النشيد الحادي عشر

المعركة الثالثة

مُجْمَلهُ

لما بدت كوكبة الصباح سير زفس «الفتنة» فهاج الجيشان للقتال فشكَّ أغاممنون بسلاحه واندفع بجيشه تحت رعاية أثينا وهيرا. وأما الطرواد فأخذ زفس بيدهم وتربص هكطور لصد هجمات الأعداء فالتحمت الحرب وأبرز أغاممنون من البسالة ما دُهش له الطرواد فالتووا أمامه وهو يتعقبهم ويفتك فيهم. فذهبت إيريس ببلاغ زفس إلى هكطور تأمره باعتزال الحرب حتى يصاب أغاممنون بجرح أليم. وما عتم أن جرح أغاممنون فاندفع هكطور وشدد عزائم جيشه فكادوا يظهرون على الإغريق. وانبرى ذيوميذ لهكطور فصدهُ وإذا بفاريس قد أطار على ذيوميذ سهمًا أقعده. فبادر أوذيس لإغاثته وظلَّ يناضل حتى جرحه صوقوس وكاد يهلك لو لم يسرع إليه أياس ومنيلاوس. وانقض أياس على قلب الجيش الطروادي فهزمه فأسرع هكطور إليه من طرف الميسرة فانهالت السهام على أياس كالمطر وجرح وقتل من زعماء الإغريق الجمُّ الغفير. وكان أخيل يرقب عن بعد فأرسل فطرقل يتبين ما كان من أمرهم فقص عليه نسطور ما نال القوم من الجهد والعناء، فعاد فطرقل إلى أخيل يتوسل إليه أن ينهض بنفسه أو يلبسه سلاحه ليخدع به الأعداء ويرعبهم.

مجرى وقائع هذا النشيد في اليوم الثامن والعشرين لافتتاح الإلياذة وستستمر وقائع هذا اليوم إلى النشيد الثامن عشر. ومشهد الحوادث في ساحة القتال.

النشيد الحادي عشر١

لما بدت غزالة الصباح
تنهض من مرقدها الفياح
وغادرت طيثون ذا الوجه الوضي
حتى على الجنة والناس تضي٢
سيَّر زفس فتنة الوبال
بيدها معالم القتال٣
فانتصبت منتصف الأسطول في
مركب أوذيس الكبير المشرف
لتبلغ الفزعة كل العسكر
حتى أخيل وأياس الأكبر
إذ خيما وربطا القلاسا
في الجانبين شدة وباسا٤
فدمدمت تدوي دوي الرعد
وشددتهم للقا المشتد
فآثروا الحرب وثقل المحن
على المآب لعزيز الوطن
فقام أتريذ بهم وصاحا
بالقوم كي يُقوِّموا السلاحا
وشكَّ في فولاذه الأغر
يلبس خفيه ببادي الأمر
وحول ساقيه بقدتين
أوثق حالا بعرى اللجين
ولبس الدرع البهية التي
أهديها من قبل سير الحملة
من ملك قبريس كنير النَّاءِي
تذكرة لمحكم الولاء٥
مذ نبأ الإقلاع للطرواد
على السفين شاع في البلاد
من أبدع السطور فيها اثنا عشر
من النضار شائقات للنظر
ومن نحاس أبيض عشرون مع
عشرة أسحم فولاذ سطع
وفي كلا الجنبين حتى العنق
ثلاث حيات من الوشي النقي
حكت بقلب الغيم أقواس قزح
بنبأ زفس من السما طرح٦
ثم على كاهله أتريذ قد
ألقى حسامًا بشعاعه اتقد
كلباه والحزام من أبهى الذهب
وغمده من فضة فيها العجب٧
وقل تُرْسًا شائقًا بهيا
يستر كل جسمه قويا
عليه دارت حلقات لامعه
عشر من الصفر البهي ساطعه
وفيه عشرون من الحرابي
من النحاس الأبيض اللهاب٨
في وسطها حرباء فولاذ أغر
يبدو بها الغرغون رواع النظر
وحوله الهول ورسم الرِّعدة
والدرع شدت بحزام فضة٩
يلتف في ثعبان روع أزرق
مثلث الرأس وحيد العنق
من ثم للمغفر أتريذ عمد
يلبسه من بعد هاتيك العدد
مربع الرأس بعرف أملس
من شعر خيل هاج فوق القونس١٠
وقل رمحين مثقفين
حتى أعالي الجو ساطعين١١
والرعد إجلالا له وشرفا
بأمر آثينا وهيرا قصفا
فأمرت فرسانه السُّيَّاسا
تنظم قرب الخندق الأفراسا
واندفعوا ماشين بالسلاح
بين صياح طرة الصباح
فانتظم الأبطال قرب الخندق
تجري وراءهم عجال الفيلق
وزفس بينهم أثار اللغبا
يمطر طلا بدم مخضبا١٢
أما بنو الطرواد فوق الهضب
فانتظموا من حول هكطور الأبي
وحول فوليذامس المعصوم
وآنياس المجتبى العظيم
وحول فوليب وآكاماس
فتى حكى الأرباب آل الباس
والقيم المحمود آغنورا
ثلاثة من ولد أنطينورا
وهكطر في صدرهم يدور
في يده مِجَنَّه الكبير
يخوض في ساقتهم فيأمر
فيختفي ثم بصدر يصدر
ككوكب الهول الذي يستتر
في الغيم حينًا ثم حينًا يظهر
يسطع بالحديد والفولاذ
كبرق زفس اللامع الجباذ١٣
فعند ذاك اشتبك الجيشان
وثار نقع الضرب والطعان
فكلهم مثل الذئاب اندفعوا
ولم يكن من للفرار ينزع
تبتت الرءوس والأجساد
كسنبل يبتته الحصاد١٤
مذ نظموا بزرعهم صفين
في طرفيه متقابلين
ولم يكن يشهد تلك الملحمه
بالبشر إلا الفتنة المهدمه
وفي الألمب سائر الأرباب
بشائق القصور باحتجاب
ولومهم لزفس طرا باد
لميله لنصرة الطرواد
لكن زفس ليس بالمبالي
يعتز في علياه باعتزال
يحيط بالطرواد والأسطول
والحرب والقاتل والمقتول
من البزوغ لارتفاع المشرق
جند تردى وسهام تلتقي
وآن ما الحطاب يضوى تعبا
في غابه وظمأ وسغبا
ويطلب الراحة بعد الغائله
مهيئًا طعامه بالقائله١٥
تألب الإغريق باشتداد
وخرقوا كتائب الطرواد
في صدرهم يجري أغاممنون
تسير في يمينه المنون
جندل أبيانور راعي الأمم
فتبعه السائق ويلوس الكمي
من فوق مركبته وثبًا وثب
يلقى أغاممنون مشتد الغضب
لكنما أتريذ في الجبين
طعنه برمحه المتين
فخرق المغفر والعظم سحق
وبدد الدماغ والهامة دق
عراهما فلبثا ميتين
لاستر فوق ناصع الصدرين
ثم انثنى يسطو على إسوسا
من ولد فريام وأنطفوسا
فذلك ابن غادة خليله
لكن ذامن زوجه الحليله١٦
قد ركبا مركبة فذاكا
ساق وهذا ولي العراكا
كليهما قِدْمًا أخيل دهما
بطور إيذا يرعيان الغنما
بيانع الخيزور أوثقهما
ونال فدية وأطلقهما
والآن أتريذ إسوسًا قتلا
بطعنة في ثديه فجندلا
وأنطفوس بحسامه قطع
أذنه قطعًا فللأرض وقع
فشائق الشكة منهما سلب
يذكر من أمرهما ماضي العجب
إذ كان قد رآهما في السفن
بأمر آخيل بذاك الزمن١٧
وصائلا مشى كليث داهم
خِشَفَةً واهنة العزائم١٨
يسحقها برائع الأنياب في
كناسها سحقًا بلا تكلف
والأم تلك الظبية المرتجفه
لا حيلة لها برفد الخِشَفَهْ
مرتاعةً ملتاعةً تبغى المفر
في الغاب تجري بين ملتف الشجر
تلهث عَيًّا وتسيل عرقًا
هالعةً من هول ذاك الملتقى
كذاك في الطرواد لم يكن أحد
لولدي فريام يبذل المدد
ولَّوا لدى الأراغس الفرارا
وخلفهم أتريذ بأسًا ثارا
فيسندرا وإيفلوخًا دهما
على مطا مركبة قد هزما
من ولد أنطيماخس من منعا
هيلانةً لزوجها أن ترجعا
إذ كان فاريس رشاه ووهب
مالا وفيرا من متاع وذهب١٩
فعندما لديهما مثل الأسد
لاح الجياد جمحت تحت العدد
وارتجفت أيديهما فوقفت
أعنةٌ بها سناء سطعت
فسجدا من فوق ذاك المجلس
وصرخا بذلة الملتمس:
«العفو والفداء فالتبر الأغر
والصفر والحديد طُرًّا مدخر
فأنطماخ يجزل الهدايا
إن نبق حيين على الخلايا»٢٠
وبكيا تذللا وصغرا
فلقيا منه الجواب المرا:
«أليس أنطماخ والدكما
بمجلس الطرواد يومًا حكما
بقتل أوذيس ومينيلا وقد
جاءا رسولين وبالكيد اتقد
ستلقيان الآن شر غدره»
وطاعنًا فيسندرًا بصدره
جندله من فرق عرش العجله
فإيفلوخ بخفيف العجله
رام انهزامًا وإلى الأرض وثب
لكن أغاممنون بالسيف انتصب
بضربة عليه بالعزم اندفع
ورأسه مع الذراعين قطع
دفعه للأرض مثل الخشبهْ
وراح يجري بعظيم الكبكبهْ
تتبعه كتائب الأجناد
حيث تكثفت سُرى الأعادي
فبطش الغلمانُ بالغلمان
وفتك الفرسانُ بالفرسان٢١
وتحت وقع الخيل نقع ثارا
في السهل للجو ذرا الغبارا
وثم أتريذ يحض الجندا
مقتضبًا مقتفيًا مشتدا
هب على الأعداء مثل النار
شبت بغابٍ غضة الأشجار٢٢
تثيرها الريح وفي كل مهب
تلهم كل ما أمامها انتصب
أمامه الطرواد ولوا جزعا
وسيفه الرءوس قطعًا قطعا
وجامحات الخيل بالعجال
تضرب في السهل بلا رجال
تندب ما ألمَّ بالفرسان
تحت عجاج الضرب والطعان
أشهى هم الآن إلى العقبان
منه إلى حلائل النسوان
وزفس هكطور عن النقع حجب
وعن ضجيج القوم في ذاك اللجب
وعن مدى النبال والنجيع
وعن تلاحم بهم فظيع
وظل أتريذ على أعقابهم
مشددًا يضرب في رقابهم
فدفعوا للتين ثم اجتازوا
في وسط السهل وفيه انحازوا٢٣
لقبر إيلو ذلك الدردنسي
يبغون إليون بحر النفس
وإثرهم أتريذ دومًا جاري
ملطخًا بالدم والغبار
يصيح حتى أبلغ الفرسانا
أبواب إسكية ثم الزانا
فوقفوا يبغون جمع الشمل
وصحبهم تبعثروا في السهل
مثل العجول ذعرت فرارا
والليث في الليل لقد أغارا
فأيها أصابه سحقه
محطمًا بنابه عنقه
يمتص لا مكتفيًا دماءه
يزرد لا مشتفيًا أحشاءه
كذا أغاممنون أصمى وسفك
بساقة العدى بمن لاقى فتك
ولوا ومشتدا عليهم حملا
بالرمح يردي بطلا فبطلا
ما بين مصروع من العجال
أهوى وَمُسْلَنْقٍ على الرمال
وعندما قارب إدراك البلد
وسوره الشاهق في ذاك اللدد
من قبة السماء كالبرق انحدر
زفس وفي إيذا بعلياه استقر
صاح بذات أجنح النضار
بيده عمود برق وار
قال: «فطيري إيرس الرشيقهْ
وأبلغي هكطورًا الحقيقهْ
فطالما أتريذ في صدر السرى
يبطش فيهم فاتكًا مدمرا
فليعتزل وليلق عبء الصد
على سواه من سراة الجند
لكن إذا بطعنة فاهقة
أصيب أو برمية خارقة
وراح يعلو سدة العجال
هكطور أُوليَ نصرة القتال
لأولينه اشتداد البأس
يكسحهم حتى غروب الشمس
لموقف الأسطول يسفك الدما
حتى يرى قدس الدجى قد خيما»
هبت هبوب الريح من إيذا إلى
إليون هكطور توافي عجلا
ألفته في مركبةٍ منتصبا
قالت: «أيا هكطور خذ مني النبا
يا عد زفس زفس بالرسالة
أنفذني فاستمع المقالهْ
فطالما أتريذ في صدر السرى
يبطش فيكم فاتكًا مدمرا
فاعتزلن وألق عبء الصد
على سواك من سراة الجند
لكن إذا بطعنةٍ فاهقة
أصيب أو برميةٍ خارقة
وراح يعلو سدة العجال
هكطور تُؤتى الفوز في القتال
ليؤتينك اشتداد البأس
تكسحهم حتى غروب الشمس
لموقف الأسطول تسفك الدما
حتى ترى قدس الدجى قد خيما»
غابت وهكطور إلى الأرض وثب
يهز أطراف القنا بادي الغضب
يرمح في كل السرى مستنهضا
مدججًا مشددًا محرضا
فانقلبوا لساحة الهيجاء
مقابلين زمر الأعداء
واعتصب الإغريق واصطفوا فرق
واشتدت الحرب وأتريذ انطلق
مبرزًا عن سائر الشجعان
مروعًا في ذلك الميدان
ولي فقلن يا بنات الشعر
من جاء يلقاه ببدء الأمر:
ذاك ابن أنطينور الطويل
أفيدماس الباسل النبيل
سبط لِكِيْسيْسَ أبي ثيانو
من شاع ذكرًا حسنها الفتان
لديه في إثراقة الغنيم
والخصب طفلا شب في النعيم
وعند ما ترعرع استبقاه
في حجره وبنته أعطاه٢٤
لكنه غادرها على الأثر
مذ شاع عن حرب الأراغس الخبر
أتى لفرقوت بثنتي عشره
سفينةً ينزل فيها عسكره
من ثم إليون أتاها برا
فذا الذي أتريذ رام كبرا
تقابلا حتى دنا التلاقي
فزجه أتريذ بالمزراق
فصرح الزج وفي الحال انثنى
أفيدماس وبعنف طعنا٢٥
أصاب تحت الدرع بالحزام
فدفع العامل باحتدام
وظل لا يفلته من يده
معتمدًا على قوى عضده
في عروة اللجين بالوسط استوى
وكالرصاص اللدن في الحال التوى
فعند ذا أتريذ كالليث وثب
وذلك الرامح بالرمح اجتذب
واجتره منه وبالسيف قطع
عنقه فغائر الطرف وقع
يهجع مصروعًا هجوع الأبد
بذبه عن قومه والبلد
وأويحه عن عرسه الفتية
في البعد قد أميت شر ميتة
نأى وما إن كاد وهو ناءي
يبلو شعار الحب والوفاء
لها الصلات الغر قد كان ادخر
مبتدئًا ب مئة من البعر
وبحماه العنز والغنيم
لم يحصها عد ولا تقويم
خيرها منها بألف رأس
والآن أتريذ الشديد البأس
جندله مجردًا من شكته
يرجع فيها لسرايا حملته
فالخطب لاح لأخيه الأكبر
قاوون الفتاك والشهم السري
فذاب بثا وأسًا عليه
وأسود نور الشمس في عينيه
فانساب لا يراه أتريذ حذا
صفحته والرمح فيه أنفذا
فخرق الزج الحديد الحد
مؤخر الساعد تحت الزند
وصاح يدعو صحبه إليه
مجتذبًا أخاه من رجليه
وفوقه قد أسبل المجنا
يدفع ضربًا ويقيه طعنا
فارتاع أتريذ ولكن ما ارتدع
ثم على قاوون بالعزم اندفع
طعنه بالعامل الرَّوَّاع
طعنة مقدام طويل الباع
على أخيه خر ميتًا فضرب
عنقه بالسيف والرأس اقتضب
وهكذا فالأخوان انحدرا
لدار آذيس بحكم قدرا
وظل أتريذ الوغى يبارى
بالسيف والعامل والحجار
يخوض ما بين الأعادي صائلا
ودمه السخين يجري سائلا
حتى إذا ما ذلك السيل انقطع
ويبس الجرح تولاه الوجع
واخترقت قواه آلام ولا
آلام سهم خارق قد أرسلا
ترمي به بنات هيرا الظلم
ألالثيات التي لا ترحم
ينفذ بالأعراض والإرماض
ويصدع المرأة بالمخاض٢٦
بشدة البث اعتلى ملتاعا
وقال للتبع «ابتغ الأشراعا»
وصاح بالصوت الجهور العالي:
«يا صحب يا قيول يا أبطالي
عليكم الآن بإبعاد العدى
عن موقف الأسطول والفوز بدا
فإن زفس قد أبى إصداري
بصدركم لآخر النهار»٢٧
فطارت الخيل بسوط السائق
تجري وأتريذ بقلب خافق
صدورهن قد كسين زبدا
ونقع وقعهن للجو اغتدى
ومذ رأى هكطور أتريذ التوى
فصوته كالرعد بالقوم دوى:٢٨
«يا آل دردانوس والطروادا
ويا بني ليقية الأمجادا
إيه فأنتم قادة الهيجاء
وسادة الإيقاع والإبلاء
أبسل من في القوم طرا غربا
وزفس لي نصرًا مبينًا وهبا
شدوا على الإغريق بالعجال
وادخروا مجدًا بلا زوال»
فهاجت النفوس بالجحافل
هياجها في أنفس الخياطل
يثيرها صاحبها هياجًا
في إثر خرنوص وليث فاجا٢٩
وهكذا هكطور عد آرس
أثار طروادًا على الأراغس٣٠
وهو بصدر جيشه يثور
بشدة البأس بهم يسير
كأنه الإعصار من فوق اندفق
وفي عباب البحر قلب اليم شق
فيا ترى من أولا وآخرا
أباد مذ زفس تولى ناصرا
أولهم كان الفتى آسيس
فعفطنوس وكذا أوفيتس
فابن قليطيس زلفس أورس
وآغلاوس وأوفلطيس
وهيفنويس وإيسمن السري
وكلهم من زعماء العسكر
لكنما قتلاه بين الجند
فتلك لا تحصى بحصر العد
هب بهم ولا هبوب العاصفه
تثيرها أنواء ريح قاصفه
فتدفع الدبور غيما ركما
نوطوس في السحاب لما هجما٣١
فتفلق اليم وتنشر الزبد
كما رءوس القوم هكطور حصد
فاشتد وقع الخطب والأمر انجلى
وكادت الإغريق تضوى فشلا
فصاح أوذيس: «ذيوميذ علا
م بأسنا ولى برزءٍ ثقلا٣٢
لئن يفز أعداؤنا بالسفن
وأخزية العار وثقل المحن
هي فكرَّنَّ معي: «قال وما
يهولني العدو مهما ازدحما
لكننا هيهات أن نؤتى الظفر
فإنما الطرواد زفس قد نصر»
كر وثمبريس في الثدي رمى
فخر للأرض وأوذس هجما
وتبعه مليون أيضًا قتلا
وغادراهما على تلك الفلا
لا يشهدان الكر والنزالا
وانثنيا من بعد ذا وصالا
نظير خرنوصين كاسرين
على كلاب الصيد مرتدين
فاعملا بين الأعادي الأسلا
واهتزت الإغريق طرا جذلا
ثمة عنق فارسين ضربا
واستلبا مركبةً قد ركبا
من ولد ميروفوس من فرقوت
أبسل من في القوم من رتوت٣٣
قد عصيا أباهما العرافا
واتبعا إلى الوغى الأحلافا
ساقهما داعي الردى فأقبلا
على ذيوميذ الفتى فجندلا
أخمد أنفاسهما وراحا
من بعد ذا يستلب السلاحا
وأوذس جندل هوفيداما
وهيفريخًا يصطلي احتداما
وزفس في إيذة بالمرصاد
فوازن القوات في الأعادي
فاصطدم الأبطال من كل الفرق
وزمر العدى ذيوميذ اخترق
وغسطروف بن فيون جرحا
برمحه في حُقِّه فانطرحا
قد خاض مغترًّا سرى الطلائع
برجله يخوض في المعامع
والخيل والسائق في الساقة قد
ظلت وعنه انقطعت عرى المدد
هناك هكطور رأى وانصدعا
وصاح في الأبطال ثم اندفعا
واندفعت من خلقه كل السرى
حتى ذيوميذ الهمام ذعرا
قال: «أرى هكطور رواع الملا
يا أوذس فورًا علينا أقبلا
قف ندفعنه» وبالعزم وقف
مسددًا ونحو رأسه قذف
ففوق رأس البيضة الرمح وقع
لكنما الفولاذ فولاذًا دفع
والقونس المثلث الأطراف
عن رأسه رد السنان الجافي
ذلك من فيبوس فضل أعظم
فهو بذا المغفر قدمًا منعم
وارتد هكطور وبالجمع اختلط
وفوق ركبتيه للأرض سقط
ليده مستندًا حيث التوى
وأظلمت عيناه منهد القوى
وريثما هب ذيوميذ وشب
يطلب رمحه وفي الأرض نشب
أفاق هكطور وبالفور اعتلى
وساق بين الجمع يأبى الأجلا
فصاح ذوميذ وبالقناة
جرى: «أأيضًا فزت بالنجاة
يا كلب كاد عاملي يصميكا
لو لم يبادر فيبس يقيكا
لستَ تؤمُّ الحرب عفوًا أبدا
إلا به مسترفدًا مستنجدا
لكنني سوف ألقيك الردى
إن تؤتني الأرباب يومًا مددا
قد فاتك الفوت فرح والآنا
سأبتغي سواك أيًّا كانا»
ولاستلاب ابن فيون عكفا
فجرد اللأمة ثم انعطفا
مقتلعًا مغفره ثم المجن
إذا بإسكندر خلسة كمن
فَأَتْكَأَ القوس على العمود
في قبر إيلو الشيخ فخر الصيد
وأرسل السهم فشق القدما
وغاص في الأرض بسيال الدما
وزوج هيلانة من حيث ولج
في ذلك الكمين في الحال خرج
مقهقهًا مبتهجًا مفتخرا:
«لم أخطئ المرمى وسهمي صدرا
يا حبذا لو غاص في أحشاكا
ليأمن الطرواد من ملقاكا
أنت الذي كلهم منك ارتعد
كرِعدة الماعز من بطش الأسد»٣٤
أما ذيوميذ فجاش وانثنى
قال: «وما غرك يا وجه الخنا
سددت مغترًّا بذي القوس ألا
ما جئتني وجهًا لوجه مقبلا
حتى ترى يا أخسأ النُبَّال
أنك لا تعد في الرجال
وأنها لن تدفعن عنك الأسا
وإنما حاملها زير نسا
أنا لك السر بإدراك القدم
مني وهل يذعر ذا أهل الهمم
ما ضر سهم خاسئٍ رعديد
يهلع كالأوغاد أو كالغيد
وأين أنت من مرامي أسلي
ينفذن مذ يصدرن سهم الأجل
أزواج من خر منهم أيامى
وولدهم في بؤسهم يتامى
ودمهم يسرب والأجساد
يبيدها في أرضها الفساد
وحولهم طير الفلا تحوم
من بعد أزواج بهم تهيم»
وانقض أوذيس يقيه فجلس
يخرج ذاك السهم من حيث انحبس
فاشتدت الآلام فيه فاعتلى
وقال للسائق: «عد بي عجلا»
فبات أوذيس كذا منفردا
ليس له من يبتغيه عضدا
مذ شمل الرعب قلوب الأرغس
فنفسه ناجى بحر النفس:
«ويلاه ما الحيلة إن أنهزم
فالعار كل العار بين الأمم
وإن تربصت وزفس الأعظم
بدد قومي فمصيري أشأم
لا كنت يا هاجس دعني هل ترى
غير الجبان النكس ولَّى مدبرا
وليس للباسل أن يبالي
أصاب أم أصيب في النزال»
وبينما يجول ذا بفكره
مكتئبًا مفكرًا بأمره
إذا بدراع العدى تجمهروا
وبينهم أس بلاهم حصروا٣٥
كفتية بزمرة الكلاب
تقنص خرنوصًا ببطن الغاب
فيبرز الوحش ويصلي غضبا
ويشحذ الناب ويبدو مرعبا
يصر بالأسنان والقناص قد
داروا عليه وهو بالغيظ اتقد
فما هم يخشون منه الدركا
وهو بمن أصاب منهم فتكا
وهكذا أوذيس بالرمح وثب
وذيفيت بين كتفيه ضرب
تُمَّ ثوون وأنوم قتلا
فجاءه خرسيذم مشتعلا
فهب من مركبةٍ يبغيه
وأوذس في الحال يلتقيه
رماه تحت الترس في سرته
فخر مصروعًا على راحته
ثم انثنى وابن هفاس طعنا
خربس يلقيه صريعًا مثخنا
فانقض صوقوس أخوه الأيهم
وصاح يدوي: «يا أذيس القيم
يا زبدة الإقدام والدهاء
فاليوم تبلي أيما إبلاء
إما حمام ولدي هفاس
والسلب والفخار بين الناس
هذا وإما من قناتي الردى»
ثم أتاه طاعنًا مسددا
فنافذ السنان في الترس مرق
واللحم تحت الدرع بالخصر اخترق
لكن أبت فالاس بالخفاء
نفوذه لداخل الأحشاء
ولم يفت أوذيس أن الجرحا
ما كان قتالا لذا تنحى
وصاح في صوقوس يا هذا الشقي
شر بلى مني سوف تلتقي
ألجأتني حينًا إلى ترك اللقا
لكن بك الحتف البهيم أحذقا
وبصقيل عاملي إن تقتل
لآذس النفس تدم والفخر لي»٣٦
فارتاع صوقوس وقد رام الهرب
موليًا لكن أوذيس وثب
ورمحه ما بين كتفيه ولج
ومن شعاب الصدر في الحال خرج
فخر في صلصلة الحديد
وأوذس مرتفع الهديد:
«صوقوس ما أنجتك هبات المفر
فالموت أعدى منك جريًا وأشر
ويحك لم يتح لوالديكا
أن يغمضا يوم الرَّدي عينيكا
خلوت للطير فظفر ينشب
والأجنح الغضة ضربًا تضرب٣٧
لكنني إن مت فالإغريق
غصَّ بهم في مأتمي الطريق»
واجْتَرَّ من مجنه والشاكلهْ
سنان صوقوس بتلك الغائلهْ
فجرت الدماء واشتد الألم
وحوله جيش العدى طرا هجم
فلاشتداد الخطب عاد القهقرى
وصاح يدوي صوته حتى السرى
دعا ثلاثًا يطلب الغياثا
وعى منيلا صوته ثلاثًا
مال إلى رفيقه أياس
قال: «أيا أياس رب الباس
صوت أذيس أذني حالا طرق
كأنما أخرج ما بين الفرق
وشددت أزمتها عليه
هي نبادر عجلا إليه
أخاف مهما صال يضوى مفردا
فنرث الأحزان عنه سرمدا»
وسار أولا منيلا وتلا
أياس كالأرباب أبناء العلى٣٨
فألفيا أوذيس والطرواد قد
تَكَأْكَأُوا عليه عَدًّا وَعُدَدْ
كأنهم من حوله ثعالب
على الجبال إيلا تراقب
في الإيل القناص سهمًا أنشبا
لكنه ما نال منه الأربا
فغاب عن مرآه والثعالي
من حوله تجري على التوالي
تروم فتكًا وهو لا يرام
يجري ولا يلويه الازدحام
فطالما تجري به قوائمه
لا تلتوي لجرحه عَزَائمُهْ
لكن إذا ما الدم في الجرح بَرَدْ
وعن خفيف لجري بالعَيِّ قَعَدْ
فازت به في الطود فوق الغاب
إذا بليثٍ فاتكٍ قضاب
يذعرها ذعرًا فتلوي هربا
وهو به يخلو منالا طيبًا
كذا أذيس وهو ما بين العدى
عن نفسه يدفع بالرمح الردى
بادر آياس بذياك المجن
كالبرج يحميه وقد كان وهن
ففرت الطرواد في كل مفر
ثم منيلا لذراعه ابتدر٣٩
واجتره من بين تلك القتله
وتبعه أدنى إليه العجله
وصال آياس ودروقل قتل
نَغْلٌ لفريام وفندوقوس فل
ثم لسندرًا وفيراس رمى
كذاك فيلرت يفجر الدما
كالسيل من شم الجبال اندفقا
تمطره أنواء زفس غدقا
يفيض للسهل زُعابًا يندفع
والأرز والملول عنفًا يقتلع
ولعباب البحر يدفع الزبد
كما أياس اشتد فيهم واتقد
طغا بذاك السهل كالزعاب
يبتت ظهر الركب والركاب
وهكطر في ثغر إسكامندر
يصول في صدر الجناح الأيسر
يقضب الأعناق وسط الفيلق
ولا يرى نكال هذي الفِرق
وقد علا لديه صوت اللغب
حول إذومن ونسطور الأبي
وهو بمركبته محتدم
كتائب الفتيان حطمًا يحطم
لكنما جيشهما ما برحا
يدفع حتى ماخوون جرحا
قد كان كالليث يصول وإذا
في كتفه اليمين سهم أنفذا
مثلث الأطراف للإسكندر
زوج هلانة الجميل الشعر
فقوم أرغوس أولو الإقدام
خافوا انقلاب موقف الصدام
فيفتك العدى بذياك البطل
فصاح إيذومين بادي الوجل:
«نسطور يا ذا المجد والجلال
هي فهبن على العجال
وسر وسوقن إلى الأسطول
بماخوون الماجد النبيل
هذا النطاسي الذي يستخرج
سهمًا بكرات الصدام يولج
وفوقه يذر بلسم الشفا
بجحفل يقاس إن تألفا»٤٠
فهب نسطور وما إن كذبا
وبابن أسقليب حالا ذهبا٤١
وساط والجياد كالطير سعت
تتوق للرجوع من حيث أتت
وقبريون تبع هكطور عرف
منقلب الطرواد في ذاك الطرف
أبصرهم من فوق عرش العجله
إزاء هكطور لذا أوعز له:
«نحن هنا في طرف المعسكر
نفتك فتك الباسل المدمر
وثم آياس المنايا نشرا
والخيل والفرسان ذعرًا ذَعَرا
نعم فذا مجنه الكبير
من حول كتفيه أرى يدور
فقم نسق لمأذق الهيجاء
حيث علت عجاجة الأعداء
هناك حيث اصطدم الشجعان
تلاحم المشاة والفرسان»
وشدد السوط على الجياد
فاندفعت لساحة الجلاد
تخبط بالقتلى وباليلامق
على نجيع من خطاها دافق
حتى جناحا سدة المركبة
وقوسها من تحت تلك السدة
تخضبت دمًا بنقع فائر
من دور دولاب ووقع حافر٤٢
وهكطر للفتك يصلى نارا
فغار ما بين العدى وثارا
يطعن فيهم قاتلا مجندلا
حتى سراياهم جميعًا بلبلا
وظل كرات الوغى يجاري
بالسيف والعامل والحجار
وهو على ذيالك البأس أبى
لقاء آياس لذا تنكبا
خشية أن يغاظ زفس إن برز
لفارس أبسل منه وأعز٤٣
لكن زفس في المقام الأرفع
روع آياس بهول المصرع
فدهشًا أطرق والجوب على
كاهله ألقى وعاد وجلا
بطرفه جيش العدى يباري
يخطو وينثني كوحش ضاري
وخطوة فخطوة يلوي القدم
كأنه الضيغم في الليل هجم
والناس والكلاب في الأسحار
تحرس حول عُنَّةِ الأبقار٤٤
تسهر كل الليل كي لا يرتعا
بشحمها ولحمها ويرجعا٤٥
ينقض مدفوعًا بفرط السغب
لكن يفوته نوال الأرب
يصده وبل من النبال
ولهب المقابس المنهال
حتى إذا ما الفجر لاح أحجما
مكتئبًا مرتعدًا محتدما
وهكذا أياس ملتاعًا نأى
عن ساحة القتالِ والعَودَ ارتأى
لموقف السفائن الحدباء
يخشى عليها كَرَّةَ الأعداء
يمشي الهوينا مثل جأب دخلا
زرعًا من الحنطة يبغى أُكُلا٤٦
فتنهض الصبية بالعصي
تسحق فوق متنه القوي
لكنه ما كان كي يكترثا
بلَغَب الصبية مهما عبثا
يلبث في تلك المراعي يرتع
وينثني مذ يكتفي ويشبع
وهكذا الطرواد والأحلاف
من حول آياس بعزم طافوا
وهو يصدهم بجوب أكبر
أُلبس سبعة جلود بقر
يحجم حينًا ثم حينًا يهجم
ببأسه المعتاد ثم يهزم
وصدهم في كل ذاك الزمن
صدًّا ذريعًا عن بلوغ السفن
يحجز مشتدًّا على الأعادي
بين الأخائيِّين والطرواد
وصيب النيازك القتالهْ
عليه من أيدي العدى منهاله
فبعضها عن شدة العزم حذف
يغل غلا وعلى الترس يقف
وبعضها عنه منالا قصرا
مرتكزًا يغوص في قلب الثرى٤٧
ولم يكد يراه أوريفيل
حتى انبرى لرفده يصول
أتاه لا يعبأ بالسهام
تنهال فوقه كوبل هام
وأرسل المزراق من حيث انطلق
وآفمون القرم في العنف اخترق
كبده مزق ثم راحا
يسلبه الشكة والسلاحا
فانتهز الفرصة فاريس وقد
أشغل أوريفيل في تلك العدد
في حقه أنفذ سهمًا فانكسر
نضيه والدم بالجرح انفجر٤٨
لصحبه التوى ببراح الألم
يأبى الردى وصاح يُنهِض الهمم:
«يا نخبة الأبطال جند الباس
قفوا ادفعوا الحمام عن أياس
وحوله تألبوا فخشيتي
يصميه وبل من سهام صبت»
ومذ لذلك النداء انصدعوا
حول أريفيل الجريح اجتمعوا
ودون أيد جلن بالعوامل
يلامق أُلْصِقن بالكواهل٤٩
وانضم آياس إليهم وانقلب
واشتد وقع الحرب والطعن انتشب
وكان آخيل على البعد رقب
وفي مؤخر السفينة انتصب٥٠
يشهد ما قد حل بالأبطال
من قومه من محن القتال
أبصر نسطور الحكيم انطلقا
على الجياد السابحات عرقا
مع ماخوون ينهب الطريقا
فعرف السائق والرفيقا
صاح بفطرقل فمن خيمته
لبى وهذا مبتدا محنته٥١
كآرس من بابه صاح: «وما
رمت ابن فيلا من ندائي للحما»
قال أخيل: «يا أود الخلق لي
قد بلغ الإغريق أقصى الفشل
على دني ركبتي صغرا
سينحنون سائلين عذرا
والآن نسطورا قصدن مسرعا
واسأله مع أي جريح رجعا
ما إن نظرت وجهه لكنه
أشبه ماخوون طبقًا متنه٥٢
قد مرت الجياد من أمامي
طائرة لمضرب الخيام»
ولم يكد يتم حتى كرا
فطرقل يعدو ويلبي الأمرا
ونسطر وماخوون وصلا
خيمة نسطر بها ترجلا
وتابع الشيخ أريميدون حل
جياده وذهبا بلا مهل
ينشفان العرق السيالا
على نسيم البحر ثم مالا
لخيمة الشيخ وفيها جلسا
وهيكميذا بنت أرسينوسا
(تلك الربحلة البديعة الشعر
لنسطر كانت نصيبًا مدخر
أهديها جزاء رأي أصوبا
لما أخيل تيندوس خربا)
قامت لإعداد الشراب عامدهْ
لديهما تنصب أبهى مائدهْ
جميلة مصقولة القوائم
زرقاءها تنبذ لوم اللائم
من ثم ألقت فوقها دسيعهْ
مؤلق نحاسها بديعهْ٥٣
ومزجت فيها على الفور البصل
وخالص الدقيق مع صافي العسل
ووضعت إزاءها كوبًا أغر
كان لدى نسطور من قبل السفر
وهو على قائمتين انتصبا
وبمسامير النضار التهبا
وفوق كل من عراه الأربع
طير حمام من نضار ألمع
وذلك الكوب إذا ما يطفح
هيهات غير نسطر يزحزح
لكنما ذيالك الشيخ الصفي
يحمله حملا بلا تكلف٥٤
وراحت الصبية السبيهْ
بحسنها كالربة السنيهْ
تصب فيه خمر إفرمنا على
ماء وفوقه تفت عجلا
بمبرد النحاس جبن السخل
وتقتل المزيج خير قتل٥٥
وفوقه ذرت دقيقًا صافي
ثم دعتهما للارتشاف
فشربا وارتويا وجلسا
وبأطاريف الحديث أَنِسا
إذا بفطرقل كرب ظهرا
في الباب فالشيخ رأى وابتدرا
وقام عن سدته الوقادهْ
بيده يأخذ حكم العادهْ
ثم دعاه للجلوس فأبى
وقال: «يا مُريد زفس الأنجبا
عفوًا فلست بملبي الأمر
فشأن آخيل نظيري تدري
قد يصطلي عفوًا بسورة الغضب
ويتهم البريء عن غير سببْ
سيرني أسأل منك الخبرا
بأي مجروح أتيت مدبرا
سأقفلن راجعًا ذا الحينا
مذ قد عرفت الشهم ماخوونا»
فقال نسطور: «وأين يلقى
أخيل بالإغريق هذا الرفقا
أما رأى أن فناهم باد
واشتملوا بحلة الحداد
وخير من فيهم ففي الأشراع
بين جريح وطريح ناعي
فذا أبو البأس ذيوميذ البطل
ألمه السهم وبالرغم قفلْ
وذاك أوذيس وأتريذ خرقْ
جسمهما العامل والدم اندفقْ
وهاك أوريفيل بالعنف انكسرْ
بفخذه نبل به الجرح انفجرْ
وها هنا ترى الكمي الباسلا
به جريحًا جئت توًّا قافلا
لكن آخيل على شدته
ليس يبالي ببني لحمته٥٦
أمتقاعسًا يظل حتى؟
يبتتنا سيف الأعادي بتا
وتلهب النيران بالأسطول
تبيدها بالجند والقيول
وا أسفا الشباب وَلَّى ومضى
والبأس والإقدام عني أعرضا
وفاتني الإبلاء والإيقاع
كما استطالت قبل مني الباع٥٧
يوم الإليون على صوارنا
سطوا فأججنا لظى أوارنا
صلنا عليهم واغتنمنا البقرا
فجاءنا إيتومن مستعرا
ابن هفيروخ الذي قد كانا
يحكم في أليذة السكانا
فنال مني طعنة نال الردى
بها وولى القوم طرا شردا
وخلت الأنعام في السهل لنا
خمسون سربًا ماعزًا مسمنا
ومثلها من أحسن الأبقور
ومثلها من أسمن الخنزير
ومثل ذا الغنيم سقنا في الغلس
ومئة أيضًا وخمسين فرسْ
شقراء طرا ترضع الأمْهارا
سقنا لفيلوس نؤُم الدارا
كنت فتى واهتز نيلا طربا
أبي لعودي غانمًا مكتسبا
وصاحت الدعاة في من طلبا
من ذمة الأعداء مالا سلبا
فاحتشدوا واقتسموا القليلا
وذاك نذر من كثير نيلا
حيث الإفيون على قلتنا
صالوا بفيلوس على جملتنا
وقبل ذا بأحؤل قد صالا
هرقل فينا يذبح الأبطالا
ومن بنى نيلا وكانوا اثني عشرْ
سواي لم يبق لديه ابن ذكرْ
فزادنا العدو غدرًا واعتسفْ
وبأساليب اللدَّادات قذفْ
وفي اقتسام الكسب نيلا أفرزا
قطيع أبقارٍ له وأحرزا
سرب شياه برعاتها التي
أبقى له ترعى ثلاث مئة
فذمة الأعداء كانت مثقلهْ
له بدين رام أن يحصلهْ
إذ كان قد أرسل للسباق
أربعةً من أكرم العِتَاق
يَامُلُ أن يفوز بالرهان
بقدرهم وندب الفرسان٥٨
لكن مولى الناس أفغياسا
معتسفًا قد حبس الأفراسا
كذلك المركبة الغراء
والسائق المستاء فَذًّا جاء
لذاك نيلا اغتم والوفر ادخر
ووزع الباقي بعدل وأمر
بأن نضحي لبني الأرباب
شكرًا على أطايب الأسلاب
وثالث الأيام فاجانا العدى
بخيلهم لا يحصرون عددا
والملينان قائدا الفرسان
غران للطعان جاهلان
وفي ثغور ألفيا في طرف
فيلوس قامت فوق تل مشرف
بلدة إثريون حاصروها
يبغون بالعنوة أن يفنوها
وفي الدياجي انحدرت أثينا
وهم بذاك السهل يضربونا
ونبهتنا للوبال المحدق
فهم بالهمة كل الفيلق
وخالني نيلا صبيًّا غِرًّا
وخاف أن أكر فيمن كرَّا
فخيلي الجياد أخفى وحظر
عَليَّ أن أجري على ذاك الأثر
فراجلا بعونها سرت ولي
كان لدى الفرسان أسمى منزل٥٩
سرنا إلى حيث لدى آرينسا
يصبُّ نهر قد دعوا مينيسا
للفجر ظلت ترقب الخيالهْ
تعقبها كتائب الرجالهْ
ثم تكتبنا وعند الظهر
طرًّا نزلنا فوق قُدسِ الثغر
من ثم أعددنا الضحايا الغرا
لزفس نستمد منه النصرا
وألثس التهر له أذكينا
عجلا كذا بآخر ضحينا
لفوسذ وعجلة تبيعهْ
لربة الحكمة والشفيعهْ
ثم تناولنا الطعام ورقد
كل مدججًا على ذاك الجدد
وحالما براح من خبائها
للأرض أرسلت سَنا ضيائها٦٠
بزفس لذنا وأثينا ومضى
للحرب جيشنا على ذاك الفضا
أما الإِفيِّون فحول البلد
تألبوا بِعَدَدٍ وعُددِ
فتحًا يرومون ولكن نظروا
شدة آريس بنا وذعروا
فأول الفرسان مطعونًا وقعْ
بنصل رمحي عندما نحوي اندفعْ
(مليوس وهو صهر أفغياس
وبعل آغاميذة الإيناس
من كنه نبت الأرض طرًّا سبرت
وللعقاقير جميعًا خبرت)
جندلته فخر من مركبته
وواثبًا علوت في منصتهْ
وصلت صدرا لجيش والأعداء
وَلَّوْا وفيهم علت الضوضاء
راعهم أن زعيم العجل
وأبسل الأبطال بالحتف بُلي
وفيهم هَبَبْتُ كالإعصار
أذبح كل سارح وسار
وفوق خمسين من العجال
بمئة من أمنع الأبطال
فتكت طاعنًا وأوليت الردى
ومنهم اغتنمت تلك العُدَدا
وكدت أولي ولدي أكتورا
وملينًا بعاملي الثبورا
لكنما جدهما فوسيذ في
مكثف الضباب فيهما خفي
ولم نزل نكسأهم في السهل
ونصر زفس فوقنا يستعلي
نذبحهم ونسلب السلاحا
والخيل فينا تنهب البطاحا
حتى وطئنا أرض بفراسا النعم
وصخر أولينيس ًًًذلك الأشم
وعند تل آلس أثينا
بدت لعود عاجل تدعونا
عدنا ولكن بعد ما بمخفقي
حتفًا لقي آخر جندي بقي
وفي مآبنا الأخائيونا
شكرًا وحمدًا كلهم يسدونا
لزفس في الأرباب أبناء العلى
وللفتى نسطور ما بين الملا
فذاك أني كان يوم المحن
إن لم يكن كالحلم ماضي الزمن٦١
لكن أخيل ليس بالشفيق
وسوف يبكي نكبة الإغريق
فاذكر منتيوس وما قال لكا
في إفثيا الفيحاء مذ أرسلكا
ألم أكن وأوذس في القصر
نسمع ما تسمعه من أمر
يوم ذهبنا نحشد العمالا
بين الأخائيين والأبطالا
ودار فيلا كنت مع أبيكا
فيها وآخيل الفتى يليكا
والشيخ فيلا في فناء الدار
مؤجج فيها لهيب النار
يحرق أفخاذًا من الثيران
لزفس يسترضيه بالقربان
وفوقها يريق من كأس الذهب
مدامة سوداء من صافي العنب
وأنتم اللحوم تقطعونا
من مدخل الباب نظرتمونا
فقام آخيل وفي أيدينا
أمسك راحبًا بنا يدعونا
وإذ قضينا من شرابٍ ضافي
وخير زاد حق للأضياف
إليكما وجهت قولي علنا
فرمتما اللحاق في الحال بنا
فقال فيلا لأخيل: «يا بني
بَرِّز على الأقران يوم الطعن»
«ثم منتيوس تلا يقول:
«رفيقك الباسل ذا أخيل
«فاقك بأسًا نسبًا وقدرا
وزدته عمرًا وزدت خُبرًا
«فانصحه خيرًا وله كن مرشدا
يطع لما تريه من سبل الهدى»٦٢
فذاك أمر الشيخ لكني أرى
أنك قد نسيت أمرًا أَمَرا
بلغ أخيل قبل إدراك الدرك
قولي عساه مصغيًا يذعن لك
فَرُبَّ رَبٍّ مال للترفق
والخير في نصح الرفيق المشفق
وإن يكن يخشى حلول البؤس
بوحي ثيتيس له عن زفس٦٣
فبك فليبعث مع المرامدهْ
عسى بكم لنا تتم الفائدهْ
والبس سلاحه عسى الطرواد
يروعهم لذلك الجلاد
إن نظروه فيك والإغريق
يبدو لهم للراحة الطريق
جيشك إذ مل من القعود
يبطش في جيش العدى المجهود
بذا تقي السفين والخيم وعن
عاتقنا تدرأ أثقال المحن»٦٤
لذاك فطرقل أسًا تفطرا
وكر يبتغي أخيل مخبرا
وإذ لأشراع أذيس عرضا
حيث أقام القوم ديوان القضا
حيث أحلوا مجلس الأعيان
ونصبوا مذابح القربان
بدا أريفيل لديه عارجا
من ساحة الحرب جريحًا عارجا٦٥
يرشح من جبينه سيل عرقْ
والسهم باد عضل الحق اخترقْ
والدم أسودا سخينًا يجري
لكنه معتصم بالصبر
فرق فطرقل لذاك المنظر
وقال ملتاعًا لهول المخبر:
«وا أسفا يا زبدة الأغارق
أتهلكنكم ظبى المخافق٦٦
عن داركم نائين والأصحاب
لتذهبوا مطاعم الكلاب
قل لي أريفيل: أفي الإغريق
بقية لِعِبرِ ذا المضيق؟
أم ثقلت وطأة هكطور فلا
مرد للخزي الوبيل فشلا»
قال: «فبل قد قضي الأمر ولا
مناص وانظر تلق خير النبلا
بين جريح وطريح غادي
وقوة الطرواد في ازدياد
هي أغثني واصحبني للخيم
وأخرج السهم يزل عني الألم
والجرح فاغسله بماء فاتر
واسكب عليه بلسم القناطر
سر حفظت عن أخيل وهو عن
أستاذه خيرون في ماضي الزمن
أما طبيبانا فَفُوْذَا ليْرُ
ما بين دُرَّاع العدى محصور
وماخوون ذاك بادي العطب
في حاجة أضحى إلى التطبب»
فقال فطرقل: «سرى الوبال
ويلاه ما الحيلة والمآل
فها أنا أمضي إلى أخيل
أبلغ قول نسطر النبيل
لكن أراني عنك غير ناء
وأنت تحت الأزمة اللأواء»
ومن ذراعيه بلطف حملهْ
ولخيامه سليمًا أوصلهْ
ومذ لدى الأتباع في القرب ظهر
مدوا له الفراش من جلد البقر
ألقاه فطرقل عليه وقطع
بالسيف نصل السهم من حيث وقع
وغسل الجرح وَعِرْقًا مُرَّا
بيده فَتَّ وحالا ذَرَّا
فالتأم الجرح وأوقف الدم
وأورفيل زال عنه الألم

هوامش

(١) أراحنا الشاعر أثناء نشيدين متتاليين من معامع القتال وجندلة الأبطال. فأتى في النشيد التاسع على ما مر بك من بعثة الوفد إلى أخيل، وفي العاشر على بث الأرصاد وما كان من أمرهم. فَفَكَّه القارئ تفكهة شوقته إلى استئناف قصص وقائع الحرب فاستأنف أبدع استئناف، وأعدَّ السامع لمواقع شداد بمقدمة في هذا النشيد وطأ بها توطئة عجيبة؛ لاشتداد الأزمة على الفريقين، وارتفاع الصيحة بما لم يسبق له مثيل، إذ جعل الفتنة هي الرافعة معالم القتال، وهيرا وأثينا هما المرعدتان المبرقتان لاشتداد الوبال. وأطال بوصف أغاممنون إنباءً بما سيكون له من الهيبة والجلال، وما سيبديه من شديد البأس وعزة النفس عند اشتباك الرجال، فكان كلامه من أوله إلى آخره كسلسلة آخذ بعضها برقاب بعض لا تفوتك حلقة منها إلا وترسخ في ذهنك وتتلوها حلقة أخرى تحل محلها وتزيد في رونقها، فقد غادرنا القومين في آخر النشيد الثامن متيقظين ليلهم مترصدين حلول الفجر لإعادة الكرة، فكان لا بد إذًن عند بزوغ الفجر بعد حصول ما حصل من أن يندفعوا جميعًا كالسيل المنهمر، ولم يفت هوميروس ذلك فدفعهم على ما ترى.
(٢) الجنة الجن. عبرنا بقولنا غزالة الصباح عن الفجر وهو في معتقدهم من إناث آلهتهم وطيثون زوجها كان في الأصل إنسيًّا من بني لومذون أبي فريام، فعشقته إلاهة الفجر لجماله واستأذنت زفس فاتخذته بعلا.
(٣) إن إيفاد زفس ربة الفتنة لهو من قبيل احتدام الجيشين وتحرقهما للحرب — ذكر الشاعر في هذا البيت معالم القتال ولم يذكر ما هي على أنه يستفاد مما جاء في النشيد الثامن، أنه كان لهم نوع من الراية الحمراء يرفعونها استنفارًا للحرب، والاحمرار إشارة على سفك الدم والبيت الذي أشرنا إليه هو قوله يصف أغاممنون:
فخاض صفوف الخيم والفلك رافعًا
بساعده بردًا من الخز أحمرا
والظاهر من كلام هوميروس أن اللواء إذا عقد لكبير قوم فمن مظاهر عظمة ذلك الكبير أن يرفعه بيده كما فعل أغاممنون فيما تقدم، وكما فعلت الفتنة هنا وهي ربت على ما علمت. وهذا شأن جميع الأمم في تلك العصور وما وليها من أيام الجاهلية؛ إذ لم يكن يعهد بالراية إلا لرئيس همام وفارس مقدام. قال صاحب السيرة الحلبية وغيرهُ من مؤرخي العرب: «إن راية بني هاشم (يوم بدر) أي التي كان يقال لها في الحرب: العقاب. ويقال لها: راية الرؤساء ولا يحملها في الحرب إلا رئيس القوم كانت لأبي سفيان أو لرئيس مثله، ولغيبة أبي سفيان في العير حملها السائب لشرفه». وقال في موضع آخر: «ودفع اللواء وكان أبيض إلى مصعب بن عمير. وكان أمامه رايتان سوداوان؛ إحداهما مع علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، ويقال لها: العقاب وكانت من مرط لعائشة». وفي غزوة أُحد: «عقد ثلاثة ألوية؛ لواء للأوس وكان بيد أسيد بن خضير، ولواء للمهاجرين وكان بيد علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، ولواء للخزرج وكان بيد الحباب بن المنذر». وكان للعرب أعلام كثيرة في زمن السلم ينصبونها على أبواب بيوتهم؛ لتعرف بها، وكانوا يفتخرون بالرايات الصفر ثم الحمر؛ أما الأولى فلأنها كانت لملوك اليمن، وأما الثانية فلأنها كانت لأهل الحجاز. وفي أوائل الإسلام اتخذوا الراية السوداء والراية البيضاء؛ لأن راية صاحب الشريعة كانت سوداء، وكان له أيضًا راية بيضاء كما تقدم، فلما تولى الأمويون رجعوا إلى راية الحجاز الحمراء. وأما العباسيون فإنهم اتخذوا الراية السوداء اقتداءً بصاحب الشريعة وحزنًا على شهدائهم ولهذا سُمّوا بالمسوّدة؛ لأن السواد كان شعارهم حتى في ملابسهم فلما عدل المأمون عن لبس السواد اتخذ الراية الخضراء. وأما دعاة الدولة العلوية والطالبيون من بني هاشم فكانت رايتهم بيضاء؛ ولذلك سموا بالمبيضة.
(٤) قلاس: جمع قِلس، وهو حبل السفينة — هذا تكرار لما جاء في النشيد الثامن وهو قوله:
وأشراع أخيل وأياس أرسيت
على طرفيه شدةً وتبسلا
(٥) لا يحيد الشاعر في شيءٍ من روايته عن الحقائق التاريخية مع كثرة ما يذكر من الوهميات الشعرية والخرافات الميثولوجية، فقد أفادنا بهذا البيت وإفادته صحيحة أن ملك قبرص لم يكن بينهم؛ لأن القبرصيين لم يلجوا تلك الحرب. وفي إهداء تلك الدرع إلى أغاممنون إفادة أخرى تاريخية وهي أن معادن قبرص كانت كثيرة منذ تلك الأيام.
(٦) لا يخفى على المُطالع اللبيب من هذا الكلام أن رؤية قوس قزح كانت تشير إلى أمر ذي بال عند قدماء اليونان، كما كانت عند الإسرائيليين بعد أن جعله الباري عز وجل وثيقة لأبينا نوح، بامتناع حدوث الطوفان مرة أخرى. ولعل هوميروس أخذ تلك الرواية مشوَّهة في رحلته إلى مصر لأنه سيذكر (ن ١٧) أنه لم يكن بشير خير بل نذير سوء.
(٧) كلبا السيف هما المسماران في قائمه.
(٨) الحرابي جمع حرباء والمراد بها هنا قُتر الترس أي مساميره.
(٩) لما أراد الشاعر أن يظهر أغاممنون بكل مظاهر العظمة والجلال أطنب، حتى في وصف شكته وجعل مجنه شبيهًا بترس زفس كما مر بنا في النشيد الثامن.
(١٠) عرف المغفر: ناصية الخوذة والقونس بيضتها.
(١١) قال مزرّد بن ضرار السعدي يصف شكته على نحو ما وصف هوميروس سلاح أغاممنون:
ومسفوحةٌ فضفاضةٌ تبعيةٌ
وآها القتير تجتويها المعابلُ
دلاصٌ كظهر النون لا يستطيعها
سنانٌ ولا تلك الحظاء الدواخلُ
موشحة بيضاءُ دانٍ حبيكها
لها حلقٌ بعد الأنامل فاضلُ
مشهرةٌ تحني الأصابع نحوها
إذا جُمعت يوم الحفاظ القبائلُ
وتسبغةٌ في تركة حميريةٍ
دُلامصة ترفض عنها الجنادلُ
كأن شعاع الشمس في حجراتها
مصابيح رهبان زهتها القنادلُ
وجَوب يرى كالشمس في طخية الدجى
وأبيض ماضٍ في الضريبة قاصلُ
سُلاف حديد ما يزال حسامه
ذليقًا وقدته القرون الأوائلُ
وأملس هنديٌّ متى يعلُ حدّهُ
ذرى البيض لا تسلم عليه الكواهلُ
إذا ما عدا العادي به نحو قِرنه
وقد سامهُ قولا فدتك المناصلُ
ألست نقيًا ما تُليق به الذرى
ولا أنت إن طالت بك الكف ناكلُ
حسام خفي الجرس عند استلاله
صفيحته مما تنقى الصياقلُ
ومطرد لدن الكعوب كأنما
تغشاه منباع من الزيت سائلُ
أصمُّ إذا ما هزَّ مارت سراته
كما مار ثعبان الرمال الموائلُ
له فارطٌ ماضي الغرار كأنه
هلال بدا في ظلمة الليل ناحلُ
شرع في وصف الدرع فقال: إنها مصبوبة واسعة من الدروع التبعية تكرهها السهام؛ لصلابتها. وهي دلاص، أي: سهلة لينة لا تنفذ فيها الأسنة. موشحة حسنة السبك. يشار إليها بالأصابع لشهرتها — ثم أتى على وصف الخوذة، فذكر التسبغة، وهي نسيج الحلق الذي يكون تحت البيضة. ثم الخوذة فنسبها إلى حمير، وقال: إنها على كونها دلامصة، أي: لينة، ترفضّ عنها الجنادل، وهي لصفائها إذا أصابتها الأشعة تألقت في جوانبها كالمصابيح — ثم ذكر الجوب وهو الترس بشطر واحد، وانتقل إلى السيف فوصف حده القاطع وحديده النقي القديم وأطال بوصف فعله في الحروب — وانتهى بالرمح فقال: إنه مطرد، أي: مضطرب للينه تخال الزيت سائلا عليه للمعانه، يمور لمرونته كالثعبان المحاذر، وكأنه لشدة لمعان حده القاطع هلال يسطع في الظلام الحالك.
(١٢) إن أمثلة مطر الدم كثيرة في تواريخ الأقدمين، وكلٌّ ينتحل لها تفسيرًا ليس من الصحة على شيءٍ حتى قال بعضهم: إن ذلك الطل كان حقيقة أحمر لتبخره من دماء القتلى، وهو قولهم في زمن كان العلم فيه قاصرًا عن إثبات الخلاف. ولقد ذهب بعض العلماء العصريين أنه قد يمكن أن يكون الطل الأحمر منبعثًا من أجساد نوع من الفراش، إذن نقف من بيضة وتطاير في الهواء خرجت منه مادة حمراء. ومهما يكن من هذه التأويل فسقوط الطل الأحمر كان في عرف كل الأمم إشارة إلى سفك الدماء.
(١٣) لقد أحسن الشاعر وأي إحسان بوصف زعيم الطرواد بهذه الخفة والهمة الشماء، بعد أن وصف زعيم الإغريق بتلك الهيبة والعظمة الغراء. فهذا فتًى في ريعان الصبا يقود كتائب لم تبلغ شأوًا مذكورًا في الانتظام الجندي، فلا بد له من أن يخترق الصفوف، وينادي بالحتوف، وذلك كهلٌ زعيم أمم بلغ منها التفنن مبلغًا عظيمًا وحسبه أن يشددها بمثاله فتقتفي أثره وتسير على منواله.
(١٤) قال بوب: لا ندرك جمال هذا التشبيه إلا إذا علمنا كيف كانوا يزرعون ويحصدون؛ ذلك أن الزراع أو الحصاد كانوا ينقسمون شطرين متساويين، يشرعان في العمل من طرفي الحقل فيلتقيان في وسطه، فهذا كثيرًا ما كان يحصل التسابق والتنافس بينهما لبلوغ كل من الفئتين حده قبل الفئة الأخرى، وهو تشبيه صادق كل الصدق على جيشين زاحفين كلٌّ من وجهته.
(١٥) يستدل من هذا الكلام أنهم لم يكونوا يحسبون ساعات الليل والنهار، إلا بأعمال يعملونها فيها أو أحوال تتهيأ عنها كبزوغ الفجر وارتفاع الشمس. فضحوة النهار من الباب الثاني وراحة الحطاب من الباب الأول. وساعات النهار عند العرب جميعها مأخوذ من معانٍ تدل عليها، وهي المجموعة بقول الشاعر العصري الشيخ ناصيف اليازجي:
أول ساعة من النهارِ
هي البكور والبزوغ طاري
والرأد والضحى المتوع بعدُ
ظهيرة ثم الزوال عدُّوا
ثم الأصيل العصر ثم الطفلُ
وبالحدور والغروب تكملُ
ومثل ذلك قوله في ساعات الليل:
أول ساعة من الليل الشفق
وبعدها العشوة يتلوها الغسق
فهدْأة ثمة شرع ثم قلْ
جنح وزُلفة هزيع يا رجل
وبعد ذاك غبش وسحرُ
والفجر والصبح الذي ينفجرُ
وكلها تدل على معان مخصوصة كما ترى.
(١٦) يستفاد من هذا الموضع، وعدة مواضع أخرى في هوميروس أنهم لم يكونوا يفرقون كثيرًا بين أبناء الحلائل والخلائل، فابن الهوى عندهم يكاد يكون كالابن الشرعي. ولقد ذهب بعض الشراح إلى أن هوميروس جعل بين الفريقين تلك المساواة؛ لأنه لم يكن له أبٌ معروف على أن هذا الظن بعيد الاحتمال؛ لأن هوميروس لم يسلك بشيءٍ في شعره على هوى نفس معلوم، بل مثل أحوال عصره وأطوار أبنائه على علاتها، ولم يصدق شاعر صدقه من هذا القبيل.
(١٧) هذه رواية من جملة الروايات التي زين بها الشاعر شعره، فاستفاد منها المطالع إفادات ثلاثًا؛ الاطلاع على قصة من قصصهم، والتفكهة بواقعة يشتغل الفكر بها برهة عن مناظر الفتك والسفك، وترديد ذكر آخيل بطل الرواية النائي حتى الآن عن مضارب السيوف ومواقع الطعان.
(١٨) الخشفة: جمع خشف، وهو ولد الظبي.
(١٩) يعلم المُطالع أن بدء الإلياذة في السنة العاشرة لحرب طروادة، ولكن من تصفحها من أولها إلى آخرها علم منها أمورًا كثيرة جرت قبل ذلك الزمن، أشار إليها الشاعر إشارة لطيفة، كإشارته هنا إلى ما كان من أنطيماخوس، من قوله بمنع الطرواد عن إرجاع هيلانة إلى زوجها، فيعلم من ذلك ومما سيأتي بعد أبيات بلسان أغاممنون أنهم أوفدوا وفودًا إلى الطرواد لحسم الخلاف صلحًا قبل الإقدام على الحرب.
(٢٠) هذا هو القول الذي قاله ذولون في النشيد السابق توسلا إلى أوذيس وذيوميذ أن يعفوا عنه.
(٢١) قال عنترة:
ودنت كباشٌ من كباشٍ تصطلي
نار الكريهة أو تخوض لظاها
ودنا الشجاع من الشجاع وأشرقت
سمر الرماح على اختلاف قناها
(٢٢) قال أبو النجم العجلي:
إنّا لتعمل في الرءوس سيوفنا
عمل الحريق بيابس الحلفاء
ومثله قول عنترة:
إذ أدبروا فعملنا في ظهورهم
ما تعمل النار في الحلفا فتحترقُ
(٢٣) اختلف المفسرون بموقع ذلك التين فمن قائل: إنها التلة المحاذية للبرج التي أشار إليها الشاعر في النشيد السادس، ومن قائل: إنها بقعة وعرة مزروعة تينًا في ذلك السهل، وهذا مذهب إسطرابون القائل: إن اليونان إنما دخلوا إليون من ذلك الموضع.
(٢٤) إذا كان أفيداماس سبط كيسيس، أي: ابن بنته، وكيسيس أبو ثيانو الحسناء، وأزوجه من أختها، فيكون أفيداماس زوج خالته، كما ترى، ولم يكن ذلك منكرًا عندهم.
(٢٥) صرح، أي: أخطأ.
(٢٦) هذا من جملة التشابيه الصادقة على شدة الألم، والكثيرة الورود في أسفار العهد القديم، ومع ذلك فقد انتُقد على هوميروس إيراده لوصف آلام بطل مقدام في ميدان الصدام، ولعله أحسن وقعًا في كلام أوس بن حجر؛ إذ شبه الأصوات في الحرب ترتفع تارة وتنقطع أخرى بصوت المجاهدة في الولادة بقوله:
لها صرخةٌ ثم إسكاتةٌ
كما طرقت بنفاسٍ بكر
الإليثيات بنات هيرا، وكانت هيرا إلاهة الزواج وكن إلاهات الولادة والنفاس، كانوا يمثلونهن وبأيديهن سهام تنفذ في أحشاء المرأة ساعة مخاطها، ولهن مزية أخرى وهي أنهن يسهلن الولادة، وأما شعراء اليونان المتأخرون فلم يذكروا منهنَّ إلا واحدة ذهبوا إلى أنها نفس أرطميس.
(٢٧) لم يكن ارتداد أغاممنون عن موقف القتال بأقل عظمة من اندفاعه بصدر الجند، فإنه على شدة ألمه دفع قومه وبشرهم بالفوز بعبارة تشير إلى أن جرحه لم يكن قتالا ليطمئنوا ولا يأخذهم القنوط لاحتجابه.
(٢٨) هنا انتقل بنا الشاعر من بطش أغاممنون إلى بطش هكطور، ولقد رأينا فيما مضى أن زفس أمره ألا يتقدم إلا إذا اعتزل أغاممنون القتال، فأتمر بذلك الأمر، وزاد ذلك في عظمة أغاممنون حتى في بُعده عن مواقف الرجال واصطكاك النبال.
(٢٩) مهما أنصف الشاعر أعداء قومه بوصف بسالتهم، فإن في نفسه أثرة للإغريق لا تكاد تخفى، فقد مثلهم لنا هنا ملتوين أمام الأعداء، ولكن التواء الليث أمام الكلاب، التي يثيرها أصحابها عليه، وقد جرى هذا المجرى في أكثر الإلياذة.
(٣٠) العد هو النظير.
(٣١) نوطوس: ريح الشمال كما تقدم.
(٣٢) مر بنا أن أوذيس كان مواليًا لذيوميذ في كل النشيد السابق، وكان الموقف موقف تجسس لا موقف حرب، وها هو الآن موالٍ له في هذا المحل، لا لأنه أبسل القوم؛ ولكن لأن الموقف موقف تهلكة والبسالة فيه أحوج إلى الرأي والحكمة منه في كل موقف.
(٣٣) الرت: السيد والمقدام.
(٣٤) أرانا الشاعر غير مرة أن رمي النبال لم يكن محل فخار لسراة الأبطال، ثم إنه لم يرنا في كل إنشاده بطلا يقهقه قهقهة فاريس، وإن كانوا يتهكمون بعضٌ على بعض في عدة مواقع، ومع أن فاريس هو الفاتك هنا وذيوميذ هو المفتوك به، فإنك ترى من خطاب الجارح وجواب المجروح ما يشير إشارة بينة إلى عجزٍ ورقاعة في الأول وإنفة وشجاعة في الثاني.
(٣٥) قد رأينا الشاعر يشير حينًا بعد حين إلى ما تقدم تلك المواقع من الحوادث، كما أنه يشير إلى ما عقب تلك الحرب مما لم يدخله في منظومته، حتى لا تفوت المطَّلِع على شعره فائتة من الحقائق الجلى، سابقة كانت أو لاحقة، فإن في وصفه أوذيس بكونه أس بلاء الطرواد إشارة إلى الرواية التاريخية، القاضية بأنه هو الذي تسبب في آخر الأمر في فتح إليون، وقهر الطرواد باحتياله على مفاجأتهم بنفر من الجند أدخلهم إليون بالفرس الخشبي المشهور.
(٣٦) لله در أبي الفوارس القائل:
لي النفوس وللطير اللحوم وللـ
ـوحش العظام وللخيالة السلبُ
(٣٧) زاد عنترة زيادة حسنة على هذا المعنى بقوله:
وأجساد قوم يسكن الطير حولها
إلى أن يرى وحش الفلاة فينفرُ
(٣٨) حينما يبرز الشاعر أياس يبرزه رجل فعل لا رجل قول، فهو على شدة بأسه قليل الكلام، يصمت حيث ينطق غيره، ولا يضيع ثانية من الزمن في الخطاب؛ حيث تستفزه الكوارث للبطش والإقدام، فهنا منيلاوس يستغيثه فيبادر ويقول بسرعة الإقدام ما لا يعبَّر عنه بكثرة الكلام.
(٣٩) لا يخفى على المطالع اللبيب ما في هذه التشابيه من دقة المغزى، ورقة المعنى، فالأيل أوذيس، والثعالب الطرواد، والليث الفاتك آياس.
(٤٠) كان ماخاوون طبيبًا وجراحًا. ولنا هنا من كلام إيذومين ما يدل على شدة رعايتهم للأطباء، فلقد رأينا الملوك تتألم لجراحها، والأبطال تخر أفرادًا وزمرًا، ولم نر منهم إشفاقًا يوازي هذا الإشفاق على ماخاوون، وقد ابنَّا في غير هذا الموضع مكانة الطب والأطباء عندهم، وهنا لنا دليل آخر على صحة ذلك القول.
(٤١) أسقليب أبو ماخاوون. انظر رسمه: ١
(٤٢) قال أبو الطيب المتنبي وأحسن:
وخاض بالسيف بحر الموت خلفهم
وكان منه إلى الكعبين زاخرهُ
حتى انتهى الفرس الجاري وما وقعت
في الأرض من جثث القتلى حوافرهُ
ولشعراء العرب تصرف كثير بمثل هذا المعنى، قال عنترة:
والخيل سود الوجوه كالحةٌ
تخوض بحر الهلاك والخطرِ
وله أيضًا:
وعاد بي فرسي يمشي فتعثرهُ
جماجمٌ نثرت بالبيض والأسلِ
وأحسن من ذلك قولهُ:
حتى رأيت الخيل بعد سوادها
حمر الجلود خضبن من جرحاها
يعثرن في نقع النجيع جوافلا
ويطأن من نار الوغى عظماها
ومثله قول الحصين المري:
لدن غدوة حتى أتى الليل ما ترى
من الخيل إلا خارجيًّا مسوَّما
يطأن من القتلى ومن قصد القنا
خبارًا فما يجرين إلا تجثُّما
ولأبي تمام من هذا القبيل:
واكتست ضمر الجياد المذاكي
من لباس الهيجا دمًا وحميما
(٤٣) هذا البيت ساقط من بعض النسخ ولعله دخيل.
(٤٤) العنة للبقر: هي الحظيرة.
(٤٥) لقد أحسن امرؤ القيس بوصف اللحم والشحم بقوله:
وظلَّ العذارى يرتمين بلحمها
وشحم كهداب الدمقس المفتَّل
(٤٦) الجأب: الحمار — قد كان هذا التشبيه على بلاغته مما انتُقد بسطه على هوميروس، على أنه فات المنتقدين أن الشاعر يتكلم بلسان قوم لم يكن الحمار ممتهنًا في عرفهم، ولا شك أن هذا الامتهان حديث العهد، فإن العرب — وهم أرباب الأنفة — لم يأنفوا من أن يلقبوا الخليفة مروان بالحمار إعظامًا لبأسه وصبره على المكاره والشدائد. وفي التوراة أن يعقوب لما بارك أبناءه لقب ابنه إيساكر بالحمار الضخم، وأي مثال أصدق من هذا المثال لوصف بطل كأياس، تتألب عليه الجموع فلا يبالي، بل يثبت في مكانه ثبوت الحمار الجائع العابث بالزرع، فلا تهوله عصي الصبية وزعقاتهم، ولا ينثني إلا وقد قضى وطرهُ كما ترى في الأبيات التالية.
(٤٧) لم أرَ وصفًا شعريًّا لبطل من الأبطال في الإلياذة وغيرها أبلغ من وصف أياس في هذا الموضع، فإن الشاعر أبرزه في أول أمره دهشًا مطرقًا هامًّا على الرجوع بصولة زفس الإله الأعظم، ولم يكن شيءٌ يتهيب له لولا تلك الهيبة العلوية، وهو مع ذلك يباري العدو وينثني خطوة فخطوة ملتويًا كالضيغم، تتألب عليه الرجال من كل صوب، فلا يهوله تألبها، وتنهال عليه النبال، فلا يروعه انهيالها، ويلبث صابرًا ليلته حتى إذا لاح الصباح ولم يبلغ منيته ارتد كئيبًا يحرّقه الغيظ، ولم يكفه الدفاع عن نفسه بل بقي وهو في تلك التهلكة يفكر في رد هجمات الأعداء عن السفن، فكان يلتوي أمامهم، ويمشي الهوينا غير مرتاع لوبل نبالهم ومر قتالهم، كأنهم نسبةً إليه غلمان تكأكأت على حمار يرعى زرعًا وقد برّح به السغب، فيحجم ويهجم بثبات ولا ثبات الأسود، فحمى نفسه وقومه وسفنه وفعل وحده ما تعجز عنه الفيالق، وألقى في قلوب العدى هيبة ولا هيبة كل جيشه المجتمع، ومع كل هذا فلم تغن بلاغة شاعرنا وحسن تصرفه عن انتقاد المنتقدين.
(٤٨) النضي: النصل.
(٤٩) اليلامق: التروس.
(٥٠) ينتقل بنا الشاعر هنا كجاري عادته إلى مشهد آخر بعد أن أطال في ذكر الفتك والسفك والكر والفر، فيوطئ لنا بأسلوب حسن إلى ارعواء آخيل، فالأزمة قد اشتدت في جيش الإغريق، وباتوا على شفا جرف المهالك، واعتزل الكفاح خيرة حكمائهم؛ كنسطور، وأوذيس، وأمرائهم؛ كأغاممنون، وذيوميذ، وأوريفيل، وبرحت بهم الجراح فأمسوا لا يصلحون للكر والكفاح، وزد على ذلك إعراض الآلهة عنهم، وموالاة زفس لأعدائهم، فكانت من ثم جميع الظواهر تشير إلى شر العقبى، وهو تصرف بديع من الشاعر؛ بغية أن يزيد في هيبة آخيل، ويظهر شدة حاجتهم إليه، ويبرز فطرقل بمظهر لا يفوقه مظهر إنسان بالحماسة والغيرة والحنان، وأخيرًا بالبأس وحسن السياسة.
(٥١) أي: محنة فطرقل. في ذلك إشارة إلى أن فطرقل سيقتل على ما سيجيئ.
(٥٢) متنه: بدل بعض من كل من مخاوون — كل كلمة من كلام آخيل تمثل شدة الغيظ وحدة الحقد والكيد، فهو مع كل ما نال الإغريق من الفشل لم يرق لهم، ولم يخفف من ثورة غضبه ولا يزال جانحًا إلى الانتقام، ولا شك أنه أبصر كل ما حلَّ بهم فلم يحرك فيه كل ذلك عاطفة، وإن كان أحب استطلاع أمر ماخاوون فذلك لود خاص به، وقد تعددت أقاويل الشراح في سبب ذلك الود ولم يقل أحد منهم في ما نعلم إن ماخاوون كان أقرب إلى أخيل بصناعته من سائر الجند؛ لأن آخيل وإن لم يكن بنفسه طبيبًا معروفًا في زمانه فلقد كان يسره أن ينتمي إلى زمرة الأطباء لما كان لهم من المكانة على ما رأي، ولا شك أنه كان قد درس تلك الصناعة وأخذ منها شيئًا كثيرًا عن أستاذه خيرون وكانت له معرفة خاصة ببعض أسرارها كما سيأتي بعد أبيات.
(٥٣) الدسيعة: الجفنة الكبيرة.
(٥٤) تضاربت أقاويل الشراح في هذا القول؛ إذ لا يعقل أن نسطور وهو شيخ عاجز يقوى على حمل ما لا يحمله غيره، ولا أخال هذين البيتين إلا دخيلين، وهما من الإلياذة نفسها ومعناهما منقول عن محل آخر.
(٥٥) السخل: هنا العنز.
(٥٦) اللحمة: القرابة.
(٥٧) لا ينفك نسطور يتحسر على شبابه تحسر منصور النمري بقوله:
ما تنقضي حسرةٌ مني ولا جزعُ
إذا ذكرت شبابًا ليس يرتجعُ
بان الشباب وفاتتني بشرته
صروف دهر وأيام لها خدعُ
ما كنت أوفي شبابي كنه غرته
حتى انقضى فإذا الدنيا له تبعُ
ويفتخر بسابق بأسه افتخار معارك ابن مرة العبدي بقوله:
أتطمع في هضمي لدن شاب عارضي
وقد كنت آبي الضيم إذ أنا امردُ
figure
هرقل ساعة راحة.
(٥٨) الندب: هو خطر الرهان في السباق، وهي عادة كانت جارية لهم كما كانت في جاهلية العرب، ويقال: إنهم كانوا يجرون فيها على غير نمط السباق في الألعاب الأولمبية التي شاع أمرها بعد ذلك الزمان.
(٥٩) بعونها: أي بعون أثينا، وهي وليته ووليَّة أوذيس في كل مغازيهما.
(٦٠) براح علم للشمس، والجدد في البيت السابق الشاطئ والعجلة التبيعة في البيت الذي قبله العجلة لحول واحد.
(٦١) هذا من التشابيه المتواترة في كل الألسنة، قال أبو تمام:
ثم انقضت تلك السنون وأهلها
فكأنها وكأنهم أحلامُ
ومثله قول البحتري:
وأيامنا فيك اللواتي تصرمت
مع الوصل أضغاثٌ وأحلام نائم
(٦٢) إنما ذكر نسطور فطرقل بذلك ليبين له أنه لا يبرئه من تبعة تقاعد آخيل ليزيده همة على استنهاض همته.
(٦٣) هذا تهكم لطيف على آخيل ورميٌ له بالجبن؛ لأن ثيتيس كانت أوحت إلى ابنها أنه يقتل في هذه الحرب، وهي أبلغ عبارة نطق بها نسطور في كل هذا الخطاب وأدعاها إلى استنفاره.
(٦٤) إن هذا الخطاب مع ما في مقدمته وخاتمته من الحكم البليغة لا يخلو من دواعي الانتقاد؛ لإسهاب نسطور بحديث طويل عريض لم يكن له موضع هنا؛ لأن الموقف موقف حرج، لا مجال فيه لهذا الإكثار مهما دافع المدافعون عن شاعرنا، ولكن فيه مع ذلك خلا الفوائد التاريخية فائدة أخلاقية تعلمنا أن الشيخ العاجز يجنح إلى كثرة الكلام مهما وفرت حكمته وعظمت مهابته. وإذ لا يبقى له سبيل إلى إتيان الأعمال الخطيرة، وإبراز الهمم الكبيرة، فلا أقل من أن يفخر بما سبق له من صلب الذراع وطويل الباع.
(٦٥) عارجا الأولى من العرج، والثانية من العروج، أي: الميل.
(٦٦) ظبي المخافق، أي: مناصل السيوف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤