٍ مُغرية، لذلك ذهبتُ إلى وكلاء الشحن، ومن ثَمَّ أرسلوني إليكم. هذا كلُّ ما أعرِف. وأقول مُجدَّدًا لو أني قتلتُ بيتر الأسود عمدًا، فعلى العدالة أن تَشكرَني لأنني وفَّرتُ لهم ثمن حَبل المشنقة.»

رفع هولمز غليونه وأشعله قائلًا: «هذا إقرار واضِح للغاية، أعتقِد يا هوبكنز أنك يجِب ألَّا تُضيِّع الوقتَ وتنقِل سَجينك إلى مكانٍ أكثر أمانًا؛ فهذه الغرفة ليست مُناسبة لأن تكون زنزانة، والسيد باتريك كيرنز يحتلُّ مساحةً كبيرة جدًّا من السجادة.»

قال هوبكنز: «لا أعرِف يا سيد هولمز كيف أُعبِّر لك عن امتِناني. حتى الآن لا أفهم كيف وَصلتَ إلى هذا النتيجة.»

«ببساطةٍ شديدة، لقد حالَفني الحظُّ أن أحصل على الدليل الصحيح منذ البداية. كان من المُحتمَل جدًّا أن تتشتَّت أفكاري مثلما حدَث لك لو علمتُ بوجود الدفتر. إلا أنَّ كلَّ ما توصلتُ إليه كان يُشير إلى اتجاهٍ واحد. القوَّة الهائلة والمهارة في استِخدام الرُّمح، وشراب الروم المَمزوج بالماء وحافِظة التَّبغ المصنوعة من جِلد الفُقمة والتي يوجَد بها تَبغ خشِن؛ كلُّ هذا يجعلني أفكر في بحَّار، وخصوصًا صائد حِيتان. كنتُ مُتأكدًا من أن الأحرف الأولى «بي سي» المكتوبة على الحافظة هي مجرَّد صُدفة ولا تُشير إلى بيتر كاري، حيث إنه نادرًا ما كان يدخِّن، وإننا لم نجِد غليونًا في الكوخ الخاصِّ به. هل تتذكر حين سألتك عما إذا كان هناك ويسكي وبراندي في الكوخ وأنت أجبتَ بنعم. كم شخصًا من الفلاحين سيفضِّل احتساء الرُّوم حين يتسنَّى له احتِساء الكحوليات الأخرى؟ بالطبع كنتُ واثقًا من أنه بحَّار.»

«وكيف عثرت عليه؟»

«يا سيدي العزيز، لقد أصبحَت المشكلة في غاية البساطة. إذا كان القاتل بحَّارًا، فبالتأكيد سيكون واحدًا من البحَّارة الذين كانوا معه على متن «سي يونيكورن».

وحسب ما توصَّلتُ له من معلومات، فهو لم يُبحِر على متن أي سفينة أخرى. قضيتُ ثلاثة أيام أُرسِل البرقيَّات إلى دندي، وفي نهاية هذه المدَّة كنتُ قد عرفتُ أسماء طاقم سفينة «سي يونيكورن» في سنة ١٨٨٣. وعندما وجدتُ باتريك كيرنز ضمن صائدي الحِيتان، كنتُ قد قاربتُ على الانتهاء من بحثي. اعتقدتُ أن الرجل ربما يكون في لندن، وأنه قد يرغب في أن يُغادر البلد لبعض الوقت. لذلك قضيتُ بضعة أيام في الطرف الشرقي من لندن، اختلقتُ رحلةً استكشافية للقطب الشمالي، ووضعت أجورًا مُغرِية لصائدي الحِيتان الذين سيعملون تحت قيادة الكابتن بازل؛ وها هي النتيجة!»

صاح هوبكنز قائلًا: «مذهل! مذهل!»

قال هولمز: «عليك أن تُفرِج عن نيليجان الصغير بأسرع وقتٍ مُمكن. وأعتقد أنك مَدين له بالاعتِذار. يجِب أن نُعيد إليه الصندوق المعدني، لكن السندات التي قام بيتر كاري ببَيعها قد ضاعت إلى الأبد بالطبع. ها قد وصلَت سيارة الأجرة، بإمكانك أن تأخُذ سجينك وتذهب. إن احتجْتَ إليَّ في المُحاكمة، فستجِد عنواني أنا وواطسون في مكانٍ ما في النرويج؛ سأرسِل التفاصيل لاحقًا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤