اتساع الدائرة

غادرا الجامع بعد صلاة المغرب.

كانا قد استأذنا إمام أبو العباس في مشوار، فلا يستطيعان حضور درس المغرب. نزلا درجات الباب الملكي إلى ميدان الأئمة. الأيدي — في الأضواء الخافتة، المنبعثة من داخل المكان — تلمس المقاصير النحاسية كالنوافذ الصغيرة، وتعيد ما لمسته إلى الأفواه، وتقبله، وتمسح بها على الصدر. بقايا الشمس تسللت من أعلى الجدران، وحلت العتمة. بدت المرئيات كأطياف، أو كأشباح.

قال عباس الخوالقة: ماذا يخيفك من جابر برغوت؟ … لقد رفض أن يتقاضى مليمًا قبل حدوث الشفاء.

قالت أم محمود: أي شفاء؟! … صحة البنت تدهورت … أخشى أنها ستموت.

كانت قد أهملت الأمر، ونسيته تمامًا. ثم نبشت الذاكرة — في الأيام التالية — لقدوم الإمام. لملمت الجزئيات الصغيرة، فاستعادت الملامح الغائبة.

قالت أم هشام: ليتك ترضعين الولد.

قالت متصعبة: كفى الله الشر!

قالت المرأة مهوِّنة: أبدًا … لبن صدري لا يكفيه.

ترامى صوت أم عباس الخوالقة من الحجرة المطلة على السيالة: اشربي حلبة ومغات يا ولية.

قالت أم محمود: أنت هكذا تغلقين الباب ثواني أنجبت بنتًا وطلب الولد زواجها.

قالت المرأة: لا أحد يعرف نصيبه!

خمنت أنها ربما أساءت التعبير، فأردفت: مهجة تستحق ابن الملك.

تناهى صوت أم عباس الخوالقة: وهل للملك ابن يا ولية … إن كل خلفته بنات!

قالت المرأة: الحقيقة أني لم أعد أذكر من أرضعنه … أصبح أخًا للكثير من أولاد السيالة.

مع أن عباس الخوالقة ولِد في بحري. من أبوين وجدين ولدا في … لا يعرف له أهلًا خارج الإسكندرية، سوى مَن غادروا المدينة وفي العمل، أو المصاهرة … فإنه لم يعرف عن كرامات جابر برغوت بعد أن كلمه عم محجوب، حارس حمام الأنفوشي: جابر برغوت مبروك … وفقه الله في علاج ما هو أقسى من مرض …

سبقه عم محجوب في شارع سيدي كظمان.

عبرا حلقة ذكر يتمايل فيها الذاكرون متشابكو الأيدي على إيقاع القوال. قرأ عباس الخوالقة الفاتحة لولي الله بصوت هامس، ومسح وجهه بيده. اخترقا شوارع ضيقة وحواري وأزقة، اختلط التراب بمياه الغسيل، بالأوساخ المتخلفة من تنظيف السمك.

توقف عم محجوب عند بيت من الطوب الأحمر، ذي طابقين. نوافذه عالية، مغلقة، وإن علا الصدأ قضبانه الحديدية. وثمة — في المدخل — مياه راكدة، ورائحة عطن. وتناثر على الجانبين مجاديف مكسورة وحبال وشباك وفلين وإسفنج وعلب فارغة.

•••

تعلم جابر برغوت حتى الثالثة الأولية. فك الخط، وحفظ آيات من القرآن الكريم، وقواعد الجمع والطرح والضرب والقسمة. لم تكن ظروف أسرته تقوى على تكاليف الدراسة. ألحقه أبوه صبيًّا عند المعلم مهنى، الحانوتي المواجه لجامع ياقوت العرش. أتاح له مواصلة تعلم القراءة والكتابة، وتعلم الأحجبة والأعمال فيما بعد، اقترابه من الشيخ عوض مفتاح. كان يصنع الأحجبة، ويكتب الأعمال لمن يقصده من زائري ياقوت العرش. أضاف إليها من ذهنه، ومن دعوات المترددين على المقام، وما يتركونه من رسائل وشكايات وأحجبة.

قضى برغوت أعوامًا يقرأ الرواتب في البيوت. وعندما اشترى كتابًا في السحر من مكتبة بالعطارين، فرغ له أيامًا حتى حفظه. قرأ أمهات في كتب السحر والطب الروحاني وأتقن العمل بما فيها: تذكرة داود، وتعطير الأنام في تفسير المنام، وشمس المعارف، ومنبع أصول الحكمة للبوني، وتعبير الرؤيا لابن سيرين، والرحمة في الطب والحكمة للسيوطي، ومجربات الديربي الكبير، ومؤلفات ابن الحاج، وغيرها. العلم بكمالات القلوب، وآفاتها، وعللها، وأدوائها، وبوسائل حفظ صحتها واعتدالها، ورد الأمراض عنها. وصار عارفًا، قادرًا على الإرشاد والتكميل.

استكمل علمه بالتردد على مشايخ لهم صيتهم في اللبان وغربال وكرموز وصحراء المتراس.

لما زادت علومه، أجاد فتح الكتاب، وقراءة الكتب، والجبهة، والاستخارة بالقرآن، وبحبات المسبحة، واستحضار الأرواح، ومخاطبة أولياء الله في أضرحتهم بالبركة والمكاشفة. وصنع أحجبة لرد الغائب، وفك النحس، وشفاء العقم، والأمراض المستعصية، وطرد الشياطين، وإبطال العمل. ونجح الكثير من التلاميذ بفضل أحجبته، وتماثل مرضى للشفاء، وولدت نساء ذكورًا.

كان يأخذ اسم المشكو في حقه. يعيد رسمه على قحف قرموط، ويطلب إلقاءه في البحر. يصعب على الرجل من ليلتها أن يضاجع امرأته. يظل مربوطًا حتى يموت القرموط، أو تأكله سمكة كبيرة، أو يقع في شباك الصيادين. وكان يكتب الوصفات. إذا وضعها الرجل في كوب ماء، وسقاه لزوجته، فإنها لا تفعل — بعد ذلك — ما يكرهه.

لم يعد مسئولًا عن حياته، ولا عمَّا يقضي به في الحالات التي يعالجها. كتب السحر تشير بكل تصرف. تقرر ما ينبغي أن يفعله، وما ينبغي إهماله. تطلعه على حقيقة الداء، وتضع العلاج المناسب.

وحين شكا عم سعد صاحب المجيرة في شارع إسماعيل صبري من فتاق ضخم يملأ ما بين فخذيه، فهو يتحرك ويمشي بصعوبة. لجأ إلى جابر برغوت. وضع يده على موضع الفتاق، وبسمل، وحوقل، وتلا أدعية، ثم رفع يده، فإذا الفتاق ذهب، كأنه لم يكن. قد يكون العلاج وصفة، أو دواء من الصيدلية. ربما اكتفى بالنصح بقراءة الأذان في أذن المريض، أو تلاوة آيات القرآن. وربما — إذا بدت الحالة صعبة — أمر بعرض المريض على طبيب دنيوي، فهو طبيب روحاني، له علومه ومعارفه التي لا تختلط بعلوم الطب الدنيوي، ومعارفه.

رفض — بعد وفاة أكبر أبنائه مسمومًا — كتابة الأعمال السحرية للضرر والإيذاء. لم يعد يكتب إلا أعمال الخير والشفاء والمصلحة ياقوت العرش والهداية. كلمات السحر تتضمن آيات من القرآن، والقرآن خير، حروفه وكلماته وجمله وآياته وسوره.

طلبت منه زوجة صياد الطراحة زغلول عمران أن يربط زوجها، لزواجه من أخرى، فرفض. قال إنه يخاف عذاب الله لو أقدم على الأذى.

قال: هل تزوج الرجل بالمرأة أو زنى بها؟

قالت المرأة: تزوجها.

ضرب الفراغ بيده: وصفة الربط لا تصح إلا في حالة الزنا وحدها.

•••

جلس على حشية من قطن. أمامه طاولة مستديرة من الخشب المنقوش، عليها أوراق وكتب ودواة حبر ومجمرة بخور. وعلى الجدران آيات قرآنية وصورتان للحرم المكي والحرم النبوي. وغطيت النافذة بستارة من القماش السميك. تحتها صندوق خشبي، مغلق بقفل.

اقتعد عباس الخوالقة وعم محجوب الكليم الأسيوطي، المفروش باتساع الحجرة.

– أهلًا يا معلم عباس.

يعرفه، وإن لم يهبه انتباهه، ولا جلس إليه من قبل. رآه مرات كثيرة أمام ياقوت العرش، وفي داخله. ليس الشيخ عوض مفتاح إمام الجامع، ولا حتى الشيخ سباتة قارئ الجامع ومؤذنه، فيعطيه حقه من التوقير. القعدة بدلت صورته، وتأثيره في نفسه. داخلته رهبة. تعمَّد أن تكون كلماته هامسة: أهلًا يا شيخ جابر.

لو أن الموقف قبل الآن، لنطق الاسم غير مسبوق بصفة.

نثر جابر برغوت المزيد من البخور في المجمرة أمامه، ونكش جمرات النار بقطعة من الخشب: حدثني عم محجوب عن مشكلة ابنتك.

قاطعه بصوته الهامس: وأكد أن الحل سيكون على يديك.

سرحت عيناه في المدى: الحل في يد الله!

مسح بيده على الأثر. همس باسم الله، والفاتحة، وبعض أسماء الله الحسنى، وأدعية. ثم علا صوته: بسم الله الرحمن الرحيم. باسم الله الكافي. باسم الله الشافي. باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء.

قرأ:

قال جابر برغوت: البنت تعاني أذية سحر … إذا قرئ ذلك كله، ونفذ، فإنه يحرق كل ما كتب من أسماء الجان، ويبطل أعمال السحر، ويحطم التعاويذ والطلاسم.

صنع حجابًا، ثبته في حجر صغير وطلب من الخوالقة أن يلقيه في البحر:

«بسم الله الرحمن الرحيم، الله الذي لا إله إلا هو، مرسل الرسل، عالم البعض والكل، هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، الوالي المتعال، رب الآخرة والأولى، والبداية والمنتهى، وله الأسماء الحسنى، مجري الفلك، مالك الملك. إني لا أقرب ممن علق عليه هذا الحجاب، لا في أكل، ولا في شرب، ولا في مشي، ولا في جلوس، ولا في خلاء، ما دامت الفلك دائرة. والله على ما أقول وكيل.»

•••

وضع محمود عباس الخوالقة أرغفة الخبز على الجريدة بيده، واتجه خارج الفرن.

لحقه نداء فؤاد أبو شنب.

مال به يمين الباب من الخارج، يتقي طرطشات المازوت على الجدار.

– أريد أن أزور والدك في البيت لأمر مهم.

•••

ما كاد أبو شنب يغادر الشقة، حتى خبطت أم محمود على صدرها: لن أزوج ابنتي لرجل في سن أبيها.

قال محمود: هذه مشكلة بسيطة … الأهم أنها ستكون زوجته الثالثة!

قال عباس الخوالقة في هدوء باتر: أزوج ابنتي وأضمن حياتها، أفضل في كل الأحوال من أن أراها ﺗ…